Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 8)

Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 8)

جلد ۸

Author: Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad

Language: ARABIC

ARABIC
Holy Quran

Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)


Book Content

Page 1

التفسير الكبير لله مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني لسيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي العليا المجلد الثامن من سورة النبأ إلى سورة البلد الشركة الإسلامية المحدودة

Page 2

اسم الكتاب : التفسير الكبير - المجلد الثامن الطبعة الأولى : ١٤٢٩ هـ / ٢٠٠٨م AT-TAFSIR AL-KABIR "Commentary of The Holy Qur'an " By: Hadhrat Mirzā Bashīr -ud- Dīn Maḥmūd Aḥmad, Khalifatul Masīḥ II Volume: 8 SŪRAH AN-NABA' TO SŪRAH AL-BALAD (Arabic Translation) Translated from Urdu by: Abdul Momin Tahir © Islam International Publications Ltd.First Published in UK in 2008 by: Al Shirkatul Islamiyyah Islamabad Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ United Kingdom Printed and bound in Great Britain by: William Clowes Ltd, Beccles, Suffolk ISBN: 185372 303 7

Page 3

Page 4

الجزء الثامن f كلمة الناشر كلمة الناشر نحمد الله تعالى أن وفقنا لإخراج المجلد الثامن من هذا التفسير القيم بلغة وحبيبنا محمد المصطفى.حبيبه وقد حاز شرف تعريبه الأستاذ عبد المؤمن طاهر، وراجعه المهندس هاني طاهر.تقبَّلَ الله سعيهما وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهما على إخراج الجزأين هذا التفسير العظيم.آمين.المتبقيين من ويجدر أن نوضح بعض الأمور عن هذه الترجمة: أولها أن المفسرة الا الله وقد ذكر معظم الاقتباسات من الحديث النبوي الشريف والسيرة والتاريخ وغيرها من المراجع بألفاظه وأسلوبه وليس بنصها الحرفي.غير أننا نقلناها عند الترجمة بنصها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، اللهم إلا في بعض الأماكن، فترجمنا المضمون مع الإشارة إلى النص الأصلي أو مرجعه في الهامش.ثانيها : أن المفسر له قد أشار إلى بعض الأمور إشارةً عابرة أحيانا، ورأى المترجم أنها غير مفهومة جيدا لبعض القراء، فقام بتوضيحها في الهامش.ثالثها: أن ترقيم الآيات في التفسير هو باعتبار البسملة أول آية من كل سورة.رابعها : لقد قام المفسر بهذا التفسير قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.فلو أخذ القارئ الكريم هذا الأمر بعين الاعتبار سهل عليه فهم كثير من الأمور والأحداث المذكورة فيه.

Page 5

الجزء الثامن كلمة الناشر خامسها: يجب التنويه إلى أن هذا المجلد قد تُرجم وطبع في فترة سنة فقط، فإذا وجد القراء الكرام فيه أية أخطاء مطبعية ،وغيرها فليخبرونا بها مشكورين حـــــى نتداركها في الطبعة القادمة، إن شاء الله تعالى.وأخيرًا فإننا نتقدم بخالص الشكر - كما نطلب من القراء الكرام الدعاء - لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، ولا سيّما الأستاذ سيد مير محمود أحمــد ناصر -عميد الجامعة الإسلامية الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة) بربوة باكستان، لتفضله بالإشراف على مجموعات الأساتذة والطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهذا التفسير - وكذلك الدكتور محمد حاتم حلمي، المهندس تميم أبو دقة، خالد عزام علاء حسن نجمي عكرمة حسن نجمي، الدكتور علي البراقي الدكتور وسام البراقي، سيد مبشر أحمد أياز مقبول أحمد ظفر، مير أنجم برويز، مرزا خليل بيك، الحافظ عبد الحي بهتي، عبد المجيد عامر، أحمد فضل، ومحمد طاهر نديم، لمساعدتهم المشكورة في محمد أحمد نعيم، وسيم المجالات العلمية والفنية.فجزاهم الله جميعًا أحسن الجزاء.شتى كما ندعو الله العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببًا لشفاء غليل الكثيرين من عباده علميًا وعمليا وروحيًا، ووسيلة لفهم كلامه.آمين! الناشر ذو الحجة ١٤٢٩ هـ كانون الأول / ديسمبر ۲۰۰۸ م

Page 6

سورة النبأ الجزء الثامن أعوذ بالله من الشيطان الرجـ بسم الله الرحمن الرحيم سورة النبأ مكية، وهي إحدى وأربعون آية مع البسملة لِيَوْمِ إنها تسمَّى سورة "النبأ" لأن فيها ذكر نبأ عظيم.إنها تتحدث عن البعث بعد الموت والقرآن الكريم أو غلبة الإسلام، بل بالأحرى عن هذه القضايا الثلاث.أما علاقتها بالسورة السابقة فتكمن في أن سورة المرسلات" قد ركزت على يوم الفصل بشكل خاص حيث قال الله تعالى في أوائلها لأَيِّ الْفَصْلِ >> وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (الآيات: ١٣-١٥).كذلك قال الله فيها: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ) (الآية: (٣٩).بينما يقول الله تعالى هنا في سورة النبأ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ ميقاتا) (الآية: ١٨).فثبت أن يوم الفصل هو الرابط الأساس والموضوع المشترك بين السورتين حيث تحدثت السورة السابقة عن يوم الفصل في موضعين، بينما تناولته هذه السورة في موضع واحد.إن سورة النبا هي من أوائل السور المكية فتح البيان يعترف المستشرق الألماني الشهير البروفيسور نولدکه (Noldeke) بأن مضمون هذه السورة يدل على أن زمن نزولها مقارب لزمن نزول سورة المرسلات (تفسير القرآن للقسيس ويري WHERRY).وإن قوله هذا يمثل ردًّا على أولئك المستشرقين الذين يزعمون أن القرآن الكريم ليس فيه ترتيب معين، وإنما وُضعت السور الطوال في أوله والسور القصار في آخره.2.The Koran, by J M Rodwell p) 2)

Page 7

الجزء الثامن سورة النبأ إذا، فقول "نولدكه" هذا دليل على أنه حيثما يفهم المستشرقون الأمر لا يجدون بدا من الاعتراف بوجود صلة رابطة بين مضامين شتى السور.لا شك أنهم لا يعترفون بأن القرآن كله كلام ،مرتب، ولكنهم لا يجدون مناصاً بوجود رابط بين بعض سوره أحيانًا.من الاعتراف م الله الرحمن الرحيم مِ الرَّحْممِ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ) شرح الكلمات : عَمَّ: أصله عن ما حيث إن: "الميم المفردة قد تكون اسم استفهام بعد حروف الجر كمثل إلامَ وبمَ وأصلها "ما" وحركتها الفتحة....ويجب حذف ألف "ما" الاستفهامية إذا جُرَّتْ وإبقاء الفتحة دليلاً عليها نحو: فيم وإلامَ وعلام وبم".(الأقرب) يتساءلون: تساءَلَ القومُ : سأل بعضُهم بعضًا.(الأقرب) التفسير : للسؤال أغراض شتى، فحينًا يسأل المرء ليزداد علمًا، فمثلاً إذا كان لا يعلم الطريق إلى قرية أو مدينة يسأل شخصًا آخر ليدله عليه، أو إذا كان لا يعلم معنی أو كلمة يسأل غيره ليخبره به.يتم السؤال على سبيل الاختبار، بمعنى أن السائل يعلم الجواب ولكنه يريد أن يعلم ما إذا كان صاحبه يعلمه أم لا.وهذا النوع من السؤال أيضًا يدل – بطريق غير مباشر – على جهل السائل، بمعنى أنه يعلم جواب سؤاله، ولكنه يجهل ما إذا كان المسؤول يعلمه أم لا.وأحيانًا يتم السؤال على سبيل التعجب، فمثلا إذا أساء الولد إلى والده قال له: أتعلم من أنا؟ أي يجب أن يكون عندك من الفهم ما يجعلك تدرك أني أبوك وأن عليك أن تحترمني.أو يقول السيد لعبده أو المدير العامله: أتعلم من أنا؟ ولا يعني

Page 8

11 الجزء الثامن سورة النبأ ذلك أن العبد أو العامل لا يعرفه بل إنه يوجه إليه هذا السؤال على معرفته إياه.يوجه إليه السؤال ،تعجبًا، ومراده أنك تعلم هذه الحقيقة والحق أنه تتقاعس عن تنفيذ أوامري، أو تختلف أن عنصر معي وتثير الأسئلة.- ذلك ومع وحينًا يوجه السؤال على سبيل التعجب ويقصد به التعظيم والتفخيم أيضًا، والواقع التعجب يكون مخفيًا فيه وإن أريد به التفخيم، ومثاله ما سبق آنها حيث يقول المرء للمسؤول: ألم تعلم من أنا ؟ والمراد أنك تعلم مكانتي وعظمتي.وحيث إن القرآن الكريم كلام الله تعالى فلا يمكن أن يكون المراد من سؤال الله تعالى عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ أنه – والعياذ به لا يعلم عما يسألون، أو أنه يشك في أن مخاطبه يعلم ذلك أو لا يعلم، لذا فلا ينطبق هنا إلا معنى التعجب والتعظيم كما تؤكد ذلك الآية التالية.فالمراد من قوله تعالى (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ أننا نتعجب أنهم يسألون عن قضية جلية واضحة دون أن يفحصوها ويُعملوا فكرهم فيها كما ينبغي.وكأن الله تعالى قد أكد بهذا السؤال من جهة على أهمية هذه القضية ووضوح حقائقها وبراهينها، ومن جهة أخرى استغرب من عقولهم بأنهم لا يزالون في ريب من هذه المسألة رغم وجود الأدلة على صحتها.شرح الكلمات : عَن النَّبَا الْعَظِيمِ (3) القرآن النبأ: النبأ: الخبرُ، وقال أبو البقاء في "الكليات": "النبأ والإنباء لم يَردْ إلا لما له وقع وشأن عظيم".(الأقرب) ويقول الإمام الراغب: "النبأ خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علمٌ أو غلبه ظنّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة".(المفردات) من المستحيل أن يُستعمل في كلام الله لفظ ما استعمالاً خاطئًا، ولذلك قال أبو البقاء لم يرد لفظ النبأ في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم".والواقع أن كلمة وقع وشأن عظيم تنطوي على نفس المفهوم الذي ذكره الإمام الراغب، حيث إن 11

Page 9

الجزء الثامن ٤ سورة النبأ لفظ "الوقع" يماثل "خبر ذو فائدة ولفظ "عظيم" يماثل "فائدة عظيمة"، ولفظ "شأن" يماثل يحصل به علمٌ وغلبة ظن"، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: يَوْمِ هُوَ فِي شَأْن (الرحمن: ٣٠).وبناء على قول صاحب المفردات فإنه كلما استعمل لفظ "النبأ" استعمالاً صحيحًا تضمن الأشياء الثلاثة المذكورة أعلاه وقول أبي البقاء: "النبأ والإنباء لم يرد في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم"..بناء على ذلك أقول ردا على غير المبايعين: إن زعمكم أن كل من يتلقى الإلهام يمكن أن يسمى لغة – نبيًّا لزعم باطل، ذلك وهو - لغة - - من يتلقى الإلهام فحسب، بل إن النبي – لغةً - هو من الله أخبار أن النبي لا يعني ينزل عليه الوحي الذي يتضمن أشياء ثلاثة الأول أنه ذو فائدة، والثاني أن فائدته عظيمة، والثالث أنه يحصل به علم أو غلبه ظنّ؛ كما أن هناك شرطًا آخر أن ينزل عليه وحي الله بكثرة وغزارة؛ لأن لفظ النبي من صيغ المبالغة.وكأننا عندما أحدا الله نسمي ني فنعني بذلك (أولاً): أنه يتلقى من الغيب بكثرة، وثانيًا) أن تلك الأخبار لا تكون ذات فائدة فحسب، بل فيها فائدة عظيمة، و(ثالثاً) أنها تحتوي على علم إضافي.ونظرًا إلى هذا المعنى، ليس بوسع غير المبايعين أبدًا أن يقدموا مثال شخص واحد من الأمة يشترك مع المسيح الموعود العمالة في هذه الميزة، كما ليس بوسعهم أن يُثبتوا أن غير نبي يشترك مع النبي في هذه الصفات المميزة، ذلك لأن هذه الأمور لا توجد إلا في التفسير: يمكن أن يُعتبر قوله تعالى عَنِ النَّبَا الْعَظِيمِ بدلاً من قوله تعالى (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، والمعنى عن أي شيء يتساءلون؟ أيتساءلون عن النبأ العظيم الذي سنورد تفاصيله لاحقا؟ وقد يكون جملة مستأنفة، بمعنى أنه تعالى سأل أوّلاً: عن أي شيء يتساءلون، ثم أجاب بنفسه وقال : عَنِ النَّبَا الْعَظِيمِ.وهذا يؤكد أن قوله هم الذين انشقوا عن الجماعة الإسلامية الأحمدية التابعة للخلافة رافضين البيعة على يد الخليفة الثاني له عند انتخابه، وخرجوا من قاديان واتخذوا لهم مركزًا في مدينة لاهور، واشتهروا في أدبياتنا باسم الأحمديين اللاهوريين أو غير المبايعين.(المترجم)

Page 10

الجزء الثامن سورة النبأ تعالى (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ لم يكن راجعًا إلى جهل أو عدم علم، بل كان السائل يعلم الأمر المسؤول عنه ؛ إذ أخبر بنفسه أنهم يسألون عن النبأ العظيم.واللافت للنظر أن الله تعالى يقول هنا عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبِلِ الْعَظِيمِ، مع أني قد بينتُ آنفًا أن النبأ معناه "خبر" ذو فائدة عظيمة عند الإمام الراغب، أو "ما له وقع وشأن عظيم" عند أبي البقاء، مما العظمة.أن النبأ نفسه يتضمن معنى ولكنا نجد ناحية أخرى أن الله تعالى قد وصف النبأ بالعظمة فقال عَنِ النَّبَا من العظيم..بمعنى أنه خبر عظيم من بين الأخبار العظيمة أيضًا.ولو فسرنا هذه الآية نظرًا إلى هذا المعنى الأساسي لكلمة "النبأ" لكان تقديرها كالآتي : أيتساءل هؤلاء ذلك الخبر الذي هو أعظم الأخبار العظيمة؟ عن يعني هذا النبأ العظيم، فقد قال البعض إنه القرآن الكريم كما روي عن مجاهد.وو أما ما هو بينما قال غيره : إنه البعث بعد الموت كما روي عن قتادة وابن زيد ابن كثير).والحق أن سورة "المرسلات" لم تتحدث عن القرآن الكريم فحسب، بل عن غلبة القرآن أيضًا، فقد تحدثت عن القرآن الكريم في قوله تعالى فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (الأعراف: (١٨٦ ، بينما تحدثت عن غلبة القرآن في قوله تعالى كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَليلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئذ للْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: ٤٧-٤٨).كما تحدثت تلك السورة عن "يوم" "الفصل، والمراد منه النبأ عن غلبة الإسلام.إذًا، فسورة المرسلات لا تتحدث عن القرآن فقط، بل تتحدث عن غلبة الإسلام أيضًا، وقد تناولت سورة النبأ أيضًا كلا الموضوعين بكل وضوح.ولا يجدر أن يتساءل متسائل هنا: أي من المواضيع الثلاثة ينطبق هنا؛ أهو القرآن أو غلبة الإسلام أو البعث بعد الموت؟ ذلك أن للقرآن عدة بطون، حيث يبين أحيانًا مواضيع عديدة بذكر عبارة واحدة ومثاله أن تكون فئة من القوم تتساءل عما إذا كان زيد قد ذهب إلى بلد كذا أم لا، بينما تتساءل فئة أخرى عما إذا كان زيد قد انتصر أم انهزم فلو قلنا في الجواب : ذهب زيد إلى ذلك البلد وانتصر، لكان جوابًا للفئتين من السائلين.وبالمثل إن من الأدلة ما لا يأتي بنتيجة واحدة بل يأتي بنتائج عدة، فإذا سقناه دل على كل الأمور التي يمكن أن تثبت به.والحق أن البعث بعد

Page 11

سورة النبأ الجزء الثامن ។ مي حياة الموت يماثل البعث الروحاني الذي يتم في هذه الدنيا، وأحدهما دليل على الآخر.فإذا كان يصعد بالروح الإنسانية إلى مدارج عالية، فلا بد من أن يكون للروح غاية عظمى، ولا يصح القول إن الله تعالى سيفني الروح الإنسانية بعد إيصاله إياها إلى الدرجات العلى، ولن يكون لها عمل آخر بعد ذلك.وإذا كان للإنسان حياة بعد الموت فلا بد أن يتم إحياء روحه في الآخرة، لأن من الظلم أن يُلقي الله الله الإنسان في المتاعب الدائمة ولا يجعل له سبيلا لنيل نعمائه في الآخرة التي خالدة أبدية.إذا كان الله تعالى سيهب لنا الحياة الخالدة بعد الموت فلا بد أن تكون في الآخرة أسباب أكثر للتمتع بتلك الحياة.وهذا يعني أن كلا الأمرين متلازمان فإذا وُجد الأول فلا بد من الثاني، وإذا وجد الثاني فلا بد من الأول.وحيث إن القرآن الكريم يعلن أنه هو وحده يهب الآن الحياة الروحانية التي تتيسر لنا في هذه الدنيا، فقد اندرجت قضية صدق القرآن تلقائيا مع القضيتين المذكورتين من قبل، بمعنى الدليل الذي يدل على وجود أسباب لإحياء الروح في الدنيا هو نفسه يؤكد صدق دعوى القرآن الكريم هذا أيضًا، إذ يعلن أنه وحده يهب الحياة الروحانية في هذا العصر.فترى أن القضايا الثلاث قد ثبتت بدليل واحد، إذ لو ثبت بدليل أن الحياة بعد الموت أمر يقين لا بد منه ثبت به أيضًا أن الله تعالى قد خلق في هذه الدنيا أسبابًا لإحياء الروح، كما ثبت به أيضا صدق دعوى القرآن بأنه الكتاب الوحيد الذي يهب الحياة الروحانية في هذا العصر، إذ لو ثبت أن الإنسان يمكن أن يبلغ في هذه الدنيا أسمى الدرجات الروحانية، لثبت أيضا أن هذه الدرجات إذ لا ينالها الآن فعلا إلا الذين يؤمنون بالقرآن؛ كذلك إذا ثبت أن بوسع المرء نيل أسمى المراتب الروحانية بالعمل بالقرآن في هذه الدنيا، ثبت أيضا أن هناك حياة بعد الموت، إذ لا يمكننا اعتبار هذه الدرجات العلى عبئًا.وبتعبير آخر لو ثبت أن القرآن يهب المدارج الروحانية العالية لثبت أيضًا أن الله يهب مراتب روحانية عالية للذين يعملون بالقرآن وبالتالي ثبت أنه لا بد من الحياة بعد الموت إذ من المستحيل أن يهب الله تعالى للإنسان مواهب وكفاءات عالية ثم القرآن يهب 6

Page 12

الجزء الثامن سورة النبأ يفنيه قبل أن يتيح له الفرصة لإظهارها.إذا، فهذه الأمور الثلاثة متلازمة، وإذا ثبت أحدها ثبتت كلها تلقائيًا.باختصار، لو قلنا إن المراد من النبأ العظيم" هو القرآن الكريم، وغلبة الإسلام والبعث بعد الموت، لم يؤد ذلك إلى أي شك وريب، بل الحق أن هذه الثلاثة كلها متلازمة، ذلك أن التعدُّد يؤدي إلى الشك أحيانًا وإلى الجزم أخرى، وهنا يفيد ،الجزم، لأن كلمة "النبأ العظيم" تحتوي على المعاني الثلاثة في الواقع، إذ إن الحياة بعد الموت أعظم الأخبار العظيمة.لا شك أن التنبؤ بولادة ولد عند شخص أو نشوب حرب في بلد ما خبر هام ولكنه ضئيل الشأن جدًّا إزاء الإعلان بأن الخلق كلهم سيحيون ثانيةً ويُحضرون عند الله تعالى.فثبت أن لفظ "النبأ العظيم" ينطبق على القيامة كل الانطباق، كما ينطبق على القرآن الكريم أيضًا لأنه يعلن أنه جامع لكل المحاسن والمزايا بل شامل لصحف الأنبياء جميعًا، حيث قال الله تعالى فيها كُتُبْ قَيِّمَةٌ (البينة : ٤ ).فإذا كانت صحف نوح نبأ، وإذا كانت صحف إبراهيم نبأ، وإذا كانت صحف عيسى نبأ، وإذا كان وحي نبأ، وإذا كانت صحف موسى "كرشنا" نبأ، وإذا كان رام" "تشندر نبأ ، فلا بد أن يكون الوحي الذي شمل وحي كل هذه الصحف نبأ عظيمًا.العليه الا 11 غلبة نوح كما أن "النبأ العظيم" ينطبق على غلبة الإسلام بل الحق أن غلبته أعظم من الأنبياء قاطبة وتحوي غلبته غلبتهم جميعًا.فمثلاً كان الطوفان آية على صدق و به صار غالبًا على قومه، ولكن ماذا كانت حصيلته النهائية؟ غرق قومه وحُرموا الإيمان به.أما قوم نبينا محمد ﷺ فتعرَّضوا للدمار أولاً ولكنهم آمنوا به في النهاية.وقد غلب موسى ال على أعدائه حين غرقوا في البحر، بينما أُغرق أعداء الا النبي في البر نفسه بدلاً نفسه بدلا من البحر.ثم إن موسى البحر.ثم إن موسى العلم وعد بالأرض المقدسة ولكن لم يتحقق هذا الوعد في حياته، ووعد نبينا أيضا بوعد مثله، ففتح مكة في حياته.أما.عیسی الليلة فتمثلت غلبته على أعدائه في أنه فر من أعدائه مهاجرًا إلى بلد آخر وصار في مأمن من اعتدائهم، بينما كتب الله تعالى لنبينا أيضا غلبة مماثلة حيث فرّ من عدوه وهاجر إلى مدينة أخرى ونجا هناك من عدوان العدو،

Page 13

الجزء الثامن ولكن عيسى Л سورة النبأ الة لم يستطع العودة إلى بلده ولم ينتصر على قومه، أما النبي ﷺ فعاد إلى وطنه مكة، وانتصر على قومه باختصار، قد نال النبي ﷺ كل أنواع الغلبة التي نالها الأنبياء السابقون، بل شملته نصرة الله وتأييده أكثر صارت أمة المسيح الليلة غالبة بعد ثلاثة قرون من بعثته، أما النبي ﷺ فقد نال منهم 6 منهم.فمثلا الغلبة على قومه في حياته.ثم إن أصحاب المسيح اللي قد وهنوا ولم يتثبتوا في موطن تطلب التضحية، أما النبي فقد الله وهبه تعالى صحابة ما وهنوا في موطن الحرب كأصحاب موسى ولا ضعفوا كأصحاب عيسى الذين خذلوه حين تعرضت حياته للخطر.الحق أن الناس فئتان فيما يتعلق بالعواطف، فئة يستعدون للتضحية في سبيل أمتهم، ولكن لا يستعدّون للتضحية من أجل قائدهم، وفئة يستعدون للتضحية من أجل القائد كل حين، ولكنهم لا يتحلّون بروح التضحية في سبيل أمتهم، فحبهم لشخص القائد لا للأمة.وقد أعطى الله نبينا صحابة كانت قلوبهم مفعمة بالعواطف بنوعيها، فلم يتقاعسوا عن التضحية من أجل الأمة كما تقاعس أصحاب موسى العليا، بل إذا تطلب الأمر التضحية لأمتهم انبروا في الميدان، وإذا تطلب الموقف الدفاع عن النبي ﷺ خاضوا غمار الأخطار مؤكدين الذي يكنونه للنبي ، و لم يتصرفوا كالجبناء كما فعل حواريو المسيح الا.لما حاصر أهل مكة بيت النبي الهلال ليلا لاغتياله وأراد أن يخرج مهاجرًا أمر عليا الا الله أن ينام في فراشه ففعل (السيرة لابن هشام خروج النبي واستخلافه عليا على فراشه)، وهكذا أكد له بأن أصحاب النبي الله كانوا مستعدين لأن يُقتلوا مكانه و لو تطلب الأمر.فثبت من هنا أن أمة النبي قد سبقت أمم الأنبياء السابقين لأمتهم وحبهم لقائدهم؛ وبالتالي كانت غلبته – أي غلبة الإسلام - نبأ عظيمًا، كما كان كتابه الا نبا عظيمًا كذلك، لكون القرآن أعظم وأروع من حبهم في حبهم الصحف السابقة، كما كانت القيامة نبأ عظيمًا لأنها أهم الأخبار وأعظمها.-

Page 14

الجزء الثامن شرح الكلمات : الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَدُونَ (٢) سورة النبأ مختلفون: اختلف القوم: ضدُّ اتفقوا.(الأقرب) التفسير: كما ترى فإن عنصر التفخيم والتعجب قد برز هنا أكثر من ذي قبل، ذلك لأن الله تعالى قد اعتبر هذا الخبر نبأ عظيمًا من قبل، أما الآن فيقول الذي هُمْ فيه مُختلفُونَ، مع أن المفروض أن لا يختلفوا في النبأ، أما النبأ العظيم فالاختلاف فيه لا يجوز مطلقًا، ولكنهم قد بلغ بهم السخف أنهم يختلفون فيه أيضًا.لقد قال البعض إن قوله تعالى الذي هُمْ فيه مختلفُونَ دليل على أن لفظ النّي الْعَظِيمِ لم يرد هنا بمعنى البعث بعد الموت ولا القرآن الكريم، إذ يخبر هنا أن الكافرين مختلفون في هذا الأمر، والحق أنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت و ما آمنوا بحياة أخرى أبدا، فكيف يمكن أن يختلفوا في عقيدة كانوا ينكرونها أصلاً.الله تعالى كما أن "النبأ العظيم" لا يعني القرآن الكريم أيضًا، لأنهم كانوا كافرين به أصلاً.الواقع أنه اعتراض باطل، إذ لم يكن كل الكافرين ينكرون البعث بعد الموت، إنما كانوا مختلفين فيه، وإن كانوا يرون أن البعث سيتم بشكل مغاير لما يذكره القرآن، ومن أجل ذلك كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لم يُدرك ثأره تظل تصرخ بشكل بومة (لسان العرب تحت هوم.فلو أنهم كانوا منكرين للحياة بعد الموت أصلاً لما اعتقدوا هذا الاعتقاد.فثبت أنهم ما كانوا على بينة وبصيرة حول الحياة الآخرة، بل كانوا مختلفين فيها.أن أما الاعتراض على القرآن الكريم فأيضًا لا يصح عندي، ذلك لأن الكافرين كانوا مختلفين في القرآن أيضًا رغم إنكارهم إياه، إذ كان بعضهم يسمونه سحرًا، وبعضهم كذبًا وافتراء، وبعضهم أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (الأنفال: ٣٢).والبديهي الذين سموا القرآن الكريم أساطير الأولين لم يعتبروه كذبًا وافتراء، لأنهم لو اعتبروه كذلك لعُدّ آباؤهم الأولون كذابين إذ كان القرآن أساطير آبائهم في زعمهم، ولكن هذا ليس بصحيح؛ فقولهم أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ نفسه دليل على أن بعضهم

Page 15

سورة النبأ الجزء الثامن كانوا لا يعترضون على القرآن الكريم باعتباره كلامًا ،مفترى، بل كانوا يقولون إن محمدا قد نقله عن آبائهم الأولين، فلا يمكن أن يكون وحيا من الله تعالى.إذًا، فوجود بعض العرب الذين اعتبروا القرآن الكريم أساطير الأولين يدل على أنهم كانوا فيه مختلفين.كما وُجد بينهم من سموا القرآن سحرًا، وكذلك من اعتبروه افتراء؛ مما يدل على أن قولنا إن القرآن الكريم هو النَّبَأَ الْعَظيم" لا يتنافى مع قول الله تعالى : الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بل منسجم معه تماما.أما الأمر الثالث، أعنى غلبة الإسلام، فقد يقول قائل : متى كان الكافرون مختلفين في غلبة الإسلام؟ فليكن معلومًا أن الكافرين كانوا بالفعل مختلفين في أمر غلبة الإسلام لإدراكهم أن المسلمين يتحلون بروح تجعلهم غالبين عليهم في نهاية المطاف.والحق أن معارضتهم الشديدة للإسلام ومحاولتهم المستميتة للقضاء عليه نفسها دليل على أنهم كانوا يخشون غلبته، ويدركون أن المسلمين مزودون بما يجعلهم غالبين عليهم.وهذه هي علامة النبي الصادق أعني أن معارضيه يخافون منذ أول يوم من دعواه أن أتباعه سيقضون عليهم ويكسرون شوكتهم في يوم من الأيام.إن المعارضين يدعون من ناحية أنهم سيدمرون أتباع النبي ويمحون أثرهم من العالم، ومن ناحية تتوجس قلوبهم خوفًا بأن هذا الشخص سيقضي عليهم، ولذلك يعارضونه معارضة شديدة مع علمهم أنه شخص واحد، ليس معه أعوان ،وأنصار ولا قوة ولا منعة و أموال ولا أسباب إن النبي ينبري وحده ليتحدى الدنيا كلها وهو لا يملك حيلة لا ولا قوة، فتعارضه الدنيا كلها ولا تدخر وسعا في تدميره ومحو أثره وإفشاله في مهمته، ذلك لأنها توقن في نفسها أن هذا الشخص الوحيد عديم الحيلة مزود بكفاءات مدهشة للرقي وسيقضي عليهم ويهزمهم في يوم من الأيام.إننا نرى في هذا العصر أيضا أنه بعد بعثة المسيح الموعود ال خرج كثير من المتنبئين قائلين العلية الا إنهم مبعوثون من عند الله تعالى، ولكن لم يلتفت إليهم أحد إطلاقا، فكان هؤلاء المدعون يتضايقون من عدم تعرض الناس لهم، بل كان بعضهم يسب جماعتنا بأننا لا نرد على دعواه وأقاويله.فمع أن هؤلاء المتنبئين يتمنون أن يلتفت الناس إليهم

Page 16

الجزء الثامن ۱۱ سورة النبأ ولو معارضين إلا أنهم لا يعيرونهم أدنى اهتمام إذ لا يجدون فيهم ما يخشونه، حتى يظنوا أنهم سيصبحون غالبين عليهم في النهاية إن الناس يسمعون دعاويهم ويمرون بهم ضاحكين غير معارضين لهم، أو لا يعارضهم عدد كاف منهم.بعضهم ضد المدعي، بينما يدرك الجميع على العموم أن لا داعي للتعرض له، لأنه سيهلك بنفسه ويبيد.قد يتفوه إذًا، فقوله تعالى الذي هُمْ فيه مُختَلَفُونَ يشير إلى غلبة الإسلام أيضًا، حيث بين في الله تعالى أن ذوي العقل من الكافرين يدركون أن الإسلام غالب لا محالة النهاية.إذًا، فعامة الكفار يتأثرون بما يسمعون من علمائهم فيظنون أنهم سينجحون في القضاء على المؤمنين، ولكن علماءهم يدركون أنهم سينهزمون وأن الإسلام سينتصر في نهاية المطاف، بل إنهم يرون آثار هزيمتهم منذ البداية.وهذا يعني أنهم يقرون منذ أول يوم بغلبة الإسلام مدركين أن لا قبل لهم بهذا الدين.وفي هذا العصر أيضًا نجد أن الناس يستيقنون في قلوبهم بتفوق الجماعة الإسلامية الأحمدية ويخافون على مصيرهم إذا استمرت الجماعة في التقدم على هذا المنوال، ولذلك لا يألون وسعًا في معارضتها، ظانين أنهم سيتمكنون من القضاء عليها؛ إذ القضاء عليها؛ إذ من المحال أن تزدهر جماعة في ظل هذه المعارضة الشديدة.بينهم إذًا، فلو فسرنا "النبأ العظيم" بمعنى غلبة الإسلام فقوله تعالى الَّذِي هُمْ فِيهِ مختلفُونَ لا يعني أنهم يختلفون فيما بهذا الشأن بل يعني اختلاف حالتهم من وقت إلى آخر، بمعنى أن الاختلاف عندها سيُعتبر إشارة إلى ما يوجد بين عامة الكفار وعلمائهم وزعمائهم من اختلاف في التفكير حيث يظن العامة أن المسلمين سيُبادون بينما يرى علماؤهم وزعماؤهم عكس ذلك، أو المعنى أن علماءهم وزعماءهم لا يكونون في حالة واحدة، فيظنون تارة أنهم سيقضون على المسلمين، وتارة أخرى يرون أنهم لن يتمكنوا من القضاء عليهم بل سيهلكون بأنفسهم في هذه المعركة.عندما ينظرون إلى محاسن المسلمين وصفاتهم الحميدة يدركون أنهم سيلقون الهزيمة على أيدي المسلمين، وعندما ينظرون إلى حزبهم وقوتهم يظنون أنهم سيقضون على المسلمين.

Page 17

الجزء الثامن ۱۲ سورة النبأ هذا، وقد يكون قوله تعالى الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إشارة إلى الاختلاف الموجود بين المسلمين والكافرين، وهذا الاختلاف أيضًا يخص القضايا الثلاث: بمعنى أن المؤمنين يعارضون الكافرين حول البعث بعد الموت وغلبة القرآن وغلبة الإسلام.كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٢) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ) الكلمات : شرح كَلَّا : حرف معناه الردع والزجر...وفي "الكليات" وقد تجيء بعد الطلب لنفي إجابة الطلب كقولك لمن قال لك افعل كذا كلا أي لا يُجاب إلى ذلك؛ وقد جاء بمعنى حقًّا نحو كلا إن الإنسان ليطغَى).(الأقرب) سيعلمون السين هنا تفيد التوكيد.التفسير: المراد من قوله تعالى سَيَعْلَمُونَ أنهم يعلمون حتما.وإذا أخذنا يوم القيامة في الحسبان، فالمراد أنه سيكشف عليهم يوم القيامة بطلان أفكارهم وفداحة خطئهم.أما نظرا إلى القرآن الكريم فالمراد أنه سيأتي يوم يتجلى فيه صدق القرآن الكريم عليهم.أما نظرًا إلى غلبة الإسلام فالمراد أنه غالبًا في نهاية المطاف سيصبح فيدركون أنهم قد ارتكبوا خطأ فادحا بمعارضة الإسلام.وقد ذكر الله تعالى في الآيات التالية الدليل على صدق هذه الدعوى، وهذا الدليل ينسجم مع القضايا الثلاث ،المذكورة بمعنى أن هذا الدليل لا يؤكد فحسب، بل يؤكد صدق القرآن الكريم وغلبة الإسلام أيضًا.شرح الكلمات : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَدًا (3) وجود القيامة مهادًا : المهاد الفراش؛ الأرض.(الأقرب) وتسمّى الأرض مهادًا لاتصافها بمزايا المهاد.

Page 18

الجزء الثامن ۱۳ سورة النبأ التفسير: ماذا يفعل الإنسان بالفراش؟ إنه يستلقي عليه وينام طلبًا للراحة، ولذلك قال الله تعالى ﴿أَلَمْ نَجْعَل الأَرْضَ مهَادًا..أي تجدون فيها أنواع الراحة والسهولة، فينبغي أن تفكروا في هذه الظاهرة.وسوف أقوم بتفسير هذه الآية مع الآية اللاحقة لاتحادهما في المعنى.شرح الكلمات : وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (2) من أوتادًا الأوتاد جمعُ الوتد وهو ما رُزَّ في الأرض أو الحائط خشب.وأوتاد الأرض جبالها ؛ وأوتاد البلاد رؤساؤها وأوتاد الفم: أسنانه.(الأقرب) وقد سُمِّيت الأسنان أوتاد الفم لأنها تحافظ على نظام الفم شأن الرؤساء الذين يحافظون على نظام البلاد، كما أن الأسنان تساعد على الأكل وتحافظ على جمال الوجه.وتسمى الجبال أوتاد الأرض لأنها سبب لزينتها وزخرفتها وقوتها ومتانتها.وهذا هو غرض الوتد لأنه يقوّي الشيء ويسانده.مثلاً أنت تغرز الوتد في الحائط لتعلّق عليه شيئًا فيصبح سندًا.له.كذلك تغرز الوتد في الأرض لتربط به الحيوان من فرس أو غيرها، أو تربط به أطناب الخيمة فتنصبها.وهذا يعني أن غرض الوتد حماية الشيء ومساندته فالمراد من قوله تعالى والجُبَالَ أَوتَادًا أنها سند للأرض وتمنعها من حر كة تضرها، والحق أن هذين هما الغرضان الأساسيان في الجبال.التفسير: فيما يتعلق بمنافع الجبال فقد أثبتت العلوم المعاصرة أن الجبال هي حالت دون الزلازل التي كانت تهزّ الأرض بدون انقطاع في البداية، ذلك لأن باطن الأرض نار تلتهب على الدوام وفي البداية كانت قشرة الأرض غير سميكة، فكلما جاشت النار في باطن الأرض بدأت الحمم تتدفق خارجها، ولم تزل هذه الظاهرة تتكرر حتى تكونت جبال كبيرة على سطح الأرض.وعندما هدأ جيشان باطن الأرض بردت قشرتها وأصبحت سميكة وصارت صالحة للعيش عليها.فليست الجبال إلا سببًا لمنع الأرض من حركتها الضارة وكما أن الوتد يربط الحصان ولا التي

Page 19

١٤ الجزء الثامن سورة النبأ يدعه يذهب وينفلت كذلك توقفت الحركة الضارة للأرض وانتهت ظاهرة الزلازل الكثيرة.كما أن الجبال سند للناس بحيث يمكننا القول إن جميع أقطار العالم معلقة بسند الجبال.تنزل على الجبال الثلوج التي فيها منافع عظيمة للناس.عندما تذوب الثلوج تجري في الأرض الجداول والأنهار التي تُشَقُّ منها القنوات التي تسقي البلد كله كما أن الثلوج تؤدي إلى تدفق العيون في الجبال التي تروي الناس.وهذا يعني أن الجبال تحقق الهدفين: إنها تمنع الأرض من الحركة الضارة، كما أنها لجميع البلدان حيث تمد الناس بالماء الذي يروي الأرض وتستمر به حياتهم.شرح الكلمات : وَخَلَقْتَكُمْ أَزْوَاجًا (3) تصبح سندا أزواجا: الأزواج مفردها زوج وهو: البعلُ؛ الزوجة؛ كل واحد معه آخر من جنسه؛ الصنف من كل شيء.(الأقرب) التفسير: يقول الله تعالى من ناحية جعلنا لكم الأرض التي تعمل لكم كالفراش كما جعلنا لكم الجبال التي تعمل لكم كالسند حيث تمنع الأرض من حركة تضركم، ومن ناحية أخرى وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا.ويُطلق الزوج على الذكر والأنثى، حيث يقول الرجل : هي زوجي أو زوجتي، وتقول المرأة: هو زوجي.فالمراد من قوله تعالى (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا أننا خلقناكم ذكرًا وأنثى.إذًا، فالله تعالى يذكر العباد أنه خلق لهم الأرض فراشًا، فكما أنهم يرجعون إلى فراشهم طلبًا للراحة كذلك يرجعون إلى الأرض كلما عنت لهم حاجة أو مسهم ضرر، فيجدون فيها كل ما يحتاجون إليه.فتمدّهم الأرض بكل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب وملبس.فما من حاجة للناس إلا ويسدّها الله تعالى من خلال الأرض.ثم إن الأرض تهيئ الراحة للإنسان كما يهيئ السرير الراحة لجسم الإنسان.

Page 20

الجزء الثامن أن يبني ١٥ مي سورة النبأ جعل الله تعالى الجبال التي هي سند وقوة للأرض الواقع أن الأرض كان بها نقائص سدها الله تعالى من خلال الجبال ولولاها افتقرت الأرض إلى منافع كثيرة.فمن أكبر فوائد الجبال أنها تدخر المياه التي هي سبب حياة الأرض، حيث تقع الثلوج على قمم الجبال، ثم تذوب لتمدّ الأرض بالمياه طوال السنة.كما تنبت على الجبال أنواع الأعشاب والعقاقير التي تنفع الناس.عندما يهيئ الإنسان الأرض ويعمرها للعيش عليها لا يبالي بما فيها من أعشاب نافعة، بل يتلفها بلا هوادة، فكلما احتاج إلى أرض للعيش قطع الشجر واستأصل الأعشاب.كان على الإنسان البيوت ويشق الطرق والشوارع ويهيئ المزارع، فكان عليه أن يمهد الأرض لذلك أولاً، عادته أنه ومن يقوم بتصفية الأرض كلية من كل نبات باعتباره لغوا لا فائدة فيه، مع أن كثيرًا من هذه النباتات نافعة له جدًّا، وفيها شفاء له من شتى الأمراض.فلو كانت الأرض سهولاً فقط لقطع الإنسان كل نبات وعشب مفيد أيضًا، وسدًّا لهذا النقص جعل الله تعالى في الأرض جبالاً، فادّخر فيها المياه على شكل ثلوج، كما أنبت فيها شتى النباتات والأعشاب التي.نافعة للناس والتي لو كانت في السهول لقطعوها وأتلفوها، ولكنها تظل محفوظة في الجبال؛ وهكذا تمثل الجبال سندًا للأرض.إذًا، فالله تعالى قد جعل في الأرض، من ناحية، فوائد كثيرة يمكن أن نقول أن لا نهاية لها نظراً لما في الأرض من قدرات وكفاءات، ومن ناحية أخرى خلق فيها الجبال التي تصبح بها منافع الأرض دائمةً بالفعل.فالأرض نافعة والجبال أيضًا ذات فوائد، والفرق أن الجبال تديم منافع الأرض.وبعد ذكر هذه النعم العظيمة قال الله تعالى ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا...أي جعلكم ذكرًا وأنثى حتى يستمر نسلكم.وكأن الله تعالى يقول أليس عجيبا أننا خلقنا الأرض التي تمدكم بالغذاء والماء واللباس والسكن من جهة، وخلقنا لكم الجبال التي جعلت المنافع الأرضية دائمة من جهة أخرى وجعلناكم ذكرًا وأنثى ليستمر نسلكم دائمًا وتنتفعوا من نعمنا على الدوام من ناحية ثالثة، ولكنكم تقولون عن كل هذه الأشياء التي تخرج عن حد الإحصاء أننا خلقناها عبئًا وليس وراء خلقها حكمة ولا غاية.

Page 21

الجزء الثامن 17 سورة النبأ ومن معاني الزوج الصنفُ من كل شيء، وعليه فيعني قوله تعالى وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا أننا خلقناكم أصنافًا..أي جعلنا لكم طبائع شتى وأمزجة مختلفة، فمنكم من يرغب في الرسم، ومنكم من يميل إلى النجارة ومنكم من يحب العلوم (science)، ومنكم من يفضل الرياضيات، ومنكم من يؤثر دراسة التاريخ.فقد جعلنا الناس أقسامًا شتى، ولو خُلقوا بطبيعة ،واحدة لساروا كلهم في جهة واحدة ولم يحرزوا أي تقدم ولكن الله تعالى قد جعل العقل الإنساني ذا مواهب مختلفة وفتح أمامه مجالات شتى للتقدم والرقي بحيث يختار كل إنسان مجالاً ينسجم مع مزاجه ،وطبيعته فمن الناس من يشتغل بالدنيا، ومنهم من يشتغل بالدين، ومنهم من يتوجه إلى العلوم، ومنهم من يتقدم في علم الأخلاق ومنهم من يسبق في الهندسة، ومنهم من يرغب في التاريخ، وهكذا يسعى الجميع في مجاله بحسب فطرته ومزاجه.وهذا التنوع والاختلاف دليل على أن الله تعالى قد خلق في الإنسان رغبة في البحث عن شيء لا يراه وجعل فيه غليلا للفوز بذلك الشيء الخفي غير المرئي.وبحثا عن تلك الضالة المنشودة يتوجه الناس إلى جهات شتى.فتجري شتى الطبائع الإنسانية في طرق مختلفة حسب مزاجها كما يجري الماء المهراق إلى الأسفل.أو مثله كمثل أهل بيت يفقدون ولدًا لهم، فيخرجون بحثا عنه في جهات شتى، فيجري بعضهم إلى الشرق وبعضهم إلى الغرب وبعضهم إلى الجنوب وبعضهم إلى الشمال بينما يكون هدف الجميع واحدًا وهو البحث عن الولد.فتجري الطبائع البشرية في جهات شتى وطرائق مختلفة، مما يدل على أن هناك شيئًا تشعر الفطرة الإنسانية بضرورة العثور عليه ولكنها لا تعرف مكانه فتجري في جهات شتى بحثا عنه؛ وهذا دليل على أن الفطرة الإنسانية تبحث عن ضالتها التي ليس عندها علم ذاتي بمكانها، ولذلك تبحث عنها في مختلف الجهات، ولا تزال في بحثها حتى ينزل الله تعالى وحيه ويدلّها على ضالتها المنشودة، وعندها ينعم الإنسان بالسكينة والطمأنينة ويدرك أنه قد نال غايته التي كان يسعى لها والتي من أجلها قد جعل الله تعالى للناس طبائع مختلفة ومواهب متنوعة.

Page 22

الجزء الثامن ۱۷ سورة النبأ يجب أن يسعى إذًا، فخلقُ الأرض والجبال، وتنوُّعُ الطبائع البشرية وتوجه الناس ذوي المواهب المتنوعة إلى جهات شتى بحثًا عن مقاصدهم لدليل على أن للإنسان غاية عظيمة لها.إن هذا البحث أو الغليل الموجود في فطرة الإنسان يدل على ضرورة الوحي أولاً، ويؤكد ضرورة البعث بعد الموت ثانيا، ويدل على غلبة الوحي الإلهي بعد نزوله ثالثا؛ إذ لو لم يصبح الوحي غالبًا ما كانت هناك فائدة في نزوله أصلاً.ملخص القول إن الله تعالى قد دلل - بخلق ملايين النعم والخيرات التي لا تعد ولا تحصى على الأرض التي يعيش عليها الإنسان، ثم بخلق الجبال وجعل أسباب رزق الإنسان وتقدُّمه ورقيه دائمة الصبغة، ثم بخلق الناس بطبائع متعددة ليطوّروا، بحسب أمزجتهم المختلفة، قدرات الأرض وخيراتها وينتفعوا بها، ثم بخلق الإنسان ذكرًا وأنثى لاستمرار نسله - على أن الإنسان قد خُلق لرقي غير محدود ولحياة خالدة، وإذا ثبت ذلك فلا بد من الاعتراف أيضًا أنه لا بد للإنسان بعد موته من حياة أبدية في عالم ،آخر وبالتالي لا بد أن يكون هناك هدي يعمل به لنيل الحياة الأبدية، كما لا بد أن يكون هناك ضمان لنجاح الذين يعملون بذلك الهدي، وإلا فإن خلق العالم كله عبنا.يصبح شرح الكلمات: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا سُباتًا: أصلُ السبت القطعُ، ومنه: سَبَتَ السَّيْرَ (أي الجلْدَ): قَطَعَه وسَبَت شَعْرَه : حلقه ؛ وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا)..أي قطعاً للعمل.(المفردات) ويسمى يوم السبت سبتا لأن اليهود يتركون العمل فيه.والسُّباتُ : الدهرُ ؛ الداهية من الرجال؛ النوم؛ وقيل خفته، وقيل ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب؛ وقيل أصله الراحة.(الأقرب)

Page 23

الجزء الثامن ۱۸ سورة النبأ قد التفسير: يقول الله تعالى هنا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا..وهذا رد على من يقول: ما الحاجة إلى أن يُهزم الكفر بيد الإسلام مرة أخرى وقد سبق أن جُعل مغلوبا في عصر آدم ونوح مثلاً؟ فيجيب الله تعالى ويقول وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَانًا..أي ألم تروا أن هناك وقتًا لليقظة ووقتا للنوم في حياتكم العادية، كذلك تتناوب فترات الصحوة والنوم في حياة الشعوب دائمًا ، ليستعيد الناس قوى جديدة ويهبوا ويهزموا الكفر ثانية إن الناس لا يزالون يعملون في سبيل الدين فترة طويلة، الكسل والتعب، فيرغبون عن الدين وتنحصر رغباتهم في الدنيا فقط، فيتركهم الله وشأنهم فيميلون إلى الفساد، ثم يتغمدهم الله تعالى بفضله مرة أخرى، فتطلع لهدايتهم شمس روحانية جديدة.يصيبهم وحيث إن الله تعالى قد ذكر هنا النوم مع السبات فقال وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَانًا يعني السبات هنا معناه المعروف أي النوم ، بل لا بد من تفسيره بمعنى آخر وهو الراحة، فالتقدير: وجعلنا نومكم راحة.فلا ومن معاني السبات الدهر، فعليه يمكن تفسير الآية أيضًا كالآتي: وجعلنا نومكم دهراً..أي جعلنا زمن نومكم طويلاً.وعليه فيعني النوم إذًا، ذلك الزمن الذي لا تطلع فيه الشمس الروحانية على قوم، بل يغطون في الغفلة..وبتعبير آخر عندما تركن أمة من الأمم إلى النوم الروحاني ينامون فترة طويلة.شرح الكلمات : وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاسًا ) لباسًا : قال صاحب المفردات: "وجعل اللباس لكل ما يغطّي الإنسان عن قبيح" وعليه فقوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لبَاسًا..يعني أننا جعلنا الليل ليغطي به عوراتكم وعيوبكم، ولهذا السبب سُمّي الليل هنا ،لباسًا، فإن كل ما يستر العيوب لباسًا في العربية كما قال الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم لبَاسُ التَّقْوَى (الأعراف: ۲۷)، فقد سمى التقوى لباسًا لأنه يستر عورات الإنسان.يسمى

Page 24

الجزء الثامن ۱۹ سورة النبأ وورد في أقرب الموارد : "اللباس الاختلاط والاجتماع، يقال: بينهم لباس..أي اختلاط واجتماع".وجاء في لسان العرب: "لباسُ كل شيء: غشاؤه".التفسير : لولا الليل لظل الإنسان ساهرا كل حين وأصابه الجنون في بضعة أيام، ولكن هذا النقص في الإنسان يظل في الخفاء ولا ينكشف بسبب الليل، إذ جعله الله تعالى لباسًا له، فيغطي على عيبه هذا أي أنه محدود القوى.يضطجع ويعمل الليل لباسًا للإنسان من حيث إن عيوبه الصادرة وقت النوم بالليل لا تنكشف على الآخرين لكونهم أيضًا نياما في ذلك الوقت، ولكنه لو نام المرء وقت النهار اطلع الآخرون على عيوبه هذه.ذلك أن الإنسان يكون أثناء نومه في أوضاع غريبة بعضها قبيحة جدا بحيث لو رآها أحد لكرهها أشد الكراهية.فمثلاً قد يكون المرء ذا مكانة مرموقة بين الناس ولكن فمه ينفتح خلال النوم، فلو نام بالنهار وقعت الذباب على فمه ولكنه لو نام بالليل ظل عيبه هذا مستورًا عن أعين الناس.وبعضهم يغط أثناء النوم عاليًا، وبعضهم يضطجع ضجعة منفّرة جدًّا، فبعضهم كالقط وبعضهم كالسمك؛ ولذلك كله قال الله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لبَاسًا..أي أن الليل هو وقت النوم عادةً، والذين ينامون بالليل لا تنكشف عيوبهم الجسدية للناس، أما لو نام الناس عادة وقت النهار لانكشفت للآخرين عيوبهم المتعلقة بالنوم، ولكنها تظل مخفية عن الآخرين لنومهم بالليل الذي يغطيها.والليل الروحاني أيضًا يعمل عمل اللباس كالليل المادي، ذلك لأن القوم كلهم يكونون أموانًا من الناحية الروحانية ولا أحد يعرف عيوب صاحبه، وكما يقول المثل إن الجميع في الحمام عراة، كذلك يكون أهل ذلك العصر كلهم عراة من الناحية الروحانية إن كل إنسان منهم يصبح ائما يرتكب المعاصي والمساوئ، فلا يستطيع أن يرى سيئات الآخرين.فكان الجميع واقعين في الشرك والوثنية في زمن الجاهلية قبل ظهور الإسلام مثلاً، والفرق الوحيد أن بعضهم كان مشركًا كبيرًا وبعضهم مشركا صغيرًا، ومع أنهم كلهم كانوا منغمسين في الشرك إلا أنه لا أحد كان يشير إلى هذا العيب الموجود في صاحبه.ولكن عندما يبعث الله نبيًّا منهم من

Page 25

الجزء الثامن عيب عند الله ۲۰ سورة النبأ هذه ويأتي بشمسه الروحانية تتكاشف للناس عيوبهم، فيقولون إن فلانا مصاب كذا وفلانًا بنقص كذا، أما قبل ذلك فيكون الشعب كله في سبات فلا يستطيع أحد رؤية عيب صاحبه ومثاله في هذا العصر ما حصل بأهل أوروبا حيث يرقصون عراةً ولا أحد منهم يستنكر ذلك لأنه قد خيم عليهم ليل روحاني، فلا يرون في ظلمته هذه النقائص والعيوب، بل إن أكبر إنسان فيهم أيضا یری النقائص ويمرّ بها مرّ الكرام دون أن يفكر في إبداء الكراهية نحوها.ولكن عندما يُبعث نبي من تعالى يخجل الناس من تلك المساوئ ويستنكرونها.ثم إن اللباس زينة والواقع أن الليل هو الزينة للعاملين الكادحين أثناء النهار.من عادة العرب أن كل واحد منهم مهما كان فقيرا يغسل ثيابه يوميًا، أما الأثرياء منهم فيلبسون بالنهار غير ما يلبسونه بالليل ذلك لأن الثياب تتسخ نتيجة العمل بالنهار، فلا يستطيعون ارتداء الثياب الجميلة وقت النهار بل يلبسونها وقت الليل حين يفرغون من العمل ويجلسون للراحة.ولو زرت البلدان الأوروبية لوجدت أن الرجل الثري ذا الراتب العالي يعمل في ثوب عادي وقت النهار، ولكنه بعد فراغه من العمل عند العصر تقريبًا يستحم ويلبس ثوباً نظيفا جميلاً ويجلس مع أهله وأولاده.6 وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا شرح الكلمات : ۱۲ معاشا: عاش يعيش معاشا: صار ذا حياة....وقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا..أي مُلتمسا للعيش.(الأقرب) لقد بين الله تعالى هنا :أمرين أحدهما أننا جعلنا النهار ذا حياة، بمعنى أن النهار مَظْهَرُ للحياة فيبدو كأنه شيء حي، والثاني أننا جعلنا النهار سببًا للعيش، أي أن الناس يبحثون فيه عن أسباب العيش.

Page 26

الجزء الثامن ۲۱ سورة النبأ ويمكن اعتبار معاشا مصدرًا بمعنى اسم الفاعل على سبيل المبالغة، والمراد أن النهار وثيق الصلة بالمعاش بحيث يجوز القول إنه في حد ذاته معاش، كقولهم: زيد عدل..أي أنه شديد التمسك بالعدل بحيث يمكن تسميته عدلاً متجسدا.ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ (العنكبوت: ٦٥)، فقد جاءت كلمة الحيوان هنا على سبيل المبالغة والمعنى أن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية.فمع أن الدار الآخرة اسم مكان والمكان لا يكون ذا حياة، ولكن الدار الآخرة الحيوان على سبيل المبالغة لأن الإنسان إنما يكون حيا حقيقيًا في الآخرة فقط، ولأن الحياة في الآخرة هي الحياة الحقيقية.إذًا، فالمراد من قوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشَا أن المعاش وثيق الصلة بالنهار، أما الليل فصلته بالمعاش ضعيفة، بحيث يجوز القول إن الله تعالى قد جعل النهار معاشا..أي خلق فيه من أسباب المعاش ما لا يتيسر في أي وقت آخر.هذا إذا اعتبرنا معاشا الله تعالى يسمي مفعولاً به أما إذا اعتبرناه مفعولا فيه فيكون المعنى أن النهار سبب للمعاش.والمعاش يعني مجرد الحياة، ولكنه يعني عادة الحياة الحيوانية التي تتعلق بالأكل والشرب فقط.التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أنه تأتي على الشعوب فترة الظلمة في بعض الأحيان مثلما تخيم ظلمة الليل على العالم بعد النهار.لقد بينتُ من قبل أن هذه السورة تتحدث عن قضايا ثلاث وهي البعث بعد الموت وغلبة القرآن وغلبة الإسلام، ونظرًا إلى معنى القيامة فقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ أنه تعالى خلق الليل في العالم المادي لستر عيوبكم، إذ لم تكونوا قادرين على التمتع بالنهار دائمًا ، فكان لزامًا أن تأتي عليكم فترة الليل لتستعيدوا قواكم للتمتع بالنهار من جديد، كذلك الحال في العالم الروحاني، فكما أن الله لباسا يعني هي تعالى قد جعل لكم الليل لباسًا والنوم سبانًا كذلك خلق هذه الدنيا – التي بمثابة الليل والسبات بالمقارنة مع الآخرة - لتتزوّدوا هنا بقوى جديدة تمكنكم من رؤية الله تعالى في الآخرة.فكما أنه لا بد من الليل قبل النهار، كذلك لا بد من

Page 27

الجزء الثامن ٢٢ سورة النبأ عالم آخر من أجل رقيكم.فينبغي أن تتزودوا خلال العيش في هذا العالم بالقوى المناسبة للحياة الآخرة حتى تتأهلوا لرؤية الله تعالى هناك.أما نظرا إلى موضوع غلبة القرآن أو غلبة الإسلام، فالمراد أنكم كقوم كنتم نياما، ولكن الله تعالى كان يزودكم في فترة نومكم نفسها بقوى جديدة.علما أن الله تعالى كلما أنزل وحيه أنزله في قوم قد صاروا أذلة وأمواتًا، وذلك ليزوّدهم الوحي بقوى جديدة فيهبوا ويصبحوا غالبين على العالم مرة أخرى.ولذلك نجد أن الله تعالى كلما أنزل وحيه في قوم أخذت قواهم في النماء والتطور، فينتشرون ويزدهرون في العالم نتيجة هذه القوى.خذوا بعثة النبي مثلاً.كان العرب عندها أمة حقيرة ميتة منذ قرون و لم تكن لهم غلبة في أي مكان، كما لم تكن فيهم أية آثار للتقدم والرقي وكانوا يعيشون خاملين ومنعزلين عن العالم.ولا شك أنه لما نزل فيهم القرآن الكريم قاموا يعارضونه ويسعون للقضاء على الإسلام، ولكن كانت في قلوبهم حسرة بأن كل أمة في العالم قد ازدهرت وأن كل شعب قد نال الغلبة، ولكنا لا نزال متخلفين.كانت في قلوبهم أمنية أن يتقدموا ويزدهروا وينال شعبهم العز والرفعة في العالم.والحق أن هذه الأمنية قد ساعدتهم كثيرًا فيما نالوه بعد إسلامهم من تقدم وازدهار.فثبت أن الله تعالى كلما أنزل وحيه أنزله في قوم كانوا قد ظلوا أموانًا لأحقاب.ونرى في هذا العصر أيضًا أن الله تعالى قد بعث المسيح الموعود الله في بلاد الهند التي كان أهلها يعيشون كالعبيد من زمن طويل وكانوا يتمنون التقدم والازدهار.لا شك أن أهلها يعارضون الأحمدية اليوم كما هبّ العرب لمعارضة الإسلام في البداية، ولكنهم سيدركون أن الأحمدية هى السبيل الرقيهم وعندها ستتولد فيهم الصحوة فجأة، فيستعدّون لتقديم أي تضحية في هذا السبيل.كما أن الله تعالى قد أشار بقوله وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا إلى أن النهار - لا الليل - هو الدليل على الحياة في الحقيقة.وهناك حكمة بالغة تكمن في هذا التعبير، وهي أن الناس عادةً يرون العيش في شتى أسباب الراحة والمتعة، ولكن الله تعالى يعلن هنا أن ما ترونه عيشا ليس بعيش وإنما هو سبات.تظنون أن التمتع بأنواع الملذات من

Page 28

الجزء الثامن التي ۲۳ سورة النبأ أكل وشرب وسياحة هو العيش مع أن فترة العيش الحقيقي إنما هي فترة بعثة النبي هي زمن العمل الحقيقي والعزة الحقيقة، أما التمتع بالأكل والشرب وغيرها من أسباب الراحة واللذة فهو ليس بعيش وإنما هو نوم وسبات.وكأن ما تعتبرونه عيشا هو زمن سباتكم، وأن ما تعتبرونه زمن الشدائد هو زمن عيشكم الحقيقي.فكما أن الإنسان يعمل وينشط بالنهار ويستريح بالليل كذلك يسمى وقت العمل عيشا ووقت الراحة ليلاً.فكأن الله تعالى يقول للناس مستغربًا: كيف تسمون زمن الراحة والسكون عيشا أن وقت العيش إنما هو ذلك الذي تعمل فيه قوى مع الإنسان ،وتنشط وهو وقت النهار لا وقت الليل.والحق أن زمن العيش ليس إلا حين يتمتع القوم بروح التضحية، وتُرى في كل فرد منهم صحوة، ويشعر الجميع أن سر النجاح يكمن في التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الله تعالى؛ ذلك لأن الحياة اسم للحركة لا للسكون فما ترونه عيشًا هو سكون وعلامة للهلاك، وما ترونه شدة ومحنة هو العيش إنكم تعتبرون حياة الراحة والترف عيشًا، ولكنه ليس عيشًا بل هو سبات يغشاكم، أما الذي لا تعدّونه عيشا فهو العيش بعينه.فكأن الله تعالى قد صحح بهذه الكلمة خطأ شائعًا بين الناس وبيّن أن العيش اسم للحركة حيث يتحرك المرء وينشط وقت النهار ولكنكم تسمون عدم الحركة عيشًا، أنه ليس بعيش وإنما هو تعطل حواسكم.شرح الكلمات: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) ۱۳ مع شدادًا : الشداد والأشداء مفردها شديد، ومن معاني الشديد: الشجاع؛ البخيلُ؛ الأَسدُ؛ القويُّ - ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى عن الصحابة: أَشَدَّاءُ عَلَى - الْكُفَّار - الرفيع الوثيق.(الأقرب) التفسير : ما هي هذه السبع الشداد؟ إنها السماوات لأن الله تعالى قد استعمل كلمة "السبع" عن السماوات في أماكن أخرى من القرآن الكريم.فقوله تعالى وبنينا

Page 29

الجزء الثامن فَوْقَكُمْ سَبْعًا شَدَادًا يعني ٢٤ سورة النبأ أننا خلقنا فوقكم سبع سماوات مادية وروحانية متينة لا زعزعة فيها، بل يعمل فيها قانون محكم لا يتعطل أبدًا، ولذلك لا يحدث في نظام الكون خلل ولا فتور.أما لو أخذنا كلمة شدادًا بمعنى رفاعًا فالمراد أننا قد خلقنا فوقكم نظامًا رفيعًا لا نهاية لرفعته.سے كما يمكن تفسير كلمة شدادًا بمعنى وثيقة والمراد أن هذا النظام المدهش الذي خلقناه لا تغير فيه؛ حيث يجري فيه هذا القانون على وتيرة واحدة.علما أن هناك فرقا بين عدم انفكاك الشيء وعمله بطريقة واحدة، ذلك لأن عدم انفكاكه یدل على بقائه واستمراره، أما عمله بطريقة واحدة فيدل على عدم وقوع أي تغير فيه.فمثلا نجد بعض الناس لا يسير على وتيرة واحدة بل يقول اليوم شيئا ويقول غدًا عكس ذلك، فلا يمكن أن نصفه بالسير على وتيرة واحدة ولكن السبع الشداد التي خلقها الله تعالى تتصف بالمزايا الثلاث بأنها قوية لا تنفك ورفيعة واسعة، ووثيقة أي لا تغير فيها.يزعم لقد أشار الله تعالى هنا بقوله وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شدَادًا إلى أن هذه المزايا الثلاث التي توجد في النظام السماوي لدليل على أن وراء خلق الكون غاية عظمى.فالذي أن الله تعالى خلق الإنسان وجعل فوقه نظاماً هائلاً محكما دونما هدف إنما يعتبر فعل الله عبئًا، ويقول الله تعالى له لم لا تتدبر في هذا النظام المدهش الرفيع الواسع الذي لا انفصام له، والذي يجري بطريقة واحدة بدون تغير وخلل، والذي العلماء (Scientist) بالدهشة والذهول حين يفكرون فيه وتتقاصر أفهامهم عن إدراك سعته رغم ما حققوه من تقدم علمي مدهش فعليك بإعمال الفكر في هذا النظام الفلكي واسأل نفسك هل من المعقول أن يُخلَق هذا النظام الواسع من أجل هذا العالم ولهذا المخلوق الذي لا غاية لخلقه، بل يفنى بعد حياة قصيرة ترابا.إن هذا النظام الهائل نفسه لبرهان على أن لخلق الإنسان غاية عظيمة، وإلا لزم أن يُعتبر هذا النظام الهائل المدهش لغوا وعبثا.يصيب ويصير

Page 30

سورة النبأ الجزء الثامن ۲۵ إذا، فقد قدم الله تعالى نظام السماوات برهانًا على البعث بعد الموت، مبينا أن خلق هذا النظام الحكيم المدهش يدل على أن الإنسان لم يُخلق ليأكل ويشرب أيامًا ثم يفنى، بل قد خُلق لهدف أسمى ذلك.من أما نظرًا إلى موضوع صدق القرآن الكريم، فالمراد أن الله تعالى يدعو الناس هنا إلى التدبر في فطرتهم، ويقول ألا ترون أنه توجد في قلوبكم رغبة شديدة في التحلّي بالأخلاق السامية والترقي في الخير بالإضافة إلى رغبتكم في الأكل والشرب – وتتمنون بلوغ المراتب الروحانية العالية هل هذه الرغبة والأمنية بدون سبب؟ هل يقال إن الله تعالى خلق الأسباب كلها لتحقيق رغباتكم المادية – التي أدنى - و لم يخلق شيئًا لتحقيق ما خلق فيكم من رغبات روحانية المادية؟ وفي هذه الحالة سيُعتبر قوله تعالى سبعًا شدادا بمعنى المدارج السبع الروحانية المذكورة في سورة المؤمنون" حيث بين الله تعالى أن المؤمنين لا يزالون في الرقي الروحاني حتى يحوزوا هذه المراتب السبع.شرح الكلمات : ١٤ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَاجًا (3) مي هي أسمى من الأماني سراجًا: السراج معروف وجمعه سُرُجٌ، والسراج أيضًا الشمس لأنها سراج النهار.(الأقرب) وهاجًا : وهَجت النارُ والشمسُ وَهْجًا ووَهَجانًا: اتقدت.والوهاج: الشديدُ الوَهَجِ.والوَهَجُ: حرُّ النار والشمس من بعيد.(الأقرب).فالمراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا سَرَاجًا وَهَّاجًا أننا جعلنا شمسًا يُحَسُّ حرُّها الشديد من بعيد.والملاحظ هنا أن الله تعالى لم يقل: "وجعلنا السراج وهّاجا"، بل قال: ﴿وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا، ذلك لأن التنوين هنا يفيد التفخيم والمعنى أننا قد جعلنا شمسا عظيمة من صفتها أنها وهّاجة.

Page 31

الجزء الثامن ٢٦ سورة النبأ وورد في المفردات: "الوَهَجُ : حصولُ الضوء والحرِّ من النار.وقوله تعالى وَجَعَلْنَا سرَاجًا وَهَّاحًا..أي مضيئًا.وتوهج الجوهر: تلألأ." فالمعنى الثاني أننا جعلنا شمسا صفتها الذاتية أنها شديدة الضوء.التفسير : لقد بين الله تعالى بوصف الشمس وهّاجًا أن ضوءها وحرَّها ذاتيان القمر لا يمكن أن يسمى وهاجًا لأنه لا يتقد إنما الشمس هي التي تتقد كما تتقد النار.لقد خلق الله تعالى في الشمس عنصر الراديوم" (Radium)، وعندما تنجذب ذراتها إلى الداخل نتيجة قوة الجاذبية تُحدث ضوءًا وحرا كما تؤدي إلى اتقاد النار بشكل مستمر.إن صفة كون الشمس وهّاجة لغنية عن البيان.تبعد الشمس عن الأرض قرابة تسعين مليون ميل (Lexicon Universal Encyclopedia: SUN)، ومع ذلك يصل حرها إلى الأرض، ويبلغ في الصيف حدا لا يقدر بعض الناس على احتماله ويموتون.لقد نُشر خبر قبل أيام أن الخيول في "لاهور" تسقط خلال سيرها من شدة القيظ وتموت.كما ورد خبر من أمريكا أن عشرات الناس أصيبوا بالجنون من شدة الحر وأرادوا القفز من المساكن العالية.فثبت أن الله تعالى قد جعل الشمس بالفعل وهّاجة..أي يصل حرّها من بعيد.إذا، فقوله تعالى السرَاجًا وَهَاجًا إشارة إلى أمرين أولهما أن ضوء الشمس وحرّها ذاتيان، وثانيهما أن حرّها يُحَس من بعيد.ومن المنافع الكثيرة للشمس أن حرّها وضوءها يمدان الأرض بقوة الإنبات.علما أن حراثة الأرض لا تستهدف تليين تربتها فقط، بل تقليبها جيدا أيضا، لأن بعض عناصر الأرض القادرة على الإنبات لا تعمل جيدًا إذا لم تتعرض للشمس مرة بعد أخرى، وبالتالي لا يكون الزرع جيدًا، ولكن إذا قلبت تربة الأرض جيدًا وتعرضت لأشعة الشمس مرة أخرى اكتسبت قوة الإنماء من جديد؛ ولذلك تُصنع اليوم محاريث تحرث الأرض عميقا وتجعل أسفلها عاليها باختصار إن الشمس شديدة التأثير على الزروع، وإذا لم يصل حرُّها وأشعتها إلى الأرض فقدت قوة الإنبات.•

Page 32

الجزء الثامن ۲۷ سورة النبأ وسيُعتبر قوله تعالى سرَاجًا وَهَّاجًا إشارة إلى يوم القيامة من حيث إن الشمس تحترق بنفسها، والشيء الذي يحترق بنفسه يفنى في النهاية، ومن الواضح أن فناء الشمس سيؤدي حتما إلى تغير كبير في النظام الشمسي، ولذلك نرى أن كبار علماء الفلك أخذوا يؤمنون بالقيامة، إذ يقولون إن الشمس تنكمش باستمرار وستظل تنكمش حتى يأتي يوم تصبح فيه عديمة الجدوى للأرض، كما ستفنى معها الكواكب الأخرى في النظام الشمسي.غير أن هؤلاء العلماء يرون أن حرارة الشمس لا تقل بل تزداد وكلما انكمشت إلى مركزها ازدادت حرارةً.ويبدو من الحديث أيضًا أنه عندما تأتي القيامة تشتد حرارة الشمس.أما نظرًا إلى موضوع غلبة النبي الله فأرى أن قوله تعالى سراجًا وهاجًا يتضمن إشارة خفية إلى هجرة النبي الله ، حيث قد نبه الله تعالى الكافرين من أهل مكة أن محمدا ) مقيم بين ظهرانيكم الآن وتتزعجون منه بحجة أنه يعيب آلهتكم وينشر دعوته بينكم، وينهاكم عن اتباع آبائكم، وتثيرون ضجّة كلما وعظكم ودعاكم إلى أعمال البر والتقوى وتريدون طرده من بلدكم إن استطعتم لتتخلصوا منه، ولكنكم لا تعرفون أننا قد جعلناه لكم سراجًا وهاجًا، أي أنه سيذهب بعيدًا عنكم في يوم من الأيام، ومع ذلك لن تنجوا من حرّه، بل سيصلكم حره بدون انقطاع وسيظل ضوؤه يبدّد الظلمة من أجل الأرواح السعيدة منكم.أما نظرًا إلى موضوع غلبة القرآن الكريم فيعني قوله تعالى سراجًا وهاجا أن ركز القرآن سوف يصبح بعيدًا عنكم أيها الكافرون، ومع ذلك لن تكونوا في معزل عن تأثيره، بل سيصل تأثيره من بعيد أيضًا ويتغلب عليكم.واعلم أن الله تعالى عندما يبعث نبيا تحدث ضجة كبيرة في الدنيا ويتحلى المؤمنون بإخلاص مدهش فلا يرتاحون بالا ما لم ينشروا دعوته ويبلغوا الناس تعاليمه.إنهم w ورد في الحديث: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق." زيادة الجامع الصغير للسيوطي)

Page 33

۲۸ الجزء الثامن سورة النبأ يتعرضون للشتائم والسباب ومع ذلك لا يتوقفون عن عملهم، بل لا يبرحون ملازمين لقومهم من أجل هدايتهم؛ فمثلا كنا نسمع في زمن المسيح الموعود ال من أفواه المعارضين جملة واحدة مرارًا بأن الأحمديين لا يمتنعون عن مطاردتنا.هذا ما يؤكده الله تعالى هنا ويقول وَجَعَلْنَا سَرَاجًا وَهَّاجًا..أي أننا قد جعلنا شمسا لن يبرح حرُّها وضوؤها يصلانكم حتى من بعيد.هذا أولاً محمدا.وثانيًا: تتضمن هذه الآية الإشارة إلى كون رسالة النبي ﷺ عالمية حيث بين الله تعالى أنكم سترون تعاليم محمد لا تنتشر في العالم كله كما ينتشر ضوء الشمس في الدنيا كلها تبكون على انتشار الإسلام في مكة ولكنكم سترون بعد سنوات أن سيصبح سراجًا وهَاجًا، فيغطي ضوؤه وجه المعمورة كلها.وثالثًا: وفي وصول الحر والضوء من مكان بعيد إشارة إلى امتداد فيوض النبي ﷺ من حيث الزمن أيضًا حيث بين الله تعالى أن زمن فيوضه ممتدّ جدا، وكما أن الشمس المادية ستظل تسد الحاجات المادية لأهل الدنيا إلى يوم القيامة كذلك ستمد الفيوض الروحانية العالم باستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.الكلمات : तु وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً تَجَاجًا (٤) شرح المغصرات: السحائب تعتصر بالمطر، واحدها معصرة.والمعصرة أيضًا الريح التي بها إعصار حيث يقال: أعصرت الريح: جاءت بالإعصار.(الأقرب) لغة أن المعصرة قد تعني الرياح كما قال بعض الصحابة (الطبري)، ولكن المعصرة رمع هي الريح التي فيها إعصار، وهذا المعنى لا ينطبق هنا تمامًا، فالمعنى الأكثر انطباقًا السحائب التي تتحلب بالماء وتعتصر بالمطر.غير أن الإعصار لما كان يعني عصر الشيء واستخراج رحيقه، فيمكن إطلاق المعصرات على الرياح الشديدة التي تحوّل بخار الماء فيها ماء على كل حال قد قال بعض الصحابة إن هنا لغة 33 3 هو

Page 34

الجزء الثامن كما ۲۹ سورة النبأ السحب المعصرات هي الرياح، وقال بعضهم إنها السحب.وقد رجح معظم المفسرين المعنى الأخير لأنه هذا هو معنى المعصرات لغة.(الطبري، فتح البيان، ابن كثير) تَجَاجًا : تَجَّ الماءُ: سال.والثجاج من المطر : السيّالُ الشديد الانصباب.(الأقرب) التفسير : قد تحدث الله الا الله من قبل عن الشمس، أما الآن فيتحدث عن ليبين أن الأرض تتهيأ وتصبح نافعة بمساعدة هاتين الظاهرتين، بمعنى أنها إذا تهيأت بتأثير السراج الوهاج، نزل عليها الماء من المعصرات، فأخذ نباتها في النماء.بين الله تعالى هنا أن وهج الشمس كما يجهز الأرض للإنبات، كذلك يتسبب في تكون السحب أيضًا.فما السحب يا ترى؟ إنها ليست إلا بخار مياه البحار والأنهار والجداول وغيرها التي ترتفع في الجو بحرارة الشمس، ثم تنزل إلى الأرض بعد أن تتحول ببرودة الجو ماء سائلاً مرة أخرى فإنك لو وضعت الماء على النار أخذ يتبخر كأنه دخان ولو تركته وقتًا طويلا تبخر كله كذلك تتبخر مياه البحار وغيرها عندما تتعرض لحرارة الشمس، فترتفع وتجتمع في الجو شيئًا فشيئًا، ثم إن الرياح تأتي بها وتنزلها على الأرض على شكل مطر.إذا، فإن السراج الوهاج نفسه يمهد الأرض من ناحية ومن ناحية أخرى هو نفسه يُنزل الماء عليها من أن الحر الذي يسبب ضيقا للإنسان هو نفسه له أسباب السماء؛ وهذا يعني البرد والراحة أيضًا.هي يهيئ أما موضوع القيامة فتشير هذه الآية إليها من حيث إن الله تعالى قد جعل لكل شيء نتيجة.فإن الشمس تتقد في السماء وتؤثر على الأرض، والنتيجة أنها تصبح جاهزة لإخراج نباتها وخضرتها ثم إن الشمس نفسها ترفع بحرارتها بخار الماء، والنتيجة أنها تتحول إلى سحب تنزل على الأرض مطرًا.ومن المحال أن تكون سلسلة السبب والمسبب هذه المستمرة في الكون من عند الله لغوا وعبئًا، بل لا بد من نتيجة عظيمة، ولكنا لا نراها في هذه الدنيا، فلا بد لنا من الاعتراف بوجود حياة أخرى تظهر فيها نتائج هذه الأمور العظيمة حتى يقول الإنسان إن الله تعالى لم يخلق هذا الكون العظيم عبثا.لها

Page 35

الجزء الثامن سورة النبأ أما القرآن الكريم والرسول ﷺ فتشير إليهما هذه الآية من حيث إن الله تعالى قد بين هنا أنكم تتضايقون مما يقوله لكم هذا الرسول والقرآن، وتقولون إن القرآن والرسول قد أحدثا في المجتمع شغبًا وفسادًا، ودفعا بالقوم إلى النزاع والحرب، وأديا إلى الفُرقة بين الأب وابنه والأم وابنتها والأخ وأخيه، والمرء وصاحبه؛ وكأنهم يقولون إن مجيئهما يُشعرنا بحرارة محرقة كما يشعر المرء بحرارة من الشمس، فيرد الله عليهم بأنكم تشعرون اليوم بحرارة من قبله بلا شك، ولكن هذه الحرارة نفسها ستتحول في النهاية إلى مطر رحمة.الحق أن الله تعالى ينمّي بهذه الحرارة مواهبكم ويزودكم بقوى جديدة، ولكنكم لا تشعرون بذلك، فتتأذون من التغير الحاصل فيكم.ألا ترون أن الطبيب حين يجري العملية الجراحية يشعر المريض بأذى المشرط ، ولكن المشرط نفسه يتسبب في شفائه وراحته، كذلك تشعرون من قبل محمد حراً وضيقا وأذى، ولكن هذه الحرارة والوهج والضوء نفسها ستؤدي إلى راحتكم وسكينتكم.وكما أن حرارة الشمس تصعد بالسحب ثم تمطرها على الأرض ماء، كذلك ستصعد من قلوبكم سحائب الإيمان والعرفان في يوم من الأيام وتتدفق من صدوركم عيون العلم والمعرفة التي تنتشر مياهها في العالم كله.هذا لقد ذكرتني كلمة مَاءً تَجَاجًا برؤيا رأيتُها قبل أيام حيث أُريتُ فيها القلب الإنساني على صورة تَنُّور، ورأيت أن ماء العرفان الإلهي أخذ يتدفق منه ويغمر الدنيا.وعندما رأيت الماء يتدفق قلت إن هذا الماء سيظل يتدفق ويغمر الأرض حتى لن يبقى شبر واحد منها لم يصله ماء العرفان الإلهي.وهذا هو المعنى الذي بينه الله تعالى في قوله وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَات مَاءً تَجَاجًا..أي أن حرارة هذه الشمس الروحانية ستمهد أرض قلوبكم، وحرارتها هي التي ستصعد بالبخار الذي سيتحول إلى سحب تمطر على أرض قلوبكم، وستغطي مياهه الدنيا كلها.

Page 36

الجزء الثامن ۳۱ سورة النبأ شرح لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَانًا (1) وَجَنَّتٍ أَلَافًا ) الكلمات : ۱۷ حَبَّا : الحَبُّ والحَبّة يقال في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات.(المفردات) وورد في اللسان: "الحبُّ : الزرعُ صغيرًا أو كبيرًا." نَبَاتًا : النبتُ والنبات: ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم ، لكن اختص في التعارف مما لا ساق له، بل قد اختص عند العامة بما يأكله الحيوان.(المفردات) جَنّات: جمع جَنّة وهي كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.(المفردات) ألفافًا جمعُ لفٌ، والله: الصِّنف من الناس، تقول: ضدَّه ألفاف من الناس.واللّفُ: الروضة الملتفّةُ النبات والبستان المجتمع الشجر.(الأقرب) التفسير: عند نزول الماء من السماء تبدأ ظاهرةُ النُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا...أي تخرج من الأرض أنواع الحبوب والخضار والنباتات والبساتين الملتفة الشجر.فالله تعالى يبين هنا أن الشمس إذا طلعت عرفتم نتيجة طلوعها هذه الظاهرة، أعني أن الشمس تمدّ الأرض بأشعتها وتمهدها، كما تسحب ماءها إلى فوق؛ وهذا يعني أن الشمس تعطي الأرض شيئًا، وتأخذ منها شيئًا، ثم تعيده إليها ثانية على شكل مطر، وهكذا تصبح الشمس مصدر رحمة للناس وبركة، فتُزرع الأرض، فتُنبت بساتين غنّاء وخضروات وحبوبًا وغيرها مما يحتاج إليه الناس.إنه لنظام هائل خلقه الله تعالى؛ حيث خلق الشمس ثم جعل الأرض صالحةً لتقبل أشعتها رغم ما بينهما من بعد يبلغ ملايين الأميال، وجعل حرارة الشمس قادرة على حمل الماء من الأرض.ثم أجرى الرياح التي تُنزل من السحاب مطرًا، فتنبت الأرض زرعا وحبوبًا وبساتين وفواكه، وفي كل منها منافع للناس، بعضها ذو نفع قصير وبعضها ذو نفع طويل.فالغلال مثلاً يبدأ الإنسان في استهلاكها بمجرد أن تنبت، ثم يزرعها ثانية ثم يستهلكها مرة أخرى.ولكن هناك أشياء أخرى لا يحتاج المرء إلى زرعها مراراً ومثالها النباتات المثمرة التي تقتات عليها المواشي كما يأكل الناس من ثمارها سنوات وسنوات.ثم هناك أشياء تنفع الناس مدة أطول من ذلك

Page 37

الجزء الثامن ۳۲ سورة النبأ كالبساتين التي تنفع الناس بثمارها قرنًا أو قرنين بل ثلاثة قرون أحيانًا.يذكر الله تعالى هنا عباده بهذه النعم ويدعوهم إلى التدبر فيها ليروا ما إذا كان تعالى قد خلقها لغوًا وعبئًا.الحق أن التدبر سيكشف عليهم أن من المحال أن يكون هذا الكون الهائل قد خُلق لغوًا وعبيًّا، بل لا بد أن الله تعالى قد خلقه لغاية ما، ولا بد أن ثمة هدفًا عظيمًا أراده الله تعالى بخلق هذا النظام الواسع الهائل، ولا يجوز القول إن الإنسان قد خُلق عبئًا وليس وراء خلقه هدف ولا غاية.أما إذا فسرنا هذه الآية بمعنى روحاني، فالمراد أن محمدا له والقرآن الكريم كلاهما سراج وهاج تستاءون اليوم من حرّه الشديد وضوئه المبهر ، ولكن هذا الحرّ والضوء نفسهما سيعملان عمل السحاب والضوء لتطهير قلوبكم مما فيها من خبث وفساد.ماذا تعمل الشمس يا ترى؟ إنها تبخر الماء العكر الفاسد إلى السماء ثم ترسله إلى الأرض ماءً مصفى ثانية، كما أن ضوءها يقتل أنواع السموم وتزود شتى الأشياء بطاقات جديدة.لا شك أن عندكم تعاليم إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ولكن ماء الوحي الموجود عندكم كله قد صار مكدرًا آسنا فاسدًا لا يصلح للشرب، وهذا السراج الوهاج الذي تستاءون من وهجه وحره سيحول مياه هذه "المستنقعات" بخارا يصعد إلى السماء، ثم ينزل هذا البخار سحابًا يمطر على أراضي قلوبكم، فتتدفق منها العيون التي ستروي العالم كما أن ضوء هذا السراج الوهّاج سيبدد ظلمات قلوبكم ويهبكم نور البصيرة وبتعبير آخر إن ماء الوحي الإلهي الذي ترفضونه الآن سيتدفق من قلوبكم تلقائيا ويصبح الدنيا، فتخرج به من أراضي قلوبكم حبوب وغلال وأعشاب وبساتين..أي ستجنون منه فوائد عاجلة وفوائد طويلة المدى، أو المعنى أنكم ستأتون بمعارف تنفع العارفين كمعارف التصوف وعلوم القرآن الكريم، أو تظهر على أيديكم علوم مادية تنفع عامة الناس مثل العلوم والجغرافيا والرياضيات والهندسة وما إلى ذلك.وَجَنَّات أَلْفَافًا..أي تنبت على أيديكم بساتين تنفع الناس زمنا طويلاً، ومثاله علم الكتابة الذي قام المسلمون بتطويره ونشره في العالم.ماء تجاجًا يروي

Page 38

الجزء الثامن ٣٣ سورة النبأ إِنَّ يَوْمَ الْاَصْلِ كَانَ مِيقَتًا (٤) يَوْمَ يُدَخُ فِي الصُّورِ ۱۸ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا : وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَبًا ) ۱۹ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) شرح الكلمات: يوم اليوم الدهر، يقول الشاعر: "يوماه يوم ندى ويوم طعان" ۲۱ أي لا يأتي على الممدوح إلا وقتان فإما أنه يكون منهمكا في جود وسخاء أو أو في قتل أعداء.11 هو كذلك تقول العرب : يوماه يوم نُعم ويومُ بؤس..فاليوم ههنا بمعنى الدهر أي دهرَه كذلك...وقالوا أنا اليوم أفعل كذا لا يريدون يومًا بعينه، ولكنهم يريدون ).الوقت الحاضر، حكاه سيبويه، ومنه قوله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.وقد يراد باليوم الوقتُ مطلقًا، ومنه الحديث تلك أيام الهَرْج" أي وقته" (لسان العرب) الفصل : فصَل الشيء فصلاً: قطعه وأبائه.والفصل الحاجز بين الشيئين؛ الحد بين الأرضين؛ الحقُّ من القول؛ القضاء بين الحق والباطل.(الأقرب) ميقاتا: الميقات الوقتُ وقيل الوقتُ المضروب للشيء؛ الموعد الذي جعل له وقت، وجمعه المواقيت.(الأقرب) يُنفَحْ: النفخُ: نفخُ الريح في الشيء.(المفردات) الصور: صارَ الرجلُ يصُور صورًا: صَوَّت ؛ والصور بالضم: القرنُ الذي يُنفَخ فيه.(الأقرب).والبعض اعتبر الصور جمع الصورة، وهي الشكل؛ كلُّ ما يُصور مشبها بخلق الله : من ذوات الأرواح وغيرها؛ النوع؛ الصفة.(الأقرب)

Page 39

الجزء الثامن ٣٤ سورة النبأ الجماعة أفواجًا: جمع فوجِ وهو من الناس أو الجماعة المارّة السريعة.(الأقرب) سُيّرت: سيره : جعله سائرا؛ وسيره من بلده أخرجه وأجلاه.(الأقرب) الجبال: جمع الجبل وهو : كلُّ وَتَدِ للأرض عظم وطال؛ خلاف الساحل؛ سيد القوم وعالمهم (الأقرب) سرابًا السراب ما تراه نصف النهار من اشتداد الحر كالماء يلصق بالأرض.وفي الكليات: السراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة.(الأقرب) التفسير: اعلم أن قوله تعالى يومَ يُنفخ في الصور بدل من يوم الفصل.وفتح السماء وكونها أبوابًا ،يعني عادة نزول العذاب إلا إذا كانت هناك قرينة هذا المعنى.فإذا رأى أحد في الرؤيا أن السماء قد انشقت وقد صارت فيها ثقوب، ولم يكن هناك قرينة أخرى كان المراد اقتراب العذاب.أما إذا رأى أحد أن السماء قد انشقت وأن الملائكة يسبحون الله تعالى فرحين فهو إشارة إلى صارفة عن بعثة ني.أما قوله تعالى ﴿وَسُيِّرَت الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا فاعلم أن السراب هو ما يتراءى لك كالماء على سطح الرمال عند الظهيرة نتيجة انعكاس أشعة الشمس.فبما أن الجبال تخرج من الأرض، والرمال أيضًا تكون من الأرض، لذا يقول الله تعالى هنا أن دمارًا شديدًا سيحل بالأرض يومًا حتى تخرّ الجبال وتدمر الأرض تماما، ذلك لأن الجبال أوتاد الأرض، فإذا خرّت أوتادها شملها الدمار.يبدو أن حرارة باطن الأرض ستشتد مرة أخرى عند القيامة حتى تهدّ الجبال الموجودة على الأرض فتدمّرها بدلاً من أن تكوّن عليها جبالاً جديدة.يعني لقد بينت من قبل أن يوم الفصل يعني يوم القيامة كما غلبة القرآن أو غلبة والحق أن ظهور كمالات النبوة أو الوحي شيء واحد وإن كان ثمة اسمان.النبي على كل حال إن يوم الفصل يعني يوم الانفصال والمراد من قوله تعالى إن يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَانًا أن يوم الفصل وقت محدد.وقد سبق أن بينت أن يوم الفصل يعني غلبة الإسلام أيضًا، إلا أن الله تعالى قد أشار بهذه الكلمات إلى أمر )

Page 40

سورة النبأ الجزء الثامن ٣٥ آخر أيضا، وهو أنه تعالى يقول هنا لأهل مكة كما أن محمدًا سيضطر للهجرة من بينكم كذلك فتضطرون للانفصال عنه حين يجعله الله تعالى غالبًا عليكم، فيكون ذلك اليوم يوم الفصل لكم.مي 280- وقد أشار الله تعالى إلى هذا الأمر أيضا في سورة التوبة التي في الحقيقة جزء من سورة الأنفال التي تستهل بقول الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجزي الله وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) وَأَذَانٌ مِنَ الله وَرَسُوله إِلَى النَّاسِ يَوْمَ * الْحَقِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خیر لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرَ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) إلا الَّذِينَ عَاهَدتُمْ منَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَحَدَتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدِ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الآيات: ١- 。).يسمح لقد أعلن الله تعالى هنا أنه للكافرين بالإقامة في مكة أربعة أشهر، وبعد انقضاء هذه المدة لا بد لهم من مغادرتها.وهذا هو يوم الفصل الذي قد أتى على الكافرين والذي قد تم الإعلان عنه بعد فتح مكة.وهذا يعني أن فتح مكة ليس إلا يوم الفصل.وهذا ما يذكر الله تعالى به الكافرين بقوله: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ ميقَانًا..أي يوشك أن يأتي عليكم ذلك اليوم الموعود الذي تضطرون فيه لمغادرة بيوتكم وأوطانكم..أي سيأتي يوم لن يكون فيه المسلمون غالبين فحسب، بل سينالون غلبة عظيمة بحيث يأمرون المشركين علنًا بمغادرة مكة إذ لم يعد هناك ما يربط الفريقين.والحق أن مثل هذه الغلبة لا تتيسر في ظروف عادية وإنما تُنال في ظروف غير عادية.لقد استمرت غلبة المسلمين في إسبانيا مدة طويلة، ومع ذلك لم يستطيعوا إخراج المسيحيين منها.وقد نالوا الغلبة في بلاد أخرى أيضًا ولكنهم لم يتمكنوا من إجلاء أهل الأديان الأخرى منها.وقد حكموا الهند زمنا طويلاً ومع

Page 41

٣٦ سورة النبأ الجزء الثامن ذلك لم يقدروا على طرد الهندوس منها والهندوس قوة كبيرة في الهند اليوم ولكنهم أيضًا لا يستطيعون طرد المسلمين منها، بل ليس بوسع الإنجليز الذين يحكمون الهند اليوم أيضًا أن يأمروا الهنود بمغادرتها.ولكن الله تعالى يقول هنا: ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ ميقانًا..أي يوشك أن ينال المسلمون انتصارًا عظيما يكون يوم الفصل بين الحق والباطل، بل يكون يوم الفصل بين المشركين والمؤمنين.وهذا هو المعنى الذي تشير إليه سورة التوبة أيضًا حيث قال الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ الله وَرَسُوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ..أي قُولوا للمشركين الذين عاهدتموهم بأنه سيأتي يوم ينال فيه المسلمون غلبة، وتصبحون مغلوبين ،صاغرين وعندها لن يسمحوا لكم بالإقامة في مكة أيضا، بل يقولون لكم اخرجوا من هنا، فتفرون منها أذلةً مهانين.فقولوا لهم أيها المسلمون قد حان الوقت لتحقق هذه النبوءة.وفي هذه الحالة لا يُعتبر قوله تعالى بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِشارةً إلى صلح الحديبية الذي تم مع المشركين، وإنما يكون قوله تعالى عاهدتم إشارةً إلى العهد المذكور في سورة النبأ، حيث قيل أيها الكافرون، سيأتي يوم تُخرجون فيه من مكة.وقد سميت هذه النبوءة عهدًا من حيث إن النبي حين يدلي بنبوءة تتعلق بالكافرين، فليس المؤمنون وحدهم الذين يريدون أن يروا تحققها بأم أعينهم، بل إن الأعداء أيضًا يثيرون الاعتراض إذا لم تتحقق لسبب ما، ومن هنا تُعَدُّ مثل هذه النبوءة نوعًا من العهد.إذًا، فقوله تعالى عاهدتم في سورة البراءة إشارة إلى النبوءة المذكورة في سورة النبأ حيث بين الله تعالى أنها قد ثبتت براءة الله ورسوله..بمعنى ورسوله..بمعنى أنه لم يبق الآن مجال للمشركين أن يقولوا إن تلك النبوءة لم تتحقق إذ قد تحقق ما وعدناهم به بأن غلبة المسلمين موشكة وقد اقترب اليوم الذي يصبح فيه المسلمون غالبين عليكم فلن يسمح لكم بالإقامة في مكة بعدها.ثم قال الله تعالى: (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه وَأَنَّ اللَّهَ مُحْزِي الْكَافِرِينَ..أي لا شك أننا وفينا بوعدنا بغلبة الإسلام وطردكم هذه البلدة، ولكن وجودكم هنا ضروري لبعض الوقت حتى تروا غلبة الإسلام من

Page 42

الجزء الثامن من ۳۷ سورة النبأ ناحية، وحتى يتم طردكم من هنا تحقيقًا للنبوءة، لذا أعطيناكم مهلة أربعة أشهر لتسيحوا في الجزيرة العربية خلال هذه المدة وتروا بأم أعينكم أن كلمات الله قد تحققت، وأن وعد غلبة الإسلام قد أُنجز وأن الله تعالى مخزي الكافرين.ثم يقول الله تعالى ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ يءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.لقد اختار الله تعالى يوم الحج الأكبر لهذا الإعلان لأنه لو تم في مناسبة أخرى لم يصل إلى العرب كلهم في أربعة أشهر أيضًا.كان العرب يأتون للحج من كل أنحاء الجزيرة لذا اختار الله تعالى مناسبة الحج الأكبر لهذا الإعلان ليصل إلى العرب جميعًا ، ولتتحقق بذلك مهلة الأربعة أشهر أيضًا، وليرى المشركون بأم أعينهم غلبة الإسلام في كل طرف وصوب في طريقهم عند العودة بعد هذا الإعلان والحق أن اختيار هذا التوقيت للإعلان لدليل على أن الرحمة غالبة في تعاليم الإسلام حيث تم الإعلان في مناسبة جمعت العرب من كل طرف وصوب.وكان مضمون الإعلان أن الله تعالى ورسوله بريء من أن المشركون، إذ ليس بوسعهم بعد رؤية هذه الغلبة العظيمة بأم أعينهم، أن يتهموا الله تعالى بعدم تحقق نبوءة الغلبة المذكورة في سورة النبأ؟ ثم يقول الله تعالى: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ..أي إذا لم تتوبوا أيها المشركون الآن فاعلموا أنكم لم تقدروا على أن تُعجزوا الله في الماضي فأنى لكم أن تعجزوه في المستقبل.يتهمه بعدها يقول الله تعالى للمؤمنين إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ..وهذا القول الرباني دليل على صحة ما بيّنته آنها حيث قال الله تعالى من قبل البَرَاءَةٌ منَ الله وَرَسُوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُمْ منَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا في الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجزِي اللَّهَ وَأَنَّ اللَّهَ مُحْزِي الْكَافِرِينَ..فالله تعالى يأمر أولاً المشركين، رغم المعاهدة، بالخروج من المؤمنين بعد ذلك بأن يوفوا بكل أمانة بعهدهم مع المشركين الذين تعاهدوا معهم مكة، بينما يوصي

Page 43

الجزء الثامن هي ۳۸ سورة النبأ ولم ينقضوا عهدهم، مما يعني أن هذه المعاهدة هي هي غير المعاهدة المذكورة من قبل.إن المعاهدة المذكورة في قوله تعالى إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا...معاهدة دنيوية، أما المعاهدة المذكورة في الآية السابقة فهي معاهدة روحانية متضمنة في وحي الله تعالى ولكنها غير مصرحة، وكأن الله تعالى قال إنه إذا لم يتحقق ذلك العهد فمن حق المشركين أن يعترضوا علينا ويقولوا لم لم يتحقق ذلك العهد.علما أن العهد نوعان: أولهما ما يكون من طرف واحد كأن يعاهد المرء نفسه أنه سيفعل كذا، وإذا لم يستطع أن يفعل ما فرض على نفسه فلا يحق لغيره أن يقول له: لم لم تفعل ما قلت وثانيهما ما يكون بين طرفين أو يكون ذا صلة بفريقين، وإذا لم يتحقق فمن حق الطرف الآخر أن يعترض على عدم تحققه ويقول للآخر لقد وعدت بكذا ولكنك لم تفعله.والنبوءات تكون من قبيل النوع الثاني من المعاهدات، فإذا لم يتحقق نبأ من النبوءات فمن حق الكافرين أن يقولوا للمؤمنين إذا كان من عند الله تعالى فلم لم يتحقق؟ إذًا، فورود جملة الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في الآيتين، وكون الله تعالى قد أمر المؤمنين في آية أن يؤتوا المشركين المعاهدين مهلة أربعة أشهر، بينما أمرهم في آية أخرى أن يتموا عهدهم مع المشركين الآخرين، يدل على أن المعاهدة الأولى روحانية وأن المعاهدة الثانية مادية ويأمر الله تعالى المؤمنين بصدد المعاهدة المادية بعدم نقضها إلا أن ينقضها الكافرون، أما إذا لم ينكثوا عهدهم فعليكم أن تبذلوا كل ما في وسعكم للوفاء به إلى مدته.ويتضح من قول الله تعالى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ أن هذه المدة غير محدودة، قد تكون سنتين أو أربعًا أو ستّا، فعلى المسلمين أن يفوا بالمعاهدة أيا كانت مدتها.باختصار، إن قوله تعالى إنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَانًا يشير إلى غلبة القرآن وغلبة النبي حيث أخبر الله تعالى الكافرين أن المؤمنين سيغلبونهم حتى إنهم يخرجونهم مكة.من أما قوله تعالى يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا فيخبر عن موعد تلك الغلبة.والحق أن نبوءة مجيء الناس أفواجًا قد تحقق عند فتح مكة، بل الواقع أن صلح

Page 44

الجزء الثامن ۳۹ سورة النبأ الحديبية هو الذي قد أدى إلى انقلاب عظيم في الجزيرة العربية، ولم يكن فتح مكة إلا نتيجة لذلك الانقلاب، إذ كان العرب قد بدأوا يدركون بعد صلح الحديبية أنه لم يبق أمامهم إلا خياران؛ إما أن ينضموا إلى محمد الله أو إلى أهل مكة.وبالفعل تحالف بعضهم مع المكيين وبعضهم مع المسلمين.إذًا، ففي حالة اعتبار نفخ الصور إشارة إلى صلح الحديبية فإن هذه الآيات تعني سيقع حادث هام يؤدي إلى الاضطراب في القبائل العربية، فيفكرون في الدخول في الإسلام علنًا أو الانضمام إلى المكيين.وبالفعل أخذ العرب يدركون عند صلح الحديبية أن الأمر قد استفحل الآن فلا مناص لهم من أن ينضموا إلى محمد ﷺ أو إلى المكيين.فتحالفت بعض القبائل مع النبي لا الهلال وبعضهم مع قريش.وهذا يعني أساس "يوم الفصل" قد وُضع لدى صلح الحديبية.وفتح السماء يعني أنه أن نزول العذاب، وسيعني قوله تعالى ﴿وَفُتحت السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا في هذه الحالة أنه سينزل على الكافرين صنوف العذاب من السماء وأنواع الرحمة على المؤمنين..وكأن السماء ستصبح أبوابًا..أبواب ينزل منها الخير وأبواب ينزل منها العذاب.لا شك أن الخير كان ينزل للمؤمنين من السماء قبل صلح الحديبية، ولكنه كان عندها يشبه الشيء الذي ينزل من الثقوب، أما بعد صلح الحديبية فبدأ الخير ينزل عليهم بكثرة كأنه ينزل من أبواب كبيرة.كما أخذ العذاب يحل بالكافرين بكثرة.فالحق أنه بعد ذلك الحادث أخذت الرحمة تنزل من السماء بكثرة كما أخذ العذاب أيضا ينزل منها بكثرة.ثم يقول الله تعالى وَسُيِّرَت الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا.ومن معاني الجبال أسياد القوم وزعماؤهم، وعليه فالمراد من تسيير الجبال أن صناديد العرب وزعماءهم الذين يفخرون بهم سيُخرجون من بيوتهم، ويصبحون كالسراب، أي يتضح لقومهم أنه يوجد بين زعمائهم أحد يصلح لقيادتهم بطريق سليم، بل كلهم فاشلون إزاء لا محمد أن السراب علما أن الله تعالى قد استعمل هنا لفظ اسرابًا لحكمة عظيمة وهي يتراءى للناظر عند منتصف النهار ، وقد أشار الله تعالى بذلك إلى أن شمس محمد صل الله

Page 45

٤٠ الجزء الثامن سورة النبأ عندما تصعد إلى نصف النهار فستبهرهم ،بلمعانها وسيدركون عندها مدى فشل زعمائهم وغبائهم إزاء محمد.وبالفعل أخذت علامات انتصار الإسلام تلوح في الأفق إثر صلح الحديبية فوراً، وأكمل فتح مكة عملية الانتصار.ومن أجل ذلك قد بين الله تعالى هنا أنه سينكشف على الكافرين يومئذ أن زعماءهم كلهم سراب إزاء محمد لله وأنهم يدفعون قومهم إلى الخزي والذلة والدمار، وليسوا بقادرين على النهوض بهم.وهذا ما حدث فعلاً.شرح جهنم إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا : لِلطَّعِينَ مَتَابًا ) الكلمات : ۲۳ يقال : بئر جهنم: أي بعيدة القعر، وبه سُمّيت جهنم لبعد قعرها.(اللسان) مرْصادًا : المرصاد : المكانُ الذي يُرصد فيه العدو؛ الطريق.(الأقرب) ما با آب يؤوبُ ما با رجع والمآب: المرجع والمنقلب.(الأقرب) وقال صاحب "المفردات": "الأَوبُ ضربٌ من الرجوع، وذلك أن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره." التفسير : قال قتادة في تفسير هذه الآية: "يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا "احتبس ابن كثير).إذا، فإن قتادة يرى أن هذه الآية إشارة إلى جسر الصراط.11 أما إذا أُريد من من جهنم تلك التي تكون في الآخرة فلا بد من الاعتراف بأنها تبدأ في هذه الدنيا نفسها، وإلى الأمر نفسه يشير الحديث النبوي الشريف: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى "الدم البخاري: كتاب الصوم، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه)..أي أن الشيطان يظل نشيطاً في إغواء الناس في الدنيا بحيث لو تغافل المرء قليلاً صرعه الشيطان.غير أن الله تعالى يعلن هنا أيضًا: للطاغين مابا..أي جهنم مقام العصاة المتمردين فقط.وقد أشار الله تعالى إلى المعنى نفسه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى أن

Page 46

الجزء الثامن ٤١ سورة النبأ الَّذِينَ يَتَوَلّونَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل: ١٠٠-١٠١)..أي ليس للشيطان غلبة على الذين يؤمنون بربهم ويتوكلون عليه إنما يتغلب الشيطان على الذين يصادقونه ويحبونه ويشركونه بالله تعالى.إذًا، فقوله تعالى ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مرْصَادًا قد شرحه الرسول الله بقوله إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، أما قوله تعالى للطاغين مابًا فبيّن الله تعالى فيه أن جهنم وإن كانت تهاجم كل إنسان مؤمنًا كان أم كافرًا، ويكون هجومها على شخص بطريق وعلى آخر بطريق آخر، إلا أنها ليست مصيرًا ومُقامًا إلا للطاغين العصاة.وتدعم الآية الأخرى أيضًا هذا المعنى حيث بين الله تعالى أن الشيطان إنما يتغلب على الكافرين لا على المؤمنين.فسواء اعتبرنا جهنم طريقًا أو مرصادًا فإنها توصل الإنسان إلى الله تعالى في النهاية.فما لم يختر المرء لنفسه جهنم..أي طريق المحن والأذى في سبيل الله تعالى..لم يصل إليه الله، أما إذا كان قد اقترف بعض الذنوب فلا بد له من السير في طريق الأذى بعض الوقت كعقاب، سواء في هذه الدنيا أو في الآخرة، وبعدها سيحظى بلقاء الله تعالى.والله أعلم بالصواب.علما أن كلمة للطاغين حال للفظ مَابًا ، والتقدير: إن جهنم كانت مرصادًا ومابًا حال كونها للطاغين أو أن قوله تعالى للطاغين ماباً يُعتبر صفةً للفظ مرصادا.شرح الكلمات : لنبثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ) ٢٤ أحقابًا الأحقاب جمعُ حُقب، ومن معانيه: ثمانون سنة، ويقال أكثر : الدهرُ ؛ السَّنةُ، وقيل: السنون.(الأقرب) ذلك؛ من :التفسير قوله تعالى لابثين حال لـ الطاغين ، والمعنى أن الطاغين يكونون في جهنم لابثين فيها سنوات أو دهورًا أو قرونًا.

Page 47

الجزء الثامن سنتحدث لاحقا عن ٤٢ سورة النبأ هذه الآية فيما يتعلق بالآخرة، إلا أنه فيما يتعلق بهذه الدنيا فإننا نجد أن غلبة الإسلام قد استمرت قرونًا بالفعل تزدهر بعض الشعوب في الدنيا بسرعة وتباد بسرعة أيضا، ولكن غلبة المسلمين استمرت قرونًا حيث ظلوا غالبين قرابة سبعة قرون بشكل أو بآخر، وإن كان الضعف قد أخذ يتسرب إليهم في القرن الرابع، بل امتدت الفترة التي لم يكن يجرؤ فيها أحد على الوقوف في وجه المسلمين ألف سنة، إذ قد بدأت الشعوب الأخرى تتجاسر على الوقوف في منذ ثلاثة قرون فقط ؛ وذلك حين رأت أنها قادرة على التصدي لهم.لقد أخذ المسلمون في الانحطاط منذ القرن السابع عشر الميلادي فوقف العدو في أما قبل ذلك فلم يجرؤ أحد على الوقوف في وجههم قرابة ألف سنة، وكانت هذه الفترة بمنزلة جهنم الدنيوية لأعداء الإسلام التي ظلوا فيها يحترقون وجههم وجههم، حسدًا وكمدًا.لقد ذكرتُ عند شرح الكلمات المعنى اللغوي للأحقاب التي مفردها الحقب، أما الآن فأتناول تفسيرها.لقد نقل ابن كثير في تفسيره ما رواه ابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد قال علي ابن أبي طالب الهلال الهَجَري: ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل؟ قال: نجده ثمانين سنة، كل سنة اثنا عشر شهرًا، كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة.ابن كثير) وتصبح هذه المدة ثمانية وعشرين مليونا وثمانمئة ألف سنة.وعن عبد الله بن عمرو : الحقب أربعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون، رواه ابن أبي حاتم ابن كثير) وتصبح هذه المدة أربعة عشر مليونًا وأربعمئة ألف سنة.وقد روى ابن أبي حاتم مثله عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعدد من التابعين، إلا أنهم قالوا الحقب سبعون سنة.ابن كثير) وهذه المدة هي ما يقارب ستة وعشرين مليون سنة.

Page 48

الجزء الثامن ٤٣ سورة النبأ وهكذا فبضرب هذه الأعداد في العدد المقدّر من كلمة "أحقاب" نعلم المدة الإجمالية لمكوث أهل النار فيها، إذ إن الأرقام السابقة هي قيمة الحقب الواحد.وعلى كل حال ومهما كان العدد المفهوم من كلمة "أحقاب"، وسواء أكانت هذه المدة الإجمالية عشرين مليونًا أو أربعين مليونًا أو حتى مئة مليون سنة إلا أنها فترة محدودة في كل حال وبالتالي ثبت من هذه الروايات أن عذاب جهنم محدود وأنه سينتهي في يوم من الأيام.وقد شعر المفسرون أيضًا بهذا الأمر، ولذلك تجد مقاتل بن حيان يقول: "إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَاباً " (ابن كثير)، وذلك مع ان هذه الآية هي الآية ٣٠ من سورة النبأ نفسها، وقد أجمع المفسرون على نزولها دفعة واحدة لا على فترات إذا فمن غير المعقول أن تنزل هذه الآيات من سورة واحدة في وقت واحد ودفعة واحدة، ثم تنسخ إحداهما الأخرى.وخالد بن معدان أيضًا اعتبرها منسوخة."1 ويقول ابن جرير بعد نقل هذه الروايات ويُحتمل أن يكون قوله لا بثين أَحْقَابًا متعلقا بقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا، ثم يُحدث الله لهم بعد ذلك عذابًا من شكل آخر ونوع آخر ابن كثير)..يعني أن أهل جهنم يلبثون فيها قرونًا لا يذوقون فيها بردًا ولا شرابًا ، ثم بعد ذلك أيضًا يمكثون فيها، إلا أن عذابهم سيأخذ شكلاً آخر.ثم يقول ابن جرير عن جهنم: والصحيح أنها لا انقضاء لها." ثم نقل ابن جرير رواية عن سالم قال فيها: "سمعتُ الحسن البصري) يسأل عن قوله تعالى لابثين فيهَا أَحْقابًا قال: أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار.ابن كثير) لقد اتضح من على عدم دوام عذاب النار، فظلوا يسعون لتأويلها بحسب عقيدتهم، تارة باعتبار قول الله تعالى لابثين فيهَا أَحْقَابًا متعلقا بقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ، وتارةً أخرى باعتبار أن الأحقاب ليس لها عدّة.هذه الروايات أنه قد خطر ببال هؤلاء جميعًا أن ظاهر هذه الآية يدل

Page 49

الجزء الثامن ٤٤ سورة النبأ أنها وفيما يتعلق بلفظ أحقابًا فليكن معلومًا أن الأحقاب من جموع القلة؛ بمعنى من الجموع التي يراد به ما بين الثلاثة إلى العشرة.لا شك أن كل جمع قلة لا يفيد القلة بالضرورة، بيد أنه لا بد من الاهتمام لما وضع له من معنى القلة، ما لم تصرفه هذا المعنى، أما بدون هذه القرينة فلا يجوز صرفه عما وُضع له، وإلا قرينة عن أن سيُفتح باب للتأويل يُبعدنا عن الحقيقة.وهذه القرينة تكون معنوية حينًا؛ بمعنى الآيات القرآنية أو الشواهد الأخرى تدل عليها، وتكون ظاهرةً حينًا؛ كأن تدخل على هذه الكلمة "ال" الاستغراقية، أو تكون مضافة إلى كلمة تدل على الكثرة.أما سنة، وهو صرف لفظ عن معناه الصحيح الموضوع له لغةً بدون قرينة فهذا غير جائز.و " الأحقاب" يمكن أن تعني لغة ما بين ثلاث إلى تسع سنوات.ولو اعتبرنا عدد التسعة حدًّا أقصى لمعنى الأحقاب فسنضربها في ثمانية وعشرين مليونا وثمانمئة ألف الحد الأعلى للحقب وفقًا للروايات والذي تم تقديره بثمانين سنة كل يوم فيها يعادل ألف سنة، وذلك إذا أخذنا المعنى الذي بينه المفسرون للأحقاب، أعلى قيمة يمكن تقديرها للأحقاب على الإطلاق، وفقا لتلك الروايات.ولكن عندنا حديث نبوي آخر يدل على أن الرواية التي تذكر أن كل سنة في على الأغلب – مما سُمع كألف سنة ليست قول الرسول ﷺ بل هي وهي - الآخرة هي من اليهود وغيرهم.فقد روى البزاز عن أبي مسلم أبي العلاء أنه سأل سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد؟ قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقاباً".قال: والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلاثمئة وستون يوما مما تعدون" (ابن كثير، ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي : كتاب صفة أهل النار باب من دخل النار متى يخرج، رقم الحديث ١٨٦٣٢) لقد ثبت من هذا الحديث أن النبي كان يعتقد بخروج أهل النار منها بعد مكوثهم فيها أحقابًا، ولكن الذين سبقت الإشارة إلى عقيدتهم يؤمنون بأن مكوثهم في النار أحقابًا يعني أنه لن يخرج منها أحد أبدًا.إذًا، فهذه الرواية تفند أفكارهم وتؤكد أن الرسول ﷺ كان يؤمن بخروج أهل النار منها بعد الأحقاب.أما ما ورد بعد ذلك في هذه الرواية قال: والحقب بضع وثمانون سنة، كل سنة ثلاثمئة وستون

Page 50

الجزء الثامن ٤٥ سورة النبأ يوما مما تعدون"، فلو اعتبرناه قول الرسول فهو أيضا يؤكد خطأ الذين قالوا إن كل يوم من الحقب كألف سنة، وأنهم قد نقلوا هذا المعنى بعدما سمعوه من اليهود وغيرهم.أما لو كانت هذه الجملة الله عنهما من الله قول عبد بن عمر - - رضي فأيضًا ثبت بقوله "يوما مما تعدّون" أنه قد أراد بذلك تفنيد موقف الذين قالوا إن كل يوم من الأحقاب كألف سنة.إذًا، فقد ثبت خطأ المعنى الذي ذهب إليه هؤلاء القوم، سواء أكانت هذه الجملة من قول الرسول ﷺ أو من قول عبد فإنه من الصحابة الأجلاء.الله بن عمر؛ والقرينة الثالثة التى تبطل موقف هؤلاء القوم هى ما رواه سالم بن أبي الجعد عن عليه حيث ورد أن عليا الله قال لهلال الهجري كيف تجدون الحقب عندكم؟ مما يدل على أنه لم يرو عن النبي الهلال له معنى خاصا للأحقاب ، ولو كان كذلك لأخبر لم عليه هلالاً ذلك المعنى، بدل أن يسأل هلالاً عنه.عن إذًا، فكل هذه الروايات والاستدلالات لا تجيز خروج أهل النار منها فحسب، بل تخبر عن خروجهم منها؛ بيد أن هذه الآية تؤكد أيضًا أنهم سيمكثون فيها مدة طويلة، فحتى لو اعتبرنا الأحقاب عشرة من الحقب وكل حقب ثمانون سنة، لصارت هذه المدة ثمانية قرون.وهذه المدة ليست بقصيرة أبدًا لأن ساعة واحدة من العذاب تبدو طويلة جدا.وقد بينت من قبل أن من معاني الحقب القرن وأيضا الدهر أي الزمن الطويل؛ ولو أخذنا بمعنى القرن لأصبحت هذه المدة عشرة قرون.أما إذا فسرنا الحقب بمعنى الدهر أي الزمن الطويل أصبح العذاب طويلاً جدًّا لقوله تعالى في القرآن الكريم وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (الحج: ٤٨)، الأحقاب عندها عشرة آلاف سنة.ومهما كانت هذه المدة فلا يثبت منها أن عذاب جهنم دائم لا ينقطع.علما أن الله تعالى يقول في مكان آخر من القرآن الكريم : تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمِ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة (المعارج: (٥)، فحتى لو اعتبرنا الحقب خمسين ألف سنة فإن عذاب النار سيظل محدودًا، ولا يثبت أنه غير منقطع.إذ تصبح

Page 51

سورة النبأ الجزء الثامن ٤٦ هنا وفي حالة اعتبار جهنم بمعنى العذاب الدنيوي الذي يحل بأعداء النبي فإن هذه الآية تصبح نبوءة بأن أعداء الإسلام سيظلون مغلوبين لفترة تتراوح ما بين مئتين وأربعين سنة أو ثلاثمئة سنة إلى ألف سنة.ذلك أن كلمة الأحقاب التي جمع هي من قلة تدل على الثلاثة إلى العشرة، فلو قلنا إن الأحقاب هنا تعني ثلاثة الحقب وأن الحقب هو ثمانون عامًا، وضربنا الثلاثة في الثمانين صار هذا الزمن مئتين وأربعين عاما، أما إذا ضربنا العشرة في الثمانين صارت هذه المدة ثمانمئة عام، أما إذا اعتبرنا الحقب مئة عام وضربنا المئة في الثلاثة صار هذا الزمن ثلاثمئة، وإذا ضربنا المئة في العشرة صار ألف عام.متحدین ولو قيل إن القول بالمدتين المختلفتين عن غلبة الإسلام يدل على الإبهام والريبة مع أنه لا ريب في كلام الله تعالى، فالجواب أنه لا بأس من وجود بعض الإبهام والاحتمال في وحي الله تعالى إلى حد يحقق غرضا جديدًا، بل يجب أن يوجد فيه، ومثل هذا الإبهام ليس بقبيح بل هو حسن مفيد.وثمة غرضان في الإخبار بأن غلبة الإسلام ستمتد إلى ثلاثمئة عام أو ألف عام، أولهما أن غلبة الإسلام إلى المئتين وأربعين سنة أو إلى القرون الثلاثة كانت مكتملة وعظيمة، حيث كان المسلمون كما كان العدو ضعيفًا، فظل العدو يحترق حسدًا في هذه الفترة إذ لم يكن المسلمون ضعفاء كما لم يكن عند العدو الخارجي قوة حتى يطمع في الغلبة عليهم.لا شك أن الخلاف قد حصل بين المسلمين بعد انقضاء قرن من الزمان وانفصلت أسبانيا عن بغداد، بيد أن هذا الخلاف لم يتفاقم بحيث يؤثر سلبيا على ازدهار الإسلام إلا بعد سنة ٢٧٠هـ.أما الفترة الممتدة لمئتين وأربعين سنة أو لثلاثة قرون إلى ثمانية قرون، أو ألف سنة، فأخذت فيها المسيحية تكتسب القوة من ناحية، ومن ناحية أخرى أخذ الضعف يدبّ في المسلمين بوضوح.ومع ذلك لم تكن صحوة المسيحيين وضعف المسلمين قد بلغت من الشدة بحيث تضر بغلبة المسلمين؛ إذ كانت المناطق المتحضرة - أعني آسيا وشمال إفريقيا لا تزال تحت سيطرة المسلمين كلية.إذًا، فإن نبوءة لا بثين فيهَا أَحْقَابًا قد تحققت حرفيا.قد استخدم الله تعالى هنا لفظ أحقابًا الدال على عدد مبهم للإشارة إلى نوعية رقي المسلمين -

Page 52

الجزء الثامن ٤٧ سورة النبأ في الفترتين، فالعدد الأقل يشير إلى فترة غلبتهم الكاملة، بينما يدل العدد الأكبر على فترة الغلبة التي ظهرت فيها آثار الضعف في المسلمين، وإن ظلوا فيها غالبين.أما الغرض الآخر لورود هذا الإبهام فهو أن ثمة أمرا آخر يميّز غلبة المسلمين في القرون الثلاثة الأولى عن غلبتهم في القرون السبعة الأخرى، ى، وهو أن المسلمين ظلوا عاملين بأحكام الإسلام عمومًا في القرون الثلاثة الأولى، وظلوا يعاملون الكافرين بالحسنى، أما بعدها فأخذوا يتصرفون كالملوك الآخرين ويعاملون الكافرين بشيء من القسوة.لا شك أن معاملتهم القاسية هذه كانت أفضل مما يعامل به أهل الأديان الأخرى غيرهم، ولكنها لم تكن بحسب تعاليم الإسلام.وهذا أحد الأسباب وراء استخدام القرآن هنا كلمة مبهمة دلت على سلوكين مختلفين من قبل المسلمين في الفترتين فترة القرون الثلاثة الأولى، وفترة القرون السبعة التالية.وهذا المعنى يكشف لنا أيضًا المراد من قول الله تعالى فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا حيث أخبر الله تعالى أن عذاب الكافرين سيشتدّ بمرور الأيام.وهذا ما حصل بالضبط؛ إذ كان المسلمون يعاملونهم برفق في القرون الأولى بحسب تعاليم الإسلام، أما بعد ذلك فأخذ تأثير التعاليم الإسلامية يذوي في قلوب المسلمين، فمالوا إلى القسوة معاملة الأعداء، وازداد عذابهم في الحكومات الإسلامية المتعاقبة.باختصار، إن هذه الآية تعني - نظرا إلى غلبة الإسلام - أن هذه الغلبة ستستمر من ثلاثة قرون إلى ألف سنة، وهذا ما حصل في الواقع لا شك أنه قد تخلل هذه الفترة هجمات التتر التي أضرت بالمسلمين، ولكنها سرعان ما حمدت؛ حيث دخل هؤلاء في الإسلام، وظل الإسلام غالبا في كل حال.وعليه فإن هذه الآية لا تنبئ عن ازدهار الإسلام وهلاك الكفر فحسب، بل تخبر أيضا أن غلبة الإسلام ستمتد إلى ألف سنة، وبعد ذاك سيرفع الكفر رأسه ويبدأ انحطاط المسلمين.وحيث إن الآيات تفسر بمعان عديدة بالنظر إلى قضايا مختلفة، فهذا هو المراد من قوله تعالى لابتين فيهَا أَحْقَابًا بالنظر إلى غلبة الإسلام والرسول الله، أما بالنظر إلى عذاب جهنم، فنقول إن الحقب تعني الزمان فليس المراد من لبثهم فيها أحقابًا إلا أنهم يمكثون فيها زمنا طويلاً جدا.

Page 53

الجزء الثامن ΕΛ سورة النبأ كما يتضح من القرآن الكريم أن عذاب جهنم ليس أبديا غير منقطع، وعليه فلا يمكن صرف لفظ أحقابًا عن معناه الأصلي.وفيما يلي الآيات القرآنية بهذا الشأن: أوّلاً: قال الله تعالى: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (القارعة : ١٠)..أي أن جهنم هي بمثابة الأمّ لأهلها، فكما أن الجنين يكتمل نموه في رحم أمه، كذلك سيتم إكمال أرواح أهل النار في جهنم، فينالون فيها خلقا روحانيًا جديدًا بعد بقائهم في ظلمات ثلاث.ثانيا: قال الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: ١٥٧).وما دامت وسعت كلّ شيء، فلا بد أن تسع أهل النار أيضا، فثبت من هنا أن رحمة الله قد الإنسان سينال النجاة من عذاب النار في نهاية المطاف.ثالثًا: قال الله تعالى على لسان حَمَلة العرش: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا (غافر : ۸).فإذا استحال القولُ بعد هذه الآية أن هناك شيئا هو خارج نطاق علم الله تعالى، فمن المستحيل أيضًا القول أن هناك شيئا لن تشمله رحمة الله؟ رابعا : قال الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ رَبَّكَ فَعَالٌ لما يُريدُ (هود: ۱۰۸).لقد بين الله تعالى هنا أنه ليس غفَارًا فحسب، بل إنه سيغفر فعلاً.خامسا: قال الله تعالى : إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلَقَهُمْ (هود: ۱۲۰).فإذا كان الله تعالى قد خلق كل إنسان ليتغمده برحمته فالظن أن البعض سيبقى في أبد الدهر يتنافى مع هذه الآية.وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس له في هذه الآية رواية تقول: "للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب" (ابن كثير).ومن المحتم أن الذي خُلق لشيء لا بد أن يناله.سادسًا: قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: ۸)..أي لو عمل المرء خيرا، ولو مثقال ذرة، فلن يضيعه الله تعالى، بل لا بد أن يرى جزاءه، ومن الواضح أنه لن يرى جزاء هذا الخير إلا إذا نال أولاً العقاب على ذنوبه، ثم جهنم تفسير يعفى عنه.

Page 54

الجزء الثامن ٤٩ سورة النبأ سابعًا: ورد في الحديث أيضًا أن رسول الله الله قال : "يقول الله : إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف" (البخاري: كتاب التوحيد باب قول الله تعالى يريدون أن يُبَدِّلوا كلام الله وقد وعد الله تعالى في القرآن الكريم أيضا بالجزاء على الحسنة بعشرة أمثالها إذ قال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَة مَتَةً حَبَّة وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لَمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: ٢٦٢).وحيث إن كل إنسان يتحلى بشيء من الخير مهما صغر، فلو حسبنا جزاء حسناته على ضوء هذا الحديث النبوي وهذه الآية القرآنية، فلا يجيز العقل حرمان أي إنسان من النجاة حرمانًا أبديًّا.للمزيد راجع تفسير قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ إلى قوله تعالى عَطَاء غَيْرَ مَحْذُوذ في سورة هود في المجلد الثالث من هذا التفسير.لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (ج) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقَا (3) جَزَاءً وِفَاقًا شرح الكلمات : ۲۷ ) بَرْدًا : البَرْد : نقيضُ الحَرِّ ؛ النوم، وفي المثل : البرد يمنع البرد..يعني البرد يمنع النوم.(الأقرب) وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بردًا أي روحًا وراحةً.(فتح البيان) حميما : الحميم: الماء الحار، وهو من الأضداد، إذ يعني العَرَق.(الأقرب) الماء البارد أيضا؛ القيظ؛

Page 55

الجزء الثامن و و سورة النبأ غساقًا: الغَسّاق المنتن البارد الشديدُ البرد الذي يُحرق من برده كإحراق الحميم.(اللسان).والغساق ما يقطر من جلود أهل النار وصديدهم من قيح ونحوه.(الأقرب) وفاقًا: وافَقَ على الشيء وفاقا ضدُّ خالف.(الأقرب).والوفق المطابقة بين الشيئين.(المفردات) فالمراد من قوله تعالى جزاء وفاقا..أي جزاء مطابقا للأعمال.التفسير قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيهَا..حال ثان للطاغين، حيث كان قوله تعالى لابتينَ فِيهَا أَحْقَابًا الحال الأوّل لهم، والمراد أن الطاغين يكونون في النار حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا.أما ابن جرير فقال: إن قوله تعالى ولا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا متعلق بـ لابثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ، ا بمعنى أن نوعية عذابهم ستتغير فيما بعد.ولكن هذا المعنى باطل ،بداهة لأن الآية ستعني عندها أنهم سيتمتعون بعد الأحقاب بالراحة وماء الشرب، مع أنه إذا تيسر لهم الماء والراحة، فأين العذاب؟ لو كان القرآن قد ذكر هنا شرابًا فقط لقلنا إن تعذيبهم لن يزول بشرب الماء، ولكنه ذكر مع الشراب بردًا أيضا، والبرد يعني النوم والراحة أيضا، فيكون المعنى - بحسب ما يذكره ابن جرير - أنهم لن يتمتعوا بالراحة وماء الشرب أحقابًا، أما بعد ذلك فيتيسر لهم الماء للشرب والنوم والراحة أيضا، غير سيظلون مقيمين في الجحيم.فثبت أن هذا المعنى باطل بداهة.والدليل الآخر أن الله تعالى قد ذكر هنا شَرَابًا منفصلاً بَرْدًا، مما يدل أن عن لا يعني الماء البارد هنا، بل له معنى آخر، وهو أنه لن تتيسر لهم هناك أسباب الراحة، ذلك لأن من معاني البرد الراحة؛ حيث ورد "البرد: الروح والراحة." (فتح البيان) وفيما يتعلق بموضوع القيامة فيمكن تفسير قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا تفسيرًا ظاهرًا، وهو أنهم لن يجدوا هناك سببًا للراحة، ولا شيئًا للشرب، إلا غسَّاقا.والغساق كما بينت في شرح الكلمات هو "الشيء المنتن" أو "البارد شديد البرد"، أو "ما يقطر من جلود أهل النار وصديدهم من قيح ونحوه".إذا، فكلمة

Page 56

الجزء الثامن ۵۱ سورة النبأ غَسَاقًا أيضًا تبين أن هنا لا يعني إلا الراحة، لأن الغساق نفسه يعني البارد الشديد البرودة.باختصار، لقد بين الله تعالى هنا أن الماء الذي يجده أهل النار سيكون حارا جدا، كما أنهم يسقون ما يقطر من جلودهم أو صديد جروحهم، أو أنهم يُسقون ماءً منتنا آسنًا جدا، أو ماء شديد البرودة تسقط أسنانهم بشربه.ثم يقول الله تعالى جَزَاءً وفَاقًا ، أي أن هذا الجزاء سيكون مطابقا لأعمالهم تماما، بمعنى أن سلوكهم في الدنيا لم يكن سلوكًا وسطا، لذا سيجدون في الآخرة من الجزاء ما يماثل سلوكهم..أي ما يكون حارًا جدًّا أو باردًا جدا؛ وبتعبير آخر إنهم كانوا في الدنيا يستشيطون غيظا أو يعيشون متكاسلين عاطلين، ولم تكن سيرتهم وَسَطًا، فلذلك سينالون عذاب جهنم بهذا الشكل، ويعطون ماء مغليا للشرب أحيانا، وأحيانا ماء باردًا جدًّا.أما الماء البارد الذي يجد شاربه فيه متعة وراحة، فلن يكون له أثر في جهنم وهذا هو الفرق المميز بين الإسلام والكفر - أعني الأديان الأخرى فيما يتعلق بالأخلاق، فإن الإسلام يعلّم السلوك الوسط، ولكن لا يوجد هذا التعليم في غيره من الديانات فمثلاً تقول اليهودية: "نَفْسًا بَنَفْسٍ، وَعَيْنًا بعَيْنِ، وَسَنا بسنٌ، وَيَدًا بيد، وَرِحْلاً ،برجل، وكيا بكي، وَحُرْحًا بِحُرْحٍ، وَرَضًا رض الخروج ۲۱ ۲۳-٢٥).أما المسيحية فتقول: "مَنْ لَطَمَكَ عَلَى حَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا مَتَى ٥: ٣٩.فترى أن إحدى الديانتين تميل إلى القيظ فقط أي إلى الإفراط والأخرى تميل إلى الزمهرير فقط أي إلى التفريط.فيكون جزاء هذه الأعمال الموغلة في الإفراط أو التفريط جزاء مماثلاً لها، فيكون بعضهم في حميم يغلي، والآخرون في برد شديد ولكن الإسلام يأمر بسلوك الطريق الوسط في جميع أحكامه، فيأمرنا أن نرحم عند مقتضى الرحمة، وأن نعاقب عند مقتضى العقاب.يقول الله تعالى في القرآن الكريم ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: ٤١)..أي يجب معاقبة الظالم على سيئته بقدرها فقط، ولكن الذي يعفو عن الظالم بشرط أن يكون في العفو إصلاح له فسيجد جزاء عفوه عند الله تعالى حتمًا.

Page 57

الجزء الثامن ۵۲ سورة النبأ أما إذا اعتبرنا هذه الآيات تتحدث عن القرآن الكريم والرسول ، فنفسرها تفسيرًا روحانيا كما فعلنا من قبل..أي أن أعداء الإسلام لن يجدوا الراحة أبدا، ولن تنعم قلوبهم بالسكينة أبدًا، فكلما رأوا فشلهم إزاء الإسلام أصابهم الإحباط والقنوط حينًا، وحينًا هاجوا ضد الإسلام وهاجموه كالمجانين.إنما حالة الحميم والغساق هي أن الإنسان يهيج حينًا فيتصرف نتيجة تهوره كالمجانين، وحينا آخر ينهار فاقدًا الهمة وفي كلتا الحالتين لا يحالفه النجاح؛ إذ لا يمكن أن ينتصر من يتهور ويُغير كالمجانين كما لا يحالف النجاح من يفقد القدرة على العمل من شدة اليأس والقنوط.ولكن الله تعالى يخبر أيضًا أن أعداء الإسلام سيعودون إلى صوابهم بعد مرور أحقاب فيشنون على المسلمين هجمات منظمة وحيث إن المسلمين يكونون قد أسخطوا الله تعالى بسوء أعمالهم في ذلك الزمن من ناحية، ومن ناحية أخرى تكون هجمات الكفار منظمة، فينهزم المسلمون أمام الكافرين.شرح الكلمات : إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (2) لا يَرْجُون: رجا الشيء: أمل به؛ خاف.(الأقرب) حسابًا الحسابُ : العَدُّ.(الأقرب) ۲۸ التفسير : ستعني هذه الآية، نظرًا إلى موضوع الآخرة، أنهم لا يوقنون بالبعث بعد الموت، فلا يأتون أعمالا تنفعهم في الآخرة وإنما الحافز وراء أعمالهم هو الدنيا، وحيث إن هذا الحافز غير صحيح، فلا يوفقون لفعل الخيرات.علما أن الرجاء يعني الأمل والخوف أيضًا، وكلا المعنيين ينطبقان على الآخرة، والمراد أنهم لا يخافون العقاب على سوء أعمالهم، ولا يأملون أن يُثيبهم الله على حسناتهم.

Page 58

الجزء الثامن ٥٣ سورة النبأ إن من محاسن القرآن الكريم أنه يستعمل كلمات تدل على معان عديدة في وقت واحد، كما هو الحال في كلمة يرجُون، حيث يدل الرجاء على الأمل والخوف كليهما.والحق أن الفساد يتطرق إلى أعمال الإنسان لسببين؛ إما أنه لا يخاف أي عقاب على سوء أعماله، أو أنه لا يوقن بأي ثواب على حسناته؛ وقد أشار الله تعالى إلى الأمرين كليهما بقوله إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا..أي أنهم كانوا لا يخافون أن يُحاسبوا على سيئاتهم، كما كانوا لا يأملون أن يثابوا على حسناتهم.كلا المعنيين للرجاء يتحقق فيما يتعلق بهذه الدنيا أيضًا، بمعنى أنهم لم يُقيموا صلةً بالقرآن الكريم ولا بمحمد ، و استوجبوا غضب الله وقهره لأنهم لم يخافوا العقاب على سوء أعمالهم، إذ قالوا لا نخاف أحدًا لنتخلى عن هذه الأعمال، وفي الوقت نفسه لم يأملوا الثواب على حسناتهم، فلم ترغب قلوبهم في الصلاة والصوم وغيرها من أحكام الإسلام.أما بالنسبة إلى معنى غلبة ،الإسلام، فستعني هذه الآية أنهم سيبغضون الإسلام جدا ساعين للقضاء عليه وغير مكترثين بأي خطر، وفي الوقت نفسه لن يأملوا النجاح الكامل، بل سيستولي اليأس على قلوبهم ويقولون في أنفسهم أن الكفر لن ينتصر الآن.والذي يصاب باليأس والقنوط لا يتصرف إلا بإحدى طريقتين؛ إما أنه يهاجم في تهور كالمجانين، أو يجلس عاطلاً لا يحرك ساكنا من غلبة اليأس.شرح الكلمات: وَكَذَّبُوا بِنَايَتِنَا كِذَّابًا (٣) ۲۹ وكذبوا بآياتنا كذَّابًا كذَّب الأمر تكذيبًا وكذابًا أنكره وجحده.(الأقرب) التفسير : المراد من قوله تعالى ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كَذَّابًا أنهم ينكرون آياتنا بشدة، أي أنهم لا يميلون إلى الإيمان نتيجة تكذيبهم الشديد لآياتنا.لو اعتبرنا الحديث هنا عن الذين كفروا بدعوة الإسلام في أوائلها فستعني هذه الآية أنهم قد انحرفوا عن الصراط المستقيم لأنهم لم يصدّقوا بأنبائنا عن غلبة الإسلام وقيام

Page 59

الجزء الثامن ٥٤ سورة النبأ القيامة.وينطبق هذا المعنى على القيامة من حيث إن إنكارهم إياها أدى بهم إلى هذا الحال.بينما لو اعتبرنا هذه الآية تتحدث عن القرآن الكريم أو الرسول ، فالمراد أنهم لقوا هذا المصير لأنهم كانوا لا يصدّقون بالمعجزات التي ظهرت على يد محمد أو أنهم يكفرون بآيات القرآن الكريم بشدة لأن فطرتهم الفاسدة لا تنسجم مع كلام الله تعالى.شرح الكلمات : وَكُلِّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَهُ كِتَبًا ؟ أحصيناه: أحصى الشيء إحصاء: عَدَّه (الأقرب).كتابًا : الكتاب: المكتوب؛ ما يُكتب فيه ؛ القَدَرُ ؛ الحُكم؛ الفرض؛ الدواة.(الأقرب) مكان التفسير : أي لقد قدّرْنا كل شيء أحسن تقدير، أو قد حفظنا كل شيء في ذي قدر، أي حفظناه حيث لا يضيع منه أبدًا.وبالفعل نجد أنه ما من عمل من أعمال الإنسان إلا يظل محفوظا بشكل أو بآخر، ولا يضيع أبدًا، وليس أدل على ذلك من المذياع؛ حيث نجد شخصا ينطق بكلمة من مسافة آلاف الأميال، فتصل إلينا فورًا، ونسمعها وكأنه يتكلم جالسًا بيننا وأرى أنه ليس بمستبعد أن تتطور العلوم بحيث يتمكّن العلماء من اختراع جهاز يستطيعون به تسجيل الأصوات من الأزمنة الغابرة، وعندها سنتمكن من سماع صوت رسول الله ﷺ وهو يتحدث بالأحاديث التي نقرؤها في الكتب.وهذا الأمر لا يبدو مستحيلا بالنظر إلى مخترعات هذا الزمن فإن العلم قد تطور اليوم تطوّرًا كبيرًا، ومن الممكن أن يخترعوا في المستقبل جهازا كهذا ويتمكنوا به من ضبط الأزمنة الغابرة أيضًا، فنسمع أصوات الأولين.فمثلاً إذا أردنا سماع أصوات أناس عاشوا في سنة معينة أو قرن معين نضبط الجهاز على تلك السنة من القرن ونسمع أصواتهم.ليت الدنيا ترجع إلى الحق نتيجة هذا التطور التقني.

Page 60

الجزء الثامن ٥٥ سورة النبأ شرح الكلمات : فَذُوقُوا فَلَن نَّزيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (3) عذابًا : العذاب: كلُّ ما شَقَّ على الإنسان ومنعه عن مراده.وفي "الكليات": كلُّ عذاب في القرآن فهو التعذيب، إلا وَلْيَشهَد عذابهما طائفة، فإن المراد الضرب.(الأقرب) وورد في "المفردات": "العذاب: هو الإيجاع الشديد.وقد اختلف في أصله، فقال بعضهم: هو من قولهم: عذب الرجلُ، إذا ترك المأكل والنوم، فهو عاذب وعذوب، فالتعذيب في الأصل هو حمل الإنسان أن يعذب أي يجوع ويسهر.وقيل أصله من العذب، فعَذِّبْتُه أي أزلتُ عَذَبَ حياته." (أي حلاوتها) التفسير: ترسم عذابها هذه الآية حال الأمم المقهورة في الدنيا، وليس المراد منها عدم زوال العذاب عنهم.بل المعنى أنه كلما سعت الشعوب المقهورة لحريتها ازداد وضاعت جهودها وابتعدت عن هدفها المنشود، إلا أن يكون زمنُ غلبتهم من جديد قد حان ولذلك نرى في هذه الحرب العالمية أن الإنجليز ينصحون أهل بلجيكا وفرنسا أن لا يستعجلوا بالثورة ضد الألمان وإلا ازدادت محنتهم.وقد رأينا يعني أن هؤلاء كلما حاولوا التحرر زادهم الألمان بطشًا وتعذيبا.إذن فقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا أنه في زمن غلبة الإسلام ستضيع جهود الكافرين كلها، حيث يحذرهم الله تعالى قائلاً لو بقيتم صامتين سلمتم، أما إذا خرجتم متهورين لمحاربة المسلمين فستضرون أنفسكم ولن تضروا الإسلام والمسلمين شيئًا.وهذا المعنى ينطبق على القيامة أيضًا؛ ذلك أن الوقت يزيد المرء أذًى، فمثلا إذا أصيب بالحمى ساءت حالته يومًا فيوماً ؛ وإذا طالت فترة الحمى تدهورت صحته تماما.كذلك كلما طالت فترة العذاب يوم القيامة زادت وطأة العذاب عليهم.إذًا، فهذه الآية لا تعني أن لا نجاة لهم من عذاب القيامة أبدا، بل المراد أنهم يوم يزدادون تعذيبًا بطول العذاب شأن المريض الذي يزيده طول مرضه أذى وضعفا.

Page 61

الجزء الثامن ٥٦ سورة النبأ الله بيد أن العكس يحصل أحيانا، حيث يعتاد المرء العذاب إذا طال، وقد عالج تعالى هذه القضية أيضًا، حيث صرح في آية أخرى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء: ٥٧)..أي كلما اعتادوا العذاب لطوله أعطاهم الله جلودًا أخرى ليشعروا بالعذاب.باختصار، لا يعني قوله تعالى فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا أن عذابهم لا ينتهي أبدا، بل المراد أنه إذا انتهى نوع من العذاب بدأ نوع آخر منه، ولن يكون هناك انقطاع فيه ما لم يأت وقت غفرانهم تماما.أما نظرا إلى هذه الدنيا فيعني قوله تعالى (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا أَن المسلمين سيزدهرون يومًا فيوما، وبالتالي يزداد الكافرون والمشركون ضعفًا.إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَازًا الكلمات : ۳۲ ) شرح مفازا : قد يكون المفاز مصدرًا لفازَ يفوز، أو ظرف مكان.يقال فاز من مكروه: نجا؛ وفاز بخير: ظفر به.(الأقرب) وفي المفردات: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة".فقوله تعالى إنْ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا يعني: ١- أنهم سيظفرون بكل خير وينجون من كل مصيبة، ٢- أن الله تعالى سيقيمهم مقامًا ينجون فيه من كل مصيبة وأذى ويحوزون فيه على كل بركة وفلاح وهذا إشارة أولاً إلى ذلك المقام الذي ينالونه بعد البعث من الموت حيث وعد الله المتقين بأنهم لن يروا في الآخرة أذى، ولن ينقصهم هناك خير، بل لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ) (الشورى:۲۳)؛ كما أنه إشارة إلى ما يناله المتقون في هذه الدنيا، حيث وعدهم الله تعالى وقال وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان (الرحمن: ٤٧)..أي أن الذي يخاف الله تعالى يهيئ الله له أسباب الجنة في هذه الدنيا كما يهيئها له في الآخرة أيضا.

Page 62

الجزء الثامن أيضا، ملاذ لقد سبق ٥٧ سورة النبأ التفسير: لقد سبق أن بينت أن هذه السورة تتحدث عن غلبة الإسلام وغلبة القرآن وعليه فهذه الآية تنبئ بأن المؤمنين سينجون من كل مكروه، وسيُعطون ديارًا تكون بمثابة مقام النجاح لهم.لقد أدلي بهذا النبأ في وقت لم يكن فيه للمسلمين أن بينت أن هذه سورة مكية، بل هي من أوائل ما نزل من القرآن حين لم يكن عدد المسلمين قد تجاوز عشرة أو اثني عشر شخصا، والكافرون يعذبونهم تعذيبًا يفوق التصور.فمن الثابت تاريخيا أن الكافرين كانوا يُلقون العبيد الذين أسلموا في فجر الإسلام على الرمال المحرقة وذلك في بلاد حارة كالجزيرة العربية ليردوهم عن دينهم ولكنهم كانوا يرفضون البراءة من الإسلام، فكان الكافرون يزيدونهم عذابًا بوضع أحجار ساخنة على صدورهم، بل بالصعود على صدورهم أحيانا.وفي بعض الأحيان كانوا يربطون بعضهم بالحبال ويجرونه في شوارع مكة.علمًا أن أهلها كانوا يضعون أحجارًا بجانب جدران منازلهم لحمايتها من مياه الأمطار الجارفة، وكان الكافرون يجرون المسلمين على هذه الأحجار حتى كانت أبدانهم تنزف دما وكان خباب بن الأرت أحد هؤلاء الصحابة العبيد عن الذين تعرضوا للتعذيب الشديد.ففي أيام الفتوحات الإسلامية سأله مرة عمر الأذى الذي لقيه على أيدي ،المشركين فكشف ظهره الذي لم يكن يبدو كجلد إنسان، فأخذت عمر حيرة فسأله : أجلْدُك مصاب بمرض؟ فأجاب: هذا ليس مرضا، بل كان الكافرون يجرونني على الحجارة، فتغير جلدي من كثرة الجروح (أسد الغابة: خباب بن الأرت، والطبقات الكبرى: بلال بن رباح، والكامل لابن الأثير، والسيرة الحلبية : استخفاؤه وأصحابه في دار الأرقم).هذا ما تعرض له الصحابة في أوائل الإسلام.أما الرسول فكان لا يستطيع أن يصلي علنًا، بل كان يجمع بعض الصحابة في بيت أم هانئ، فيصلي بهم ويعلمهم الدين والقرآن؛ إذ كان من المستحيل أن يصلّي أو يتكلّم عن الدين أو يقرأ القرآن علنًا أو حتى في فناء بيته، لأن كل هذه الأمور كانت تُعتبر جرما.وعندما اشتدت الفظائع أخذ الصحابة يهاجرون من مكة بعد أن استأذنوا الرسول ﷺ (الطبقات الكبرى: ذكرُ إذن رسول الله الله للمسلمين في الهجرة.وذات مرة خرج أبو بكر

Page 63

الجزء الثامن ۵۸ سورة النبأ لله مهاجرًا ، فلما خرج بمتاع سفره لقيه ابنُ الدَغنة وهو أحد زعماء مكة، وسأله: أين تذهب؟ فقال: أهاجر من وطني لأن قومي يعادونني ولا يمنحونني حرية دينية.فقال: كيف تعيش بسلام البلدة التي يخرج منها شخص مثلك؟ لا تخرج منها فإني مجيرك.ثم أعلن بين الناس أن أبا بكر في جواره.والعرب، رغم كبريائهم وغطرستهم، كانوا يتحلّون بميزة عظيمة أنه إذا أجار أحدهم امرأ لم يتعرضوا له بأذى، وإذا حاول أحد إيذاءه منعوه جميعا.فعاش أبو بكر له في مكة مرتاحا مطمئنا بعد أن أجاره ابن الدغنة.وكان أبو بكر رجلاً بكاء عند تلاوة القرآن الكريم، وبينما كان يقرأ القرآن في فناء بيته ذات يوم غلبت عليه الرقة وأخذت العبرات تتحدر من عينيه.ومن عادة الأولاد والنساء الاجتماع والتفرج على كل جديد، وبكاء الإنسان يثير انتباه الآخرين؛ وكانت قراءة القرآن أمرًا جديدًا لهم، فاجتمعوا إعجابًا بقراءته المصحوبة بالبكاء، وأخذت النساء يذكرن الإسلام بخير.فذهب القوم إلى ابن الدغنة، وقالوا له: لقد ألقيتنا في ورطة بإجارتك لأبي بكر، فقد فتنت نساؤنا وأولادنا بقراءته للقرآن، ولو استمر الأمر على هذا المنوال لدخل الحي كله في الإسلام؛ فإما أن تمنعه من قراءة القرآن عاليًا، أو تسحب ذمتك منه.فجاء ابن الدغنة أبا بكر وأبلغه شكوى القوم الشديدة وبأنهم يخافون أن يسلم أولادهم ونساؤهم طالبًا منه أن يكفّ عن القراءة عاليًا، وأن يقرأ القرآن داخل بيته، وإلا فسيضطر لسحب ذمّته.فأجاب أبو بكر : يمكنك أن تتبرأ من ذمتي، لأني أفضّل ذمة الله وذمة رسوله على ذمتك.تاريخ) الخميس ج ١ هجرة أبي بكر إلى الحبشة، والبخاري: كتاب بنيان الكعبة، باب هجرة النبي ، فخرج ابن الدغنة وأعلن أن أبا بكر لم يعُدْ في جواره.ثم تراجع أبو بكر عن الهجرة، وسأل الرسول ﷺ أن يصطحبه : عندما يهاجر، فوافق له على ذلك.(البخاري، كتاب مناقب الأنصار) هذه هي الأوضاع التي كان يعيشها المسلمون في مكة، ورأيي أنه لو جمعت وقائع اضطهاد المسلمين على يد أهل مكة لبلغت المئات مما يدل على مدى الاضطهاد الذي لاقاه المسلمون، كما يُعلمنا كيفية وكمية التضحية التي يجب أن نقدمها سبيل الدين.وفي تلك الفترة التي كان المسلمون يعيشون فيها في أذًى شديد أعلن

Page 64

الجزء الثامن ۵۹ سورة النبأ الله تعالى إنَّ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا..أي أن المسلمين المتقين سينجون من الاضطهاد حتما؛ لأن الله تعالى سيدفع عنهم هذا الظلم، وسيعطيهم تلك الأماكن التي لن تمسهم فيها هذه المكاره كلها بل سيحالفهم النجاح ويفتح الله عليهم أبواب الراحة ورغد العيش.وقد جعل الله تعالى أرض الحبشة المفاز الأول للمسلمين تحقيقا لهذا الوعد فهاجر إليها المسلمون ومتعهم الله تعالى هناك بأسباب الراحة.علما أن هذه السورة هي من أوائل ما نزل في مكة - حيث نزلت قبل هجرة المسلمين إلى الحبشة بسنتين أو ثلاث، وهذه الهجرة قد تمت في السنة الخامسة من البعثة (الكامل لابن الأثير، الجزء الأول، ذكر الهجرة إلى الحبشة).فثبت أن أول مقام فوز ناله المسلمون بحسب قوله تعالى إنَّ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا هو أرض الحبشة.وكم هي رائعة آية النصرة والتأييد التي أظهرها الله تعالى في أرض الحبشة! لقد أراد العدو مطاردة المسلمين في الحبشة أيضا كيلا ينعموا بالراحة والطمأنينة في تلك البلاد أيضا، ولكن الله الذي كان قد وعد المتقين بأن ينقذهم من الأذى ويأخذهم إلى حيث ينعمون بالطمأنينة أحبط أهل مكة في مسعاهم، وعاش المسلمون في أرض الحبشة في عز وراحة وفقا لوعده تعالى.ورد في التاريخ أن المسلمين لما هاجروا إلى الحبشة بعث أهل مكة وراءهم عَمْرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، مطالبين مَلكَ الحبشة بإعادتهم باعتبارهم عبيدا لهم فرّوا من أسيادهم، وأنه إذا أجارهم الملك فسوف تفسد العلاقات بين الطرفين.فذهب الاثنان إلى الحبشة مع هدايا كثيرة ليقدموها للملك ولوزرائه وللقسيسين.الملك في أول الأمر، لكنهم لما قالوا له إن هؤلاء المسلمين قد فروا من فأكرمهم عندهم، وأن عليه أن يرجعهم إليهم، وشفع لهم إليه الوزراء أيضا، قال الملك إنه لا يحق له طرد أحد من المسلمين من بلده ما لم يدعُهم ويعرف موقفهم.فدعاهم إلى البلاط وسألهم عن عقائدهم.فتقدم الصحابي جعفر بن أبي طالب ، وقرأ آيات من الذكر الحكيم تتحدث عن عقائد المسلمين بما فيها عقيدتهم عن المسيح العل.فقال الملك: لا أجد في هذه العقائد بأسًا.ورجع الرئيسان القرشيان إلى بلاط الملك في اليوم التالي :وقالا أيها الملك إن هؤلاء المسلمين يسيئون إلى المسيح.فطلب

Page 65

الجزء الثامن 7.سورة النبأ من قوله الملك المسلمين وسمع منهم موقفهم تجاه المسيح ال، ثم أمسك بعود وقال: لا تختلف عقيدتي في المسيح عن عقيدتهم قدر هذا العود.فاستاء حاشية الملك جدا، فلما وجدهم منزعجين قال لهم : لقد مات أبي وأنا صغير، فساعدتم عمي في محاولة الاستيلاء على العرش، فوهب لي ربي قوة بفضله ومكنني من إلحاق الهزيمة بكم، وآتاني العرش.فكيف لا أظل موقنا بنصرة الله الذي رفعني على العرش وأفشل عدوي في نواياه رغم قلة حيلتي؟ إنه لمن العار أن لا أكون عونا لعباده المظلومين بعدما منحني القوة.فلن أخرجهم من بلدي وإن ساءكم هذا.ثم ردّ الملك الهدايا التي أتى بها هذان الزعيمان القرشيان، فرجعا خائبين.(تاريخ الخميس، ج ۱ ص ۲۸۹-۲۹۲ إذا، فإن الصحابة قد شاهدوا في أرض الحبشة مشهدًا رائعا لتحقق قول الله تعالى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، ورأوا بأم أعينهم كيف حقق الله تعالى وعده بأنه سيأخذهم إلى حيث ينجون من كل مكروه، وينعمون بالراحة والسكينة.والمشهد الثاني لتحقق هذا الوعد الرباني شوهد في المدينة حين هاجر إليها المسلمون وصرف الله إليهم أهلها.في البداية جاء نفرٌ من أهل المدينة إلى مكة للحج، فلما سمعوا عن دعوة الرسول آمنوا به.وفي السنة التالية جاء من المدينة وفد آخر من الحجاج وآمنوا به.و في السنة التالية بعث أهلها إلى الرسول وفدًا يضم اثنين وسبعين شخصا، فعقدوا معه معاهدة حيث تعاهدوا معه فيها بأنه لو أغار العدو عليه أو على أصحابه وهو في المدينة فسيقاتلون عنه فهاجر النبي إلى المدينة بحسب هذه المعاهدة السيرة) لابن هشام، بدء إسلام الأنصار) ثم لحقهم إلى المدينة المسلمون الآخرون الذين كانوا قد هاجروا إلى الحبشة من قبل، وقد سُمّي هؤلاء أصحاب الهجرتين.(البخاري، كتاب المغازي) أما دفاع أهل المدينة عن النبي ﷺ فهو باب رائع من التاريخ وبرهان ساطع على صدق النبوءة القرآنية الواردة في قول الله تعالى: إنّ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا..أي أننا سنعطي المتقين مكانًا ينجون فيه من أنواع الأذى وينالون فيه كل نجاح.فكانت الحبشة المفاز الأول، وكانت المدينة المنورة المفاز الثاني والواقع أن السنوات الأولى

Page 66

الجزء الثامن ٦١ سورة النبأ من تاريخ الإسلام إنما هي شرح لهذه الآية، وأن الهجرة إلى الحبشة والأيام الأولى في المدينة لدليل ساطع على تحقق النبأ الوارد في قول الله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَارًا.اصطدمت بهم ذلّت، حتى والمعنى الثاني لقوله تعالى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا أننا سنجعلهم فائزين، وهذا المعنى أيضا قد تحقق في المدينة.والواقع أنه لم تكن المدينة وحدها دليلا على تحقق هذه النبوءة، بل قد أصبحت الجزيرة العربية كلها، بل العالم الوسطي كله، فيما بعد دليلاً على فوز المسلمين ونجاحهم.فكل أمة خرجت لمحاربتهم هزمت، وكل قوة فُتحت خزائن كسرى وقيصر ووقعت في أيدي المسلمين.كانت المدينة قرية صغيرة، ولم يكن المسلمون آمنين فيها حتى في بيوتهم، ولذلك عقدوا مع اليهود معاهدات كيلا يغدروا بهم ويزيدوهم ضعفا.إن هذه القرية الصغيرة أصبحت فيما بعد مركزا للعالم، وكلما صدر أمر منها ارتعدت الدنيا كلها ولم تقدر على رفضه.ثم إن المدينة المنورة هي القرية التي جلبت إليها کنوز كسرى وقيصر في يوم من الأيام لتوزّع على المسلمين، حتى وُضعت أساور كسرى الذهبية في يد الصحابي سراقة بن مالك.كان النبي ﷺ قد أخبر سراقة أثناء الهجرة إلى المدينة أني أرى أساور كسرى في يدك ولما دمّرت إمبراطورية كسرى جيء ، بأسورته فألبس ه سراقة هذه الأسورة رغم تردّده في لبسها، ٣ وذلك لتتحقق نبوءة الرسول ﷺ (الإصابة، سراقة بن مالك).فشتان بين ما ج كانت عليه تلك القرية في أولها وبين ما كانت عليه حين أُلبست فيها أسورة کسرى في يد صحابي فقير فيها.وكما سبق أن بينتُ أن كلمة (مفازا تنطبق بمعناها الأول - أي مكان النجاة الهلاك على الحبشة والمدينة كلتيهما، أما مكان من بمعناها الثاني - أي الفوز والنجاح - فتنطبق على المدينة فقط.إذًا، فقوله تعالى إنْ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا كان نباً بأننا سنعطي المسلمين المدينة المنورة التي ستكون فوزهم ونجاحهم.فالحق أن هذه الآية - مع كونها نبوءة عن الهجرة الأولى أي الهجرة إلى الحبشة - كانت نبوءة عن الهجرة الثانية وهي الهجرة إلى المدينة بشكل أوضح وأروع.

Page 67

الجزء الثامن ٦٢ سورة النبأ لقد تأثر أحد الكتاب الأوروبيين من أوضاع المسلمين بعيد هجرتهم إلى المدينة المنورة لدرجة أنه قال في كتابه مهما سميتم محمدًا وأصحابه إلا أنني حينما أفكر أن هناك مسجدا صغيرا في المدينة سقفه من سعف النخل تبتل أرضيته كلما أمطرت السماء، فتتلطخ جباه المصلين وأرجلهم بالوحل، ويجلس على أرضه التي لا حصير عليها أناس لا يوجد على رؤوسهم غطاء ولا على أبدانهم ثياب كافية، وهم يتشاورون فيما بينهم حول فتح العالم بثقة ويقين..كأن فتح العالم أمر عادي عندهم، ولكنهم موقنون بذلك لأنهم يؤمنون أنه وعد من الله تعالى ولن يُخلف أبدًا؛ ثم إنهم يفتحون العالم فعلاً.عندما أرى هذا كله فإن قلبي يرفض أن أعتبر هؤلاء كاذبين مخادعين.إذا، فإن النبوءة التي تضمنها قوله تعالى إنَّ للْمُتَّقِينَ مَفَازًا - أي أنه تعالى سيهب المسلمين مكانا يكون منطلقاً لفتوحاتهم وانتصاراتهم؛ ينجيهم أولاً من كل مكروه، ثم يكتب لهم الفوز والنجاح کله لم تتحقق بشكل أروع وأقوى في أي سوى المدينة، إذ لا نجد مكانا أصبح مركزا للإسلام مثلها.مكان - قد يقول قائل إن لندن وبرلين وبيترسبورغ وغيرها من المدن الكبيرة مراكز كبيرة في العالم، فما قيمة المدينة إزاءها؟ ولكن صاحب هذا القول ينسى أن هذه المدن كانت مزدهرة قبل أن تصبح مراكز عالمية، أما المدينة فلم تكن مدينة كبيرة في أول أمرها، لكنها أصبحت فيما بعد مركز الفتوحات الإسلامية كلها، وذلك بحسب نبأ قرآني أدلي به في زمن لم يكن فيه للمسلمين ملاذ يسندون إليه رؤوسهم.شرح الكلمات : حَدَابِقَ وَأَعْنَبًا 040 ) حدائق: جمع حديقة، وهي البستان يكون عليه حائط (الأقرب)

Page 68

الجزء الثامن ٦٣ سورة النبأ من أعنابًا : الأعناب جمعُ عنب، وهو ثمرُ الكَرْم وهو طري، فإذا يبس فهو الزبيب.والعنب يعني الخمر أيضًا (الأقرب)، وذلك لأن الشيء إذا غلب تأثيره شيئًا آخر سُمّي باسمه، وحيث إن الخمر تُصنع العنب سُميت باسمه.التفسير : اعلم أن لفظ (حدائق بدل من مفازا ، ولكنه عندي ليس بدل كُلِّ، بل هو بدلُ اشتمال..أي أنه من متعلقات المبدل منه، وكأن الله تعالى يقول: نقص عليكم الآن شيئًا من تفصيل "المفاز" الذي سيناله المتقون كالآتي: أولاً: أنهم سينالون (حدائق.معروف أن الحدائق لم تكن في مكة بل كانت في المدينة، إذا، فقد الله تعالى بهذه الكلمة صورة المدينة المنورة.لا شك أن العالم رسم كله أصبح فيما بعد حديقة للمسلمين، لكن فيما يتعلق بظاهر الكلمات فهذا الوصف ينطبق على المدينة التي كثرت فيها البساتين.فقد ورد في الحديث أنه لما نزل قول الله تعالى لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (آل عمران: ۹۳) سبق أبو طلحة الأنصاري غيره من المسلمين وعرض على النبي ﷺ حديقة له قائلا: يا رسول الله، إنها أحب مالي إلي.(البخاري: كتاب التفسير، باب لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، والترمذي: كتاب التفسير وفي رواية عن أبي هريرة أن النبي الله كان جالسًا بين أصحاب له ذات يوم، فقام من بين أظهرنا، فأبطأ ،علينا فخشينا أن يكون قد أصابه مكروه.فخرجت بحثا عنه - أن النبي حتى أتيت حديقة للأنصار، وحاولت دخولها، فلم أجد لها مدخلاً يبدو من تحت حائطها كما كان قد أغلق وراءه باب الحديقة – فدخلتها يدخل الثعلب.(مسلم: كتاب الإيمان من فتحة باختصار، كانت في المدينة حدائق كثيرة، وقد أنبأ الله تعالى هنا أن علامة مكان الفوز الذي سيوهب للمسلمين وجود حدائق وأعناب فيه.لقد سبق أن قلت إن الحدائق تكون محاطة بسور وتكون خاصة بصاحبها، ولولا السور والسياج حول الحدائق لم تُعرف الحدود فيما بينها ؛ وعليه فلو اعتبرنا الحدائق هنا بمعنى كل الملك الذي سيُعطاه المسلمون، فالمراد أن حكومة المسلمين ستكون منظمة لها حدود منيعة تحميها كما يحمي السور الحديقة.وقد أشير إلى هذا المعنى

Page 69

الجزء الثامن ٦٤ سورة النبأ في القرآن الكريم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصْبُرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا (آل عمران: ۲۰۱)..أي أيها المؤمنون عليكم بالصبر، بل يجب أن تكونوا أكثر صبرا من عدوكم كما ينبغي أن تحموا حدودكم..أي على الدولة الإسلامية حماية حدودها بتخصيص جنود للثغور يرابطون هناك دائمًا حتى لا تجترئ الدول المعادية على مهاجمتها.الملك بمعنى وهناك حديث قد لمح فيه النبي الله إلى معنى الحدائق حيث قال: ألا إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه (البخاري، كتاب الإيمان ومن رعى قريبا من حمى يوشك أن ترعى ماشيته في الحمى فيعاقب..أي أن المؤمن التقي يراقب سلوكه ويميز بين الحلال والحرام، ولذلك سمى الله النعم التي يعطيها المؤمنين حديقةً، أن المؤمنين كما يراقبون سلوكهم ويفرقون بين الحلال والحرام لوجه الله، كذلك يميز الله بين المؤمنين وغيرهم ويهب لهم الحدائق كجزاء.وحيث إن التقوى الحقيقية تعمل كغذاء وفاكهة للمؤمن وتولد فيه نشوة حب الله أيضا، فقد سُمّيت التقوى أعنابًا أيضا إذ تتوفر هذه الصفات كلها في التقوى، فإنها أولاً : غذاء للمؤمن يتزود به للتقرب إلى الله تعالى، وثانيًا: أن المتقي الحقيقي يصبح سببًا لحدوث انقلاب طيب في الدنيا لأمد بعيد وهكذا تنفع تقواه الدنيا طويلا، كما ينفع المدَّخر في الجسم طويلا، وهذا يعني أن التقوى تمدّ صاحبها بثمار طازجة من ناحية، كما تنفع كذخيرة لأجياله من ناحية أخرى؛ ولذلك قال داود ال: "لم أَرَ صدِّيقًا تُخْلِّيَ عَنْهُ، وَلا ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزًا." (المزامير ٣٧: ٢٥) الغذاء إذا التقوى غذاء ينفع آكله وأجياله التالية أيضًا.ثم إن التقوى سبب لحب الله تعالى، فكما أن العنب يصنع منه الخمر كذلك فإن التقوى تولّد الله تعالى ثم كما أن شارب الخمر يسكر بشربها، فلا يبالي بخير أو شر، ولا يخاف ضررًا ولا يرجو نفعًا، ولا يقوم بعمل خوفًا أو طمعًا، بل يسلب السكر لبّه، فيسير في طريق واحد في نشوة كذلك عندما يسيطر حب قلب إنسان يجعله كالنشوان، فلا يسعى للوصال بالله تعالى خوفا من ناره ولا يعمل الخير طمعا في جنته، بل ينمحي من قلبه الإحساس بالخوف والطمع تماما، فيحب الله على

Page 70

الجزء الثامن ٦٥ سورة النبأ الله تعالى ابتغاء مرضاته فحسب.فالحق أن التقوى أيضًا تسكر صاحبها كما تسكر خمر العنب شاربها.مرة سئل جنيد البغدادي رحمه الله: ماذا ستسأل الله تعالى حين تلقاه القيامة؟ يوم قال: أقول رب لا أرغب في جنتك ولا أخاف نارك، وإنما أحب الإقامة فيما تختار لي.فإذا أردت أن تلقيني في النار فألقني فيها، وإذا أردت أن تدخلني الجنة فأدخلني فيها، فإني لا أريد إلا رضاك تذكرة الأولياء (بالفارسية) ص ١١، ذكر جنيد البغدادي).إن علامة السكر والنشوة أن يخلو المرء من الطمع؛ فلا يطمع في خير ولا يخاف من شر، وإنما يصبو لهدف واحد وهو الفوز برضى الحبيب.باختصار، لقد ذكر الله تعالى هنا لفظ أعنابا لأن العنب هو الثمرة التي تنفع شرابًا وثمرا وغذاء أيضًا حيث يجفّ ويصبح زبيبا.وقد اختار القرآن الكريم هنا كلمة أَعْنَابًا كمثال على وجه الخصوص لينبه إلى أمر مهم ألا وهو أن هذا مثل الإيمان أيضًا فإنه يولّد في صاحبه البشاشة ويهبه اللذة ويشحنه بالقوة.كما توجد هذه الأمور الثلاثة في التقوى أيضًا؛ فإنها ،غذاء ثم هي غذاء يبقى كذخيرة في نفسه، ثم إنها تولد حب الله تعالى أيضا..بمعنى أن سكر التقوى يعمل عمل الخمر ويجعل صاحبها نشوانًا في حب الله تعالى، غير أن سكرها لا يحجب العقل مثل الخمر، بل يجلوه.الكلمات : شرح وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا كواعب: جمع كاعب، وهي الناهد ٣٤ (2) من الجواري.(الأقرب) هو أترابا جمعُ ،ترب، وهو مَن وُلد معك، وأكثرُ ما يُستعمل في المؤنث يقال "هذه ترب فلانة" إذا كانت على سنها.(الأقرب)

Page 71

الجزء الثامن ٦٦ سورة النبأ % قد من ونقل السيوطي عن الأزدي: "الأتراب الأسنانُ (أي الذين هم من سن واحدة)، لا يقال إلا للإناث ويقال للذكور الأسنان والأقران وأما اللداتُ فإنه يكون للذكور وللإناث، وقد أقرّه أئمة اللسان على ذلك.(تاج العروس التفسير : هذه الآية إشارة إلى أن الحافز الحقيقي للعمل لا يتولد في أمة إلا إذا كان أفرادها كلهم على مستوى متقارب في أفكارهم وحماسهم وهمتهم، أما إذا كان بعضهم يأتون بالمنجزات العظيمة بينما يظل الآخرون دون هذا المستوى فلن تحرز تلك الأمة نجاحًا كبيرًا.لا بد لإحراز النجاح الكبير أن يكون المستوى العام لأخلاق الأمة متقاربا ، أما إذا كان بعضهم بالغًا عنان السماء بينما لا يزال الآخر على الأرض، فلن يكونوا نافعين لأُمتهم بقدر ما يكون أفراد أُمة بلغ ٦٠ أو ٧٠ أبنائها مترًا واحدًا من الرفعة مثلاً، ذلك لأن رقيهم جميعًا متقارب، وإن كان أقل كثيرًا من الذين بلغوا عنان السماء في رفعتهم لو كان هناك عشرة أفراد قد بلغ كل واحد منهم مترين من الرقي فهم أفضل من عشرة يكون الواحد منهم بلغ السماء رفعة، بينما لا يزال التسعة الباقون على الأرض.إذًا، فقوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا إشارة إلى أن الله تعالى سيبارك في المسلمين بحيث إنهم يمتازون، حين يصلون إلى مكان فوزهم بميزة خاصة وهي أن نساءهم سيبلغن مستوى روحانيا رفيعا وفي الوقت نفسه يكون مستواهن متقاربا.ذلك أن كلمة كواعب تشير إلى الرفعة، أي أن مستواهن الديني يكون عاليا وكل واحدة منهن تكون مفعمة بالحماس والرفعة والاتقاد، بينما تشير كلمة أترابا إلى أن رقيهن سيكون رقيًّا جماعيًا لا فرديَّا ، أي أن حماس كل واحدة منهن في التضحية في سبيل الدين سيكون متقاربا متماثلا لا أن تبلغ بعضهن الذروة في حماسهن وإخلاصهن، بينما تكون الباقيات غافلات عن واجباتهن.وإن مطالعة التاريخ الإسلامي تدلنا على أمثلة عديدة لنساء أبدين شجاعة وهمة مذهلتين في الحروب دائمًا.ونجد هذه السمة في المهاجرات والأنصاريات كلهن.يخبرنا التاريخ عن آلاف المسلمات اللاتي قدمن في شتى المعارك نماذج رائعة لصدق قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا بحيث يتضاءل أمامهن رجالُ هذا العصر.

Page 72

سورة النبأ الجزء الثامن ويبدو ٦٧ هي ورد لا شك أن الله تعالى قد استعمل هنا كلمة كَوَاعب الدالة على الحالتين الجسمانية والروحانية، ولكن الحكمة في استعمالها أن الله تعالى يتحدث هنا عن قضيتين؛ إحداهما تتعلق بالآخرة، والأخرى بهذه الدنيا، وكلمة أَتْرَابًا تغطّي كلتا القضيتين.إنها تغطّي القيامة لأن كل إنسان يدخل الجنة وهو شاب، فقد في الحديث أن عجوزا أتت النبي الله وقالت يا رسول الله، ادعُ الله أن يُدخلني الجنة أنها كانت معتادة على مقاطعة الحديث وكان الرسول ﷺ مشغولا بحديث مهم مع الآخرين - فأجابها إجابة قصيرة على سبيل المزاح، وقال: لن يدخل الجنة عجوز.فولت وهي تبكي، فبعث النبي وراءها فقال: إنه لم يقصد ما فهمت، وإنما يعني أن كل إنسان يدخل الجنة في حالة الشباب لا الشيخوخة.الشمائل المحمدية للترمذي: باب ما جاء في صفة مزاح النبي.ذلك أن المرء لو مكان دخل الجنة – التي هي سرور وحبور - وهو شيخ هرم صارت له أسوأ من.الجحيم.ذلك أن المرء يشيب عند بلوغه الثمانين أو المئة، ولو استمر شيبه في الجنة لصار بعد عشرين ألف سنة شيئًا ذليلا حقيرا، وربما يصبح كالكرة، ناهيك أن يتمتع بنعيم الجنة.لذلك لا بد أن يدخل الإنسان الجنة وهو شاب، وأن يبقى فيها شابا على الدوام.كذلك سيكون أصحابه في الجنة من زوج وأهل شبابًا أيضًا.غير أننا لو طبقنا هذه الآية على هذه الدنيا لكانت الكواعب بمعنى النسوة اللواتي هن شابات همة وجرأةً وشجاعة، وليست شابات جسديا، إذ المعنى في هذه يصبح الحالة كالآتي : إن للمتقين كواعب في البداية، أي أنهن سيكن شابات في البداية ولكن سيغزوهن الشيب فيما بعد؛ أو سنضطر للقول أن على المتقين أن يتزوجوا الشابات، وإذا هرمن طلقوهن إذ لم يعُدن كواعب، أو لا بد لنا من القول أن المتقين سيجدون نسوة لن يهرمن أبدا في هذه الدنيا؛ ولكن كل هذه المعاني خاطئة، لا بد لنا أن نفسر هذه الآية تفسيرًا روحانيا لا ماديا، لأن الله تعالى لم يذكر هنا أي زمن أعني أنه لم يقل أنهن يكنّ شابات أول الأمر ثم يشبن، بل قال إنهن سيظللن كواعب على الدوام، فثبت من ذلك أن الآية لا تعني أنهن يكن شابات سنا، بل المراد أنهن يكنّ شابات عزيمة وهمة وشجاعة.من

Page 73

الجزء الثامن чл سورة النبأ ثم أخبر الله تعالى أنهن بالإضافة إلى ذلك، يكن أترابا..أي أن كلّهن متساويات إخلاصا وهمة وشجاعة.والحق أن هذا أفضل إنعام يُعطاه أي قوم، فنساؤهم متحمسات كالرجال ثم إنهن كلهن يتحلين بالشجاعة والحماس للتضحية من أجل أُمتهنّ بمستوى متقارب.هذه هي النعمة الحقيقية التي تؤدي إلى ازدهار الأمم.والواقع أن المرأة التي تدفع الرجل إلى الجبن.فعندما يريد الخروج لخدمة هي الدين تقف في طريقه قائلة: أين تتركني؟ من يكون سندا لي بعدك؟ ثم تأتي بالأولاد وتقول: من يرعاهم بعدك؟ وعندها يصاب قلبه بالقلق والاضطراب وتتزعزع إرادته.أما إذا رفعت المرأة من معنوياته، وشجعته وحمسته على الخروج في سبيل الدين، تقوّى قلبه فقام بواجباته الدينية باطمئنان وسكينة.لذا فمن الضروري أن تصل النساء مستوى عاليًا في الدين، كما لا بد أن تتحلى كل واحدة منهن بروح الحماس والتضحية بمستوى متقارب.إن التاريخ الإسلامي مليء بأمثلة من المسلمات اللاتي قدّمن أسوة رائعة في الحماس والجرأة والبسالة في سبيل الدين، وقلن لأزواجهن في موطن الحرب: إذا فررتم من القتال فلا ترجعوا إلينا.ورد في التاريخ أن النصارى شنوا على المسلمين هجومًا مكثفا وبأعداد كبيرة في معركة اليرموك ، فلم يستطع المسلمون الوقوف في وجههم واضطروا للانسحاب المؤقت، فأخذت المسلمات أعمدة الخيام ويضربن بها خيل المسلمين الهاربين ليعودوا إلى میدان المعركة وكانت من بينهن هند بنت عتبة بن ربيعة، التي أعداء الإسلام في الماضي، وكان زوجها أبو سفيان وابنها معاوية من بين المسلمين الفارين.كان أبو سفيان قائد كتيبة من الجيش المسلم، فلما رجع بفرقته تقدمت إليه هند وضربت وجه حصانه بالعمود لترده إلى ساحة القتال قائلة له: كنت تبذل كل ما في وسعك في محاربة النبي الله أيام الجاهلية، فكيف تفر من موطن القتال بعد إسلامك؟ كان حريًّا بك أن تغسل العار الذي لحق بك نتيجة محاربتك الإسلام بالتضحية بنفسك دفاعًا عنه فلما رأى هو وجنوده هذا المشهد قالوا فيما بينهم: هيا نعد إلى ساحة القتال، فإن عصي المسلمات أشدّ وقعًا من سيو سيوف العدو.فرجع كانت من أشد

Page 74

الجزء الثامن ٦٩ سورة النبأ الجيش وقاتل وانتصر على العدو فتوح الشام للواقدي: وقعة اليرموك، تحريض النساء) عداء شديدًا - النساء فالله تعالى قد أعطى النبي حسب وعده وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا جيشًا من اللاتي كن أفضل من رجال الأمم الأخرى إخلاصا وحماسًا وشجاعة، كما كانت كل واحدة منهن بمستوى عال في هذه الخصال وكأنها تتنافس مع الأخريات، وليس أن عائشة كانت شجاعة و لم تكن كذلك زينب، أو أن زينب شجاعة ولم تكن أسماء كذلك، حتى إن هندا إن هندا - تلك المرأة التي كانت تعادي الإسلام من قبل أيضًا قد تحلت بهذه العاطفة والحماس بحيث قدمت للإسلام تضحيات كبيرة.فمن وقائع الحرب المذكورة آنفاً أن المسيحيين لما ضغطوا على الجيش المسلم كثيرًا أصيب المسلمون بإرهاق شديد نتيجة القتال المكثف المستمر، وفي إحدى الليالي خرج قائدهم أبو عبيدة لتفقد الجيش، فوجد شخصين حول الجيش فارتاب في أمرهما وخشي أن يكونا جاسوسين، فتقدم وسألهما: أنتما ؟ من فقال أحدهما: أنا الزبير، وهذه زوجتي أسماء بنت أبي بكر.لقد رأيت المسلمين اليوم قد أنهكتهم ،الحرب فخرجت أنا وزوجتي نقوم بحراستهم.(فتوح الشام، معركة اليرموك، هزيمة الروم).ما أدلَّ هذا المثال وما أروعه على صدق قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا، وعلى أن زوجات الصحابة كن يتحلين بروح التضحية والفداء مثل أزواجهن! ثم إن هذا الحماس لم يكن خاصا بنساء أسرة معينة، بل وجدت هذه الروح في كل الصحابيات.إذا، فهذا هو المعنى الصحيح، وإلا لا ينطبق قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا في هذه الدنيا.ذلك أن الفتاة تفقد شبابها بعد ست أو سبع سنوات من الزواج، ولا تُعَدّ بعدها من الكواعب، فثبت أن المعنى هنا روحاني وليس ماديا.لا شك أن المعنى المادي ينطبق على الآخرة، لأن الناس لو دخلوا الجنة شيوحًا فلا تعتبر الجنة جنةً، ولكن لو طبقنا قوله تعالى وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا على هذه الحياة الدنيا فيكون المراد منه نساء يتمتعن بكفاءات وطاقات شبابية.ذلك أن البدن المادي يصاب بالضعف

Page 75

الجزء الثامن ۷۰ سورة النبأ وتبدو عليه أمارات الشيخوخة في هذه الدنيا بمرور الزمن، أما الطاقات الروحانية فلا تضعف في الإنسان إذا أراد تقويتها.فثبت أن الأمر الأهم هو أن تكون نساء القوم مصداقا لقوله تعالى (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا.علما أن كلمة كواعب تشير إلى الشباب الشخصي، أما كلمة أترابا فترمز إلى شبوبية الأمة.ثم إن كلمة أَتْرَابًا أيضا تؤكد أن الأخذ بالمعنى الروحاني هو الأنسب، إذ لا ـعنى ولا حكمة في كون النساء أترابًا في الجنة.كلا بل إن هذه الكلمة تتعلق بهذه الدنيا؛ إذ تُنبه أن رقي الأمة محال بدون أن يكون المستوى الديني لنساء المجتمع عاليًا.يجب أن يتحلين بالهمة والعزيمة ،والشجاعة فلا يبالين بالمصائب والشدائد، ويكُنَّ مستعدات لتقديم أي تضحية، ولا يتأخرن عن رجالهن في إخلاصهن وحماسهن وحبهن لدينهن.وهذا المعنى يبلغ من الروعة بحيث يستحق أن يعاد مراراً وتكرارًا.يجب أن نركز عليه في خطبنا وكتبنا كثيرًا حتى يعلم القوم ما هو المستوى الذي يريد الإسلام أن يوصل إليه نساءنا، وحتى تتحلى نساؤنا بالحماس الديني المنشود.أما لو كانت النساء كلهن بسن واحد في الآخرة فليس في هذا المعنى أي لطافة أو روعة بل الحق أن كلمة كواعب وحدها كافيةً لأداء هذا المعنى.إذًا، فإن إضافة كلمة أَتْرَابًا إلى كلمة كَوَاعب ) دليل على أن هذه الآية تتحدث عن هذه الدنيا.وَكَأْسًا دِهَاقًا 020 شرح الكلمات : كأسًا: الكأس الإناء يُشرَب فيه ؛ وقيل ما دام الشرابُ فيه، وإلا فهي زجاجة وإناء وقدح.(الأقرب) دهَاقًا: الدهاق من الكؤوس : الممتلئة.(الأقرب)

Page 76

الجزء الثامن VI سورة النبأ التفسير: لقد ذكر الله تعالى من قبل الأعناب التي تُصنع منها الخمر، أما الآن فيبين أنهم سيكونون نشوانين بشراب معرفة الله تعالى بحيث لن ينتهي سكرهم ولن تشبع نفوسهم من هذا الشراب الروحاني، بل يشربون الكأس تلو الآخر من دون انقطاع؛ بمعنى أنهم كلما قدموا تضحية استعدوا لتقديم تضحية أخرى، ثم ثانية وثالثة ،وهكذا وكأنهم لا يضعون كأس حب الله تعالى من أيديهم شبعا، بل ستظل الكأس مليئة دائما، وسيعتادون تقديم التضحيات نتيجة سكر العشق الإلهي، بحيث لن تشبع طبائعهم من هذه الخمر.وحيث إن اللذات في الآخرة روحانية أن لها شكلاً ماديا أيضًا إلا أن صحيح اللذة الحقيقية هناك روحانية - لذا فقوله تعالى ﴿وَكَأْسًا دهَاقًا ينطبق على الآخرة الله كما ينطبق على هذه الدنيا ، أيضا، والمعنى أن قلوبهم ستظل في نشوة دائمة بحب تعالى، فلن يتوانوا في تقديم التضحيات، بل يتمنون دائما أن يقدموا تضحية تلو أخرى ، وإذا أكدوا حُبَّهم الله تعالى ،مرة تمنوا أن يؤكدوه مرة ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له.لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (5) يعني التفسير : حيث إن حب الله تعالى قد شبّه بالخمر التي فيها أضرار، لذلك قد أوضح الله تعالى أن حبّه تعالى سيسكرهم كما تسكر الخمر شاربها، ولكن ذلك لا أنهم سيقعون في العيوب التي ينغمس فيها شارب الخمر.فمن أضرار الخمر مثلاً اللغو والتكذيب، أي أن شاربها يميل إلى العبث وهذر الكلام والشجار، ولكن الله تعالى يقول لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كذَّابًا...أي لن يقع شارب خمر الجنة في الهذيان والهذر.أتذكر أنني كنت أتمشى على سقف بيتي مرةً، فسمعت صوت شخص يقول لصاحبه: أتأكل الفلافل ؟ ثم سمعت الصوت نفسه مرة ثانية وثالثة، ولكن لم أسمع أي جواب من الطرف الآخر.فنظرت من فوق فوجدتُ أحد السيخ مستندًا إلى جدار يردد هذه الجملة وهو سكران، وكان صاحبه الذي يكلّمه قد

Page 77

۷۲ سورة النبأ الجزء الثامن ذهب من عنده وقطع مسافة طويلة، ولكنه كان لا يزال يكرر السؤال نفسه، وظل وبسبب هذه يردده بعد ذلك أيضًا زمنا طويلا يكون صاحبه قد وصل خلاله إلى قرية أخرى.فمن أكبر عيوب الخمر أن شاربها يهذي وعيبها الثاني أن شاربها يميل إلى الشجار والسباب - علما أن الكذاب مصدر كَذَّبَ، ومعناه أن أحدهما يُكذِّب الآخر، حيث يقول أحدهما قد قلت كذا فيرد الآخر: كلا، لم أقل العيوب في الخمر يقول الله تعالى عن خمر الجنة لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كذَّابًا..أي أنهم عندما يُعطون نعماء الجنة، سواء في شكل كؤوس الخمر أو كؤوس شراب العشق الإلهي لن يولّد هذا الشراب لغوا ولا كذابًا.إن اللغو يضيع وقت الإنسان، ولذلك نجد أن الذين يتعاطون الخمر يظلون مشغولين بأعمال هي مضيعة للوقت مثل القمار الذي لا يُلعب إلا بعد شرب الخمر عادة.ولكن المرء لو تجنَّب اللغو، لم يضيع وقته أولاً، وثانيًا لم يفكر إلا في العمل؛ وبالتركيز على العمل يحرز المرء تقدمًا سريعًا، ذلك أنه إذا مال إلى اللغو أضاع وقته في أمور تافهة وفقد التركيز، لكنه إذا تجنب اللغو تيسر له التركيز ومال إلى عمل بنّاء، وحيث إنه يعتاد العمل البناء ويتجنب اللغو فتزداد فيه قوة الفكر والتدبر، ويصبح دائم التركيز والانتباه إلى كل شيء.وثالثًا أنه بتجنب اللغو ينصب كل جزء من العمل وكل جزء من الأمة فيما هو نافع؛ ذلك أن المرء إذا تجنّب اللغو عمل ما هو ضروري ومفيد، وإذا قام القوم كلهم بما هو نافع تقدموا بسرعة هائلة.باختصار، هناك ثلاثة فوائد في تحنُّب اللغو؛ أوّلها عدم ضياع الوقت، وثانيتها: توجه الأذهان إلى الغايات دائمًا، وثالثتها سرعة تقدم الأمة نتيجة الأمرين المذكورين.ثم يقول الله تعالى ولا كذابًا..أي أن الخمر المادية تؤدي إلى الخصام والشجار، لكن سكر شراب العشق الإلهي يخلو من "الكذاب"..أي أنه لن يؤدي إلى خصام ولا شجار بين المسلمين، بل يجعل الواحد منهم مؤيداً ومصدقا للآخر.الحق أن التكذيب يضع الفأس على جذر رقي الأمة، كما يفعل اللغو.إن من لم يعتد تكذيب الآخرين لا بد أن يحسن الظن بهم، لأن عدم التكذيب يستلزم حسن الظن،

Page 78

الجزء الثامن ۷۳ سورة النبأ وإذا أحسن المرء الظن بالآخرين فلا بد أن تنعم القلوب بالطمأنينة والسكينة تجاه الآخرين.إن الشر كله نتيجة سوء الظن، إذا اعتاد المرء سوء الظن بالآخرين فسيخشى أن تكون زوجته قد سممت طعامه، وفي هذه الحالة تصبح الدنيا كلها جحيما.هناك عشرات المعاملات الأخرى التي لا بد للمرء من حسن الظن بالآخرين فيها، أما لو ظل فريسة للشك وسوء الظن فسدت معاملاته كثيرًا.ولكن إذا تعامل الناس فيما بينهم بحسن الظن ولم يتنازعوا نعموا باطمئنان القلب، وهذه نعمة عظيمة تتمتع بها الأمة نتيجة حسن الظن.هذه هي الفائدة الأولى لحسن الظن.والفائدة الثانية أن أفراد الأمة إذا أحسنوا الظن بالآخرين ازدادوا تعاونًا فيما بينهم، وساعد بعضهم بعضًا في أعمال البر والتقوى وأشاد بتعاون الآخرين، وبالتالي مضوا قدما.لو أساء المرء الظن بصاحبه واعتبره عدوا له لم يتقدم لمساعدته، أما إذا أحسن به الظن واعتبره صديقا استعدّ لمساعدته في المحن والشدائد.مثلاً إذا، فالمنفعة الثانية لحسن الظن أن الأمة تزداد تعاونًا.والمنفعة الثالثة لحسن الظن أن المرء يُقدم على عمله دون خوف من الناس أن يُفشلوه بإلصاق التهم به، بل إنه يخوض غمار الأخطار نتيجة حسن ظنه بالآخرين.إذا كان المرء في محنة وأدرك أن جيرانه سيحضرون لنصرته فورًا ولو بإلقاء أنفسهم إلى الخطر، فسوف يقف هذا في وجه الشدائد بشجاعة، لكن الذي لا يدري ما إذا كان جيرانه أصدقاءه أم أعداءه فلن يقدر على مواجهة المحن.إذًا، فحسن الظن يولد في المرء الجرأة عند إقدامه على أي عمل، فيستعد لتقديم أي تضحية من أجل أمته.قال الله تعالى في وصف الجنة في آية أخرى لا لَغْو فيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (الطور : ٢٤)، فجاء هنا بكلمة تأثيم مكان كذابًا ليبين أن الكذاب والتأثيم شيء واحد؛ ذلك لأن الكذاب تكذيب الواحد الآخر، والتأثيم يعني تبادل الناس التهم فيما ؛ فثبت أن كلتا الكلمتين بمعنى واحد.بينهم؛ يعني

Page 79

الجزء الثامن شرح الكلمات : : ٧٤ جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءَ حِسَابًا حسابًا : الحساب العَدُّ؛ الكافي.(الأقرب) التفسير : أي تكون لهم هذه النعم جزاء من ربك.۳۷ والمراد من قوله تعالى عَطَاءِ حِسَابًا أن هذا الجزاء يكون بحساب.سورة النبأ رحیم ويُخيَّل من ظاهر كلمة حسابًا وكأن الله تعالى يركز هنا على أن هذا الجزاء يكون بحساب لا بدون حساب، في حين تنص آيات القرآن الأخرى أن الله ويجزي الناس على أعمالهم أكثر مما يستحقون.إذا، فهناك تعارض في الظاهر بين قوله تعالى عَطَاء حِسَابًا وآيات أخرى حيث يقول الله تعالى إنا نجزي المؤمنين أكثر مما عملوا، بينما يقول هنا إن جزاءهم يكون بحساب! فليكن معلوما بهذا الصدد أن الحساب يعني أيضًا الكافي كما سبق في شرح الكلمات؛ وعليه فقوله تعالى عَطَاءً حِسَابًا يعني أنه عطاء سيسد كل حاجة للإنسان.وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "عَطَاء حِسَابًا..أي كافيًا وافيًا سالما كثيرًا.تقول العرب : أعطاني ،فأحسَبَني، أي كافاني.ومنه حَسْبي الله، أي سلفا، الله كافي." بيد أن هناك معنى آخر وهو أنهم ينالون عطاء كان في الحساب أي في الحسبان بمعنى أن المؤمن كان يدرك أن الله تعالى سيعطيه كذا من الجزاء، لأنه تعالى أخبره من قبل أنه سيعطيه كيت وكيت من النعم.فالمراد من عَطَاء حِسَابًا عطاء كان في الحسبان سلفًا وقد ذكره الله تعالى في أنبائه التي كان المؤمن يرجو تحققها والتي كان الكافر يعلم أن المؤمن قد وعد بها.إذًا، فليس المراد من عَطَاء حسابًا أنه عطاء محدود معدود، بل المعنى أنه عطاء موعود ويماثل هذا التعبير قولنا هذا الشيء محسوب عندي أو مسجل عندي.فالمراد من العطاء الحساب أنه عطاء مسجل مكتوب في الديوان الإلهي، ومذكور في الأنباء السابقة يعلمه المؤمن والكافر والصديق والعدو جميعًا.

Page 80

الجزء الثامن Vo سورة النبأ رَّبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا تَهْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ۳۸ الكلمات : شرح خطابًا خاطَبَه بالكلام مخاطبةً وخطابًا : كالمه.(الأقرب) التفسير : قال الله تعالى في الآية السابقة: جَزَاء مِنْ رَبِّكَ ، والجزاء يتأتى بواسطة صفته "الرحيم، ومعناه مَن يجزي صاحب العمل على عمله، بينما ذكر الله تعالى الآن صفته "الرحمن"، ومعناه من يعطي بدون عمل مسبق؛ فالسؤال الذي ينشأ هنا هو: ما المقصود من ذكر الله تعالى صفته الرحمانية هنا مع أنه قد اعتبر الجزاء نتيجة لصفته الرحيمية في الآية السابقة.فاعلم أن في ذلك حكمتين، أولاهما التنبيه إلى أن ما أعطاكم الله تعالى قد أعطاكم بحسب صفته "الرحيم"، ولكنه ليس رحيما فحسب، بل هو رحمن أيضًا؛ وحيث إنه قد أعطاكم كل هذا بصفته الرحيم"، فيمكنكم أن تتصوروا ما سيعطيكم بصفته "الرحمن"؛ لا شك أنه سيكون جزاء أكبر بكثير، إذ إنه ليس مقابل عمل منكم، بل يكون وفقًا لصفة الله الرحمن، أي من دون مقابل.وبتعبير آخر، إن الله الذي هو رب السماوات والأرض والذي منحكم هذه النعم بصفته رحيما، هو أيضا؛ وما دام قد أعطاكم، بصفته "الرحيم"، ما يسدّ حاجاتكم كلها بل يزيد، فما بالكم بنعمه التي سيعطيكم بصفته "الرحمن"، وكأنه تعالى يقول لا تظنوا أن هذا آخر ما نجزيكم به، وإنما هو جزاء وفق صفتنا الرحيم، أما جزاؤنا الذي نمنحكم بصفتنا الرحمن، فهو أكثر منه بكثير.والحكمة الثانية هي أن الله تعالى قد بين بذكر صفة الرحمن هنا أنه هنا أنه برغم أنه قد أطلق على هذه النعم لفظ الجزاء، لكنه في الحقيقية إحسان ومنة منه.وهذا يماثل قول الشاعر "غالب" باللغة الأردية: رحمن

Page 81

الجزء الثامن ٧٦ سورة النبأ جان دی دی ھوئی اسی کی تھی حق تو یه هے که حق ادا نه هوا أي لقد ضحيتُ في سبيل الله بنفسي التي هي عطاء منه، فالحق أنني لم أستطع أداء حقه الله إذًا، فكأنما الله تعالى يقول هنا: إننا نسمي هذا العطاء جزاء على سبيل الإحسان، وإلا فلم تكن أعمالكم إلا نتيجة طبيعية لأفضالنا، لا لكفاءاتكم الذاتية.فأنى لكم أن تحوزوا المكانة التي حزتموها اليوم لو لم ننزل القرآن ولم ندلكم بوحينا على طرق الهدى؟ إنه القرآن الذي بلغ محمد الله الله إلى قمة النبوة.إنه القرآن الذي رفع أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا إلى هذه المكانة السامية.لا شك أن هؤلاء قد قدموا تضحيات كبيرة وأسدوا للدين خدمات جليلة، ولكنها كلها كانت نتيجة صفتنا الرحمن وكتابنا القرآن.ومع أننا سمينا هذا العطاء جزاء، إلا أنه من واجبكم أن لا تنسوا أنه ليس إلا نتيجة صفتنا الرحمن.ويشبه هذا المعنى قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ (الرحمن: ۲-۳)..أي لو لم يُنزل الرحمن إليكم القرآن، ولو لم يفتح عليكم هذه العلوم والمعارف لما بلغتم المكانة التي بلغتموها اليوم.وقد أشار الله تعالى بقوله رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلى أن الله الذي أعطاكم هذا الجزاء يملك السماوات والأرض وما بينهما ، فإذا أراد تفضّل بكل هذه الأشياء على من يشاء.فهذه الكلمات إشارة إلى سعة عطاء الله تعالى.أما قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ منْهُ خَطَابًا فيعني أنه لن يكون لهم خيار ولا قدرة على الكلام مع الله تعالى نجد في الدنيا أن الإنسان يجبر الآخر بالقوة على ما يريد منه، أو على الأقل يضغط عليه بالقول وإن لم يرضَ به الآخر.فمثلاً بوسع زيد أن يقول لبكر شيئا، وسواء أرضي بكر بقوله أم رفضه إلا أن الأول قد تمكن من أما الله تعالى فهو الوحيد الذي لا يملك الإنسان منه خطابًا أي لا يقدر على الحديث معه لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة..أما في هذه الدنيا فإن الإنسان يؤمن الحديث

Page 82

الجزء الثامن VV سورة النبأ بالله تعالى غيباً، فلا مجال لأن يخاطبه تعالى، أما في الآخرة فهناك أيضا لن يقدر أحد على خطابه تعالى من دون إذنه.من علمًا أن دعاء المرء ربَّه لا يسمَّى خطابًا معه تعالى لأن الخطاب يعني الحديث وجهًا لوجه، ولا أحد يقدر على الحديث مع الله شفاها في هذه الدنيا.والشيء ذاته يحدث في الآخرة حيث يخاطب الله تعالى من يأذن له، ولن يقدر على خطابه لا يأذن له.إذًا، فقوله تعالى لا يَمْلِكُونَ منْهُ خطابًا يعني أنه لن يكون لهم الخيار لخطابه تعالى، وليس المراد أنه لن يكون هناك خطاب مع الله أصلاً.كما أن قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خَطَابًا إشارة إلى صفته الرحمن المذكورة من قبل، حيث نبه الله تعالى هنا إلى أننا قد أنزلنا وحينا منّةً على العباد، وليس نتيجة لعمل منهم.لقد بعثنا محمدًا نتيجة ،رحمانيتنا، ولو لم نبعثه من عندنا ولم نرسل القرآن لما حزتم رقيًا، و لم تنالوا منا جزاء، فثبت أن الجزاء الذي تنالونه إنما هو نتيجة لوَحينا؛ ولكن تذكروا قولنا: لا يَمْلِكُونَ منْهُ خَطَابًا..أي لا يقدر أي إنسان على خطاب الله تعالى بنفسه، إنما الله نفسه يُنزل فضله هذا على من يشاء من عباده، إذ لا دخل لقدرة الإنسان أو جهوده في نزول وحي الله تعالى.وكأن الله تعالى قد بين سبب ذكره صفته الرحمن هنا، حيث يبدو ذكرها لأول وهلة غير منسجم مع السياق، فقد بيّن بذلك أنكم لم تكونوا قادرين على إحراز هذا الرقي بأنفسكم، بل إن رقيكم مرهون بالعمل بوحينا الذي قد أنزلناه نتيجة لصفتنا الرحمن، إذ لا يقدر إنسان على أن يحظى بوحينا بقوته.يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَبِكَةُ صَا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (2) شرح الكلمات : الروح: اعلم أن (ال) التعريف تفيد أغراضا شتى، منها الكمال، يقال: أنت الرجل، أي الكامل في الرجولية، إذ تتحلى بكمالات الرجولة فعلاً، أما غيرك

Page 83

الجزء الثامن VA سورة النبأ فيفتقر إليها (الأقرب).و (ال) التعريف في الروح هنا أيضا للكمال، والمعنى: الروح الكاملة بين الأرواح.صوابا الصواب اللائق الحق؛ ضد الخطأ.(الأقرب) التفسير: اعلم أن قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا يمكن اعتباره ظرفًا لقوله تعالى لا يملكون أو لقوله تعالى لا يتكلمون، والتقدير: لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الروح والملائكة صفا، أو لا يتكلمون يوم يقوم الروح والملائكة صفا والتقدير الثاني هو أقرب إلى المعنى الذي ذكرته.ما المقصود من الروح هنا؟ قال ابن عباس : إنهم أرواح بني آدم، وقال الحسن وقتادة: هم بنو آدم وقال الشعبي وسعيد بن جبير: المقصود جبريل لقوله تعالى نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ ﴾ (الشعراء: ١٩٤).بينما قال البعض: خلق سوى البشر.(ابن كثير، والطبري) بني والمعنى الأخير لغو وباطل والأخذ به خلاف للعقل ما لم يثبت من القرآن الكريم.أما المعاني الأخرى فيمكن أن تنطبق على هذه الآية.فقول ابن عباس يكشف أنه لا يقول بكون الحياة في الآخرة بهذه الأبدان بل يؤكد أن هذه الأبدان تفنى والأرواح الإنسانية هي التي تنال الحياة في الآخرة، ولذلك فسّر الروح هنا بأرواح آدم بينما قال الحسن وقتادة أن الروح هنا بنو آدم وهذا يعني أنهم يؤمنون أن الحياة في الآخرة تكون بهذه الأبدان المادية.هناك اختلاف بين المسلمين فيما إذا كان الناس سيُحيون بهذه الأجسام المادية، أم أنهم سيعطون في الآخرة جسما آخر.أما نحن المسلمين الأحمديين فنؤمن أن الأرواح في الآخرة لا بد لها من جسم، ولكنه يكون جسما روحانيا لا هذا الجسم المادي.إن هذا الجسم المادي سيفنى ويصبح ترابا، غير أن الله تعالى سيأخذ من الجسم المادي جُزَيئًا دقيقًا منه – يجب أن يُسمى جُزَيْئًا روحانيا في الواقع - وينميه - ويطوّره ويجعله جسم الإنسان.سيعتبر الإنسان هذا الجسم استمرارًا وتسلسلاً لجسمه السابق، موقنًا أنه نفس الذي كان في الدنيا، ولكنه سيكون جسما آخر في الحقيقة.

Page 84

الجزء الثامن ۷۹ سورة النبأ وكما قلت يتضح من قول ابن عباس أنه هو الآخر يرى أن كل إنسان سيُعطى في الآخرة جسمًا ،روحانيا، حيث فسّر الروح هنا بمعنى أرواح بني آدم وليس بني آدم.ويبدو أن قتادة، وهو تلميذ ابن عباس فكّر أن أستاذه يفسر الروح بمعنى أرواح بني آدم خلاف ما يعتقده هو، لذلك قال: "هذا ما كان يُخفيه ابن عباس ابن) كثير..أي أن ابن عباس كان في الواقع يعني من الروح بني آدم، ولكنه أخفى رأيه تحت غطاء هذه الكلمات والواقع أن ابن عباس ما كان بحاجة إلى إخفاء أي شيء، إنما الواقع أنه كان يؤمن أن كل من يموت يفنى جسمه، وتحيا روحه فقط.على أية حال، إن جميع هذه المعاني للروح تنطبق على الآخرة لا على الدنيا؛ ذلك لأن هذه السورة كما قلتُ من قبل، تتحدث عن غلبة القرآن وغلبة الإسلام وعن يوم القيامة، ولكن هذه المعاني للروح لا تنطبق على هذه المواضيع الثلاثة؛ لا شك أنها تنطبق على القيامة، لكنها لا تنطبق على غلبة القرآن أو غلبة الإسلام؛ ولذا سأذكر الآن معنى الروح الذي ينطبق على هذه الدنيا وعلى الآخرة أيضا، وإليك بیانه.المراد من الروح هنا الروح الكامل لرسول الله ، والمراد من اليوم هنا يوم القيامة الذي سيشفع فيه النبي.وهذا المعنى ثابت من القرآن الكريم ومن الحديث كليهما.فقد صرح الرسول في حديث أن الناس سيكونون في فزع شديد يوم هنا هو روح القيامة، فأخر أمام الله تعالى ساجدًا وأشفع لهم.فثبت أن الروح النبي والمراد من قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا يوم القيامة الذي يقوم فيه النبي والملائكة صفا.أن قوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذنَ لَهُ الرَّحْمَنُ أيضًا يبين أن الحديث الشفاعة، لأن الشفاعة عن الأمر الوحيد الذي لا يتم إلا بإذن ولن يقوم بها إلا الذين يأذن الله لهم بها، حيث ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: عندما يأتي يوم القيامة فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي واعلم هنا هي (البخاري، كتاب التوحيد).فتثور رحمة الله تعالى، فينجي الكثير من النار.

Page 85

الجزء الثامن ۸۰ سورة النبأ ورُبَّ قائل يقول هنا : إذا كانت هذه الآية تتحدث عن الشفاعة فلم لم تصرح أن أناسًا آخرين يشفعون بالإضافة إلى الرسول ؟ والجواب أنك إذا ذكرت الملك فقد ذكرت وزراءه وحاشيته كونهم توابع له، فالقول إن الرسول ﷺ سيشفع يوم القيامة يشمل شفاعة الأنبياء والشهداء والصلحاء أيضا؛ لأننا إذا ذكرنا الروح الكامل فقد اندرجت فيه تلقائيا الأرواحُ التي دونه بما فيها أرواح الأنبياء.إذًا، فقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذنَ لَهُ الرَّحْمَنُ يدلّ بوضوح على أن الحديث هنا عن الشفاعة وأن المراد من الروح هنا تلك الروح التي ستقوم بالشفاعة وهي روح الرسول ﷺ وليس غيره.وقد وقع هذا الحادث في هذه الدنيا أيضًا، فعندما قامت روح الرسول ﷺ قامت معها الملائكة أيضًا، وفي هذه الحالة تُعتبر هذه الآية ذات صلة بالحروب الإسلامية، والمعنى أن محمدا ﷺ عندما يخرج لحرب العدو ستصاحبه الملائكة صفا لنصرته، وذلك يماثل قول الله تعالى (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخَمْسَة آلاف منَ الْمَلائِكَة مُسَوِّمِينَ (آل عمران:١٢٦)، وعليه سيُعتبر قوله تعالى ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوح وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا إشارةً إلى فتح مكة خاصة.فقد حضر المشركون إلى النبي ﷺ يوم الله 6 صل الله الفتح خائفين وجلين كشعب منهزم أمام ملك منتصر حتى لم يملكوا خطابه إلى أن سمح لهم بذلك بأمر من الرحمن.لا شك أن مشركي مكة كانوا يستحقون عقابًا شديدًا بحسب مبادئ العدل الإنساني، ولكن الله الرحمن أخبر رسوله الله بأنه قد قرّر العفو عنهم؛ فلما رجاه المشركون أن يعاملهم كما عامل يوسف إخوته فعل بهم الرسول الله ما علمه الله الرحمن في القرآن في قصة يوسف؛ إذ جعله مثيلا ليوسف عليهما السلام.والحق أن محمدا عندما عفا عفا بأمر من الله الرحمن.عنهم إنما ثم إن هذه الآية تُعتبر إشارةً إلى الموضوع الثالث أيضًا وهو غلبة الإسلام، وعليه فسيُعتبر قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ إشارةً إلى يوم يقوم فيه محمد ﷺ فاتحا، ويكون المراد من الملائكة القائمين صفا جماعته لله الذين يشبهون الملائكة في

Page 86

الجزء الثامن ۸۱ سورة النبأ شمائلهم، والمعنى أنه ستقام حكومة إسلامية منظمة في العالم، وسيخاطب محمد العالم مباشرةً.وسيكون المراد من قول الله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا أنه لن يتكلم في بلاط محمد الله إلا الذين قد أذن لهم الله تعالى، وأنهم لن يشيروا عليه الا الله إلا بقول صائب.وبتعبير آخر قد أخبر الله تعالى هنا أنه سيعطي محمدا لله جماعة من أكبر مزاياهم أنهم لن يتكلموا بكلمة إلا بإذن الله ، ولن يفعلوا شيئًا إلا بإذن الله ، ولن يقولوا إلا ما يتفق وأحكام الله ، ولن يعملوا إلا بحسب أوامره الله أما من سواهم فإنهم يتبعون أهواءهم بغض النظر عما أحل الله لهم وحرم، فمثلاً لم الله بمشاهدة رقص البغايا، ولكنهم يحضرون رقصهنّ، ولم يأذن بسماع الأغاني السيئة الهابطة، ولكنهم يجدون المتعة كلها في سماعها، ولم يأذن الله بإضاعة الوقت في قراءة القصص التافهة، ولكنهم يصرفون معظم أوقاتهم في قراءة الكتب والروايات الهابطة.فكل ما يفعلونه خلاف إذن الله ومشيئته، ولكن الله تعالى قد أتى محمد الله جماعة لا يتكلمون إلا إذا أذن الله ولا يقدمون له إلا المشورة الصائبة الحقة دونما تملّق.يسمح لهم، إذا ، ترسم هذه الآية لنا صورة بلاط محمد وفي هذه الحالة لا يراد بقيام الروح قيامًا ظاهرا ، بل يراد به غلبته على الناس، والمراد أنه عندما يقوم هذا الروح الكامل منتصرًا، ويقوم معه الملائكة صفا، فلن يتكلم أذن له الرحمن وقال صوابا..أي أن أصحابه سيتحلّون بميزة خاصة بأنهم لن يتكلموا إلا إذا أمرهم الله بالكلام، ولن يتكلموا إلا بقدر ما يأذن لهم به فلن يتفوهوا في مجلس نبيهم ، بلغو، بل سيكون حديثهم خاضعا لأحكام معه إلا من الله تعالى.وهناك إشارات أخرى في القرآن الكريم إلى هذا المعنى كقوله تعالى لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ (المائدة: ١٠٢)..حيث نهى الله تعالى أصحاب النبي ﷺ عن توجيه أسئلة عابثة، لأن ذلك خلاف لآداب مجلسه ، فقال لا تسألوا عما لا يرضى الله السؤال عنه، بل اسألوا عما يرضيه تعالى.وهذا نفس ما بينه الله تعالى في قوله لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا..أي أن صحابة النبي ﷺ

Page 87

الجزء الثامن ۸۲ سورة النبأ لا يتحدثون في مجلسه إلا ما أذن الله به، ولا يشيرون عليه إلا بمشورة صائبة صحيحة لا نفاق فيها ولا تملق ولا ،خوف ولا منفعة شخصية، ولا هوى النفس.شرح ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقِّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ، مَتَابًا (3) الكلمات: الحق: هو الأمر المقضي الموجود الثابت.(الأقرب) مَابًا : المآب: المرجع والمنقلب.(الأقرب) التفسير : ذَلكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعني ذلك اليوم الواقع الثابت.أما قوله تعالى ﴿فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَابًا فالمآب ما يرجع إليه الإنسان مرارا لما كان الإسلام يعتبر الله تعالى معشوق المؤمن، فقد بين الله تعالى هنا أنكم إذا كنتم صادقين في دعوى العشق، فاتخذوا الله مابا..أي كلما فرغتم من مشاغل دنياكم ارجعوا إليه تعالى، ولا تكنوا الحب والعشق إلا له.وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى نفسه في مكان آخر حيث قال فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ - وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (الشرح: ۸-۹)..أي إذا فرغتم من مشاغل الدنيا فارغبوا إلى الله واتخذوه مابا وارجعوا إليه مرة تلو الأخرى.فمثلاً إذا كان المرء يؤلّف كتابًا فعليه أن يسبّح الله تعالى كلما انتهى من تأليف جملة، وإذا كان يتناول الطعام فعليه أن يحمد الله وهو يمضغ كل لقمة، وهكذا يجب أن يكون الله وحده ،مآبه ولا يتوجه حقيقة إلا إليه الا الله.فالآية إشارة إلى أن يوم غلبة الإسلام ،قريب ومن الطبيعي أن يتمنى كثير من الناس أن يكون لهم نصيب من هذه العزة، فليعلم هؤلاء أنهم إذا كانوا يتمنون حقا أن ينالوا نصيبا من عزة الإسلام فليتخذوا ربهم مآبا ولينيبوا إليه مرة بعد أخرى.فكلما فرغوا من مشاغل دنياهم فليتوجهوا إلى ذكر الله تعالى، ويزدادوا حبا له، ويسارعوا إليه ويتخذوه ملاذا لا يكفي الإنسان أن يؤدي الصلوات الخمس يوميًا ثلاثين يوما سنويًا، وإنما ينفعه أن يظل متوجها إلى الله كل حين، ويعود إليه ويصوم مرة بعد أخرى.•

Page 88

الجزء الثامن ۸۳ سورة النبأ إِنَّا أَنذَرْتَكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَلَيتَني كُنتُ تُرَاباً (1) شرح الكلمات : ٤١ أنذرناكم: أنذره بالأمر: أعلمه وحذره من عواقبه قبل حلوله.(الأقرب) التفسير: إن قوله تعالى إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يدل بوضوح أن الحديث هنا عن غلبة الإسلام وغلبة القرآن وليس عن عذاب الآخرة، حيث استدل الله بشيء على شيء آخر ، فقال أنذر ناكم عذابًا قريبا سيكون نزوله دليلا على عذاب بعيد.أما قوله تعالى (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا فهو بدل من عَذَابًا قَريباً ، والمعنى أننا نعني من العذاب القريب ذلك اليوم الذي يرى فيه المرء عاقبة أعماله.وليس المراد من الرؤية هنا أنه يراه صدفة، بل المعنى أنه وخيبة آماله وينال جزاء أعماله، ويرى أن المسلمين فشله سينكشف عليه بوضوح قد انتصروا، وأن أعداءهم قد خابوا وخسروا وذلوا.وهذا ما حصل بالفعل، فبانتصار النبي لا الهلال الرأى الكافرون مصيرهم، ونال المؤمنون جزاءهم، حتى إن ابن أبي قحافة (أبو بكر) تولّى زمام الأمر نتيجة انتصار الإسلام، وإلا فما كان لأبي بكر أن ينال هذه السيادة لم يكن أبو بكر له إلا تاجرا بسيطا في مكة، ولكن شتان بين هذا التاجر المكي البسيط المحروم من السيادة حتى على مكة، وبين خليفة يحكم الدولة الإسلامية.عندما توفي النبي كان أبو قحافة (والد أبي بكر في مكة، وكانت وفاته قد بثت الذعر بين المسلمين فكانوا قلقين فيمن يخلفه..فلما انتخب أبو بكر خليفة للرسول ووصل هذا الخبر إلى مكة أسرع بعض القوم إلى أبي قحافة وقال له : إن أبا بكر قد صار خليفة المسلمين.فقال أبو قحافة من أبو بكر؟ - أي أنه لم يكن يتصور أن ابنه يمكن أن يصبح خليفة - فقال البشير: هو ابنك.فأخذ أبو قحافة يذكر له أسماء مختلف القبائل ويسأله : هل رضيت بخلافته القبيلة الفلانية؟ فرد عليه في كل مرة بالإيجاب، مستوى

Page 89

الجزء الثامن حتى ٨٤ سورة النبأ سأله هل رضي بنو هاشم أيضًا؟ قال: نعم.فكبّر أبو قحافة وقال: لا شك أن محمدا رسول الله، لأن القبائل العربية ورؤساءها لم ترضَ بابن أبي قحافة سيدًا عليهم إلا بتأثير قوته الله القدسية فيهم..باختصار، إن قوله تعالى يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يعني أن كل واحد من القوم سيرى عاقبة عمله وبالفعل فقد رأى الجميع كيف صار زعماء العرب الكافرون أذلّة مهانين، وكيف دخل بنو هاشم وبنو عبد المطلب في طاعة ابن أبي قحافة.أما قوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا فيعني – نظرا إلى موضوع الآخرة – أن الكافر حين يرى العذاب يقول في حسرة: ليتني كنت ترابًا ولم أر العذاب.وأما نظرًا إلى هذه الدنيا فيعني أن الكافر سيقول: يا ليتني كنت ترابًا ولم أرَ هذا الخزي والهوان.وهذا ما حصل فعلاً زمن انتصار المسلمين وغلبتهم، فيمكنك أن تتصور مدى الحسرة التي كانت تعتصر قلوب كبار زعماء مكة ورؤسائها حين رأوا أن العبيد الذين آمنوا بمحمد (ﷺ)، والذين كانوا يحتقرونهم ويزدرونهم ويجرونهم في شوارع مكة ويسعون للقضاء عليهم صباح مساء، قد انتصروا عليهم، حتى إنهم ماثلون أمامهم الآن أذلة مهانين كالعبيد لا شك أنهم تمنوا عندها أن يكونوا ترابًا حتى لا يتعرضوا لهذا الذل والهوان والندم.جاء عمر له مرة إلى مكة في زمن ،خلافته، فحضر للقائه كبار رؤسائها الذين كانوا من عائلات عريقة شهيرة، ظانين أن عمر الله وقد صار ملكًا سيُعزهم لأنه يعرف عائلاتهم وسيستعيدون مجدهم الغابر وبينما هم يتحدثون معه معه الله حضر بلال ثم بعد قليل جاء خباب، ثم جاء بعدهما غيرهما من أوائل المؤمنين الذين كانوا في الماضي عبيدا الرواية التي وجدناها بهذا الصدد هي كالآتي: "لما قبض رسول الله ارتحت مكة، فقال أبو قحافة: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله.قال : فمَن وَليَ الناسَ بعده؟ قالوا: ابنك.قال: أرضيت بنو عبد شمس وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم.قال : فإنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله".الطبقات الكبرى: ذكر بيعة أبي بكر

Page 90

الجزء الثامن ٨٥ سورة النبأ لهؤلاء الرؤساء أو لآبائهم، وتعرضوا على أيديهم لأشد الاضطهاد زمن قوتهم.فكلما دخل أحد هؤلاء العبيد استقبله عمر بحفاوة وقال لهؤلاء أن يتأخروا ويفسحوا له عمر أن المكان في صدر المجلس، ولم يزل هؤلاء الزعماء يتأخرون حتى وصلوا الباب.لم تكن في تلك الأيام صالات كبيرة وإنما كان المجلس غرفة صغيرة، وحيث إن الغرفة الصغيرة لم تتسع لهم جميعا، فقد اضطر هؤلاء الزعماء إلى التأخر في كل مرة حتى وصلوا أماكن الأحذية فلما رأوا بأم أعينهم أنه كلما أتى عبد من هؤلاء أمرهم عمر بأن يتأخروا ويفسحوا له المكان حتى وصلوا إلى الأحذية، أصابتهم صدمة شديدة.لقد هيأ الله تعالى في تلك المناسبة أسبابا لإهانتهم، حيث جاء العديد من هؤلاء المسلمين العبيد واحدا تلو الآخر على فترات لا دفعة واحدة لو حضروا مرة واحدة لم يشعر هؤلاء الزعماء بإهانة شديدة.ولكنهم لما اضطروا مراراً للتأخر في المجلس من أجل العبيد أحسوا بإهانة شديدة لم يحتملوها فخرجوا من المجلس.ولما خرجوا أخذوا يقولون فيما بينهم انظروا إلى الذلة والهوان الذي لقيناه اليوم! لقد جاء هؤلاء العبيد واحدا تلو الآخر، وفي كل مرة أمرنا نتأخر حتى وصلنا إلى مكان الأحذية.فقال أحدهم من المذنب، عمر أم آباؤنا؟ لو فكرتم لوجدتم أن الذنب ليس إلا ذنب آبائنا الذي نلنا عقابه اليوم.فإن الله تعالى لما بعث رسوله عارضه آباؤنا ولكن هؤلاء العبيد آمنوا به، وتحملوا بصبر كل أذى في هذا السبيل.فنحن المسؤولون عن الإهانة التي أصابتنا اليوم في المجلس لا عمر.فقال له أصحابه صحيح أن الذنب ذنب آبائنا، ولكن هل من سبيل لإزالة وصمة العار هذه؟ ثم تشاوروا فيما بينهم، وقالوا لا نعرف لذلك سبيلا، تعالوا نسأل عمر فحضروا مجلسه مرة أخرى وقالوا تعلم أنت ونعلم جيدا ما تعرضنا إليه من إهانة في مجلسك.فقال عمر : أرجو المعذرة على ما حصل، لأن هؤلاء كان النبي يُعزهم في مجلسه، فكان من واجبي أن أُعزّهم في مجلسي.فقالوا: نحن نعلم أن الذنب ذنبنا، ولكن هل من سبيل إلى غسل هذا العار؟ ليس بوسعنا اليوم أن ندرك مدى النفوذ الذي كان يتمتع به هؤلاء الزعماء في مكة، أما عمر فكان يعلم قبائلهم جيدا، إذ ولد في مكة وترعرع فيها، وكان يعلم قوم

Page 91

الجزء الثامن كم ٨٦ سورة النبأ كان آباؤهم ذوي عزة ومنعة في مكة! كان يعلم أنه لم يكن بوسع أحد أن يرفع بصره أمامهم فلما سمع كلامهم تراءت أمامه الأحداث والأحوال الماضية كلها، فغلبته الرقة ولم يستطع الكلام، وإنما رفع يده وأشار بإصبعه إلى الشمال، أن المسلمين يحاربون الأعداء ناحية الشام فلو اشتركوا فيها فربما كفّر هذا عما صدر منهم في الماضي.فخرجوا من عنده ثم أعدّوا عدّتهم وارتحلوا إلى الثغور حيث كانت تلك الحرب الطاحنة دائرة فخاضوا غمارها، فلم يرجع حيًّا، بل استشهدوا فيها جميعا كما يذكر التاريخ وهكذا محوا وصمة عار وكان يعني منهم أحد عن قبائلهم.مناقب عمر بن الخطاب الله الله اللجوزي، الباب الثامن والثلاثون، ذكر عدله في رعيته) هذه هي حسرة هؤلاء الرؤساء الذين كانوا مخلصين ومؤمنين بالرسول ، فما بالك بالحسرة والندامة اللتين أصيب بهما الكافرون منهم.يمكننا أن نتصور كيف كانوا يموتون كمدًا قائلين ليتنا متنا قبل هذا وكنا ترابًا حتى لا نرى هذا اليوم المشئوم.بوسعنا أن نقدّر الخزي الذي لقيه الكافرون حين أُرغمت أنوفهم يوم فتح مكة لما رأوا أن القوم - الذين كانوا يؤذونهم بالسباب والضرب والجرّ في شوارع مكة، ووضع حجارة كبيرة حامية على صدورهم ليردّوهم عن الإيمان – يدخلون مكة ممتطين جيادهم بينما كان هؤلاء ينظرون إليهم مختفين في بيوتهم.لا شك أنهم يكونون قد قالوا بلسانهم مرارا ليتنا متنا قبل هذا ولم نر هذا اليوم المهين.باختصار، قد أخبر الله تعالى في أوائل أيام الإسلام نفسها عن الظروف التي سيمر بها الإسلام والمسلمون وبالفعل قد تحقق قول الله تعالى في حياة القوم الذين اعتبروا تلك الأنباء ضربًا من الخبل حيث رأوا بأم أعينهم أن الوضع انقلب رأسًا على عقب حسب هذه النبوءات.

Page 92

الجزء الثامن ۸۷ سورة النازعات سورة النازعات مكية، وهي سبع وأربعون آية مع البسملة الله بن الزبير.وقد أجمع المفسرون هذه السورة مكية عند عبد الله بن عباس وعبد على أنها مكية ولا يوجد أي اختلاف في هذا.(فتح البيان) إن ما يربط هذه السورة بالتي قبلها هو أن الله تعالى قد بين في السورة السابقة للكافرين أنكم تحتقرون المسلمين اليوم وتسخرون منهم لقلة عددهم متسائلين: أي انقلاب ستُحدثه هذه الحفنة من الناس في الدنيا؟ فاعلموا أنهم سينتصرون عليكم يوما، وتصبحون أذلة صاغرين.علما أن عدد المسلمين لم يكن قد تجاوز أربعين شخصًا لدى نزول السورة السابقة (النبأ)، ومع ذلك أخبر الله تعالى فيها أنه سيأتي يوم يصبح فيه المسلمون غالبين ويأمرون المشركين بمغادرة مكة.والواقع أن الأنبياء عندما يدلون بالأنباء يصبح الناس فئتين؛ فئة تنظر إلى الأمور كلها نظرة روحانية، فإذا قيل لهم قد قال الله كذا وكذا، فغاية ما يهتمون به هو هذا النبأ عن الله تعالى فإذا علموا بأن الله تعالى هو الذي قال هذا اطمأنوا موقنين بأنه واقع لا محالة وفئة أخرى لا يطمئنون وإن علموا أن هذه النبوءة صادرة من الله تعالى وليست افتراء بشر بل يريدون أن يروا في هذه الدنيا المادية آثارًا مادية دالة على تحققها.يقولون: كلما أراد الله تعالى فعل شيء سخّر له أسبابًا، ولا يقوم بشيء بدون سبب ولكنا لا نرى في الدنيا أية أسباب لتحقق هذا لا تطمئن ما لم يروا في الدنيا المادية آثارًا ظاهرة شاهدة على صدق مدى صحة صدور w النبأ.فنفوسهم تلك الأنباء، وإذا ظهرت الأمارات الظاهرة أيقنوا بتحقق النبوءة؛ لذا لما أنبأ الله تعالى بغلبة المسلمين حتى إنهم سيطردون المشركين من مكة قال الكافرون في حيرة: كيف يدعي هؤلاء القوم بغلبتهم على المشركين بحيث يطردونهم من مكة نفسها، مع أن عددهم لم يتجاوز الأربعين، والعدو يؤذيهم ويضطهدهم حتى يلقيهم على

Page 93

الجزء الثامن ۸۸ سورة النازعات الحجارة الحامية ويجرهم في الشوارع، ونحن لا نرى في الدنيا أية آثار لغلبتهم؟ فجاءت سورة النازعات" ردا على تساؤلهم، حيث بين الله تعالى فيها تفاصيل "المفاز" الذي وعد به المتقين في سورة "النبأ" بقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ مَفَازًا، ففصل كيفية انتصار المسلمين وازدهارهم والآثار التي تقنع هؤلاء المتسائلين حول غلبة المسلمين.لا شك أن المسلمين سينالون في الآخرة ما وعدوا من النعم، إلا أن الله تعالى قد أكد هنا أنه سيُهيئ أسبابًا لغلبتهم في الدنيا، لتكون دليلاً على صدق ما وعدهم به في الآخرة.وقد بين الله تعالى هنا تفاصيل تلك الفترة من رقي المسلمين، كما أنبأ عن نشوب الحروب أيضا.فكأنه تعالى يقول للكافرين: تسألون كيف تتمّ غلبة المسلمين وازدهارهم فجوابنا أن حروبًا ستندلع وستؤدي إلى غلبتهم وازدهارهم وبتعبير آخر سيتوجه المسلمون بعد إصلاح نفوسهم، إلى نفس السلاح الذي يُستخدم ضدهم اليوم تُغيرون عليهم اليوم بالسيف لإيذائهم واضطهادهم، لكنهم يكفّون عنكم أيديهم متمسكين بأهداب الصبر عملاً بأمر الله تعالى، ولكن الله عندما يرى أنكم لا ترتدعون عن اضطهادهم سيأذن لهم برفع السيف ضد السيف ليذيقكم وبال ظلمكم.سنجعل المسلمين، بعدما تتم تربيتهم ول الروحانية، يصحون كما يصحو النائم من نومه، ونقول لهم تعالوا هبوا الآن و قارعوا السيف بالسيف.إنهم الآن كالأسد النائم الذي يمكن أن تعلوه الفأرة، ولكنه حين يفيق من سباته فلن يقدر على مواجهته المحارب المدجج بالسلاح.إذًا، فإن الله تعالى يخبر في هذه السورة أن المسلمين سيظلون بأمر منا رقودًا أول الأمر ليصب عليهم الكافرون ما شاءوا من الظلم ولن يرفعوا أي شكوى على ظلمهم، حتى إذا أيقن الكافرون أن المسلمين ليسوا إلا تماثيل من الطين وأنهم قادرون على إيذائهم كيفما شاءوا، أيقظنا هذا الأسد النائم فيهبٌ من نومه مجلجلا، ولن يستطيع أحد مواجهته.عندما يهب أسدنا هذا من رقاده بأمر منا ستبدأ سلسلة حروب طويلة تهيئ الأسباب المادية لغلبة المسلمين وازدهارهم.لا شك أن هذا الأمر أيضًا نبأ غيبي، ولكن المرء إذا علم كيفية تحقق نبأ ما بشكل مادي اطمأن إلى حد ما وقال في نفسه : إذا تحقق هذا الأمر تحققت النبوءة أيضا.كان المنكر يظن أن من

Page 94

الجزء الثامن ۸۹ سورة النازعات القرآن ربما يدعي في سورة "النبأ" أن الملائكة سينزلون ويُكرهون الناس على الإسلام، ولكن الله تعالى عندما أخبر بهذه الأسباب المادية لغلبة الإسلام كان ذلك أدعى لأن تقتنع النفوس الراغبة في رؤية الأسباب المادية وتطمئن.شرح الكلمات : مِ اللهِ الرَّحمن الرّحيم وَالنَّزِ عَنتِ غَرْقًا : ؛ النازعات: نزع الشيء من مكانه نَزْعًا: قلعه؛ ونزع الأميرُ العامل عن عمله عزله ونزع بالسهم: رمى به؛ ونزَع في القوس: مَدَّها أي جذب وَتَرَها؛ ونزع عن القوس: رمى عنها؛ نزَع الدلو: جذبها واستقى بها؛ ونزع المريض: أشرف على الموت؛ ونزع عن الأمر نُزوعًا كَفَّ وانتهى عنه ونزع الولد أباه، أو إلى أبيه نزوعًا : أشبَهَ أباه ونزَع إلى الشيء نزاعا ذهب إليه ؛ ونزع بفلان إلى كذا: دعاه إليه؛ ونزع الرجل إلى أهله نزاعةً ونزاعًا ونُزوعًا: اشتاق.(الأقرب) غَرْقًا وليكن معلومًا أننا نستعمل "غَرْق" في اللغة الأردية بمعنى الموت في الماء، ولكن الغَرْق لا يُستعمل في العربية بمعنى الغَرَق؛ حيث يقال: غَرَقَ غَرَقًا.والحق أن لفظ غَرْقًا الوارد هنا هو مصدرُ (أغرَق)، وكأن الغَرْق هنا بمعنى الإغراق، ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى عن الحجارة: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة الله ﴾ (البقرة : (٧٥ ) ، والجميع متفقون على أن خشية الله هنا بمعنى إخشاء الله.وأغرَقَه في الماء: غرَّقه؛ وأغرق الكأس : ملأها؛ وأغرق النازعُ في القوس: استوفى مَدَّها، يقال أغرق النَبلَ : إذا بلغ به غاية المدّ في القوس؛ وأغرق فلان في الشيء: بالغ فيه وأطنب وأغرق الناس فلانا : كثروا عليه فغلبوه.(الأقرب) فقوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا يعني: 1 الكائنات التي تقلع الشيء من جذره قلعًا ٢ - أو الفئات التي تتقن أعمالها إلى أقصى حد الإتقان.

Page 95

الجزء الثامن ۹۰ سورة النازعات ٣- أو الفئات التي تعزل حاكمها وتبلغ القمة في تدابيرها وخططها.٤ - أو فئات الرماة التي تمد النبل بقوة حتى تبلغ به غاية المددّ في القوس.٥ - أو الفئات التى تجذب الدلو جذبًا لتسقي الناس.- ٦ - أو الجماعات التي تتجنب أمورًا معينة كل التجنب.۷ - أو الجماعات التي تشبه آباءها الماديين أو الروحانيين، غاية الشبه.- أو الجماعات التي في قلوبها رغبة عارمة لتحقيق أهدافها.۹ - أو الجماعات التي تدعو الناس إلى هدفها بحماس شديد.التفسير: اعلم أن الواو في قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا للقسم، أما الواو في الآيات التي تلتها فهي للعطف.يقول الله تعالى نُقسم بالنازعات غَرْقًا.هناك ثلاثة حروف للقسم في اللغة العربية هي: الواو والباء والتاء؛ وحرفُ (الواو) هو أكثرها استعمالا، ولكن (الباء) هو الحرف الأصلي للقسم.ويظهر (الباء) مع فعل القسم فيقولون: أقسم بالله ولكن لا يقولون أبدا: أُقسم تالله أو أُقسم والله؛ وهذا يكشف أن الحرف الأصلي للقسم هو (الباء)، غير أنهم يستخدمون (الواو) و(التاء) أحيانًا، وكأن الواو والتاء تابعتان للباء في القسم.إن جميع الأقسام – التي وردت في القرآن الكريم بمعنى الإدلاء بالشهادة – تبدأ بالواو لا بالتاء ولا الباء، ويمكن أن نستنتج من ذلك أن الواو أنسب للشهادة التي يستشهد فيها الأعلى من دونه أي يستشهد فيها الله ،بخلقه، حيث يقول الله تعالى هنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، ولم يقل: "النازعات غَرْقًا".فلسفة أقسام القرآن: رغم أن هذا ليس مجال هذا البحث، إذ كان مكانه الطبيعي تلك السور الكثيرة السابقة التي قد جاء فيها القسم، ولكن حيث إننا ننشر تفسير هذه السور الأخيرة من القرآن قبل تلك السور، فنورد هذا البحث هنا مثلما فعلنا ببحث الحروف المقطعة في سورة يونس التي نشرنا تفسيرها قبل تفسير سورة البقرة.إذًا، فلا بد هنا مناقشة أسباب قسم الله تعالى ببعض الأشياء في القرآن الكريم، ونرى ما إذا كانت هذه الأقسام من قبل الله تعالى أم من قبل العباد؟ من

Page 96

الجزء الثامن ۹۱ سورة النازعات إن التدبر القليل يكشف لنا أن هذه الأقسام ليست من العباد، لأن الموضوع المذكور بعدها لا يمكن أن يكون من قبل العباد، حيث يقول الله تعالى بعدها مثلاً: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ ) ، وهذه نبوءة، والإنسان يجهل الغيب فلا يستطيع أن يدلي بالنبوءات، وإنما يتنبأ من يعلم الغيب.فثبت أن هذه الأيمان عند الله تعالى.من وهنا ينشأ سؤال: ما الحكمة في هذه الأقسام الواردة من قبل الله تعالى في آيات قرآنية عديدة؟ إن الإنسان يحلف بالله تعالى لأنه تعالى قاهر فوق العباد ، ولا قبل لهم به؛ فكأنه يقدّم الله تعالى شاهدًا على صدق دعواه ويقول لو كنت كاذبا في حلفي بالله فإنه تعالى قادر على إهلاكي، وإن لم يفعل فاعلموا أنه يشهد على صدقي.ولكن ليس فوق الله تعالى أحد حتى يجعله شاهدًا على صدق ما يعلن، وهنا ينشأ السؤال التالي : ما دام كل شيء هو أدنى من الله تعالى شأنا وقدرة، فما الفائدة في قسم الله تعالى في القرآن بمختلف الأشياء؟ إذا كان الإنسان يحلف بمن فوقه، فلماذا يقسم الله تعالى بهذه الأشياء مع أنه فوق الجميع وليس فوقه أحد؟ معنى القسم من لقد سبق أن بينت أن مفهوم الحلف هو أن الحالف يقصد بحلفه أن الله تعالى يكره الكذب ويأمر بالصدق، فلو كذب في قوله خالف أَمْرَ الله تعالى، وأثار غضبه عليه؛ فلذا يُقسم بالله تعالى إنه صادق فيما يقول، وإذا كان كاذبًا فليعاقبه الله على كذبه وعصيانه لأنه أوّلاً قد خالف أمر الله تعالى بقول الصدق، فلجأ إلى الكذب بدلاً الصدق، وثانيًا ارتكب ذنبًا زائدا بأن جعل الله شهيدًا على أنه صادق فيما يقول.إذًا، فإنه عصى الله تعالى الذي أمرنا بقول الحق الله تعالى الذي أمرنا بقول الحق من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكذب فقط بل حاول أن يجعل الله تعالى شريكا في كذبه إذ قال إنه تعالى شاهد على صدق ما يقول.والظاهر أن المرء لو ارتكب ذنبًا لم تثر غيرة الله عليه كما تثور عندما يرتكب ذنبًا ثم يريد أن يجعل الله شريكا في ذنبه أيضا.لا جرم أن غيرة الله تثور ضد كل ذنب، بيد أن هنالك فرقًا بين الكاذب العادي وبين الكاذب الذي يجعل الله شهيدًا على ما يقول؛ فمثله كمن يشرب الخمر وإذا لامه أحد أشار

Page 97

الجزء الثامن ۹۲ سورة النازعات إلى أحد الأتقياء الذي يحترمه الناس وقال : إنه أيضًا يشرب الخمر؛ فيزداد غضب الناس عليه وتوبيخهم له حيث يقولون: تشرب الخمر وتضم شخصا تقيا إلى إثمك؟! كذلك يسخط الله على كل إثم، ولكن المرء إذا حلف كذبًا أثار غضبه أكثر؛ إذ حاول أن يضم الله تعالى إلى كذبه وافترائه.فالحق أن قسم المرء يعني إشراكه الله تعالى في فعله فإذا كان ما يحلف به أمرًا حقا، فلا حرج في قسمه، كأن يقول أحلف بالله أنني أصلّي، فإذا كان يصلّي بالفعل، فلن تثور غيرة الله عليه، لأن الله تعالى يعلم أنه صادق فيما يقول؛ ولكن إذا لم يكن ذلك حلف بالله أنه يصلى فإنه قد أراد في الواقع أن يجعل الله تعالى يصلي، ومع شريكا في كذبه وخداعه؛ وبالتالي أثار عليه غيرة الله تعالى.إذًا، فإن هدف الحالف طَمأنة السامعين في الواقع، لأنه عندما يحلف بالله على فعله فإن الله تعالى لا يشهد بلسانه على صدقه، ولم يحدث قط أن الله تعالى قال للناس إن عبدي هذا يصدقكم القول، ومع ذلك فإن الحالف يدرك أنه لو حلف كذبا فلا بد أن يبطش الله به، كما يدرك السامع أيضًا بأنه لو كان كاذبًا في يمينه وجعل الله شريكا في كذبه، فلن يتركه الله تعالى بدون عقاب.إذًا، فالحلف له هدفان أولهما أن الحالف يُطَمئن الآخرين بأنه موقن بصدقه لدرجة أنه يُشهد الله على ما يقول، وكأنه يقول إن علمي وعلم الله متوافقان، وأن الله يعلم ما أعلم بهذه القضية، وأنه لم يقل شيئا خلاف الحقيقة.وثانيهما: أن السامع يُطْمَئن بأن الحالف ما دام قد جعل الله شريكا في قوله فلا داعي للقلق لأن الله تعالى سيتولى عقابه إذا كان كاذبًا فيما قال.باختصار، هذه الحكمة في القسم بأن المرء من ناحية يُبدي اتحادًا تعالى، بمعنى أنه يقول إن علمه وعلم الله تعالى متوافقان بهذا الصدد، وإن ما يعلم هو في تلك القضية.مثلاً عندما يقول الحالف أُقسم بالله تعالى أن زيدًا قد ذهب إلى لاهور، فإنه يعني أن علمه وعلم الله - الذي هو عليم وخبير بكل ما في السماوات والأرض والذي لا تخفى عليه خافية - متوافقان بهذا الشأن، هي مع الله ومن الله يعلم ناحية

Page 98

الجزء الثامن ۹۳ سورة النازعات أخرى يطمئن السامع بأنه لو كان كاذبا فيما يقول فإن الله تعالى بنفسه سيبطش بید الله به، وإذا بطش به نعلم أنه كان يفتري فيما يقول.إذَا، للقسم هدفان: أحدهما أن الحالف يجمع علمه مع علم تعالى، أي يقول إن علمي وعلمه متوافقان بهذه القضية؛ والثاني أنه يتحدى عقاب الله تعالى إذ يعني أنه إذا كان كاذبًا فيما يقول باسمه تعالى فإنه مستعد لبطش الله وعذابه.أن الله تعالى ليس فوقه حاكم ومن المستحيل أن يعاقبه أحد؛ فيطرح هنا السؤال التالي :نفسه: ما الفائدة في قسم الله ببعض الأشياء؟ فإن الإنسان عندما يحلف بالله على شيء فيعني أنه يجعل الله تعالى شريكا في فعله، وأنه تعالى سيعاقبه إذا كاذبا في حلفه، أما الله فلا يمكن أن يحاسبه أحد.والأمر الثاني الذي يستهدفه الحالف بالله تعالى أنه يعلن أن علمه وعلم الله تعالى متوافقان في تلك القضية، وهذا الهدف أيضًا لا يوجد في قسم الله بأشياء أخرى، لأن الله غالب على الجميع في علمه حتمًا، فلا فائدة في أن يدعم قوله باعتبار علمه قوله باعتبار علمه متوافقا مع علم الآخرين، وبالتالي من المحال أن الله بعلم المخلوق على صحة علمه الا الله فما الفائدة أن يُقسم الله تعالى بالمخلوقات التي لا حول لها ولا قوة أمامه تعالى، ولا يساوي علمها أمام علمه سبحانه شيئًا ؟ فيمكن للطالب مثلاً أن يقول لزملائه إن ما أقوله هو الحق، وبوسعكم أن تسألوا أستاذنا في ذلك، ولكن الأستاذ لا يقول أبدًا: إن ما أقوله صحيح، فاذهبوا إلى تلميذي فلان لتتأكدوا منه فأعداء القرآن يعترضون عليه قائلين: إن مثل هذه الأقسام عبثية ووجودها في كلام الله تعالى يتعارض مع العقل.مفهوم القسم في اللغة العربية قبل الرد على اعتراضهم لا بد من معرفة مفهوم القسم في العربية، لأن القرآن الكريم قد نزل بها، وإذا فهمنا معنى القسم فهمنا الحكمة في قسم الله بالأشياء يشهد الأخرى.من هناك ثلاث كلمات تُستخدم بمفهوم القسم في العربية: الحلف واليمين والقسم.والقسم مفهوم لنا سلفًا.

Page 99

الجزء الثامن ٩٤ لنا سورة النازعات أما الحلف فيقال: حلف بالله حلفا : أقسم به (الأقرب).وهذا المعنى للحلف لا يزيدنا معرفة، بل يشير إلى المفهوم الشائع للقسم؛ ولذا لا بد من تحرّي مفهوم الحلف نظرًا إلى اشتقاقيه الصغير والكبير، حتى نعلم المفاهيم المنطوية في لفظ الحلف.فاعلم أن جميع مشتقات الحلف، سواء من الاشتقاق الكبير أو الاشتقاق الصغير، تدل على مفهوم القسم إلا (الحلفاء)، فهي نبت أطرافه محدّدة ينبت في مغايض الماء.(الأقرب) ؛ أما لفظ (الحليف) فهو كل شيء لزم شيئا فلم يفارقه والحديدُ من كل شيء الأقرب).فحروف (حلف) تنطوي على معنيين، أولهما لزوم الشيء شيئا، والثاني كون الشيء حادًا.والآن نتوجه إلى المشتقات الأخرى لحروف (حلف)، وهي خمسة: حفل، لحف، لفح، فحل، فلح.ولنأخذ (حفل) أولاً.ومشتقات (حفل) كلها تدل على الاجتماع والكثرة، تعني الجلسة والاجتماع حيث يجلس الناس بعضهم مع بعض.وهذا هو فالحفلة مفهوم (الحليف) إذ يعني لزوم الشيء شيئا بحيث لا يفارقه.والحفل الاجتماع، يقال حفل القوم: احتشدوا واجتمعوا (الأقرب).ومن معاني الحفل إبلاغ الأمر أقصى حد يقال احتفل فيه: بالغ، واحتفل بالأمر: أحسن القيام به.(الأقرب).وهذا المفهوم يدل على معنى الملازمة وعدم المفارقة، لأن المرء لا يبالغ في عمل إلا إذا لازمه ولم يفارقه كذلك لا يحسن المرء القيام بشيء إلا إذا واظب عليه وثابر ؛ لأن من الناس من يبدأ العمل ثم يتركه ولا يكمله لافتقاره إلى المثابرة، أما الشخص الناجح فيثابر على عمله وكأنه يلازمه ولا يفارقه.فثبت أن هذا المعنى أيضا يدل على ملازمة الشيء شيئا.أما (الحف) فيدل على لفّ الشيء والادّثار به والتغطي به، ومنه لفظ (اللحاف) المستعمل في لغتنا الأردية ،أيضا، حيث نلفه حولنا عند النوم فيغطي الجسم طول الليل.

Page 100

الجزء الثامن ۹۵ سورة النازعات أما (لفح)، فيحتوي على معنى اللمس والمس، يقال لفحه بالسيف: ضربه به (الأقرب).وهذا المعنى للفح ينطوي على المعنى الثاني أيضا أعني إلحاق الضرر.وكذلك يقال: لفحته النار: أحرقته، وفي "اللسان": أصابت وجهه.واللقاح نبت يُشَمِّ.(الأقرب).إذًا، فاللَّفْحُ يدل على اللمس والمساس وإلحاق الضرر.أما (فحل) فالفحل : الذكر من كل حيوان (الأقرب).وهذا المعنى أيضا يتضمن معنى اللمس، لأنه يلتصق بأنثاه عند السفاد.ومن معاني الفحل الراوي (الأقرب)، والراوي أيضًا يلازم من ينقل عنه الروايات والفحلة من النساء: السليطة (الأقرب)..أي التي إذا تكلمت معها صعب عليك التخلص منها.وهذا المعنى يوجد في لغتنا (الأردو) أيضا، حيث نقول: هلا انتهيت عن الكلام وتركتني؟ فهذه الكلمة أيضا تدل على معنى الملازمة وإلحاق الضرر.أما (فلح) فمنها الفلاح: أي الفوز والنجاح هذا المعنى أيضا ينطوي على مفهوم ملازمة الشيء، لأن الذي ينال بغيته لا ينفصل عنها، ولا يدعها تقع في أيدي الآخرين.من معاني (الفلح) شقُ الشيء، ومنه الفلاح الذي يشق الأرض بالمحراث شقا.والفلّاح يعني أيضا المجداف يحرّك به الملاح السفينة.وهنا أيضا نجد معنى الشق حيث يشق الماء ويدفع السفينة (الأقرب).تتلخص هذه المعاني كلها بما يلي: ۱- ملازمة الشيء الشيء، أو اتحاد الشيء بالشيء، فالحليف من يلازم صاحبه ولا يفارقه، و(الحفلة) هو الاجتماع والاتحاد واللحاف ما نلتف ونتغطّى به عند النوم، و(اللفح) مس من شعلة نار، و(اللقاح) نبتُ يُشمّ، أَي يُقرَّب الأنف، من و (الفحل) الذَّكَرُ يلتصق بأنثاه، و(الفحل) أيضا الراوي الذي يلازم صاحبه لأخذ الروايات عنه، و(الفحلة) المرأة السليطة التي لا تبرح تلاحقك بحديثها القاسي، و(الفلاح) النجاح ونيل المرء بغيته، فهذه المفاهيم كلها تدل على الجمع واللصق والربط.بيد أن هنالك معنى آخر في هذه الكلمات المشتقة من الإحراق بالنار والضرب بالسيف وشقُّ الأرض أو شق الماء، وهذه كلها معاني الإيذاء والإحراق والضرب.الحلف وهو

Page 101

الجزء الثامن ٩٦ سورة النازعات وهذان المعنيان لحروف (ح ل (ف) كلاهما موجود في المفهوم العام للقسم.إذًا، كلما اجتمعت حروف (ح) ل (ف) في العربية دلت دائما على معنيين؛ أولهما إلصاق الشيء بالشيء، وثانيهما شق الشيء وإحراقه وإلحاق الضرر به.وعليه اتحاد الواحد بالآخر بحيث يُخاف على الفرقة والمعارضة بينهما.وهذا هو الغرض من الحلف، فإن الحالف يجعل مَن يحلف به شاهدًا له ونصيرا على ما يقول، بشرط أنه لو كان كاذبًا فإن صاحبه هذا سيعاقبه ويشهد على كذبه.إذا، فالحلف يعني فحلف العبد بالله ناحية، أنه يعني، من يضم الله تعالى إلى نفسه ويقول إن الله معي وأن علمه يصدق ما أقول، ومن ناحية أخرى يعني أنه لو كان كاذبًا فلا بد أن يُشَق ويُحرق ويُباد من قبل الله تعالى.هذا فيما يتعلق بكلمة الحلف.والكلمة الثانية هي القسم، يقال أَقسَمَ بالله وأُقسم بالله.والثلاثي المجرد له هو قَسَمَ، يقال قَسَم الرجلُ المالَ جزأه أو فرزه أجزاء؛ وقسم الدهرُ القومَ: فرَّقهم؛ وقسَم فلان أمره : قدّره ونظَر فيه كيف يفعل، أو لم يَدْرِ ما يصنع فيه.(الأقرب) يعني وحيث إن قولهم أقسم بالله نعرف حقيقة معنى الإقسام على ضوء ثلاثيه المجرد وحيث إن فعله من ثلاثيه المجرد، أي "قَسَمَ"، هو فعل متعد، فيُعتبر "أقسم" معاكسًا لمعنى "قَسَمَ"، لأن السلب أحد خصائص "الإفعال"، بمعنى أنه إذا كان قولهم "قَسَمَ الشيء" يعني فرَّقه وجزاه، فإن جملة "أقسم الشيء" سيعني عكس ذلك أي أزال التجزئة والفرقة من شيء، أي جمعه.إذًا، فالإقسام يعني الجمع، وهذا هو أحد معاني الحلف أيضًا.ويقال : قَسَمَ فلان ،أمره أي لم يَدْرِ ما يصنع فيه، وعليه فيكون المراد من "أقسم فلان أمره : أزال حيرته وتردُّده.وهذا المعنى أيضًا يتضمنه لفظ الحلف، لأن الحالف حلف به وليس له معنى آخر في العربية، فعلينا أن 11 ورد في مقدمة قاموس "المنجد" تحت عنوان مزيدات الأفعال، وتحت "أَفْعَلَ" في معرض بيان خصائص "الإفعال" ما يلي: "۹ - السلب نحو أشفى المريضُ: زال شفاؤه." (المترجم)

Page 102

الجزء الثامن ۹۷ سورة النازعات يحاول إزالة تردُّد الناس وجَعلَهم يوقنون بأن ما يقوله هو الحق وأن الله شاهد على صدق ما يقول.إذًا، لو اعتبرنا الهمزة في الإقسام تفيد السلب فصار معنى الإقسام بمعنى الحلف تماما، أي كما أن الحلف يدل على ضم الشيء وجمعه، كذلك يعني الإقسام جمع أجزاء الشيء وإزالة فرقته وكما أن الحلف يفيد إزالة التردد، كذلك يفيد الإقسام الغرض نفسه.واللفظ الثالث للقسم في العربية هو اليمين، ولكنه لا يتضمن إشارة مباشرة إلى القسم، بل يُستخدم بمعنى القسم لأن العرب إذا تحالفوا ضرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه"، ومن هنا استخدم لفظ اليمين للقسم أيضا (اللسان).وكأنه يشير إلى وسيلة ،القسم وليس له كلمات معينة في اللغة.إذًا، فكلمتا الحلف والقسم فقط تدلان على معنى القسم في العربية، وكلتاهما، كما من قبل تدلان على الاتحاد وإزالة الشك والتردد وإنزال العقوبة وقطع العلاقة.بمعنى أن الإنسان يقصد بالقسم اتحاده مع الله تعالى من ناحية، أعني أنه متوافقان في هذه القضية، ومن ناحية أخرى يعلن أنه لو بينت الله يقول إن علمي وعلم كان كاذبًا فيما يقول فليعاقبه الله تعالى.إذًا، فغرضُ القسم عند العرب إعلان الحالف اتحاده مع الآخر ليكون هذا دليلا على صدقه ومطالبته بالعذاب والهلاك في حالة كونه كاذبًا في ذلك.والآن نرى ما إذا كان قسم الله تعالى بهذا المعنى جائزا أم لا، وإذا أقسم الله تعالى بشيء فهل ينطبق هذا المعنى أم لا؟ نحن نعلم أن الله تعالى إذا قال شيئًا فلا يسع الإنسان إنكاره؛ لأننا نؤمن أن الله موجود، وإذا قال تعالى أن الأمر الفلاني هكذا فليس لنا سوى القبول، ولا يسعنا إنكاره بحال.بيد أن هنالك أمرًا لا يفهمه الناس فيسبب حجر عثرة لهم، وهو لا نرى الله تعالى بأعيننا لأنه وراء الوراء، و لم يحدث قط أن السماء انشقت وظهر منها، وقال: أنا الذي قلت كذا وكذا لمحمد والموسى أو لعيسى أو لزرادشت أو لكرشنا عليهم السلام عندما بعث نوح ال قال قد أخبرني الله بكذا، وعندما العليا الله أننا

Page 103

الجزء الثامن ۹۸ سورة النازعات من جاء إبراهيم ، قال : هذا ما أمرني الله به، ولما ظهر موسى العليا، قال: هكذا قال الله لي، وعندما بعث عيسى الله قال هذا ما أمرني الله به، وحينما جاء محمد قال إن الله قد قال لي كذا وكذا ولكن أقوامهم لم يروا الله تعالى بأعينهم، وإنما كان الإنسان هو المتكلم معهم وليس الله تعالى.وحيث إن الله تعالى لا يُرى، فإن وحيه الذي أنزله يظل بحاجة إلى دليل على أنه نزل من عنده تعالى، وإن كان ما يقوله الله تعالى لا يجوز إنكاره.إذًا، فلا شك أن الله تعالى ليس بحاجة إلى دليل لإقناع الناس بما يقول، ولكن كلامه يظل بحاجة إلى دليل يثبت أنه منه سبحانه؛ لأن الناس لا يسمعون الوحي فمه تعالى مباشرة، وإنما يسمعونه من فم البشر مثلهم.فثبت أن الذين يقولون: ما الداعي لأن يُقسم الله تعالى بأشياء أخرى إنما هم مخدوعون؛ ذلك لأن الناس وإن صدقوا أن متلقي الوحي موقن أن وحيه من عند الله تعالى، إلا أن يقينه لا يجعل كل من يسمعه يوقن مثله.فمثلا، إني أؤمن بالقرآن الكريم إيمانا كاملا، وإذا قدّم القرآن أمامي أمرًا ولو بدون قسم، فسأوقن أنه حق وأصدق بما يقول، ولكن الذي لا يؤمن بالقرآن هو بحاجة إلى دليل على صدقه ؛ إذ كيف يؤمن بدون دليل بأن ما يُقال له هو من عنده سبحانه وليس من افتراء بشر؟ ولولا هذا الدليل في وحي الله تعالى لكان أكبر أضراره أنه لم يبق هناك ما يميز بين النبي الصادق والكاذب ولم يعرف الناس ما إذا كان الذي يتكلم معهم يتلقى وحي الله تعالى فعلا، أم أنه يقدّم لهم مفترياته.إذَا، فمثل هذا الدليل ضروري ليس لأن بعض الطبائع البشرية لا تؤمن إلا إذا اطمأنت إلى أن صاحب الوحي موقن بكون وحيه من الله تعالى فحسب، بل أيضًا ليوقنوا أنه فعلاً الله تعالى، وأن صاحبهم لا يفتري على الله تعالى.أما إذا عرض عليهم وحي الله بغير دليل، وإذا طلبوا منه الدليل على صدقه قال: إن وحي الله تعالى ليس بحاجة إلى برهان ألا يكفيكم أني أقول لكم إن الله تعالى هو الذي وحي قد أنزله، فقد يخرج عليهم كذاب ويقول: إن الله تعالى قد أوحى إلي كذا وكذا، وعندها يحتار الناس ولن يعرفوا الصادق من الكاذب لأن كل واحد منهما يدعي

Page 104

الجزء الثامن ۹۹ سورة النازعات أن الله تعالى قد بعثه؛ وحيث إن هذا الوضع لا يميز الصادق من الكاذب، فقد فرض الله على نفسه أن يقدم البراهين الدالة على صدق وحيه، قمعا لفتنة المتنبئين الكاذبين وكشف افترائهم أمام الناس.فلو أن إبراهيم العلا قال للناس ما دمت هي وحي الله هو أقول لكم إن الله تعالى قد قال لي كذا فلماذا لا تؤمنون، ولو قال موسى إن تعالى قد كلمني بكذا وكذا فلماذا تسألون الدليل على ذلك، ولو قال عيسى إن ما أقول لكم قد أوحاه الله إلي، فما الداعي إلى التدليل على ذلك، ولو اتبع زرداشت وكرشنا ورام تشندر الأسلوب ذاته، لخاف الناس خوفًا شديدا ولصدَّقوا كلّ مدّعِ في عصرهم دون أن يطالبوه بأي ،برهان وبالتالي لانتشر الكذب واشتبه الحق لأن المتنبئين الكذابين يظهرون في كل عصر.فقمعًا لهذه الفتنة فرض الله على نفسه تقديم الأدلة على صدق الوحي الذي يُنزله على رسله، لكي تُقدَّم لكل سائل فيقال له: هذه البراهين الدالة على أنه الله تعالى وليس افتراء بشر.فلما كان التمييز بين الصادق والكاذب ضروريًا، فلا يتنافى مع عظمة الله تعالى أن يقدم دليلا يؤكد أن الكلام المنسوب إليه هو وحيه حقا، بل هذا هو مقتضى رحمته تعالى.إن المبعوث الرباني إذا لم يستطع تقديم دليل على أن ما ينسبه إلى الله وحيه تعالى فعلاً، بل إذا طولب بدليل على صدق دعواه اعتبره إساءة إلى الله تعالى، لعمّت الفوضى، ولقام كل يوم مدّع جديد ونسب إليه تعالى مفترياته؛ ولذا فقد على نفسه تقديم شهادات على صدق ،وحيه وإلا عانى ضعفاء الناس عناء كبيرًا.فثبت أن تقديم الله تعالى مثل هذه الشهادات والبراهين لا يتنافى عظمته، مع بل هذا ضروري جدًّا لبيان صدق كلامه لسببين أولهما أن يعرف الناس أنه كلام الله تعالى ،حقا، وثانيهما: ألا يتجاسر كذاب على أن ينسب أباطيله إلى الله تعالى.وإذا ثبت هذا فلا بد لنا من التسليم بأن أي دليل مشابه للحلف سيُعتبر – يقينًا – برهانا عظيما على صدق وحي الله تعالى وأنه تعالى إذا قدم دليلا كهذا على صدق وحيه لم يقدح هذا في عظمته، بل هو ضروري جدا.أن برهنا على أنه لا بد أنه لا بد لله تعالى من تقديم برهان على صدق وحيه، ينشأ سؤال: ما هو أكبر برهان لإثبات صدق شيء؟ فرض وبعد الله

Page 105

الجزء الثامن سورة النازعات غير فاعلم أن الحلف يُعتبر في العالم أكبر دليل على صحة أي أمر دونما شك، بل بعد الحلف يصدر القرار النهائي؛ ذلك لأن بعض الطبائع لا تطمئن بأي شيء الحلف.إنهم يكونون متأكدين من صلاح المدعي وصدقه، ولكن لا تزال قلوبهم مرية، يقولون : قد يكون الادعاء بنزول الملائكة السماء الله تعالى أو من بوحي تكليمه تعالى مع البشر مشافهة مجرد خرافة، ولكن إذا حلف المدعي على ذلك اطمأنوا وعرفوا أنه ليس مجرد خرافة، بل إن المشاهدة تدعمه؛ إذ لو لم يمر هذا الإنسان بهذه التجربة لما تجاسر على الحلف.فثبت من هنا أن آخر ما يزيل الشبهة هو الحلف، وأن الله تعالى قد اعتبر الحلف برهانًا قطعيًّا لدَرْءِ ،الشبهات، فلو لم يقدم الله تعالى في وحيه هذا الدليل على صدقه فقد ترك أمرًا نافعا وضروريا جدا، وبالتالي دفع مع - أنه أولى بتقديم الأدلة شريحة كبيرة من الناس الذين لا يطمئنون بغير الحلف إلى عدم الاطمئنان.وهنا ينشأ سؤال آخر وهو: حتى لو نُسب الحلف إلى الله تعالى في الوحي، إلا أن الحالف يكون في كل حال ذلك الإنسان الذي يعرض الوحي على الناس، فكيف يُعتبر الحلف في هذه الحالة دليلا على صدق ذلك الوحي؟ والجواب: لا شك أن الحلف سيكون منسوبًا إلى الله تعالى في ذلك الكلام، ويكون الحالف هو الإنسان الذي يعرض هذا الكلام على الناس ولكن علينا أن نرى من ذا الذي يقع عليه وبال الحلف إذا كان كاذبا فيه؟ لا شك أنه يقع على هذا الحالف الذي ينسب الله تعالى.مثلاً، قال زيد إن الله تعالى قد أوحى إلي كذا وكذا، وإنه تعالى هذا القسم يحلف على صدق هذا الأمر، فلو كان زيد كاذبًا فيما قال فمن هو المسؤول عن هذا الحلف الكاذب؟ لا شك أن زيدًا هو المسؤول حيث افترى على الله تعالى وخدع الناس بالحلف الكاذب، وما دام مسؤولاً عن ذلك، فلا بد أن يبطش الله به، ليكشف للناس أنه كذاب افترى على الله كذبا، فوقع فريسة لعذابه.إذًا، فلا بد لدرء الشكوك والشبهات من القلوب وملئها باليقين من طريق يؤدي إلى اطمئنانهم، ولذلك قد أقسم الله تعالى في القرآن الكريم.ولا تخلو هذه الأقسام من أحد الأمرين؛ إما أن يقول المرء إن الله تعالى هو الذي حلف بها فعلاً وليس أحد

Page 106

الجزء الثامن 1.1 سورة النازعات من البشر، وبالتالي سيؤمن بصدق هذا الوحي؛ أو يقول لم يحلف الله تعالى بها، إنما حلف بها محمد ( ) من عند نفسه، وفي هذه الحالة سيوقن أن محمدا ) إذا كان كاذبًا في حلفه – والعياذ بالله - فلا بد أن يعاقبه الله تعالى.إذًا، ففي كلتا الحالتين سيتحقق الغرض من هذا الدليل، فإذا كان المرء مؤمنًا بأن القرآن وحي الله تعالى فهو ليس بحاجة إلى حلف أو دليل على كون القرآن كلام الله لأنه يوقن سلفًا أنه تعالى هو الذي حلف بهذه الأقسام كلها، أما إذا كان يظن أنها ليست من عند الله تعالى بل هي من افتراء محمد والعياذ بالله - فسيطمئن أيضًا لأنه يقول ما دام محمد قد حلف كذبًا، فلا بد أن يبطش الله به ،ويعاقبه، وإن نتائج هذه الأقسام بنفسها ستكشف عليه حقيقة الأمر.الله إذًا، فالحلف دليل عظيم على صدق وحي الله تعالى.لا شك أن الحلف في الوحي يُنسب إلى الله تعالى ولكن لما كان الحالف هو الإنسان الذي يقول إنه وحي تعالى، فلا بد أن يقع عليه وبال الحلف الكاذب لتنكشف الحقيقة على الناس ويعرفوا الصادق الكاذب.من ثم إن الحلف الحقيقي ليس إلا ما يحقق غرضه، وليس غرض الحلف إلا تأكيد الحالف على اتفاقه مع الطرف الآخر وتقديمه إياه شاهدا على صدقه، وبهذا المعنى فإن حلف الله تعالى بالمخلوقات جائز، لأن من أغراض الحلف بالله تأكيد الحالف على أن الله يعلم أن الأمر هو كما يعلمه ويقوله الحالف، حيث إن أحدا إذا حلف على موقفه بشيء آخر، فيعني أن هذا الشيء يشهد على صدق ما قال، وشهادة ذلك الشيء الآخر تحسم الأمر فيما إذا كان الحالف صادقا أم كاذبا.وحيث إن الله تعالى خاف عن الأعين، فإذا حلف لله بشيء وقدمه كشاهد على ما قاله في وحيه فإن شهادة هذا الشيء ستكشف الصدق من الكذب، لأن ذلك الشيء إذا شهد ثبت أن ما نُسب إلى الله تعالى هو حق، وإذا لم يشهد ثبت أن ما نُسب إليه تعالى باطل.إذًا، فالمراد من قسم الله بمخلوقاته أنه يقدمها كشاهد على صدق المدعي، فإذا شهدت على ما قال المدعي تبين أنه كان صادقًا في نسبة ذلك الوحي إلى الله تعالى،

Page 107

الجزء الثامن ۱۰۲ سورة النازعات الله وإذا لم تشهد ثبت أنه كان كاذبًا في نسبته إليه تعالى.مثلا، إذا قيل في وحي تعالى إن الجبال ستشهد على أمر كذا، ثم شهدت عليه فعلاً، ثبت أن المدعي قد نسب هذا الكلام إلى الله تعالى بالحق؛ إذ ليس بوسع أحد أن يجعل الجبال تشهد على أي شيء، وإنما ذلك في مقدور الله وحده.فإذا لم تشهد على ما قيل ثبت كذب الوحي المنسوب إلى الله كذلك إذا قيل في وحي الله تعالى إن الأنهار ستشهد على أمر كذا فعلينا أن نرى ما إذا كانت تشهد على صدقه أم لا، فإذا شهدت ثبت أن ذلك الوحي منه حقا، وإذا لم تشهد فثبت أنه ليس منه تعالى، وإنما افترى به المدعي على الله تعالى ذلك لأن الإنسان ليس بقادر على أن يجعل الجبال أو الأنهار تشهد على أمر من الأمور، وإنما الله وحده القادر على أن يجعلها تشهد عليه أمام العالم.ولو قيل كيف يمكن إثبات قول الله تعالى بشهادة المخلوق؟ فالجواب أن السؤال ليس ما إذا كان الله صادقًا أو كاذبا، بل السؤال ما إذا كان المدعي – الذي يدعي كونه ممثلا لله تعالى- صادقًا فيما ينسبه إلى الله من وحي أم كاذبا.فالدليل الذي يقدمه الله تعالى من خلال شهادة مخلوقاته سيثبت صدق المدعي فيما نسب إلى الله تعالى، وأن الوحي الذي تلقاه كان من عند الله تعالى فعلا.إذًا، فالمخلوقات لا تدل بشهادتها على صدق الله تعالى، بل على صدق المدعي الذي ينسب الوحي إليه تعالى.لنفترض أن كرشنا – مثلا – تنبأ في وحيه بشيء، فأكدته الأنهار أو الجبال أو الشمس أو القمر، فهذه الأشياء لا تشهد على صدق الله تعالى، وإنما تشهد على أن كرشنا لم يكذب فيما قال، بل إن الوحي الذي نسبه إلى الله كان تعالى فعلاً.أو إذا أكدت الجبال والأنهار صدق إبراهيم الله فلا يعني شهدت على صدق الله تعالى، بل يعني أنها دلت على صدق إبراهيم فيما نسبه إلى الله من وحي.وإذا ورد في نبوءة الموسى ال - مثلاً - أن الجبال والأنهار ستشهد على كذا من الأحداث، ثم وقع كما قال، فشهادتها لا تثبت صدق الله تعالى، بل تؤكد أن موسى لم يكذب على الله تعالى، بل نسب إليه حقا وصدقا.أو إذا شهدت الجبال والأنهار وغيرها من المخلوقات على صدق النبي ﷺ فلا من عنده ذلك أنها يعني ذلك

Page 108

الجزء الثامن أن ي لما سورة النازعات الله تعالى كان بحاجة إلى شهادتها، وإنما يعني أن محمدا كان بحاجة إلى شهادتها على صدق دعواه فلما شهدت ثبت أن ما قاله من أن الجبال أو الأنهار ستشهد على أمر كذا فإنه لم يقله من عنده بل قاله بناء على وحي تعالى.إذًا، فالمخلوقات لم تشهد على صدق الله تعالى، بل شهدت على صدق ذلك المدعي الذي نسب إلى الله تعالى الوحي.ورُبَّ قائل يقول: ما دام الأمر يتعلق بإثبات صدق المدعي الذي يعرض وحي على الناس، فيجب أن يحلف المدعي نفسه لا الله تعالى.فالجواب الأول أن المدعي أيضا يحلف على حدة، ولكن لا بد أن يوجد في وحي الله تعالى الحلف الذي يُعتبر أكمل أنواع الأدلة عند غالبية الناس، ذلك لأن الوحي كلام كامل فلا بد من وجود شهادة داخلية فيه على كونه كلاما كاملا، وإلا لن يبقى كاملا.فإذا خلا وحي الله تعالى من الحلف، بل حلف النبي على صدق دعواه على حدة فقط، فلن يُعتدّ بحلفه، والحديث خير مثال على ذلك حيث نجد في الأحاديث أمثلة كثيرة للحلف، ولكن الناس لا يزالون يشكون في صحة الحديث.نحن لسنا هنا بصدد فيما إذا كانت شُبهتهم صحيحة أو باطلة..فهذا بحث آخر، بيد أنه لا يسعنا الإنكار أنه لا يزال هناك مجال شبهة من قبل هؤلاء الناس كما أننا أيضا لا نستطيع الجزم بصحة كل حديث، أو بأن النبي ﷺ قد قاله بالكلمات نفسها.إنما الكلام اليقيني القطعي الذي نستطيع أن نحلف بأن كل لفظ منه قد نزل من عند الله تعالى، ووصلنا من الرسول للهلال كما هو، هو القرآن الكريم وحده.حتى إن أعداء الإسلام من أمثال وليام موير William Muin) ونولدكه (Noldeke) اضطروا للاعتراف بأن كل كلمة من القرآن الكريم هي كما قدمها محمد إلى العالم، ولم يطرأ عليه أدنى تغير أو تبدل (563-562.Life Of Mahomet p مي والموسوعة البريطانية المجلد ١٥: كلمة KORAN).فإذا وُجد في وحي القرآن الكريم قسمٌ لكان دليلاً حاسما على أن محمد ﷺ قد حلف بصدقه فيما نزل عليه من الوحي، أما إذا خلا القرآن الكريم من الحلف فالأيمان الأخرى الواردة في الحديث لا تساوي القسم القرآني أبدًا من حيث اليقين والقطعية.إذًا، فلا بد من وجود

Page 109

الجزء الثامن 1.E سورة النازعات دليل القسم في وحي الله تعالى لتقوم هذه الشهادة الداخلية بتكميل الشهادات الأخرى.بوحي الله تعالى، مع والجواب الثاني أن الحلف في وحي الله تعالى يكون من عند الله تعالى فقط ولا يكون من عند النبي أبدا، إذ لو كان الحلف من قبل النبي لما بقي الوحي نقيا بل اختلط كلام البشر مع كلام الله تعالى.مثلا لو أن محمدا ﷺ قال: أحلف بالله أنه بعثني، ووُجدت هذه الكلمات في القرآن لدل ذلك على اختلاط كلام البشر أن القرآن الكريم كله كلام الله تعالى من باء البسملة إلى سين والناس.أو لو وجد في القرآن قول محمد رسول الله : يا أيها الناس، أحلف بالله أني رسول الله إليكم جميعا، لاختلط كلام البشر بكلام الله تعالى.أو لو ورد في كلام الله تعالى يا محمد نأمرك أن تحلف للناس على صدق دعواك، لظلت هناك شبهة فيما إذا كان قد حلف أم لم يحلف؛ فمثلاً قد ورد في مواضع عديدة من القرآن قوله تعالى قُلْ..أي قُلْ يا محمد للناس كذا وكذا، وإننا نوقن أن النبي قد قال للناس كل ما أمره الله به، إلا أن كلمة قُلْ لا تُقنع الخصوم بالضرورة بأنه قد قال للناس فعلاً كل ما أمر به.كذلك لو وجد في القرآن قول الله تعالى لمحمد ﷺ أن يُقسم، فإن الخصم قد يقول لا ندري ما إذا كان محمد قد أقسم أم لا.باختصار سيضيع غرض الحلف في الحالين أعني لو ورد قسم الرسول ﷺ في كلام الله تعالى لاختلط كلام البشر مع كلام الله تعالى ولو أمر الله تعالى في وحيه رسوله بأن يقسم لظل الناس في شبهة فيما إذا كان أقسم أم لا.أما إذا حلف في غير الوحي فيظل الوحي غير كامل أيضًا لخُلُوِّه من هذه الوسيلة المؤكدة القوية.ثم يجب الأخذ في الاعتبار أن الأمور التي أقسم بها القرآن أو استشهد بها على حتمًا أمور غيبية لا علم ولا قدرة للرسول الله على معرفتها - وكل صدقه هي الأقسام القرآنية هي من هذا القبيل في رأيي هذا القبيل في رأيي - فكيف يمكن أن يقدمها الرسول شهادة على صدقه؟ كلا، بل إن الله العليم الخبير وحده الذي يمكن أن يقدمها وهو الذي أقسم بها.إذًا فالقول إن القسم يجب أن يقوم به الإنسان الذي نزل عليه

Page 110

الجزء الثامن 1.0 سورة النازعات الوحي لا الله باطل تماما ، ذلك لأن النبي لم يكن عنده علم بهذه الأمور، لالها كما لم تكن هي تحت تصرفه وسيطرته، فكيف يمكن أن يُقسم بها؟ إذًا، فلما كانت الأقسام تحتوي على علم الغيب، فمن المستحيل أن يحلف بها النبي لأنه لا يعلم ما يخفيه المستقبل، وإنما الله وحده الذي هو عالم الغيب يمكن أن يُقسم بها ويقدمها كشهادة.ولو قيل ما الداعي للقسم أصلاً، فكثير من الناس لا يقيمون للقسم وزنًا ويقولون يجب أن لا يُقسم العبد، دعك أن يُقسم الله نفسه، فمثلاً لما تحدى المسيح الموعود ال القسيس "عبد الله آتهم" أن يعلن بين الناس حالفًا بالله تعالى أنه لم تستول على قلبه هيبة نبوءته العلل المتعلقة بهلاكه ما كان جواب المسيحيين إلا قولهم إن الحلف ليس محبّذا ولا نرضى بهذه الطريقة لحسم القضية (ضياء الحق، الخزائن الروحانية المجلد ٩ ص ٢٥٦ - ٢٥٧).إذًا، فهناك كثير من الناس الذين لا يقيمون للقسم وزنًا ويقولون يجب أن لا يتضمن كلام الله تعالى أي قسم.والجواب الأول: لا شك أن بعض الناس لا يعيرون القسم وزنًا، ولكن هذا لا يقلل من قيمة القسم علينا أن نرى ما إذا كان القسم ذا قيمة في حد ذاته أم لا؟ فإذا كان ذا قيمة فلا يجوز ترك هذه الحقيقة بحجة أن البعض لا يوليها أية أهمية.إذا كان هنالك إله فلا بد أن يصيب الحالف باسمه كذبًا عذابٌ شديدٌ منه شريطة أن يضر هذا القسم الناس ضررًا كبيرًا ولا يكون من قبيل اللغو.فثبت أن القسم دليل عظيم في حد ذاته، ولا يمكن تركه بحجة أن بعض الناس لا يأبهون به.والجواب الثاني: إذا كانت فئة من الناس لا تعتبر القسم ذا قيمة، فإن فئة أخرى تعدّه دليلا قويا حاسمًا.أن بعض الناس يعتبرون الحلف عبئًا، لكن الآخرين صحيح لا يطمئنون من دون قسم ولا بد للوحي الذي ينزل للعالم كله أن يحقق ما تطالبه بعض الفئات ما دامت مطالبتها معقولة.والقرآن الكريم ليس فقط لمن لا يقيم للقسم وزنًا، بل هو للعالم كله وللإنسانية جمعاء التي فيها أيضا تلك الفئة التي لا تطمئن إلا بالقسم.فالذين لا يرون ضرورة القسم يمكنهم الانتفاع من الآيات

Page 111

الجزء الثامن - 1.7 سورة النازعات القرآنية الخالية من القسم، أما الذين يرون ضرورة القسم فيمكنهم الانتفا ناع من الآيات التي فيها قَسَمٌ.ولو أن القرآن الكريم حقق مطالب إحدى الفئتين دون الأخرى لما اعتبر للإنسانية جمعاء، بل كان خاصا بفئة محدودة منها.باختصار، لما كان في الدنيا فئة تثق بالقسم بل تراه ،ضروريا، فمن واجب القرآن أن يذكر – علاوةً على الأدلة الأخرى ذلك الدليل الذي تراه فئة من الناس ضروريا ولا يهمله أبدًا.ورد في الحديث أن شخصًا حضر إلى النبي وقال : أستحلفك بالله تعالى الله أرسلك بهذا ؟ فقال : أحلف بالله أني لا أقول هذا نفسي، بل أقوله بأمر الله تعالى.فآمن الرجل فورا (البخاري: كتاب العلم، ومسلم كتاب الإيمان فهذا يعني أن هذا الشخص لم يقتنع بأدلة أخرى، ولكنه اقتنع فوراً لما حلف له النبي الله.عند من إذا، فهناك فئة في الدنيا لا تطمئن إلا بالقسم، ولو خلا وحي الله تعالى من القسم لظلت هذه الفئة محرومة من قبول الحق، ولتعرَّضَ الوحي القرآني للطعن بأنه قد أهمل مطالبة معقولة لإحدى شرائح المجتمع رغم ادعائه بأنه هدى للناس جميعًا.وقد وُجد مثل هؤلاء القوم في زمن المسيح الموعود اللة أيضا، فذات مرة جاءه الا شخص وقال: هل تستطيع أن تكتب لي حلفًا بالله تعالى بأنه هو الذي بعثك مسيحا موعودا؟ فقال له حضرته تعال إلي بعد أسبوع، فحضر الرجل بعد أسبوع، فكتب له المسيح الموعود ال عبارة فحواها: أقسم بالله تعالى أن كل ما قلتُ في و بينتُ في خطبي من علوم ومعارف إنما هي هبة ربانية، وأن الله تعالى نفسه قد أمرني بعرضها على الناس، وقد ادعيتُ بأني المسيح الموعود والمهدي المعهود بأمر كتبي من الله تعالى.ولعله العلي قد اشترط على السائل أن يحضر بعد أسبوع ليعرف مدى جديته في الأمر؛ ذلك لأن بعض الناس يسألون بعض الأسئلة وهم غير جادين، فلكي يمتحن حضرته ال الرجل أمره بالمجيء بعد أسبوع، ولما رأى أنه جاد في الأمر وأنه فاز في الامتحان إذ جاءه في الموعد ثانية متكبدًا مشقة السفر كتب له العبارة المطلوبة.

Page 112

الجزء الثامن فثبت ۱۰۷ سورة النازعات من هنا أن هناك فئة من الناس لا تبحث عن أي دليل إلا القسم، فيقولون: إذا كنت صادقًا فيما تقول، فاحلف بالله على ذلك.لذا فكان ضروريا لإصلاح هؤلاء وهدايتهم أن يتضمن القرآن بعض الأقسام والأيمان حتى لا يظلوا محرومين من الهدى.والجواب الثالث: إن أقسام القرآن تشكل في حد ذاتها دليلا عظيما على صدقه، والحق أنه حيثما أقسم الله تعالى في القرآن إنما استشهد بالمقسم به على صدق الوحي القرآني، مبينا أن هذه الأشياء لو شهدت على هذه الأمور فقد ثبت أن القرآن هو كلام الله تعالى، وإذا لم تشهد عليها فيحق لكم أن تقولوا إنه ليس وحي الله تعالى.فسواء سميتم هذا القسم حلفا أو شهادة فهذا لا يغير من الحقيقة شيئا، بل لو ورد القسم في القرآن كمجرد شهادة لدلت على صدقه؛ فالذين لا يقيمون للحلف وزنًا يمكن أن ينتفعوا به باعتباره ،شهادة والذين يعتبرون الحلف ذا قيمة، فيمكنهم الانتفاع به باعتباره شهادة مؤكدة بالقسم.إذًا، فإن القسم يُقنع أصحاب إذن طبيعتين مختلفتين في وقت واحد؛ فهو جدير بالتقدير، وليس مدعاة للاعتراض؛ إذ حقق الغرض بنوعيه.- - سنورد عند تفسير الآية الأولى التي تبدأ بالقسم بحثًا كاملا موجزا في موضوع القسم في القرآن، أما البحث التفصيلي فنورده لدى تفسير كل آية تبدأ بالقسم.وهناك كتاب جدير بالمطالعة باسم التبيان في أقسام (القرآن) للإمام ابن القيم وقد فيه أمورا نافعة؛ جزاه بین الله عن المسلمين خيرا.أما الأشياء التي أقسم الله بها في هذه الآية والآيات الأخرى فسوف نتحدث عنها بالتفصيل عند تفسير قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا ).شرح الكلمات : وَالنَّشِطَتِ نَشْطًا (٤) الناشطات : نشَط ينشط نَشَطَطًا الحبل: عقده.ونشَط العُقْدةَ: شَدَّها.ونشَط الدلو من البئر: نزعها بغير قامة وانتشلها بلا بَكْرة.ونشَط زيدا: طعنه.ونشطته الحيّة:

Page 113

الجزء الثامن ۱۰۸ سورة النازعات عضته.ونشط من المكان: خرج، ونشط من بلد إلى بلد: قطع.ونشط ينشَط نشاطًا طابت نفسه للعمل ونشطت الإبل: مضت على هدى أو غير هدى.(المنجد، والأقرب، والمخصص) فالناشطات هي: ١ - الكائنات التي تعقد الشيء بالشيء.- - الفئات التي تبذل في عملها قصارى جهدها.الجماعات التي تطعن بالرماح.التفسير: سيأتي تفسير هذه الآية تحت قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا ).شرح الكلمات : وَالسَّبِحَتِ سَبْحًا (٤) السابحات سبح الرجلُ : تصرّف في معاشه؛ نامَ وسكن؛ أبعد في السير.وسبح في الكلام أكثر منه وسبح في الأرض: حفر فيها.وسبح بالنهر وفي النهر: عام وانبسط فيه.وسبح سبحانًا قال سبحان الله.(المنجد، والأقرب) فالسابحات هي:.-۱ الجماعات التي تذهب في سيرها بعيدا.- ٢ - الجماعات القادرة على الكلام.-٣- الجماعات التي تُجيد السباحة والعوم.٤ - الجماعات التي تتصرف لمعاشها بنفسها.التفسير: سيأتي تفسير هذه الآية تحت قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا ).شرح الكلمات : فَالسَّبِقَتِ سَبْقًا (٤) سَبْقًا: سبقه يسبق سَبْقًا: تقدَّمه وجازه وخلّفه.وسبق على الشيء: غلبه.(الأقرب)

Page 114

الجزء الثامن فالسابقات هي: -۱ الجماعات التي تتسابق فيما بينها.- الجماعات التي تتغلب على الآخرين.۱۰۹ التفسير: سيأتي تفسير هذه الآية تحت قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا.شرح الكلمات : فَالْمُدَ بَرَاتِ أَمْرًا ) سورة النازعات المدبّرات: دبَّر الأمرَ: رتَّبه ونظمه؛ نظر في عاقبته وتفكر ودبَّر الوالي أقطاعه أحسن سياستها.(الأقرب) فالمراد من قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا الجماعات التي تقوم بعملها بالنظر في جميع جوانبه وفي عاقبته.وكأن الله تعالى قد بيّن في كلمة فالْمُدَبِّرَات مسؤولية القائمين بالأمر بأنهم يقومون به متفحصين جميع جوانبه، لا أن يركزوا على جانب ويهملوا الآخر.التفسير : قبل تقديم وجهة نظري حول هذه الآيات، أود إيراد أقوال السلف من الصحابة والمفسرين القدامى بصددها لنعرف المفاهيم التي ذكروها.وملخص ما قاله هؤلاء كالآتي: قال صاحب الكشاف عن قوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَات نَشْطًا وَالسَّابحَاتِ سَبْحًا: "أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد وبالطوائف التي تنشطها أي تُخرجها، من نَشَط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مُضيّها أي تُسرع فتسبق إلى ما أُمروا به، فتدبر أمرًا من أمور العباد." (الكشاف)

Page 115

سورة النازعات الجزء الثامن 11.وقال صاحب "فتح" "البيان" بعد ذكر هذا المعنى: "وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.مي أفق وقال السدي: النازعات) النفوس حين تغرق في الصدور (يعني وقت الموت.وقال مجاهد : هي الموت ينزع النفس.وقال قتادة: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق، من قولهم: نزعتُ بالحبل، أي أنها تغرب وتغيب وتطلع من آخر، وبه قال أبو عبيدة والأخفش وابن كيسان.وقال عطاء وعكرمة: النازعات القسي تنزع بالسهام، وإغراق النزاع في القوس أن يمده غاية المرّ حتى ينتهي به إلى النصل.وقيل: أراد بالنازعات الغُزاة الرماة ، وانتصابُ غَرْقًا على أنه مصدرٌ محذوف الزوائد أي إغراقًا...يقال أغرق الشيء يُغرق فيه إذا أوغل فيه وبلغ غايته فتح البيان).وكأن التقدير عنده كالآتي: والنازعات والمغرقات غرقا أو إغراقًا."وعن علي قال : هي الملائكة تنزع أرواح الكفار." (فتح البيان) أما قوله تعالى والناشطات نشطاً، فقد ورد عنه: "عن ابن عباس قال: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار.وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان، وبه قال ابن عباس وقال السدي: هي النفوس حين تنشط من القدمين - وكأن النفس عنده تكون موزّعة في الجسد كله وحين تخرج منه من ناحية القدمين تسمى الناشطات - وقال قتادة والحسن والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق أي تذهب.وقال في الصحاح والناشطات نشطا يعني النجوم من برج إلى برج.وقيل: الناشطات لأرواح المؤمنين، والنازعات لأرواح الكافرين.بينما يرى علي : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار.وقد روى مردويه عن معاذ بن جبل حديثا أن الناشطات هي كلاب النار تنشط اللحم والعظم.وهذا يعني الناشطات ليست إشارة إلى أرواح المؤمنين بل إلى أرواح الكافرين، لأن كلاب النار لا تنهش إلا لحوم الكافرين (فتح البيان)

Page 116

الجزء الثامن 111 سورة النازعات أما قوله تعالى والسابحات سبحا فقال بعضهم: هي الملائكة تسبح في الأبدان يسبح لإخراج الأرواح كما الغوّاص في البحر لإخراج شيء منه، يقبضون أرواح المؤمنين يسلّونها سلاً رفيقاً.هي يعني الملائكة مسرعين لأمر الله، كما السماء الملائكة ينزلون من فلك وقال مجاهد وأبو صالح: يقال للفرس الجواد: سابح إذا أسرع في جريه.وقال مجاهد أيضًا: السابحات الموتُ يسبح في نفوس بني آدم وقيل: هي الخيل السابحة في الغزو.وقال قتادة والحسن: النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله تعالى كُلِّ فِي يَسْبَحُونَ ﴾ (الأنبياء: ٣٤).وقال عطاء: هي السفن تسبح في الماء.وقيل: هي أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى الله.وقال علي ه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء والأرض.فتح البيان أما قوله تعالى فالسابقات سبقا فقال مجاهد ومسروق: تسبق الملائكةُ الشياطين بالوحي إلى الأنبياء.وقال أبو روق هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، وروي نحوه عن مجاهد وقال مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.وقال الربيع هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقا إلى الله.وقال الملائكة سبق بعضها بعضا بأرواح المؤمنين إلى الله تعالى.وقال مجاهد :أيضًا هو الموت يسبق الإنسان.وقال قتادة والحسن ومعمر: النجوم يسبق بعضها في السير بعضًا.(فتح البيان) علي ه: هي مي وأقول هنا - ضمنيًا - إن القول الأخير خلاف للقرآن الكريم، لأن الله تعالى يخبر فيه أن الليل والنهار يتناوبان بحسب ناموس إلهي محدد، وأن كل النجوم والأجرام تدور بحسب هذا القانون ولا يسبق بعضها بعضاً.قال الله تعالى لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) (يس:٤١).فهذه الآية تفنّد القول المشار إليه.وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق إلى الجهاد.قال الجرجاني: عطف السابقات بالفاء لأنها مسبة عن التي قبلها أي واللاتي يسبحن فيسبقن..أي أنها تصبح سابقات

Page 117

۱۱۲ سورة النازعات الجزء الثامن لكونها سابحات ولكن الواحدي رفض هذا الدليل محتجًا بقول الله تعالى بعد ذلك فالمدبرات أمرًا ، فيبعد أن يجعل السبق سببًا للتدبير.وقال الرازي: ويمكن الجواب عما قاله الواحدي بأنها لما أُمرت سبحت فسبقت فدبّرت ما أُمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض.يتم وقد ردّ صاحب فتح "البيان على الرازي فقال: ويجاب عنه بأن مجرد الاتصال لا يوجب السببية والمسببية، لأن الفاء تفيد العطف أيضًا.(فتح البيان) لقد نقلت هذا البحث ههنا هداية وتبصرة للذين يحاولون حصر معاني الفاء في السببية.غير أنه لا يصح أيضا القول بأن استخدام الفاء هنا كان بدون داع، بل يتضح من استخدام الفاء بعد الواو هنا أن الموضوع السابق قد تغير، وإلا فلماذا العطف بالواو في الآيتين الأخيرتين كما تم في الأولى والثانية - علما أن الواو في الآية الأولى للقسم الواقع أنه قد جيء هنا بالفاء لمعان جديدة أخرى، الأمر الذي أجله استبدلت الفاء بالواو هنا، وإلا فلم تكن ثمة حاجة لترك الواو.فما هو ذلك المعنى الجديد هنا؟ هو برأيي الترتيب.فلا بد أن تحتوي هاتان الآيتان معاني تدل على الترتيب، غير أنه لا يمكن فهمها إلا بعد وضوح معاني الآيتين الأولى والثانية، وسوف نذكر تلك المعاني لاحقا.أما قوله تعالى فالمدبرات أمرا فقال علي ه: هي الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة.وقال ابن عباس: ملائكة يكونون مع مَلَك الموت يحضرون الموتى عند قبض أرواحهم، فمنهم من يعرج بالروح، ومنهم من يؤمن على الدعاء، ومنهم من من يستغفر للميت.وقال القشيري: أجمعوا على أن المراد هنا الملائكة.وقال الماوردي: فيه قولان: أحدهما الملائكة، وهو قول الجمهور، والثاني إنها الكواكب السبع.وفي تدبيرهما الأمر وجهان: أحدهما تُدبّر طلوعها وأفولها، والثاني: تدبّر ما قضاه الله فيها من الأحوال.(فتح البيان) هذا ملخص ما ورد في التفاسير القديمة بصدد هذه الآيات الخمس.وفيما يتعلق بالمعاني التي ذكروها لهذه الكلمات فلا اعتراض على ما لغة منها، لأن ما يصح

Page 118

الجزء الثامن يصح بد لنا ۱۱۳ يعني سورة النازعات لغة يمكن أن ينطبق في محله ، ولكن إذا أردنا تفسير كلام تفسيرا صحيحا فلا من أن نأخذ في الحسبان سياقه والقرائن المحيطة به.فلو كان السياق واضحًا نظرنا إليه أوّلاً لفهم الكلام، وإذا كان السياق غير واضح نظرنا إلى القرائن المحيطة.فمثلاً سمعنا شخصاً يقول : أَسْرِع إلى السوق واشتر كذا وكذا، وعرفنا أن خادمه موجود عنده وحيث إننا علمنا سياق قوله فنفهم أنه خادمه، ويأمره بشراء ما يريد من السوق.أما إذا لم نراع هذا السياق، وبدأنا نستنتج من کلامه استنتاجات أخرى فقلنا مثلا: إنه لا يخاطب خادمه ، بل كلامه موجه إلى أي إنسان، لأن كلَّ إنسان يمكن أن يسرع؛ أو قلنا إنما يعني أحد الملوك، ثم إذا سئلنا عن دليل قلنا: ألا يسرع أو يشتري من السوق؛ أو قلنا: إنه يعني بقوله فلانًا من الأثرياء..أقول لو فسرنا قوله بهذا الأسلوب فسيحكم كل يستطيع الملك أن الفلاسفة، أو فلانا من عاقل بجنوننا وحمقنا حتمًا، ويقول: لماذا لا تنظرون إلى سياق كلامه؟ ألا ترون أن خادمه كان واقفا إزاءه عندما تفوه بهذا الكلام؟ لا شك أن الملك يمكن أن يسرع وكذلك الفيلسوف والثري، ولكن علينا أن ننظر إلى سياق كلامه، أما إذا أهملنا السياق، وبدأنا نفسر كلامه ،تخمينا، فقال الأول إنه يخاطب ملكًا، وقال الآخر إنه يعني فيلسوفا، وقال الثالث إنه يعني ثريَّا، فسيضحك الجميع منا، ويقولون: ماذا دهاكم؟ ألا تفهمون إلى من وجه كلامه؟ لا شك أن الملك والفيلسوف والثري يمكنهم أن يسرعوا ويشتروا ولكن لا بد من أخذ سياق كلامه في الاعتبار.ألا ترون أن خادمه كان أمامه عندما قال: أسرع واشتر من السوق؟ إذا، فإنه قد وجّه كلامه إلى خادمه فقط لا إلى أي شخص آخر.لقد ثبت من هذا المثال أننا إذا أردنا أن نفهم قول إنسان فلا بد لنا من أن ننظر أولاً إلى سياق كلامه، أما إذا أهملنا السياق وبدأنا تفسير قوله جزافًا وتخريصا، فهذا ليس من العقل في شيء.والأمر الآخر أننا إذا لم نعرف سياق الكلام فعلينا أن ننظر إلى القرائن المحيطة به.فمثلا نرى شخصًا دخل بيته، فاحتاج إلى شيء ولكن خادمه لم يكن أمامه، وظنّ أنه داخل البيت، فصاح: أسرع وافعل كذا؛ فمع أننا لا نرى خادمه، لكن هناك

Page 119

الجزء الثامن ١١٤ سورة النازعات قرينة تساعدنا على فهم ،قوله وهي أنه يتكلم بهذا الكلام في بيته، إذا، هو يخاطب خادمه حتمًا.أما إذا أهملنا هذه القرينة وقال أحدنا إنه يقصد بقوله بعض الجيران، وقال الآخر: بل إنه يعني فلانا وقال الثالث كلا، إنه يعني علانا؛ لكان هذا التخمين منا عبثا لأن الناس سيقولون لنا: عليكم بمراعاة القرينة المحيطة بكلامه حتى تعرفوا قصده.القرينة تبين أنه قد تكلّم بهذا الكلام في بيته، والقياس يدل على أنه قد وجه كلامه إلى خادمه أو إلى ابنه لأن الابن بمنزلة الخادم، أو لبعض أقاربه الآخرين كابن الأخ أو الأخت.أما إذا لم نراع القرينة ولم نضعها في الحسبان، وبدأنا نقول إنه ربما يوجه هذا الكلام لفلان أو علان فلن يُعتبر قولنا معقولا.والحال نفسه ينطبق لدى تفسير هذه الآيات، فلا يهمنا المعنى اللغوي للنازعات أو الناشطات أو السابحات أو السابقات أو المدبرات فحسب بل المهم هو المعنى الذي يتوافق مع السياق والقرائن؛ لذا فعلينا أن ننظر فيما إذا كان المعنى الذي يذكره المفسرون ينطبق هنا أم لا.ولهذا الهدف سننظر أوّلاً إلى ترتيب هذه الكلمات ثم سنركز على العلاقة التي تربط هذه الآيات بعضها ببعض، كما سننظر إلى علاقة هذه الآيات بما قبلها وبما بعدها.وباختصار، نضع عند التدبر أمورا كثيرة في الاعتبار، وننظر على ضوئها ما إذا كان هذا المعنى يتوافق معها أم لا.فإذا توافق أخذنا به، وإلا تركناه.خُذوا مثلا قوله تعالى وَالنَّازِعَات غَرْقًا، فقد قال بعض المفسرين إنها النجوم التي تظهر من أفق وتغيب في آخر، ولكنهم يعودون فيفسرون قوله تعالى وَالنَّاشطات نَشْطًا بالمعنى نفسه أيضا! فالسؤال الأول الذي يطرح نفسه هنا: هاتان آيتان اثنتان، فلم لا يذكرون لهما مفهومين اثنين؟ أليس عجيبًا أن نقول إن ما يعنيه الله تعالى بقوله وَالنَّازِعَات غَرْقًا هو ما عناه نفسه بقوله وَالنَّاشطات نَشْطًا دون أن يضيف أي معنى جديد؟ لا شك أن هذا عيب كبير يوجد في كلام رديء غير فصيح مطلقا، ولكن المحال أن من يوجد في كتاب الله تعالى المنزه عن كل نقص وعيب ويفوق كتب العالم كلها في فصاحته وبلاغته؛ فكيف يمكن أن يعني الله

Page 120

الجزء الثامن ۱۱۵ سورة النازعات تعالى بقوله وَالنَّازِعَات غَرْقًا سير النجوم من أفق إلى آخر، ويقصد بقوله تعالى وَالنَّاشِطَات نَشْطًا أيضًا الأمر نفسه ؟ وهذا أول دليل على أن معنى النجوم، وإن صح لغةً، إلا أنه لا ينطبق في هذه الآيات كان يمكن الأخذ بهذا المعنى في حالة واحدة وهي إذا كانت الآيتان تفيدان مفهومين مختلفين.فاضطرار المفسرين لتفسير الآيتين بمعنى واحد دليل ساطع على خطأ الأخذ بهذا المعنى؛ لأن قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا يؤدي المعنى الذي يريدونه، وبالتالي سيُصبح قوله تعالى وَالنَّاشطات نَشْطًا كلامًا مهملاً ليس فيه مفهوم إضافي.وهذا مستحيل.أما قوله تعالى وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فيقولون إنها النجوم التي تسبح في الأفلاك، مستدلين بقوله تعالى كُلِّ فى فَلَك يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: ٣٤)، ثم يعودون ويفسرون قوله تعالى فَالسَّابقات سَبْقًا بأنها أيضًا النجوم التي تسابق بعضها بعضا؛ مع أن القرآن الكريم قد أكد بشدّة أن كُلاً من هذه الكواكب يدور في مداره، وليس أن الشمس تحاول أن تسبق القمر أو أن القمر يحاول أن يسبق المريخ.ومع هذا البيان القرآني الواضح يفسر هؤلاء هذه الآيات وكأن الشمس والقمر والنجوم كلها ذوات حياة، وتسعى كل واحدة منها أن تسبق الأخرى ما الفائدة لو سبقت الشمس القمر يا ترى؟ كلا، بل فيه ضرر ودمار للنظام الشمسي كله.يجب يكون السباق فيما ينفع العالم لا فيما يضره ويدمره.ثم يقولون عن قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا أيضا إنها النجوم، مع أن القرآن والحديث يصرحان أن تدبير الأمر بيد الله، لا بيد النجوم.قال النبي ﷺ قال الله : "من قال مُطرْنا بنوء (أي نجم كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكو أن (البخاري، كتاب الاستسقاء).فترى أن النبي لا لا لا يُعلن بأمر الله تعالى أن النجوم لا دخل لها في تدبير الأمر، ولكن معظم المفسرين يقولون إن المراد بقوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا هي النجوم.إذا، فهذه المعاني التي يذكرونها..بعضها مرفوض بنص القرآن وبعضها مرفوض بالاستدلال، وقبول بعضها يضطرنا لاعتبار بعض كلمات القرآن زائدة مهملة، لأن 11

Page 121

الجزء الثامن 117 سورة النازعات الآية الأخرى تفيد المعنى السابق نفسه من دون أي مفهوم إضافي، مع أن القرآن كلام الله تعالى، وكل كلمة فيه تنطوي على حكمة بالغة.والغريب أن بعضهم يفسر قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا بأنها جماعات الملائكة الذين يدخلون في أعماق الجسم ويقبضون الأرواح، بينما يقول بعضهم إنها النفوس التي تغرق في الصدور.ويفسر بعضهم قوله تعالى وَالنَّاشطات نَشْطًا بأنها النفوس التي تخرج من الأقدام، بينما يقول بعضهم إنه الموت الذي يُخرج النفوس الإنسانية.ويفسر بعضهم قوله تعالى وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا بأنها الملائكة التي تقبض نفوس المؤمنين برفق، بينما يقول بعضهم الآخر إنما الميتات (جمع الميتة) التي تسبح في الجسم.ويقول بعضهم عن قوله تعالى فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا أنها الملائكة التي تستبق بأرواح المؤمنين، بينما يقول الآخر إنها الميتات التي تلاحق الناس وتتخطفهم.ويقول بعضهم عن قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا إنها الملائكة التي تأتي مع ملك الموت.فهذه خمس جمل فسروا كل واحدة منها بمعنى الموت، حيث قال بعضهم إن الأرواح تُنزع من الأقدام، وقال بعضهم إن الموت يسبح في الأجسام الإنسانية كالسهم، وقال بعضهم إن الموت يلاحق الإنسان فيتخطفه.ثم ما العبرة في سباحة الموت في الجسم كالسهم أو خروجه من الأقدام، على فرض صحة ذلك؟ ثم كيف يمكن أن تكون كل جملة تتحدث عن الموت فقط بدون أن تضيف أي معنى جديد؟ فيفسرون الجملة الأولى والجملة الثانية والجملة الثالثة كلها بمعنى خروج الروح من الجسم.ماذا يعني هذا الكلام؟ وما هو غرض القرآن من هذا التكرار حيث يتحدث مرة بعد أخرى عن قبض الروح فقط من دون أي غاية إضافية أو فائدة جديدة؟ ماذا ينفع هذا الكلام الناسَ علمًا وأخلاقا وروحانية؟ هل زادهم علما؟ وهل كشف عليهم غيبا؟ فما الفرق لو خرجت الروح من الأقدام أو من الأيدي مات فقد مات، سواء أخرجت روحه من قدمه أو رأسه.إنهم لا والأطراف؟ من يذكرون أي حكمة لهذا الكلام ويفسرون هذه الآيات الخمس من كلام الله تعالى تفسيرًا عشوائيا ويقولون إن المراد منه الموت فقط

Page 122

الجزء الثامن ۱۱۷ سورة النازعات معاذ جماعات ثم إنهم اختلفوا في تفسير كل آية من هذه الآيات فمثلا: نقل ابن مردويه عن بن جبل أن الناشطات هي كلاب جهنم التي تنهش لحومهم، بينما قال غيره إنها الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين؛ وشتّان بين المعنيين في التفسيرين! لقد تبين من هنا أن المفسرين لم يتفقوا على معنى واحد، بل اختلفوا في كل مرة.هنالك معنى واحد اتفقوا عليه وهو الملائكة، حيث تجد معظم الصحابة والتابعين والذين جاءوا من بعدهم متفقين على أن النازعات والناشطات هي الملائكة، إلا أنهم واجهوا مشكلة حيث ذكروا للنازعات والناشطات معنى واحدا، وهو جماعات الملائكة التي تقبض الأرواح، وهكذا تبقى المشكلة في قبول هذا المعنى، لأننا نسأل: لماذا جيء بآيتين لأداء معنى واحد؟ وبرغم التفاصيل التي ذكرها المفسرون، والتي تُعرِّض كلام الله تعالى لتكرار لا مبرر له، إلا أنه ليس من المستبعد قبول معنى الملائكة نظرًا إلى السياق، بل هذا أقرب إلى القياس، كما أن مضمون الآية يؤيد هذا المعنى.مكانها رغم لا شك أن التكرار موجود في بعض مواضع القرآن الكريم، ولكنه تكرار مفيد يتضمن معنى ،إضافيا، ولولا ذلك التكرار لضاع المعنى الإضافي.أما التكرار بدون مفهوم إضافي فهو عيب تنزّه عنه كلام الله تعالى تماما.فلو أزلنا هذا العيب وأخذنا بمعنى الملائكة لدى تفسير هذه الآيات أصبح هذا المعنى أقرب إلى القياس وأكثر انسجاما مع سياق الآيات.والمعنى الثالث الذي تشير إليه التفاسير هو أن المراد من النازعات هنا الغزاة الرماة الذين يعدون ويسبحون بخيولهم أثناء الغزوات ومع أن هذا المعنى هو الأقرب إلى القياس والأوفق السياق، إلا أن المفسرين لم يتنبهوا إليه إلا قليلا.فإذا استطعنا أن نبني تفسيرنا على هذا المعنى، فلا يحق لنا الادّعاء بابتكار هذا المعنى، بل لا بد من الاعتراف بالفضل للسلف بمن فيهم معظم الصحابة والتابعين وكبار المفسرين، إذ اهتدوا إليه قبلنا.مع كما يمكن انطباق معنى الغزاة أيضًا على هذه الآيات مع أننا لا نستطيع الجزم ما إذا كان مرويًا عن التابعين أم لا.وما دام المفسرون قد ذكروا هذا المعنى، فلا بد لنا

Page 123

الجزء الثامن من ۱۱۸ سورة النازعات الاعتراف بالفضل الكبير لهم في إرشادنا إليه، ذلك لأن بناء العمارة عملية صعبة بدون شك، إلا أن تصميمها وتخطيطها أصعب منه.فلا بد باختصار، هذان هما المعنيان الأقرب إلى القياس والأوفق مع السياق، وإن كان المفسرون قد وقعوا في أخطاء كثيرة في تطبيقهما على هذه الآيات.فمثلا تطبيقهم لمعنى الملائكة على هذه الآيات مضطرب جدا؛ فحينًا لا يبقى هناك أي ترابط بين الآيات، وحينا آخر يختل ترتيبها، وحينا ثالثا يضطرون إلى تكرار بلا داع.لنا من حل هذه الإشكاليات ما دمنا نقبل هذا المعنى ونأخذ به.وقبل أن أقوم بتفسير هذه الآيات أرى لزاما توضيح أمر مهم، وهو أن أربعًا من هذه الآيات الخمس تنتهي مفعول مطلق، بينما تنتهي الأخيرة منها بمفعول به، حيث قال الله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا * وَالنَّاشطات نَشْطًا وَالسَّابحات سَبْحًا فَالسَّابقات سَبْقًا ( فَالْمُدَبَّرَات أَمْرًا..فَغَرْقًا وَنَشْطًا وسَبْحًا وَسَبْقًا كلها مفاعيل مطلقة، أما أَمْرًا فهو مفعول به.ولن أتحدث هنا عن قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا، بل سأتحدث عن المفاعيل المطلقة، فأقول إن ثلاثة المصادر هي من نفس الجذر الذي اشتقت منه الأسماء الواردة قبلها، بينما الأول منها، وهو غَرْقًا، ليس مشتقا من الجذر الذي اشتق منه الاسم الوارد قبله، بل أن مصدر الفعل نَزَعَ هو نَزْعًا أو نُزوعًا أو نَزاعةً قيل وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، مع ونزاعا، ولكن الله تعالى لم يستخدم أيا من أخرى: غَرْقًا.فما سبب ذلك؟ من هذه هذه المصادر، بل استعمل مكانها كلمة فليكن معلومًا أن في ذلك حكمة بالغة وهي أن المعنى أحيانًا لا يتحدد بالفعل وحده في اللغة العربية، بل يأتون بعده بمصدر لتحديد المعنى.فمثلا فعلُ (نَزَعَ) يعني قلَعَ فقط، ولكن للنزع معان عديدة منها امتناع المرء عن الكلام، أو رغبته في شيء، أو مشابهته بآخر، فإذا جئنا بعد (نَزَع) بمصدر تحدد معناه الذي يبينه ذلك المصدر.فمثلاً إذا قلنا: نَزَعَ نَزْعًا فيعني أنه قلع الشيء أو عزله، ولا يعني شابَهَه لأن النَّزْعَ لا يؤدي معنى الشبه إلا إذا كان مصدره نُزوعًا.كما لا يفيد قولنا "نَزَعَ نَزْعًا" معنى الرغبة والتشوق، لأن نَزَعَ لا يأتي بمعنى رَغِبَ إلا إذا كان مصدره نزاعة

Page 124

الجزء الثامن ۱۱۹ سورة النازعات هو، ونزاعًا ونُزوعًا.فثبت أن المصدر يحدّد معنى الفعل، حيث يبقى الفعل كما وبتغير المصدر يتغير معناه.فلو قال الله تعالى مثلاً والنازعات نَزْعًا) مكانَ قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا لَتَحدَّدَ معناه وانحصر فيما يفيده قولنا: نَزَعَ نَزْعًا.ولو قال تعالى مثلاً (والنازعات نُزوعًا) لانحصر معناه فيما يفيده قولنا: نَزَع نُزوعًا.والحال ذاته بالنسبة إلى بقية المصادر مثل: نزاعا ونزاعة.فثبت معنى هنا أنهم لا يذكرون المصدر بعد الفعل لمجرد التأكيد فحسب، بل لتحديد من المعنى أيضًا.وإذا لم يذكروا المصدر من جذر الفعل نفسه، كما هو الحال في قوله تعالى وَالنَّازِعَات غَرْقًا صلحت جميع المعاني التي تدل عليها مصادر ذلك الفعل.فمثلاً لو قال الله تعالى (والنازعات نَزْعًا أو نُزوعًا أو نزاعةً ونزاعًا) لتحدَّدَ هذه الآية وانحصر فيما يدل عليه ذلك المصدر المعين.ولكن قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا يعني أن كل المعاني التي تدل عليها هذه المصادر يمكن أن تنطبق على هذه الآية.وبتعبير آخر قد نبهنا الله تعالى بهذا الاستعمال أن نضع عند تفسير هذه الآية جميع هذه المعاني في الحسبان.أما قول الله تعالى بعد ذلك وَالنَّاشطات نَشْطًا..فهناك لفعل (نَشَط) مصدران: معنى نشاطًا ونَشْطًا، وهذا يعني أنه باستخدام مصدر (نَشْطًا) قد حدد الله الناشطات ولم يُطلقه، فبيّن أن مفهوم النَّاشِطَات ينحصر في المعنى الذي حدّده مصدرُ (نَشْطًا، ولا ينطبق هنا المعنى الذي يشير إليه مصدر (نشاطًا).وأبين الآن موقفي في تفسير هذه الآيات الخمس: لقد بينت من قبل أن هناك معنى معقولا عندي، وهو متفق عليه عند معظم الصحابة والتابعين وتبع التابعين وأكثر المفسرين، وهو أن هذه الآيات تتحدث عن الملائكة.بيد أن ثمة إشكالا وهو أن الضمائر هنا للمؤنث، مع أن الضمير الراجع على الملائكة يجب أن يكون مذكرًا، كما في قوله تعالى ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل: (٥١).لم ينقل المفسرون عن الصحابة أي جواب على هذا الإشكال، بيد أنهم أجابوا عليه من عند أنفسهم وقالوا: صحيح أن الأصل هو الضمير المذكر للملائكة، ولكن قد ورد هنا الضمير المؤنث لأن المراد هنا طوائف

Page 125

۱۲۰ من سورة النازعات هو ذاته الجزء الثامن الملائكة وجماعاتها.وكل المفسرين والعلماء متفقون على هذا المعنى وهذا التأويل.وحيث إن معظم الصحابة والتابعين وتبع التابعين ثم المفسرين مجمعون على أن هذه الآيات تتحدث عن الملائكة، فلا بد أن يُعتبروا متفقين على السبب المذكور أعلاه وراء ورود الضمير المؤنث أيضًا وما دام قد ثبت هذا فقد ثبت منه أيضًا أن الاعتقاد بأن ملاكًا واحدا ينزل إلى الدنيا بجسد مادي لإنجاز كل المهام الموكولة إليه مناف للشريعة ومخالف للقرآن الكريم.ذلك أن عزرائيل إذا كان يذهب إلى كل شخص لقبض روحه فما الحاجة إلى طائفة الملائكة للغرض نفسه؟ إنما تمس الحاجة إلى أكثر من فرد إذا كان العمل فوق طاقة الفرد الواحد أو إذا كانت هناك مهمات عديدة تتطلب عدة أفراد؛ فإما أن نقول إن عزرائيل غير قادر على قبض أرواح الناس ولذلك يصطحب معه طائفة الملائكة، أو لا بد أن نقول إن جميع أفراد هذه الطائفة المكلفة بقبض الأرواح يقومون بقبض أرواح الناس كل بأسلوبه وطريقته.والأمر نفسه بالنسبة إلى المهام الأخرى.أما إذا اعتقدنا أن ملاكًا واحدا ينزل إلى الدنيا ويقوم بجميع المهام، فهذا يخالف العقيدة الإسلامية؛ ذلك لسببين أولهما أن الاعتقاد بهبوط الملاك في كل مكان هبو طًا ماديًا اعتقاد مشابه للشرك؛ إذ نضطر لنعتقد بأن هذا الملاك الواحد يكون حاضرا وغائبا في وقت واحد في كل مكان، وبالتالي يصبح شریکا مع الله تعالى في صفة كونه محيطا بكل شيء، وكونه موجودا على العرش والفرش في وقت واحد.وثانيهما: أن الأجسام المادية هي التي تحتاج إلى الهبوط المادي، لكن الملائكة أجسام روحانية، والأرواح اللطيفة هي أكثر إنجازا لأعمالها بأشعتها منها بأجسامها المتنقلة، فإننا نرى في الدنيا أنه كلما كان الشيء لطيفًا أنجز عمله بأشعته بدلاً من تنقله.من شتى إذا فقد تبين من هذه الآيات - التي يتفق الجميع على أنها تتحدث عن الملائكة - الملائكة مسخّرة للقيام بمهمة ما ، وأن نطاق عملها محدود، وأن من أن كل طائفة كل مهمة منوطة بجماعة من الملائكة يقوم بها كلهم مجتمعين وليس ملاكا واحدا فقط.فلا بد من الاعتراف في هذه الحالة، أن لكل طائفة الملائكة مركزا، وأن من

Page 126

الجزء الثامن ۱۲۱ سورة النازعات أفرادها يظلون على اتصال بهذا المركز، وأنهم يرفعون تقريرهم إلى رئيسهم، لكن ليس على طريقة البشر، بل بما يتناسب مع عظمة الملائكة وحالهم.بعد هذه التوطئة أقوم بتفسير قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا، مفضلاً المعنى الأول للنازعات أي الملائكة إذ قد اتفق عليه معظم الصحابة والتابعين وتبع التابعين والمفسرين.ومن معاني النازعات الجماعات التي تقوم بعملية القلع حيث يقال نـزع الشيء عن مكانه: قلعه.وعليه فالمراد من قوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أننا نستشهد بجماعات الملائكة التي تنزع الأشياء من مكانها.وهذا المفهوم يلقي المزيد من الضوء على التمهيد الذي قمت به آنفا، ويوضح أن الملائكة الذين يقومون بعملية النزع جماعات عديدة، لأن عملية النزع أيضا أقسام، وعلى كل قسم منها جماعة من الملائكة.لقد تبين من ذلك أن وراء كل سبب في الدنيا ملاك مسبّب، وحيث إن الأسباب لا تُعدّ ولا تُحصى، فالملائكة أيضا لا تعد ولا تحصى، ولذلك قال الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (المدثر : ٣٢) فكما أن هناك أسبابا دقيقة وراء كل عمل في الدنيا بحيث يستحيل على الإنسان أن يحيط بها، كذلك ليس بوسع الإنسان تقدير عدد الملائكة المسخرة على هذه الأسباب الخارجة عن إحاطة الإنسان.ая والمراد من القلع المذكور هنا والذي تقوم به جماعات الملائكة هو قلع قلوب الكفار، الكافرة في الظاهر والراغبة في الإسلام في الحقيقة.والدليل على ذلك أن السورة السابقة تتحدث عن غلبة الإسلام وغلبة ،القرآن وتقدم غلبتهما دليلا على القيامة.وإن ترتيب السور القرآنية يقتضي أن يبين الله تعالى الآن في هذه السورة كيف تتم هذه الغلبة وكيف يزدهر الإسلام وكيف يُنزع الكفر من أساسه ؛ لدراسة المزيد عن الملائكة ونظامها ومهامها راجع كتاب المسيح الموعود اللة باسم "توضيح المرام" ص ٦٦ الخزائن الروحانية المجلد ٣.(المفسر)

Page 127

الجزء الثامن هذه الغلبة هو ۱۲۲ سورة النازعات ولذلك استهلّ الله تعالى هذه السورة بقوله وَالنَّازعات غَرْقًا، فبين أن السبيل إلى أن جماعات عديدة من الملائكة ستعمل على نزع القلوب المعادية للإسلام في الظاهر والمستيقنة بمحاسنه في الواقع من أرضها.الحق أن كثيرا من الكافرين كانوا في قلوبهم متبرمين من الكفر لأسباب مختلفة، فكان بعضهم متبرما من الكفر بسبب التعامل الوحشي الموجود بينهم وبعضهم لسوء نظامهم، وبعضهم بسبب الظلم الموجود بينهم وبعضهم لفقدان الشريعة بينهم.فكانوا في بستان الكفر كأشجار أصبحت جذورها ضعيفة، ولم تعد منسجمة مع أرض الكفر؛ فلما عرض محمد و أحكام القرآن على الناس نشطت الملائكة المسخرة كل في نطاق الخلق الخاص به، ليستثيروا المشاعر الطيبة في هؤلاء الكافرين.لم يكن في التعاليم الكاملة التي أتى الرسول بها شرك بل التوحيد، ولا جهل بل العلم، ولا ظلم بل العدل، ولا وحشية بل ،الرأفة، ولا حرية مطلقة بل القوانين النافعة، ولا فوضى بل النظام.كان في تعاليمه ما يغطي كل ما تحتاجه الفطرة الإنسانية، ويُصلح كل خطأ كان في الكفر.فكل ملاك مسخر على خُلق الأخلاق بدأ من يستثير المشاعر الطيبة في كل قلب كان داخل نطاق عمله ويجلي ما فيه من خير مما جعل عيوب الكفر تبدو له فظيعة جدا.مثلاً إن الملائكة المسخرة لإرساء وحدانية في العالم أخذت بعد نزول تعاليمه لا تولّد في قلوب الكافرين الكارهين للشرك مزيدًا من الكراهية تجاهه، وتكشف لهم شناعته أكثر، كما قرَّبت إلى أفهامهم تعاليم الإسلام الطيبة المتعلقة بنطاق عملهم، مما زادهم نفورًا من بستان الكفر وأرضه التي كانوا مقيمين فيها، فعلموا أن تلك الأرض لا تناسبهم، فاشتد للوصول إلى البستان المحمدي.وبعد أن اتخذت الملائكة هذه الخطوة أعني أنها كرهت إليهم الكفر وزادتهم رغبةً في الخير وحبًّا للإسلام اتخذت الخطوة التالية المذكورة في قوله تعالى وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا - :يعني: نُقسم بطوائف الملائكة التي تعقد عقدًا – أي أنها توصل هذه الأرواح التي قطعوها من أراضي الكفر، بمحمد علما أن هذا لا يعني أن طوائف الملائكة التي قامت بعملية قلع هذه الأرواح من أرض الكفر لا تقوم بعملية "النشط" أي الوصل، بل المعنى أنها بعد عملية القلع الله حنينهم

Page 128

الجزء الثامن ۱۲۳ سورة النازعات تبدأ بعملية الوصل، بمعنى أنها بعد تنفيرهم من الكفر تولد فيهم الإيمان وتوصلهم محمد.وليست البيعة إلا عقدًا ووصلاً في الواقع، وقد قال النبي ﷺ نفسه: "من مات وليس في عنقه بيعة، فقد مات ميتةً جاهلية (مسلم : كتاب الإمارة)، وهذا هو ما يعنيه النشط أيضًا، أي عقد الحبل.إذًا، فالمراد من قوله تعالى والناشطات نَشْطًا أن الملائكة تُرغَبُ في الإسلام من يتبرأ من الكفر وتربطه بحبل بيعة النبي ثم قال الله تعالى وَالسَّابحات سَبْحًا..أي نُقسم بجماعات الملائكة التي تسبح وتخرج في سباحتها بعيدًا.لقد بين الله تعالى هنا أن الملائكة لن تسعى لغلبة الإسلام في مكة فحسب، بل إنها بعد أن تضمّ الأرواحَ السعيدة من مكة إلى الإسلام تذهب خارجها لجلب الأرواح الأخرى المستعدة لقبول الإسلام.وكان من نتائج سباحة الملائكة وتحليقها إسلام أبي ذر الغفاري وقبيلته وإسلام الأنصار من المدينة وإسلام أبي موسى الأشعري وقبيلته من اليمن وإسلام سلمان من الفرس، وهكذا دبّر الله تعالى لانتشار الإسلام في مختلف الأقطار في وقت واحد.الملائكة روح ثم يقول الله تعالى فَالسَّابقات سَبْقًا..أي تتولد في جماعات الملائكة التسابق والتنافس بعد أن تنجح في فتح قلوب المؤمنين من شتى الأقطار، فتسعى من كل طبقة وفي كل قطر أن تسبق بعضها بعضا في هذا العمل.وبالفعل نرى من خلال أعمال المؤمنين الذين هم أظلال الملائكة أنهم كانوا يتنافسون في الخيرات برغبة عارمة وكل طائفة وقبيلة منهم كانت تريد إحراز قصب السبق في الخيرات.هناك أمثلة كثيرة على ذلك في زمن الخليفة الأول والثاني للرسول ، بل نجد أمثلة عديدة على ذلك في العهد النبوي نفسه الذي كانت فيه جماعة المؤمنين صغيرة جدا.فرغم أن المهاجرين والأنصار كانوا يشتركون حتى في اللقمة الواحدة نفسها، وكانوا أشدّ تحابا من الأشقاء، لكنهم كانوا يتنافسون في مجال خدمة الدين أشد التنافس.ثم إن الأنصار أنفسهم كانوا قبيلتين؛ الأوس والخزرج، ومع أنهم أصبحوا بالإسلام إخوانًا متناسين ما كان بينهم من حروب في الماضي، إلا أنهم كانوا شديدي التنافس فيما بينهم في سبيل الدين حتى إن الرسول ﷺ لما أعلن

Page 129

الجزء الثامن يتنافى ١٢٤ سورة النازعات بينهم : مَن ذا الذي يكفيني أذى العدو – وكان يقصد كعب بن الأشرف العدو اللدود للإسلام – قامت جماعة من الأوس وقالوا: يا رسول الله، نحن نكفيك شره.فوكلهم بهذه المهمة فقتلوا هذا العدو وفقًا للقواعد الحربية العامة، وليس ظلمًا (السيرة لابن هشام الجزء الثالث مقتل كعب بن الأشرف).علما أن أعداء الإسلام يعترضون أن أمر النبي بقتل كعب لم يكن مشروعًا، ولكن طعنهم مع الأحداث التاريخية التي يضيق المحال عن الخوض في تفصيلها، ومن أراد الاستزادة فليقرأ تفسير قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بَعْضَهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة : ٧٣-٧٤)، وذلك في المجلد الأول من هذا التفسير.فلما قتل كعب تولدت في قلوب الخزرجيين مشاعر التنافس في الخير؛ فجاءوا النبي ﷺ قائلين: يا رسول الله، مرنا بمهمة مشابهة حتى لا نتأخر عن إخواننا الأوس، فوكل إليهم الرسول الله القتل أبي رافع.فذهبوا وقتلوه السيرة لابن هشام، الجزء الثالث، مقتل سلام بن أبي الحقيق.و لم يكن التنافس بينهم في الخيرات على صعيد القبائل فقط، بل كان على صعيد العائلات أيضا فمثلاً كانت عائلات عديدة من الأنصار تتناوب في حر ؛ حراسة النبي ليلا، وكانوا يحرسونه بدون سلاح عادة، وفي إحدى الليالي سمع النبي صوت سلاح، فسأل عن الصوت، فقيل له إن بني فلان يحرسونه مسلحين، فسر النبي صل الله النبي بروح التنافس بينهم البخاري، كتاب الجهاد باب الحراسة في الغزو) ثم إن هذا التنافس في الخيرات كان بين الفقراء والأغنياء أيضًا، فذات مرة جاء الفقراء إلى النبي ﷺ وقالوا: يا رسول الله، إن إخواننا الأغنياء ذهبوا بالدرجات، فهم يزكون أموالهم ويُخرجون صدقات أخرى ويعملون أعمال الخير الأخرى، ولكنا محرومون منها بسبب فقرنا، فدلنا على عمل يسد هذا النقص.فقال النبي عليكم بالتسبيح ٣٣ مرة فالتحميد ٣٣ مرة والتكبير ٣٤ مرة بعد كل صلاة.وبعد أيام رجع هؤلاء إلى النبي له وقالوا يا رسول الله، لقد علم إخواننا الأثرياء-

Page 130

الجزء الثامن ۱۲۵ سورة النازعات - بطريق أو بآخر بما علمتنا، فيقومون بالتسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلاة، فامنعهم من ذلك.فقال : كيف أمنعهم من الخير؟ (مسلم، كتاب المساجد).ثم لم يكن رجالهم وحدهم متنافسين في الخيرات، بل نرى نساءهم متحليات بروح التنافس هذه؛ فقد ورد أنهن ذهبن مرة إلى النبي وقلن : يا رسول الله، إنك تعظ الرجال فقط، ولا تعظ في النساء.فجعل الرسول يوما لوعظهن.(البخاري: كتاب العلم) إذًا، ما كان المسلمون يتهربون من العمل في سبيل الدين قائلين: الحمد لله لم تقع هذه المسؤولية علي، بل على غيري، بل كان كلّ واحد منهم متحمسا ليحمل الأعباء أكثر من غيره وهذا هو سر رقيّ الأمم.إذا حاول أبناء أمة نقل الأعباء والمسؤوليات إلى الآخرين هلكت أما إذا كان كل فرد منها تواقًا للخدمة أكثر من غیره از دهرت باستمرار.وكان الصحابة رضوان الله عليهم – متحلين بهذه الميزة، مما يدل على أن الملائكة التي كانت تحتهم على الخير متحلية بهذا الحماس أيضًا.وقد تجلى هذا الحماس في المسلمين كثيرا عند انتشار الإسلام حتى أن التاريخ يذكر أن بعض القبائل ضحت بكل أبنائها في الحروب الإسلامية في عهد الخليفتين الأول والثاني، ولم يريدوا أن يشاركهم غيرهم من المسلمين في شرف هذه التضحية والشهادة في سبيل الإسلام كانوا يسمحون للآخرين أن يشاركوهم في الغنائم والعز المادي، لكن فيما يتعلق بالتضحيات في سبيل الأمة فكانوا يتمنون دائما أن يتعاطوا كأس الموت دون الآخرين.وهذا موضوع طويل لا مجال لتفصيله هنا، بيد أنه مما لا غبار عليه أن هذا الدليل البين الساطع على صدق قوله تعالى فالسابقات سَبْقًا لموجود في صفحات التاريخ.أما قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا فبيّن فيه أن الملائكة بعد فراغها من عملية نفخ التسابق تصبح مدبرات للأمر ، أي ستصبح الأرض تحت حكم الملائكة؛ ذلك روح أن الملائكة يحبّون الناس على الخير، فإذا خضعت الأرض لحكم الصالحين الذين يديرون شؤون القوم، فتكون النتيجة أن الملائكة سيكونون حاكمين على الدنيا، وبتعبير آخر: إن ملكوت الله يقوم في الأرض، لأن الملائكة يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

Page 131

الجزء الثامن ١٢٦ سورة النازعات (النحل: ٥١).إذا، ستحكم الملائكة العالم من خلال حكم الصالحين المطيعين للملائكة.ومن خلال حكم الملائكة المطيعين الله تعالى في كل شيء سيقوم حُكم الله على الأرض.وبكلمات أخرى فإن الدعاء الذي قام به المسيح الا قائلا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَات لِيَتَقَدَّس اسْمُكَ لِيَأْت مَلَكُوتُكَ، لتَكُنْ مَشيئَتُكَ كَمَا السَّمَاءِ كَذلكَ عَلَى الْأَرْضِ مَتَّى ٦: ٩-٠ ۱)، والذي لم يتحقق على يده العليا لأن أمته لأن أُمّته لم تنل لم تنل الملك زمن صلاحهم، بل نالوه بعد أن صاروا مشركين، قد تحقق ذلك الدعاء بواسطة النبي محمد ، لأن أتباعه نالوا الملك وقلوبهم تحت تصرُّف الملائكة، فكانوا يفعلون ما يؤمرون من قبل الملائكة التي تأمرهم بما يريده.الله ويأمرها به وهكذا لم يعد ملكوت الله في زمنهم في السماء فحسب، بل قام على الأرض أيضًا.ما أروعَ هذه النبوءة! وما أعظمها حتى إن الأعداء يقرون مضطرين بأن حكم خلفاء الإسلام لم يكن حُكم بشر، بل كان حُكم أخلاق.ومصطلح "حُكم الأخلاق" لا يُستعمل عند غير المسلمين إلا للحكم الذي يُسمى في المصطلح الإسلامي حكم الملائكة.وما لنا أن لا نُسمّي حُكْمَهم حكم الملائكة وقد اعتبر يوسف الملكا بحسب قوله تعالى إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (يوسف: ٣٢).هناك أمران ضمنيان يمكن استنتاجهما من هذه الآيات كدروس قانونية، وهي كالآتي: الدرس الأول: لقد أشار الله تعالى بقوله وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا إلى ازدهار.الإسلام..أي أن دعوته ستصل منذ البداية إلى مناطق بعيدة.وهذا إشارة إلى أن دعوة الإسلام ذات جاذبية عالمية ولا تختص بدولة أو أُمّة.إن جذورها ليست في أرض التقاليد القومية أو القطرية، بل في أرض الأخلاق والمشاعر الإنسانية، ولذلك ستنتشر بسرعة في أقطار بعيدة، وستجتذب كثيرًا من الشعوب والأمم بسرعة وإن قبلها في البداية قلة من الناس.لقد بين الله تعالى هنا إحدى فضائل الإسلام التي يضيق المجال عن الخوض فيها، كما نبه إلى أمر هام لا بد منه لجميع الحركات التي تريد أن تكون عالمية، ألا وهو

Page 132

سورة النازعات الجزء الثامن ۱۲۷ أنه لا يمكن لأحد أن يأتي بدعوة عالمية ما لم يترفع عن النزعة العنصرية.إن الهند کله، مثلا بلد من بلدان العالم، وليست العالم ومع ذلك لم يتمكن زعماؤها السياسيون بعد من خَلْقِ جو وطني، ذلك لأنهم قد جدّروا حركاتهم السياسية في أرض النزعة القبلية نتيجة ضغط قبلي أو مصالح عائلية، ولذلك تأخذ شجرة حركاتهم في الجفاف جزئيًا أو كلياً بعيد نموّها، ولا تتحول إلى دوحة تهيئ الظلال وهو لا يزال في مكة وفي زمن العصبية القبلية للبلاد كلها.بينما نجد الإسلام - قد اجتذب من المدينة قبيلتي الأوس والخزرج المتحاربتين، وأخضع اليمن الذي كان يدعي تفوقه السياسي واجتذب من اليهود عبد الله بن سلام، وسلمان من فارس – بيد أنهما كانا ممثلين لقوميهما الذين طاروا إلى الإسلام كالفراشات.الشديدة - - وليس ذلك إلا أن الإسلام لم يكن كماء راكد في بركة بل كان كمثل غيث يمطر على تل عال ويصل إلى أماكن بعيدة ولا يتجمع في مكان واحد.لم يكن حَمَلةُ الإسلام خدّام أُمّتهم فقط، بل كانوا خدام الإنسانية جمعاء.لقد علم كل منهم أنه لا يرث هذه الثروة وحده، بل فيها نصيب لأهل البلدان الأخرى، فخرج كل واحد بهذا التعليم في مختلف الأنحاء والأقطار، فانتشر الإسلام في العالم كله.لو كانت تعاليمه متأثرة بالتقاليد القومية والقطرية، أو لو كان أتباعه يريدون تفوق بلد معين لما انتشر الإسلام هكذا أبدًا.واليوم أيضًا لن تحقق أمّةٌ غايتها إلا إذا وسعت نطاق تعاليمها وأخلاقها كما فعل الإسلام.أما الدرس الثاني فهو أن الله تعالى قد بيّن هنا أن تعاليم الإسلام لا تتسامى عن منهم هم شديد إلى حدود الأقطار والبلاد فحسب، بل هي واسعة من حيث الطبائع، وقد ذلك بكلمات النازعات، والناشطات والسابحات التي هي صيغة الجمع..أي أن هنالك طوائف للملائكة تقوم بهذه المهام.بمعنى أن تعاليمه لا تخاطب أصحاب فطرة واحدة، بل كل فطرة وكل طبيعة وكل مزاج.إن المجال يضيق عن الخوض في تفصيل هذا الموضوع، غير أنكم لو أخذتم الأمور البارزة التالية في الاعتبار استطعتم استيعاب الأمر، أعني أن الإسلام قد تناول بالبيان كل القضايا الهامة من سياسة وتمدن واجتماع وتجارة واقتصاد، وأصدر الأحكام العادلة للسيد والخادم

Page 133

الجزء الثامن ۱۲۸ سورة النازعات الطبائع ل مره المختلفة طبيعة طائفة من من تنمية والزوجين والآباء والأولاد والأخ وأخيه والمعلم والتلميذ والغني والفقير والملك والرعية والصديق وصديقه جميعا.كما أعطى تعليمات تشفي غليل أصحاب عابد وجندي وقاض ومحب للجهاد ومعجب بالعدل ومولع بطلب العلم وراغب في الصدقات ومحب للنظام.فما من طبع من الطبائع الإنسانية إلا وقد عمل الإسلام على تطويره.فإذا كان الله تعالى قد أكد تفوق الإسلام من جهة مبينا أنه قد اهتم بكل بلد وبكل طبع إنساني حيث وكل لكل بلد ولكل الملائكة لنشر الإسلام ،وتبليغه فإنه من جهة أخرى قد نبه إلى أن الحركات التي تريد أن تصبح عالمية لا بد لها من أن تأخذ كل قوم وكل طبع إنساني في الاعتبار - إلى حد لا يعيق هدف الأمة الأسمى – بل لا بد لها من كل ما يوجد في أي فرد من كفاءة خاصة كفاءة خاصة من أجل رقي الأُمة.وأبين الآن تفسيرًا آخر لهذه الآيات باعتبار الطوائف طوائف جماعات الناس لا جماعات الملائكة.علما أن النزع يعني الرماية أيضا، والنشط يعني عقد الحبل، والسبح يعني السباحة أو الخروج بعيدا، والسباق يعني التنافس والتغلب، وتدبير الأمر يعني إدارة نظام الحكم.وعليه فتعتبر هذه الآيات إشارة إلى الفتوحات الإسلامية.كانت سورة "النبأ" قد أشارت في آخر آياتها إلى يوم آياتها إلى يوم الفصل محذرةً من اليوم الذي يصبح فيه الإسلام غالبا حتى يقول الكافر يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا.أما الآن في سورة النازعات فقد فصّل الله تعالى هذا الموضوع وبين كيف تكون بداية غلبة الإسلام وكيف تبلغ ذروتها.يقول الله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا..أي نقدّم على صدق دعوانا جماعات رماة المسلمين الذين يرمون السهام إغراقًا، بمعنى أنهم سيقومون بالرماية بأقصى ما أوتوا من قوة غير مكترثين لراحتهم هؤلاء الرماة هم جماعات الصحابة الذين كانوا عند نزول هذه السورة بضعة أفراد وكانوا أقل عددًا أن يسموا طائفة أو جماعة، من وكانوا عرضة للاضطهاد غير قادرين على أن يرفعوا أيديهم إلى عدوهم، ناهيك أن يرفعوا عليهم سيفا؛ ذلك يعلن الله تعالى أن ومع يوم غلبتهم غلبتهم - الذي يقول فيه الكافرون يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا - لات، حيث ننشر الإسلام خارج مكة،

Page 134

الجزء الثامن ۱۲۹ سورة النازعات فتجتمع قبائل أخرى تحت رايته، وعندها نسمح للمسلمين بالحرب، فيقومون بواجب الجهاد أداءً غير مسبوق؛ ذلك لأن الإغراق يعني بلوغ المرء غاية الحد وأقصى درجة في العمل.ما أروع ما تحققت به هذه النبوءة فيما بعد! حيث خرج الإسلام من مكة وبلغ المدينة، فصار المسلمون من طائفة إلى طائفتين: المهاجرين والأنصار.وكان مسلمو المدينة قبيلتي الأوس والخزرج اللتين كان بينهما عداء شديد قبل الإسلام، وهكذا صار المسلمون في الواقع ثلاث فئات، فصح أن تُطلق عليهم صيغة الجمع: "النازعات".والواقع أنه لما أذن للمسلمين بالقتال كانوا ثلاث فئات فاستحقوا بجدارة أن يُسمّوا "النازعات والناشطات".إذا ، فلما اجتمعت هذه الفئات الثلاث تحت راية الإسلام حان موعد الإعلان الرباني أذنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ يبَعْض لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا الْمُنْكَر وَللَّه عَاقَبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: ٤٠-(٤٢) أي يُسمح من الله تعالى بالقتال للذين تُسلّط عليهم الحرب.وقد أذن لهم بذلك لأنهم قد ظُلموا.وقد أذن لهم بالقتال لأن الله قادر على نصرهم.لو كانت الحرب تفنيهم لم يؤذن لهم بها.فإذْنُ لهم بالحرب دليل على أن الله يضمن لهم النصر.إنهم قوم قد أُخرجوا من ديارهم، وليس ذنبهم إلا أنهم قالوا ربنا الله.ولو لم يدفع الله شر بعض الناس عن بعض لدُمّرت معابد اليهود والنصارى والمسلمين التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا.ولا شك أن الله تعالى سينصر من يهب لنصرة دينه، إن الله قوي غالب.وإن صفة هؤلاء القوم الذين نريد أن نعطيهم الملك الآن أنهم لو أعطوا الملك أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولن يسعوا لتوطيد حكمهم في الدنيا بل حُكم الله تعالى.عَنِ الله

Page 135

الجزء الثامن ۱۳۰ سورة النازعات وفي غزوة بدر تحققت هذه النبوءة الواردة في قوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ) وَالنَّاشطات نَشْطًا....، حيث أذن للصحابة بالقتال فخرجوا وتصدوا للعدو الذي كان يزيد عليهم ثلاثة أضعاف وقد اعتمد المقاتلون في هذه المعركة على السهام غالبا؛ لذلك قال الله تعالى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى (الأنفال: ۱۸).﴾ لا شك أنها إشارة إلى حفنة من الحصى التي رماها الرسول ﷺ في وجوه الكفار، ولكنها تشير أيضا إلى الرياح التي جرت بأمر الله تعالى من وراء المسلمين بعد أن أطلق النبي هذه الحفنة مما جعل سهام المسلمين تنطلق بقوة وتصيب الهدف، بينما سقطت سهام الكفار في الطريق أو فقدت قوتها نتيجة ضغط الرياح المعاكسة.(شرح) المواهب اللدنية للزرقاني، ذكر غزوة بدر) صل الله ومما يدل على كون المسلمين غَرْقًا في هدفهم - أي أنهم لن يبرحوا عن القتال ولن ينسحبوا منه مهما حدث ما حكاه عمير بن وهب زعماء الكافرين 11 أحد الذي بعثوه ليقدّر قوة المسلمين يوم بدر، فلما رجع إليهم قال: إنهم قرابة ثلاثمائة شخص، ولكن يا قوم لا تحاربوهم رغم قلتهم، فقد رأيتُ البلايا (النوق) تحمل المنايا".(السيرة لابن هشام، ذكر غزوة بدر الكبرى)..أي أن وجوههم تنبئ أنهم قد حضروا ليموتوا، لا أن يرجعوا أحياء فخافت قريش بما قاله ابن وهب، إلا أن أبا جهل تمكن من إيقاد نيران الحرب.والشهادة الثانية على كون المسلمين غَرْقًا في القتال ما حصل بين أبي بكر وابنه عبد الرحمن، فبعد معركة بدر بفترة قصيرة أسلم الأخير وهاجر إلى المدينة، وبينما هو يتجاذب أطراف الحديث عن وقائع بدر قال لأبيه : يا أبت، لقد كنت تحت ضربة سيفي مرارًا أثناء القتال، ولكني امتنعت عن قتلك في كل مرة، لكونك أبي.فقال له أبو بكر : أما أنا فلو تمكنتُ منك لقتلتك و لم أتردّد لأنك ابني.(الروضُ الأُنْفُ: غزوة بدر.هذا بالرغم من أن الآباء هم أشدُّ حبا للأولاد من حب الأولاد لهم عادة إنها روح الإسلام التي قد جعلت كل أب وكل ابن وكل زوج وكل زوجة لا يعبأ بأي شيء يصدّه عن سبيل الحق.وثبت من هذه الشهادات التي هي من قبل المؤمنين والكفار جميعًا أن جماعات الصحابة كانت مصداقا لقوله تعالى

Page 136

الجزء الثامن ۱۳۱ سورة النازعات وَالنَّازعات غَرْقًا.لقد عاشوا في البداية مسالمين متمسكين بأهداب الصبر إلى أقصى حد، وعندما أصبحوا النازعات) أخذوا في أيديهم السهام وأصبحوا هذا العمل، بحيث لم يضعوا القوس من أيديهم إلا بعدما فاضت من جسدهم.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى أصحاب محمد وبارك وسلّم إنك حميد مجيد.أن معي وكان نتيجة إخلاصهم أن الكافرين رأوا بأم أعينهم وفي هذه الدنيا كيف تحقق قول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا.كان أبو جهل رئيس مكة وقائد جيشها يوم بدر يقول عبد الرحمن بن عوف - أحد قادة المسلمين المحنكين - أنه فيما كان أبو جهل يصف جنوده في بدر، نظرت يمنة ويسرة، فإذا بصبيين أنصاريين يبلغان الخامسة عشرة، فقلت في نفسي: لن أستطيع اليوم شفاء نفسي أثناء القتال، لأن - لسوء حظي - صبيين من الأنصار عديمي الخبرة بالقتال.وبينما أنا في ذلك حتى غمزني الذي على يميني، فقال: يا عمّ ادْنُ مني لأني لا أريد ما سأقول في أذنك فاقتربت منه فقال: عمّ، أرني أبا جهل الذي صاحبي يسمع آذى رسول الله ﷺ أذى شديدا، فإني أريد قتله؟ وما أن أنهى كلامه، حتى غمزني الصبي الذي على يساري فقال يا عم من هو أبو جهل الذي كان يؤذي رسول الله الله الذى شديدا ، فإني أحب قتله اليوم؟ ويقول عبد الرحمن بن عوف : كنت مقاتلاً محتكًا، إلا أني لم أتصور أني قادر على قتل قائد جيش الكافرين أبي جهل الذي كان يقف وسط حلقة من جنوده الخبراء بفنون الحرب.فأشرتُ لهما بيدي وقلت: هو ذلك الشخص المختفي في الخوذة والدرع والذي يحرسه مقاتلون أشداء بسيوفهم.وكنت أعني بذلك أن قتلهما هذا الرجل دونه خرط القتاد.ولكن لم يدي تهبط بعد الإشارة حتى انقض الصبيان نحو أبي جهل انقضاض الصقر على العصفور وأخذا يشقان صفوف الكافرين وكان عكرمة المقاتل المحنك المغوار يحرس أباه أبا جهل من أمامه، ولم يدر بخلده أو غيره قصد الصبيين اللذين اقتربا بسرعة بالغة من الحراس الشاهرين سيوفهم، ومع ذلك لم يستطيعوا أن ينزلوا سيوفهما قبل فوات الأوان إلا واحدا منهم الذي قطع يد أحد الصبيين، ولكن تكد

Page 137

الجزء الثامن ۱۳۲ الله بن مسعود : سورة النازعات الذي يرى بذل النفس رخيصا لا يعيقه قطع يده عن قصده، فما زال الصبيان يشدّان على الحراس كالصخرة المتدحرجة من أعلى الجبل حتى أعلى الجبل حتى انقضا على أبي جهل بسيفيهما، فوقع صريعًا قبل أن تبدأ الحرب فعلاً.ويقول عبد وجدتُ أبا جهل في حالة الغرغرة بعد انتهاء القتال فقلت له : كيف حالك؟ قال: أموت بحسرة.ليس القتل عارًا، ولكن لو غيرُ أكار قتلني، يعني ليتني لم أقتل بيد صبيين من الأنصار المزارعين بل قتلني غيرهما؛ ذلك لأن أهل مكة كانوا يحتقرون أهل المدينة الذين كانت حرفتهم الزراعة.ثم قال أبو جهل لابن مسعود: إني في أذى شديد، فاعمل لي معروفًا واقتلني بضربة سيف، ولكن اقطع عنقي طويلةً؛ لأن قطع العنق طويلة من علامات القائد.فرضي ابن مسعود علامات القائد فرضي ابن مسعود به بقتله ليخلصه من العذاب ولكنه قطع عنقه قريبا من الذقن.وهذا يعني أن رغبته الأخيرة أيضا لم تتحقق.(البخاري، كتاب المغازي فما أروع وما أوضح ما تحققت به هذه النبوءة الواردة في قوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ! ولام التعريف في لفظ الكافر قد تكون للعهد، وقد تكون للاستغراق أي للكمال..أي الكافر الذي هو كفر متجسد، وهو أبو جهل، فالمراد أن هذا الكافر سيقول عندها: ليتني كُنْتُ تُرَابًا.فكّر في الأحداث جيدا لتعلم ما إذا كان أبو جهل قد صاح يومئذ لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا أم لا.لقد رأى بأم عينه الخزي والهوان، محققا هذه النبوءة الواردة في سورة (النبأ ) بكل جلاء ووضوح.ثم يقول الله تعالى وَالنَّاشِطَات نَشْطًا.لقد أجاب الله تعالى في الآية السابقة ما إذا كان المسلمون سيُهزمون في هذه الحروب، حيث بين أنهم إنما يخوضونها لكي يضحوا بأرواحهم في سبيل الإسلام بغض النظر عن الفتح أو الهزيمة، أما الآن فردّ الله على السؤال القائل: ألا يُهلك هؤلاء المسلمون القلائل ويُدمرون بإلقاء أنفسهم في خطر الحرب؟ فبيّن أنهم لن يهلكوا أبدا، بل سينتصرون فيها حتى إنهم سيوثقون أعداءهم بالحبال ويأسرونهم.وبالفعل، فقد وقع كثير من الكفار أسرى في أيدي المسلمين يوم بدر وأُوثقوا بالحبال.(الزرقاني، غزوة بدر)

Page 138

الجزء الثامن ۱۳۳ سورة النازعات أما قول الله تعالى وَالسَّابحات سبحا فهو إشارة إلى حنكتهم الحربية، لأن المرء سَبْحًا إذا مهر في عمل قيل هو يسبح فيه، لأنه يقوم به بسهولة ويسر.وهذا ما رأيناه في الصحابة، حيث مهروا في فنون القتال حتى انتصروا على جنود قیصر و کسری النظاميين الذين كانت عندهم خبرة قتالية عالية.وقد يكون قوله تعالى وَالسَّابحات سَبْحًا إشارة إلى أن حروب المسلمين سيتسع نطاقها فتصل بعيدًا عن المدينة.فإن السابح سبحا يذهب عن ضفة النهر بعيدا، كذلك يبدأ المسلمون حروبهم من المدينة، ثم لا يزالون يدفعون العدو ويخرجون في مطاردته بعيدا جدا وبالفعل وقعت حرب بعد حرب حتى انتشرت في أطراف الجزيرة.بروح يقول الله تعالى فَالسَّابقات سبقا..أي نقدّم كشهادة، جماعات المسلمين التي تتسابق فيما بينها.تصاب الشعوب بالإرهاق عادة عندما تتوالى الحروب طويلاً وتتسع رقعتها، ولذلك أخبر الله تعالى هنا أنه لا تزال بين المسلمين جماعات متحلية الفداء والتضحية بحيث لن يرهقها طول الحروب واتساعها، بل هذا سيرفع من معنوياتهم ويزيدهم إيمانا كما لو أن التضحية بالنفس عندهم لعبة يتسابقون فيها.فكما نرى فريقي الكرة أو الكريكيت يتسابقون أثناء اللعب، كذلك سيظل هؤلاء يتنافسون في بذل ،أرواحهم، إلى أن يأتي الزمن الذي يتحقق فيه قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا..أي أن الله تعالى سيضع زمام الحكم في أيديهم.والحق أن الأمم التي تتحلى بالمزايا المذكورة أعلاه هي التي تأخذ زمام الحكم في يدها، ولا تقدر قوة في العالم على الحيلولة دون ذلك.إن انهماك أفراد الأمة في أعمالهم ضد عدوها، وشعورهم بالمتعة والسهولة في أداء مهامهم، ثم تحلّيهم بروح التنافس في التضحية لأمتهم، هو من عوامل تفوق الأمة وغلبتها.وهذا ما أنبأ الله المسلمين في هذه الآيات، وهذا هو المشهد الذي نراه في حياة الصحابة.وهناك موضوع ثالث تتحدث عنه هذه الآيات وهو الكفاءة الروحانية، يقال: نزع ينزع نزوعًا كذا: كف عن عنه.ونشط الدلو من البئر: نزعها وانتشلها بلا بَكْرة.عن به

Page 139

الجزء الثامن ١٣٤ سورة النازعات وكما ذكرت من قبل فإن القرآن الكريم قد ذكر موضوع غلبة الإسلام وموضوع يوم القيامة معًا، مخاطبًا الكفار أنكم تنكرون وجود الأمرين كليهما، ولكنهما واقعان لا محالة وكل منهما سيكون دليلا على الآخر؛ وهذا هو موضوع سورة (النبأ).أما سورة (النازعات) فقد رد الله فيها على اعتراض يثيره الكافرون، ذلك لأن الفطرة الإنسانية تقول : لنفترض أن الله تعالى سينجز للمسلمين ما وعدهم، ولكن أين آثار ذلك، إن الله تعالى إذا أراد فعل شيء ظهرت آثار وشواهد تدل على مشيئته تعالى.فمثلا لا يسع أحدًا أن ينكر أن الله تعالى يخلق الولد، ولكنه تعالى قد جعل لذلك قابلية في الرجل وزوجته فعندما يتم الزواج بين رجل وامرأة نرى بينهما نوعا من الرغبة.وإذا اختليا ازددنا يقينًا بأن هذه بداية ولادة المولود.ثم بعد أيام نرى لذلك آثارا ظاهرة، فيقول الجميع الآن سيولد لهما المولود.لا شك سيولد بعد مدة، ولكن الجميع يدرك أنه سيولد حتما لأن آثاره قد ظهرت.أو خذوا الطالب مثلاً فإنه إذا داوم في الكلية علمنا أنه سيفوز بشهادته العلمية.أو إذا أراد شخص ثري بناء قصر علمنا أنه سيبنيه حتمًا إذ نرى آثار ذلك لأنه يملك المال والإرادة والبنائين.أنه هي فثبت من هنا أن الناس في الدنيا لا يوقنون بشيء ما لم يروا آثارا له.وبحسب هذا المبدأ كان الكافرون يقولون للمسلمين: تدّعون بمجيء يوم القيامة، وحين نسألكم الدليل عليها تقولون: سينتصر الإسلام وسينمحي الكفر وستكون غلبة الإسلام دليلاً على مجيء يوم القيامة.مع أن غلبة الإسلام التي تقدمونها دليلا على القيامة نفسها بحاجة إلى دليل إذ لا نرى آثارا لغلبته.فهناك حفنة من الناس الذين اعتنقوا الإسلام ولا نرى فيهم أي آثار لغلبتهم على العالم كله.يتغلب الناس في الدنيا بقوة العلم، ولكن لا يوجد بين هؤلاء عالم واحد - علما أن الكفار لا يعنون من العلم هنا علمًا وإنما يقصدون الكهانة وما شابهها - ويتغلب الناس في الدنيا بقوتهم الصناعية، لكن لا نجد في المسلمين أصحاب الصنعة أيضًا، كما ليس عندهم قادة أبطال حتى نقول إنهم سيفتحون العالم للإسلام، وليس عندهم قوة ولا منعة حتى يقال إن الناس يتبعونهم خوفا من بطشهم، وإنما هم حفنة من الفقراء الذين لا

Page 140

الجزء الثامن بني ۱۳۵ سورة النازعات بسبب ما جاء كفاءة عندهم ولا قدرة حتى يُثبتوا وجودهم في المستقبل وإن لم يكونوا قادرين اليوم على ذلك.هل أداء الصلوات والنطق بالشهادة دليل على غلبتهم؟ كلا بل لا بد للغلبة في الدنيا من كفاءات معينة ولا نجدها فيهم، بل لا نجد فيهم آثارها أيضًا، وبتعبير آخر لا توجد هذه الكفاءات فيهم لا بالفعل ولا بالقوة.فمثلا، إذا أحد مصنعًا، قلنا إنه سيكسب منه الملايين غدًا وإن لم يكسبها اليوم.فما دام المسلمون غير مؤهلين لا واقعا ولا مستقبلاً فكيف تكون غلبتهم الموهومة المستقبل دليلا على وجود القيامة؟ هذا هو الاعتراض الذي قد نشأ في سورة (النبأ)، فردَّ الله تعالى عليه هنا في السورة قيد التفسير، فقال وَالنَّازعات غَرْقًا..أي أيها الكافرون، تزدرون المؤمنين اليوم ولا ترون فيهم أي كفاءة، وتجدونهم متخلفين عن باقي القوم وتعتبرونهم أقلهم علمًا وخبرة وحرفة ومهارة وصناعة، وأكثرهم هوانًا وترونهم لا يصلحون لشيء، ناهيك أن يصلحوا لسيادة العالم والحكم على الناس.ولكن تذكروا أن الله تعالى سيزودهم بما يضمن النجاح والسيادة، وسترون كيف يؤكدون بعملهم ما زُوّدوا به من كفاءات وقدرات.تعتبرونهم غير صالحين لأي شيء، ولكننا نقدم أمامكم خمس خصال لهم كدليل على كفاءاتهم التي تتجلى آثارها فيهم بالتدريج، وكل أمة تتوافر فيها هذه الخصال لا تلقى الهزيمة أبدا.إن أكبر ما تطعنون به فيهم أنهم أقلّ الناس علمًا ومالاً وقوةً وخبرةً حربية، بل هم يفتقرون إليها أصلاً.والحق أن العلم والمال والقوة والخبرة الحربية وغيرها لا تنـــزل السماء، كما لا تضمن للإنسان الغلبة حتمًا، بل إن الإنسان بحاجة إلى هذه الخصال الخمس للغلبة على الآخرين.ولو أمعنتم النظر لتبين لكم أن المسلمين متحلون فعلاً بهذه الخصال الخمس التي تتجلى فيهم الآن أكثر فأكثر، وفيها يكمن سرُّ نجاحهم.ولذلك قال الله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا.والنزع يمكن تفسيره بمفهومين: أوّهُما الكفّ عن الشيء، وثانيهما الحنين إلى الشيء؛ يقال: نزع عن كذا نُزوعًا: كفّ عنه، ويقال: نزَع إلى الشيء نزاعا: ذهب إليه، ونزَع من

Page 141

الجزء الثامن ١٣٦ سورة النازعات إلى الشيء: اشتهاه، ونزَع إلى أهله: اشتاق (الأقرب).ولو وضعنا هذين المفهومين في الحسبان علمنا أنه لا بد لنهضة الأمة من الكفاءات التالية: أولها: الصبر..أي يجب أن تكون فيهم ميزة الامتناع عما منعوا منه، حتى يكفّوا أنفسهم عن بواعث المساوئ والهلاك، ويتجنبوا الوقوع فيها.والأُمة التي تتحلّى بهذه الميزة تنتصر، والتي تفتقدها.تنهزم إن الناس سواسية فيما يتعلق بامتلاك العين والأنف والقلب والعقل وما إلى ذلك، والفرق الوحيد أن بعضهم يمتنعون عن المساوئ كلما تطلب الأمر فينتصرون، والآخرون لا يقدرون على منع أنفسهم من اقترافها فينهزمون وثانيها هو الولع الشديد للفوز بكل شيء؛ فالأمة التي تتحلى بهاتين الميزتين الصبر والولع الشديد، تصبح غالبة في الدنيا حتمًا، لأنهما أساس لماذا الرقي.يصبح الطبيب الكبير أو المهندس الكبير أو السياسي الكبير ذائع الصيت؟ إنما سببه حب الطبيب لمهنته واشتياق المهندس لعمله، وتفكير السياسي باستمرار فيما فيه ازدهار.بلده خذوا مثلا السيد غاندي العاكف على خدمة بلده ليل نهار وليس الفرق بينه وبين غيره من الناس إلا انهماكه في عمله بكل ما أوتي من قوة، أما الآخرون فلا يأبهون لذلك.لا فرق بينه وبينهم من حيث الأعضاء والجوارح، فعندهم عينان وأذنان وأنف وفم كما هي عند السيد غاندي، ولكن ما أنهم لا يبرحون منغمسين في لعب القمار أو مشاهدة السينما أو في سماع الأغاني، بينما يظل منهمكا في عمله ولو اهتم هؤلاء بما يهتم به غاندي لعدوا أصحاب المنجزات العظيمة.أو خذوا مثلاً طبيبين يُشفى على يد أحدهما المرضى بكثرة، والآخر ليس ناجحًا مثله في مهنته فما السبب في ذلك؟ إنما سببه أن الأول ظلّ منهمكا في دراسة الطب ومداواة الناس بولع وشوق، والآخر لم يبد رغبة في ذلك.إذًا، فلا بد للرقي من أن وأن يكون شديد الحرص على كل ما هو نافع ومفيد.لقد نبه الله تعالى الكافرين بقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا إلى توافر هاتين الميزتين في يميزه عنهم اليوم من يمتنع الإنسان عن المساوئ إذا منع منها، المسلمين، فإنهم - أولاً - يتحاشون كل ما يعيقهم عن الرقي، وهذا هو الفرق الكبير بين المسلمين وبينكم أيها الكافرون، فتعلمون ما السيئات ولا تتفادونها، هي

Page 142

الجزء الثامن ۱۳۷ سورة النازعات أما المسلمون فإذا علموا بالسيئة لم يقربوها أبدًا.فأيُّ الفريقين أحق بالرقي والغلبة؟ وعلى سبيل المثال تعلمون أضرار الخمر والميسر ثم لا تتورعون عن شرب الخمر ولعب الميسر ، أما المسلمون فيوقنون بأضرارهما، فلا يقتربون من أي منهما، وهذا دليل على أن المسلمين مؤهلون للتقدم والازدهار، ولكنكم لستم أهلاً له.وتعترفون، مثل المسلمين بفضل الصدق ومع ذلك تكذبون، والمسلمون يصدقون القول.وتعرفون أن على المرء أن لا يضيع وقته، ومع هذا تضيعون أوقاتكم.وتعترفون أن ظلم الناس عيب ومنقصة، ومع ذلك تظلمون الناس ليل نهار.وتعلمون أن الأمانة فضيلة، ومع ذلك تخونون أمانات الناس، وتأكلون أموالهم.فما فكيف دمتم لا تنتهون عن السيئات بينما ينتهي المسلمون عن كل ما هو سيئ، تقولون إن المسلمين يفتقرون إلى الخصال التي تنال بها الأمم الغلبة والانتصار؟ والمعنى الآخر للنزع للنزع هو الرغبة كما بينتُ من قبل، إذ يقال نزع إلى الشيء اشتهاه، ونزَع إلى أهله اشتاق.فالنزع ليس رغبة عادية، بل هي تماثل رغبة المرء إلى الأهل، ومعروف أن المرء أشد شوقًا وحنينًا إلى أهله منه إلى غيرهم.فمثلاً إن رغبتك في لقاء بعض المعارف لا تماثل رغبتك في لقاء أمك ولا رغبة أمك في لقائك أبدًا.إذًا، فالله تعالى قد نبه الكافرين بقوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا إلى أمر آخر يميز المسلمين عنهم، وهو أنكم ترغبون في بعض الحسنات لا كلها، ثم تكون رغبتكم إليها رغبة عادية، أما المسلمون فيحنّون إلى الحسنات كلها حنين الولد إلى أمه.إذًا، فالمسلمون يتحلون بكلتا الميزتين الضروريتين لازدهار الأمم.باختصار، إن الخطوة الأولى نحو الرقي أن يتجنب القوم كل ما يعيقهم عن الرقي من كسل وجهل وغفلة ومكابرة ونسيان وظلم ونزاع وسوء تعامل وقسوة وكذب وخداع وخيانة وفسق وفجور وما إلى ذلك من المساوئ والمفاسد.ويخبر الله تعالى الكافرين أن المسلمين يصدق فيهم قولنا وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، فهم يمتنعون عن كل ما يجب اجتنابه، وينتهون عن المساوئ إذا نهوا عنها، وينأون بأنفسهم عنها ،غرقا، أي يصبحون قاهرين لأنفسهم في ترك السيئات أما أنتم أيها الكافرون، فلا تتحاشون السيئات رغم استنكاركم إياها.ثم إن المسلمين لا يقهرون أنفسهم في

Page 143

الجزء الثامن ۱۳۸ سورة النازعات منهم عيبا فلا مكافحة السيئات فحسب بل يُصلحون الآخرين أيضا؛ ذلك لأن الإغراق يعني أيضًا التغلب على الآخر، إذ يقال "أغرق الناسُ فلانا كثروا عليه فغلبوه (الأقرب).إذًا، فالله تعالى يصف المسلمين هنا أنهم إذا رأوا في أحد يكتفون بعدم التورط في ذلك العيب فحسب، بل كأنهم يشنون هجومًا موحدًا على صاحبهم ويتغلبون عليه..أي إما أنهم يزيلون عيبه بإصلاحه أو يطردونه من بينهم ولا يتحملون السيئة في مجتمعهم.علما أن الدرجة الأولى هى أنهم ينأون بأنفسهم عن كل ما يعيق رقيهم، والدرجة الأسمى منها أنهم لا يحتملون السيئة في قومهم، وكلما رأوا سيئة هاجموها وجعلوا صاحبها مغلوبا إما بالانتصار عليه بإصلاحه، أو بطرده من بينهم، ولا يرضون ببقائه على سيئته.هاتان هما الميزتان اللتان تنهض بهما الأمم وتزدهر.والمسلمون متحلّون بهما.حيث يعني w باختصار إن قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا يشير إلى المؤمنين الذين صفتهم الأولى أنهم ينأون بأنفسهم عن السيئات كما يتغلبون على الأشرار الذين يظهرون في مجتمعهم؛ وصفتهم الثانية أنهم يرغبون في الصالحات كرغبة المرء في أهله وعياله، لفظ "النزع " الشوق والرغبة أيضًا.إذا فإنهم لا يكتفون باجتناب السيئات فحسب، بل يريدون التحلي بالحسنات كلها من أمانة وعدل ورحمة ودمائة وجد واجتهاد وعلم وشجاعة وسخاء وطهارة وعفة ومساعدة الفقراء واعتراف بالجميل وعناية بالجيران والمسافرين واليتامى والأرامل وغيرها من الحسنات.وأنهم لا يبذلون جهدهم للتحلي بهذه الخيرات فقط، بل يحبونها كحب الولد لأمه أو كحب الأم لولدها.ثم يقول الله تعالى وَالنَّاشطات نَشْطًا..أي أنه مما لا شك فيه أن فعل هذه الخيرات يكلفهم جهدًا ومشقة لما ورثوه من المجتمع من عادات سيئة، ولكنهم يرضون بكل صعوبة وعناء في هذا السبيل، إذ يقال : "نشَط الدلو من البئر : نَزَعَها وانتشلها بلا بَكْرة (الأقرب).والحقيقة أن المرء لا ينتشل الماء من البئر بدون بكرة إلا بعناء كبير.إذًا، فقد ذكر الله تعالى هنا من محاسن الصحابة أنهم يرغبون في أن يتقدموا في الصالحات بحيث لا يبالون بأي تضحية في هذا السبيل.بعض الناس

Page 144

الجزء الثامن منهم ۱۳۹ سورة النازعات ينوون التقدم في ميدان الخيرات ولكنهم يخافون عند الاختبار؛ لأن هذا يتطلب الجهد والتضحية.ولكن الله تعالى يصف المسلمين بأنهم لا يرغبون في فعل الخيرات فحسب بل هم ناشطون فيها..أي يتحملون في سبيلها كل عناء ولا يزالون يعملون الخيرات ويخدمون المجتمع باستمرار بدون أن يكون معهم صاحب أو مساعد أو حافز أو مساند أو مشجع على ذلك.عمله ومهر ومشقة، ثم يقول الله تعالى وَالسَّابحات سَبْحًا.إن من الطبيعي أنه إذا اجتهد المرء في فيه سهل عليه القيام به فمثلا ، لو أردت أن تعمل عمل الحداد ستبذل فيه جهدا كبيرا ووقتًا طويلاً، ومع ذلك لن تجيده بل ستفسده.أتذكر أنه في أيام طفولتي كان بعض النجارين يعملون في بيتنا، فأعجبني عملهم وظننت أنه عمل بسيط أستطيع القيام به، وكنت حينها في التاسعة أو العاشرة من عمري، فلما ذهب هؤلاء لتناول الغداء أخذتُ قَدومًا لأقشر به قطعة خشب، فلما ضربت الخشب بالقدوم أصابني في إبهام يدي بدل أن يقع على الخشب، فجرحني بجرح عميق لا يزال أثره حتى اليوم.فالذي يرى النجّار يظن أن عمله بسيط، وأنه أن يستطيع القيام به، ولكنه حين يحاوله بالفعل يدرك صعوبة هذا العمل مع النجارين لا يجدون فيه أي صعوبة، ذلك لأنهم قد أصبحوا ماهرين فيه لطول ،ممارستهم، وصاروا كالسابحين فيه.هذا ما يصف الله تعالى به الصحابة في قوله وَالسَّابحات سَبْحًا..أي أنهم يبذلون جهدًا كبيرا ويجدون مشقة في فعل الخيرات حاليًّا، ولكن سيأتي زمن يسبحون فيها سبحا؛ فسيجدون في أنفسهم رغبةً و نشاطًا طبيعيين إلى هذه الحسنات ويصبحون سباحين في بحر الروحانية، وكما أن السبّاح يذهب في سباحته بعيدًا دون أن يجد فيها صعوبة وعناء، كذلك سيتمكن هؤلاء من فعل الخيرات بحيث يجدون في القيام بها رغبة ونشاطا طبيعيين ويلقون فيها سرورا وحبورا يعاني الناس عناء كبيرا حتى يتجنبوا قول الزور، أما هؤلاء فتركُ الزور لن يكون صعبا عليهم.ويجد الناس صعوبة كبيرة في التمسك بالحق، لكن هؤلاء سيتمسكون بالحق كأنه شيء طبيعي.لهم والحال نفسه بالنسبة إلى الحسنات الأخرى، فإنهم حين يقومون بها يجدونها موافقة لفطرتهم وفاقا طبيعيا، ولن

Page 145

الجزء الثامن ١٤٠ سورة النازعات ينحرفوا عنها ، وكأن فعل الخير هو لبن الأم بالنسبة إليهم، فكما أن الولد يرضع لبن أمه بسهولة ورغبة فلا يجد فيه مشقة، كذلك لن يرى هؤلاء في فعل الخيرات عبئا عليهم، بل سيقومون بها بشوق ونشاط.ثم يقول الله تعالى فَالسَّابقات سَبْقًا...أي بعد أن يجد هؤلاء نشاطًا طبيعيًا في فعل الخيرات سيتقدمون خطوة أخرى، فيتنافسون في الخيرات.بمعنى أنهم لن يكتفوا بفعل الخيرات بنشاط وعلى أحسن وجه بل سيتسابقون في مضمارها فيما بينهم.بعد أن يجد كل واحد منهم السخاء والعطاء عملاً سهلاً طبيعيًا، سيحاول أن يكون أكثرهم سخاء، بعد أن يسهل على كل واحد منهم أن يكون عفيفا، سيتحمس لأن يكون أكثرهم عفةً.أن وبعد يرى كل واحد منهم دماثة الأخلاق أمرا سهلا، سيسعى أن يكون أكثرهم دماثة.وبعد أن يسهل على كل منهم أن يكون رحيما، سيطمح أن يكون أكثرهم رحمةً.وهكذا سيبدأ سباق بينهم في مجال الخيرات، فيحاول كل واحد منهم أن يسبق الجميع.وعندما يبلغون هذا المقام يتحقق فيهم قوله تعالى فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا..أي أن كل واحد منهم سيرى أنه المسؤول عن قومه فلا يقول إن هذه الخدمة وذلك العمل من مسؤولية فلان وفلان بل سيرى أنه هو المسؤول عن المجتمع كله.عندنا في الهند مثل شهير عن طير صغير جدا اسمه (پيا) - ويقال إن المثل عن طير صغير آخر اسمه (پدا) - هذا الطير ينام بالليل على ظهره رافعًا رجليه إلى السماء، فسئل مرة: لماذا تنام هكذا؟ فقال: إن الخلق جميعا ينامون ليلا، وليس هنا من يحمل السماء لو سقطت بالليل، فأنام بهذا الوضع لأحمي الدنيا لو سقطت السماء.إنه مثل مضحك في ظاهره ولكنه ينطبق على البشر فمن يبلغ درجة الكمال في الصلاح يتحمل مسؤولية العالم كله؛ إنه لا يفكر أن هذه هي مسؤولية فلان أو علان، بل يعتبر نفسه المسؤول الوحيد عن الجميع.وإذا تحلى أفراد قوم بهذه الميزة لم يهلكوا أبدا؛ فإذا نام أحدهم ظل الآخر ساهرا.من الطبيعي أن لا يخلد الناس جميعا إلى نوم الغفلة في وقت واحد بل سينام بعضهم ويظل بعضهم ساهرين، أي أن هناك من يحميهم وينقذهم من الدمار.

Page 146

الجزء الثامن ١٤١ سورة النازعات باختصار محال أن تُهزم أمة تتحلى بهذه الخصال، بل إنها ستتقدم باستمرار وتتغلب على العالم كله.وأذكر الآن المعنى الرابع لهذه الآيات يقال نزع الولد أباه ونزع إلى أمه: أَشبَهَه (الأقرب)؛ وعليه فالمراد من قوله تعالى وَالنَّازعات غَرْقًا أن المسلمين يسعون جاهدين للتأسي بأسوة محمد.الواقع أن كفار مكة كانوا يزدرون أصحاب النبي ويحتقرونهم، ولكنهم لم يصفوا النبي لا الله بالمهانة والذلة.لا شك أن أحد المنافقين قد سماه مرةً صاغرًا ذليلا، ولكن فيما يتعلق بأهل مكة فقد كانوا معترفين بأنه موصوف بكل الأوصاف الحميدة التي يجب توافرها في زعيم ناجح، ولم ينكروا قدراته وكفاءاته أبدا.لا شك أنهم كانوا يقولون عنه إنه فقير لا يملك مالاً ولكنهم كانوا معترفين بمحاسنه الشخصية، وكانوا يسمونه صدوقا أمينا، ويحكمونه فيما شجر بينهم من نزاعات قبلية.فكأن الله تعالى قد نبه الكافرين في قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا بأنكم اليوم تزدرون المسلمين وتقولون أنه ليس لديهم أية كفاءة أو قدرات، ولكن ألا تعرفون كيف تتولد الكفاءات العالية في الناس؟ هنالك سبيل واحد لذلك ألا أن وهو لهم معلم قدير، وأن يتبعوه ويتأسوا به حق التأسي.أفلا ترون أن المسلمين يشبهون أباهم الروحاني محمدًا ، ويسعون جاهدين أن يتبعوا خطواته؟ وإن محمدًا هو ذلك الإنسان الذي لا أحدًا منكم إنكار كفاءاته وقدراته؛ إذ كنتم تسمونه قبل دعواه صدوقًا أمينًا، شأن الأنبياء الآخرين؛ إذ القاعدة أن الناس ينظرون إلى أنبيائهم قبل بعثتهم نظرة تقدير عظيم معترفين بكفاءتهم الفذة – كما يخبرنا القرآن يسع يتيسر الكريم أن قوم صالح اللي قالوا له يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوا قَبْلَ هَذَا (هود: ٦٣)..أي يا صالح كنا نعقد عليك آمالا كبيرة موقنين أنك ستتولى سيادة القوم يوما ما ولكنك خيبت آمالنا كلها بدعواك ولكن فيما يتعلق بأتباع الأنبياء فلا نجد مثالا واحدا أن أعداء الأنبياء لم يزدروهم و لم يحتقروهم.ذلك لأن الذين يؤمنون بالأنبياء في بداية الدعوة هم الفقراء الضعفاء عادة، الذين ينتمون إلى أدنى طبقات المجتمع غالبا فيحتقرهم القوم ويزدرونهم.وكان غالبية من آمن

Page 147

الجزء الثامن ١٤٢ هذا، سيزودهم سورة النازعات بالرسول في بداية دعوته ضعفاء (البخاري، باب كيف كان بدء الوحي)، وكان أهل مكة يحتقرونهم احتقارًا شديدًا، كما لم يكن لهؤلاء المسلمين الأوائل باع في العلوم الظاهرة؛ إذ لم يوجد بين الصحابة الشباب مَن يعرف القراءة والكتابة غير الزبير.ولذلك قال الله تعالى هنا للكافرين إن المسلمين يسعون جاهدين ليكونوا مشابهين لأبيهم الروحاني محمد رسول الله ﷺ، وعندما ينجحون في سعيهم سيتحلون بما يتحلى به محمد الله من قدرات وكفاءات تعلمون أن محمدا أمين، وما دام المسلمون يحاولون التأسي به فلا بد أن أمينًا.يصبح كل واحد منهم وتعلمون أن محمد اله الا الله ، صدوق ، وترون المسلمين يسعون جاهدين للاقتداء به، فلا بد أن يكونوا مثله مثالاً للصدق والسداد.إذًا، فبرغم أنكم لا ترون في المسلمين اليوم أي كفاءات إلا أن رغبتهم في العلم ووجود الأسوة الحسنة بينهم سيز بالقدرات المنشودة في نهاية المطاف.مع العلم أن قوله تعالى غَرْقًا يعني أن المسلمين سيبلغون الغاية في اتباع الرسول والتأسي به.ومما يدل على سعي المسلمين للتأسي بالنبي إلى أقصى حد أنك لن تجد كلمة "السنة" في أي ديانة غير الإسلام.ستجد في الديانات الأخرى كلمة "الحديث" أو "الوحي"، فيقولون مثلا: قال موسى وقال عيسى، أو أوحي إلى موسى وأوحي إلى عيسى، ولكنهم لا يقولون أبدًا إن هذا موسی أو من سنة عيسى أو من سنة كرشنا أو من سنة رام شندر إن اصطلاح "السنة" خاص بالإسلام وحده ، ويحاول كل مسلم أن يعرف كيف كان الرسول يقوم بمختلف الأعمال والمناسك.إذًا، فقد نبه الله تعالى الكافرين في قوله وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أن المسلمين سيبلغون أقصى درجة في اتباعهم لمحمد ، وإذا اتبعوه حق الاتباع فلا بد أن يتحلوا بكفاءات مماثلة لكفاءاته وإذا حاول كل منهم في محاله أن محمدا صغيرا، فهل يبقى بعدها شك في قدراتهم ومحاسنهم؟ حرص الا من سنة يصبح وليس أدل على شدة رفضت القبائل العربية أداء الزكاة إثر وفاة الرسول اللهم أراد أبو بكر حربهم، ولكن أوضاع البلاد كانت خطيرة جدا على المسلمين فأشار إنسان شجاع مثل عمر الصحابة للتأسي وبالرسول ل ل ل ا ل مما فعل أبو بكر.لما

Page 148

الجزء الثامن حربهم معي ١٤٣ سورة النازعات على أبي بكر بأن لا يعامل منكري الزكاة بهذه الصرامة فأجابه أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يلغي ما أمر به الرسول.والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله القاتلتهم على منعه، ولن أبرح حتى يدفعوه.فإذا كنتم لا تستطيعون فسأحاربهم وحدي.فانظر إلى شدة حرص أبي بكر على سنة الرسول فمع أن الظروف كانت حرجة جدا، حتى كان أكابر الصحابة يشيرون على أبي بكر بأن لا يحارب منكري الزكاة، إلا أنه كان مستعدًا ليخوض غمار كل خطر لتنفيذ أوامر الرسول.وكذلك قد حثّ الصحابة أبا بكر على عدم إرسال الجيش الذي كان النبي ﷺ يريد بعثه تحت إمرة أسامة ولكن أبا بكر رد عليهم قائلا: لن أمنع الجيش الذي أمر الرسول الله بإرساله ولو اقتحم العدو المدينة وسيطر عليها وأخذت الكلاب تحرّ جثث المسلمات في شوارعها.تاريخ الخلفاء للسيوطي: فصل فيما وقع في خلافة أبي بكر ، والبداية والنهاية فصل في تنفيذ جيش أسامة) وهناك واقعة أخرى لعبد الله بن عمر تدل على شدة حرص الصحابة على التأسي كلما ذهب إلى الحج جلس في مكان معين جلسة بالنبي ، فقد ورد أن ابن ابن عمر شخص يتبول، وكان يفعل ذلك في كل مرة، فقال له بعض أصحابه مرة: لم تجلس في هذا المكان هكذا كلما مررت به مع أنك لا تتبول هنا أحيانًا؟ فقال: لقد رأيت النبي الا الله يبول هنا، فأود أن أفعل كما فعل الرسول ل ل ا كلما أمر بهذا المكان، فأجلس هنا كأنني أبول.فإذا كان هؤلاء يتبعون رسولهم في الأمور العادية لهذه الدرجة فما بالك باتباعهم له لله فيما يتعلق بالأخلاق والأمور الروحانية.إذًا، فقد نبه الله تعالى الكافرين في قوله وَالنَّازعات غَرْقًا أن المسلمين أذلة وأراذل في أعينكم ولكنكم ترونهم يتبعون رسولهم الذي تعترفون بكفاءاته حق نص ما ورد في "البداية والنهاية" هو: "والله ، لا أحلُّ عقدة عقدها رسول الله ﷺ ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرّت بأرجل أمهات المؤمنين." (المترجم)

Page 149

الجزء الثامن ١٤٤ سورة النازعات الاتباع، فمع أنهم يفتقرون إلى الكفاءة ،اليوم، إلا أن كل واحد منهم سيصبح حسب درجته محمدًا صغيرًا نتيجة اتباعه له ، وسيتحلون بما يتحلى به محمد خصال حميدة إنكم تعترفون أنه ليس بين العرب كلهم زعيم كمحمد ﷺ فلا بد أن يتصف المسلمون بمثل خصاله وشمائله ما داموا يسعون جاهدين من للتأسي به.المكان: ثم يقول الله تعالى والناشطات نَشْطًا..أي أن من مزاياهم أنهم سينتشرون في أنحاء العالم، ذلك لأن من معاني النشط الخروج والسفر؛ يقال: نشط من ونشط من بلد إلى بلد: قطع.إذًا، فقد أشار الله تعالى بقوله وَالنَّاشِطَات نَشَطاً أن المسلمين سينتشرون في الدنيا.إنهم لا يحبون أوطانهم حبًّا يمنعهم من التمسك بالحق، بل سترون أنهم سيهاجرون منها ولن يرضوا بالذل والضيم على خرج أيديكم.الحق أن الإسلام هو أوّلُ من علم أن حب الوطن جيد بلا شك، ولكن حب الحق أغلى وأثمن من حب الوطن.فإذا كان بقاء المرء في الوطن يدفعه لإنكار الحق، فعليه أن يترك وطنه بدلاً من إنكار الحق، كما أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله ورسوله وَمَنْ في سبيل سَبيل الله يَجد يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (النساء: ۱۰۱).لا شك أن حب الوطن جيد ومحمود كما قال الرسول : "حُب الوطن من الإيمان" تشييد المباني ص ۲۵ ، والمقاصد الحسنة للسخاوي، رقم الحديث ٣٨٦)، ولكن إذا تصادم حب الوطن مع حب الحق والإيمان وجعلتم عرضة للاضطهاد، فاتركوا أوطانكم مؤثرين الحق عليها.الواقع أن حب الوطن يغلب على قلوب البعض بحيث إنهم لا يقدرون على تركه مهما تعرضوا للضيم في سبيل الحق، ولكن الله تعالى يقول إننا جعلنا المسلمين ناشطين، فلا قيمة عندهم للوطن إزاء الله تعالى فسوف يضحون بأوطانهم إذا تطلب الأمر.وبحسب هذه النبوءة قد ترك المسلمون وطنهم ،مرتين مرة إلى الحبشة، وأخرى إلى المدينة.

Page 150

الجزء الثامن ١٤٥ سورة النازعات إذًا، فقول الله تعالى وَالنَّاشِطَات نَشْطًا يعني أن المسلمين لا يحبّون أوطانهم حبا زائفا يمنعهم من الهجرة من أجل الحق، بل سيهاجرون من وطنهم بلا تردد إذا تطلب الأمر.هذا، وقد أشار الله تعالى بقوله وَالنَّازعات غَرْقًا إلى التضحية الجسمانية أيضا سيقدمها المسلمون، ذلك لأن المرء لا يوفق إلى التضحية الجسمانية إلا إذا كان معتادا على الجد والاجتهاد وتحمل المشاق؛ فقد نوّه الله تعالى هنا إلى تحلّي المسلمين بهذه الخصلة المحمودة..إذًا، فإن الله تعالى قد وصف هنا المسلمين بأنهم يمتنعون عن السيئات، كما يرغبون في فعل الخيرات بشدة.لا شك أنهم يتكبدون عناء في التخلص من السيئات التي ورثوها من مجتمعهم، ولكنهم لا ينفكون يبذلون كل ما في وسعهم بهذا الشأن، وليس هذا فحسب بل إن عندهم الكفاءة أيضا للتقدم في مجال الحسنات.وإنهم ليسوا قادرين على بذل التضحيات الجسمانية فحسب بل قادرون أيضا على التضحية بأوطانهم.فلا تظنّوا أيها الكافرون أنهم سيتحملون ظلمكم دائما، بل نحذركم من جماعات المسلمين الذين يخرجون من بينكم مهاجرين من أوطانهم.والحق أن ترك الوطن هو إحدى وسائل رقي الأمم.ثم يقول الله تعالى وَالسَّابحات سَبْحًا.يقال "سبح الرجلُ: أي تصرف في معاشه"، وعليه فتعني هذه الآية أن هؤلاء لا يُثقلون على قومهم بأخذ الرواتب على خدمة الدين، بل يكسبون معاشهم بالقيام بأعمال دنياهم بأنفسهم، وبالتالي يكثر في الأمة المتطوعون للخدمة.والحق أن من أكبر العقبات التي تعيق رقي المجتمع قلة هو من يعملون مجانا، لذلك تدفع الحكومات رواتب للجنود والمدرسين والعاملين عندها، ولو عانى الإسلام من هذه المشكلة لما ازدهر المسلمون؛ إذ لم يكن لديهم أموال لدفع الرواتب، ولا سعة لتحمّل هذه الأعباء الاقتصادية، ولذلك أودع الله في قلوبهم حبا للقيام بالمهام الدينية والاجتماعية مجانا؛ فكانوا يأكلون من بيوتهم ويصرفون أوقاتهم في خدمة

Page 151

الجزء الثامن ١٤٦ سورة النازعات الدين والمجتمع، فلم يكونوا عبئا على جماعة المسلمين، بل كانوا متطوعين يعملون لها مجانا.المجتمعه باختصار، قد وصف الله تعالى في هذه الآيات الصحابة بأنهم يتجنبون السيئات من ناحية، ويسعون جاهدين للتقدم في مجال الحسنات كلها من ناحية أخرى، ولا يترددون في التضحية بأوطانهم من ناحية ثالثة ومن ناحية رابعة لا يطالبون بالمال أي أنهم لا يقولون ينبغي أن نُعطى الرواتب نظير العمل الذي نؤديه، كلا بل إنهم ينفقون على أنفسهم من بيوتهم كيفما استطاعوا، وينجزون مهام الدين والمجتمع مجانًا، وهكذا تجد الأمة متطوعين كثيرين.ثم إن هؤلاء يتبعون خطوات محمد ﷺ اتباعا كاملا فإذا أمرهم بالحرب تجدهم على أهبة الاستعداد لها، وإذا أمرهم بإخراج الصدقة تجدهم جاهزين للتضحية بكل غال ورخيص، لأنهم مستعدون لفعل كل ما يأمرهم به محمد ثم إنهم لن يطالبوا بقرش واحد أجرةً على عملهم.فبذكر صفات المؤمنين هنا يحذر الله تعالى مشركي مكة أنهم لن يستطيعوا مواجهة هؤلاء المسلمين، لأن كل مسلم خادم وجندي له، ومستعد لدفع ماله في سبيل أُمّته، فأنى لهم أن يقفوا في وجوههم؟ لو استعد خمسون في المئة أهل مكة للعمل لمجتمعهم لما قدروا على مواجهة المسلمين لأنهم كلهم يعملون لمجتمعهم.فلا مقارنة بين و ١٠٠%.ثم إن الصحابة يعملون لمجتمعهم تطوعًا، ولكن أهل مكة يفتقرون إلى هذه الميزة.ثم إنهم يطيعون أوامر الرسول ﷺ بحب وتفان، ولكن أهل مكة لا يطيعون زعماءهم حبًّا وتفانيا.ولذلك كله يحذر الله تعالى الكافرين بأنه مما لا شك فيه أن المسلمين أقل منكم عددًا، إلا أن الفتح لا يتوقف على تعداد القوم، بل متوقف على عدد العاملين فيهم؛ ولا شك أن عدد العاملين بين المسلمين أكثر منكم.ثم يقول الله تعالى فَالسَّابقات سَبْقًا.والفاء هنا للعاقبة والنتيجة..أي ما دام المسلمون متحلّين بهذه الخصال الحميدة فلا بد أن يتوفر للإسلام متطوعون كثيرون، وبالتالي لا بد أن ينتصر المسلمون على الشعوب التي لا متطوعون.فما دام المسلمون كلهم يأكلون من بيوتهم ويخدمون الإسلام مجانا، فأنى %** من لها يتيسر

Page 152

الجزء الثامن ١٤٧ سورة النازعات للكافرين الوقوف في وجههم؟ لا شك أن الكافرين أكثر منهم عددًا، ولكن عددًا مثلا إذا كان عدد قوم يبلغ مليونا، وكان عدد العاملين بينهم أكثر منهم المحاربين بينهم مئتين فقط، وكان عدد قوم آخرين بضع مئات، وكانوا كلهم محاربين، فلا بد أن ينتصر هؤلاء في الحرب على الأوّلين، فأنتم أيها الكافرون مخطئون في ظنكم أنكم ستنتصرون على المسلمين، لأن القوة تكمن في عدد العاملين في القوم، وليس في عدد أفراد هذا القوم وحيث إن المسلمين يفوقون الآخرين شوقا وخدمة لمجتمعهم فلا بد من أن يتسلموا زمام الحكم في يوم من الأيام، لذلك قال الله بعد ذلك فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا )..أي ما دام المسلمون متفوقين عليكم أيها الكافرون، عملاً وخدمة فلا بد أن وخدمة فلا بد أن يخرج الحكم من أيديكم ويصبح في أيديهم.تجد بسبب هذه المعاني الأربعة التي بينتها تناسقًا وترتيبا بين الآيات، ولن تجد فيها أي اضطراب كالذي تجده نتيجة تفسير المفسرين القدامى، حيث فسروا النازعات) بمعنى النجوم حينًا، وبمعنى الملائكة حينا آخر، ثم قالوا إن الآيات التالية بالمعنى نفسه أيضا.شرح الكلمات : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِةُ ) 0>0 ترجُف: رجفه يرجُف رَجْفًا: حرّكه فرجَف..أي تحرك واضطرب شديدا.ورجف الرجل: اضطرب شديدا ورجفت الأرض زُلزلت ورجَف القوم : تهيئوا للحرب.(الأقرب، والمنجد) التفسير: وقوله تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ معناه الأول أن العلامات المذكورة أعلاه ستبدأ في الظهور بشكل كامل في اليوم الذي ترجف فيه الراجفة؛ ومعناه الثاني أنه عندما تتحقق الأمور المذكورة أعلاه يأتي اليوم الذي نتحدث عنه، والذي ترجف فيه الراجفة.فحسب المعنى الأول يُعتبر اليوم هنا ظرفا يشير إلى بداية ظهور هذه الأمور، وبحسب المعنى الثاني يُعتبر اليوم إشارة إلى تمام هذه الأمور واكتمالها.

Page 153

الجزء الثامن ١٤٨ سورة النازعات ينبه الله تعالى الكافرين بقوله تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ أنه سيأتي يوم يهب فيه المسلمون للحرب.إنهم صامتون على اضطهادكم الوحشي، فتظنون أنهم فقدوا الإحساس بالمقاومة من طول الاضطهاد واستمرأت قلوبهم الذل والهوان وماتت أحاسيسها، ولكنه ظن باطل لأن قلوبهم لم تمت بل لا تزال تنبض بالحياة وستثور للانتقام منكم على ما تصبونه على محمد الله من أذى.كل ما في الأمر أننا قد منعناهم من الثأر ، فلم يذيقوكم وبال جرائمكم حتى الآن، وهم يحترقون غيظًا كافين أيديهم ومنتظرين الإذن منا.فاحذورا من يوم ترجف فيه الراجفة، أي حين تثور هذه القلوب المرهفة المضطربة، فترون ما نحذركم منه، أما حاليا فإننا نقوم بتطوير أخلاقهم وتهذيبها، الأمر الذي لن يحدث لو أذنا لهم بالحرب الآن، فندَعكم لتظلموهم حتى يتحلّوا بميزة الصبر وغيرها من الأخلاق السامية التي تتولد نتيجة تحمل الظلم.فلا تنخدعوا من وضعهم الراهن بل فكّروا في اليوم الذي ستعرفون فيه أن قلوبهم المرهفة لا تزال تنبض بالحياة.ولو فسرنا كلمة النَّازعات بمعنى جماعات الرماة، فسيعني قوله تعالى تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ أن هذه الرماية ستبدأ في اليوم الذي تثور فيه هذه القلوب المرهفة معربة عن اضطرابها الشديد.وحيث إن الرجف يعني تهيؤ القوم للحرب أيضا فستعني هذه الآية أن هذه الأمة التي قلوبها مستعدة للحرب ومنتظرة لإذننا ستأخذ أهبتها للحرب فعلاً في نهاية المطاف..أي أنهم يعشقون السلم ،والصلح ولكنهم حين يرون أن اضطهاد الكافرين يضر بدين الله تعالى فسيهبون للحرب بعد أن يأذن الله لهم بها؛ أو المراد أنه عندما تتحقق الأمور المذكورة أعلاه سنأتي بهذا اليوم.

Page 154

الجزء الثامن ١٤٩ سورة النازعات شرح الكلمات : تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٤)) الرادفة: ردَف يردف وردف يردف :رَدْفًا تبعه.(الأقرب).فالرادفة: ما يأتي وراء شيء آخر.التفسير في بعض الأحيان تجد شخصا متحمسا جدا إلى القتال، ويدعي أنه سيفعل كذا وكذا في الحرب، ولكن يفقد حماسه ويجلس صامتًا بمجرد أن يتلقى لطمة واحدة.كذلك يظن البعض أنه من الأبطال الشجعان ولكن حقيقة شجاعته تنكشف عند الاختبار، ويعرف الجميع أن دعاويه لم تكن إلا مجرد هراء.وقد حكيت لكم مرارًا أن شخصا كان يظن أنه من كبار الشجعان، فذهب إلى وَشّامِ وطلب منه رسم صورة الأسد على ساعده.ولما وخزه الوشام بالإبرة صرخ وقال: ماذا تصنع؟ قال أرسم إحدى أُذني الأسد.قال ألا يستطيع الأسد أن يعيش بدونها؟ قال نعم.قال فلا ترسم الأذن وارسم عضوًا آخر.فلما وخزه مرة أخرى صرخ وقال له: ماذا تصنع الآن؟ قال أرسم أذنا أخرى للأسد.فقال: ألا يمكن أن يعيش الأسد بدونها؟ قال: نعم، يعيش.قال دعك هذه الأذن أيضا وارسم عضوًا آخر له.فلم يزل الرجل يمنعه في كل مرة حتى وضع الوشام الإبرة وقال: لا أستطيع أن أوشم الآن أي شيء.إذا، فهناك كثير من الناس الذين يدعون الشجاعة كثيرًا، وينكشف عند الامتحان أنهم جبناء جدًّا.ولكن الله تعالى يقول هنا: تتبعها الرادفة..أي أن المسلمين إذا حملوا السيف مرة فلن يضعوه من أيديهم، بل يخوضون حربا بعد حرب ويشنون غارة تلو غارة غير خائفين، بل ستستمر هذه الحروب على التوالي ولن يضعوا السلاح حتى يأتي الفتح المبين.من قُلُوبٌ يَوْمَيدٍ وَاحِهُ : واحفة وحف يجف وَحْفًا ووجيفًا ووُجوفًا: اضطرب، ووحف القلب وجيفًا: أي خفق.ووجَف الفرسُ والبعير عدا وسار العنق.(الأقرب).

Page 155

الجزء الثامن ١٥٠ سورة النازعات التفسير: لقد بيّنتُ في تفسير سورة (النبأ) أن الله تعالى يتحدث فيها عن غلبة القرآن وغلبة الإسلام ووجود القيامة معًا، ويقدّم غلبة الإسلام دليلا على الحياة بعد الموت..أي ما دام الله تعالى سيحدث هذا الانقلاب العظيم في الدنيا، فلم لا توقنون أنه قادر على أن يهب الحياة بعد الموت؟ والآية قيد التفسير تتناول الموضوع نفسه..أي عندما تقع هذه الأحداث ويهلك صناديد الكفار ويصبح المسلمون غالبين على الكافرين تساور الشبهات قلوبهم فيقولون في أنفسهم لعل القيامة آتية لأن أحد الأمرين قد تحقق فلعل الأمر الآخر المنوط به سيتحقق أيضًا؛ فيستولي القلق والذعر على الكافرين وتظهر علامات هزيمتهم حتى تتولد في قلوبهم شبهات حول القيامة فيقولون: ربما ستأتي القيامة أيضًا التي يتحدث عنها المسلمون.الكلمات : أَبْصَرُهَا خَشِعَةٌ نَ شرح خاشعة : حَشَع ببصره : غَضَه.وخشع بصرُه : انكسر.وفي "النهاية": الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن.(الأقرب) التفسير: الضمير في قوله تعالى أبصارها يعود إلى القلوب الواجفة.هو ظاهر من الآية التالية: وهنا ينشأ سؤال: كيف قيل هنا أبصارها مع أن القلوب ليس لها عيون؟ والجواب أن المراد هنا أبصارُ أصحاب هذه القلوب كما يَقُولُونَ أَتَنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ) ).وهنا ينشأ سؤال آخر: فلماذا جيء هنا بضمير المؤنث (ها) ما دام المقصود أصحاب هذه القلوب؟ والجواب: جيء بالضمير مؤنثاً بسبب إضافة الأبصار إلى القلوب التي يُقصد منها أصحابها، ومثاله قوله تعالى ﴿فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظرينَ) (البقرة : (۷۰) فمن قواعد العربية أن اللفظ المضاف إلى المذكر أو المؤنث يُعامل أحيانًا بحسب المضاف إليه في تذكيره وتأنيثه.

Page 156

الجزء الثامن ١٥١ سورة النازعات والأبصار جمع بصر والبصر هو حاسة الرؤية؛ والعين؛ والعلمُ (الأقرب).فلو أُريدَ بالأبصار العيون المادية، فالمراد أن قلوبًا ترتجف من شدة الذعر يومئذ، وأصحابها سيغضون أبصارهم خجلاً وندما، لأن ما قاله محمد الله لقد تحقق.فينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا، وعندها لن يستطيعوا رفع أبصارهم أمام أحد خجلاً وندما، وستساور الشبهات قلوبهم حول عقيدتهم عن القيامة، ويقولون لعل خبر القيامة يكون صحيحا كما صح هذا النبأ.أما إذا فسّرنا الأبصار بمعنى الإدراك وضمير الإدراك يمكن أن يرجع إلى القلوب أيضًا - فالمعنى أن حاسة الإدراك الموجودة في أفئدتهم ستتعطل وترتجف، ويدرك أصحابها أن بصيرتهم أخطأت وعلومهم بارت، ودعاوي علمهم وفهمهم بطلت.يَقُولُونَ أَعِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (3) شرح الكلمات: ۱۱ الحافرة: مؤنث الحافر؛ والخلقة الأولى.يقال رجع على حافرته وفي حافرته: أي في طريقه التي جاء فيها.ورجع في حافرته شاخ وهرم ورجع على حافرته يقال أيضًا لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه (الأقرب) التفسير : أي عندما تتحقق نبوءة من أنباء القرآن أمام الكافرين ترتجف قلوبهم فيقولون في أنفسهم لقد تحقق هذا الأمر ، فلعل النبأ عن الحياة بعد الموت سيتحقق أيضا؟ أي سينشأ هذا السؤال في قلوبهم تلقائيا، أو سيقول بعضهم لبعض لقد تحقق هذا النبأ، فهل نستنتج من هذا أن القيامة أيضا حق؟ إذن فإننا في خسرا كبير.أَوِذَا كُنَّا عِظَمًا نَخِرَةَ : قَالُوا تِلْكَ إِذَا كَرَّةً خَاسِرَةٌ (ج) شرح الكلمات : ۱۲ ۱۳ عظامًا نَحْرةً: نَحْرَ العظمُ : بَليَ وتفتّت.(الأقرب) فالعظام النخرة: البالية المتفتتة.كَرَّة: الكَرَةُ: العودة.والكرة الخاسرة: العودة الضارة.

Page 157

الجزء الثامن ١٥٢ سورة النازعات التفسير : السؤال هنا للاستعجاب لا للإنكار والمعنى سيقول الكافرون فيما بينهم عجبا: لقد كان المسلمون يقولون إن يحيي العظام ثانية وهي رميم، ولقد تحقق أحد الأمرين، فقد يتحقق الثاني أيضا، وتكون عقيدة البعث بعد الموت صحيحة.أما قوله تعالى (قَالُوا تلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فيعني أن الكافرين يقولون إنه لو وقع الأمر الآخر أيضا فسيكونون في خسران مبين عند عودتهم إلى الحياة ثانية، لأن محمدا قد أنبأ عن قيامتين؛ إحداهما غلبته والثانية تلك التي يُعرض فيها كل إنسان على ربه بعد الموت ليحاسب على أعماله.لقد أنكرنا القيامتين كلتيهما وقلنا لا نؤمن بما تقول، بل ننكر ما تقول، وحاربناه ساعين بكل ما أوتينا للقضاء عليه، ولكنا كلما حاربناه كُسرت هاماتنا ورجعنا خائبين صاغرين.ثم جمعنا القبائل كلها لإسقاط محمد ) ،وإفشاله فكان مآلنا الخيبة والخسران.فما دمنا قد هلكنا هنا في اليوم الموعود رغم أخذنا بالأسباب كلها، فكيف يكون مصيرنا في اليوم الذي لم نُعدّ له عُدّة؟ فلو تحقق نَبَؤُه عن الآخرة لكنا خاسرين؛ إذ لم نعد لها أي عُدّة.لقد ذكر الله تعالى هنا الآخرة ليبين أنه يتحدث عن غلبة رسوله وعن يوم القيامة في وقت واحد.يقول عندما يتحقق أحد الأمرين سيستنتج منه الكافرون بأنفسهم بأن الأمر الثاني الذي وعدنا به سيتحقق أيضًا، وسنكون عندها من الخاسرين جدا؛ إذ لم نعد لذلك اليوم عدة.وبعد بيان هذا المعنى يعود الحديث إلى الموضوع الأساس ثانية.شرح الكلمات : فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (3) ١٤ زَجْرة: زَجَرَه عن كذا زَجْرًا: منَعه ونهاه.ويقال أصلُ الزجر الطرد مع صو يقولون: زجر البعير صاح به يسوقه وزجرت الناقةُ بما في بطنها: رمت به.وزجر الطير: تفاعل به فتطير فنهره.يقال فلان يزجر الطير: أي يعافها، وهو أن الطائر بحصاة أو أن يصيح به، فإن ولاه في طيرانه ميامنةً تفاءلَ به، وإن ولاه مياسرةً تطير منه.(الأقرب) w يرمي

Page 158

الجزء الثامن ١٥٣ سورة النازعات فالمراد من قوله تعالى زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ أي الدفع دفعة واحدة أو السوق سوقة واحدة.التفسير : أي لقد قلنا لكم يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، ولما أريناكم نموذجًا واحدا من ذلك، طارت حواسكم وارتجفت قلوبكم، واعلموا أن قولنا تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ لم يتحقق بعد؛ حيث نسوقكم إلى مواطن القتال مرارا.الواقع أن قول الله تعالى هذا يماثله قول الشاعر بالأردية بما معناه: ما هي إلا بداية العشق، ذلك أخذت في البكاء؟ عليك أن تتوقع الكثير مثله مستقبلا.إذا، يقول تعالى للكافرين: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحدةٌ..أي أن هذا العذاب إنما هو سلسلة طويلة من العذاب، ومع مع رؤسائكم إلى القتال مرارًا وستلقون على أيدي المسلمين هزيمة تلو أخرى.ومع الواقع أن الله تعالى قد حلقة أولى في ذلك انهارت هممكم برؤيته.والحق أننا سنسوقكم بقوله فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ مشهد معر معركة بدر؛ رسم بقوله فَإِنَّمَا إذ لم يكن المسلمون ولا الكفار يريدون القتال إنما خرج المسلمون من المدينة لأنهم علموا أن قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام.وكانت قافلة غير عادية، وكان لكل - قرشي – ذكر أو أنثى – سهم فيها، مما يدل على أن رؤساء قريش كانوا يريدون أن ينفقوا أرباحهم من هذه التجارة في محاربة المسلمين والثابت تاريخيا أنهم قد أنفقوا أرباحهم هذه للاستعداد لمعركة أحد.(طبقات ابن سعد، المجلد الثاني، غزوة رسول الله أحدًا).فبالإضافة إلى أن قريش كلهم كانوا في حرب مع المسلمين، فإنهم ما الله برحوا ينسجون خططًا لمحاربة المسلمين بالمال الذي كانوا يكسبونه بالتجارة غالبا.وثانيا - لقد علم المسلمون أن قريشا قد خرجوا بجيش لاستقبال قافلتهم التجارية، فخرج المسلمون ليُظهروا للعدو أنهم لا يخافونه، ولكنهم لم يعلموا بشكل قاطع أنهم سيشتبكون مع الكافرين في حرب.فبما أن أرباح هذه التجارة كانت ستنفق في محاربة المسلمين من ناحية، ومن ناحية أخرى كان أهل مكة قد خرجوا بجيش ليزيلوا هيبة المسلمين في تلك المنطقة، فخرج الرسول الله بصحابته لكي لا يرتعب أهل المنطقة من الكافرين.

Page 159

الجزء الثامن ١٥٤ القافلة.سورة النازعات لا شك أن الرسول كان قد تلقى من تعالى إشارات بنشوب الحرب ضد الكفار، ولكن لم يتضح له أن هذا هو أوانها، فلما خرج بالجيش أخبره الله بالوحي بأن الحرب ستقع الآن، ولكن ليس ضد القافلة التجارية، بل ضد الجيش الذي أتى لحمايتها.بيد أن الله تعالى قد نهاه عن كشف هذا الأمر لأصحابه فورا.فقال له لأصحابه لما اقترب من ميدان بدر : الله الأمر فيما إذا كنا سنصطدم مع القافلة أم بالجيش.فقال الصحابة يا رسول الله، إننا مستعدون لمواجهة العدو في كل حال، و لم يخطر ببالهم حتى ذلك الوقت أنهم سيشتبكون مع جيش الكافرين لا مع ووصل الرسول ﷺ میدان بدر فوجد هناك جيش الكافرين، فقال لأصحابه : ماذا ترون الآن؟ فقالوا: يا رسول الله إنا مستعدون للقتال.ولهذا السبب لم يشترك في معركة كة بدر إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر صحابيا، مع أن عدد المسلمين كان أكثر من ذلك بكثير.لقد جاءوا مع الرسول الله بعدد قليل لأنهم ظنوا أنهم لن يشتبكوا مع جيش الكافرين.ولكنهم حين واجهوا جيشهم بدلاً من القافلة التجارية قالوا للنبي : يا رسول الله، نبني لك عريشا في مكان محفوظ ونربط عنده نُوقًا قوية سريعة، فلو قُتلنا في الحرب ركبتها لتلحق بإخواننا في المدينة الذين ليسوا أقل منا إخلاصا وولاء وتضحية في سبيل الدين.وإنهم لم يخرجوا معنا لأنهم لم يتوقعوا اندلاع الحرب؛ فلو التحقت بهم خرجت لمحاربة الكافرين مرة أخرى.أما جيش الكافرين فإنهم لما سمعوا أن قافلتهم التجارية قد نجت من هجوم المسلمين، فقال أبو جهل وغيره من الزعماء: تعالوا نأكل ونشرب بعض الوقت احتفالاً بفشل المسلمين في مهاجمة القافلة.فالواقع أن الكافرين أيضًا لم يجتمعوا هناك بنية القتال، إنما أرادوا أن يحتفلوا هناك ليأكلوا الولائم وليشربوا الخمور وليرعبوا أهل المنطقة، ظانين أن المسلمين لن يجرؤوا على التصدي لهم؛ أما المسلمون فلم يخرجوا موقنين بنشوب القتال، ولكن الله تعالى بحكمته قد جمع الفريقين وجهًا لوجه في مقام واحد.وقد ذكر الله تعالى هذا الأمر في مكان آخر من القرآن الكريم حيث قال: إِذْ أَنْتُمْ بالْعُدْوَة الدُّنْيَا وَهُمْ بالعُدْوَة الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن ليقضى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةِ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ

Page 160

الجزء الثامن ار ١٥٥ سورة النازعات سبب عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:٤٣)..أي تذكروا حين أخرجنا الفريقين بتدبير منا، فما كنتم لتتفقوا مع الكفار على موعد الخروج.فلم يكن هناك أي للحرب بالنسبة إلى الكافرين إذ كانوا يريدون حماية القافلة التجارية، ليبيعوا ما أتت به من بضائع وسلع ويربحوا الأموال، كما لم يكن المسلمون يريدون أي قتال، وإنما قد جعل الله تعالى الطرفين وجهًا لوجه في مكان واحد للقتال.شرح الكلمات : فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (3) الساهرة: ورد في المفردات: "الساهرة قيل: وجه الأرض".وورد في أقرب الموارد: "الساهرة: وجه الأرض، وقيل: الفلاة." التفسير: أي حينما نسوق هؤلاء الكافرين لمواجهة المسلمين مرة واحدة سيُفضحون كليةً، ويتبع ذلك ما هو أدهى وأمر.وما دام الحادث الواحد سيزعزع عقيدتهم عن القيامة، فما بالك إذا تبعتها الرادفة؟ أي حين يُساقون لحرب المسلمين مرة بعد أخرى.هَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ مُوسَى (٢) إِذْ نَادَتْهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ۱۷ التفسير: يبين الله تعالى هنا للكافرين أنه عندما تقع هذه الأحداث ستقولون مخادعين أنفسكم إنها محض صدفة.مع أنه لا يحق لكم أن تسموها صدفة، إذ قد وقعت أحداث مماثلة في زمن الأنبياء السابقين، وأمامكم أمثلة كثيرة منها، فكيف ترفضون هذه الشهادات التاريخية كلها بحجة أنها مصادفة؟ إن هذه ليست أول نبوءة أدلى بها أمامكم محمد ، بل هنالك نبوءات عديدة قد تنبأ بها وقد شاهدتم تحققها، فإذا كنتم تصرون أنها مصادفات فنقدّم أمامكم مثالا آخر، وهو قوله

Page 161

الجزء الثامن ١٥٦ سورة النازعات تعالى ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ ِبالْوَاد الْمُقَدَّسِ طُوًى.والطُّوى: اسم واد في الشام، وقال بعضهم : هو الشيء المثنى.(الأقرب) هناك نقطة رائعة في هذه الآية وهي أن موسى العليا حين لقي ربه ل كان في واد طوى، أي في واد منعطف، أما نبينا فقد الله تعالى مشهد لقائه معه في رسم قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: ٩-١٠)..أي كان الأمر كأنه قد رأى الله وهو واقف أمامه تعالى كما يكون وتر قوسين أو أقرب من ذلك.والبديهي أن الواقف في وادٍ طوى منعطف لا يمكن أن يرى الله تعالى كما يراه تعالى من يقف كوتر قوسين؛ فمثلا لا يمكن للشخص الواقف في النقطة (أ) في الرسم التالي أن يرى الشخص الواقف في النقطة (ب).7 ولكن الذي يقف في النقطة (أ) في الرسم التالي يستطيع أن يرى الشخص الواقف في النقطة (ب).C الواقع أن هذه الآية كانت إشارة إلى أن أمة موسى ال لن ترى الله تعالى، ولكن أتباع النبي محمد ﷺ يبلغون الذروة في الروحانية فيتمتعون برؤية الله وكأنه أمامهم؛ لأن الشخصين الواقفين في حالة قاب قوسين يرى أحدهما الآخر، ولكن الشخصين الواقفين في الرسم الأول الوادي الطوى (المنعطف لا يستطيع الواحد رؤية الآخر، لأن العبد يبقى في زاوية، والله في زاوية أخرى.

Page 162

الجزء الثامن ١٥٧ سورة النازعات اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٣) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (3) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى )) ۱۹ شرح الكلمات: :تَزَكَّى أصله تتزكّى وتزكي: فلان صار زكيا.(الأقرب) التفسير: قال الله تعالى لموسى : اذْهَبْ إِلَى فَرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى...أي هل لك رغبة في أن تتزكى؟ وهذا الأسلوب في الكلام يشبهه قولنا في الهند هل لك رغبة في "البان" حين يدعو أحدنا الآخر لتناوله.فالله تعالى أمر موسى أن يذهب إلى فرعون ويقول له: هل لك رغبة في التزكي حتى أدلّك على بعض الأمور ، وأهديك إلى ربك فتتولد في قلبك خشية الله؟ العليا فَأَرَنهُ الْآيَةَ الْكُبرى ) ۲۱ موسی أعرض التفسير : اعلم أن القرآن الكريم يحذف تفاصيل غير ضرورية.فهنا، مثلاً، لما قال ال الفرعون : هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى؟ عنه وقال: لا أرغب في هذه الأمور، فلا حاجة لذكرها، ثم جرى بينهما حديث طويل أدى إلى أن يُريَه الله الآية الكبرى؛ ولكن الله تعالى لم يذكر كل هذه الأمور، لأنها مفهومة من السياق.وهنا ينشأ سؤال: ما هي الآية التي أراها الله فرعون على يد موسى واعتبرها الآية الكبرى؟ فإن الله تعالى قد أراه آيات كثيرة، إذ ورد في آية أخرى أنه تعالى أعطى "البان" اسم شجرة في الهند يلقون في ورقها بعض البهارات مثل الهيل وغيره مع حلو معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظف الفم ،وتعطره، كما تفرح القلب.(المترجم)

Page 163

الجزء الثامن موسی ١٥٨ سورة النازعات تسْعَ آيات بينات (الإسراء: (۱۰۲).وكذلك قال تعالى عن فرعون وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (طه: ٥٧) والجواب أن الآية التي أراها موسى العلم فرعون عندئذ هي العلية لا آية العصا، كما يتضح من سورة طه وهذه السورة النازعات) أيضًا تتحدث عن أول لقاء بين فرعون وموسى.إذا، فالآية الكبرى هي آية العصا.وإن القرآن الكريم أيضًا يذكر معجزة العصا مرة بعد أخرى.لا شك أن معجزة اليد البيضاء أيضا قد ظهرت مرارًا، ولكنها ظهرت دائمًا بعد معجزة العصا.فمثلاً لما شرّف الله تعالى موسى بالنبوة أراه معجزة العصا أولاً ثم اليد البيضاء.والمعجزة التي أظهرها الله تعالى أمام فرعون على يد موسى في مواجهة السحرة هي معجزة العصا أيضًا.وعندما عبر الا مع بني إسرائيل اليمٌ ضرب الماء بالعصا أيضا.ولما احتاج بنو إسرائيل إلى الماء احتياجًا شديدًا ضرب عندها الصخرة بالعصا فثبت أن هناك عدة آيات تتعلق بالعصا.موسی ويظهر مما ورد في التوراة أن الآية التي أراها موسى في اليوم الأول هي آية العصا، حيث ورد: "وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائلاً: إِذَا كَلَّمَكُمَا فِرْعَوْنُ قَائلاً: هَاتِيَا عَجِيبَةً، تَقُولُ لِهَارُونَ: خُذْ عَصَاكَ وَاطْرَحْهَا أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَتَصِيرَ تُعْبَانًا فَدَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى فِرْعَوْنَ وَفَعَلَا هَكَذَا كَمَا أَمَرَ الرَّبِّ: طَرَحَ هَارُونُ عَصَاهُ أَمَامَ فرْعَوْنَ وَأَمَامَ عَبيدَه، فَصَارَتْ تُعْبَانًا." (الخروج ۷ : ۸-۱۰) إن السحر الذي أراد السحرةُ أن يأتوا به عند مواجهة موسى العليا كان أيضا ذا علاقة بالعصي، مما يدل على أن أعداءه العلا كانوا معترفين بأهمية معجزة العصا.لا شك أن التوراة ذكرت أن السحرة أروا معجزة الدم ولكن القرآن لم يذكرها؛ لأن المعجزة الأساسية التي أراها الله تعالى فرعون وأصحابه هي معجزة العصا، أما المعجزات الأخرى فهى تابعة لها.

Page 164

الجزء الثامن ١٥٩ سورة النازعات فَكَذَّبَ وَعَصَى (٣) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى )) ٢٤ التفسير: يخبر الله تعالى هنا أن فرعون كذب وعصى رغم رؤيته الآية الكبرى، ثم جاهدًا في معارضة موسى ،وتدميره علمًا أن السعي هنا ليس بمعنى ولّى يسعى الجري بالأقدام، وإنما بمعنى الجري بالأعمال.ثم يقول الله تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى..أي أن فرعون بعث رجالاً إلى كبار القوم ليجتمعوا في يوم معين ثم نادى بين عامة الناس أن يجتمعوا في ذلك اليوم؛ ذلك لأن هنالك أسلوبين لجمع القوم؛ الأول يتعلق بعلية القوم الذين تبعث لهم رسائل أو رجال، والثاني يتعلق بعامة الناس الذين ينادى بهم للاجتماع في الموعد المحدد.فلما اجتمعوا قال لهم فرعون أنا ربكم الأعلى وهذا الشخص يتآمر عليكم، فاتحدوا ضده.شرح الكلمات: فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَة وَالأُولَى ) ٢٦ نکال نكل بفلان: صنَع به صنيعًا يحذر غيره إذا رآه.(الأقرب) التفسير: إن قوله تعالى نَكَالَ الآخرة إما هو مفعول له أو مفعول مطلق، لأن النكال بالمرء يعني البطش به، فالمراد أن الله تعالى أخذ فرعون - كما حذره موسى العلة - ليدمره ويلقيه في عذاب الآخرة وعذاب الحياة الدنيا، أو المعنى أنه تعالى أخذه أخذا شديدا من حيث الآخرة أو من حيث الدنيا.والحق أن الله تعالى قد أشار بهذا الحادث إلى نفس الأمر المتعلق بغلبة الإسلام..حيث بين أن انتصار موسى ال على فرعون لم يحقق نبوءة غلبته فحسب، بل دلّ على وجود يوم القيامة أيضا، لأن هاتين النبوءتين كانتا متلازمتين، فما دامت

Page 165

الجزء الثامن 17.سورة النازعات إحداهما قد تحققت رغم الظروف غير المواتية جاز لنا القول إن الأخرى أيضا ستتحقق يوما ما.والحق أن أوّل مهمّة يقوم بها أي نبي في الدنيا هي أن ينشئ في القلوب الإيمان بالله القيامة تعالى ثم اليقين بيوم القيامة، ولذلك يربط النبي نبوءة نجاحه وغلبته بيوم دائما..ويقول: سأنتصر عليكم يومًا رغم الظروف غير المواتية، وستكون غلبتي دليلا على أن ما أقول لكم عن يوم القيامة سيتحقق يوما ما؛ ذلك لأن مهمتي إحياء الأرواح الميتة، وهي مهمة تبدو مستحيلة في الظاهر، لكن لو أصبح هذا المستحيل ممكنًا، وأُعيد هؤلاء الموتى روحانيا إلى الحياة، وتيسرت لهم هذه الحياة الروحانية، فلا بد لكم أن توقنوا أن ما يقال لكم عن الحياة في الآخرة حق وصدق؛ ذلك لأن الأرواح الميتة إذا أمكن إحياؤها في هذه الدنيا، فإحياء الموتى في الآخرة ممكن حتما، وبعد رؤية هذا المشهد يسهل على كل امرئ الإيمان بيوم القيامة، حيث يدرك أن الله إذا كان قادرًا على بعث الناس روحانيا في هذه الدنيا فإنه يقدر على إحياء الموتى في الآخرة أيضاً.ولذلك قال الله تعالى هنا فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى..أي أن الله تعالى أخذه ليعذبه في الآخرة ويعذبه في الدنيا أيضا.الملاحظ أن الله تعالى لم يقل هنا: فيأخذه الله نكال الآخرة، بل قال فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الْآخِرَة..أي أخذه الله تعالى ليعذبه عذاب الآخرة، وليس المقصود من هذا الأسلوب – أعني استعمال صيغة الماضي مكان المضارع – إلا البيان أن عذابه في الحياة الأولى أصبح دليلا على أنه تعالى سيبعثه بعد الموت ليعذبه عذاب الآخرة، ولذلك قدم الله تعالى هنا ذكر نكال الآخرة على عذاب الأُولى، منبها أن عذاب ومن الأولى أصبح دليلا على أن فرعون سيبعث بعد الموت لينال عذاب الآخرة أيضا.ا، فقد بيّن الله تعالى بذكر عذاب فرعون أن غلبة محمد لها الله ليست أول مثال في التاريخ حتى تعتبروه مصادفة، بل هذا ما حدث دائما فكلما جاء نبي من عند الله تعالى نال الغلبة رغم الظروف المستحيلة.لم يكن عنده أسباب من قوة ومال ذلك كتب الله له الغلبة وأحيا القوم على يده؛ وكان الإحياء جماعة، ومع الروحاني في الدنيا رغم الظروف غير الملائمة دليلا على أنه لا بد من إحياء بعد

Page 166

171 الجزء الثامن سورة النازعات الموت أيضا، ويبعث الله الناس جميعًا مرة أخرى فإن الله الذي قام بإحياء القلوب والأرواح الميتة في هذه الدنيا في ظروف غير مناسبة كيف لا يكون قادرا على إحياء الأجساد الميتة في ظروف تبدو مستحيلة في الظاهر؟ فلا يعني ذلك وهناك سؤال هام جدا يثيره المفكرون في هذه الأيام وهو: لا يصح – منطقيا - استنتاج شيء من شيء دونما رابط بينهما ؛ فمثلا لو وصفنا شخصا بأنه عالم كبير ذلك بالضرورة أنه قادر أيضًا على أن يصنع كرسيًا أو مخدة.فلو أثبتم أن الله تعالى قد أنبأ عن بعض الأمور الغيبية التي تحققت أيضا، فإنما نستنتج من أن هذه الأنباء قد تم الإدلاء بها وقد تحققت فعلاً، ولكن كيف يجوز أن نستنتج من ذلك وجودَ القيامة؟ إذ لا علاقة ولا رابط بين الأمرين.والحق أن دليلهم هذا هام ولا نستطيع رفض موقفهم إلى هذا الحد؛ إذ نسلّم نحن أيضا أن وجود صفة في شيء لا يدل بالضرورة على وجود صفة أخرى ما لم تكونا من قبيل اللازم والملزوم أو السابق والمسبوق أو السبب والمسبب، أعني أنه إذا وجدت إحداهما فلا بد من وجود الأخرى، وعندها يمكن الاستدلال بإحداهما على الأخرى، أو أن تكونا متشابهتين بحيث يكفي وجود إحداهما لنوقن بوجود الأخرى.لا شك أن كون أحد عالمًا لا يعني بالضرورة كونه قادرًا على صنع كرسي أو مخدة، فإن مثل هذا القول حماقة؛ إذ لا علاقة بين الأمرين، ولكن إذا قرأ علينا شخص كتابًا باللغة الإنجليزية، فيمكننا الاستنتاج أنه يقدر على قراءة كتاب آخر بتلك اللغة؛ وإذا اعترض البعض على استنتاجنا هذا، فلا بد أن يضحك عليه الجميع ويقولوا إنه استنتاج صحيح ،وطبيعي لا بأس به وليس فيه ما يخالف العقل.أو إذا كان المرء قادرا على قراءة كتاب باللغة الأردية، فيمكننا أن ذلك نستنتج من قدرته على قراءة كتاب آخر بتلك اللغة، ولا بأس بهذا الاستنتاج، إذ يوجد بين الأمرين مشابهة يستحيل بعدها علينا إنكار الأمر الثاني بعد وجود الأمر الأول.هذه والآن نبحث عن وجوه التشابه بين القيامة وهذه الدنيا.فأول ما يشبه من الدنيا بالقيامة هو صفة الخَلْق الإلهية؛ وإذا ثبت أن الله خلق الأشياء في الماضي أو يخلقها الآن فلا بد من الاعتراف أن الذي خلق أول مرة قادر على أن يخلق مرة

Page 167

١٦٢ الجزء الثامن سورة النازعات أخرى.كل ما في الأمر أن نفحص ما إذا كان قد أعلن أنه سيخلق مرة ثانية أم لا.فإذا كان قد أعلن أنه سيخلق مرة أخرى، فقد حُسم الأمر، ولا مناص من الاعتراف بأن الله الذي خلق أول مرة قادر على أن يخلق مرة أخرى.وحيث إن الخلق مشابه للقيامة، فلو أثبتنا أن الله تعالى يخلق الأشياء في هذه الدنيا، لكان هذا دليلا على صحة عقيدة القيامة أيضا.والأمر الثاني هو خلق آخر روحاني، فإذا وُجد في الدنيا خلق آخر روحاني مستبعد مشابه للخلق المادي..فلا بد أن نصدق الله تعالى في قوله إنه قادر على أن يخلق يوم القيامة خلقًا جديدًا مشابها، إذ قد أكد بالفعل قدرته على مثل هذا الخلق في الدنيا، فما دام تعالى قد أثبت قدرته وقوته وجلاله في هذه الدنيا نفسها من خلال خلق آخر ،مشابه فلا بد من الإيمان أن هذا الإله القادر القوي صادق في قوله إنه سيخلق خلقا آخر في الآخرة؛ إذ لا حاجة له إلى الكذب وهو يملك هذه القدرة والقوة.والأمر الثالث هو العلم التام، فإذا ثبت أن الله يملك العلم التام، حُلَّت القضية وحسمت؛ لأن الذي عنده علم كامل بصنع شيء، لا بد أن يقدر على صنعه في أي وقت شاء.لقد كتب المسيح الموعود ال أن الناس يسألون كيف خلق الله هذا الكون، فقال: لو تيسر لكم العلم التام عن خلقه، لم يبق بينكم وبين فرق؛ إذ ستبدأون – مثله ل - في خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم.فالذي يعلم كيف تُصنَع الطاولة أو الكرسي، وكيف تُستعمل المطرقة والقدوم، سيصنعهما بدون صعوبة.سرمه) جشم آريه - كحل عيون الآريه الهندوس – الخزائن الروحانية المجلد ۲ ص ٢٢٩ و ٢٦٣ و ٢٦٩) وبين الله فإذا ثبت أن الله تعالى عنده علم تامّ بالمخلوقات فالزعم أنه لا يقدر على إحيائهم أو خلقهم ثانية ليس إلا ضربًا من الجنون.هذه ثلاثة أمور لا بد منها لإثبات يوم القيامة، وهي تشكل معا الدليل على وجود القيامة..أي أن تُثبت أن الله تعالى قد خلق كل ما في الدنيا من مخلوقات، فنستنتج

Page 168

الجزء الثامن من ١٦٣ سورة النازعات ذلك أنه تعالى ما دام قادرًا على خلقها في الدنيا، فهو قادر على خلقها في الآخرة.ثم نثبت أنه قادر على أن يقوم في الدنيا بإحياء مماثل للإحياء الذي يتم في الآخرة، فإذا أثبتنا ذلك، فلا بد من الاعتراف أنه قادر على إحياء مماثل في الآخرة.ثم نثبت أن الله تعالى عنده علم تام بالمخلوقات، وإذا أثبتنا ذلك فلا مناص من الإيمان بوجود القيامة أيضًا؛ لأن الذي عنده علم تام بجزئيات المخلوقات ودقائقها فلا بد أن يكون قادرا على خلقها ثانية.فكما قلت إن هذه هي الأمور الثلاثة التي تشكل معا الدليل على وجود القيامة، وهي التي قد ذكرها القرآن مجتمعةً على الدوام، ردًّا على منكري يوم القيامة.لذلك إنا لا نقول إن تحقق نبوءة أنبأ الله بها سابقاً دليل على وجود القيامة.إننا نعترف أن هذا القول وحده لا يكفي دليلا على وجود القيامة.فلو قيل – مثلاً – إن انتصار فلان في قضية أو ولادة ابن في بيته بحسب نبوءة لدليل على وجود القيامة، فنقول إنه ليس دليلا عليها، لأن نجاحه في القضية أو ولادة الابن عنده لا يعني بالضرورة وجود القيامة، لأن هذه الأمور ليست متلازمة وليس لها علاقة مباشرة بالقيامة.إن ما نقوله هو: إن الله تعالى قد خلق الخلائق، ومن قدر على خلقها مرة قادر على خلقها مرة أخرى ونقول أيضا : إن الله تعالى يقوم في الدنيا بإحياء روحاني مشابه تماما بالخلق المادي، إذا فلا بد أن يقدر على خلق جديد في الآخرة.ثم نقول أيضا: إن الله تعالى عنده علم تامّ ومطلع على أسرار المخلوقات كلها؛ فكيف يصعب عليه الخلق مرة أخرى؟ هذه هي طريقة الاستدلال التي اتبعها القرآن الكريم دائما لإثبات يوم القيامة.ولا شك أنه فيما يتعلق بالكتب الأخرى فيمكن أن يقال عنها إنها لا تستدل على وجود القيامة كما ينبغي، ولكن لا يمكن توجيه هذا الاعتراض إلى القرآن؛ لأنه كلما تحدث عن يوم القيامة قدّم الخلق الأول دليلاً عليها.فقيل : مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أجاب الله تعالى بقوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةَ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلَيمٌ ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَحْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرَ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى

Page 169

الجزء الثامن ١٦٤ سورة النازعات وَهُوَ الْحَفَّاقُ الْعَليمُ ) (يس: ۷۹-۸۲) فترى أنه تعالى قد قدم هنا خلقه الأول وعلمه التام دليلاً على وجود القيامة، وأخبر أن الذي خلق أول مرة، والذي عنده العلم التام بالمخلوقات كلها كيف لا يكون قادرًا على أن يخلق مرة ثانية؟ فكأن أول دليل يقدمه الله على يوم القيامة هو تساؤله : مَن خلق هذه المخلوقات التي ترونها أمام أعينكم؟ فما دام الله تعالى قد خلقها جميعا، فكيف تقولون إنه غير قادر على خلقها ثانية؟ والدليل الثاني الذي قدّمه الله على وجود القيامة هو تلك النشأة الروحانية التي تتمّ في الدنيا على يد أنبيائه، فقال إنه تعالى ما دام يحيى في الدنيا النفوس الميتة رغم الظروف غير الملائمة، فلا بد لكم من التسليم أنه قادر على أن يهب الناس الحياة في الآخرة، وأن هذه العملية ليست مستحيلة عنده.شيئًا من والدليل الثالث الذي يقدمه الله تعالى هنا هو علمه الكامل، لأنه إذا تيسر لأحد علم كامل بشيء فلا يصعب عليه فعله.فمن كان يعلم صناعة الحلوى – وهي أن تأخذ الدقيق الخشن وتقليه في الزيت وتضيف إليه شيئًا من السكر والماء، وتتركه على النار بعض الوقت حتى ينضج - فإنه سيصنعها متى شاء من دون أي صعوبة.كذلك ما دام عند الله تعالى علم كامل بالمخلوقات وما دام مطلعا على أسرار الكون كلها، فكيف يصعب عليه إحياء الموتى؟ إن الذي قد أحياهم أول مرة سيحييهم مرة أخرى.باختصار، هذه أدلة ثلاثة يقدّمها الله تعالى على وجود القيامة، فلا يصح اعتراض البعض أن تحقق نبوءة غيبية لا يصلح لأن نستنتج منه صدق نبوءة أخرى.إنه يصح لو قيل إنّ تحقق نبأ غيبي يدل على صدق النبأ الغيبي الآخر، ولكنا لا نقول بذلك، إنما نقول إن قدرة الله على الخلق في الدنيا، ثم إحياءه الموتى الروحانيين في الدنيا نفسها، ثم علمه التام بالمخلوقات..كل هذا يشكل دليلا على وجود القيامة.إنا لا نقول إن موت "ليكهرام" الهندوسي بحسب نبوءة للمسيح الموعود الدليل على أن القيامة حق، ولا نقول إن ولادة ابن في بيته ال طبقا لنبوءة له دليل على وجود القيامة.كلا بل نستدل على وجود القيامة بهذه الأمور الثلاثة معا التي

Page 170

الجزء الثامن ١٦٥ سورة النازعات فصلتها آنفًا.ذلك أن هذه النبوءات التي تحققت إنما تدلّ على علم الله بجزئيات الأشياء فقط، وليس على علمه التام..ولكن إذا ظهرت من عند الله تعالى صفة إحياء الموتى الروحانيين، لشكلت دليلا على وجود القيامة بلا ريب، لأن هذا يقدم مثالا على عودة الحياة إلى الأرواح الميتة ببركة فيوض صحبة النبي وقوته القدسية، ويُجيز لنا القول إن الله الذي أحيا الأرواح الميتة في هذه الدنيا بهذه الطريقة قادر على أن يحييها في الآخرة.والدليل الثاني هو دليل الخلق، فإن الله الذي قدر على الخلق مرة لا يصعب عليه خلق المخلوقات نفسها مرة أخرى.والدليل الثالث هو دليل العلم التام، فالله الذي عنده علم تام بالكون كله، والمطلع على أسرار الخلائق كلها، لا يتعذر عليه خلق المخلوقات ثانية.إذًا، فهذه هي الأدلّة الثلاثة التي يقدّمها القرآن الكريم على وجود يوم القيامة، والتي لا يقدر أحد على تفنيدها.فبرغم أن الاعتراض الذي تثيره طبقة المثقفين اليوم صحيح في حد ذاته ولكنهم مخطئون في زعمهم أن القرآن الكريم أيضا يستدل على القيامة بهذا الأسلوب.نحن متفقون معهم تماما أن تحقق بعض النبوءات لا يصلح دليلا على يوم القيامة، ولكننا نبين لهم أنه إذا اجتمعت الأدلة الثلاثة المذكورة أعلاه أو أحدها لشكل برهانًا قطعيًّا على وجود القيامة، لأنها متلازمة مع يوم القيامة، فإذا ثبت أي منها دلّ على يوم القيامة بالضرورة.فالاعتراض الذي يثيره المثقفون اليوم باطل تماما وهو ناجم عن عدم فهمهم للقرآن الكريم.شرح الكلمات : إِنَّ فِي ذَالِكَ لَعِبْرَةً لِمَن تَخْشَى ) ۲۷ عبرة: العبرة: الأصلُ الذي تُرَدّ إليه النظائر ؛ والنظر في الأحوال؛ والعظة يتعظ بها، وجمعها عبر.(الأقرب) التفسير: العبرة هي عَرَضَ فيها الأنبياء الحياة الآخرة مع الإحياء الروحاني في الدنيا، وأكدوا الحياة ما يمكن أن يُتخذ دليلا على الحياة الآخرة.هناك أمثلة عديدة

Page 171

الجزء الثامن 177 سورة النازعات الآخرة بقيامهم بإحياء الموتى الروحانيين في ظروف غير مواتية.ولا بد للمرء أن يؤمن ويوقن بالحياة الآخرة برؤية هذا الإحياء الروحاني إذا كان قلبه عامرًا بخشية الله، خاليًا من التعصب والمكابرة علمًا أن كلمة (العبرة) هى من العبور الذي معناه مكان إلى آخر.فالعبرة تعني استنتاج شيء من شيء آخر، وكأن الانتقال من العبرة كالجسر تعبر بالإنسان من طرف إلى آخر.يقول الله تعالى إن هذا الدليل أيضا مما يوجه العقل الإنساني إلى الاقتناع بأنه لا بد من القيامة بعد الموت.وَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَهَا (3) ۲۸ التفسير : أي هل خَلْقُكم أصعب أم خَلْق السماء؟ ولا تعني السماء هنا السماء فقط، بل المراد منها النظام السماوي كله حيث ذكر الله الأرض أيضًا، مبينا أهمية خلق هذا النظام حيث قال بعد ذلك رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا : مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.وهذا الشرح يتضمن الأجرام الفلكية ورفعتها والجو والأرض كلها؛ فثبت أن السماء هنا بمعنى النظام السماوي الذي يضم الأرض أيضا، وليس السماء فقط التي هي مقابل الأرض.فالله تعالى يقول هنا إن خلق الكون الذي نتحدث عنه الآن أهم وأعقد من خلقكم.الواقع أن الإنسان مخدوع بنفسه حيث يقول في نفسه كيف يمكن أن يكون نظام الكون والإنسانُ متشابهين؟ وكيف يكون أحدهما دليلاً على الآخر؟ إن الإنسان يملك العقل والذكاء الخارق وملكة التفكير والتدبر، ولكن الشمس والقمر وغيرها من الأجرام لا تملك عقلاً ولا تفكيراً.إذًا، يرى الإنسان أنه قد شُبه الأدنى بالأعلى في هذا الدليل، حيث تم الاستدلال هنا على الأدنى بالأعلى ولكن ظنّه باطل، لأن الاستدلال بخلق الكون هو في الواقع استدلال بالأعلى على الأدنى وليس العكس.وبتعبير آخر إنه استدلال بالأولى.

Page 172

الجزء الثامن ١٦٧ سورة النازعات الحق أن الإنسان يغتر بنفسه ظنا منه أنه متفكر ومتدبر وذكي وفهيم، وأنه كائن مكتمل ونائب عن الله تعالى في الكون، ولذلك لا ينتقل ذهنه إلى بداية خلقه ولا إلى دليل السبب والمسبب حول عملية خلقه، ولذلك يقدّم الله للناس دائما نظام الكون كدليل على وجوده فيقول : ألا تدركون برؤية نظام الكون الهائل يد خالقه؟ ألا ترون أن كل جزء من الكون بحاجة إلى آخر، وليس فيه شيء مستقل بذاته؟ العلماء يقولون بصدد خلق الكون إن الذرات اتصلت فيما بينها، واتصالها أدى إلى خلق الكون بالتدريج.ونحن نقول: نسلّم بأن الكون خُلق من اتصال الذرات ولكن كيف أدى اجتماعها إلى وجود كل ما نحتاجه حتى على مسافة بعيدة جدا.نحن نسلّم بأن هذا الكون قد خلق باتصال الذرات (atoms)، ولكنا نقول إذا لم يكن لهذا الكون إله خالق فكيف اتصلت ذراته فيما بينها اتصالاً مع حاجات البشر، وفي زمان ومكان تمس فيهما الحاجة لها.إن اتصال الذرات فيما بينها يمكن أن يُعتبر صدفة، أما أن تتصل اتصالاً يسد كل حاجة إنسانية فلا يمكن أن يُعتبر ،صدفة بل لا بد من الاعتراف أن أحدًا يدير هذا الكون.فلو رأينا مثلاً في مكان قطعة جلد، فيمكننا القول إنها وصلت هنا بالصدفة، ولكن لو رأينا أريكة وكرسيًا ومخدّة وحذاء من الجلد فلا يمكن أن نعتبر كل هذه الأشياء قد وُجدت صدفة.إذًا، فإن نظام الكون ككل لا يمكن أن يكون صدفة، وإن جاز اعتبار وجود جزء منه صدفة.متوافقا ثم إذا كان الله تعالى قد خلق لنا من ناحية العين خلقا لا تقدر معه على الرؤية من دون الضوء، فإنه قد خلق على مسافة ملايين الأميال شمسا لتساعد بضوئها العين على رؤية الأشياء.فمن ذا الذي يمكنه أن يعتبر هذا كله صدفة؟ والحال نفسه بالنسبة إلى الحاجات الإنسانية الأخرى كلها فليس هناك حاجة إنسانية طبيعية لم يخلق الله تعالى لسدّها أسبابًا.لقد خلق أسباب بعض هذه الضرورات في النفس الإنسانية ذاتها، وبعضها فيما حول الإنسان وبعضها على مسافة ملايين الأميال من حاجة للإنسان إلا وقد خلق الله أسبابها في هذه الدنيا، وهذا النظام منه.فما مكتمل في ذاته بحيث لو رآه أحدٌ بصورته الكلية فلا يمكنه أن يظن أن هذا كله قد

Page 173

الجزء الثامن ١٦٨ سورة النازعات مصادفة، لذلك يقول الله تعالى للناس انظروا إلى خلق هذا النظام السماوي والأرضي الذي هو أشد تعقيدًا من خلقكم.يمكنكم أن تقولوا عن شيء ما إنه قد حصل صدفة، ويمكنكم أن تقولوا عن شيئين إنهما حصلا صدفة، ولكن كيف تعتبرون صدفةً كلَّ هذا النظام الهائل المذكور في قولنا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.فَكَّروا في هَذا النظام الهائل في صورته الكاملة التي نعرضها عليكم، ثم بيّنوا ما إذا كانت هذه الأمور صدفة.أرى أن أحدًا لن يعتبرها صدفة مهما كانت الفلسفة التي يبني عليها علمه موغلة في الغرابة، بل لا بد له من الاعتراف بأن هناك من يدير هذا الكون، وهو عالم بحاجات الناس ويمدهم بها.فالله تعالى يدعو الناس إلى التفكير في هذا النظام الهائل، منبها إياهم أنه يمكنهم أن يظنوا أنهم خُلقوا بأنفسهم، ولكن لا يسعهم القول أن هذا النظام ليس له خالق خلقه فلذلك يعرض عليهم هذا النظام الهائل كدليل على كونه تعالى خالقا له؛ فليمعنوا النظر في نظام الكون ويفكروا ما إذا كان هناك خالق خلقهم أم لا؟ إذًا، فالله تعالى قد لفت نظر الناس إليه تعالى بأسلوب رائع هنا، لأنه تعالى لو استدل على كونه خالقا لهم بتوجيه أنظارهم إلى أنفسهم قائلا إنه تعالى هو الذي قد وهبكم ألسنةً وعيونًا وأفئدة وعقولاً، لأنكروا هذا الدليل وعزوا خلقهم إلى بعض الأسباب.لا شك أننا نقدّم هذا المثال نفسه في نقاشنا عادة، ولكن القرآن الكريم يقدّم قولاً مكتملا ، ولذلك قد استدل الله فيه بنظام الكون الهائل على كونه خالقًا، لأن التفكير والتدبر في شيء آخر سهل.وهذا الأسلوب يشبه قول الشاعر بالفارسية: خوشتر آن باشد که سر دلبران گفته آید در حدیث دیگران (مثنوي مولوي معنوي ص (۸)

Page 174

الجزء الثامن ١٦٩ سورة النازعات أي ما أجمل أن يُذكر سرُّ الأحبّة في ثنايا الحديث عن الآخرين! فتفكير الإنسان في نفسه ليس سهلاً كما هو التفكير في الآخرين.وهذه هي الحكمة في هذا الأسلوب القرآني، حيث لم يدعُ الله الناس إلى التفكير في أنفسهم، لم يقل لهم إنه قد أعطاهم عيونًا وعقولاً وقلوبًا وآذانا وأيادي وأقدامًا كدليل على أن هناك من خلقهم، بل قدّم أمامهم شهادة هذا الكون الهائل ليسهل على من ينكر وجود البارئ الله التفكير في القضية بعقل هادئ.والسبب الثاني لاتخاذ هذا الأسلوب هو أن الإنسان أشرف المخلوقات بلا شك، ولكنه ليس إلا نتاج هذا النظام الكوني الهائل، وليس إلا جُزَيئًا من أجزائه.لقد صار أشرف المخلوقات بسبب تطوره العقلي، ولكن فيما يتعلق بخلقه فهو بلا شك جزء من هذا النظام الهائل، ولا يساوي في خلقته أمام خلق السماوات والأرض شيئا.فيما يتعلق بقضية الخلق وحدها فإن خلق الكون هو الأهم، وخلق الإنسان بسيط جدا إزاءه.لا شك أنه قد ارتقى عقليًّا فيما بعد، ولكن هذا لا يؤثر في صلب القضية شيئًا.ولذلك قد عرض الله تعالى هنا خَلْق الكون، مبينًا للناس: كيف يعجز عن خلقكم من خلق هذا الكون الهائل؟ وبتقديم هذا الدليل قد فصَل الله تعالى - ضمنيًّا - في قضيتين أخريين هامتين، وهما الحياة بعد الموت، والإحياء الروحاني الذي يتم على يد الأنبياء في هذه الدنيا.فدلل على الحياة بعد الممات من حيث إنه تعالى ما دام قد خلق الكونَ الذي هو أهم من البشر خلقا والذي هم جزء منه، فلا بد لهم من الاعتراف أنه تعالى قادر على الخلق في الآخرة.وبتعبير آخر إما أن يقولوا أن هذا الكون قد خُلق تلقائيا وليس هناك من خلقه ويديره أو لا بد لهم من الاعتراف نتيجة تدبرهم في الكون و دقائقه وحكمه - بأنه لم يُخلَق ،صدفة، بل هناك خالق له، وبالتالي لا بد لهم من الاعتراف بأن الله الذي خلق هذه الأشياء كلها مرةً قادر على أن يخلقهم مرة أخرى.وكأن الله تعالى لم يبرهن على وجوده تعالى بهذا الدليل الواحد، بل أثبت أيضًا الحياة بعد الموت.لماذا يا تُرى لا يؤمن البعض بالحياة بعد الموت؟ إنما سببه أنهم يستبعدون ذلك، فيقول الله لهم إنكم جزء حقير من هذا الكون.هلا فكرتم

Page 175

الجزء الثامن ۱۷۰ سورة النازعات فيمن خلق هذا الكون الهائل لتعرفوا أن خالقه هو الله تعالى.فإذا كان الله تعالى قادرًا على خلق هذا الكون، فكيف لا يكون قادرًا على خلقكم؟ إذًا، كما أكد الله تعالى من قبل بقوله فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى بأن عذاب الدنيا دليل على عذاب الآخرة، كذلك بين هنا أن الله الذي قدر على أن يخلقكم في الدنيا قادر على أن يخلقكم في الآخرة.كل ما في الأمر هو أن تروا ما إذا كان قد وعد بخلقكم ثانية أم لا؟ فإذ سبق منه هذا الوعد فقد حُسم الأمر وانتهى، ولم يبق مجال للسؤال كيف يخلقنا ثانية؛ لأنه تعالى ما دام قد أثبت قدرته على الخلق بخلق هذا الكون الهائل، فثبت أنه قادر على الخلق في الآخرة، وهذا الخلق ليس مستحيلا عليه.إذًا، إن خلق الكون دليل على الحياة بعد الموت أيضا.كما أن هذه الآية قد برهنت على إحياء الموتى الروحانيين في الدنيا، حيث بين الله تعالى أنه ما دام قد هيّأ الأسباب لسد حاجاتكم البسيطة لاستمرار حياتكم المادية، فكيف تظنون أنه لم يهيئ الأسباب لحياتكم الروحانية؟ فما دام قد هيأ لحفظ أجسامكم - وهي فانية في النهاية حتمًا - أسبابًا كثيرة حتى إن بعضها يبعد عنكم ملايين الأميال، فكيف يتغافل عن خلق الأسباب لحفظ أرواحكم؟ إن الله الذي اهتم بتكميل نظام العالم الكبير (أي (الكون من كل النواحي، كيف يمكن أن يتهاون في سدّ حاجات العالم الصغير (أي الإنسان سواء كانت حاجات مادية أو روحانية؟ شرح الكلمات : رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّنَهَا ) ۲۹ سَمْكَها : سَمَكَه سُمْكًا فَسَمَكَ: أي رفعه فارتفع.والسَّمْكُ: السقف؛ أو من أعلى البيت إلى أسفله؛ القامة من كل شيء والسَّمْكُ: التَّحَنُ الصاعد كسمك المنارة.(الأقرب)

Page 176

الجزء الثامن وسنام سامك مرتفع.(التاج) ۱۷۱ سورة النازعات وهذا يعني أن كلمة سمك تفيد معنيين؛ أولهما أن يكون الشيء عاليًا وبعيدا، وثانيهما أن يكون عالياً وغليظًا.وقال ابن جزي: السَّمْك" غِلَظُ السماء، وهو الارتفاع الذي بين السطح السفلي الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها." (فتح البيان) وهناك اختلاف بين اللغويين في معنى السمك كما مرّ، فقد قال بعضهم إن لفظ السمك لا يشير إلى مقدار ارتفاع الشيء فقط، بل يشير إلى مقدار ما بين أعلاه وأسفله؛ فإن صاحب "الأقرب" قال: "السَّمْكُ: من أعلى البيت إلى أسفله"، بينما قال بعض الكتاب الآخرين خلاف ذلك، فكتب صاحب "الكشاف": رفع سَمْكَها..أي جعَل مقدار ذهابها في سَمْت العُلو مديدًا رفيعا (الكشاف).فكأن السمك يكون من أسفل البيت إلى أعلاه.وقد بين بعضهم سبب ذلك وهو أن أصل العُمق البُعدُ سُفْلاً (المفردات)..أي مقدار ما بين أعلى الشيء إلى أسفله، أما السَّمْك فيدل على مقدار ما أسفله بين إلى أعلاه.بيانه من ولكن القرآن الكريم، بعد أن استعمل كلمة (السمك)، ذهب في بيانه الأعلى إلى الأسفل، وليس من الأسفل إلى الأعلى، حيث قال الله تعالى: وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.فقد ذكر تعالى هنا أولاً ما يوجد في العلو، ثم ذكر الأشياء التي توجد على الأرض.فيبدو، بحسب الترتيب الذي راعاه القرآن الكريم هنا، أن الذين قالوا إن السَّمْك يشير إلى ما بين أعلى الشيء إلى.أسفله هم أقرب إلى الصواب.وربما تفيد هذه الكلمة المعنيين كليهما.فسوّاها سوّى الشيء: جعله سويًّا..أي لا داء به ولا عيب.(الأقرب) التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنكم لو أمعنتم النظر في نظام هذا العالم لعلمتم أنه لو لم يجعل السَّمْكَ، أي السماء الرفيعة، لظلت هذه الأشياء كلها ناقصة.إن هذه

Page 177

الجزء الثامن ۱۷۲ سورة النازعات الرفعة هي التي قد سترت عيوب الأرض، فبدا كل شيء فيها مكتملا؛ فلو لم يجعل الله هذه الأجرام الكبرى من شمس وقمر ونجوم لاستحال استقرار الأرض.والحق أن الأرض قد أصبحت صالحة للعيش عليها نتيجة جاذبية الشمس والقمر والنجوم ولولا هذه الأجرام في العلو لرأينا آلاف العيوب والخلل في هذه الأرض التي تخلو من أي أي عيب وخلل بسببها، والتي تمدّنا بما نأكل ونشرب – بل لم تصلح التي تستر عيوب الأرض، والأجرام الآن مي لعيش الإنسان عليها أصلا.فالسماء هي.التي تتسبب في طلوع النهار الذي نكسب فيه ،معاشنا، وهي التي تأتي بالليل الذي نستريح فيه ونستعيد قوانا وطاقاتنا من جديد.سے إذا، فإن من منَن الله العظيمة أنه خلق السماء ورفعها في سمت العلو.علما أن الفاء في قوله تعالى فَسَوَّاها للنتيجة والترتيب والمعنى أنه تعالى رفع سَمْكَ السماء جدًّا، وهكذا قام بتسوية الأرض، أي جعلها بدون عيب وخلل.فالفاء إشارة إلى أنه لولا النظام السماوي فوق الأرض لما اكتمل نظامها.لقد نبه الله تعالى بهذه الآية إلى أن تخلّص الإنسان من العيوب منوط برفعته ووصوله إلى الله، لأننا نجد وكأن الدنيا مليئة بالوحوش رغم كثرة كبار الحرفيين والمهندسين والعلماء فيها؛ إذ لا يهتم هؤلاء بالأخلاق ولا بالروحانية، بل لا يوجد عندهم إحساس بحب الله تعالى، وإنما يتهافتون على مغريات الدنيا ولذاتها، كالحيوانات التي لا هم لها إلا الأكل والشرب.ولكن عندما يُبعث أنبياء الله إلى هذه الدنيا نفسها تقدّم مشهدًا للوحشية والبربرية، فإنها تبدو جميلة جدا، وتعمر القلوب بالإخلاص، ويتجلى الوداد من العيون، وتلتاع القلوب بحب مع أنها لم تكن تهتم بحبه تعالى من قبل مطلقا، وتبدو الدنيا صالحة للعيش.عندها تجد الفيلسوف الذي كان بعيدا عن الله ينجذب إليه تعالى ببركة نور الأنبياء، وتجد كبار الحرفيين والمهندسين والمخترعين الذين كانت طاقاتهم تُهدر من قبل، يسلكون الصراط المستقيم، ويتخلصون من شتى العيوب والنقائص.فالله تعالى قد نبه هنا أنكم إذا أردتم أن تروا الدنيا منزهة عن العيوب والنقائص فلا تنكروا ضرورة السماء.فكما أن بقاء الأرض بدون السماء محال في العالم التي الله

Page 178

الجزء الثامن ۱۷۳ سورة النازعات الكبير (أي الكون كذلك من المحال أن يتجلى حسن العالم الصغير (أي الإنسان) ما لم ينزل وحي الله وكلامه من السماء، وما لم يُبعَث أنبياؤه الذين يعملون على إبراز هذا الحسن وتجليته.وحيث إنكم تعترفون أن الله تعالى قد خلق السماء لبقاء الأرض واستقرارها وتخلصها من عيوبها، فلا بد لكم من الاعتراف أيضًا بضرورة الله وكلامه.فإنه تعالى إذا لم ينزل وحيه من السماء وإذا لم يبعث أنبياءه من عنده لما تخلصت الأرض من العيوب والنقائص والذنوب.إن كلام الله تعالى وبعثة أنبيائه هو الذي يستر عيوب الدنيا فتبدو جميلة رائعة.وحي بعد هذه الآية بين الله تفصيل هذه التسوية ونتائجها.وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ صُحتَهَا (3) التفسير : أي جعَل ليلها حالك الظلام، وأخرج نهارها أو ضوءها أو ظهيرتها.ولا ذلك أن الله تعالى قد حوّل شيئًا إلى آخر، بل المراد أنه تعالى جعل ليلها مظلمًا يعني وجعل نهارها مضيئا.لقد أرجع الله تعالى ضمير المؤنث (الهاء) في قوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا إلى السماء، مع أن الليل لا أثر له على السماء إنما يُظلم الأرض حين لا تكون أمام الشمس، فالواقع أن الليل هو ليلنا نحن أهل الأرض، وليس ليل السماء، والضحى هي هو ضحانا وليس ضحى السماء؛ فلماذا أرجع الله الضمير إلى السماء أيضا؟ والجواب أن الشمس والقمر جزء من السماء، ولا يحل الليل إلا بمغيب الشمس في العلو، ولذلك نُسب الليل إلى السماء.ولا يعني هذا أن الليل يحدث في السماء، وإنما المعنى أن ظاهرة الليل نتيجة للنظام السماوي الذي يمد الأرض بالضوء، ولكن ضوء الشمس لا يصل إلى الأرض حينما لا تكون أمام الشمس، بل يخيم الظلام على الأرض.فالواقع أن الليل إنما نُسب إلى السماء لكونه ذا صلة بالنظام السماوي، وجزءا منه.وكذلك يصح أن نقول "ضحى السماء"، لأن ضحانا أيضا منوط بالنظام السماوي.

Page 179

الجزء الثامن ١٧٤ سورة النازعات والجواب الثاني أن السماء ليست شيئا ماديا، بل يراد بها الفضاء العلوي، فيصح نسبة الليل والنهار إليها.بين الله تعالى بقوله وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا أنه جعل الليل مظلما والنهار مضيئًا، لينبه إلى أن الليل زمن الخمول الذي تظلّ فيه قوى الناس مخفية ولا تنكشف ما لم يبدد ضوء النهار ظلمة الليل.وبالمثل فإن كفاءات القوم تظل مكتومة ولا تتجلى ما لم يُبعث نبي من عند الله تعالى.الدنيا لا تطلع على كفاءاتهم الطبيعية ما لم تطلع شمس النبوة وتجلي على الدنيا كفاءاتهم المستورة وتكشف حقيقتهم.هذا هو القانون الإلهي الذي نجده عاملاً في العالمين الروحاني والمادي كليهما.لقد نبه الله تعالى بهذه الآية العرب إلى هذا القانون، موضحًا لهم أنكم تظنون أنكم تتحلون بكفاءات عالية، ولا مثيل لكم في الشجاعة والكرم والوفاء بالعهد، ولكن ينبغي أن تدركوا أن هذه الخصال لا تتجلى جلاء كاملا ما لم يُبعث نبي.لا شك أن الناس يتحلون بتلك الكفاءات قبل بعثة نبي، ولكن نطاق عملهم يكون محدودًا جدًّا إذ لا يوجد عندهم نظام، فلا تنتفع الأمة بمجموعها بكفاءات أفرادها.وعندما يبعث الله ويقيم بين القوم نظاما جديدا تتجلى كفاءاتهم بحيث تنكشف أمام الدنيا قدرات كل شخص بشكل بارز.لا شك أنهم يتحلون بالكرم والسخاء وإكرام الضيف والشجاعة والوفاء ولكن نطاق هذه الخصال الحميدة يكون محدودًا لا تتوجه إليها أنظار الدنيا.ولكن عندما يقيم الله تعالى نظاما جديدا على يد نبي وينخرط القوم في سلك الوحدة تتجلى كفاءة كل إنسان بشكل بارز، فلا تملك تعالى نبيا الدنيا إلا الاعتراف بكفاءاتهم المدهشة عند بعثة النبي يدخل سخاؤهم وجر وشجاعتهم وبسالتهم تحت النظام، وتصبح كفاءاتهم الشخصية ومحاسنهم الأخلاقية نموذجًا للقوم.إنهم يتحلون بهذه المحاسن من قبل أيضا، ولكن ظلمة ليل الجهل تحجبها، وعندما تطلع عليهم شمس النبوة تتوجه إليهم أنظار الناس أجمعين، وكل إنسان يرى محاسنهم التي لم يكن يراها أحد من قبل، وترتفع الصيحات بالثناء عليهم والإشادة بهم.

Page 180

الجزء الثامن ۱۷۵ سورة النازعات يشهد التاريخ أن العرب كانوا متحلين بخلق الشجاعة والبسالة في أيام الجاهلية أيضا، ولكن خُلقهم هذا كان مستورا عن باقي الناس.لا شك أن العرب كانوا مدركين الخُلقهم هذا، ولكن متى كانت الشعوب الأخرى تعلم ذلك؟ كان العرب شجعانًا بلا شك ولكن ظلمة الليل المخيم عليهم كانت قد حجبت خلقهم ولما وقع عليهم ضوء النور النبوي جلّى خُلُقَهم كما يُجلّي الطلاء لون الخشب.هذا، لقد تجلت روح الشجاعة فيهم بحيث تجد تاريخ الدنيا مليئًا بقصص شجاعتهم.وكذلك لا يسع أحدًا أن ينكر أن العرب كانوا متحلين بخلق الكرم والجود قبل بعثة النبي ، ولكن الإسلام علّمهم أن يعملوا بهذا الخلق ويسخوا على الناس احتسابًا الله تعالى وابتغاء لمرضاته الفائدة الأخرى التي جناها العرب ببعثة الإسلام أن الدنيا لم تكن تعلم بخلق الكرم والجود فيهم، ولكن حينما أضاء نور الإسلام وجوههم وبددت شمسه ظلمة الليل المخيم عليهم ذاع صيت سخائهم في العالم أجمع بحيث لا تزال قصص كرمهم مسجلة في التاريخ.والوفاء ولكن من على هذا.اء بالعهد أيضًا من أبرز الأخلاق الإنسانية، وقد حثّ عليه الإسلام كثيرا، ذا الذي يمكنه أن ينكر تحلّي العرب بهذا الخُلق قبل الإسلام؟ الفرق الوحيد هو أن هذا الخلق لم يتجل قبل الإسلام الذي أبرزه وجلاه فيهم.كان كل شخص منهم يتمسك بهذا الخلق فيما يتعلق بشخصه فقط، ولم يكن يبالي به المستوى القومي، ولكن الإسلام ألزمهم بالوفاء بالعهد في معاملتهم الشخصية والقومية كلتيهما، واعتبر إخلاف الوعد سببًا لسخط الله تعالى.والفائدة الأخرى التي جناها العرب بعد ظهور الإسلام أن الدنيا كلها اطلعت على خُلقهم فكما أن الناس لا يميزون في ظلمة الليل بين الجميل والدميم، وإذا طلع النهار تجلى عليهم جمال الجميل ودمامة الدميم، كذلك كان العرب متحلين بخلق الوفاء ولكن العالم كان يجهل ذلك، فجاء الإسلام وجلّى خُلقهم أيما تجلية حتى تجد تواريخ العالم مليئة بقصص حرص العرب على الوفاء بالعهد.كنا نقرأ في صغرنا واقعةً لبعض العرب في كتب قصص الأطفال بالإنجليزية، بأنه كان في إسبانيا تاجر اسمه يوسف، قتل ابنه بيد شخص، وهرب القاتل ووصل

Page 181

الجزء الثامن ١٧٦ سورة النازعات بالصدفة إلى والد القتيل يطلب منه أن يؤويه في بيته، لأن الشرطة تطارده.ولم يعرف يوسف أن ابنه قد قتل، فخبأه في بيته، وبعد قليل جاء رجال الشرطة إليه حاملين جثة ابنه وقالوا لقد قتله شخص رأيناه يهرب بهذا الاتجاه، فهل تعرف أين ذهب؟ فمع أن يوسف كان قد رأى جثة ابنه وقد علم أن الذي خبأه في بيته هو قاتل ابنه إلا أنه لم يرض بالغدر به وردّ على رجال الشرطة ردًّا يئسوا به من مواصلة اللحاق بالقاتل وظنوا أنه قد هرب إلى جهة أخرى.ولما رجعت الشرطة أخرج التاجرُ قاتل ابنه من ظهر البيت وقال: اهرب الآن، فإن الشرطة قد ذهبت.هذه الواقعة مثال رائع للوفاء بالعهد، ولم يجد الأوروبيون نظيرها في بلدانهم، فاضطروا لتسجيلها في كتبهم رغم عدائهم الشديد للإسلام، ولا تزال مسجلة في كتبهم مع أنها قصة مسلم عربي.إذا كان العرب متحلين بخلق الوفاء بالعهد بحيث لا يسع أحدًا إنكاره، إلا أن خلقهم هذا تجلى بظهور الإسلام بصورة بارزة جدًا.كما لم يكن العرب متحلين بهذا الخلق بحيث تتوجه إليهم أنظار العالم ولكن لما وقع عليهم نور النبي تحلى هذا أمام العالم كله كما انكشفت محاسنهم الأخرى شأن الأشياء التي لا حسنهم تبقى خفية إذا ما وقع عليها ضوء الشمس.فالله تعالى قد نبه هنا العرب بأنهم يتحلّون فطريا بكفاءات ولا شك، ولكن عليهم أن يعلموا أنه لا بد من ضوء النهار لانكشافها.فإذا لم يسيروا تحت هذا الضوء، ظلّت كفاءاتهم ومحاسنهم مستورة عن أعين العالم.أما إذا وقع عليهم نور المصطفى جلى كفاءاتهم وأبرزها بحيث صوّب كل شخص بصره إليهم، واطلعت الشعوب الأخرى على محاسنهم.وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَنَهَا (٤) أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَنهَا (3) وَالْجِبَالَ أَرْسَهَا )) شرح الكلمات: بعد ضدُّ قَبْلُ"، وقد يرد بمعنى "مع".(الأقرب) :

Page 182

الجزء الثامن ۱۷۷ سورة النازعات دحاها دحا الشيء: بسَطه (الأقرب).دحا الأرضَ أوسعَها.(اللسان) التفسير: إن (بعد) في قوله تعالى وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلكَ دَحَاهَا قد يفيد المعنيين المذكورين أعلاه أي ضد قبل، ومع.والمراد أن الله تعالى مهد الأرض بعد أن خلق النظام الشمسي، أو بدأ تمهيد الأرض وهو يخلق النظام الشمسي.والمعنى الثاني هو الأولى عندي.وبسط الأرض لا يعني أن الله جعلها كفراش، بل يعني أنه جعلها صالحة للعيش.إننا لسنا ملزمين برأي علماء الجيولوجيا، إلا أن بحوثهم تصدق القرآن تماما بهذا الشأن.لقد توصلوا إلى أن الأرض كانت شديدة الحرارة في البداية، ومن أبخرة هذه ارة تكوّنَ الماء، ثم خرجت الحمم من باطن الأرض وكونت الجبال.وخروج الحمم أدى إلى تشكل الجبال من ناحية، وانخفاض سطح الأرض من ناحية أخرى، كما يحدث عند الزلازل عادة حيث يرتفع سطح الأرض من جانب وينخفض من آخر، وتكونت حفر كبيرة في الأرض.وحيث إن الماء يجري إلى المكان المنخفض؛ فلقد تجمَّعَ الماء في الأماكن المنخفضة من الأرض حين ارتفع سطحها في الأماكن الأخرى.وليست البحار إلا تلك الحفر الكبيرة أو الأماكن المنخفضة التي خرجت منها الحمم وشكلت جبالاً.وحينما تشكلت الجبال في جانب، وانحسر الماء في سے المنخفضات، صار سطح الأرض مستويًا صالحا لعيش الإنسان عليها.ولكنه أمر ظنّى على كل حال، إذ قد يظهر غدًا بحث يبطله.كذلك يقدّم العلماء عن خلق الأرض نظرية تقول إنه كانت ثَمّةَ كرة ملتهبة شبه شدة دورانها انفصلت وتناثرت عنها تلك الأجرام التي نطلق عليها ومن سائلة، أجرام النظام الشمسي بما فيها الأرض، واتخذت شكل كرات حين بردت.باختصار، قد أحدث الله تعالى من خلال النظام الشمسي هذه التطورات التي أدت إلى صلاح الأرض للعيش عليها، ولولا النظام الشمسي لم تصلح للعيش.وكما أن النظام الشمسي ضروري للنظام الأرضي كذلك لا يكون النظام الجسماني للناس ذا قيمة دون قيام النظام الشمسي الروحاني ؛ إذ لولا النظام الشمسي المادي لما تكونت

Page 183

۱۷۸ سورة النازعات الجزء الثامن الجبال، ولما تكونت الحفر التي تحولت إلى البحار، ولما صلحت الأرض لعيش الإنسان عليها فلا قيمة للنظام الجسماني للإنسان ما لم يكن هناك نظام شمسي روحاني يطرد من النفس الإنسانية ما فيها من حمم العادات النارية، ويجعلها مستوية موزونة.إن النظام الشمسي الروحاني هو الذي يكبح غيظ الإنسان من ناحية، ومن ناحية أخرى يجنّبه اللينَ الزائد والتسيب وعدم الحياء، ويجعله بتعليمه المعتدل عضوًا مفيدا في المجتمع.وبتعبير آخر كما أن الله تعالى يُخرج من باطن الأرض الحمم التي تتحول جبالاً، كذلك فإن الدين يخفّف من خلال بعض القيود ما في الطبيعة الإنسانية من غضب وهياج وانتقام، ولكنه لا يريد إخماد هذه النار والحرارة في باطن الإنسان كليةً، فيأمره أيضًا بما يجنّبه من الديوثية وعدم الحياء وينفّره من الكسل والغفلة.وبعدما تتخلص الفطرة الإنسانية من كل فساد وتتحلى بكل ما هو خير وصالح، عندها يصبح هذا النظام الجسماني للإنسان ذا قيمة.ولكن إذا لم يكن على هذا النظام الإنساني الجسماني نظام السماء الروحانية الذي يكبت جما الغرائز الحيوانية في النفس الإنسانية من جهة، ومن جهة أخرى يجنبها الكسل والغفلة، فمن المستحيل أن يكون النظام الإنساني ذا وزن أو قيمة.إن النظام السماوي هو الذي يتيسر بقيامه الغذاء والماء الروحاني للناس، ويخرج من بينهم أناس كالجبال التي تتسبب في استقرار الأرض.شرح الكلمات : مَتَعًا لَكُمْ وَلأَنْعَمكُمْ ٣٤ الأنعام: جمع النعم..وهي الإبل والشاءُ، وقيل: خاص بالإبل.وفي "المصباح": النَّعَمُ: المالُ الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه –كلفظ النساء حيث لا مفرد له من لفظه، بل مفردها امرأة وأكثر ما يقع على الإبل.وقيل: النَّعَمُ الإبل خاصة، والأنعامُ: ذواتُ الحُفّ والظلف، وهي الإبل والبقر والغنم، وقيل: يُطلق الأنعام على

Page 184

الجزء الثامن ۱۷۹ سورة النازعات هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمٌ، وإن انفردت الغنم والبقر لم تُسمَّ نَعَماً.الله (الأقرب) التفسير: لقد بين تعالى هنا أن نظام الكون ليس لمنفعتكم فقط، أيها البشر، بل إنه نافع لأنعامكم أيضًا، حيث يمدّها الله تعالى بما تحتاج إليه لحياتها وراحتها.لقد نبه الله تعالى بضرب هذا المثال من النظام المادي إلى أنه لا يهتم بحاجات الحيوانات في نظام العالم المادي فقط، بل في نظام العالم الروحاني أيضا.لقد ركز القرآن على هذا الموضوع بشكل خاص، وأوصى المؤمنين بإعطاء كل ذي حق حقه، فقال أَمْوَالَهُمْ حَقٌّ للسَّائل وَالْمَحْرُوم (الذاريات:٢٠)..أي في أموال تعالى المؤمنين حق للذين يسألون وللذين لا يستطيعون السؤال، كإنسان قليل الكلام أو شعوب ضعيفة منهارة أو حيوانات.وقد حث النبي الله على هذا الأمر في أحاديثه، فقال إن امرأة دخلت الجنة لأنها سقت كلبًا غلبه العطش.(مسلم، كتاب السلام، باب فضل سقي البهائم).وقال الله الرحموا الحيوانات لأن الله تعالى قد جعلها تحت رعايتكم.إذًا، فإن التعليم الروحاني لا يضمن السلام للناس فحسب، بل للحيوانات أيضًا.وفي العالم المادي أيضا قد جعل الله نظاما لإطعام الحيوانات، فإن الغلال تنفع الإنسان، بينما ينفع التبنُ الحيوانات.إنني أفكر دائماً أن الزروع لو أنتجت الحبوب والغلال فقط لقتل الناس الحيوانات جوعًا.ولكن انظر إلى عجائب قدرة الله كيف جعل بطن الإنسان صغيرا وبطن الحيوان كبيرا، وجعل الحبوب قليلة، والتبن كثيرا.ولو كانت هناك غلال فقط لأكلها الإنسان ومات الحيوان جوعا.والحال نفسه ينطبق على النظام الروحاني ،أيضا فلولا أن الله تعالى أقام نظاما روحانيا من عنده لهضم الأقوياء حقوق الناس هضما، وسلبوا الفقراء سلبًا، كما يحصل اليوم حيث أقرب ما وجدناه بهذا المعنى هو الآتي: عن قُرّة بن إياس أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة فأرحمها ؟ فقال : "والشاة" إن رحمتها رحمك الله مسند أحمد حديث قرة، والمستدرك: ذكرُ قرة).وقيل لرسول الله : إن لنا في البهائم لأجراً؟ قال: "في كل ذات كبد رطبة أجر." (مسلم: كتاب السلام باب فضل سقي البهائم

Page 185

الجزء الثامن 11.سورة النازعات تريد ألمانيا الاستيلاء على ثروات الدنيا كلها بينما تنوي إنجلترا وأمريكا أن تكون ثروة العالم كلها في أيديهما.لا شك أن هؤلاء يعطون الآخرين حقوقهم، ولكن بصفتهم حلفاء وأصدقاء، لا بصفتهم أناسًا.ولكن النظام الذي يقيمه الله تعالى في الدنيا يراعي حقوق الجميع، ويضمن لكل ذي حق حقه؛ صغير وكبير، غني وفقير، مدير وعامل.شرح الكلمات : فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبرى (*) ۳۵ حتى علا وغلب.الطاقة: طَمَّ الماءُ: عَمَر.طمَّ فلانٌ الإناء: ملأه.وطمَّ الشيءُ: كثر وطمَّ الأمرُ : تفاحَمَ.والطامة : الداهية تغلب ما سواها، قيل لها ذلك لأنها تطمّ كلَّ شيء، أي تعلوه وتغطيه.(الأقرب) التفسير: لقد قدّم الله تعالى هنا دليلا آخر على الإحياء الروحاني في الدنيا وعلى البعث بعد الموت، فقال كيف لا يقدر الله على أن يبعثكم بعد الموت وقد قدر على إحداث هذا الانقلاب الروحاني العظيم الذي يفوق تصور الإنسان وقياسه؟ وكيف لا تدركون برؤية هذا الانقلاب أن ما يقوله الله تعالى عن غلبة الإسلام حق وصدق أيضا؟ قبل عدة آيات قال الله تعالى ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ..أي أننا سنسوق الكافرين إلى ساحة القتال بغتة ونفضحهم هناك، وكان هذا إشارة إلى غزوة بدر التي قد قال الله للكفار بشأنها: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وسيتلوها المزيد من الحروب، كما أشار إلى ذلك من قبل بقوله يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاحِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ..أي سندفعهم إلى حرب تلو حرب؛ أما الآن فقد حدّر الله تعالى بعد هذه الحروب المتتالية سيأتي يوم الطامة الكبرى..أي فتح مكة؛ ويومَ الطامة الكبرى ستنكشف عليكم حقيقة أعمالكم جليًّا.أنه

Page 186

الجزء الثامن ۱۸۱ سورة النازعات لقد اتضح من هنا تماماً أن الحديث هنا هو عن عذاب الدنيا لا عن القيامة، لأن الله تعالى يذكر هنا أن هذا العذاب سينزل تدريجيا، حيث قال سيحصل كذا ثم كذا ثم ستأتي الطامة الكبرى، أما القيامة فقد بين الله تعالى أنها ستأتي بغتة.فثبت أن الراجفة والرادفة والطامة الكبرى وغيرها من المفردات إشارات إلى العذاب الذي كان سيحل بالكفار في الدنيا وبالفعل وقعت أولاً معركة بدر، ثم ردفها حرب بعد حرب، وفي النهاية كان فتح مكة وغلبة الإسلام.أما إذا اعتبرنا هذه الآيات تتحدث عن الآخرة فنقول إنها إعادة للموضوع السابق وقد أطلق الله هنا الطامة الكبرى على اليوم الذي سيأتي بعد وقوع أنواع العذاب، أي يوم القيامة الذي هو يوم الفصل الأخير، والذي يبلغ فيه العذاب ذروته.بيد أن الآية تشير، أساسا، إلى عذاب الدنيا.يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَنُ مَا سَعَى )) التفسير: أي في ذلك اليوم يتذكر المرء أعماله ويقول نادمًا: لم فعلتُ كذا ولم لم أفعل كذا.من طبيعة الإنسان أنه إذا رأى مآل سيّئته وأدرك أن العقاب موشك، قال الله في نفسه : لو فعلت كذا لحصل كذا، ولو لم أفعل كذا لم يحصل كذا.وقد رسم تعالى هنا هذا الجانب من الفطرة الإنسانية ،وعندي ليس في الدنيا من لا يفكر هكذا حين يرى عاقبة عمله ؛ سيئة كانت أو حسنة.فمثلا حين يفشل طالب في الامتحان يقول في نفسه: لو لم أضيع وقتي في اللعب لما فشلت، وحينما ينجح غيره يقول: لو لم أضيع وقتي في اللعب لنجحت بعلامات أفضل.إذا فإن الإنسان يتذكر حتمًا أعماله السابقة عند ظهور النتيجة النهائية.يقول إذا فشل متحسرًا: ليتني لم أعمل ما سبب فشلي، ويقول إذا نجح لو ضاعفت جهودي لكان نجاحي أكبر.لقد الله تعالى هنا هذه الفطرة الإنسانية فقال يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى..أي عندما يصدر القرار النهائي بين الإسلام والكفر يوم فتح مكة سيتذكر كل إنسان أعماله، ويرى بأمّ عينيه مصيره وفقًا لسلوكه تجاه الإسلام.يمكن أن تتصور حالة الكافرين والمشركين رسم

Page 187

الجزء الثامن ۱۸۲ سورة النازعات الذين كانوا يؤذون النبي أذًى شديدًا والذين سمعوا إعلانه يوم فتح مكة أن من دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن لا شك أنهم كانوا يقولون في أنفسهم وهم قابعون في بيوتهم: لو لم تُعاد الإسلام لم نختف اليوم في بيوتنا هكذا، بل كنا نركض بخيلنا في شوارع مكة.ذهب عمر الله مرة إلى مكة حاحا أيام خلافته، فجاءت للقائه مجموعة من كبار رؤسائها الذين كانوا أشرف نسبًا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أيضا، إذ كانوا ينتمون إلى أشرف عائلات مكة وأشهرها.ولما كان الخليفة يعلم أُسرهم فظن هؤلاء أنه سيكرمهم إكراما خاصا طبقًا لتقاليدهم القبلية.وبينما هم يحاورونه حضر مجلسه مسلم حبشي كان عبدًا في الماضي وكان رؤساء قريش يجرونه في شوارع مكة.فجاء وسلّم، فأمر عمر له هؤلاء الرؤساء بإفساح المجال له، فتأخروا قليلاً، فقربه عمر إليه وأخذ يحدّثه.وبينما هم في ذلك إذ جاء مسلم آخر من أوائل المسلمين، ثم جاء ثالث ورابع حتى حضر سبعة منهم واحدًا بعد الآخر.ومن عجائب القدر أن هؤلاء كلهم كانوا عبيدا لقريش في الماضي، ولعل الله تعالى أراد أن يلقن هؤلاء الرؤساء درسا، فكلما جاء أحد هؤلاء المسلمين الأوائل طلب عمر من الرؤساء بإفساح المجال له وقربه إليه، فما زالوا يتأخرون في كل مرة حتى وصلوا إلى آخر المجلس في مكان الأحذية.وبعد قليل خرجوا من مجلسه، وقالوا فيما بينهم: أرأيتم ما لقيناه اليوم من ذل وإهانة في مجلس عمر؟ كنا نُكَرَم في بلاط الملوك، ولكنه فضل علينا اليوم هؤلاء العبيد الذين كانوا خدمًا لآبائنا، فكلما أتى أحدهم أمرنا أن نفسح له المجال، حتى وصلنا مكان الأحذية فيا للعار الذي لحق بنا اليوم فقال أكثرهم ذكاء: لا غبار على ما تقولون، ولكن علينا أن نرى من نرى من المسؤول عن ذلك ومن يقع عليه اللوم عمر آباؤنا؟ فحينما أعلن النبي لدعواه صدقه هؤلاء العبيد وانبرى آباؤنا لمعاداته، فعارضوه معارضة شديدة.فإذا كان عمره لهلهلهلهلهله لقد أكرمهم اليوم وقربهم إليه وأبعدنا عنه، فقد أصاب، لأنهم أحق بالجلوس في صدر المجلس، ونستحق نحن أن نؤخّر، لأن آباءنا ناهضوا النبي الله وظلوا محرومين من الإيمان به.فقالوا: لقد صدقت، ولكن هل من سبيل لإزالة هذا العار؟ وهل من طريق للتخلص من هذا الخزي والهوان؟ ! أم

Page 188

الجزء الثامن ۱۸۳ سورة النازعات فتشاوروا و لم يدروا ما السبيل إلى ذلك، فقالوا هلموا نسأل عمر ه.فرجعوا إليه وقد انفض الناس من عنده، فسلّموا وجلسوا وقالوا أمير المؤمنين، رأيت ما لقيناه اليوم من الخزي و لم نرجع إليك إلا لنتحدث بشأنه.فقال لهم عمر: أعتذر لما حصل، ومتأسف لما أصابكم، ولكني لم أملك خياراً آخر، بل كنتُ مضطرًا لذلك.إن هؤلاء قوم كان الرسول يكرمهم، وما ينبغي لي إلا أن أكرم الذين كان سيدي يكرمهم، وأفضلهم على غيرهم.فقالوا: لقد فهمنا أنك أصبت فيما فعلت إنما نسألك هل من سبيل لإزالة هذا العار؟ فأرشدنا إليه، لأنا لا نرضى بوصمة العار هذه.كان آباء هؤلاء الرؤساء من أقارب عمر الله وأصدقائه ومعارفه، وكان على علم ومعرفة بتلك الهيبة والمجد والعزة التي كانت تتمتع بها أسرهم العريقة، وكيف كانوا يعاملون المسلمين باحتقار وازدراء.فتذكر عمر عمر له مجدهم الغابر، واغرورقت عيناه وغلبت عليه الرقة، فلم يستطع أن يجيبهم بلسانه، وإنما أشار بيده ناحية الشام، وكان يقصد أن المسلمين خائضون معركة حامية ناحية الشام لنصرة الإسلام، فإذا كنتم تريدون إزالة العار، فاذهبوا واشتركوا في تلك الحرب، وضحوا بأنفسكم في سبيل الله ففَهم الفتية قصد عمر ، فخرجوا من عنده، ولم يرجعوا إلى بيوتهم، بل توجهوا كلهم إلى الشام ويخبرنا التاريخ أنه لم يعد منهم حيًّا أحد، بل استشهدوا جميعا في تلك المعركة.هذا ما يؤكده الله تعالى بقوله يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى..أي سيفكر الإنسان يومئذ فيما قدَّمته يداه من أعمال الواقع أن الصحابة أنفسهم لما رأوا تلك الانتصارات والترقيات فلا بد أنهم اعتبروا التضحيات والصدقات التي كانوا يستعظمونها من قبل ضئيلةً، وقالوا في أنفسهم مراراً ليتنا كنا أكثر تضحية وإخلاصا حتى نكون اليوم أكثر ثوابًا! إِذَا، فقوله تعالى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى يعني أن كل إنسان يقول يومئذ: ليتني لم أفعل ما فعلت أو ليتني ضاعفت جهودي.أما نظرًا إلى القيامة، فستعني هذه الآية أن المرء حين يرى ما عملته يداه في الدنيا من أعمال يقول بحسرة: ليتني لم أقترفها، أو يقول فرحًا: لقد أحسنت صنعا.

Page 189

الجزء الثامن شرح الكلمات : ١٨٤ وَبُرْزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ) ۳۷ سورة النازعات الجحيم: جحم النار : أوقدها.والجحيم: النارُ الشديدة التأجج؛ كل نار عظيمة في أن يلقى مهواة فهي جحيم؛ المكانُ الشديدُ الحرِّ؛ اسم من أسماء جهنم.(الأقرب) قوله تعالى : المَنْ يَرَى تقديره لمن يراه"، والمراد ستُقرَّب الجحيم إلى من يراها.ولكن هذا لا يعني أن المبصر هو الذي تُقرَّب إليه الجحيم ليعذَّب فيها، أما الكفيف فلا يدخلها.إذًا، فعلينا أن نفسر الآية بمفهوم آخر.ولها عندي مفهومان: أولهما أن الجحيم ستقرَّب إلى من يراها، أي يستحق فيها، أما المؤمنون فلن يروها البتة.ذلك لأنه كان من المحال أن يرى الصحابة جهنم التي كان الكفار يرونها كلا بل كانوا يرون جنتهم في نفس ما يراه الكافرون جحيما.وهذا يعني أن الفعل الواحد كان يُري الكافرين جحيما ويُري المؤمنين جنةً.فعندما دخل الصحابة مكة منتصرين وممتطين جيادهم ما كان لهم أن يشعروا بالجحيم التي كان الكافرون يحترقون فيها.كان الحادث واحدا ولكنه كان للكافرين نارا وللصحابة جنة.إذا، فالمراد من هذه الآية أن الجحيم ستُقرب إلى من يستوجبها، أما غيرهم فلن يراها أبدًا.والمفهوم الثاني هو أن الرؤية هنا ليست مادية إنما هي رؤية قلبية.ذلك أن الأشياء المادية يراها كل إنسان، فمثلا إذا كانت ثمة نار مشتعلة فسيراها كل إنسان حتى المحروم من البصيرة الروحانية أما الجحيم الروحانية فلا تُرى أحيانًا مع أنها تكون موجودة.وعليه فسيعني قوله تعالى المَنْ يَرَى - بالنسبة إلى هذه الدنيا – أن من له عينان سيرى هذه الجحيم، ومن ليس له عينان فلن يراها؛ لأن رؤية هذه الجحيم تتطلب بصيرة روحانية.فمثلاً حينما يبعث الله تعالى نبيًّا يزداد عدد المؤمنين به، وينقص عدد الكافرين به شيئًا فشيئًا، فيرى صاحب البصيرة أن يد التأييد الإلهي تعمل وراء فريق، والفريق الآخر محروم من نصرته وتأييده، ولكن الذي لم يُعط البصيرة

Page 190

الجزء الثامن ۱۸۵ سورة النازعات الروحانية يقول: هذا ليس بأمر ذي بال، وليس فيه أي معجزة، لأن الأمم تتقدم وتتأخر في الدنيا دائما.فبرغم أن الناس يرون أن هذا الفريق متجه إلى الجحيم، ولكن هذا الفريق نفسه لا يرى أنه متجه نحوها.إذًا، فقوله تعالى ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) يعني أن صاحب البصيرة الروحانية وحده سيرى هذه الجحيم قبل أوانها ورد في التاريخ أن النبي ﷺ لما دخل مكة فاتحا أوصى أصحابه كثيرا أن لا يتصرفوا بكبرياء ولا خيلاء، ومع ذلك قال أحد القادة المسلمين اليوم ستُستحل الكعبة، وسنذيق الكافرين نكال فظائعهم التي صبّوها على المسلمين.فبلغ النبي الله له له ذلك ، فعزل هذا القائد فوراً، وعيّن ابنه مكانه.(السيرة النبوية للزيني الجزء الثاني : غزوة الفتح الأعظم ص ٦٢.وليس ذلك إلا لأن النبي رأى أن الجحيم التي قد سُعرت للكافرين اليوم تفوق طاقتهم، فأراد أن يخفّفها عليهم قدر المستطاع، فأذن في أهل مكة: من أغلق عليه بابه فهو آمن (السيرة لابن هشام، الجزء الرابع: ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة).لقد أدرك النبي ﷺ أنهم لو خرجوا من بيوتهم فسيتأذون جدا برؤية الجيش المسلم الزاحف في شوارع مكة.ونظرا إلى هذا المعنى الأخير، يشمل قوله تعالى لِمَنْ يَرَى المؤمنين والكافرين جميعًا ، أما نظراً إلى المعنى الأول فلا يشمل إلا الكافرين الواقع أن الرؤية أنواع؛ منها الرؤية المادية الحسية، والرؤيا القلبية العرفانية.بالنسبة إلى الرؤية المادية فالمعنى أن الكافرين وحدهم سيرون هذه الجحيم كونهم يستوجبون دخولها، وبالنسبة للرؤية القلبية فالمعنى أن المؤمنين أيضا يرون هذه الجحيم بإدراكهم ما يعانيه الكافرون من عذاب.وكما بينت من قبل أن من معاني قوله تعالى ﴿وَبُرِّزَت الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى أَنها ستكشف أو تُرى لمن يستوجبها ، وهذا أيضًا يؤكد أن هذه الآية تتحدث عن الجحيم الدنيوية؛ لأن الجحيم الأخروية ستتراءى للجميع، فلا داعي أن يقال إنه سيراها من يستوجبها فقط.

Page 191

الجزء الثامن ١٨٦ سورة النازعات فَأَمَّا مَن طَغَى (٣) وَءَاثَرَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا (3) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٢) شرح الكلمات: المأوى: اسمٌ للمكان الذي يأوي إليه.(المفردات) :التفسير : أي مَن تمرَّدَ وفضّل الحياة الدنيا غير مبال بالآخرة سيرى اليوم الذي ستكون فيه الجحيم هي المأوى له.وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّسَ عَنِ أَهْوَى (٣) فَإِنَّ ٤١ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ٤٢ التفسير : يمكن تفسير قوله تعالى مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه بمفهومين: أي مَن خَافَ مقام ربه وعظمته، أو من خافَ وُقوفه أمام الله تعالى.والحق أن هذين الأمرين كليهما يجنّبان المرء الإثم؛ فإن الخوف من مقام الله وعظمته يجنّب المؤمنين من الطراز الأول ارتكاب المعاصي، أما خوف الوقوف أمام الله تعالى كمجرم فيتسبب في نجاة المؤمنين العاديين.لا شك أن المجرم الكبير لا يبالي بأحد ولكن المجرم العادي يخاف الوقوف والسؤال أمام الله تعالى.أما المؤمن الكبير فيخاف مقام الله وعظمته مدركًا أن عليه التقدم باستمرار، لأن ربه لا يرضى له بالدرجة الدنيا، بل يريد أن يظل عبده في الارتقاء في سلم الحب والقرب منه تعالى.ثم يقول الله تعالى ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى.ومن معاني الهوى: أماني النفس، والسقوط.وحيث إن الله لأعلى وأرفع واتباع الإنسان أهواء نفسه يؤدي إلى سقوطه، فمن اتبع هوى النفس خرَّ وسقط وابتعد عن الله تعالى كل البعد.الغريب أن الله تعالى قد استعمل هنا، على سبيل التلازم، كلمةً تكشف حقيقة البعد الله تعالى فإن الأهواء لا تعني أماني النفس فقط كما بينت، بل تعني أيضا الخرور عن

Page 192

الجزء الثامن ۱۸۷ سورة النازعات والسقوط، وهكذا قد بين الله تعالى أن اتباع أهواء النفس يُسقط الإنسان، وحيث إن الله تعالى أعلى وأرفع جدًّا، فيبتعد الإنسان عندها عن طرق قرب الله تعالى.٤٣ ا ٤٤ يَسْتَلُونَكَ عَن السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا (ج) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَنَهَا (1) شرح الكلمات الساعة القيامة، وقيل: الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليلِ؛ البعدُ؛ المشقةُ؛ أي وقت من الليل أو النهار.ومن معاني الساعة: الهالكون، وهي في هذه الحالة جمع سائع.(الأقرب) مُرْساها : المرسى اسم مفعول أو ظرف من أرسى السفينة: أوقفها على الأنجر.وقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَن السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا أي متى وقوعها.(الأقرب) أنت من ذكراها أي ما علاقتك بالحديث عن قيامها ووقوعها؟ التفسير: لقد أوضح الله تعالى هنا للكافرين أن تحديد موعد تحقق الأنباء ليس بضروري، إذ لا علاقة له بالقضية ما دام العذاب سيحيط بكم حتمًا، فنزوله قبل يومين أو بعد يومين لا يقدح في النبأ.لا شك أن هناك حكمًا في تأخير تحقق النبوءة، وقد بينها الله تعالى في موضع آخر في القرآن، ومع ذلك لا يزال العدو يصر على قوله: يجب تحديد موعد تحقق النبوءة ويجب أن تخبر بموعد حدوثها، فيقول الله تعالى لهم: ما لكم ولموعدها؟ عندما تتحقق النبوءة فكل واحد منكم سيرى أن ما قال الله قد تحقق تماما.ولو أخبرتم بوقت تحققها، فماذا ينفعكم هذا؟ تحقق من المدهش أن القرآن يخبر هنا أن الكافرين لم يبرحوا يطالبون بتحديد موعد هذه الأنباء، فأجابهم الله تعالى أن ذلك ليس ضروريا؛ إذ لن ينفعكم هذا لأنكم هالكون حتمًا، سواء بعد أيام أو بعد سنوات..ومع ذلك نجد المعارضين لا يزالون يقولون متى يأتي العذاب الذي تعدوننا به؟ لقد اعترض معارضو المسيح الموعود ال مرارًا بأنه يتنبأ بشكل مبهم ولا يحدد موعد تحقق الأنباء، مع أن الإجابة على هذا السؤال لن تُجديهم شيئا إنما النبأ الحقيقي الذي يدلي به أنه النبي هو • سينتصر حتما،

Page 193

الجزء الثامن ١٨٨ سورة النازعات وأن معارضيه سينهزمون حتمًا، ولا حاجة لتحديد موعد معين لتحقق هذه النبوءة، كما ليس فيها أدنى إبهام.إن المعارضين يرون بأم أعينهم أنهم سائرون إلى الهلاك، وأن أتباع النبي سائرون نحو النصر، ومع ذلك لا يزال المعارضون يقولون متى يتحقق هذا الوعد؟ فيرد الله عليهم ويقول : ما لكم ولموعده؟ إنكم هالكون حتما.لو قيل لكم إنكم ستهلكون بعد أربع سنين مثلا، فهل ينفعكم هذا شيئا؟ عندما يحيط بكم الهلاك سيتجلى لكم صدق النبوءة تلقائيا.فقال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ..أي يسألك الناس يا محمد عن نبوءاتك المتعلقة بغلبة الإسلام وهلاك الكفر، ويقولون: أَيَّانَ مُرْسَاهَا...أي أخبرنا متى ترسو سفينتك الضخمة التي تأتي لتدمير الكفر؟ علما أن قولهم أَيَّانَ مُرْسَاهَا تفخيم في ظاهره، ولكنه تحقير في حقيقته؛ إذ يقصدون به: متى تفجر هذه الفقاعة؟ فيرد الله تعالى عليهم: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذكْرَاهَا..أي ما لَكَ ولموعد هذه الساعة؟ إنها ما دامت ستوصلكم إلى الله تعالى فلا ق لو تقدمت يومًا أو تأخرت، فالإصرار على تحديد موعدها خطأ واضح.إن الساعة ستأتي حتمًا لتأخذ الناس إلى الله تعالى؛ بعضهم مجرمين وبعضهم مؤمنين.فأين الإبهام في هذا الأمر العظيم؟ وما الحاجة إلى تحديد موعده؟ إننا نخبركم أنه سيأتي يومٌ يقف فيه الناس جميعًا أمام الله تعالى بعضهم محرمين وبعضهم مؤمنين..بعضهم لينالوا الثواب، وبعضهم ليذوقوا العذاب فهل تبقى بعد ذلك حاجة لتحديد موعد هذا النبأ العظيم؟ عندما يقع هذا الخبر العظيم ستعرفون صدقه تلقائيا.إلَى رَبِّكَ مُنتَهَهَا ) ٤٥ الله التفسير : هذه الآية تكشف عبثية المطالبة بتحديد موعد وقوع الأنباء، حيث بين تعالى أنه لا فائدة في معرفة موعدها إن الهدف الأساس هو أن يظهر جلال الله، وسيظهر يوما ما، وستأخذكم تلك الساعة إلى الله تعالى.هذا هو الأمر المهم، وقد بيناه.ما دمنا قد أنبأناكم - مثلاً - أن محمدا سيدخل مكة فاتحا في يوم من الأيام، وسينتصر المسلمون ويهلك ،الكافرون، وينال هؤلاء العبيد المعرضين للاضطهاد عزةً المطلب الطلاب

Page 194

الجزء الثامن ۱۸۹ سورة النازعات و كرامة، فما قيمة مطالبتكم تحديد موعد لوقوع هذا النبأ؛ وقولكم أيحدث هذا غدًا أم بعد غد، هذه السنة أم بعدها؟ جميع أما إذا اعتبرنا هذه الآية تتحدث عن الآخرة فالمعنى أن خيوط القدر بيد الله تعالى، وأن الأسباب في قبضته ،وتصرفه، وسيُظهرها متى شاء، أي أن كل ما يحدث إنما يحدث بمشيئة الله وإرادته لا دخل للعباد فيه، فما دام كل شيء بيد الله تعالى فسوف يأتي بالآخرة متى شاء.وقد أوضح القرآن الكريم هذا الأمر في قوله تعالى إنَّ اللَّهَ عنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة (لقمان: ٣٥)..أي لا أحد سوى الله تعالى يعلم بموعد القيامة.وهذا ما أكده الله تعالى هنا بقوله إلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا..أي نحن الذين ستحدث كل هذه التطورات، ولا دخل لكم فيها.إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن تَخْشَهَا (٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا ٤٦ إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ صُحبَهَا ٤٧ شرح الكلمات : مُنذر : أنذره بالأمر: أعلمه وحدّره من عواقبه قبل حلوله؛ خوفه في إبلاغه.(الأقرب) شيّة : العشيّة هو العشي وهو آخرُ النهار ؛ وقيل : من صلاة المغرب إلى العتمة.(الأقرب) التفسير: أي إنما أنت مُحدِّرٌ لمن يخاف العذاب القادم، غير أننا نخبرهم أننا نخبرهم أنه حين يجيء سيصبحون كأنهم لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها..أي يوم يأتي ذلك العذاب ستبدو لهم حياتهم الماضية كلها كبضع ساعات.وهذا إشارة إلى شدة العذاب، لأن المرء إذا أصابه أذى شديد بدت له ساعات راحته قصيرةً جدًّا، وظن أنه باق في هذا الأذى دائمًا، و لم تتيسر له الراحة أبدًا.فإذا جاء ذلك العذاب سينسى الكافرون كلّ ما لهم عظمة وشوكة ويظنون أن زمن رقيهم لم يكن سوى سويعات.وبالفعل ترى أن الناس حين يتحدثون عن تاريخ العرب يذكرون أحداث الجاهلية في بضع صفحات أما تاريخهم ما بعد الإسلام فيستفيضون فيه ويملأون آلاف من

Page 195

الجزء الثامن ۱۹۰ سورة النازعات الصفحات في بيان وقائع النبي الله والمسلمين.فمع أن زمن الجاهلية أطول كثيرًا إلا أن أحداثها انكمشت عند ظهور الإسلام واختفت وقائعها عن الأعين، ولا يتعدى نظر الناظر إلى تاريخ العرب العهد الإسلامي إلى ما قبله إذًا فالله تعالى ينبه الكافرين هنا بأنه كما أن العشيّة أو الضحى زمن قصير جدا مقارنة بحياة الإنسان، كذلك سینمحي تاريخكم مقابل تاريخ الإسلام، وستصبح عظمتكم ومحدكم قصصا تُروى، وينسى الناس أسماء أجدادكم وأعمالهم.وهذا يماثل إلهامًا للمسيح الموعود الله قال الله له فيه : " ينقطع آباؤك ويُبدأ منك" حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية المجلد ٢٢ ص (۷۹)..أي سينقطع ذكر آبائك، ويُبدأ تاريخ أسرتك منك.وبالفعل ترى أن المرء حين يكتب تاريخ عائلته الا يُنهي ذكر آبائه جميعًا في بضع صفحات، ويبدأ التاريخ الأصلي بذكر المسيح الموعود ال كان آباؤه ذوي عزة ونفوذ في زمنهم، ولكن الله تعالى قرر أن يبدأ تاريخ المستقبل من ذكر المسيح الموعود الله ويقطع ذكر آبائه.وهذا ما يؤكده الله تعالى بقوله كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا..أي سنجعل تاريخهم ضئيلاً حقيرا، ونعظم محمدا حتى حتى يبدو تاريخ العرب كلهم مقابله كعشية أو ضحاها.وضمير المؤنث في الضحاها يعود إلى عشيّة.وهنا ينشأ سؤال: إن الضحى يأتي قبل العشيّة، فلماذا قدّم الله هنا العشيّة على الضحى؟ سيقول الذين تنقصهم المعرفة الحقيقية بحكمة القرآن الكاملة وفصاحته التي تفوق تصور البشر أن الله تعالى قد قال عَشيَّةً أَوْ ضُحَاهَا من أجل السجع؛ إذ انتهت الآيات السابقة بكلمات : مرساها، ذكراها، منتهاها و يخشاها، ولكن هذا الجواب لا ينسجم مع فصاحة القرآن وإعجازه، لأنه لا يلتزم بالسجع والشكل على حساب المضمون الواقع أن القرآن الكريم استخدم تعبير يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ للإشارة إلى قصر الوقت كقول الكافرين في موضع آخر إنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا يوما أو بعض يوم (المؤمنون:١١٣-١١٤).وقوله تعالى عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا يماثل هذا التعبير معنى؛ ذلك لأن اليوم له معان عديدة؛ منها اليوم المعروف الذي فيه ٢٤ ساعة، وأيضًا الفترة ما بين الصباح والمساء، وفي هذه الآيات سُميت الفترة ما بين

Page 196

الجزء الثامن ۱۹۱ سورة النازعات الصباح والمساء يوما والوقت ما بين الصباح إلى المساء أطول مما هو ما بين الصباح والضحى.وحيث إن الله تعالى يريد هنا أن يبين أن كل ما يحققه الكافرون من تقدّم ورقي عبث، لأن مصيرهم العقاب والعذاب، لذلك قد بيّن الله تعالى بقوله عَشَيَّةً أَوْ ضُحَاهَا أن مصير منكري الإسلام سيكون على قسمين: فبعضهم يكون كمن قضى زمن رقيه وبلغ عشية عمره وهلك بتصديه للإسلام، وبعضهم يكون كمن لم ير زمن رقيه، بل هو لا يزال يزال في بداية رقيه، وهؤلاء أيضا سيُدمرون في صدامهم مع الإسلام، وكأنهم لن يروا عشية عمرهم، بل يهلكون عند ضحى حياتهم القومية ليكونوا عبرة لمن اعتبر.وهذا هو المعنى نفسه الذي بينه أحد الشعراء باللغة الأردية: پهول تو دو دن بہار جاں فزا دکھلا گئے و حسرت ان غنچوں پہ ھے جو بن کھلے مرجھا گئے أي قد تمتعت الأزهار ببهجتها وبهائها بضعة أيام، ولكن الحسرة على البراعم التي ذبلت قبل أن تتفتح.إذًا، فعندما يُذكر هلاك قوم فمن مقتضى البلاغة أن يُذكر الزمن الطويل قبل الزمن القصير، لذا يقول الله تعالى هنا إن بعضهم عاشوا حتى العشية، وبعضهم بلغوا الضحى.فلذلك تجد أن القرآن الكريم عندما ذكر هذا المعنى في مكان آخر قال يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.فثبت أن الله تعالى لم يقُل هنا عشية أو ضحاها مراعاةً للسجع، بل ليشير إلى قصر الفترة لأن الفترة ما بين طلوع الشمس إلى الضحى أقصر من الفترة ما بين الضحى والمساء، وهذا يقتضي تقديم ذكر الأطول على الأقصر، لأن قصر الفترة يدل على شدة العذاب وطولها يدل على خفته والترتيب يقتضي هنا تقديم ذكر العذاب الأخفّ، وتأخير العذاب الأقسى.باختصار، قد أشار الله تعالى هنا إلى ما سيحققه الإسلام من عظمة وازدهار، مبينًا أن زمن الكفر سيتقلص ، وزمن الإسلام سيمتد حتى يبدو للكافرين زمنهم مقابل زمن رقي الإسلام كما تكون العشية أو ضحاها مقابل عمر الإنسان.

Page 197

الجزء الثامن ۱۹۳ سورة عبس سورة عبس مكية، وهي ثلاث وأربعون آية مع البسملة سورة عبس مكية (روح المعاني).وهي من أوائل السور نزولاً باتفاق المستشرقين أيضا، حيث اعتبرها المستشرق الألماني "نولدكه" مما نزل في البداية المبكرة للبعثة النبوية واعتبرها وليام" "موير من أوائل السور التي أظهرها محمد للكافرين (تفسير "ويري").مما يعني أن هؤلاء المستشرقين يرون أن السور الأوائل لم يتم الإعلان عنها فور نزولها، وإنما بعد فترة فموير" يرى أنها نزلت بعد بضعة السور الأوائل يوم يربط هذه السورة بما قبلها :رابطان رابط مباشر ،قریب ورابط آخر يتعلق بمضمونها العام.والرابط القريب هو أن الله تعالى قد قال في أواخر السورة السابقة: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (النازعات : ٤٦)..أي لن ينفع إنذارك إلا من يخاف الحساب، أو يخاف عاقبة أعماله.علمًا أن ضمير المؤنث في قوله تعالى (يَخْشَاهَا راجع إلى الساعة، ونحن نفسر الساعة بالمعنيين؛ الحياة بعد الموت وغلبة الإسلام أو غلبة القرآن، فقوله تعالى إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا إشارة إلى الأمرين كليهما..أي لن ينفع إنذارك إلا من يخاف الحياة بعد الموت، أو يخاف عاقبة أعماله ويرى أنها ستؤدي إلى هزيمته وانتصار الإسلام؛ ولذلك قال الله تعالى الآن في سورة عبس: عليك أن تكون أكثر اهتمامًا بالذين يريدون الاستماع إلى الحق ويستحقون قبوله.والمرء يستحق قبول الحق لعدة أسباب أوّها: الأعمال..أي أن تعالى بحسب إيمانه، أو يكون جادا في سعيه، فيُصغي إلى أمور الدين وأحكامه بعناية واهتمام، وثانيها: الاستحقاق القومي..وأعني بذلك أنه كلما بعث الله نبيًّا صدقه الفقراء عادة..أي عند بعثة نبي هناك احتمال يبلغ تسعين بالمئة أن فقراء القوم يتعلمون الدين بسرعة، أما إذا توجهت جماعة النبي بدعوته إلى الأثرياء ضاق نطاق یخشی الله

Page 198

الجزء الثامن ١٩٤ سورة عبس في هذه رقي دينه وانتشاره.لا شك أن الأغنياء أيضا يؤمنون ، ولكن نسبتهم ضئيلة جدا، وقد بيّن القرآن الكريم هذا الأمر في أماكن عديدة.أما علاقة هذه السورة بما قبلها من حيث مضمونها العام فيكمن في أن الله تعالى أخبر في السورة السابقة أنه قد قرّر ازدهار الإسلام، مشيرًا إلى الأسباب التي سيتخذها لهذا الغرض، فقال وَالنَّازعات غَرْقًا...فَالْمُدَبِّرَات أَمْرًا، أما السورة فبيّن الله تعالى أنه وحده يعلم موعد الساعة وأنه وحده يعلم أولئك القوم الذين ستتم على أيديهم ساعة غلبة الإسلام، والذين سيكونون "النازعات والناشطات والسابحات فالسابقات فالمدبرات".وكأنه تعالى أوضح للنبي أنه لن يعطيه قومًا يُعَدُّون في الظاهر صناديد القوم ودواهيهم ونشطاءهم وأذكياءهم.ذلك لأنه كان هناك احتمال أن يظن المؤمنون أنه تعالى يعني بقوله والنازعات فلانًا وفلانًا من علية القوم ودواهيهم، فدحض الله تعالى هذه الفكرة وقال كلا، بل إننا كما احتفظنا بعلم الساعة، كذلك احتفظنا بعلم تلك النفوس السعيدة التي ستصبح نازعات ناشطات سابحات سابقات مدبرات، فلن تعرفوها بقياسكم.ستظنون أن فلانا وفلانًا من القوم ذوو كفاءات عالية، ولكنهم ليسوا كذلك في الحقيقة، إنما الله وحده يعلم بهم، كما يعلم وحده موعد الساعة، وسيأتي بهم في حينها أولاً بأول والبحث عنهم لن يجديكم شيئًا.من سنة الله المستمرة أنه لا ينصر دينه بالكبار المشاهير، إنما ينصره بأُناس يُعَزُّون بالدين في الحقيقة.إن الذين يقال عنهم إن الدين سيعز بهم لو دخلوا فيه فلا يصلحون للدين الحق أبدًا، إنما يصلُحُ للدين الحق قوم يقال عنهم إنهم عزّوا بالدين.عندما يُبعَث نبي، فليس أتباعه هم الذين يدلّون الناس على الله تعالى قائلين: أيها ،الناس آمنوا بالله بل إن الله تعالى نفسه يشير إليهم ويقول: أيها الناس هؤلاء هم القوم الذين اخترتهم لخدمة ديني.إذًا، فهذه السورة تشرح هؤلاء النازعات وتبين كيف يتم انتخابها، أن الله تعالى بنفسه يُظهر هذه النفوس في الوقت الملائم.وتبين دراسة تاريخ الإسلام أن وهي الله تعالى قد اختار لدينه نفس أولئك القوم الذين كان الأعداء معترفين بصدقهم

Page 199

الجزء الثامن اختاروهم ۱۹۵ سورة عبس وصلاحهم، ولكن، لو أعطي أهل الدنيا حقَّ الاختيار بحسب ظروف ذلك الزمن لما لهذه المهمة، ذلك لأنهم كانوا يعتبرون الكفاءات الكامنة في هؤلاء ضربًا من الخيال الغامض.فرغم أن أهل مكة كانوا معترفين بكفاءة أبي بكر ، إلا أنهم لم يختاروا للسيادة إلا أبا جهل وعتبة وشيبة، وليس ذلك إلا لأنهم اعتبروا صلاح بكر صلاحا مبهما غامضا، بينما اعتبروا عتبة وشيبة وأبا جهل ذوي كفاءات عالية، ولنفس السبب لم يختر هؤلاء عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن مسعود ولا الزبير ولا طلحة وغيرهم ليكونوا سادة لهم.وكذلك قد اختار الله تعالى للإيمان أبا بن سلام من اليهود، ولكن هل يمكن لأحد الأشعري من اليمن وعبد القول إن قومهما كانوا سيختارونهما للإيمان لو أعطوا الاختيار.لا شك أنهم كانوا سيختارون الآخرين، إلا أنه مما لا يمكن إنكاره أن قلوب القوم كانت معترفة موسی بصلاحهما اعترافا مبهما.If It من الله وس باختصار، لم يكن يتوقع هذه الثلة أن تُحدث أي انقلاب في القوم، ومع ذلك لم يقع الانقلاب إلا بأيديهم.أما الذين كان القوم يعقدون عليهم الآمال لإحداث الانقلاب فقد حُرموا منه.فهذا أمر مهم جدا فيما يتعلق برقي الأمة، وقد عولج في سورة عبس بوجه خاص، حيث بينت أنه عند فساد أمة تختفي كفاءات أبنائها الحقيقية وتبرز فيهم كفاءات زائفة، ويفسد مزاج القوم جدا فلا يحبّون الخير الحقيقي، بل يحبّون الرياء والتصنّع والسير مع التيارات السائدة، ولا يختارون لهم زعيمًا حقيقيًا، بل يفضّلون زعيمًا يتبع تقاليدهم وعاداتهم، فيستحيل عليهم اختيار قائد حقيقي يقوم بإصلاحهم زمن الظلام.ذلك لأن فطرتهم تصبح مشوهة ممسوخة خاضعة لتقاليدهم الفارغة لا ترضى بهذا التغير الطيب المخالف لتقاليدهم وعاداتهم، ولذلك قد جعل الله تعالى هذا الانتخاب في يده، لأنه ينظر إلى ما في القلوب لا إلى ما هو على الألسن.رُبَّ قائل يقول هنا : إذا كان هؤلاء ذوي كفاءات في الواقع فلماذا لم يبرزوا بين القوم؟ والجواب أن الله تعالى يعلم أن ذلك راجع إلى عدم ملاءمة الظروف، لأن أحوال القوم تكون فاسدة، ومن المحال أن تنبت شجرة طيبة في أرض فاسدة، ومن

Page 200

الجزء الثامن ١٩٦ سورة عبس المحال أن يزدهر هؤلاء إلا أن يُنزَعوا من تلك الأرض الفاسدة.وقد أشير إلى ذلك في سورة النازعات، حيث بين الله تعالى أن هؤلاء مزودون بالكفاءات فعلاً، ولكنهم في أرض فاسدة فلا يستطيعون أن ينبتوا فيها ويزدهروا، ولذلك نمهد لهم عن الآن أرضا جديدة، وسترون كيف تنكشف كفاءاتهم للناس.لما صار أبو بكر خليفة للنبي ﷺ مذهب شخص إلى مكة، وحضر مجلسًا فيه والده أبو قحافة.فسأله أحوال المدينة، فأخبره بوفاة النبي الله فقال ماذا فعل المسلمون بعده؟ قال قد بايعوا رجلا منهم.فسأل: يكون هذا الذي بايعوه؟ قال: أبو بكر.فقال أبو قحافة في حيرة من هو أبو بكر هذا؟ فأجاب ابن أبي قحافة.فقال: من أبو قحافة؟ قال: أنت فبدأ أبو قحافة يذكر له أسماء القبائل المختلفة ويسأله: أبايع من هؤلاء أبا بكر؟ قال: نعم، حتى قال: هل بايعه بنو هاشم؟ قال: نعم.وكان أبو قحافة قد أسلم في الظاهر ولما يدخل الإيمان في قلبه، فأطرق رأسه برهة وهو صامت ثم رفعه وقال أشهد أن محمدا رسول الله.فكان هذا اليوم يوم صفاء إيمانه، حيث أصبح على بصيرة من صدق الإسلام.فترى أنه ما كان ليخطر ببال أبي قحافة أبدًا أن ترضى جميع القبائل العربية بأبي بكر خليفةً وملكا عليهم.وكان الرجل مصيبا في تفكيره، لأن أبا بكر الذي قد رباه و رآه لم يكن ليصلح لذلك المنصب العظيم بادي الرأي، ولأن التربة التي كان أبو بكر ينبت فيها من قبل كانت غير منسجمة مع فطرته كلية، ولكن الله تعالى حين نزعه من تلك التربة وزَرَعَه في تربة أخرى ملائمة لفطرته، أخذ نباتُ روحه في النماء والازدهار حتى أصبح دوحة كبيرة.فإنك لو حاولت زرع شجرة المانجو مثلا في منطقة كشمير فلن تنبت هناك، وإذا حاولت زرع شجرة التفاح في منطقة البنجاب فلن تؤتي ثمرًا جيدًا، كذلك فإن الأرواح الطيبة بحاجة إلى أرض طيبة تلائمها، والأرض الطيبة بحاجة إلى أشجار طيبة تلائمها.ففي أرض الكفر ما كان لينبت إلا أمثال عتبة وشيبة وأبي جهل، لا أبو بكر، وأما في أرض الإيمان فما كان لينبت إلا أبو بكر ، لا عتبة ولا شيبة ولا أبو جهل، إذ كانوا أحقر شأنا من بل من الكلأ والحطام في هذه الأرض الطيبة.هذا هو المعنى الذي تشير إليه سورة العشب

Page 201

الجزء الثامن ۱۹۷ سورة عبس عبس، حيث بين الله تعالى فيها أنكم لا تستطيعون رؤية تلك النفوس الطيبة التي ستقوم بإشاعة الدين ونشره والتي يصبح الإسلام غالبًا على يدها، فتسألون من أين تأتي تلك النفوس الطيبة التي ستصبح نازعات وناشطات وسابحات وسابقات ومدبرات، ومن الذي سيختارها؟ فها نحن نخبركم أننا نحن نختارها.وإنكم لا تقدرون على رؤية تلك النفوس الطيبة الآن لأن أرضكم لا تلائمها.إن أشجار الصلاح هذه مزروعة في أرضكم، وستجفّ لو بقيت فيها لعدم ملاءمتها لها، ولكنا سننزعها من هناك ونزرعها في الأرض التي تلائمها، فسترون كيف تصبح دوحات كبيرة رائعة.شرح الكلمات: م الله الرحمن الري عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى ) عبس: عبس فلان وجهَه : قطبه.(الأقرب) تولّى تولى عنه: أعرض عنه وتركه.(الأقرب) النبي وأمية بن بن التفسير : يقال بشأن نزول هذه السورة ، أن عبد الله بن أم مكتوم حضر مجلس ذات مرة ، وكان قد آمن، أو كان مؤمنًا به الله في قلبه إذا لم يكن قد بايعه الظاهر، وكان عنده صناديد مكة: عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس خلف والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام بحماس رجاءَ أن يُسلم بإسلامهم غيرهم.فقال عبد الله أم مكتوم يا رسول الله "أَقْرِثْني وعلّمْني مما علمك الله." فلم يجبه النبي الله حتى قالها ثلاثا وورد أن ابن أم مكتوم "لم يعلم تشاغله بالقوم.فكره رسولُ الله له مقاطعته لكلامه فعبس وأعرض عنه، فنزل هذا الزجر من الله تعالى" الكشاف).وعلى إثر هذا الوحي دعا النبي ابن أم مكتوم وأكرمه وكلّمه.كان النبي يبسط له رداءه كلما جاء بعده، ويدعوه للجلوس عليه فتح البيان..

Page 202

الجزء الثامن هذه ۱۹۸ سورة عبس هي الواقعة التي يذكرونها بشأن نزول هذه الآية ويقولون لقد احتقر النبي هذا الأعمى، ولم يأبه به لكونه شخصا بسيطًا فقيرا، وظل يتكلم مع هؤلاء ظنا منه أن توجهه إليهم أكثر نفعًا من التوجه إلى هذا الأعمى والفقير.لفهم معالم هذه الرواية ينبغي أن نعرف أولاً من هو عبد الله بن أم مكتوم هذا.إنه ابن خال السيدة خديجة له.هناك اختلاف في بعض الأسماء في نسبه، ولكن الصناديد، بن الجميع متفقون على أنه كان من بني عامر بن لؤي، فقال بعضهم إنه عبد شریح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري، بينما قال غيره إنه عبد الله بن عمرو بن قيس بن زائدة الأعصم.كان يدعى ابن أم مكتوم.وقال الزمخشري أُم مكتوم هي جدته، ولكن ابن عبد البر وغيره من المؤرخين لا يتفقون مع هذا القول، ويقولون إن "أُمّ مكتوم" هي كنية والدته التي كان اسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم، وقد تكنّت بأمّ مكتوم لأن عبد الله ولَدَ كفيفًا.بينما يرى المؤرخون الآخرون أنه لم يولد ضريرا، إنما فقد بصره فيما بعد.وكان النبي قد جعله في غيابه عن المدينة أميرًا عليها مرتين.الإصابة في تمييز الصحابة حرف العين والاستيعاب عمرو بن قيس، والكشاف، وروح المعاني إن هدفي من بيان نسب عبد الله أم مكتوم مفصلاً هو تفنيد الزعم أنه كان بن رجلا بسيطا فأهمله النبي إذ لم ير في التوجه إليه فائدة.فإن هذه الحقائق حول نسبه تبطل هذا الزعم بداهة، لأن أباه وأمه كليهما من عائلتين كبيرتين، وكان ابن خال السيدة كان النبي الله يتجلّها ويبالغ في إكرامها حتى بعد وفاتها بسنوات عديدة حتى إن عائشة -رضي الله عنها كانت تغبطها.فقد روي عن عائشة أنها قالت: كان النبي يكثر الحديث عن خديجة رضي الله عنها، فكنت لا أتمالك نفسي غيرةً وأقول: يا رسول الله لا تزال تذكر تلك العجوز، وقد أبدلك الله بها خيرا منها! فأجاب النبي : يا عائشة، إنك لا تعرفين محاسنها وما أسدته لي من خدمات لفترة طويلة! فالرجل كان ابن خال خديجة -رضي الله عنها- وكان عالي النسب من جهة أُمّه وأبيه، ومثله لا يُراعى فقط لأنه كفيف، كما لا يُعرض بسبب عماه، لأن الدعوة تتم باللسان لا بالعين فثبت من هذه الحقائق بطلان • عنه

Page 203

الجزء الثامن ۱۹۹ سورة عبس الزعم أن النبي أهمله باعتباره وضيعا وقال: لم ألتفت إلى هذا الفقير الحقير البديهي من معرضًا عن علية القوم؟ ثم إن النبي قد أمره على المدينة مرتين (الاستيعاب: عمرو بن قيس).ومن أنه لم يختره انحيازا له، بل وجده جديرًا بذلك، إذ رأى أن العرب لن يمتعضوا من إمارته لأنه عريق النسب ؛ ذلك لأن تعيين شخص عديم التأثير على الناس من حيث نسبه كان مستحيلا بسبب تقاليد العرب، ولذلك نرى أن النبي لم يؤمر أحدًا على الناس إلا من كان ذا نسب عريق شهير لن يتردد الناس في طاعته عادة، كما أمر عليا الله مرة في غيابه عن المدينة السيرة) لابن هشام، الجزء الرابع غزوة تبوك الواقع أن العرب كانت عندهم عصبية شديدة، وكانوا لا يرضون بإمارة شخص يفتقد الهيبة والنفوذ، ولم يتمكن الإسلام من إزالة هذه العصبية الشديدة من قلوبهم إلا بعد فترة طويلة، أما في البداية فكان المحال أن يرضوا بإمارة شخص ليس له نفوذ بسبب نسبه.فالزعم أن النبي ﷺ قد جاءه شخص حقير فلم يلتفت إليه لفقره وحقارته زعم باطل بداهة.وهذا الأمر يبلغ من الوضوح والجلاء بحيث يستغرب المرء كيف لم يدركه هؤلاء المفسرون، بينما فهمه أعداء الإسلام؛ فإن نولدكه المستشرق الألماني الشهير يقول بعد تسجيل هذه الرواية إنها باطلة كل البطلان، لأن نَسَب عبد الله بن أم مكتوم يدل على أنه لم يكن شخصًا عاديًّا، فلا يمكن أن يكون هذا الحادث متعلقا به (تفسير "ويري").وهذا يعني أن نولدكه قد أدرك أن هذا الحادث لا ينسجم هنا، وإلا لفرح الرجل كثيرًا حيث وجد فيه فرصة الطعن في النبي الله ، ولكنه أدرك أن الرواية خلاف للواقع ولا يمكن تطبيقها على هذه الآيات.وإضافة إلى هذه الشهادة هناك خمسة أمور أخرى - عندي - تؤكد أن هذا الحادث لا ينطبق هنا بهذا الشكل: بعض الأول: كان ابن أم مكتوم أعمى ولم يكن أصم.فإما أن يقول هؤلاء إنه كان أصم ، فلم يدر أن النبي الله يحدث أناسًا ،آخرين فوجّه السؤال إلى النبي ﷺ دونما انتظار، وفي هذه الحالة لا ذنب له لأن المرء لا يُدان إذا أخطأ لجهله بالشيء.ولكن

Page 204

الجزء الثامن سورة عبس الضعف التاريخ يؤكد أن عبد الله بن أم مكتوم لم يكن أصمّ، وقد فطن بعض المفسرين إلى هذا الأمر، فقالوا في أنفسهم إن تسجيلهم هذا الحادث على هذا النحو سيجعل كل إنسان يقول إن ابن أم مكتوم هو المدان، إذ جاء وتدخل وحاول مقاطعة حديث النبي الله مع القوم ، وهذا خطأ ومخالف للأدب واللباقة؛ ولذلك استوجب الزجر، فحاول هؤلاء المفسرون الإجابة عليه، ولكن جوابهم يبلغ من والتهافت بحيث يستغرب المرء بقراءته، حيث قالوا: لعلّل الرسول ﷺ كان يناجي هؤلاء الكافرين، فلم يسمع ابن أم مكتوم صوته له ابن كثير، وفتح البيان).إنه لقول مثير للضحك وموغل في الحمق لا يستسيغه العقل ولن يقبله أشد الناس غباء.كيف يمكن أن يدعو النبي ﷺ في مجلسه سبعة أشخاص إلى الإسلام مناجاةً وهمسًا أذن كل منهم بحيث لا يسمعه شخص آخر ولا يحدّثهم حديثا عاديا؟ الحق أن الفطرة تكشف الحقيقة ولو حاول أحد تغطيتها تحت ألف حجاب.إذًا، لقد قاطع عبد الله بن أم مكتوم حديث النبي أم مكتوم حديث النبي الله مع القوم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فالذنب ذنب ابن أم مكتوم، إذ لم يكن من حقه أن يتدخل ويقاطع النبي.أما الذي يزعم أن ابن أم مكتوم لم يسمع صوت النبي ﷺ وهو يحاور القوم فعليه أن يثبت أنه له كان أصم.ولكن التاريخ يشهد أنه كان أعمى وليس أصمّ، وحيث إنه كان يسمع صوت رسول الله ﷺ، ويعلم أنه مشغول بدعوة القوم، فكان عليه أن لا يقاطع حديث رسول الله ، فمقاطعته دليل على أن الذنب ذنبه.فمن غير المعقول أن يكون النبي يحدّث القوم في مجلسه ولا يسمعه ابن أم مكتوم، كما يزعم المفسرون الذين أتوا بتأويل غير مستساغ البتة تبريرا لموقفه.فالذنب ذنب ابن أم مكتوم على كل حال، فكيف يقال أن الله تعالى قد زجر رسوله بهذه المناسبة، وكيف يقول المفسرون أن الرسول ل لا ل ولربما كان يدعو هؤلاء الزعماء إلى الإسلام هامسًا في آذانهم؟ كان الوقت وقت تبليغ، لا وقت شجار مع الله زوجة مثلاً، حتى يهمس في أذنيها كي لا يسمعه غيرها.كان الحديث عن ورسوله كان العمل نشر الإسلام ونشر التوحيد فكيف يقال أن النبي كان يحدث عتبة وشيبة وغيرهما من الزعماء ملصقا فمه بآذانهم وقائلا لهم: انظروا، إن

Page 205

الجزء الثامن سورة عبس الله واحد أحد، وهو الذي خلق الكون كله، ولا نفع في الأصنام، فاتركوها وآمنوا بوحدانية الله.هذا أمرٌ يرفضه كل عاقل في الدنيا، بل يضحك عليه ويعتبره جهلا وحماقة.الثاني : إذا كان النبي لم يلتفت إلى عبد الله بن أم مكتوم ولم يجب على سؤاله، فقد قام بما هو عين الصواب فما الاعتراض على ذلك؟ كان النبي يحاور كبار الزعماء مبينًا لهم حقيقة الإسلام وداعيا إياهم إلى الله ورسوله، فجاءه شخص وأراد مقاطعة حديثه، وتكلم بما يتنافى مع الأدب واللباقة ومع ما يقتضيه الحال، فإذا كان النبي لم يجبه بشيء فقد أصاب.ليس في القرآن الكريم آية تمنع مما فعله النبي له بل لو تصرّف أحد اليوم في مجلسنا كما تصرف ابن أم مكتوم فسوف نعامله بنفس ما عامل به النبي الله ابن أم مكتوم رغم نزول قوله تعالى في القرآن: عَبَسَ وَتَوَلَّى.فمثلاً هأنذا أُلقى الآن درسًا في القرآن الكريم، فيأتي شخص ويقول لي: اترك الدرس وأجب على سؤالي، فهل يليق بي أن أتوجه إليه تاركا الدرس، أم ينبغي الإعراض عنه إذ حاول مقاطعة حديثي غاضا الطرف عما يقتضيه الحال؟! الجميع يعلم أن إعراضي عنه هو الأولى والأنسب؛ لأن مثل هذا التصرف المخالف للأدب يقطع تسلسل الحديث ويزيل تأثيره في الطبائع، ويُنسي المتكلم دليله، ويترك تأثيرا ضاراً على الحضور، فلا بد من الإعراض عن مثل هذا الإنسان.هل من المقبول مثلاً أن يكون الرسول يبين الأدلة على وجود البارئ أمام هؤلاء الزعماء، الله فيتدخل ابن أم مكتوم ويطالبه أن يعلّمه سورة النازعات وتفسيرها، ثم بعد الانتهاء الحديث معه يتوجه الله إلى القوم ثانية ويقول تعالوا نكمل كلامنا؟ إن هذا التصرف مستبعد حتى من أشد الناس جهلا وأكثرهم غباء، ومع ذلك يقول هؤلاء: كان من واجب النبي أن يتوجه إلى ابن أم مكتوم ويترك دعوة هؤلاء الزعماء، ضاربًا بمبادئ التهذيب والتمدن عرض الحائط.وكأنهم يريدون أن يرسموا مجلس من النبي 鹦 رسما لن تعدّه الدنيا معقولا أبدًا.

Page 206

الجزء الثامن ۲۰۲ سورة عبس الثالث: إن عبوس النبي وإعراضه عن هذا الأعمى دليل على دماثة أخلاقه، ويجب أن يُثنى عليه بسببه، لا أن يُزجر.ذلك أن شخصا أعمى يأتي النبي الله ويكلمه كلاما غير معقول فلا يقوم الله بزجره ولا تعنيفه جبرًا لخاطره..وحينما ﷺ يقاطعه مرارا فيكتفي بالعبوس دون أن يقول له بلسانه شيئًا.كان النبي ﷺ في حيرة من أمره لأن الرجل يقاطعه مرة بعد أخرى، في حين لم يكن بوسعه ترك الحديث مع ضيوفه من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يُرد أن يزجر الأعمى كي لا یکسر خاطره، فماذا يفعل في هذه الحالة يا ترى؟ إن أفضل ما يمكنه أن يفعل عندها هو الإعراض عن هذا الضرير تحقيقا لهدفين؛ أولهما أن لا ينقطع عن حديثه الضيوف وثانيهما أن لا يكسر قلب الضرير وهذا ما حصل، فعبس النبي مع وأعرض عن الضرير.وكانت الحكمة في إعراضه أن لا يغضب، لأنه لو ظل متوجها إليه فربما يتفوه بكلمة قاسية في غضب، فاكتفى النبي بالعبوس والإعراض عن الأعمى، دون أن يكلّمه بشيء حتى لا يصيب قلبه بصدمة.وهذا عمل يستحق من رب العرش ثناء عليه بدلاً من الزجر.فإذا كان المفسرون يقولون أن النبي لم يحسن التصرف، فليخبروا ما هو الطريق الأنسب الذي كان • عليه أن يتبعه وفقًا للمثل والأخلاق؟ ولكنهم لن يستطيعوا أن يقترحوا أسلوبا صل الله آخر، مما يدل أن هذا هو الطريق الوحيد الأفضل الذي كان يمكن أن يتبعه النبي في تلك المناسبة.كل ما في الأمر أن النبي عبس استياء من تصرف ابن أم مكتوم دون أن يقول له شيئا، وعندما رأى لا لا لا لا أنه لا يمتنع عن فعله أعرض عنه حتى لا يغضب عليه ويتفوه بكلمة قاسية لو ظل الأعمى أمام عينيه.وكلا الأمرين يدلان على سمو أخلاقه.الرابع كان ابن أم مكتوم من عائلة شريفة، فلا مجال لاعتباره وضيعا.ولو فرضنا جدلاً أنه كان شخصا وضيعا، فلا يصح أيضًا الزعم النبي لم يتوجه إليه لكونه وضيعا، لأن المعروف عن النبي أنه كان شديد العناية بالفقراء، ولم يزدر أحدًا لكونه من الطبقة الأدنى.فإننا نراه الا الله في الفترة المكية يهتم بدعوة العبيد إلى الإسلام، ويقف عندهم في بعض الأحيان ساعات ليدعوهم إلى الإسلام بحب أن

Page 207

الجزء الثامن ۲۰۳ سورة عبس ورفق، مع أنهم كانوا من أدنى الطبقات.فقد ورد في التاريخ أن عبدين مسيحيين كانا يقرآن الإنجيل بكل حب وشوق أثناء عملهما، وكان حماسهما الديني يُعجب النبي فيقف عندهما لأنه كان يرى أنهما أولى بأن يبلغهما رسالة الله، فكان يجلس عندهما ساعات طويلة يدعوهما إلى الإسلام وهما يطرقان الحديد (فتح البيان: سورة النحل، قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَ.فالشخص الذي كان يقف في الشوارع مع أبسط الناس، والذي كان يقوم بدعوة العبيد إلى الإسلام ساعات، والذي لم يكن يرى عليه عاراً في لقاء الفقراء وأصحاب الشرائح الدنيا، كيف يقال عنه أنه لم يلتفت إلى شخص حضر في بيته لكونه فقيرًا؟ فمن كان لا يستاء من الحديث مع العبيد أمام الناس ولا يرى عارا في تبليغهم رسالة الإسلام، فكيف يخجل من الحديث مع ابن أم مكتوم، ما دامت المبادئ الأخلاقية لا تمنعه منه؟ الخامس: يقول المفسرون إن النبي دعا ابن أم مكتوم فيما بعد وقال له: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي.هل لك حاجة في شيء؟ (فتح البيان، والطبري) أقول: لو كانت هذه الآيات عتابا وتوبيخا للنبي -والعياذ بالله فكان لا بد أن سلوكه في مثل هذه المواقف بعد هذا الحادث وكلما قاطع أحد كلامه توجه إليه من فوره تاركا الحديث الذي كان فيه.ولكننا نجد في التاريخ وقائع تؤكد أن النبي لم يغير سلوكه بعد ذلك، فقد ورد أن شخصا حضر مرة مجلس هو يكلّم الناس، فسأله سؤالا مقاطعًا كلامه، ولكنه لم يلتفت إليه بل استمر في حديثه حتى ظن الصحابة أن النبي الله وربما سخط على السائل، ولما انتهى کلامه قال أين السائل؟ ثم أجاب على سؤاله (البخاري، كتاب العلم، باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه).لقد ثبت من هنا أن النبي الله لا ظل يسلك نفس المسلك الذي اختاره مع ابن أم ظلَّ مكتوم، وكلما حاول أحد أن يسأله مقاطعا كلامه لم يجبه بشيء، بل استمر في حديثه حتى انتهى منه ولم يسلك النبي هذا المسلك في مكة فحسب، بل ظل به في المدينة المنورة أيضا.بل يتضح من الروايات الأخرى أن هذا كان النبي من متمسكًا دأبه دائما..أعني أنه كان لا يرد على سائل يحاول مقاطعة كلامه وإن هذا ما

Page 208

الجزء الثامن ٢٠٤ سورة عبس يفعله الشرفاء دومًا.فلو كانت هذه الآيات توبيخا للنبي لغير سلوكه بعد نزولها، وكلما سئل عن شيء أخذ في إجابته فورا أيا كان الموقف، مخافة أن يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه من قبل.ولكن النبي الله لم يسلك هذا الطريق البتة، بل ظل متمسكًا بسلوكه الذي سلكه مع ابن أم مكتوم.فالسؤال هنا: ما هو الأمر الذي نزل بسببه هذا النهي والتوبيخ للنبي ؟ إن أسوته تؤكد أنه ظل طوال حياته متمسكا بنفس المسلك الذي سلكه مع ابن أم ل مكتوم، ولم يحب أن يقاطع أحدٌ كلامه لأن هذا يقطع تسلسل الكلام، ويُفقد الحديث تأثيره في الناس، ويُنسي المتكلم جوانب كثيرة من الموضوع، ولا يستطيع أن يكمل حديثه.إذًا، فلو فرضنا جدلاً - صحة ما يقول المفسرون لكان يرتدع عن سلوكه رغم "التوبيخ الرباني" -والعياذ بالله.لقد سبق معنی ذلك أن النبي لم أن بينتُ أن الثابت من الروايات أن عبد الله بن أم مكتوم لم يكن وضيعًا.لا شك أنه كان ضريرا ولكنه كان من عائلة النبي ، حيث كان ابن خال خديجة رضي الله عنها، وكان أبواه عائلة شريفة شهيرة؛ فلا بد أن يكون مقربا من من النبي له بسبب نَسَبه الرفيع وقرابته من خديجة وهذا ما يدل عليه الأمر الواقع أيضًا، فإن النبي الله قد عيّنه أميرًا على المدينة في غيابه مرتين بعد هذا الحادث، مما يدل أن النبي الا الله كان يكن له التقدير الكبير، ويقدر نسبه العالي، وهذا أيضا دليل ساطع على خطأ موقف المفسرين.أن الله تعالى قد جعل في هذه الآيات نفسها حلاً لهذه المعضلة، ولكن المفسرين لم يولوه الاهتمام الكافي.لقد انتقلت أذهانهم إلى هذا الأمر، ومع ظلوا يقدمون تأويلات بعيدة.وينكشف علينا هذا الحل بالتدبر في صياغة هذه الآيات وترتيبها.يقول الله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ وعندي ذلك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ( وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهى.فنجد هنا جُملاً قد وردت بضمير الغائب، كقوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى یز

Page 209

الجزء الثامن سورة عبس أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى.ثم نجد جُملاً انتقل فيها الكلام نجد جُملاً انتقل فيها الكلام من الغائب إلى الحاضر، حيث قال الله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، وقال أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى....وهناك أربعة احتمالات فقط لمن تعود عليه الضمائر في هذه الجمل: أولها : أن يكون ضمير الغائب والمخاطب كليهما راجعا إلى النبي.ثانيها: أن يكون ضمير الغائب والمخاطب كليهما راجعا إلى غيره.ثالثها: أن يكون ضمير الغائب في عَبَسَ وَتَوَلَّى عائدا إلى غير النبي ، وضمير المخاطب في وَمَا يُدْرِيكَ راجعا إلى النبي.رابعها: أن يكون ضمير الغائب في عَبَسَ وَتَوَلَّى عائدا إلى النبي ، وضمير المخاطب في وَمَا يُدْرِيكَ راجعا إلى غيره.،والآن، علينا أن نحدد الصحيح من هذه الاحتمالات.نتوجه أولاً إلى الاحتمال الثاني وهو أن هذه الآيات لا تتحدث أن هذه الآيات لا تتحدث عن النبي لا في ضمير الغائب ولا المخاطب، وإنما ترجع الضمائر إلى غيره.وبقبول هذا يصبح معنى الآيات غير معقول على الإطلاق، لذا فلا بد من إسقاطه، لأن قصة ابن أم مكتوم مذكورة في روايات متواترة ومن المحال أن تكون القصة الواردة في مصادر شتى بهذا التكرار والتواتر باطلة.لا بد أن حادثا ما قد وقع لذا فلو قلنا إن قوله تعالى (عَبَسَ ووَمَا يُدْرِيكَ كله إشارة إلى شخص غير الاحتمال النبي فعلا اضطررنا لتكذيب هذه القصة من جذورها، وهذا الإنكار محال، لأن كتب الحديث والتاريخ كليهما تذكرها مرارا وتكرارًا.أما إذا أخذنا بالاحتمال الأول وقلنا إن ضمائر الغائب والمخاطب كلها راجعة إلى فالسؤال: لماذا غيّر الله تعالى الضمائر هنا؟ ولماذا قال أولاً : عَبَسَ النبي 11 وَتَوَلَّى، ثم قال وَمَا يُدْرِيكَ، وهو يعني الرسول نفسه في الجملتين؟ يقول المفسرون في الجواب: لقد تحدث الله تعالى عن النبي النبي بضمائر الغائب إجلالاً" له له ولطفا به لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى" (فتح البيان)، فقال : عَبَسَ وَتَوَلَّى ) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى و لم يقل: (عبست وتوليت أن جاءك الأعمى).ثم خفف العتاب قليلا وقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ).

Page 210

الجزء الثامن ٢٠٦ سورة عبس ولكنا نرى أن العتاب لم يخفف في آيات ضمير المخاطب، بل اشتدّ، أما في آيات ضمير الغائب فليس هناك أي عتاب أصلا.فقد بينتُ من قبل أن العبوس والتولي مع ليس مما يجرح مشاعره أو ينزل بسببه عتاب رباني، بل إن هذا السلوك النبوي دليل على خُلقه العظيم.أفليس غريبا إذًا ، أن يستعمل الله تعالى ضمائر الغائب حيث لا عتاب أصلا، ويستعمل ضمائر الخطاب حيث العتاب كله؟ انظر إلى شدة النبرة في قوله : أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ( وَهُوَ يَحْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَى.فمتى كانت هذه الكلمات أخف من العبوس والتولي؟ بل يبدو وكأنه تعالى قد ركز فيها على التوبيخ وأهمل جانب المدح.فثبت أن تأويل المفسرين باطل تماما، لأنه لا يتماشى مع الضمائر المتغيرة؛ إذ لا مبرر معه لتغيير الضمائر.وبقي الآن عندنا احتمالان فقط الثالث والرابع ولو أخذنا بالاحتمال الثالث أي أن يكون ضمير الغائب في عَبَسَ وتَوَلَّى عائدا إلى غير النبي ، وضمير المخاطب في وَمَا يُدْرِيكَ راجعا إلى النبي - لواجهتنا المشكلة المشار إليها من قبل، أعني أننا نضطر لإنكار هذه الواقعة الواردة في كتب الحديث والتاريخ عن ابن أم مكتوم، والتي لا يمكننا إنكارها بعد هذه الشهادات الكثيرة المتواترة الواردة في كتب التاريخ وبعض الصحاح (الترمذي، أبواب التفسير.ومعلوم أن الشهادة التاريخية لا يمكن رفضها إلا بشهادة مخالفة أقوى منها.إذا فقد بقي عندنا الاحتمال الرابع فقط، وهو أن يكون ضمير الغائب في العَبَسَ وَتَوَلَّى عائدا إلى النبي ، وضمير المخاطب في وَمَا يُدْرِيكَ راجعا إلى غيره وأرى أن هذا هو السبيل الوحيد لحل هذه المعضلة، لأنه لا يتنافى مع هذه الواقعة التاريخية، كما لا ينال من عظمة الرسول ل وكرامته.الرسول وكرامته.وعندي أن الضمير في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى راجع إلى النبي وأن واقعة ابن أم مكتوم صحيحة، إذ تكررت في مصادر شتى بتواتر، ولا يسعنا رفضها بغير أن يكون بيدنا دليل تاريخي قاطع يقيني.

Page 211

الجزء الثامن ۲۰۷ سورة عبس وعندي فالواقع أن ابن أم مكتوم جاء النبي وهو يقوم بدعوة صناديد مكة إلى الإسلام، فقال في نفسه متحمسًا: لماذا يضيع النبي الله و وقته الثمين مع هؤلاء الكافرين به؟ فكان منه ما كان الواقع أن طبائع الناس مختلفة، وكل إنسان يعبر عن أفكاره بأسلوبه الخاص.لقد رأيت أن بعض الأحمديين عندما يرون أحدًا منا يقوم بدعوة بعض أعداء جماعتنا الألداء، لا يتمالكون أنفسهم غيظا ، ويقولون : دَعْ هؤلاء الملاعين.إنهم لا يستحقون الكلام، إنهم حطب جهنم، فلا داعي لإضاعة الوقت معهم.فترى أن هؤلاء الأحمديين أيضًا لا يحتملون أن يكلم أحد هؤلاء المعارضين، إذ يرون أنهم حطب جهنم، وأنهم لن يرتدعوا عن المعارضة، بل سيموتون مستوجبين غضب الله وسخطه، فدعوتهم إلى ما قال الله ورسوله مضيعة للوقت.أن عبد عبد الله بن أم مكتوم أيضا كان من هذا الصنف من الناس، فلما حضر مجلس النبي وجده يدعو عتبة وشيبة وأبا جهل وأمية والوليد إلى الإسلام، فثارت حميته، وقال في نفسه إن هؤلاء الخبيثين يسبّون النبي ليل نهار فكيف جاءوا الآن إلى مجلسه؟ إنهم حطب جهنم؟ ما لهم ولما قال الله ورسوله؟ لا حاجة لإضاعة الوقت معهم.فدفعته أفكاره إلى أن يقطع على النبي حديثه القوم، فقال: يا رسول الله، لا تحدّث هؤلاء عن الإسلام، بل أَقْرِثْني وعلمني أنا مما علمك الله.فشق على النبي تصرفه غير اللائق؛ إذ كان يكلم القوم الذين كانوا ضيوفا حضروا بيته، وكان أحد مريديه قد أساء الأدب وسلك مسلكًا يتنافى مع إكرام الضيوف ويجرح مشاعرهم.لا شك أن ابن أم مكتوم لم يسب هؤلاء الكافرين، لكن قوله للنبي : أقرنني وعلمني مما علمك الله كان يعني: دَعْ هؤلاء القوم فإنهم أعداء ألداء للإسلام وأنّى لهم أن يدخلوا فيه؟! ولكن الرسول ﷺ كان يريد أن يقرأ عليهم أحكام الله تعالى، ويؤدي واجبه الذي كلفه الله به، سواء صدقوه أم لم يصدقوه.مع باختصار، قد تصرف عبد الله بن أم مكتوم من فورة حماسه تصرفًا ينافي العقل والأخلاق، لأنه ما دام النبي ليلي علو هؤلاء الصناديد إلى الإسلام، فما كان لابن أم مكتوم أن يظن أن لا فائدة في دعوتهم، أو أن على النبي أن يتوجه إليه بدلاً

Page 212

الجزء الثامن منهم.۲۰۸ سورة عبس لا شك أنهم لم يؤمنوا بالنبي ﷺ فعلا بل صاروا حطب جهنم فيما بعد، ولكن كان من واجبه عندها إكرام ضيوفه والعناية بهم، أما عبد الله بن أم مكتوم فما كان ليحترم أوامر الله تعالى احترام النبي الله لها، كما لم يكن ليدرك مسؤولية إكرام الضيف مثله ، ولا سيما أنه كان ضريرا، والضرير ضعيف الإحساس بهذه الأمور لأنه لا يرى شيئا، فلا يتكلم برفق ولين.وفي بلدنا يقولون إنك لو أردت أن تسمع كلاما قاسيا فتكلم مع أعمى، وليس ذلك إلا لأنه لا يستطيع الرؤية فلا يبالي مطلقا بردّة فعل الناس على حديثه.ولذلك نجد أن ابن أم مكتوم لما حضر مجلس النبي وجده يقوم بدعوة ألد أعداء الإسلام ثارت حميته ولكنه كان لا يستطيع أن ينهى النبي عن دعوتهم صراحة، أو يلوم هؤلاء الكافرين على مجيئهم هناك ويأمرهم بالخروج؛ فما كان منه إلا أن قال للرسول : أَقرئني وعلمني مما علمك الله.ثم ظل يردّد قوله هذا على النبي ﷺ بالحاح، فتضايق من تصرفه، ولكنه الا الله ولم يُرد أن يجرح مشاعره، فاكتفى بأن عبس وأعرض عنه.لقد خطر ببال النبي لا لا لا لا أن هؤلاء الزعماء الكفار سيقولون ما لهؤلاء المسلمين لا يعلمون آداب المجلس، ولا يرون أنا جئناهم لسماع حديثهم.علما أننا لسنا هنا بصدد أنهم جاءوا النبي نفاقا وكانوا يكذبون قوله في قلوبهم.فما داموا قد جاءوا - في الظاهر - لسماع حديثه ل له عن الإسلام، وكان يرى ضرورة دعوتهم، فعبس وتولى عن ابن أم مكتوم حين تصرّف هذا التصرف الخاطئ.وهذا ما أشار الله تعالى إليه بقوله عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى.ثم إن كلمة الأَعْمَى نفسها التي هي معرفة نفسها التي هي معرفة باللام هنا أيضا تبين أن هذه الآيا تشير إلى واقعة معينة، وإلى أعمى معين.فلو كانت هذه الآيات مدحًا لهذا الأعمى، أي لو أراد الله تعالى لَوْمَ رسوله على عدم التفاته إلى الأعمى، أو مَدْحَ تصرُّف الأعمى، فكان الأولى أن يذكر الله اسمه، ويقول إن فلانا قد جاء إلى رسولنا فعبس وتولى ، ولكن لم يذكر الله اسم هذا القادم لأن تصرفه لم يكن محمودا، بل قال أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، أما لو كان تصرّفه محمودًا وأراد الله مدحه لذكر اسمه حتما، وقال: عبس وتولى أن جاءه عبد الله بن أم مكتوم؟! ولكن الله تعالى لم يقل ذلك صل الله

Page 213

الجزء الثامن ۲۰۹ سورة عبس من ناحية، ومن ناحية أخرى استعمل كلمات عَبَسَ وَتَوَلَّى لأن تصرفه هذا دليل على سمو أخلاقه.حق رسوا رسوله فعندي أن الواقعة الحقيقية هي أن عبد الله بن أم مكتوم حضر مجلس النبي ووجه إليه سؤاله بما يجرح مشاعر ضيوف الرسول ﷺ، ويُخل بحديثه، فتضايق النبي ﷺ من تصرفه، ولكنه لم يبد له سخطه، وإنما اكتفى بأن عبس وتولى، ومعلوم أن الأعمى لا يرى العبوس ولا التولي.ولما وجد ابن أم مكتوم أن النبي ﷺ لا يلتفت إليه بل هو مستمر في حديثه مع الضيوف خرج من المجلس متضايقا.ولعله حكى للآخرين ما حدث، ومن المحتمل تماما أن يكون هؤلاء ذوي طبائع حماسية مثله، فقالوا في أنفسهم إن ما حصل ليس بجيد، بل كان على النبي الله أن يهتم بابن أم مكتوم، إذ كيف يتجاسر هؤلاء الأعداء الخبثاء أن يحضروا مجلسه الله ويضيعوا وقته الغالي الثمين؟ باختصار، إن قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى يشير إلى رسول الله ، وقوله تعالى ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى موجه إلى الذين كانوا يحملون أفكارا كأفكار عبد الله بن أم مكتوم، حيث بين الله تعالى أن رسولنا الله قد تصرف مع هذا الأعمى بما يدل على عظمة أخلاقه، لأن الأعمى تدخل وأراد مقاطعة حديثه، فاكتفى رسولنا بالعبوس والإعراض عنه، حتى لا يسوء الموقف فيما لو أبدى النبي ا لا الهلال الالغاضبًا وسخطا.شرح وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٢) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَن عَهُ الذِّكْرَى (٤) الكلمات : ما يُدْريك أدراه به : أعلَمه.ما أدراك وما يدريك" أي ما تدري وفي القرآن...وما يُدريك لعله يَزَّكَّى).(الأقرب) يَزَكَّى أَصلُه : يتزكّى ، وتَزَكَّى فلان: صار زكيا.(الأقرب) يَذَّكَّر أصلُه : يتذكر، وتَذكَّرَ الشيء بمعنى ذكره..أي حفظه في ذهنه؛ وتذكر ما كان قد نسي: فطن به (الأقرب فالمراد من قوله تعالى العلَّه يَزَّكَّى أن يحفظ النصيحة في ذهنه أو يفطن ما نسيه.

Page 214

الجزء الثامن ۲۱۰ سورة عبس أن هذه هي التفسير : يقول المفسرون إن قوله تعالى ما يدريك، وقوله لعله يَزَّكَّى جملتان منفصلتان؛ فقوله تعالى ﴿وَمَا يُدْريك يعني: مَن أخبرك أنه لن يهتدي؟ وقوله تعالى لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يعني: فربما يهتدي.والحق أن المعنى الواضح للآية هو : من أعلمك أنه لن ينتفع من الهداية حتمًا، إذ الخطاب هنا موجه إلى بعض المسلمين الذين قد نشأت أو يمكن أن تنشأ - هذه الأفكار في قلوبهم.فيقول الله تعالى : أيها المعترض، من أعلمك أنه لو توجّه الرسول ﷺ إلى عبد الله بن أم مكتوم لانتفع حتمًا؟ ألا يرتد الناس؟ فكم من شخص يقوم بدعاوى عريضة عن إيمانه، ثم يأتي عليه زمان يصب كل جهوده في محاربة الإيمان.فما دام هذا هو الأمر الواقع، وما دام الناس عرضة لهذه التقلبات، فكيف عرفتم أن التوجه إلى فلان سيكون نافعًا له حتما؟ إن النبي يتبوء مكانة عالية من التقدير والطاعة، بحيث إنه لو نادى أحدا فمن واجبه أن يلبي نداءه فورًا ويترك عمله مهما كان عمله مُهما ومهما كان تركه صعبًا.والحق علامة الإيمان؛ فإذا نادى النبي أو نائبه أحدًا، فلا يحق له أن يظل مشغولا بأمر آخر، حتى ولو كان مشغولا بالتبليغ، حتى ولو اعتبر الناس تدخل النبي أو نائبه من سوء الأدب.فلو كان ابن أم مكتوم مشغولا بدعوة الكافرين وناداه النبي لكان واجبًا عليه ترك دعوتهم وتلبية ندائه غير مكترث بما يقوله الناس، ولكن ليس من حق ابن أم مكتوم أن يستجيب له الرسول ﷺ تاركا دعوة الكافرين إلى الإسلام.القول بأنه لا جدوى في توجه النبي ﷺ إلى الكفار أمر غير مؤكد، وكذلك القول أن توجّه النبي الله إلى ابن أم مكتوم مُجد أيضا أمر غير مؤكد، وما دام الأمران اجتهادين غير مؤكدين، فكان من واجب النبي أن يعمل بما يتفق مع الأخلاق، ويتجنب ما ينافي الأخلاق؛ ولذلك لم يلتفت النبي ﷺ إلى ابن أم مكتوم، بل ظل متجها بحديثه إلى الكفار.إذا فكأن الله تعالى يقول في قوله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أيها المعترض من أعلمك أن محمد لا لا لا لا لها قد أخطأ التصرف، وأن ابن أم مكتوم يمكن أن يتزكى وغيره لا يمكن أن يتزكى؟ لا شك أن ابن أم مكتوم قد تزكى فيما بعد، ولكن الرسول لله ما كان يدري كيف يكون مصير هذا المؤمن،

Page 215

الجزء الثامن ۲۱۱ سورة عبس وهل سيظل متمسكا بالهدى أم لا.فما دام الرسول الله مأمورًا من عند الله باحترام الضيوف الذين حضروا في بيته، وتقديم ما هو مقدَّم وتأخير ما هو مؤخَّر، فكيف يمكن للررسول اله الا الله أن يفعل عكس ذلك؟ وما يدريه أن ابن أم مكتوم سيتزكي حتمًا لو تم الالتفات إليه؟ أو أنه لو ذُكر فستنفعه الذكرى؟ قد يقول قائل هنا كان انتفاع ابن أم مكتوم من الذكرى مرجوا ولو قليلا، فيرد الله عليه : مَن أخبرك أنه سينتفع حتمًا ولو قليلا؟ هذا اجتهاد ظني وذاك اجتهاد ظني أيضًا.ولما اجتمع اجتهادان فضل النبيل العمل بالاجتهاد الذي يتفق مع إكرام الضيف ومع أمر الله تعالى، فقدم المقدم وأخر المؤخر.أَمَّا مَن أَسْتَغْنَى : فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (٢) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكى ) شرح الكلمات : استغنى: غني غنى وغناء: ضدُّ فقر ، أي كثر ماله.استغنى الله: سأله أن استغنى عنه به : اكتفى.(الأقرب).فالمراد من قوله تعالى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى: أي أما من يطلب المال أو الغنى، وأما من لا يبالي.تصدّى: أصله تتصدّى.تَصدَّى له: تعرَّضَ وهو الذي يستشرفه ناظرا إليه.وتصدى للأمر: رفع رأسه إليه.(الأقرب) التفسير : هنا أيضا قد ردّ الله على الذين اعترضوا على تصرف الرسول ﷺ، حيث قال لهم: تزعمون أن محمدًا يهتم بالأغنياء، ويهمل الفقراء البسطاء، مع أن ما تقولونه ينطبق عليكم؛ فأنتم تهتمون بالأثرياء وتُهملون الفقراء، فكيف ترمون محمدا بدائكم؟ هلا فكرتم في حالكم لتروا أنكم أنتم الذين تهتمون بالأثرياء أشد الاهتمام، مع أنكم لستم مسؤولين عمن يهتدي ومن لا يهتدي، إنما عليكم اتباع أحكام الله تعالى، والعمل بما يأمركم الله به معرضين عما تهوى أنفسكم.إذا أمركم

Page 216

الجزء الثامن ۲۱۲ سورة عبس أن الله تعالى الله تعالى أن تكلّموا المؤمن فكلّموا المؤمن، وإذا أمركم الله أن تكلّموا الكافر فكلّموا الكافر.ولكنكم تتوجهون إلى الأثرياء عمدا وقصدًا، مع وحده يعلم من ذا الذي سيصبح من النازعات غرقًا والناشطات نشطا، إنما واجبكم أن تعملوا بأوامر الله وأحكامه.لقد أمركم الله بإكرام الضيف، فعليكم بإكرامه، وأمركم الله بتقديم المقدَّم وتأخير المؤخَّر، فعليكم أن تعملوا بهذه الوصية غاضين النظر عما إذا كان غنيًّا أم فقيرا، ولكنكم تهتمون بالأثرياء، ومع ذلك تقولون أن يهتم بالأثرياء معرضا عن عن الفقراء، مع أنه لم يفعل ما فعل إلا بأمر الله ومشيئته، مطيعا لأحكامه سبحانه لا مخالفًا لقوانينه، ولكن بدلاً من أن تفكروا في حالكم تنسبون هذا العيب إلى الرسول ، مع أن ما فعل كان عين الصواب.محمدا وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى (ج) وَهُوَ تَخْشَىٰ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَقَّى 1.11 شرح الكلمات: يسعى: سعى إليه: قصد؛ وسعى الرجلُ: مشى وعدا (الأقرب).تلهى : أصلُه : تتلهى أي تتشاغل.(اللسان) التفسير : هذه الآيات أيضًا لا تشير إلى حادث معين كل ما نعرف منها أنها لا تنطبق على واقعة ابن أم مكتوم، لأنه كان ضريرًا، فكيف جاء إلى النبي يسعى.ثم إنه كان رجلا شجاعًا، حيث إنه لما حضر مجلس النبي ثارت ثائرته فأخذ يعنف الكافرين، ويقول كيف حضر أعداء الله ورسوله في مجلسك؟ إنهم قوم ملعونون، والتوجه إليهم مضيعة للوقت، بينما يصف الله تعالى هذا القادم بأنه يخشى؛ فثبت من هنا أن هذه الآيات لا تتعلق بعبد أم مكتوم، وإنما رسم الله تعالى هنا صورة لواقع أخلاق الناس عادةً، وردَّ على الذين اعترضوا على الرسول الله بن فقال: لو جاءكم فقير يسعى تعرضون عنه، ولكن إذا جاءكم غني لم تتمالكوا

Page 217

الجزء الثامن ۲۱۳ سورة عبس أنفسكم فرحًا بأن ثريا جاءكم، ومع ذلك تتهمون رسولنا بأنه يهتم بالأثرياء ويهمل الفقراء.أفليس هذا ظلمًا صريحًا؟ وبالفعل نرى أن الناس يفخرون كثيرا لو أتيحت لهم فرصة الحديث مع شخص كبير ثري، ولكن لا يكترثون لما يقول لهم أنبياء الله تعالى.كان المسيح الموعود ال ذات مرة ينتظر القطار في محطة القطار بلاهور أو أمرتسر، فجاءه باندت ليخرام الهندوسي وسلّم عليه.وكان ليخرام يحتلّ مكانة مرموقة جدا عند الفرقة الهندوسية "آريا سماج"، ففرح أصحاب المسيح الموعود الا الذين كانوا معه بتسليمه عليه، ولكنه اللي أعرض عنه ولم يجبه.فظنّ أصحابه أنه لم يعرف أن ليخرام يسلّم عليه ، فقالوا له: إن ليخرام يسلّم عليك.فقال المسيح الموعود اللة في حماس شديد: ألا يستحي هذا! يسب سيدي محمدًا ويسلم على؟ هذا أنه العا لم يبال بليخرام، لكن الناس عامة يعتبرون لقاءهم بزعيم كبير نجاحًا كبيرًا، وإذا جاءهم أحد كبراء القوم يلقونه بحفاوة كبيرة، ولكن إذا جاءهم فقير لم يلقوا له بالا! فالحق أن الله تعالى قد نبه هنا هؤلاء المعترضين إلى عيبهم هذا ووجّه إليهم زجرًا وتوبيحًا، فقال: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَى..أي إذا جاءكم أحد البسطاء الفقراء ساعيًا وهو يخشى الله تعالى، فلا تأبهون له فكيف تعترضون على نبينا؟ عليكم أن تنظروا إلى حالتكم الأخلاقية، لأنه إذا جاءكم أحد الأثرياء قمتم تعظيما له، عنه، ولم يسعى يعني متوجهين إليه بجل اهتمامكم، ولكن إذا جاءكم مسكين فقير أعرضتم عنه، تطيقوا الحديث معه.ليس اعتراضكم إلا أن ليس اعتراضكم إلا أن رسولنا لم يتوجه إلى ابن أم مكتوم لما جاءه ، أن الإعراض وعدم الالتفات إليه كان هو الأولى، إذ تصرّف في مجلسه مع بما ينافي الأخلاق ويخالف آداب المجلس، فاستحق الإعراض عنه، وأنتم تعترضون على هذا العمل المباح، في حين أنكم أنتم الذين تهتمون بالأثرياء وتهملون الفقراء.باختصار، هناك احتمال واحد يمكن الأخذ به من بين الاحتمالات الأربعة التي فصلتها من قبل، وهو عندي أن عَبَسَ وَتَوَلّى يتعلق بالرسول ﷺ نفسه، وأن عبوسه أمام الأعمى وإعراضه عنه عمل يجب أن يثنى عليه، وقد نزلت هذه الآية

Page 218

الجزء الثامن ٢١٤ سورة عبس أيضًا مدحا لخلقه الا الله لا ذما له؛ لأن اعتباره ذمَّاً يخلّ بترتيب الآيات.لقد بينت من قبل أن هذه الآيات بدأت بصيغة الغائب، ثم تحولت إلى صيغة الخطاب، وهذا التغير لا يخلو من حكمة، وما هي إلا أن الله تعالى قد أثنى على فعل رسوله بصيغ الغائب، ثم بصيغة الخطاب قد ردّ على الوساوس التي نشأت، أو قد تنشأ نتيجة هذا الحادث في قلوب الكافرين أو بعض المسلمين الذين لم تتيسر لهم تربية كافية، وبيّن أيضًا أن تصرُّف رسولنا الا الله يتفق مع مشيئتنا وأحكامنا.إن هؤلاء المعترضين أنفسهم يفرّقون في المعاملات بين غني فقير وصغير وكبير، ولكن رسولنا لا يفعل مثلهم، فاعتراضهم واه لا قيمة له البتة.كيف يمكنهم الجزم بأن الاهتمام بابن أم مكتوم ينفعه حتمًا؟ هل تلقوا وحيًا أكد لهم ذلك؟ إنما هو مجرد اجتهاد منهم، وحيث إن قولهم مجرد اجتهاد ليس أساسه علم اليقين فاعلموا أن رسولنا قد قدم ما يجب أن يقدَّم، كما أنه أدى واجب إكرام الضيف، معربا عن سخطه على تدخل ابن أم مكتوم بحيث لم يجرح مشاعره أيضًا.إذًا، فإنه قد أحسن صنعا فيما فعل أما أنتم أيها المعترضون على محمد، فأنتم أصحاب هذه الأخلاق المشينة، ثم تتهمون بها رسولنا.الواقع أن اتهام الأنبياء والطعن بهم بدون حق أمرٌ خطر جدا، لأن الله تعالى يغار على أنبيائه جدا، وقد أبدى غيرته لرسوله في هذه الآيات، فقال للكافرين إنكم تطعنون في رسولنا بعيب أنتم موصومون به وتصرفات رذيلة أنتم تأتونها.والمنافقون يثيرون اعتراضات شتى ضدي أيضا، فأجيبهم دائما: إن اعتراضكم في حد ذاته صحيح، ولكنه لا يقع علي، بل يقع عليكم، لأن تصرفاتكم تؤكد أنكم موصومون بهذه العيوب.وبنفس الأسلوب قد رد الله تعالى هنا على هؤلاء بعض الناس يهملون الفقراء ويهتمون بالأغنياء، ولكن محمدا هل الله لم يفعل هذا ، وإنما أنتم أيها المعترضون مصابون بهذا العيب.وهكذا نبه الله المسلمين بأن بعض حديثي العهد من المسلمين أو بعض الكافرين مصابون بهذه المعترضين، فقال صحيح بأن

Page 219

الجزء الثامن ۲۱۵ سورة عبس النقائص والعيوب ولا يتحرجون في أن يرموا بها رسولنا أيضا، فعليكم بتجنب هذه النقائص، وتأدبوا مع رسولكم غاية الأدب.أما لو غضضنا الطرف عن هذه الروايات، فتفسير الآيات سهلاً جدا، حيث يصبح مع نعتبر قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى متعلقا بكافر، أي أن النبي ﷺ كان جالسا بعض رؤساء المشركين، فحضر أعمى مجلسه الا الله ليتعلم منه الدين، فعبس منه أحد رسید الكفار الحاضرين وتولى وأعرض عنه ازدراء به فكأن الله تعالى يقول لهذا العابس المعرض: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى؟ وأي شكٍّ في أن صديق المرء وتلميذه هو الذي ينفعه والعاقل لا يُكرم إلا مثل هذا الإنسان.فيا من عبست وتولیت ازدراء بشخص بسيط فقير حضر إلى محمد، تهتم بالأثرياء ذوي الجاه في الظاهر، بغض النظر عما إذا كان يريد أن يتزكى أم يريد الفسق والفجور، الذي جاءك لأنك إنما تهتم بماله وجاهه لا بشيء آخر، أما الشخص الآخر - يسعى، أي سائلا محتاجا، وهو يخشى ، أي يخاف عدم التفاتك إلى حديثه لكونك من كبراء القوم - فإنك لا تُكرمه لا تقديرًا بأنه اعتبرك معقد آماله، ولا عطفا على مسكنته وخشيته، بل تطرده بحجة ضيق الوقت عندك.وتظن أن اهتمام محمد بالمساكين من العميان والمعاقين دليل على وضاعته، وأن حُبّك لصحبة الأغنياء دليل على رفعة شأنك! ولكن ظنّك هذا ظنُّ خاطئ، لأن الذي يُرجى إصلاحه وتزكيته هو الأولى بالاهتمام؛ فما يفعله محمد هو العمل الحسن، أما عبوسك وإعراضك فلا له.مبرر واعلم والثراء، بل يختار الله لذلك تلك الأرواح الطيبة التواقة إلى قبول الحق ونيل التزكية.وكأن الله تعالى قد أوضح للمسلمين أن لا يبحثوا بين أهل الثراء والرياسة عن الأرواح التي تكون موصوفة بالنازعات والناشطات وغيرها من الصفات، بل الله أعلم بها وبمكانها، وهو الذي سيختارها بنفسه.أن الله تعالى قد بيّن بذلك أن جنود الإسلام لن يُختاروا من ذوي الغنى

Page 220

الجزء الثامن ٢١٦ سورة عبس من كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ : فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (3) ۱۲ التفسير: نظرا إلى المفهوم الذي ذكرته من قبل، ستعتبر كلمة كلاً موجهةً إلى ذلك الإنسان الضعيف الذي شكٍّ في الرسول ، وانتابت قلبه وساوس تتنافى مع الإيمان القوي، فكأن الله تعالى يقول له: ليس الأمر كما يظن، بل إنها تذكرة..أي قد أنزلنا القرآن ليكون موعظة وهداية لكافة الناس إلى الصراط المستقيم، فكل كان قلبه منسجما مع هذا الهدى، سوف يصدقه حتمًا وسيأتي إليه تلقائيًا، وأما غير المنسجمين مع هذا الهدى فلن يقبلوه، إذ لن ينمو هذا الغراس إلا في تربة صالحة له.فالقول إن الرسول الله هو من ينتقي البعض ويرفض الآخرين قول غير سليم.لقد قلتُ في البداية إن سؤالا طرح نفسه عن سورة النازعات وهو: من أين تأتي هذه النفوس الطيبة التي تصبح نازعات وناشطات؟ فأجاب الله هنا في سورة "عبس" على هذا السؤال وقال : لماذا ينشأ هذا السؤال في قلوبكم؟ ما دام اختيار هذه النفوس بأيدينا، فلا داعي أن تقلقوا.نحن أعلَمُ بالذين يصلحون ليكونوا من النازعات والناشطات سواء أكانوا من الأغنياء أم من الفقراء، أو من كلتا الفئتين.نحن أعلم بما عندهم من مزايا وكفاءات كامنة ونحن الذين نخرج من بين القوم تلك النفوس القادرة على القيام بهذه المهام العظيمة بغض النظر عما إذا كانت الأغنياء أم من الفقراء.وبالفعل قد أسلم عثمان الله الذي كان الذي كان من أسرة ثرية بمكة، من من هما وأسلم طلحة والزبير اللذان كانا عائلات ذات نفوذ وسيادة وإن لم يختر القوم للسيادة في ذلك الوقت والفرق الوحيد بين عثمان وطلحة والزبير أن الأول قد أتى معه بالمال، أما الآخرين فلم يأتيا بأي مال.إذًا، فقد أخرج الله تعالى من الكفر كل من وجد فطرته منسجمة الإسلام، سواء أكان مع أبناء الأسر من العريقة الثرية أو من الأسر الفقيرة.كان في جماعتنا أخ اسمه "شيخ غلام أحمد" - غفر الله له – وكان يظن أنه طويل الباع في التصوف، وكان يريد فرض نظريته الصوفية على الجميع.وقد قابلني ذات مرة وقال: أتحبّ الفقراء أم الأغنياء؟ فحاولتُ - بداية - ألا أجيبه ولكنه أصرّ

Page 221

الجزء الثامن ۲۱۷ سورة عبس علي بإلحاح وتكرار، فقلت له : لا أحبُّ الأثرياء ولا الفقراء، ولا أكره الأثرياء ولا الفقراء، وإنما أنظر إلى من يربطه الله تعالى معي لنشر دينه، بغض النظر عن فقره وغناه.فإذا اختار الله تعالى لمساعدتي فقيرًا ،أحببته، وإذا اختار غنيًّا أحببتُه، فأنا رهنُ إشارة الله فيمن يختاره لهذه المهمة.إذًا، فمن سنة الله أنه يختار لنصرة دينه الأغنياء والفقراء أيضًا، وإن كان أكثر اختيارًا للفقراء، وإذا اختار غنيًّا فليس ذلك لغناه أو عراقة أسرته، بل لاستحقاقه ولكفاءاته الشخصية.ولكن بما أنه من أسرة عريقة فينال التكريم في جماعة النبي أيضا.هذا هو المعنى الذي أكده الله تعالى بقوله (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ..أي أن القرآن كتاب موعظة ونصيحة، فمن شاء قرأه وانتفع به ونال الرفعة والإكرام، ولا دَخلَ للنبي في ذلك.لقد جعل الله طبائع بعض الناس منسجمة مع القرآن وسيظلون ينتفعون بَهَديه تدريجيًا دون أن يعيقهم عن ذلك عائق.فإذا كانت طبيعة ثري منسجمة مع القرآن، فلا يمكن منعه من الاقتداء به، وإذا كانت منعه طبيعة فقير منسجمة معه فلا يمكن منعه من اتباعه أيضا.فالظن أن للفقراء فقط ظنّ خاطئ، بل من شاء دخل فيه وانتفع ببركاته وتقرب إليه تعالى، لأنه سبحانه لم يمنع أحدا من ذلك.هذه هي دین الله هو الجملة التي كنتُ قد قلتها عن النبي الله والتي ثارت بسببها ضجة كبيرة هذه الأيام.لقد قلتُ إن الله تعالى لم يجعل سُبُل قربه محدودة، ولم يجعل على سبل المراتب الروحانية العالية ملائكة ليمنعوا الناس من الارتقاء فيها، بل إن سبل قربه له مفتوحة، وستظل مفتوحة حتى إذا أراد أحد أن يسبق النبي ﷺ في قرب الله تعالى فليسبقه إنما أقصد بقولي هذا أن الله تعالى لم يُعق طريق التقرب إليه، فإذا كان أحد يستطيع أن يسبق النبي في قربه تعالى فليجرّب وليُرِنا ذلك! وحيث إن أحدًا لم يسبق النبي لا الهلال حتى اليوم، ولن يستطيع في المستقبل، ورغم أن النبي هو أفضل الناس جميعا، إلا أنه لا يجوز القول إن الله تعالى قد أوصل النبي ﷺ إلى هذا المقام جبرًا، ومنع الآخرين من الوصول إليه قهراً كلا بل إن سبل قرب الله تعالى مفتوحة، فمن أراد أن يتقدمه له فليحاول.هذا هو نفس المعنى الذي بينه الله تعالى

Page 222

الجزء الثامن بقوله فَمَنْ..۲۱۸ سورة عبس شَاءَ ذَكَرَهُ..أي أننا لم نمنع أحدًا من ذلك.فإن القرآن للناس جميعا، للغني والفقير والعالم ،والجاهل والأسود والأبيض، والشرقي والغربي، فمن شاء انتفع به.وضمير المؤنث في قوله تعالى إنها يعود إلى الهداية أو الموعظة أو الذكرى المذكورة من قبل، وضمير المذكر في ذكره يرجع إلى القرآن الكريم، والتقدير: إن الهداية التي جاءت من الله تعالى تذكرة، فمن شاء ذكره، أي ذكر القرآن.كما يمكن إرجاع ضمير المؤنث في إنها إلى الذكرى أو إلى القرآن الكريم، والأولى إرجاعه إلى القرآن لأن الآيات التالية تتحدث عنه خاصة، فاستخدم تعالى ضمير المؤنث مرة وضمير المذكر مرة أخرى ليبين أن المراد هو القرآن.وحيث إن الله تعالى قد ركز هنا خاصة على صفة الذكرى التي يتصف بها القرآن الكريم، فاستخدم ضمير المؤنث أيضًا.الله نقطة جديدة ويمكن تفسير هذه الآيات تفسيرًا لطيفا آخر، أن وهو نعتبر هذا الكلام من قبيل الهزء والتهكم، كقوله تعالى للكافر ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الكريم (الدخان: ٥٠ )..أي كُلِّ طعام الجحيم لأنك عزيز كريم، والمعنى أنك كنت تحسب نفسك من ذوي العزة والقوة والنفوذ والحق أنك لم تكن كذلك، وإنما خدعت نفسك بهذه الفكرة.لو كنت كما ظننت لما اضطررت اليوم لأكل الطعام الجهنمي الرديء.قال صاحب الكشاف إن هذه الآية من قبيل الهزء والتهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على الناس (الكشاف)..أي أن الله تعالى قد صدق قول الكافر في الظاهر، بينما دحضه في الواقع، واعتبره غير معقول البتة.وهذا الأسلوب التهكّمي شائع في اللغات الأخرى بما فيها لغتنا الأردية أيضًا، فمثلاً إذا كنت صديقا حميما لشخص تريد له الخير دوما، فنسب إليك ما يعاكس سلوكك هذا، فتقول له : نعم نعم أنا عدوك، في حين أنك تقصد أني صديقك و لم أزل أخلص لك الود والنصح، فكيف تتهمني؟ فهذا الأسلوب تأييد في الظاهر وإنكار في الحقيقة.وهذا هو المقصود في قوله تعالى ذُق إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) حيث بين الله تعالى أن هذا العدو كان عزيز كريم، وأن محمدًا حقير ذليل يتبجح أنه

Page 223

الجزء الثامن - ۲۱۹ سورة عبس والعياذ بالله - فاليوم سنلقي هذا العدو في الجحيم، ونقول له: ذُق هذا العذاب لأنك عزيز كريم..والمراد: أنت كاذب في ادعائك؛ إذ لو كنت عزيزا كريما ما دقت هذا العذاب.وعندي أن سورة "عبس" أيضًا تتحدث بهذا الأسلوب من الكلام.فذات مرة حضر شخص ضرير إلى النبي وهو يتحدث مع بعض الكافرين، فأراد مقاطعة حديثه، فبَدَت على وجهه الله أمارات الاستياء، فأعرض عنه محاولاً كبت استيائه.وحيث إن الكافرين يسعون دائمًا لبتْ الفُرقة بين المؤمنين، فاستغلوا هذا الحادث للإضرار بالإسلام ببث الشبهات والوساوس في قلوب المسلمين، فأشاعوا بين القوم أن محمدًا ازدرى أحد أتباعه الفقراء ازدراء شديدا بسبب فقره، وسخط عليه في مجلس كان يضم شرفاء مكة.فأراد الله أن يكشف ضحالة موقفهم وسخف فتحدث اعتراضهم، عن الحادث بأسلوب التهكم والسخرية، فقال عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى..أي أن رسولنا قطب وجهه وأعرض لمجرد حضور ابن أم مكتوم الأعمى عنده والمقصود أن الأصدقاء والأعداء كلهم معترفون بسموّ أخلاق ،رسولنا، والجميع يعرف أنه لا يحضر مجلسه ل ولا يلتف حوله إلا الفقراء، وأنه يعمل جاهدا ليل نهار لفك الرقاب وللنهوض بالفقراء والأرامل واليتامى والمساكين، فكيف يمكن لعاقل أن يصدّق أن هذا الشخص يقطب وجهه ويعرض عن الأعمى لمجرد فقره وعماه؟ فهذه التهمة نفسها تبطل نفسها.كما يقال في الفارسية إن الشمس دليل على وجودها.إن نسبة هذه التهمة إلى محمد رسول الله تشكل بنفسها دليلا على بطلانها، فلا حاجة إلى أي دليل آخر.أما قوله تعالى ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى...فقد ذكر فيه دليلاً عقليا ليكمل به هذا التفنيد، فبيّن أن الأمر لا يتعلق بالأعمى والبصير، بل المهم أن محمدا رسول الله لا يزلّ W يدري مَن الذي سيهتدي ومَن لا يهتدي ومن سيظل ثابتًا على الهدى، ومن يز عنه.إنه ملزم بظاهر الشرع، ولا يتدخل في الغيب الذي يخص الله، فهو وحده يعلم كيف تكون نهاية الذين نجدهم اليوم كافرين وعلام يموت الذين نجدهم اليوم مسلمين.إن شرعنا يأمركم أن تهتموا أولاً بالذي يكلّمكم، أما الذي يأتي متأخرًا

Page 224

الجزء الثامن ۲۲۰ سورة عبس فلا بد أن ينتظر حتى يأتي دوره للكلام.وقد عمل رسولنا بحكمنا هذا، ولا علم عنده بالغيب حتى يخبر مَن ذا الذي تنفعه الدعوة إلى الإسلام، ومن الذي لن تنفعه بل مي مضيعة للوقت.لقد أتى على بلال وقت كان فيه هدفًا للتعذيب في سبيل رسول الله والإسلام، حيث كان يُطرح على الرمال المحرقة، ويُسحَب على الحجارة، ويقفز الصبيان على صدره العاري، ليرتد عن الإسلام، بينما كان عمره في تلك الأيام يخرج مخترطًا سيفه ومتحينًا الفرصة لقتل محمد لا لا لا أسد الغابة، والطبقات الكبرى، السيرة لابن هشام: إسلام عُمر).ولكن ما الذي حدث فيما بعد؟ لا شك أن بلال لقي عاقبة حسنى، ولكنه لم يبلغ درجة عمر عمر رضي الله عنهما.إذًا، فما كان محمد له أن يخالف عندها حكم الشرع لمجرد أن أحد الفريقين كان كافرا في ذلك الوقت والآخر مسلما؟ إنه لم يذر كيف يكون مصير هؤلاء الكافرين في الظاهر اليوم.وفي رواية أن العباس كان أحد هؤلاء الكافرين الحاضرين في المجلس (فتح البيان).ومعلوم للجميع أن ابن أم مكتوم لم يساو العباس درجةً الله عنهما، فالقوة التي نالها الإسلام بإسلام العباس وكثرة استشارة الخلفاء الراشدين إياه والعمل بمشورته لدليل ساطع على مكانته العظيمة.إذًا، لقد فنّد الله تعالى هذه التهمة بدليل عقلي أيضا حين قال وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزكى ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى).يَزَّكَّى رضی أما قوله تعالى أَمَّا مَن اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى فهو أيضا من قبيل الهزء والتهكم بالكافرين؛ حيث أعاد الله تعالى طعن الكافرين بأن محمدا يهتم بهم لمكانتهم اهتماما كبيرا ولا يهتم بالأعمى لفقره وبساطته.وكأنه تعالى قد قبل بصحة طعنهم في الظاهر على سبيل الإنكار ذلك كقول الشخص العادل لمن يطعن في عدله نعم أنا لا أعرف العدل! أنه يقصد أن نسبة عدم العدل إليه بحد ذاته دليل على زيف تهمته.فهذا هو المراد الرباني من ذكر هذا الاعتراض، إذ الله بعده دليلا عقليًا على بطلانه كما فعل من قبل، فقال وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا...أي أن هذا الطعن باطل بداهة وخلاف للعقل، لأنهم لو كانوا يعقلون ذكر مع

Page 225

الجزء الثامن ۲۲۱ سورة عبس لعلموا أن أمر هداية هؤلاء الكافرين الذين حضروا مجلسك أو عدم اهتدائهم ليس في يدك ولا من مسؤوليتك.إذًا، فكأن الله تعالى قال لرسوله في الآيات السابقة إنك لا تعلم ما إذا كان ابن أم مكتوم سيموت على الهدى أم لا، أما في هذه الآية فبين لرسوله أنك لن تُسأل عن عدم اهتداء هؤلاء الكافرين.إذا ، فأين مصلحتك في عدم اهتمامك بابن أم مكتوم، وفي اهتمامك بالكافرين؟ كلا؛ ليس في إعراضك عنه واهتمامك بهم مصلحة شخصية لك؛ وبالتالي ينبغي أن يدرك كل عاقل أن هناك غرضا آخر لما حصل، ألا هو ما قد بيناه من قبل ؛ أعني ضرورة العمل بظاهر أحكام الشرع.أما قوله تعالى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى..فهو أيضا من قول الكافرين الطاعنين بالرسول ﷺ، وقد جاء أيضا على سبيل الهزء والتهكم، والمراد إنكاره وتفنيده في الحقيقة والدليل الساطع القطعي على صحة موقفي هو قول الله تعالى إثر ذلك كَلَّا إِنَّهَا تَذْكرَةٌ...أي أن ما قيل من قبل باطل تماما.والواضح أن ما قيل من قبل هو طعنُ الأعداء بالرسول بأنه قد تصرف مع الأعمى بسوء الخلق، إذ أعرض عنه مهتما بالأغنياء.إذا ، أفليس غريبا أن نأخذ بالرأي الذي قد فنده الله تعالى بنفسه؟ فإن كلمة ( كلا) قد أكدت أن كل المطاعن السابقة باطلة.فثبت من هنا أن كل ما ذكر الله تعالى من قبل - بما فيه الطعن في الرسول - إنما ذكره على سبيل الهزء والتهكم؛ فصدقه في الظاهر وفنده في الواقع، كما هو مفهوم الأسلوب التهكمي.فمن المعروف أن (كلا) تأتي للاستنكار الشديد للمذكور من قبل، فقد ورد في كليات أبي البقاء: قال عمر بن عبد الله: إذا سمعت الله يقول: كلا، فإنما يقول: كذبت" الكليات فصل (الكاف).فثبت أن المراد من قول الله تعالى كَلَّا إِنَّهَا تَذكرَةٌ أن المطاعن المذكورة من قبل كلها باطلة، بدليل أن القرآن كتاب موعظة، ومن واجب محمد رسول الله أن يقرأه على الكافر وعلى المؤمن أيضًا، فإذا قرأه على الكافرين فلا يحق للمؤمن أن يتدخل ويقاطع حديثه، تماما في عدم رده على سؤال هذا المؤمن.فمحمد مصيب

Page 226

الجزء الثامن ۲۲۲ سورة عبس وورد في مغني اللبيب عن كلمة (كلا) : "هي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج لها وأكثر البصريين حرفٌ معناه الردع والزجر"، لا معنی عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون أبدًا الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت (كلا) في سورة فاحكم بأنها مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد.وأكثر ما نزل ذلك بمكة، لأن أكثر العُتُوِّ كان بها.(مغنى اللبيب: الباب الأول في تفسير المفردات، حرف الكاف وقد اعترض صاحب "المغني" على ذلك قائلا فيه نظر إذ لا يظهر معنى الزجر في كلا الواردة في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي * خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكْبَكَ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين".(المرجع السابق).ولكن اعتراضه باطل ،بداهة لأن الكلمات القرآنية نفسها تؤكد أن (كلا) جاءت هنا لتفند اعتراضا، إذ قيل إثرها فورا بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين، مما يدل على أنه تعالى يردّ هنا على منكري يوم الجزاء.فكيف يقال أن ( كلا) لا تفيد هنا الوعيد والتهديد بل تفيد الاتفاق والوداد والوعد ؟! إذا، فإن كبار النحويين واللغويين يرون أن لفظ (كلا) يأتي لتفنيد المنكرين والمخالفين ويتضمن معنى التهديد والوعيد، فثبت بقوله تعالى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أن الله تعالى لا يصدق هنا التهم الواردة في الجمل السابقة، إنما يفند أقاويل أعداء الإسلام.لو كان الله تعالى يريد تصديق هذه التهم، لما قال بعدها: كلا، بل قال إن هذه التهم كلها صحيحة.وحيث إن الله تعالى ذكر هذه الأمور أولاً ثم أتبعها بقوله كلا ، فثبت أنها تُهم رمى بها الأعداء النبي بغير حق، وقد ذكرها الله تعالى في وحيه على سبيل الهزء والتهكم مبينًا أن هذا ما تقولون عن ،رسولنا، لكنه قول باطل، لأن رسولنا بريء مما تقولون.

Page 227

الجزء الثامن ۲۲۳ سورة عبس * فِي صُحُفِ مُكَرَّمَةٍ (ج) مَّرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (3) بِأَيْدِى سَرَةٍ (3) ١٤ 17 كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) ۱۷ شرح الكلمات: مُكَرَّمَة : كرَّمه : عظمه ونزهه.(الأقرب) فقوله تعالى: مُكَرَّمة يعني ) معظمة ومنزهة عن كل نقص.مرفوعة : رفَعه رَفْعًا ضدُّ وضَعه.ورفعه إلى السلطان رفعانًا: قرَّبه.(الأقرب) مُطهَّرة: طهَّره أي جعله طاهراً.(الأقرب) سَفَرة: جمع سافر، ومعناه المسافر.قيل: لم يُرَ له فعل؛ والسافِرُ أيضًا الكاتب.(الأقرب) كرام جمع كريم والكريم ذو الكرم؛ قيل : الكريم قد يُطلق على الجواد الكثير النفع؛ وقد يطلق من كل شيء على أحسنه.والكريم من كل قوم ما يجمع وقيل: الكريم من يوصل النفع بلا عوض.فالكرم هو إفادة ما ينبغي لا لِعِوَضِ فضائله.(الأقرب).بَرَرَة : جمعُ بَرٌ وبارٌ.وبَرَّ والده: أحسن الطاعة إليه، ورفق به وتَحرّى مَحابَّه وتَوقّى مكارهه.(الأقرب) التفسير : لقد وصف الله تعالى القرآن بكلمة صُحف، لا بكلمة (صحيفة)، وهذا في الواقع إشارة إلى شتى سور القرآن الكريم التي أنزلها الله تعالى بحسب حكمته منجمة متفرقة.يظن البعض أن الله تعالى قد جمع هذه القطع المختلفة دونما حكمة، ولكن القرآن الكريم لا يسلّم بنزولها مفرّقة فحسب، بل بوجودها المنفصل أيضًا، معتبرا كل سورة صحيفة مستقلة.وكأن الله تعالى قد أشار باستخدام كلمة صحف أن كل سورة قرآنية تشتمل على موضوع منفصل مستقل، وإلا فلا يمكن أن تُسمّى صحيفة.

Page 228

٢٢٤ سورة عبس الجزء الثامن كما أشار الله تعالى باستخدام كلمة صُحف إلى حقيقة أخرى مذكورة في قوله تعالى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (الأعلى:١٩- ٢٠)..حيث بين أنه تعالى قد جمع في القرآن كل ما كان في الصحف السابقة من أسمى التعاليم الأخلاقية والروحانية التي تتفق مع الفطرة الإنسانية.فرغم أن القرآن كتاب واحد، ولكنه يجمع صحف الأنبياء جميعًا، ولذلك وُصف بالصحف بدلا من الصحيفة.العليا أيضا صُحُفا وقد سُمّي كتاب موسى في هذه الآية من سورة "الأعلى" لاحتوائه على تعاليم الأنبياء السابقين كلهم.وسُميت صحيفة إبراهيم العلة صُحُفا لاشتمالها على صحف نوح وبعض الأنبياء الآخرين، وقد سمى القرآن أيضا صُحُفًا لأنه قد حوى تعاليم كافة الأنبياء المبعوثين من آدم حتى رسول الله عليهم السلام، تعليم تحتاج إليه الإنسانية إلا قد ذكره القرآن الكريم.فكما أن النبي خاتم الأنبياء إذ جمع في وجوده محاسن الأنبياء السابقين جميعا، كذلك سمي صُحُفًا، لأنه قد جُمعت فيه صحف الأنبياء السابقين كلهم.والواقع أنه ما من نبي فما من كتابه بعث في الدنيا إلا وجاء معه بصحيفة، ولكن هذا لا يعني أن كل نبي جاء بشريعة جديدة وأحكام جديدة، بل المراد من الصحيفة هنا رسالة حقة ملائمة لعصرها، ولذلك يذكر القرآن صحف إبراهيم العلا أيضًا، مع أنه لم يأت بشريعة جديدة، بل كان تابعا لنوح ال، كما قال الله تعالى (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (الصافات: ٨٤).عندما بعث آدم أتى بصحيفة، ولما بعث نوح بعده أتى بصحيفة، فقد صارت هنالك صحيفتان، وكلما أتى الأنبياء بعدهما حملوا معهم تعاليم الأنبياء السابقين أيضا، حتى بعث النبي الا الله الذي أعطي كتابًا احتوى على صحف الأنبياء السابقين كلهم، ولذلك وصف القرآن بأنه في صُحُف مُكَرَّمة.وهذا الأمر يماثل الحقيقة المذكورة في قوله تعالى ﴿وَإذَا الرُّسُلُ أُقتَتْ) (المرسلات: ١٢)، حيث أشير فيه إلى بعثة المسيح الموعود.فمع أن هذا المبعوث رسول واحد، لكنه سُمّي رُسُلاً، ذلك لأنّ دعوته تتضمّن رسالات الأنبياء السابقين جميعًا، ولأنه كان ظلاً وبُروزًا لكل نبي سابق.وقد أشير إلى هذا الأمر نفسه في إلهام وصف الله تعالى فيه

Page 229

الجزء الثامن ۲۲۵ سورة عبس المسيح الموعود بقوله: "جَرِيُّ الله في حُلَلِ الأنبياء" (براهين أحمدية، الخزائن الروحانية ج ١ ص ٦٠١)..أي قد جاء إلى الدنيا بَطَلَ الله في ثياب الأنبياء جميعًا.كذلك ليس القرآن صحيفة واحدة، بل هو مجموعة كافة التعاليم التي جاء بها الأنبياء السابقون، بالإضافة إلى التعاليم الإضافية التي قد نزلت على نبينا ، ولذلك وصفه الله تعالى بقوله في صُحف مُكَرَّمَة مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة ).وهذه الآيات رسم رائع لترتيب القرآن الكريم، حيث ذكر الله تعالى ثلاث صفات للقرآن الكريم كالآتي: (مكرمة ومرفوعة ومطهرة، ثم ذكر إزاءها ثلاث خصال للذين سيكونون حَمَلةَ القرآن كالآتي: (سفرة وكرام وبررة).والصفة الأولى المذكورة هنا للقرآن هى مُكرَّمة، ومعناها معظمة ومنزهة عن كل نقص وخطأ..أي أن القرآن كتاب معظم وسوف تُرسى عظمته في الدنيا.وهنا ينشأ سؤال وهو من البديهي أن المؤمنين بأي كتاب سماوي في العالم يُعظمونه بقلوبهم ،ويحترمونه وإن كان بعض الصحف يلقى من أهله تعظيمًا أكثر مما يلقاه غيره.وحيث إن كل كتاب سماوي يلقى التعظيم من قبل أهله، فلماذا، يا ترى، وصف القرآن بوجه خاص أنه في صُحُف مُكَرَّمة ؟ والجواب أن هذا إشارة أن هذا الكتاب سيلقى تعظيمًا أكثر من أي كتاب سماوي آخر ؛ ذلك لأن الصحيفة التي تحظى بالتكريم سلفًا إذا وُصفت بأنها مكرَّمة، فإنما يعني ذلك أنها ستلقى تعظيمًا أكثر من الكتب الأخرى.وبالفعل لا نجد في العالم كتابا يلقى من التكريم ما يحظى به القرآن الكريم.إنه يُحفظ عن ظهر قلب، ويُقرأ في الصلوات، ويوجد في الدنيا قوم يعملون به.أما الكتب الأخرى فلن تجد في الدنيا قومًا يعملون بكتاب واحد منها؛ فمثلاً لن تجد قومًا يعملون بالفيدا أو بالتوراة إلا ما شذ وندر، ثم إن هؤلاء أيضا لا يعملون به إلا قليلا أعني أنهم يعملون ببعضه، ولا يعملون ببعضه الآخر.أما الإنجيل فقد قُضِيَ عليه تماما من الناحية العملية؛ فقبل أيام قد أفتى القساوسة في إنجلترا - خلافا لتعليم الإنجيل - أنه يمكن للنساء حضور الكنائس حاسرات الرأس، فتصدى لهم داعيتنا هناك الأستاذ جلال الدين شمس وقال لهم: ما هذه الفتوى التي

Page 230

الجزء الثامن من ٢٢٦ سورة عبس أصدرتموها؟ فإن إنجيلكم يعلّم عكس ذلك ! ولكنهم لم يجيبوه بشيء.والأدهى ذلك أن المسيحيين قد اعتبروا الشرع لعنة رسالة بولس إلى أهل غلاطية ٣: ۱۲)، وإذا كان الشرع لعنة عندهم فكيف ترغب قلوبهم في العمل به يا ترى؟ فثبت أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يطبق حتى في هذا العصر الذي هو زمن ضعف الإسلام فمهما قلنا عن المسلمين غير الأحمديين، إلا أنه لا يسعنا إنكار أن الملايين منهم يحبون من الصميم أن يعملوا بالقرآن الكريم.ومهما بلغ أحدهم من الضعف عمليا، إلا أنه لا تزال في فؤاده رغبة للعمل بالقرآن الكريم والفوز برضا الله تعالى.هذا ما يتميز به القرآن زمن انحطاط المسلمين، أما في الزمن الذي كان القرآن حاكمًا على قلوبهم فحدث ولا حرج عن مدى تمسكهم به؛ حيث حكم القرآنُ كلَّ شُعبة من شُعَب حياتهم بما لا مثيل له.والمعنى الثاني لقوله تعالى مُكَرَّمَة..هو منزهة عن كل خطأ وعيب.وقد الله تحلى القرآن بهذه الميزة بمنتهى الروعة والكمال، إذ لا يوجد فيه سوى وحي الخالص، حتى إن وضع أي قول الرسول الله له في القرآن مرفوض.فمثلا لو كان هناك حديث ورد في الصحاح الستة كلها، وقد اتفق على صحته المحدثون جميعًا، فأيضا إدراجه في القرآن مستحيل.إذًا، فقد جعل الله تعالى القرآن منزها عن كل ما لم يكن من كلامه له بحيث إن ألد أعداء الإسلام أيضًا لا يجدون مناصا من ؛ الاعتراف بأن القرآن منزّه عن أيّ عبث وتلاعب من قبل الناس.فها هو "وليام موير العدو اللدود للإسلام الذي قد أكثر الطعن في القرآن، لم يجد بدا من الاعتراف فيما يتعلق بقضية حفظ القرآن من التحريف بأن القرآن الموجود بين أيدينا اليوم هو نفس ما كان عليه قبل ثلاثة عشر قرنا ونصف القرن.لقد اعترف 11 جاء في العهد الجديد: "كَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُل، لا بضَفَائِرَ أَوْ ذَهَب أَوْ لاَلىَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَة الثَّمَن بَلْ كَمَا يَليقُ بنسَاء مُتَعَاهَدَات بتَقْوَى الله بِأَعْمَالَ صَالِحَةِ.لِتَتَعَلَّم الْمَرْأَةُ بِسُكُوت فِي كُلِّ خَضوع، وَلَكِنَّ لَسْتُ أَذَنُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعَلِّمَ وَلَا تَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّجُلِ، بَلْ تَكُونُ فِي سُكُوتِ رِسَالَهُ بُولُسَ الأُولَى إِلَى تِيمُوثَاوُسَ ۲ : ۹-۱۲)

Page 231

الجزء الثامن ۲۲۷ سورة عبس بذلك في أحد كتبه بعد تسجيل مزاعم القسيسين عن تحريف القرآن الكريم، حيث فند جميع أقوالهم بالأدلة الدامغة، معترفا بأننا نستطيع القول جزمًا إن القرآن الموجود اليوم هو نفس ما قدمه محمد إلى العالم.وقد اعترف المستشرق الألماني الشهير "نولدكه" أيضًا بهذه الميزة القرآنية، وقد قال إن من المحال القول إن القرآن تعرّض للتحريف بأيدي البشر.علما أن "نولدكه" أيضًا من أعداء الإسلام، ولكنه أكثر المستشرقين فحصا وتحقيقا، وقد وجدته يصيب كبد الحقيقة بشكل مذهل أحيانًا ويبدو أنه قد تدبّر في القرآن وفَحَصه بصدق، ولذلك كتب: لا أقبل أبدًا أن شيئًا قد أُضيف إلى القرآن فيما بعد كلا، بل إنه لا يزال حتى اليوم منزهًا عن عبث الناس كما كان في عهد محمد.وقال قولوا إن شئتم إن القرآن من افتراء محمد، ولكن من المحال أن تقولوا إنه قد حُرِّف فيما بعد كلا، بل إنه هو هو كما كان في عهد محمد.إذًا، فالقرآن الكريم صُحف مكرَّمة، أي منزهة أيضًا عن أي خطأ لفظي أو معنوي، ولا يُباريه في هذه الميزة أي من الصحف السماوية.يقول وليام موير ما نصه: "We hold the Cur'an to be as surely Mahomet's word, as the Mahometans hold it to be the word of God." ويقول أيضًا: ويضيف قائلا: "What we have, though possibly created by himself, is still his own." "We may upon the strongest presumption affirm that every verse in the Qur'an is genuine and unaltered composition of Muhammad himself".(Life Of Muhammed: by Sir William Muir p.562-563) ونص ما قاله المستشرق الألماني نولدكه هو كالآتي: "Slight clerical errors there may have been, but the Koran of Othman contains none but genuine elements- though sometimes in a very strange order.All efforts of European scholars to prove the existence of later interpolations in the Koran have failed." (الموسوعة البريطانية، المجلد ١٥ تحت : Koran)

Page 232

الجزء الثامن ۲۲۸ سورة عبس أما الخصال الحميدة التي وُصف بها حَمَلة القرآن هنا إزاء هذه المزايا القرآنية فأُولاها أنهم سَفَرَة.فكأن الله تعالى قد ذكر صفة سفرة إزاء الميزة القرآنية مُكرَّمة ليبيّن أن هؤلاء السفرة سيكونون سببًا لعظمة القرآن.والسَفَرة معناها المسافرون أو الكاتبون ومعنى "المسافرون" إشارة إلى سرعة انتشار القرآن في العالم، إذ سيوضع في أيدي قوم مسافرين، بمعنى أن المسلمين سيخرجون في العالم حاملين القرآن بأيديهم فينشرون تعاليمه في شتى أنحاء المعمورة.ويكشف لنا التاريخ أنه بعد وفاة النبي الله فوراً خرج بعض الصحابة إلى فارس، وبعضهم إلى أفغانستان، وبعضهم إلى الصين، وبعضهم إلى شتى الجزر، وهكذا قد انتشر الإسلام في حياتهم إلى أقاصي الصين من جهة، وإلى الجزائر من جهة أخرى..أي قد انتشر القرآن وتعاليمه في العالم المعروف يومئذ في حياة الصحابة وبأيديهم، حتى إن أهل بعض تلك البقاع يدعون أن المصاحف التي أتى بها الصحابة إليهم لا تزال محفوظة عندهم (http://www.quran.org.uk/jeb quran manuscripts.htm).ولذلك قال الله تعالى بأَيْدي سَفَرَة..أي أن هذا القرآن سيوضع بأيدي قوم يُكثرون من السفر، وبالتالي يعملون على نشر القرآن في مختلف الأقطار.ومن معاني (سَفَرة): كتبة، فقوله تعالى بأَيْدي سَفَرَة إشارة إلى أن هذا القرآن سيوضع في أيدي قوم ،كاتبين فلا يحفظونه عن ظهر قلب فحسب، بل بالكتابة أيضًا دونما تأخير.فهذه الآية دليل على أن القرآن الكريم قد صار محفوظا بصورة كتاب في زمن الصحابة.يطعن العدو أن القرآن قد كُتب لاحقا، ولكن الله تعالى يعلن هنا أننا سنضع هذا القرآن بأيدي ،سفرة أي بأيدي قوم يكتبونه فورا، غير مكتفين بتلاوته بألسنتهم فقط.إن النصارى يطعنون دائما بالقرآن بأنه قد كُتب بعد زمن بعيد، أن الثابت مع تاريخيًا عن كتابهم الإنجيل أنه قد دُوّن بعد انقضاء مئة وثمانين سنة، كما أن التعاليم المنسوبة إلى الية قد كتبت بعده أيضا بزمن طويل، أما القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد الذي كان يُحفظ عن ظهر قلب من جهة، كما أنه قد وضع في موسی

Page 233

الجزء الثامن ۲۲۹ سورة عبس أيدي سفرة، أي قوم كاتبين كتبوه أولاً بأول والثابت تاريخيا أن كل القرآن الكريم كان قد كُتب في حياة الصحابة أنفسهم.كما أن قوله تعالى بأَيْدي سَفَرَة) إشارة إلى إرساء عظمة القرآن وتكريمه في العالم كله ذلك أن التعليم الذي يظل محفوظا في قطر واحد فقط لا يبلغ شأوَ عظمة التعليم الذي ينتشر في الدنيا كلها؛ فحيث إن القرآن الكريم في أيدي قوم مسافرين فينتشر تعظيمه وتُرسى عظمته في العالم كله، ولن ينحسر في قطر واحد.ثم إن كلمة (سفرة) لا تشير إلى الكتابة وحدها بل إن جذر هذه الكلمة (س ر) ينطوي على معاني الكشف والإظهار أيضًا، فقوله تعالى بأَيْدي سَفَرَة إشارة أيضًا إلى أن كُتاب القرآن سوف يكشفون مفاهيمه ويوضحون غوامضه أيضا..أي أنهم سيكتبون تفسيره لبيان حقائقه وإظهار معارفه، وهكذا لن يعود القرآن محفوظا عن التحريف اللفظي فحسب، بل عن التحريف المعنوي أيضًا.كلمة (سفرة) إزاء (مكرمة) إشارة إلى أن الذين سيؤمنون بالقرآن وإن ورود سيعظمونه تعظيما كبيرا، بل سينتشرون في العالم ويجعلون أهله يعظمونه.ثم إنهم يعملون على حماية القرآن وحفظه كتابة مما يزيد القرآن تعظيما وتكريما.لقد بينتُ أن أعداء الإسلام كأمثال وليام" "موير ونولدكه أيضًا قد اضطروا للاعتراف بحفظ القرآن من التحريف تماما، مما يؤكد أن كتابة القرآن قد زادته تعظيما حتى لم يملك العدو إلا الاعتراف بهذا الجانب عظمته.ثم إن بيان المعارف القرآنية أيضا زاد في عظمة القرآن كثيرا جدا، إذ كان من من الله العوامل التي أدت إلى حفظه المعنوي علاوة على حفظه الظاهري، حيث وضع تعالى القرآن الكريم في أيدي قوم يكشفون غموضه ويبينون مقاصده.وهذا الأمر يتضمن الإشارة أيضا إلى أن لغة القرآن ستنتشر في العالم وتبقى حيةً، ولن يعاني الناس في بيان مفاهيم القرآن الكريم.ه يقال: "سفرت الريحُ الغيم عن وجه السماء كشطته.وسفرت المرأة: كشفت عن وجهها.وفي الكليات السفر كشفُ الظاهر ، ومنه السفير لأنه يكشف مراد المتخاصمين".(الأقرب)

Page 234

الجزء الثامن ۲۳۰ سورة عبس يتمتع مكان والصفة الثانية التي وصف الله بها صحف القرآن هنا أنها مرفوعة ، رفوعة ، والصفة الثانية التي وصف بها الصحابة إزاء هذه الصفة القرآنية هي أنهم كرام.والمرفوعة تعني المعظمة، وهذه الصفة توجد في القرآن الكريم في الظاهر أيضا، حيث تجد المسلمين لا يضعون القرآن إلا في مكان مرتفع، بل إذا لم يضعه أحد في مكان عال يخاصمونه متهمين إياه بإهانة القرآن فثبت أن هذه الصفة توجد في القرآن في الظاهر أيضًا؛ إذ لا توجد في الدنيا أمة عالمية تعظم كتابها السماوي كما يعظم المسلمون القرآن الكريم.والحق أنه لا توجد أمة عالمية تضع كتابها المقدس في مرفوع؛ فمثلا لا يضع النصارى إنجيلهم ولا اليهود توراتهم في مكان مرتفع، إنما بهذا الشرف العظيم القرآن الكريم فقط، حيث يحتفظ به المسلمون في مكان مرتفع، ولا يحتملون وضعه في مكان منخفض.لقد بينتُ من قبل أن الله تعالى قد ذكر إزاء الصفات الثلاث للقرآن ثلاث صفات حَمَلَته، وذلك للإشارة إلى أن بين القرآن وبين حملته علاقة قوية وكأنها علاقة اللازم والملزوم.وبالفعل ترى أن صحف القرآن أصبحت مكرمة، لكونها قد وضعت بأيدي ،سفرة، أي بأيدي مسافرين خرجوا بالقرآن إلى شتى الأقطار.ثم أصبح هؤلاء السفرة مكرَّمين، لأنهم حملوا في أيديهم كتابا كانت فيه صحف مكرمة فثبت أن أحد الأمرين كان نتيجة حتمية للآخر.فإن المرء لا لأن يتحمس يخرج إلى العالم حاملا شيئا ما ، إلا إذا كان يعتبره مكرَّمًا معظمًا، وكان على يقين أن نشره سيؤدي إلى عزته هو، فهو عندما يقوم بنشره فالنتيجة الحتمية أنه نفسه ينال التكريم ؛ إذ نشر شيئا ذا شرف.إذًا، لقد أصبح القرآن مكرّماً بسبب هؤلاء السفرة، ونال هؤلاء السفرة التكريم بسبب القرآن.لقد أدى القرآن إلى عزّ المسلمين وتسبّب المسلمون في زيادة شرف القرآن.إن مثل القرآن والصحابة كمثل الآلة التي تدور فكان القرآن يرفع الصحابة من جهة، وكان الصحابة يرفعونه من جهة وكان الصحابة يعظمون القرآن من ناحية، وكان القرآن يشرفهم من ناحية أخرى.

Page 235

الجزء الثامن ۲۳۱ سورة عبس هي والصفة الثانية لصحف القرآن هنا هي مرفوعة ، والصفة الثانية للصحابة هنا كرام والبديهي أن الذي بيده شيء رفيع، لا بد أن يصبح من الكرام ذوي الرفعة، ومن الناحية الأخرى فإن الشيء الذي يُعزّه الكرام لا بد أن يكون ذا شأن ورفعة، فإنك ترى في الدنيا أن الشخص الكريم إذا أعزّ شخصا قال الناس: هذا إنسان معزز لأن ذلك الشخص الكريم يعزه أيضًا، وهكذا يضطرون لتكريمه وإعزازه؛ وإذا أكرم هذا الشخص الآخرين ذاع صيته بين القوم بأن فلانا من الشرفاء فهذان الأمران كما قلتُ كسلسلة جهاز تدور على الدوام.إن الذين لا يعرفون محاسن شيء لا يتأثرون به إلا إذا رأوا شخصا كريما يعظمه ويثني عليه، فيبدءون في تقديره وتعظيمه.فمثلا إن الذين يؤمنون بالقرآن يعظمونه تلقائيا، ولكن من أكبر الدلائل على عظمة القرآن عند المسيحيين أن ملك الروم كان مدركا لعظمة القرآن حيث قال: أي شك في عظمة كتاب يؤمن به شخص عظيم أن كعُمَرَ (ه)؟! والواقع أن عمر لم يصبح عظيمًا إلا نتيجة عمله بالقرآن الكريم.وهذا يعني ملك الروم يعترف بعظمة القرآن لأن شخصا عظيما كعُمَرَ له يؤمن به، أما من يعرف حقيقة عُمَر الله فيقول: إن القرآن كتاب عظيم، لأن عمر قد حاز هذه المكانة العظيمة بإيمانه بالقرآن الكريم.باختصار إن من سنة الله تعالى أنه إذا اجتمعت حقيقتان فلا تفتأ إحداهما تدعم الأخرى، ولذلك وصف الله القرآن هنا بأنه في صحف مرفوعة معظمة.والدليل على ذلك أن المؤمنين به سينالون به العزة.وإذا نالوا العزة نال القرآن عزا أكثر، لأن الناس سيقولون: انظروا إن كبار الشرفاء يؤمنون به أيضًا.ثم تتكرر هذه العملية؛ لأن هذه العظمة الإضافية التي حظي بها القرآن الكريم ستحثّ مزيدًا من الناس على أن يختبروا بأنفسهم العمل بالقرآن فينالون العزّ؛ وبالتالي سيعترف مزيد من الناس بعظمة القرآن برؤية عظمة هؤلاء، وهلم جرا.فالقرآن يجعل الناس کراما، وهؤلاء الكرام يؤكدون كونه صحفًا مرفوعة.فكأن قول الله تعالى مكرّمة إشارة إلى العظمة الذاتية للقرآن الكريم، أما قوله تعالى مرفوعة

Page 236

الجزء الثامن ۲۳۲ سورة عبس فإشارة إلى أن القرآن سيجعل المسلمين كراما، فيجعلون القرآن صحفا مرفوعة بسبب حيث ينتشر المسلمون في العالم كله فينال القرآن رفعة جديدة..أي أنه كونه محبوبا للملوك الكرام يصبح مرفوعا في العالم كله حتى يضعه الجميع على الرأس والعين.والصفة الثالثة التي ذكرها الله تعالى هنا لصحف القرآن الكريم هي مطهرة.والصفة التي وصف الله بها الصحابة إزاءها هي بررة، ومفردها بَر، يقال بَرَّ والده..أي أحسن الطاعة إليه، ورفق به، وتحرَّى مَحابَّه، وتوفَّى مَكارهه (الأقرب).إذا فكلمة (بررة) تتضمن على إيجازها مفاهيم واسعة جدا، وتبين مزايا حَمَلة القرآن الكريم؛ إذ تعني أنهم سيطيعون القرآن طاعة كاملة، وينشئون معه علاقة وطيدة كاملة، ويسعون جاهدين لأن يتمسكوا بما يأمر به القرآن ويتجنبوا ما ينهى عنه.لقد أشار الله تعالى بوصف صحف القرآن مطهرة ووصف الصحابة بكونهم بررة إلى أن القرآن ليس فيه ما يتنافى مع الفطرة الإنسانية، بل هو متسم بما ينمّي الفطرة ،ويطوّرها، ومنزه عن كل ما يفسدها ،ويخربها، لذلك فالذين يكونون على صلة مع هذا الكتاب سيكونون مثله، حيث يعملون جاهدين بكل ما يأمر به وينتهون عن كل ما نهى عنه ؛ وهكذا يصبحون ،بررة أي متقين كاملي التقوى.أما إذا لم يبلغ الإنسان هذا المقام ولم يلتزم بالقرآن الكريم كل الالتزام، فلن يُعتبر من البررة، ولا من الذين يعتبرون القرآن صحفا ،مطهّرة، إذ لو أيقن المرء بأن القرآن مطهر يأمر بكل ما يشفي غليل الفطرة الإنسانية وينهى عن كل ما يمسخها، لسعى جاهدا للعمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه ولكنه إذا لم يفعل ذلك ثبت أنه لا يؤمن بكون القرآن ،مطهّرًا، ولا يريد أن يدخل زمرة البررة.والحق أن الله تعالى إنما جعل كلمة بررة إزاء مطهرة للإشارة إلى هذا الأمر الهام.فعندما الناس بررة بعملهم بالقرآن الكريم، فسوف يجعلون صحف القرآن مطهرةً مرة أخرى؛ ذلك لأن الإنسان إذا أصبح من البررة وعمل بالقرآن ونفّذ أحكام الله تعالى فلا بد أن تنزل عليه الفيوض الروحانية من عند الله تعالى، لأن من يصبح سنة الله

Page 237

الجزء الثامن ۲۳۳ سورة عبس تعالى أن يترل فيوضه على الإنسان إذا سارع في الخيرات وسعى للتقرب إليه سبحانه.وإذا نزلت الفيوض الإلهية على البررة نتيجة عملهم بالقرآن الكريم نسبوها إليه، مما يؤكد طهارة القرآن الكريم أكثر فأكثر.ومثاله أنه مما لا شك فيه أن القرآن كان مطهراً سلفًا، ولكن لما بعث المسيح الموعود ال أثبت طهارة لا القرآن الكريم أيما إثبات ولكن السؤال الذي ينشأ هنا: من الذي جعل المسيح الموعود من البررة؟ الجواب هو القرآن نفسه.فهذا يعني أن القرآن عمل على تطهير المسيح الموعود، والمسيح الموعود كشف الغطاء عن جوانب طهارة القرآن كان الناس قبل بعثة المسيح الموعود العلية يعزون إلى القرآن الكريم شتى الأخطاء، فأثبت حضرته العلية بطلان تلك العقائد الخاطئة والتعاليم الفاسدة.وهكذا جعل القرآن طهرا.وعندما جعله مطهّرًا فكان لزاما أن يزداد برا.إذا ، فالصفة الثالثة للقرآن الكريم أنه مطهر، والذين يعملون به يدخلون في البررة، وهؤلاء البررة يعملون على تطهير القرآن ثانية، فيزيدهم القرآن برا مرة أخرى، وتستمر هذه العملية بلا انتهاء.لقد ثبت مما سبق ذكره أن ظهور عظمة هذا الوحي ليس بحاجة إلى أسباب مادية، بل هي منوطة بصفاء القلوب وكأنما يبين الله تعالى هنا أن البررة سينتفعون من القرآن الكريم، أما من لم يكن من البررة فلن ينتفع منه، فلا يمكن القول إن فلانا كبير أو صغير أو أن فلانا من العلماء أو الجهلاء، إذ لا مجال هنا للشرف الظاهري ولا للعزة الظاهرية ولا للعلم الظاهر؛ إنما ينتشر القرآن ويزدهر بأيدي سفرة كرام بررة، سواء كانوا في الظاهر من كبار القوم أو من صغارهم، من أثريائهم أم فقرائهم.وبالفعل نرى أن الله تعالى قد وفّق لخدمة الإسلام أُناسًا كانوا من الأسر العريقة، وأيضًا أناسًا كانوا من الفقراء البسطاء؛ فكان علي وحمزة وعمر وعثمان رضي الله عنهم من أسر عريقة جدًّا، بينما كان زيد وبلال وسمرة وخباب وصهيب وعامر وعمار وأبو فكيهة – رضي ختير خدام القرآن من كبار القوم ومن صغارهم أيضا، ولذلك يقول الله تعالى إنه لباطل سؤالكم: من أين يأتي هؤلاء الخدام كما هو باطل تفكيركم أن فلانا فقط يصلح لخدمة الدين، وأن فلانا لا يصلح كلا، بل إن هذا الأمر يتوقف على تقوى الله عنهم - من من الطبقة الدنيا.إذا، فقد

Page 238

الجزء الثامن ٢٣٤ سورة عبس القلوب، لا بظاهر الحال، ولذلك نحن أنفسنا ننتخب هؤلاء الخدام.إن القرآن متسم بكل ما يجذب الناس إليه ومَن لم تجتذبه محاسن القرآن، فلا يستحق العزة الحقيقية في هذا العصر البتة.شرح الكلمات : قُتِلَ الْإِنسَنُ مَا أَكْرَهُ (3) قتل الإنسان : قَتَل الله الإنسان: لَعَنه.(الأقرب) ۱۸ التفسير: جاء قول الله تعالى: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ بالنظر إلى ما رسمته الآيات السابقة من محاسن القرآن رسما رائعًا، والمراد ما أشدَّ كفرانًا بنعم الله تعالى هذا الإنسان المعرض عن القرآن واللاهي عن أحكامه ذلك الكلام العظيم الذي فيه صحف مكرمة مرفوعة مطهّرة، وهو ليس كلامًا مقدسًا مطهّرًا فحسب، بل إن من مسه أصبح طاهرا، وكأنما هو كالحجر السحري الذي يُزعَم عنه أنه إذا لمس شيئا حوله ذهبًا، فهو ليس مكرَّماً فحسب بل الذين يعملون به يصبحون كراما، وهو ليس مطهَّرا فقط، بل من عمل به أصبح من الأبرار الأطهار.وما دام القرآن يبلغ هذه العظمة، فقُتلَ الإنسانُ ما أكفَرَه أي الويل لمن يعرض عن مثل هذا القرآن، لأن إعراضه دليل على شدة كفرانه بنعمة الله.فقد عُرض عليه القرآن وأُتيحت له الفرصة ليعمل بأحكامه ويدخل في زمرة قوم سفرة كرام بررة، ولكنه أعرض عنه.أما لو كانت محاسن القرآن لازمة - أي غير متعدية - لَحُقِّ للمرء أن يقول أنه لا يراها فيه، ولكن محاسن القرآن متعدية تسري إلى الذين يعملون به فما أشدَّ هذا الإنسان كفرًا بنعمة الله حيث مُنح فرصة التقدم والازدهار، ولكنه أعرض وهرب من هذا الوحي العظيم!

Page 239

الجزء الثامن ۲۳۵ سورة عبس مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (٥) مِن ۱۹ نُّطْرَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (٣) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) التفسير : أي هلا فكّر الإنسان من أي شيء خلقه الله تعالى! ولأي غاية عظمى أرسله إلى الدنيا ! يسعى بمنتهى إن من أروع أساليب القرآن أنه – من ناحية - يُبرهن على عظمته فيقول للإنسان في استغناء: إذا آمنت فنفسك تنفع، وإذا كفرت فنفسك تضر، ومن ناحية أخرى الحب واللطف ليعود بالإنسان إلى الصراط المستقيم، شأن الأم الرؤوم التي لا تتمالك نفسها من فورة عواطف الحب والرحمة لابنها الذي لا يطيعها، فتقول له في سخط ما لي ولك؟ لقد أمرتك بما فيه نفعك، ثم بعد وقت يسير تسترضيه وتدعوه لتناول الطعام وتسعى جاهدة ليطيعها بطريق آخر.كذلك يبدي الله تعالى هنا استغناء فيقول: قتل الإنسان ما أكفره إذ عرضنا عليه كتابا عظيما كالقرآن، ولكنه أعرض وتلكأ.ولكنه تعالى عاد فقال بعدها فورا: من أي شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَة ) ، وكأنه تعالى أخذ يلاطف الإنسان ليعود إليه حيث قال: ألم يفكر الإنسان كيف خلقه الله؟ خلقه من نطفة أي من قطرة حقيرة، ثم لم عنه بعد خلقه، بل قدره.وقال صاحب المفردات عن قوله تعالى فَقَدَّرَهُ : يتخلّ عنه إنه "إشارة إلى ما أوجده فيه بالقوة، فيظهر حالا فحالا إلى الوجود بالصورة.إذًا، فقوله تعالى خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني: أنه تعالى خلق الإنسان، ثم جعل فيه كفاءات وقدرات لا تزال تظهر عند الحاجة بحسب مقتضى الحال.وهذا إشارة إلى أن الله تعالى قد جعل للإنسان مجالا واسعًا للتقدم وللرقي.ثم يقول الله تعالى ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ...أي إذا كان الله تعالى قد جعل لرقي الإنسان مجالا واسعًا من ناحية فإنه من جهة أخرى قد أودعه كفاءات عالية لا تلبث أن تظهر عند الحاجة فلا تصعب عليه تقديم أي تضحية، بل يجد الأمر سهلا يسيرا.

Page 240

الجزء الثامن ٢٣٦ سورة عبس الواقع أن الله تعالى قد خلق الإنسان بحيث إنه إذا عقد العزم وصبر، سهل عليه كل شيء، واجتاز الصعاب الكبيرة بكل يسر مستخدمًا ما زوده الله تعالى من أنها فضل من كفاءات.أفضالنا؛ لأن يقول الناس إن العادة شيء سيئ، ولكن الله تعالى يبين الإنسان إذا اعتاد عملا لم يجد صعوبة في إنجازه لكثرة الممارسة، فثبت أن العادة شيء جميل، شريطة أن لا تكون في أمر قبيح.فمثلاً أداء الصلاة يشق كثيرا على الإنسان في البداية، ولكنه إذا واظب على أدائها لأيام اعتاد عليها، وأصبح أداؤها سهلا جدا.كذلك يجد المرء الصيام صعبًا في أول الأمر، ولكنه إذا اعتاده لم يجده صعبا.والحال ذاته بالنسبة إلى الصدقات والتبرعات وغيرها من أعمال الخير.لقد رأينا أن الذين يعتادون على إخراج الصدقة لا يجدون راحة إذا لم يخرجوها كل يوم ولو كانت قليلة.وكان من عادة العرب ألا يأكلوا إلا إذا أشركوا أحدا في طعامهم، وقد رسخت هذه العادة فيهم بمرور الأيام بحيث إنهم لم يستطيعوا تناول الطعام إذا لم يُحضروا أحدا على خوانهم، حتى إنهم كانوا يبحثون عمّن يشترك في الطعام.وإشارةً إلى أهمية العادة، يقول الله تعالى هنا ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ..أي هناك مجال واسع جدًّا للتضحية أمام الإنسان، وقد أودعنا فطرته أنه إذا شرع في القيام بعمل وجده صعبًا في البداية، ولكنه إذا واظب عليه وجده سهلا، ورغب فيه قلبه.فعندما يعمل المرء حسنة فإنه يرغب في ثانية ثم في ثالثة، ولولا العادة لشق عليه القيام بحسنة واحدة أيضًا، ولكنه يعتادها شيئا فشيئا، فلا يخافها، بل يجد وسهولة إنه يصلي فيعتاد على الصلاة، ثم يصوم فيعتاد على الصيام، ثم الصدقات فيعتادها، وهكذا لا يبرح يكتسب حسنة بعد حسنة، فيسهل عليه معهم فيها لذة يخرج • المضي قدما في الخيرات.ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (3) ۲۲ التفسير: أي أن من سنتنا أننا نتوفى الإنسان بعد ذلك.

Page 241

الجزء الثامن ۲۳۷ سورة عبس لقد اعتبر الله تعالى هنا الموت كإحدى مننه على الإنسان، لأن الحديث هنا عن مننه وإحساناته على الإنسان حيث قال من قبل مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، وبعدها قال ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ.وكأَنه تعالى يقول هنا: يواظب الإنسان على فعل الخيرات باستمرار حتى يأتي وقت نقول له فيه لقد تعبت من أجلنا كثيرا، فتعال نحيلك إلى التقاعد.إذا، فالموت هو بمنـ بمنزلة معاش التقاعد يتلقاه الإنسان من الله تعالى.الغريب أن الناس عندما ينالون معاش التقاعد من الدولة يشكرونها، ولكن إذا منحناهم معاش التقاعد أخذوا في البكاء لغباوتهم.ثم يقول الله تعالى فَأَقْبَرَهُ.والإقبار له ثلاثة معان: يقال أقبره: (١) جعل له قبرا يُدفن فيه؛ (۲) جعله ممن يُقبَر؛ (۳) أقبرَ القومَ : أَمر أن يُقبر قتيلهم (الأقرب).والمعنى الأول لا ينطبق هنا لأن كثيرا من الناس لا يُدفنون في القبور، كما لا ينطبق المعنى الثالث أيضًا، والمعنى الثاني هو الذي يطابق الآية في رأيي..أي أن الله تعالى جعل الإنسان ممن يُقبَر.والحق أن هذه الجملة جزء من الدليل السابق، ولكن مجرد دفنه في التراب لا يكون جزءا من هذا الدليل.وهو من أن هذا ولا شك في صحة المعنى الذي نفسر به نحن الأحمديين، هذه الجملة عادة، القبر المذكور هنا هو ما يكون فيه الإنسان في عالم البرزخ، ولكن يمكن للخصم أن يقول إنه مجرد ادعاء إذ لا نرى أن كل من يموت يدخل في قبر في العالم الثاني فكيف نقبل قولكم الذي لا يستند إلى دليل؟ وما دامت هذه الجملة جزءا من الدليل السابق، فلا بد أن نرى شيئا الإقبار في هذه الدنيا أيضًا، وليس سبيله إلا أن نفسرها بأن الله تعالى جعل الإنسان ممن يُقبَر..أي أنه تعالى جعل من فطرة الناس أن يدفنوا موتاهم في القبر.وإذا كان بعضهم يحرقون موتاهم ويجعلونهم ،رمادًا، فليس سببه أيضًا إلا لأنهم لا يحبون أن يلقوا جثثهم هكذا لتتعفن وتتآكل.وإذا كان البعض يُطعمون الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة جثث موتاهم، فهم أيضًا لا يفعلون ذلك إلا لأنهم يرون أن احترامهم للموتى يقتضي هذا فثبت أن احترام الموتى من فطرة الإنسان، وهذا هو

Page 242

الجزء الثامن ۲۳۸ سورة عبس - معنى قوله تعالى (فَأَقْبَرَهُ، أي لا أحد من الناس يتحمل إهانة موتاه.فبرغم أن الميت جثة هامدة إلا أن الفطرة الإنسانية لا تتحمل أن يُلقى الميت في العراء؛ بل إن كل إنسان - أيا كان دينه وملته يبدي له تكريما بأسلوبه الخاص.وهذا ما يميز الإنسان عن الحيوان، وإلا فليس هنالك فرق بين الاثنين في الأكل ولا في النوم ولا في الموت.إن الحيوانات تختلف عن الإنسان في أنها لا تدفن جثث موتاها، وليس بين الناس مَن يتصرف مع جثث موتاه بما لا يليق بتكريمها.وإن هذا الإعزاز والتعظيم الموجود في فطرة الإنسان تجاه الموتى لدليل على أن حياته لا تنتهي بالموت إذا كانت حياته قد انتهت بالموت، فما الحاجة لتكريم جثته؟ وأين التكريم أصلاً؟ والواقع أنه لا فرق لو أُلقيت جثته في العراء أو وُضعت في القبر.ولكن وجود عاطفة تكريم الميت في فطرة الإنسان لدليل على أن الحياة لا تنتهي بالموت وكأن الله تعالى يقول هنا : نُقدِّم أمامكم هذا الدليل الفطري؛ فإنكم لا تلقون جثث موتاكم في العراء محقرينها، بل ترون احترامها المناسب ضروريا، لماذا تتولد في قلوبكم فكرة احترام ،موتاكم إذا لم يكن هناك إمكانية للحياة بعد الموت؟ إن الموتى موتى في كل حال ولا فرق بالنسبة لهم سواء أحرقتموهم بالكهرباء، أو في حطب من النار ، أو وضعتم جثثهم في مكان معين لتأكلها النسور والحدآت لم لا تعاملون موتاكم كما تعامل الحيوانات الأخرى موتاها؟ فمثلاً عندما يموت كلب فلا يخطر ببال الكلاب الأخرى أن تعامله معاملة خاصة، وإنما يظل ملقى في العراء حتى تتعفن جثته وتتآكل.فلو كانت حياة الإنسان تنتهي بموته لرمى الناس موتاهم في العراء كالحيوانات ولكنهم لا يعاملون موتاهم هكذا، بل يكرمونها إكراما لائقا كلّ بطريقته.ولذلك يقول الله تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ..أي أننا نميت الإنسان ونخلق في قلوب أقاربه الإحساس بكرامته، فلا يلقون جثته ،هكذا، إذ يرون ذلك منافيًا لشرف الميت واحترامه.هكذا يقدم الله تعالى الدليل من الفطرة الإنسانية على الحياة بعد الموت، ويقول: ما دمتم تؤمنون بتكريم الإنسان حتى بعد موته، وترون إعزاز جثته ضروريا، فثبت أن في قلوبكم إحساسًا بالحياة بعد الموت، وإن كان هذا الإحساس ضعيفًا.بيد أن هذا الإحساس

Page 243

الجزء الثامن ۲۳۹ سورة عبس الضعيف يكفي لتوجيه أرواحكم إلى أمر هام ألا وهو السؤال عن سبب وجود عاطفة الاحترام في قلوبكم تجاه الميت.إن وجود هذه العاطفة الواضحة البارزة في قلوب الناس كافة وعدم تحمل أي إنسان الإساءة إلى جثة قريب له، لدليل ساطع بل لا بد له من حياة أخرى تبدأ بهذا الموت.ولذلك على أن الحياة لا تنتهي.يريد المرء ألا يقصر في تكريم صاحبه وهو يدخل باب الحياة الجديدة، بحجة أنه جثة بلا روح شرح الكلمات: ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ) أنشر الله الميت: أحياه.(الأقرب) 00 مع أن التفسير : أي كان ينبغي أن تدركوا من هذا أن الله تعالى سيحييكم إذا شاء، وإلا فإن عملية الخلق كلها تصبح لغوا وعبثًا.إذ كيف يمكن أن يقوم الله تعالى بهذه العملية الهائلة ولا يجعل فيها حكمة ولا غاية.إنه تعالى يخلق الإنسان من شيء حقير جدا، ثم لا يزال يطوّره حتى يُبلّغه أعلى الدرجات، ويزوّده قدرات هائلة تتجلى شيئًا فشيئًا بحسب ما تتاح له من فرص الرقي والتقدم.ثم إنه تعالى لم يزود الإنسان بكفاءات شتى ،فحسب بل جعله يعتاد على عمله ليقوم به ببشاشة ويسر ونشاط.ولكنه عندما يبلغ ذروة رقيه، تظنون أن روحه تدمر وتباد، المفروض أن ينال جزاءه بعد قيامه بهذه الأعمال البارزة بدلاً من أن تتعرض روحه للفناء الأبدي.ثم إن الله تعالى قد جعل في جبلتكم أنه إذا مات أحدكم تكرمونه وتعززونه، وتُخرجونه من بينكم بمنتهى التكريم والتعظيم..كل حسب طريقته، مما يدل بوضوح أنكم تؤمنون في قرارة نفوسكم أنه لا بد للإنسان من كرامة بعد موته أيضًا، وتوقنون أن حياته لم تنته بموته، بل هناك حياة أخرى تنتظره، وأن الله سيحييه إذا شاء.والغريب أنكم رغم إيمانكم بكل هذا تنكرون النتيجة النهائية أي الحياة بعد الموت.تعترفون أن خلق الإنسان لا يخلو من حكمة، بل إن تطوره من

Page 244

الجزء الثامن ٢٤٠ سورة عبس حالة أدنى إلى أعلى الدرجات، وتزوده بكفاءات واسعة للرقي، وتوفر مجال واسع لتقدمه، ثم انكشاف قدراته هذه عند الحاجة، ثم بشاشته ونشاطه في أعماله نتيجة اعتياده عليها، ثم احترامكم لموتاكم..كل ذلك دليل ساطع على أن هنالك نوعًا الحياة بعد الموت والغريب أنكم تقرّون بكل هذه الأمور، ثم تنكرون نتيجتها من المنطقية.كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (3) ٢٤ التفسير: أي أن الإنسان لم يُنفّذ بعد ما أمره الله تعالى.والحق أن قوله تعالى لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ إشارة إلى المعنى المذكور في قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، وقوله تعالى قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ..والمراد أنه كان لدى الإنسان فرصة القرب الإلهي وإصلاح عاقبته، ولكنه لم يؤدّ واجبه هذا بعد كان عنده فرصة ذهبية للترقيات الروحانية ومجال واسع للتقرب إلى الله تعالى ولكنه للأسف لم يؤد واجبه كما ينبغي.وهذا هو الموضوع الذي أركز عليه مرارا في هذه الأيام، وأنبه أفراد الجماعة إلى بذل كل ما في وسعهم لإيصال هذه الأمانة إلى أجيالهم التالية، حتى ييأس الشيطان للأبد، وتتلاشى إمكانية غلبة الكفر في الدنيا مرة أخرى.حتى اليوم ليس هناك أُمة ركزت على حماية أجيالها من هجمات الشيطان، ولو وُفقت جماعتنا لأداء هذا الواجب فسيكون عملا منقطع النظير.وهذا ما يؤكده الله تعالى في هذه الآية ويقول: من المؤسف أن الإنسان لَمّا يقض ما أمره، أي أنه لم يُنفّذ بعد أمر الله تعالى.لا شك أن الناس قد بذلوا جهودا كبيرة لإصلاح أنفسهم فردا فردا، ولكن حتى اليوم لم يهتم أحد بعد بالنهوض بالقوم كلهم والمضي بهم قدما باستمرار، بحيث لا يبقى لسقوطهم إمكانية ولا لإغواء الشيطان لهم مجال تأتي على أمة الرسول الله أدوار مختلفة، فعسى أن يأتي عليها دور يؤدى فيها هذا الواجب المذكور في قوله تعالى كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ.لقد الآن جهود فردية، وقد رأوا نتائجها أيضًا.لقد بذل الصحابة الجهود بذلت حتى

Page 245

الجزء الثامن ٢٤١ سورة عبس ثلاثين سنة، ولكن تطرق الضعف إلى أجيالهم وذرياتهم، فلم يستمر هذا الخير.والآن عندنا فرصة ذهبية لنبذل الجهود لأداء هذا الواجب حتى يقوم الإسلام في الدنيا على صعيد الأمة، بحيث لا يبقى هناك احتمال لسقوطه، وهذا عمل لم يتم من قبل أبدًا.لا شك أنه قد بذلت جهود فردية، ولكن لم تُبذل جهود لغلبة الإسلام على الصعيد الجماعي بحيث يظل الخير متتابعا متسلسلا في الأجيال.ولا يبقى هناك خطر تراجع الإسلام مرة أخرى.ويمكن أن يفسر قوله تعالى لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ بمعنى آخر، وهو أن الإنسان لم يتبوء بعد ذلك المقام العظيم الذي يمكن أن تحرزه القدرات الإنسانية، فلا بد من الاعتراف أنه لم يبعث بعد الشخص الموعود لكل الأديان الذي به يناط الوصول إلى آخر درجة من الرقى الإنساني، فلذا على الناس أن يهتموا بهذه النبوءة بجدية بدلا من أن يحتقروها.فَلْيَنظُرِ الْإِنسَنُ إِلَى طَعَامِهِ ۲۵ أنا صَبَيْنَا الْمَاءَ صَبَّا : ٢٦ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (ج) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ( وَعِنَبًا ۲۷ وَقَضْبًا ت وَزَيْتُونَا وَتَخَلاً : وَحَدَابِقَ غُلْبًا وَفَكَهَةً وَأَنَّا : متَعًا لَّكُمْ وَلا نعمكُمْ ۳۲ وَلِأَنْعَمكُم التفسير : أي يأمر الله تعالى الإنسان أن ينظر إلى طعامه ويفكر كيف أننا اهتممنا بتربيته الجسمانية اهتمامًا كبيرًا؛ لقد أنزلنا لأجله الماء أجله الأرض شقا، ثم أخرجنا منها حبوبا وعنبًا وقضبًا.من السماء، ثم شققنا من ورد في القاموس : القضبُ كلّ شجرة طالت وسبطت أغصانها؛ والقَتْ (الأقرب).والقَتُ: الفصفصة، وقيل: اليابسة (الأقرب).والفصفصة: نبات تعلُفه الدواب وهي

Page 246

٢٤٢ سورة عبس الجزء الثامن تسمى بذلك ما دامت رطبةً، فإذا جفت زال عنها اسم الفصفصة، وسُميت بالقت.حبُّها نحو الكرْسنَّة ، لكن فيه طول.(الأقرب) ثم أخبر الله تعالى أنه أنبت زيتونا ونخلاً وحدائق غُلُبا.والغُلب معناه: المتكاثفة الملتفّة أي تلتف أغصانها بعضها ببعض لكثرتها.ثم أخبر أنه أنبت فاكهة وعلفا.أما كلمة (أبا ) فهو : كلَّ ما تُنبت الأرض مما لا يأكله الناس ولا يزرعونه.(فتح البيان) وقوله تعالى مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ...أي خلقناها لفائدتكم ولفائدة أنعامكم.توجد في القرآن الكريم آيات تتشابه لفظا وهذه الآيات مثال لذلك.فقد بين الله هذا المعنى من قبل في سورة النازعات بأسلوب آخر في قوله تعالى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أم السَّمَاءُ بَنَاهَا ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَان وَالْأَرْضِ بَعْدَ ذَلكَ دَحَاهَا » أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْحِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ.أما في هذه السورة فقد عدد الله تعالى نعمه فقال فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامَه ) أَنَّا صَبَيْنَا الْمَاءَ صَبَّا ) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا هِ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبَّا * وَعَنَبًا وَقَضَبًا * وَزَيْتُونَا وَنَحْلًا ) وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةٌ وَأَبا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ.والفرق الوحيد أنه في سورة النازعات قد عدد الله النعم السماوية عمومًا، أي أنه ذكر النّعَم الأرضية، ولكن الهدف كان ذكر النظام السماوي، بينما هنا فإن التركيز على النظام الأرضي، وكأن سورة النازعات تشير الى النظام الأوسع الحاوي للسماوات والأرض، أما هذه السورة فتشير خاصة الى النظام الذي يتسبب في خروج النبات الأرض.لقد بين الله تعالى في سورة النازعات أنه كما لا بد للأرض من وجود السماء، إذ لا يقوم النظام الأرضي بدون النظام السماوي، كذلك لا بد لكم من رفعة سماوية.ولو ظننتم أنكم ستتمكنون من إقامة النظام الأرضي من دون الرفعة الروحانية، فأنتم مخطئون.فكما أن وجود الأرض بغير السماء عبث كذلك فإن النظام الجسماني من دون النظام الروحاني لغو وعبث.أما في هذه السورة فقد بين الله تعالى أن من الطبائع الإنسانية ما يتوافق مع القرآن الكريم، ومنها ما لا تتلاءم معه.فالطبائع المتلائمة مع القرآن من

Page 247

الجزء الثامن ٢٤٣ سورة عبس الكريم سوف تنجذب إليه تلقائيا، والأخرى لن تلتفت إليه.فسورة النازعات تتحدث عن موضوع مختلف عما تتحدث عنه هذه السورة، ففي تلك السورة ذكر الله السماء لإلقاء الضوء على ضرورة الوحي، أما في هذه السورة فركز على بيان أن بعض الطبائع متوافقة مع تعاليم القرآن وبعضها غير متوافقة، فالمتوافقة منها ستسارع إلى تصديق القرآن الكريم، وغير المنسجمة معه ستنفر منه.ثم ضرب الله تعالى لذلك مثلا فقال ترون أن الأرض تنبت الحبوب والعنب والشجر والزيتون والنخل والحدائق والفواكه والكلاً، فمنها ما يأكله الإنسان، ومنها ما يأكله الحيوان والحال نفسه للطبائع الإنسانية، فالتي تتلاءم مع القرآن الكريم سوف تأتي إليه، والتي تتفق مع الكفر سوف تذهب إليه.وكأن الطبائع بنفسها تخبر عن الشيء الذي يتفق مع مزاجها، فمثلا يتوجه إلى العنب الإنسان لا الجمل، أما شجرة السمر فيتوجه إليها الجمل لا الإنسان لا شك أن الإنسان لم يعمل بالقرآن الكريم بعد، ولكنه سيضطر للعمل به عندما يظهر نبات القرآن ويتجلى حسنه للعالم، فإن الطبائع المتوافقة معه ستسارع إليه.لا شك أن مثل هؤلاء قلة اليوم، ولكنهم سيدخلون في هذا الدين أفواجا حين ينكشف حسن القرآن على الناس.يوجد في الدنيا حبوب وعنب وزيتون ونخل وحدائق وفواكه وعشب وكلأ، فتتجهون أيها البشر إلى ما يتفق مع مزاجكم منها، وتتجه المواشي إلى ما يناسبها منها، كذلك فهي فإن الطبائع الصالحة ستتوجه إلى القرآن والطبائع الفاسدة ستتوجه إلى الكفر.واللافت للنظر أن معظم الأشياء المذكورة هنا هي مما يأكله الإنسان، وهي ستة أصناف (حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا ، وفاكهة، أما التي يأكلها الحيوان صنفان (قضبًا وأبا فقط، وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن الكريم سيجذب أكثر الناس، وأن الكفر لن يجذب إلا أقلهم.وهكذا بين الله تعالى أن الخطأ السؤالَ كيف يصبح الإسلام غالبًا؛ فإن الطبائع تسارع إلى الشيء المتوافق معها، فالطبائع المتلائمة مع القرآن الكريم ستتوجه إليه، شأن الإنسان الذي يتوجه إلى الحب والعنب والزيتون والنخل والحدائق والفواكه، وأما الطبائع المتوافقة مع الكفر، من

Page 248

الجزء الثامن ٢٤٤ سورة عبس فستتوجه إليه شأن النعم والدواب التي تتوجه إلى القضب والأب، لا إلى العنب والنخيل وغيرهما.فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاحَةُ : يَوْمَ يَرُ الْمَرَهُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِهِ ٣٤ ۳۵ (3) وَأَبِيهِ (5) وَصَحِبَتِهِ، وَبَنِيهِ (ج) لِكُلِّ أَمْرِي مِنْهُمْ يَوْمَبِدٍ ۳۷ شَأْنُ يُغْنِيهِ (3) شرح الكلمات : ۳۸ الصاخة: صح الصوتُ الأذنَ: أَصَمَّها الصاحةُ: صيحة تصمُّ لشدّتها؛ الداهية.- (الأقرب) التفسير: لا شك أن هذه الحالة تعتري الناس يوم القيامة، إلا أن دراسة حياة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين تكشف أن هذا الأمر قد وقع فعلا في حياتهم عند نزول القرآن الكريم، حيث ترك الوالد ابنه، والولد والده، والأم ابنتها، والبنت أُمَّها، والأخ أخاه، والحميم حميمه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها والقريب قريبه ليلتحق بالنبي ﷺ ويدخل في طاعته، ولم يبال بأي حبّ ولا قرابة دنيوية إزاء مرضاة الله ورسوله بل كان لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.لقد تفانوا في حب الإسلام والقرآن حتى نسوا الدنيا وعلائقها ومتعها تماما.وما أكثر الأمثلة على تضحيات الصحابة في التاريخ، وما أوضحها! وأذكر هنا مثالين منها فقط، وكنت قد ذكرتهما مرارا من قبل أسلم فتى كان الابن الوحيد لأبويه، فبدأ يضطهدانه بشتى الوسائل، إلى أن فصلا أوانيه ومنعاه من مؤاكلتهما، ولكنه لم يرض بترك الإسلام حتى اضطر للهجرة بعد فترة من مكة.وبعد انقضاء إلى مكة، فقابله أبواه بحفاوة بالغة.لقد ظنا أنه قد ارتد عن الإسلام، أنهما قد امتنعا عن عداء الإسلام في أثناء غيابه، ولذلك يبديان له الحب نادمين على ما فعلا به وبعد هنيهة قالا له يا بني ألم ننصحك من قبل أن لا مدة ر وظن هو

Page 249

من ٢٤٥ سورة عبس الجزء الثامن تذهب إلى هذا الصابئ؟ وكانا يقصدان بذلك الرسول ، وهكذا أكدا له نصحهما بأن إسلامه كان خطأ كبيرًا، وقد أحسن صنعًا إذ ارتد عنه الآن.فقام عندهما فورًا وقال يا أبت ويا أمّى أنتما والداي لا شك، ولكن محمدًا رسول الله له أحب إلي منكما كنتُ أظن أن قلبيكما قد لانا ندما على ما فعلتما، ولكن ظني قد خاب.إذا كنتما تريدان الاحتفاء بي بشرط أن أتخلى عن محمد ، فاعلما أن هذا مستحيل.إن محمدا لله وهو أبي وهو أمي الآن، ثم خرج من عندهما ولم يرهما بعد ذلك حتى الموت.ثم فكروا في حادث تلك المرأة من المدينة التي سمعت شائعة استشهاد الرسول ﷺ في غزوة أحد، فخرجت من بيتها كالمجنونة فلقيها المسلمون العائدون من ساحة القتال واحدًا تلو الآخر، فقال أوّلهم : قد استُشهد أبوك في الحرب، وقال الثاني: قد استشهد زوجك أيضًا، وقال الثالث : قد استُشهد أخوك..فكانت تقول في كل مرة: لا أسألكم عن أبي ولا عن زوجي ولا عن أخي، أخبروني ماذا فعل رسول الله فقالوا: إنه بخير بفضل الله تعالى، فقالت : إذا فكل مصيبة بعده جَلَلٌ..أي صغيرة.السيرة لابن هشام الجزء الأول، غزوة أحد باختصار، نرى في حياة الصحابة الكرام مشهدًا هو تحقيق لقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ لمَرْءُ مِنْ أَخيه ( وَأُمِّه وأبيه ) وَصَاحَبَته وَبَنيه ) لكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغنيه.ونجد إزاء ذلك نفس الحماس في الكافرين أيضًا، حيث كان الأخ يهاجم شقيقه المسلم في الحروب وكان الأب يسارع إلى قتل ابنه، وكان الأخ يتقدم لقتل أخيه، غير مكترث لقرابته وعلاقته به كأنهم ليسوا من جنس واحد.كان المؤمن يقول لا علاقة لي ولا شأن لي بكافر، وإنما صديقي من هو مؤمن، وكان الكافر يقول لا علاقة لي بالمؤمن، وإنما صديقي هو الكافر.إن علامة الصاخة هذه تتجلى عند ظهور الدين الحق.فلا يحتمل بعده أحد أي نوع من المداهنة أو النفاق، بل يتميز الكفر والإيمان بوضوح.ولكن لا توجد هذه العلامة المميزة في الدين الباطل، ولا في قوم يصبحون جزءا منه، ومثاله المسلمون الأحمديون غير المبايعين حيث يصلّون وراء المسلمين غير الأحمديين خلافا لتعاليم

Page 250

الجزء الثامن ٢٤٦ سورة عبس الصاحة، هو المسيح الموعود الل، ويتزاوجون معهم دونما تردُّد، مع أن صوت الله فإذا انطلق هذا الصوت فلا بد أن يترك الأخ أخاه والقريب قريبه لوجه الله تعالى.وُجُوهٌ يَوْمَبِدٍ مُسْرَةٌ : ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (ج) شرح الكلمات : مُسفرة مضيئة؛ مُشرقة، يقال : أسفر الصبحُ أضاء وأشرق.وأسفر وجهه: حسن وأشرق.(الأقرب) مستبشرة: استبشر : فرح وتلقى البشرى (اللسان).فالمستبشرة يعني أنهم يكونون فرحين، كما سيتلقون بشارات بمزيد من الفتح والغلبة والنصر.التفسير أي ما دام المؤمنون والكافرون فريقين مختلفين، فلا بد أن تكون معاملتنا أيضًا مختلفة.فالذين يؤمنون بوصايانا سنعطيهم جزاءهم، وأما الذين كفروا بها فنعذبهم، فيومئذ تكون بعض الوجوه مضيئة جميلة ضاحكة فرحة وتتلقى معهم البشارات.شرح وو وَوُجُوهٌ يَوْمَبِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا فَتَرَةُ : الكلمات : غبرة : الغبرة: الغبار.(الأقرب) تَرهَقهم: رهق فلانًا : غشيه ولحقه.(الأقرب) قترة: القترة: الغَبرة، وجمعها قَتَر.(الأقرب) ٤٢ التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنه سيُنفخ في الصور عند الله من من السماء حين يحين هذا التفريق بين الكفر والإسلام، فيصبح المؤمنون في طرف، والكافرون في طرف آخر؛ فريق يحبون بساتين الإيمان وينذرون أرواحهم في سبيل الله، وفريق يرضون بحشيش الكفر وكلئه..فريق من الإنس يتوجهون إلى العنب والنخيل، وفريق من الأنعام يتوجهون إلى الأعشاب.هذا هو الموضوع الذي بينه الله تعالى في

Page 251

٢٤٧ سورة عبس الجزء الثامن هذه الآيات يقول عز من قائل: هناك وجوه سيكون يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة..أي سيكون هذا الغبار على وجوههم في أول الأمر، ثم يغطي هذا الغبار أبدانهم كلها، شأن الذبيحة التي إذا أُلقيت على الأرض للذبح اغبر وجهها أولاً، ثم إذا ذُبحت واضطربت اغبر بدنها كله فكأن الله تعالى قد أشار هنا: أننا سنلقي هؤلاء الكفرة الفجرة على الأرض أولاً لذبحهم فترغم وجوههم أولاً، ثم يضطربون بعد الذبح فتصبح أبدانهم كلها مغبرة.إذا، فهذه الآيات تخبر عن دمار كامل للكافرين.شرح الكلمات : أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَرَةُ الجَرَةُ (3) ٤٣ الكفرة: جمع كافر، وكفر الرجلُ: ضد آمن.وكفر نعمة الله: جحدها وسترها.وكفر الشيء: ستره.(الأقرب) فالكافر هو : ١- مَن لا يؤمن، ۲- مَن يجحد نعمة الله ٣ - من يستر شيئا.وورد في الأقرب أيضا: "الكفرة في جمع كافر النعمة أكثر استعمالا".(الأقرب) الفَجَرة: جمعُ فاجر فجر يفجر الرجلُ فُجوراً : انبعث في المعاصي وزنى وفسق.وفجر الحالف: كذب.وفجر فلانًا: كذَّبَه؛ عصاه وخالفه.وفجر أمرُ القوم: فسد.وفجر فلان عن الحق: عدل عنه.(الأقرب) فالفجرة: ١- العصاة ٢- الحالفون كذبًا ٣- المكذَّبون لأحكام الله تعالى ٤ - الذين يأتون أعمالا خليعة ٥ - الذين فسد أمرهم ٦- المنحرفون عن الحق.التفسير : أي اعلموا أن هؤلاء الهالكين هم الكفرة الفجرة.وكأنه تعالى يقول: ستعرفون من واقع الأمر من سيؤمن ومن سيظل مصرًا على الكفر والفسق والفجور.اليوم لا تستطيعون أن تخبروا من الذين سيؤمنون من أهل مكة ومن الذين سيكفرون، ولكن عندما يُزرع بستان الإسلام سيتوجه أناس منهم إلى العنب والنخيل والحبوب والزيتون والفواكه، بينما تتوجه الدواب منهم إلى الأعشاب

Page 252

الجزء الثامن ٢٤٨ سورة عبس والعضاه.فمن توجه إلى العنب والنخل وغيرها، فاعلموا أنهم أناس، والذين يتجهون إلى العشب أو العضاه ليأكلوا منها، فاعلموا يقينًا أنهم أنعام وشياه، وسوف يُذبحون، ويتغلب عليهم المسلمون يوما ما.

Page 253

الجزء الثامن ٢٤٩ سورة التكوير سورة التكوير مكية، وهي ثلاثون آية مع البسملة لقد نزلت قبل الهجرة بست سنوات أو أكثر قليلا على ما يبدو.فعن ابن عمر قال رسول الله ﷺ مَن سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ إذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّمَاءُ الْفَطَرَتْ) و(إذَا السَّمَاء انشقت).(مسند أحمد انْشَقَّتْ ۲۷، والترمذي كتاب التفسير والمستدرك للحاكم، كتاب التفسير، وروح ص المعاني) يتضح من هذا الحديث أن هذه السورة ترسم لنا مشهد يوم القيامة رسما مفصلا، بحيث يتراءى يوم القيامة أمام الأنظار.ما هو المراد من يوم القيامة هنا؟ أهي تلك القيامة التي تقوم بعد فناء الجنس البشري كله أم غيرها؟ فليكن معلوما أن لفظ القيامة قد ورد في القرآن بعدة معان، حيث أُطلق على القيامة التي سيُبعث فيها الناس جميعا ويُحشرون بعد الموت.كما أُطلق هذا اللفظ على بعثة نبي، أو هلاك أعدائه، أو غلبة أتباعه إن بعثة نبي قيامة من حيث إنها • 28 تتسبب في انكشاف شتى الكفاءات الكامنة في الناس.عندما يظهر نبي تبرز للعيان قوى الخير وقوى الشر الكامنة في قومه فيقع بمجيئه حشر في العالم، و تنشكف القوى الكامنة في النفوس، وهكذا يكون النبي بمنزلة يوم القيامة لهم.وعلى سبيل المثال كان رسول الله نفسه سببًا في تحول أبي بكر إلى ما صار إليه، وفي تحول أبي جهل إلى ما صار إليه.كان أبو جهل يسمى أبا الحكم من قبل، ولكنه لما رأى ذلك الكائن الروحاني العظيم ازداد بغيًا وطغيانًا وإصرارا للقضاء عليه إذ وجد في ظهوره موتًا لقواه الطاغوتية، وبالتالي ظهر لنا أبو الحكم) في تلك الصورة التي

Page 254

الجزء الثامن التاريخ ٢٥٠ سورة التكوير نكرهها اليوم جميعا.ولو لم يُبعث النبي ﷺ وقابل الناسُ أبا الحكم فربما وصف في كأحد رؤساء العرب الشرفاء ولكن شخصية النبي النورانية الغالبة هيجت في أبي الحكم قواه الطاغوتية، فانكشفت نجاسته الخفية على العالم.كذلك لو لم يُبعث النبي ﷺ وقابل الناسُ أبا بكر الا الله فربما وصف في التاريخ كأحد تجار العرب الشرفاء الأمناء، ولكن إيمانه برسول الله ﷺ أدى إلى ظهور حسنه الروحاني بحيث لا تجد الدنيا كلها مناصًا من الثناء عليه حتى اليوم.فثبت أن ظهور النبي ﷺ هو الذي جعل أبا بكر أبا بكر وأبا جهل أبا جهل.ونجد مثالاً على ذلك في عصرنا هذا أيضا، فلو لم ينبر المولوي محمد حسين البطالوي أو المولوي ثناء الله الأمر تسري لمعارضة المسيح الموعود ال لذكرهما التاريخ كعلماء مسلمين عظام، ولظل عداؤهما الخفي للحق طي الكتمان.أما الآن فيعرف المرء بقراءة كتاباتهما أنهما أرادا القضاء المبرم على الحق بمجرد رؤيته.ولم يحصل هذا الانقلاب فيهما إلا ببعثة المسيح الموعود العليا، أما بدون ذلك فما كانت قوى الشر الكامنة فيهما لتظهر للعيان.أو لولا بعثته العلمية لوصفنا المولوي نور الدين الله كواحد من العلماء الكبار والأطباء الحذاق المشفقين على الفقراء، و لم نر فيه فضيلة أكثر ذلك.من باختصار، إن بعثة نبي نوع من أنواع القيامة.ثم إن ساعة هلاك أعداء نبي تُعتبر قيامةً أيضًا؛ لأن من معاني القيامة الموت، فقد قال رسول الله : من مات فقد قامت قيامته.(مجمع) بحار الأنوار لمحمد السندي: تحت كلمة القيامة، وتشييد المباني الحديث رقم ٢٧٦ ، والمقاصد الحسنة للسخاوي، الحديث رقم ۱۱۸۳) فما دام موت شخص واحد يسمى قيامة فموتُ قوم أحقُّ أن يسمى قيامة.ويقول الشيخ محمد طاهر السندي عن لفظ القيامة: "وقد ورد في الكتاب والسنة على ثلاثة أقسام القيامة الكبرى والبعث للجزاء، والوسطى وهي انقراض القرن، والصغرى وهو موت الإنسان." (مجمع بحار الأنوار: القيامة)

Page 255

الجزء الثامن ٢٥١ سورة التكوير وهذا ما يؤكده القرآن ويصدقه، بل إنه قد ألقى ضوءاً أكثر على لفظ القيامة علمًا أن هذين اللفظين يُستعملان بمعنى واحد حيث تكشف لنا والساعة ١- - دراسة القرآن الكريم أن لفظ القيامة يُطلق فيه على المفاهيم التالية: - رقي أمة نبي ۲- دمار أعداء نبي -٣- انحطاط أمة نبي بعد رقيها.وقد ورد المعنى الأول في قوله تعالى اقْتَرَبَت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (القمر: ٢).بسبب معجزة انشقاق القمر توجد عند المسلمين فكرة شائعة أن هذه الآيات تشير إلى تلك المعجزة، مع أنه ليس فيها ما يؤكد أنها تشير إلى تلك المعجزة فقط، ذلك لأنها تذكر انشقاق القمر ضمنيا، إذ تعتبره دليلا على اقتراب الساعة.فسواء اعتبرنا انشقاق القمر بمعنى زوال حكم العرب، أو بمعنى تلك المعجزة الشهيرة التي أظهرها الله على يد رسوله ، حيث رأى المؤمنون والكافرون القمر وكأنه قد انشق، فإن ؛ من المؤكد أن القرآن قد استدل بانشقاقه على اقتراب القيامة.ومعلوم أن القيامة الكبرى التي سيشمل فيها الدمار العالم كله ويُبعث فيها الناس مرة أخرى لم تظهر حتى اليوم، رغم مرور قرابة ۱۳۷۰ سنة على ظهور تلك المعجزة.ومعلوم من الأحاديث أن المسيح والمهدي سيظهران في هذه الأمة، وسيزدهر الإسلام على أيديهما، فلو أن المسلمين الذين لا يزالون ينتظرون ظهورهما - يعني على عكس أن القيامة عقيدتنا قدروا زمن ظهورهما وما بعده سبعة قرون أيضًا، فهذا ستقوم بعد ألفي سنة من هذا الإنذار من اقترابها في سورة القمر، وفي هذه الحالة يصبح إنذار كفار مكة من اقتراب الساعة أمرًا عبثا بل أضحوكة.وبعيد عن عظمة القرآن أن ينذر كفار مكة قائلا: أيها الكافرون ستُدمَّرون، ويصبح الإسلام غالبا، ثم يصيبه ضعف يستمر قرونًا، ثم يظهر بعدها المسيح، فيجعل الإسلام غالبا ثانية، ثم بعد ازدهاره الذي يستمر مدة طويلة سيزدهر الكفر مرة أخرى، وعندها سيدمر الكون كله، فها نحن ننذركم من ذلك اليوم الذي سيأتي بعد ألفي سنة فقط، وذلك برغم أنه سيكون قد مرّ على فنائهم وانمحاء أي أثر لهم ألفا سنة!! هل من عاقل يعرض مثل هذا الأمر على الناس يا ترى؟ فكيف يُعزى إلى الله الذي أعلم العالمين ما لا يحب المرء عزوه إلى نفسه؟ فثبت جليًّا أن المراد من اقتراب هو

Page 256

الجزء الثامن ٢٥٢ سورة التكوير الساعة هنا هو غلبة الإسلام والثابت من كلام العرب أيضًا أن القمر يرمز إلى حكم العرب أو رئيسهم.فالحق أن الله تعالى قد أرى الكافرين والمسلمين معجزة انشقاق القمر أولاً، ثم فسرها في القرآن قائلاً: لقد رأيتم معجزة انشقاق القمر التي بمثابة إنذار باقتراب انتهاء حكم الكافرين واقتراب غلبة الإسلام التي ستكون بمنزلة القيامة لأعداء الإسلام إذا فقد ثبت من هنا أن الساعة أو القيامة في هذه الآية لا تعني إلا زمن غلبة الإسلام وازدهاره.هي كذلك قال الله تعالى في سورة الممتحنة مستنكرًا ما كان يفعله بعض المسلمين أحيانا من إبلاغ أخبار إخوانهم إلى الكفار ، فقال لهم محذرًا: إِنْ يَنْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسَنَتَهُمْ بالسُّوء وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ.لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة يَفْصلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الممتحنة: ٣-٤) والمراد من (يَوْمَ الْقِيَامَةِ هنا القرار الذي صدر يوم فتح مكة وبعده في هذه الدنيا، والذي ميّز بين الكافرين والمؤمنين.فهؤلاء الكافرون سابقا لم يستطيعوا الإسهام في رقي الأمة، بل أضروا بالمسلمين يوم حنين، حيث تسببوا في فرارهم.ولما نادى العباس بأمر النبي الله يا معشر الأنصار، أين أصحاب بيعة الرضوان، إن رسول الله الأنصار وقدّموا تضحية غير عادية حتى انقلبت هزيمة المسلمين فتحا يناديكم، رجع السيرة) لابن هشام غزوة حنين ولكن هؤلاء المسلمين الجدد..الكافرين قبل الفتح..لم يتوقفوا إلا بعد أن وصلوا إلى مكة.فما دام مضمون هذه الآية قد تحقق عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: رَأَيْتُ ثَلاثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطْنَ فِي حُجْرِ فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى أَبِي بَكْرِ الصَّدِّيقِ.قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا قَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَحَدٌ أَقْمَارِكَ وَهُوَ خَيْرُهَا.(الموطأ، كتاب الجنائز) "كانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق، أن قمرا وقع حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنّينَ مَلكَ الحجاز محمداً؟! فلطم وجهَها لطمة خضر عينها منها.فأتي بها رسول الله ﷺ وبها أثر منه، فسألها : ما هو؟ فأخبرته هذا الخبر." (السيرة) لابن هشام، المجلد الرابع ذكر المسير إلى خيبر، أمر صفية أم المؤمنين) الله

Page 257

الجزء الثامن الموت، ومن ٢٥٣ سورة التكوير في هذه الدنيا بشكل كامل دونما تأويل أو توجيه فلا داعي لتطبيقه على القيامة التي تكون بعد الموت.كذلك قال الله تعالى زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بغير حساب (البقرة: ۲۱۳).ويوم القيامة المذكور هنا إشارة إلى يوم فتح مكة وغيره من الأحداث المماثلة التي وقعت في هذه الدنيا.أما إذا اعتبرنا قوله تعالى والَّذِينَ اتَّقَوْا فوقهم يوم القيامة إشارةً إلى يوم القيامة والحشر الذي يكون بعد الموت، فلا يستقيم المعنى، إذ (أولاً): ليس هذا القول حجة على الكافرين، إذ لا جدوى من الاستدلال بحادث يقع بعد ذا الذي سيؤمن بمثل هذا الدليل؟ والإيمان بعد الموت لا قيمة له ولا نفع.وثانيا): ستعني هذه الآية - في هذه الحالة - أن المسلمين لن ينالوا الغلبة في هذه الدنيا، بل بعد الموت.وهذا باطل بداهة بل قد أصبح المسلمون غالبين في الدنيا نفسها يوم فتح مكة وفي المعارك التالية.ولو قيل إن الله تعالى يقول هنا واللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وهذا لا يمكن إلا في الحياة التي تكون بعد الموت فقط، فالجواب أن للرزق بغير حساب مفهومين: الأول أن يُؤتى المرء أكثر من عمله والثاني أن يحسن المرء استعمال الرزق حتى لا يحاسب عليه؛ لأنه يحاسب حين لا يؤدي واجبه فقد كما ينبغي.ورد في الحديث عن عائشة : أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَة إلا هَلَكَ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كَتَابَهُ يَمينه فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسيرًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : إِنَّمَا ذَلكَ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَة إِلا عُذِّبَ.(البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب).إذا فكون المؤمنين يُرزقون بغير حساب يعني أنهم سينفقون ما أُوتوا إنفاقا صحيحًا، فينجون من طائلة الحساب.وكلا المفهومين للحساب قد تحقق للمسلمين في الحياة الدنيا، فأُعطوا فيها بغير حساب دون أن ينتظروا القيامة التي تكون بعد الموت ليُعطوا فيها بغير حساب.لا شك أن تضحياتهم كانت جسيمة، غير أن الجزاء الذي أعطاهم الله تعالى كان أكثر من تضحياتهم بكثير،

Page 258

الجزء الثامن ٢٥٤ سورة التكوير حيث صار رعاة الغنم والإبل ملوك العالم كله، ونال هذا الشعب المقهور المغلوب مُلكًا عظيمًا قويًا.كما نالوا الرزق بغير حساب بالمفهوم الآخر أيضًا؛ فقد أحرزوا التقوى والورع بحيث لا تزال الدنيا تثني عليهم حتى اليوم.لقد نالوا الرزق الكثير، ولكنهم لم يضيعوه إسرافًا وبذحًا، بل أنفقوه إنفاقًا أدى إلى صلاحهم في الدنيا وثوابهم في الآخرة خلاصة الكلام أن يوم القيامة هنا يعني زمن غلبة الإسلام؛ إذ أصبح المسلمون غالبين على الكافرين في هذا "اليوم" نفسه، كما أُعطوا الرزق بغير حساب أيضًا.+ للمزيد انظر تفسير الآية ٣٨ من سورة النور والآية ٤٩ من سورة ص، والآية ١ من سورة الزمر.ثم في سورة القيامة أيضًا قد ذكر الله تعالى نوعين من القيامة؛ إحداهما تتعلق بهذه الدنيا والأخرى بالآخرة.وقد ذُكرت إحداهما في قوله: ﴿فَإِذَا بَرقَ الْبَصَرُ ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (القيامة ٨ - ٠ ١).والواضح أن خسوف القمر وكسوف الشمس ليسا من علامات القيامة التي تقوم بعد فناء البشر جميعا، بل هما علامات ظهور المهدي المسعود بحسب ما ورد في الحديث.فثبت من ذلك أن القيامة المذكورة هنا هي قيامة إحياء الإسلام في الزمن الأخير، لا القيامة التي تقوم بعد هلاك البشر جميعا.من وهناك آيات عديدة أخرى قد استخدم فيها القرآن الكريم لفظ القيامة والساعة بمعنى انقلاب عظيم حاصل في هذه الدنيا والقيامة المذكورة في الآيات قيد التفسير هي قيامة هذه الحياة الدنيا - أيضًا كما سيتضح لاحقا حيث يحيي الله تعالى المسلمين بعد موتهم الروحاني، وسوف يتجدد الإسلام بعد انمحاء آثاره، وقد ذكرت علامات هذا الزمن الأخير في هذه السورة وفي التي تليها.وكما أن القرآن الكريم قد استخدم لفظ القيامة أو الساعة بمعنى انقلاب عظيم في هذه الدنيا، فقد ورد هذا اللفظ بالمفهوم نفسه في الأحاديث الشريفة أيضا حيث ورد أن جبريل جاء مرة إلى النبي وأصحابه بصورة إنسان وسأله: متى الساعة؟ فقال : ما المسئول عنها بأَعْلَمَ من السائل، وسأُخبِرُكَ عَنْ أَشراطها: إِذا وَلَدَتْ

Page 259

الجزء الثامن الأَمَةُ ٢٥٥ سورة التكوير رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهم في البنيان.(البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل وقد ظهرت هذه الأشراط زمن ازدهار العباسيين، حيث اقتنى أكثر ملوكهم الجواري والإماء، فصارت أولادهن ملوكًا، وقضى على حكم العرب بسبب أقارب هؤلاء الجواري.وكذلك ترك العرب حياة الجد والكد والتضحية والسفر وأقاموا في المدن وانهمكوا في بناء المباني العالية.وورد في حديث آخر أن شخصا حضر مجلس رسول الله ﷺ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ الله يُحَدِّثُ...حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَن السَّاعَةِ؟ قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ الله.قَالَ: فَإِذَا ضَيِّعَتَ الأَمَانَةُ فَانْتَظر السَّاعَةَ.قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْر أَهْلِه فَانْتظر السَّاعَةَ.(البخاري، كتاب العلم، باب مَن سُئل علمًا )..والأمانة هنا أمانة الحكم، والقيامة هنا وقت انحطاط المسلمين وهلاكهم.وورد في حديث آخر: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزَّنَا." (البخاري، كتاب العلم، باب رفع العلم).والمراد من قوله : "وَيَظْهَرَ الزَّنَا" أنه ستكثر البغايا، ويتفاخر الناس بفواحشهم في المجالس والمراد من القيامة هنا أيضًا زمن انحطاط الإسلام.وورد في حديث آخر: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفَتَنُ، وَيَكْثرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ حَتَّى يَكْثر فيكُمْ الْمَالُ فَيَفيض." (البخاري، كتاب الاستسقاء، باب ما قيل في الزلازل والآيات).وقوله ﷺ " ويتقارب الزمان" إشارة إلى تطور علم التاريخ، فكأن أحداث الأزمان المختلفة تصبح قريبة.أما قوله : "حتى يكثر فيكم المال فيفيض" فهو إشارة إلى كثرة المال وحياة البذخ والإسراف.وهنا أيضًا قد سُمّي انحطاط المسلمين قيامة.وهناك حديث آخر يقول فيه رسول الله ﷺ : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نعَالُهُم الشَّعَرُ، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنْ وُجُوهَهُم المَجَانُ الْمُطْرَقَةُ.(البخاري، كتاب الجهاد باب قتال الذين ينتعلون الشعر.هذا الحديث يشير إلى

Page 260

الجزء الثامن ٢٥٦ سورة التكوير هجوم التتر على المسلمين وفيه إشارة إلى أن انحطاطهم سيبدأ بهجمات التتر عليهم.وفي حديث: "بُعثتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ" (البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي بعثت أنا والساعة كهاتين..أي أن زمني متصل بالساعة كاتصال الآن!! فثبت من حتى إصبعين.ولكن رغم انقضاء ثلاثة عشر قرنا على زمن النبي لم تقم الساعة ذلك أن الساعة هنا بمعنى آخر، وهو رقي الإسلام وازدهاره.والمراد من قوله هذا أن كثيرًا من الأنبياء لم تزدهر أممهم إلا بعد وفاتهم بفترة طويلة، ولكن الله تعالى قد وعدني بازدهار الإسلام في حياتي.وهذا ما حصل فعلا.وهناك حديث آخر: "من اقتراب السَّاعَة هَلاكُ الْعَرَب." (الترمذي، كتاب المناقب،.باب فضل العرب).وهذا هو المعنى لقوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.باختصار، قد ورد لفظ القيامة في القرآن والحديث بعدة معان: بمعنى القيامة الكبرى، أي التي ستظهر بفناء البشر جميعًا أو بحشرهم مرة أخرى؛ وبمعنى ازدهار قوم أو زوال قوم أو موت شخص.فقول الرسول ﷺ إن "مَنْ سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" لا يعني أن هذه السور إنما تتحدث عن القيامة التي ستكون بعد فناء البشر جميعا فقط؛ ذلك لأن القرآن الكريم قد استخدم لفظ القيامة بمعان عديدة، فيجوز للرسول الا الله أيضا أن يستخدمه بمعان مختلفة.باختصار، إن قول الرسول هذا إنما يعني أن هذه السور ترسم مشهد القيامة رسما مفصلا بحيث تتراءى أمام أعيننا.وسيتبين من تفسير هذه السورة لاحقًا أن ما قاله الرسول ﷺ كان صدقا وحقا.علاقة سورة التكوير بالسور السابقة: الله إن علاقة هذه السورة بسورة عبس بل بالسور السابقة الأخرى تكمن في أن تلك السور تتحدث عن غلبة الإسلام والقيامة الكبرى.وكان من المقدر أن يغلب الإسلام مرتين على الأقل؛ كما كان من المقدر أن يُبعث الرسول مرتين.والقيامة التي قامت على يد الرسول و كان لها مظهران كبيران كما هو بين من

Page 261

٢٥٧ الجزء الثامن سورة التكوير سورة الجمعة، حيث قامت هذه القيامة في زمن الرسول أولاً، وكان من المقدر أن تقوم ثانية بعد ثلاثة عشر قرنًا، أي بعد انقضاء فترة ضعف الإسلام الممتد لألف سنة بعد فترة رقيه الأولى.ويتضح من مواضع أخرى في القرآن أيضًا أنه كان من المقدر أن يضعف الإسلام كما قال تعالى يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ممَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة:٦)، حيث بين الله تعالى أنه سيُنْزِل أَمر الإسلام من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه تعالى خلال ألف سنة.وتخبرنا الأحاديث أن ازدهار الإسلام في زمن الرسول وسيستمر ثلاثة قرون (البخاري، كتاب الرقاق، باب من يحذر من زهرة الدنيا.فإذا أضفنا إلى هذه القرون الثلاثة ألف سنة من ضعف الإسلام أصبح وقت انتهاء هذا الضعف عام ۱۳۰۰ من الهجرة؛ أي قرابة عام ١٨٨٦ الميلادي.وحيث إن الله تعالى قد نبأ غلبة الإسلام، ثم عن فترة ضعفه، فكان لزامًا أن يبين أيضا ماذا سيحصل بعد الضعف كيلا يستولي اليأس على المسلمين فتنهار هممهم.وورد في الحديث أن أحد كبار علماء اليهود – أبا ياسر بن أخطب – مرَّ في رجال من اليهود برسول الله ﷺ وهو يتلو فواتح سورة البقرة الم ذَلكَ أولاً عن ور الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيه، فأتى أخاه حُيَى بن أخطب، فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمدًا يتلو فيما أُنزل عليه الم ذَلكَ الْكِتَابُ ! فقال: أأنت سمعت؟ فقال: نعم.فمشى حُيَيٍّ في أولئك النفر إلى رسول الله ، فقال: يا محمد، ألم يُذكر أنك تتلو فيما أُنزل عليك الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ؟ قال: بلى.۱۸۸۵ - و ١٨٨٦ و - ٦٢٢ +١٢٦٤- ١٨٨٦ هي السنة التي بشر الحاشية : لو حولنا ۱۳۰۰ سنة قمرية (هجرية) إلى الشمسية تصير عندنا عام ١٨٨٦ الميلادي.ذلك أن النبي قام بالهجرة عام ٦٢٢ الميلادي، وإن الـ ۱۳۰۰ سنة القمرية (الهجرية) تساوي لا والله تقريبا ١٢٦٤ سنة شمسية، وإذا تركنا السنوات الزائدة فهي سنة الله تعالى فيها مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العلي بفتح الإسلام ثانية وبتأسيس جماعة على يده ستعمل على تقوية أساس الإسلام، وبولادة ابن عنده خلال تسعة أعوام سيذيع اسم الإسلام في أنحاء العالم كله وذلك الابن المولود هو صاحب هذا التفسير بفضل الله ومشيئته، الذي أُدليت النبوءة بولادته في بداية عام ١٨٨٦ التي جاءت تصديقًا يُسأل وهم يُسألون.(المفس) للنبوءة القرآنية.والله غني *

Page 262

الجزء الثامن ٢٥٨ سورة التكوير فقال : لا ضير، فإنك لو صرت غالبا فستستمر غلبتك لواحد وسبعين سنة، لأن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة.وسوف نصبر هذه المدة، لأن غلبة دينك تنتهي بعده.فقال له رسول الله ﷺ: لقد نزل علي غيره أيضًا؛ وهو المص.فقال حيي الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ولا ضير، وإن كانت هذه المدة أطول.فقال النبي : إن معي غيره، وهو الر.فقال: الألف واحدة واللام ثلاثون والراء ،مائتان فهذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان.فقال النبي : إن معي غير ذلك أيضا، المر.فقال: هذا أثقل وأطول.الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان.ثم توجه حيي إلى أصحابه وقال هيا بنا نذهب، فقد تشابه أمره علينا.(فتح البيان: سورة البقرة، قوله تعالى (الم) ، والسيرة لابن هشام، ما نزل في أبي ياسر وأخيه) إذا، فالعدو حين يسمع نبوءة ضعف دين يقول في نفسه: إن هذا الدين سيضعف في يوم من الأيام، وسوف نصبر على زمن غلبته بطريق أو بآخر، لأنه سينقضي لتأتي بعده أيام غلبتنا ثانية.فلذلك نجد أن النبي لا يكتفي بالإنباء عن ضعف دينه، أيضا أنه سيأتي بعد الضعف والانحطاط نبي آخر يمهد لرقي أمته وغلبتهم श्री بل ينبئ ثانية.لا شك أن كل رقي مقرون بالانحطاط، وهذا قانون جار منذ الأزل، ولكن النبي لا يكتفي بالإخبار عن فترة الانحطاط، بل يبشر أيضًا بفترة جديدة من الرقي، وهكذا يخبر أنه سيموت، ولكن ملته لن تنمحي أبدًا، فإذا جاءت على دينه فترة الانحطاط، فسوف تليها أيام غلبة دينه على الكفر ثانية.وهكذا يجعل الله تعالى الكفر يائسا من الغلبة دائما، ويثبت قلوب المؤمنين بألا ييأسوا، بل يجب أن تبقى هممهم عالية وعزائمهم قوية ونظراتهم مسدّدة، لأن الإسلام سيصبح غالبا مرة من أخرى، وسوف يقع الكفر في الحضيض ثانية.هذا هو الفرق بين كلام الله البشر، وأنى لغير الله تعالى أن ينبئ عن ترقيات بلا نهاية؟ كلا، بل إن الله وكلام وحده يعلم الغيب، وهو وحده القادر على تحقيق مشيئته التي يخبر بها أحبته، لكي يوصلوا هذه الأنباء إلى الآخرين لتكون هذه الأنباء سكينة لقلوبهم.لا شك أن فترة

Page 263

الجزء الثامن حتما ٢٥٩ سورة التكوير الانحطاط قد جاءت بعد موسى وبعد عيسى وبعد رسول الله ﷺ أيضًا، ولكن كل نبي ينبئ عن كل تراجع، حتى إذا جاءت فترة الانحطاط أصبحت آية على صدق النبي.أما لو أصيبت أمة بالانحطاط من دون نبوءة سابقة فيمكن أن الناس مصادفة، ولكن لو كان هناك نبأ سابق بالانحطاط الجاز للمؤمنين أن يقولوا يعتبره إن هذا الانحطاط أيضًا دليل على صدقنا، لأن هناك أنباء سبقت عنه.ولكن لو الانحطاط من اكتفى النبي بالإنباء عن الانحطاط دون خبر الرقي بعده، لاستولى اليأس على قلوب المؤمنين.ومن أجل ذلك ينبئ النبي عن ناحية لكي تشكل فترة الانحطاط بحد ذاتها دليلا على صدق النبي، ومن ناحية أخرى ينبئ عن الرقي بعد الانحطاط ثانية، ليطمئن المؤمنون وييأس الكفر من ازدهاره الدائم.إذا كان هذا فيخبر الله تعالى عن بعثته، وإذا كان منوطًا بشخص آخر، فيخبر الرقي منوطا عنه.بني على أي حال، الله يتبع تعالى هذا الأسلوب الرائع لتقوية قلوب المؤمنين ورفع معنوياتهم.وقد جربته بنفسي تجربة رائعة.وقد بينت هذا الأمر في كتابي (دعوة فقلت إن المصائب التي حلت بالإسلام اليوم قد سبق أن أنبأ عنها الأمير) الرسول في حديثه بالتفصيل.وما دام قد أخبر عن هذا الانحطاط قبل ١٣٥٠ سنة، بل بشر بفترة من الرقي بعده أيضًا، فلا داعي ليأس المسلمين.فكلما طالت فترة الضعف هذه نقول: هذا ليس تكذيبًا للإسلام، بل هو تصديق للرسول إذ قد أخبر عن ذلك سلفًا.وهناك مثال لذلك في القرآن الكريم أيضا، حيث ورد في سورة الأحزاب أنه لما اجتمعت جنود الكافرين للهجوم على المسلمين أخذ المنافقون يعيرونهم قائلين: أين وعودكم عن الانتصارات المادية؟ فازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم وقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (الآية) (۲۳)..أي أن رسول الله ﷺ سبق أن أخبرنا بذلك، فنحن فرحون على أنه تعالى قد حقق وعده فما الداعي للحزن والقلق؟ • تُرحِمَ هذا الكتاب إلى العربية وطبع باسم "دعوة إلى الحق".(المترجم)

Page 264

الجزء الثامن ٢٦٠ سورة التكوير فتلاحظ أنهم لم يصبهم فزع بسبب هذا الوعد ولكن لولا هذا الوعد فلربما أصابهم الفزع والاضطراب.إذا فالأمر الذي يخوف به العدو المؤمنين قد جعله الله تعالى سببًا لتقوية ،إيمانهم حيث يقولون ما دام الله تعالى قد أخبرنا في كلامه سلفا عن هذا الضعف الذي يصيبنا، فلماذا نخاف ولماذا نقنط؟ فما يصيب المؤمن من بلاء بحسب أنباء الله السابقة فإنه يشحنه بقوة هائلة، لأن تلك المصائب تأتي تحقيقًا لكلام الله تعالى.أما إذا لم تصبه هذه الآلام، فإن نفس العدو الذي يعتبرها دليلا على بطلان الإسلام سيقول له : إن نبيكم كان قد أخبر بهذا، ولكن نبأه هذا لم يتحقق.ولكن المؤسف أن هذه الأنباء حين تتحقق، وتأتي فترة الضعف والانحطاط، فإن العدو يعتبرها دليلا على بطلان هذا الدين، مع أنها دليل على صدق الدين ودليل على صدق النبي، ودليل على هزيمة الكفر ، لأنه كما تحقق كلام الله تعالى عن رقي الدين، كذلك قد تحقق كلامه عن ضعفه.وإثبات هذا الأمر هو الواجب الأول للدين.إذا، فهذه حكمة بالغة لو استوعبها المرء لم يتزعزع إيمانه في زمن ضعف الدين ،واضمحلاله بل تظل قدمه ثابتة على صخرة قوية من الإيمان.إنه يدرك أن دينه أن حق في كل حال.كان حقا في أيام الغلبة، وهو حق في أيام الضعف؛ إذ سبق أنبى عن ضعفه سلفًا.ولكن المؤسف أن المسلمين لم يدركوا هذا الأمر ووقعوا مفصلةً فريسة لليأس.لقد شرحتُ هذا الأمر إلى حد ما- في كتابي (دعوة الأمير)، فبينتُ أن أنباء ضعف الإسلام في حد ذاتها دليل على صدقه وصدق القرآن؛ إذ وردت في القرآن والحديث سلفًا.ثم إن الإسلام لم يكتف بأنباء ضعفه، بل أنبأ أيضا أنه سيصبح غالبًا بعد فترة الضعف ثانية، وأن الكفر سيُكبّ على وجهه مرة ،أخرى، وأن محمدًا رسول الله والقرآن سيصبح غالبا على الدنيا من جديد.فهذا الضعف يتضمن بشارة عن الرقي أيضًا، وهذه الظلمة تنبئ عن طلوع الشمس، فلماذا يقنط المسلمون إذن؟ ولماذا لا يتدبرون بحسب الوعود الإلهية ولماذا لا يبحثون عن ذلك النور السماوي، حتى يعلموا أين طلعت تلك الشمس الموعودة التي ستبدد هذه الظلمة.

Page 265

الجزء الثامن ٢٦١ سورة التكوير لقد مررت بتجربة عجيبة فيما يتعلق بما ذكرت.آنفا لقد قابلني في دهلي زعيم من منطقة "سرحد" واسمه شودري فقير محمد وكان يعمل مهندسا في شركة، فقال لي: نحن أربعة إخوة اثنان منا أحمديان واثنان ليسا بأحمديين، وأنا لم أنضم إلى جماعتكم بعد فسألته عن سبب ذلك، وقلت : أتشك في صدقها؟ وكان في طبعه مزاح فقال : الواقع أني لم تتح لي فرصة التدبر في الأحمدية بعد، غير أننا قوم عادلون.لقد أعطيناكم نصف روبية وأعطينا المسلمين الآخرين نصف روبية.فأجبته على سبيل المزاح ولكنا لن نرضى بنصف روبية، بل نأخذها كلها.قال: فخُذها بتأثيرك الروحاني إن استطعت.قلت: سنسعى لذلك، وسيعطينا الله نصف الروبية الآخر إذا شاء.وكان الرجل ذاهبًا مع عياله إلى إنجلترا للسياحة، فقال: إن أحد إخوتي هو "خان محمد أكرم "خان" القاطن في مدينة "جارسده"، وضع في حقائي بعض كتبكم عندما خرجت من البيت.فقلتُ له: إني ذاهب للسياحة، ولن أجد وقتا لقراءتها، ولكنه وضعها في حقيبتي رغمًا عني، ولم أتمكن من قراءة أي كتاب منها حتى الآن.تلك ثم ذهب هذا الرجل إلى إنجلترا، ولم تمض ثلاثة أشهر حتى وصلتني رسالة بدأها بقوله : قبل أن أكتب مطلبي أُريد أن أعرفكم أنني ذلك الشخص نفسه الذي قابلكم في القلعة الملكية في دهلى قبل ثلاثة أشهر، وقال لكم: إننا قوم عادلون؛ حيث أعطيناكم نصف الروبية، وأعطينا المسلمين غير الأحمديين نصفها، فقلت: ولكننا لا نرضى إلا بالروبية كاملة والآن وبحسب أمركم أُهدي لكم ربعًا آخر من الروبية، وأنضم إلى جماعتكم مبايعا على يدكم.ثم أشار في رسالته إلى المعنى الذي قد بينته الآن، وقال: جئت إلى إنجلترا وزرت معالمها، فرغم أني الأفغان وأتمتع بحماس ديني، إلا أنني كلما رأيت قوة الكفر المتزايدة ازداد قلبي يأسًا، وقلت: لقد انهار الإسلام وتقوّى الكفر بحيث لا أمل في أن يتقوى الإسلام وينهار الكفر مرة أخرى.لقد مات الإسلام، وليس الأمل في حياته إلا ضربا من الوهم والخبل.هذه الأفكار التي ظلت تغزو عقلي باستمرار فيئستُ حتى أيقنت أن الإسلام لن يغلب على الدنيا مرة أخرى.وفي أحد الأيام أخذت هذه الفكرة من نفسي كل مي من

Page 266

الجزء الثامن ٢٦٢ سورة التكوير مأخذ، فقلت لنفسي في هذه الحالة من اليأس والقنوط تعال انظر في الكتب التي قد وضعها أخوك في حقائبك.وكان أول كتاب وقع في يدي هو "فلسفة تعاليم "الإسلام"، فقرأته.ثم بدأت أقرأ كتابك دعوة الأمير"، حتى وصلت إلى الصفحات التي تناولت فيها نفس القضية التي ملأت قلبي يأسًا إلى أقصى درجة؛ أعني ضعف أن الإسلام واضمحلاله.لقد أشرت إلى نبوءات عديدة للنبي وقلت قد سبق تنبأ عن ضعف الإسلام في نبوءة كذا وقد تحققت وفي نبوءة كذا وقد تحققت أيضا.ثم ذكرت نبوءات النبي الله عن ازدهار الإسلام ثانية، وقلت: ما دامت أنباء النبي المتعلقة بضعف الإسلام قد تحققت فكيف لا تتحقق أنباؤه المتعلقة بازدهاره وغلبته؟ فلما قرأتُ هذا امتلأ قلبي فرحة وسرورا وزال منه اليأس، ولمعت فيه بارقة الأمل، وقررتُ أني لن أخلد إلى النوم ما لم أكتب لك رسالة بيعتي، وها أنا أكتبها قبل النوم، فأرجو قبولها.فالحق أننا عندما ندرك أنه سبق أن أنبأ الرسول الله عن هذه المصائب والآلام التي صبت على الإسلام والمسلمين نجد في هذه الآلام نفسها راحة، ونقول: ستتحقق أخبار غلبة الإسلام أيضًا كما تحققت أخبار ضعفه واضمحلاله.ثم إن تحقق هذه الأنباء يشكل دليلا على يوم القيامة أيضا، لأن الله هو الذي يحيي النفوس الميتة في هذه الدنيا، فكيف يتصور أن يعجز عن إحيائها في الآخرة؟ ما دام هذه النفوس وإحياؤها -روحانيا- ممكنا بحسب هذه الأنباء في هذه الدنيا، فلا بد من إحياء الموتى في الآخرة بحسب ما أنبأ الله تعالى.موت

Page 267

الجزء الثامن ٢٦٣ سورة التكوير شرح الكلمات: مِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوَرَتْ : كُوِّرت: كَوَّرَ العمامةَ على رأسه لَفَّها.وكوّر فلانا صرعه.وكوَّر المتاعَ: جمعه وشده ولفه على جهة الاستدارة.(الأقرب) الله فقوله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يعني: إذا الشمس لفت، أو: إذا الشمس صُرعت أما إذا اعتبرنا الشمس هنا شمسا مجازية واعتبرناها أحد الناس، لسهل علينا إدراك مفهوم الآية، وهو أن هذه الشمس المجازية سوف تُلَفُ كما يُلَفِّ المتاع في حزمة مستديرة وتوضع جانبا، ولا يلمسها أحد.كما يمكن أن يفسر قوله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ بحذف مضاف وهو الضوء، والمعنى: إذا لُفٍّ ضوء الشمس، أو: إذا مُحي ضوء الشمس وجعلت مختفية عن الأنظار مثل الحزمة التي تُلفّ وتوضع بعيدًا عن الأنظار.التفسير : حينما يقرأ الإنسان المعنى الذي نفسر به هذه الآيات مع مفهوم الآيات التالية يعلم أنه هو المفهوم الحقيقي ،والصحيح، وليس في تفسيرنا أي تكلف.لقد قلتُ هذا لأن البعض قد يستغرب عند قراءة تفسيرنا للآية الأولى من سورة التكوير.لقد تحدث المسيح الموعود الله في كتبه عن تفسير هذه الآية، كما أن تفسيرها يقدَّم من قبل جماعتنا عادة، فالذين يسمعون كلامنا فإنهم لن يجدوا في تفسيرنا هذا أي تكلف ولكن الذين لم يتيسر لهم الاطلاع على كتب جماعتنا، أو لم تتح لهم فرصة كافية لسماع أقوالنا فيستغربون منه في أول وهلة، ولكنهم عندما يتدبرون في الآيات كلها سيدركون أنه ليس في تفسيرنا هذا أي تكلف، بل هذا ما بينه الله تعالى في هذه الآيات.ليكن معلومًا أن الله تعالى قد سمى الرسول ﷺ في القرآن الكريم شمسا (الأحزاب: ٤٧)، وقد أخبر الله تعالى هنا أنه سيأتي زمن ستكور فيه الشمس وتُلَفُ، نفس

Page 268

الجزء الثامن ٢٦٤ سورة التكوير يسرع الخطا وعليه فالمراد من هذه الآية أنه سيأتي زمان لن يتبع فيه المسلمون الرسول ﷺ، بل يتبعون آراءهم معرضين عن تعاليمه ليس بقلوبهم فحسب بل بأعمالهم أيضًا، فيستغنون عن الاقتداء به في حياتهم العملية وهذا المشهد يمكن أن يراه المرء اليوم في كل مكان إن المسلمين لا يكادون يأبهون لفهم تعاليم الرسول والعمل بها.إنهم لم يكونوا يعملون بالقرآن من قبل، أما اليوم فقد تركوا العمل بحديث رسول الله إلى حد كبير.وإذا كانوا يعملون بأحاديثه فلا يتعدى ذلك التقليد الشكلي؛ إذ أهملوا روحها ومضمونها، ولذلك لا يتجلى نور النبي على العالم.إن نور النبي ﷺ لا ينحصر في غسل الأيدي إلى المرافق ومسح الرأس عند الوضوء، بل هو في العمل بكل ما أمر به الرسول ﷺ في كل مجالات الحياة الإنسانية.وهذا هو الأمر الذي يجعل وجه الأمر الذي يجعل وجه المرء يلمع كالشمس ويجعله إلى الدرجات العلى.ولكن المسلمين لا يشعرون كيف أنهم يسترون عن أعين العالم النور الذي جاء به الرسول ﷺ لا شك أن هناك طائفة يسمون أنفسهم "أهل الحديث"، ويظنون أنهم العاملون بأحكامه الا الله ولكن البركات التي أتى بها النبي ﷺ لا تتجلى بواسطتهم؛ إذ يهتمون بظاهر تعاليمه و عموما ولا يتوجهون إلى مغزاها ومضمونها.ثم إن أكبر ما أتى به الرسول الهداية الناس هو القرآن الكريم، ولكن طائفة "أهل الحديث" يبذلون أقصى جهدهم لأن يجعلوا القرآن تابعا للحديث.فكأنهم يظهرون أمرًا ويسترون أمرا آخر.كان الرسول مظهرا للقرآن الكريم وللحديث معًا لكونه شمسا، ولكنهم يمحون أحدهما محوا تامًا، وبالتالي يستحيل القول إنهم سيتسببون في انكشاف النور الذي جاء به الرسول ﷺ للدنيا.فالمسلمون لم يعودوا تابعين للشمس الروحانية التي خلقها الله تعالى لإنارة العالم.ففرقة "أهل القرآن" حين يتناولون قضية العلاقة بين القرآن والحديث يحاولون جاهدين إبطال الحديث النبوي كلية ولا يقبلون في تفسير القرآن إلا ما اخترعته أذهانهم.بينما يحاول أهل الحديث" أن يجعلوا القرآن تابعًا لأفكار رُواة الحديث.وكلا الأمرين يحول دون تجلي نور النبي هلال الهلال على العالم.

Page 269

الجزء الثامن ٢٦٥ سورة التكوير باختصار، إن لقوله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَت مفهومين: أولهما: أن المسلمين سيتركون الاقتداء برسول الله ويتبع كل منهم رأيه، وثانيهما: أن الأنوار المحمدية سيتوقف تجلّيها، وسيصبح المسلمون - الذين كان واجبهم نشر نور النبي مدع في العالم إلى أقصى حد - سببًا في انكماش نوره بدلا من كشفه ونشره.ومن معاني قوله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ محو ضوئها، وعليه فالمراد أن الشمس ستظلم، أي تنكسف وهذه إشارة إلى النبوءة الشهيرة المذكورة في حديث الرسول : "إن لمهدينا آيتين لم تكونا منذ خلق السماوات والأرض: تنكسف القمرُ لأول ليلة من رمضان وتنكسف الشمس في النصف منه، ولم تكونا منذ خلق الله السماوات والأرض" (الدارقطني، كتاب العيدين، باب صلاة الخسوف والكسوف)..أي أن هناك آيتين على صدق مهدينا لم تظهرا لصالح أي مد منذ خلق الله السماوات والأرض، وهما خسوف القمر في أولى ليالي انخسافه في رمضان، وكسوف الشمس في اليوم الوسط من أيام انكسافها في رمضان نفسه.لا شك أن هذه السورة تتحدث عن الشمس فقط، لكن الأحاديث تتحدث عن خسوف الشمس والقمر كليهما.علما أن من أساليب القرآن واللغة العربية حذف أحد الأمرين المتلازمين في بعض الأحيان، فحيث إن نبوءة خسوف الشمس والقمر مذكورة في مكان آخر من القرآن (القيامة: ۹-۱۰)، فاكتفى القرآن بذكر كسوف الشمس دون خسوف القمر في الآية قيد التفسير، لكونه تابعًا للشمس.ومثاله أننا إذا أردنا ذكر الحر والبرد ،معا اكتفينا بذكر أحدهما معتبرين يفهم القصد.فهنا أيضا قد ذكر الله تعالى أحد جزئي النبوءة لكونه يشير المخاطب إلى الجزء الآخر تلقائيًا، فلم تبق هناك حاجة إلى ذكره منفصلا.أن

Page 270

الجزء الثامن ٢٦٦ سورة التكوير شرح الكلمات: وَإِذَا النُّجُومُ اَنكَدَرَتْ ) النجوم: النجم: الكوكب؛ ما نجم من النبات على غير ساق وهو خلافُ الشجر.والنجم الأصل..يقال هو من نجم صدق، وكذلك يقال ليس لهذا الحديث نجم، أي أصل.وجمعُ النجم أَنْجُم وأنعام ونحوم ولحم.(الأقرب) انكدرت انكدر في سيره: أسرع وانقض، يقال انكدر يعدو.وانكدر عليه القومُ: انصبوا.وانكدرت النجوم تناثرت وكدَر يكدر وكدر يكدَر كَدَرًا وكَدارة وكدورا وكدروة وكدرة: ضد صفا.(الأقرب) فقوله تعالى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ..أي تصبح غير صافية.وإذا اعتبرنا النجوم هنا استعارة فيراد بها أشخاص كانوا سببًا لهداية الناس.فكأن الله تعالى يخبر هنا أنه سيأتي يوم تصبح فيه هذه النجوم منكدرة، لأن فيوضها ستنقطع ولن يعود الناس ملتزمين بهدايتهم.التفسير : أولاً: قال النبي ﷺ : "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم".(تشييد المباني: رقم الحديث (٥٩ وحيث إن الشمس هنا الرسول ، والنجوم صحابته، وعليه فقوله تعالى ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ يعني أن الناس لن يتهاونوا في العمل بتعاليم الرسول ﷺ فحسب، بل لن يتبعوا صحابته أيضًا، معرضين عما تركوا وراءهم من علوم ومعارف وهذا هو المشهد الذي نراه في هذا العصر.فنجد أن المسلمين إذا أرادوا ضرب مثال على شيء فلا يقولون إن الصحابة قالوا كذا، بل يقولون إن هتلر قال ،كذا ونابليون أعلن كذا وإن لينكولن قال كذا، في حين المسلمين السابقين كانوا يقولون: هكذا قال أبو بكر ، وهذا ما أشار به عمر، وهذا ما أعلنه عثمان، وهكذا قال علي رضوان الله عليهم أجمعين.إذا يخبرنا الله تعالى هنا أن المسلمين لن يهتموا مطلقا باتباع خطوات الصحابة.يقال بالإنجليزية: حياة أي تتوقف على تمسكها بتراثها (Traditions) أي لا ترجى حياتها ما لم يدرك كل فرد منها أن عليه الحفاظ على تراثها.هذا هو دستور الأمم الحية؛ فإن كل فرد أمة أن

Page 271

الجزء الثامن ٢٦٧ سورة التكوير منهم يسعى جاهدا لإحياء أفعال آبائه ويقول كان أبي يقول كذا، وكان أبي يفعل كذا، وكان جدي يعمل كذا.فإذا حافظت الأمة على هذه الروح طالت أيامها، أما إذا ماتت في أفرادها هذه الروح ماتت.فقوله تعالى ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت يعني أن محاسن الصحابة وفضائلهم لن تنعكس في أعمال أفراد الأمة، ولن يُرى لها تأثير فيهم وبالتالي ستضيع من ذاكرتهم روايات تفوق هذه الأمة أيضا، وستندثر من بينهم الروايات البطولية للأمة، التي تنمّي الأخلاق وتوسع الآمال.عندما يُذكر أفراد الأمة مرة بعد أخرى أن آباءهم كانوا ذوي محاسن ومزايا عظيمة، فإنهم يسعون للتقدم والازدهار، ولكن لو قيل لهم إن آباءكم كانوا جاهلين غير صالحين لشيء، فلا يرغبون في الرقي، بل لا يعودون صالحين للتقدم.والحق أنه لم يحلّ هذا الدمار الشديد بالإسلام والمسلمين إلا لأن تراثهم القومي العظيم صار طي النسيان وفُصلوا عن ماضيهم المشرق واختفت عن أنظارهم محاسن الصحابة والقادة الآخرين الذين اتبعوهم بإحسان.وقد عملت كتب التاريخ التي ألفها الأوروبيون خاصة على تدمير هذا التراث الإسلامي العظيم؛ فليس هناك سلطان مسلم إلا ورماه هؤلاء الأوروبيون بالتهم وقدّموه أمام العالم بأسوأ صورة وأبشعها، والنتيجة أن كل طالب مسلم حين يقرأ هذه التواريخ يظن أن آباءه لم يكن فيهم أي خير ولا ميزة فينسب كل عيب إلى آبائه وكل خير إلى الأغيار.وهكذا يصبح رقي الأمة مسوّسًا نَخِرا؛ إذ من المحال أن تحيا أمة في الدنيا من دون إحياء تراثها وتقاليدها القومية.إن أسهل طريق لتدمير أمة هو أن تجعلوا أبناءها يسيئون الظن بماضيهم؛ إذ يصبحون بذلك كشجرة احتلت من فوق الأرض ما لها من قرار، ولن تحيا أبدا.إن الأوروبيين قد لجأوا إلى هذا السلاح سهل الاستعمال فشوهوا تاريخ الإسلام كله.فإذا ذكروا أكبر سلاطين المسلمين وصموه بشتى العيوب.والأدهى أنهم يسمون هذا بحثًا وتحقيقًا، فيدعون أنه قد ثبت بعد تحري الأمر أن فلانا الملوك المسلمين كان فيه كذا وكذا من النقائص والحق أن كل ما يقولونه هو كذب في كذب.وقد أدى هذا التشويه إلى أنك لو سألت أحدا من المسلمين عن السلاطين المسلمين فستجد أنه لن يرى في أسلافه هؤلاء أي خير وفضل.سيقول جذر من

Page 272

الجزء الثامن الأسلاف ٢٦٨ سورة التكوير كان محمود الغزنوي لصا، وكان أورنغزيب غاشما، وكان في فلان كذا وكذا من العيوب، وفي فلان كذا وكذا من النقائص.وكأنهم لا عمل لهم إلا إحصاء عيوب ورميهم بالتهم.لقد فقد هؤلاء أي أمل في أن يجدوا في الأسلاف أية محاسن.وبسبب هذا العيب لم يعد في المسلمين رواج لسرد الوقائع البطولية، فقُطع دابر رقي الأمة.إن هؤلاء الغربيين يلجأون، من أجل تنفير المسلمين من آبائهم، إلى حيل لا يلجأ إليها أي شريف أبدا.مثلا إذا ذكروا سلطانا مسلما قالوا إنه كان يشرب الخمر، ولا يذكرون هذا الأمر إلا لإثارة المسلمين ضده ولتنفيرهم منه.مع أن هؤلاء الأوروبيين يشربون الخمر ليل نهار، ويأتون شتى المنكرات الموبقات دونما وازع ولا ادع.إن كل فرد منهم شارب خمر، وملكهم شارب خمر، ورئيس وزرائهم شارب خمر.كان تشرشل يشرب الخمر وكان روزفلت يتعاطاها، ومع ذكروا سلاطين المسلمين فلا بد أن يرموهم بتعاطي الخمر.نسلّم أن بعض ملوك المسلمين كان شارب ،خمر ولكنكم لا تذكرون ذلك إلا لتنفروا المسلمين منه، ولتقنعوهم بمحاسن ملوككم مع أنهم كانوا يشربون الخمر ويرتكبون المنكرات أكثر من أي ملك مسلم بآلاف المرات.ذلك إذا باختصار، لقد أنبأ الله تعالى بقوله (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أن التاريخ الإسلامي مكدَّرًا ، وأن محاسن المسلمين ستخفى وتُمحى، وسيبدو أن النجوم قد سيصبح انکدرت.يعني أن ثانيا: ومن معاني النجم الأصل؛ فقوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ الأصول ستخرب..بمعنى أن الموازين ستنقلب وتختل فيما يتعلق بمعرفة معادن الناس وعراقة النسب، أي ستندثر المعايير التي يُعرَف بها نسب أقوام شتى.وبالفعل، نرى أن الإحساس بعراقة النسب قد انمحى في هذا العصر تماما.لقد انمحى في أوروبا نهائيا، وأخذ ينمحي عندنا بالتدريج، فبدأ نفوذ ذوي النسب العريق في الانقراض.

Page 273

الجزء الثامن سه ٢٦٩ سورة التكوير إذَا، فمن معاني قوله تعالى ﴿وَإِذَا النُّجُومُ الْكَدَرَتْ أنه في ذلك العصر ستتلاشى موازين عراقة الأنساب عن الدنيا.وبالفعل نرى الجهود تبذل للنهوض بالأقوام المنبوذة، وليس ذلك إلا سعيًا للقضاء على أي اعتبار لعراقة النسب.ثالثا: ومن معاني قوله تعالى (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ضعف تأثير العلماء والأمراء في ذلك العصر.إن زمام قيادة القوم يكون في أيدي هاتين الفئتين حيث يقودهم الأمراء سياسيا والعلماء دينيا والله تعالى يخبرنا هنا أن علاقة الجماهير ستضعف مع العلماء والأمراء كليهما، سيضعف تأثير الأمراء على ذوي الميول المادية، وتأثير العلماء على ذوي الميول الدينية وبتعبير آخر، يفقد العلماء والأمراء السيطرة على الناس.رابعًا ومن معاني انكدار النجوم تناثُرُها ومن معاني الآية المذكورة من قبل الشَّمْسُ كُوِّرَتْ خسوف الشمس والقمر، وإذا جمعنا بين الآيتين، فسيعتبر قوله تعالى ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ إشارة إلى سقوط الشهب بكثرة في زمن المسيح الموعود العليا.وقد تحققت هذه النبوءة القرآنية بجلاء، حيث سقطت الشهب في ۲۸ نوفمبر ۱۸۸٥ في كل أطراف الفضاء بكثرة كأنما هناك ألعاب نارية.وقد نشرت الجرائد في أوروبا وأمريكا وآسيا هذا الخبر على نطاق واسع مستغربين هذه الظاهرة التي اعتبروها أُعجوبة من العجائب الواقع أن المراد من يوم ۲۸ نوفمبر ۱۸۸٥م هو الليلة التي سبقت ذلك اليوم كما صرح المسيح الموعود الي حيث قال ما تعريبه: "ومن تلك الآيات التي ظهرت بعد أن تلقيتُ الإلهامات المشار إليها أنه في ليلة الثامن والعشرين من نوفمبر ،۱۸۸۵ أقصد الليلة التي سبقت اليوم الثامن والعشرين من نوفمبر ۱۸۸۵ ، كان في السماء مشهد غريب لسقوط الشهب بكثرة لم أر له مثيلاً في حياتي.(آئينه كمالات إسلام"، الخزائن الروحانية المجلد ٥ ص ١١٥).وهذا ما أكده العلماء أيضًا حيث قالوا إن هذه الظاهرة المذهلة وقعت في ليلة ٢٧ من نوفمبر ١٨٨٥م.انظر 132 The Guinness Book of Astronomy, suh Edition P.والمعروف أن اليوم في التقويم الشمسي يبدأ بالنهار لا بالليل.(المترجم)

Page 274

الجزء الثامن ۲۷۰ سورة التكوير إذا، فلو اعتبرنا الشمس مجازية أي روحانية، فنعتبر النجوم أيضا روحانية أيضًا.وإذا اعتبرنا الشمس مادية فيراد بانكدار النجوم سقوط الشهب بكثرة.إذا، فمن معاني قوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ : ١ - أي ستسقط الشهب بكثرة كالمطر ٢- لن يتبع الناس الصحابة في صلاحهم وورعهم وتصبح علومهم متروكة مهجورة.-٣- سيفقد ذوو النسب العريق نفوذهم.٤ - سيفقد الأمراء تأثيرهم على العامة.ه - سيفقد علماء الدين تأثيرهم على الناس.وكل هذه العلامات قد تحققت في هذا العصر.وَإِذَا الْجَبَالُ سُرَتْ (3) الجبل: كلُّ وَتَد في الأرض؛ عظم وطال؛ عكس الساحل؛ سيد القوم عالمهم، تقول ود العرب فلان جبل قومه أي سيدهم وعالمهم.(الأقرب) سُيِّرَت سيَّره : جَعَله سائراً وسيّر الجُلَّ عن ظهر الدابة: ألقاه.وسير المثل: جعله يسير بين الناس.وسيره من بلده أخرجه وأجلاه.(الأقرب) فالمراد من قوله تعالى وإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت: عندما تسير الجبال من مكانها، عندما يطرد العلماء والزعماء من بلادهم ويُنفون.التفسير: أولاً : من معاني هذه الآية أن الجبال سوف تُسيّر من مكانها، أي تُنسَف ود الجبال لشق الطرق من خلالها.وسيُعتبر عندها قوله تعالى وإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت كقولنا: يجري الميزاب، مع أنه لا يجري، بل الماء هو الذي يجري فيه.فهذا إشارة إلى نسف الجبال بالديناميت من مكانها لشق الطرق خلالها.وأكثر الشواهد على صدق هذه النبوءة في الدنيا اليوم؛ حيث ينسفون الجبال بالديناميت ويقطعون الجبال ويشقون الطرق الواسعة بكثرة، فيمكن أن ترى ذلك في جبال دلهوزي

Page 275

الجزء الثامن ۲۷۱ سورة التكوير وشمله ومري وكشمير ومنصوري وغيرها.لقد نسب الله تعالى هنا السير إلى الجبال والواقع أن الناس هم الذين يسيرون، فالمراد أن الجبال ستشق فيها الطرق الجيدة بكثرة لسير الناس فيها.لقد نسفت الجبال في هذا العصر بكثرة لا حد لها، وقلّما يوجد جبل لم تُشقّ عبره الطرق، حيث يضعون فيه ديناميت وينسفونه نسفا، ثم يشقون الطريق.كما تُنسف الجبال بكثرة خلال الحروب الحالية، فإذا كان العدو رابضا على قمة جبل يضعون تحته بارودا وينسفونه في الماضي لم يكن البارود متوفرا بهذه الكمية حتى تنسف الجبال.فهذه الآية تنبئ ضمنيًا عن كثرة البارود أيضا، إذ لا تُشق الطرق في الجبال من دون الديناميت.كذلك قد اخترعت كثير من الآلات الثقيلة لمهد الطرق؛ إذا فهذه الآية إشارة إلى اختراع هذه الآلات أيضًا.ثانيا: ومن معاني الجبل سيد القوم، وعليه فقوله تعالى وإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَت سيعني أن علماء القوم وساداتهم سيُطردون من البلاد.وهذا أيضا لم يتحقق في الماضي كما تحقق اليوم، فقد طرد من روسيا كلها علماء الدين المؤثرين الدين على السياسة، أما تركيا فقد اكتسحت الدين اكتساحًا؛ فقد أُمر المسلمون فيها أن مَن الصلاة فليصلها ،بالتركية ومن أراد قراءة القرآن فليقرأه بالتركية، وإلا أراد منهم سيُنفى من البلاد أو يُسجن.سنتحدث عن الآيات التالية لاحقا، ولكن أمعنوا النظر في هذه الآيات الثلاث، وفكروا هل اجتمعت هذه الأمور من قبل؟ لو جمعنا تاريخ العالم كله فلن نجد فيه حتى عُشْرَ هذه العلامات في أي زمن.إن خسوف الشمس والقمر وسقوط الشهب بكثرة وتلاشي الروايات البطولية القومية علامات بينة لم تظهر بهذا الشكل في أي عصر مضى.لو جمعنا تاريخ الأمم لستة آلاف سنة مثلاً، بل حتى لمائة ألف سنة، لن نجد عصرًا تم القضاء فيه على الروايات البطولية للشعوب المقهورة كما حصل اليوم.فإن كل ملك أوروبي شارب خمر جاهل ظالم يُعرض على الناس بصورة جميلة، وكل ملك مسلم طيب يُعرَض عليهم بصورة مُشوَّهة مكروهة.ولما كان أهل الغرب هم الذين يملكون نظام التعليم فإن المسلمين أيضا قد بدءوا يتبنون

Page 276

الجزء الثامن من ۲۷۲ سورة التكوير آراءهم المشوهة هذه.في الماضي تجد زيدًا قد نسي منجزات أسلافه، أو تجد عمرًا تغافل عن محاسن ،آبائه ولكنك لن تجد الأمة بأسرها نسيت رواياتها البطولية، بل أخذ أبناؤها يرون محاسن أسلافهم عيوبًا ونقائص.فمثلاً نجد اليوم مئات الآلاف المسلمين يرمون العديد من سلاطين المسلمين بالسوء والفسق، وفي الوقت نفسه يثنون على ملوك غربيين كانوا أسوأ وأخبث من هؤلاء الملوك المسلمين.يقولون كان السلطان محمود الغزنوي موصومًا بعيب كذا وكذا، ولكنهم لا يفكرون أن ملوك الأمم الأخرى الذين يثنون عليهم كانوا أشد خبنًا وسوءا من هذا السلطان المسلم.إذا كان بعض سلاطين المسلمين يشرب الخمر فكان يتعاطاه سرا، أما الملوك الآخرون الذين يمدحهم هؤلاء الطاعنون فكانوا يشربون جهارا.إذا كان شرب الخمر عيبا، فهو عيب عند الإسلام، لا عند المسيحية، فكان على هؤلاء الغربيين المسيحيين أن يفرحوا أن سلطانا مسلما وقع في شرب الخمر مثلهم، ولكنهم يطعنون فيه بسبب شربه الخمر وليس غرضهم من ذكر ذلك إلا تنفير المسلمين من سلاطينهم وتحقيرهم في أعينهم ما الذي يضر هؤلاء الغربيين إذا شرب سلطان مسلم الخمرَ أم لم يشرب؟ المفروض أن ينحصر تعليقهم على 6 سیاستهم لبلادهم فيخبروا الناس كيف كان هؤلاء يديرون الحكم والنظام.لقد كنت في زيارة لمدينة لاهور في الأيام الأخيرة، فسألني البعض مشيرًا إلى بعض ما فعله السلطان محمود الغزنوي وقال هل كانت تصرفاته هذه بحسب تعاليم الإسلام أم خلافها؟ فقلت : إن هذه الأمور تتعلق بالدين، ومع ذلك تريد الطعن بها في سلطان مسلم لتثبت أنه كان حاكمًا سيئا وأن فلانا من الملوك الأوربيين كان حاكمًا جيدًا، والواقع أن ذلك الملك الأوروبي كان موصومًا بآلاف العيوب؛ فأسلوبك هذا ليس سليمًا، وإنما عليك أن تقارن أخلاق السلطان محمود الغزنوي مع أخلاق الملوك المعاصرين له.فما دام الغزنوي أسمى أخلاقًا من ملوك عصره، فلا بد أن يُعَدّ ملكًا عظيمًا من الناحية التاريخية رغم بعض عيوبه، ولا تصح مقارنته بملوك هذا العصر.فمثلاً لقد قام أديسون بمخترعات كثيرة، والمخترعات التي تمت بعده أكثر منها بكثير، ولكن هذا لا ينال من أديسون شيئا، ذلك لأن ما قام به

Page 277

الجزء الثامن ۲۷۳ سورة التكوير كان عملا رائعا جدا جدا في عصره.كذلك ما دام محمود الغزنوي أحسن أخلاقا من الملوك المعاصرين له، فلا بد من الثناء عليه، وينبغي فحص أعماله الزاوية نفسها.من هذه باختصار، إن مثال انكدار الروايات البطولية للأمة واضحٌ في هذا العصر بحيث لا نجد له مثيلا في الماضي.كذلك إن ضعف نفوذ العلماء والأمراء واضح بحيث لم له نظير في الماضي؛ لقد نُفي العلماء المتمسكون بالدين من روسيا ومن تركيا ومن إيطاليا، كما تعرضوا إلى معاملة مماثلة في بعض البلدان الأخرى، يسبق ومن ألمانيا وأُلقي بهم من مقام العز إلى الحضيض كما يلقى الجل عن ظهر الدابة.باختصار، لو جمعنا العلامات المذكورة هنا مع ما ذكر في الآيات التالية فلن نجدها قد اجتمعت في أي عصر خلا، بل لو نشرنا إعلانًا بأن من قدر على إثبات هذه الأمور في أي عصر من العصور الخالية فله جائزة مائة ألف أو مائتي ألف، فلن يقدر أحد على قبول هذا التحدي.ضع هذه الأمارات أمام أي مؤرخ ثم اسأله: أي زمن تنطبق عليه هذه الأمارات؟ لقال لك فوراً : إنها علامات هذا العصر؛ إذ لم تقع من قبل قط.وكل من يقرأ هذه الآيات سيشير إلى هذا العصر فقط لا إلى أي عصر آخر.وهذا ما أخبر به النبي الله أن هذه السور ترسم يومًا كالقيامة رسما واضحًا بحيث إن من أراد أن يرى مشهد يوم القيامة رأي عين فليقرأ هذه السور.شرح الكلمات: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ : العشار: جمعُ العُشَراء، وهي من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية.وقيل العشار اسم يقع على النوق حتى ينتج بعضها وبعضها يُنتظر نتاجها.(الأقرب) عُطّلت: عَطَّل الإبل: خلاها بلا راع؛ وكُلُّ ما تُرِكَ ضائعا فقد عُطِّلَ.(الأقرب)

Page 278

الجزء الثامن ٢٧٤ سورة التكوير و التفسير: لقد نزل القرآن الكريم في الجزيرة العربية، ولذلك قدمت فيه حاجات العرب ومشاعرهم على أي شيء آخر، لكي يفهموا القرآن جيدا، ثم ينشروه في العالم.إن تعبيرات أول المخاطبين بوحي الله تعالى ومشاعرهم تُقدَّم على تعبيرات الآخرين ومشاعرهم، لأنهم كيف ينشرون الوحي بين الناس إذا لم يفهموه؟ كانت الجمال ركوب العرب وغذاءهم؛ حيث كانوا يسافرون عليها، ويشربون ألبانها ويأكلون لحومها كغذاء، فكانت الناقة عزيزة عليهم وكانوا شديدي الحرص عليها إذا كانت في شهرها العاشر من الحمل، أو كانت قد وضعت حملها؛ إذ كانت الناقة الحامل تصلح للركوب، كما كان هنالك أمل في نتاجها الذي سينفع كمركب وكغذاء أيضًا.علما أن لحم ولد الناقة لذيذ جدا مثل لحم حمل الضأن، فإن تجارة سكان "بيشاور" مثلاً تقوم على لحم حُمْلان الضأن إلى حد كبير، حيث يذبحون -1 شتی الحَمَل وهو في شهره الثاني، فيأتي الناس من أماكن بعيدة لأكل لحمه اللذيذ جدا.باختصار كانت الناقة العُشَراء عزيزة على العرب للبنها وولدها، ولذلك قال الله تعالى (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطّلت..أي سيأتي زمان تُترك فيه هذه النياق معطلة..أي سوف تخترع مراكب جديدة تصبح بها النوق في شهرها العاشر من الحمل أو التي قد وضعت ولدها عاطلة.۲- وسوف تخترع من المراكب السريعة ما يوصل الأطعمة إلى بلاد العرب، فلن يعودوا بحاجة إلى ألبان النوق كغذائهم الأساسي، وهكذا ستفقد الناقة العشراء قيمتها المعهودة وقد تحقق هذان الأمران هذا العصر، حيث اخترعت الباخرة والقطار والسيارة والطائرة، فأخذ الجزيرة يسافرون بها بدلاً من ركوب الجمال عندما بدأ السفر بالسيارات في الجزيرة العربية ثار البدو بحجة أن هذا سيضر بتجارتهم، ولكن ظل الناس يستعملون السيارات حتى انتهى عهد السفر بالجمال والذين يذهبون اليوم إلى مكة إنما يسافرون بالسيارات.عرب كان المولوي ثناء الله الأمر تسري قد اعترض علينا مرة أن سكة الحديد لم تصل إلى مكة بعد.والحق أن لا فرق بين القطار والسيارة، لأن المقصود من هذه النبوءة أن

Page 279

الجزء الثامن ومن ۲۷۵ سورة التكوير السفر على الجمال سيُصبح متروكا لاختراع وسائل سفر جديدة فيفضلها الناس على الجمال.إذا فالسيارات قد قللت من أهمية السفر على الجمال تماما.القطار ينطلق بمواعيد محددة، أما السيارة فيمكن أن يسافر بها صاحبها في أي وقت شاء، لذلك حيثما تكون السيارات تصبح المراكب الأخرى معطلة تماما.إذا فهذه النبوءة قد حققها الله تعالى بهذا الشكل أيضا، حيث تسير السيارات من جدة إلى مكة مكة إلى المدينة، ولم تعد الجمال ذات أهمية.كما تحقق الجزء الآخر من هذه النبوءة ، أعني اختراع السفن والطائرات السريعة التي توصل صنوف الأطعمة والخضار إلى بلاد العرب.فالأمة التي كان طعامها الأساسي ألبان الجمال ولحومها قد تيسر لها أنواع اللحوم و الخضار والثمار، و لم تعد بحاجة إلى الاكتفاء بألبان الجمال ولحومها.إن لبن الناقة لا يُشرب للذته بل عند الضرورة.لقد شربته، فلم أستسغه حتى كدت أتقياً.لا شك أن الذي لا يجد غذاء آخر يشرب هذا الحليب، ولكن من يجد أنواع الأكل والشرب الأخرى فلماذا يشربه؟ كما أن لحم الجمل يكون صلبًا لا يُمضغ بسهولة.لا شك أن العرب كانوا يأكلونه، ولكنهم لو وجدوا لحم الجدي والحمل فلماذا يأكلون لحم الجمل؟ وإذا تيسرت لهم أنواع الخضار، فلماذا يرغبون في ألبان النوق؟ وهذا ما بينه الله تعالى هنا أنه ستخترع شتى وسائل النقل والسفر السريعة التي ستوصل إليكم كل شيء إلى الجزيرة العربية، فلن يعود ركوب الجمل ولا حليب الناقة ولا لحم الحوار ذا قيمة عندكم.لقد رأينا اليوم أن "البان" يصل إلى الجزيرة العربية بالسفن والطائرات، وبدأ العرب يستعملونه فضلاً الهنود.وهناك مأكولات ومشروبات كثيرة لم تكن لتخطر ببال العرب، ولكنها تصلهم الآن بسهولة، فقلت الحاجةُ جدًّا إلى حليب الإبل ولحمها ولا تزال تقلّ باضطراد، واستغنى العرب عن الإبل كأهل البلدان الأخرى.ولم يعد الحال كما كان من قبل، وسيتغير الوضع أكثر في المستقبل.عن "البان" اسم شجرة في الهند يلفون في ورقها بعض البهارات مثل الهيل وغيره مع حلويات معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظف الفم وتعطره، كما تفرح القلب.(المترجم)

Page 280

الجزء الثامن ٢٧٦ سورة التكوير شرح الكلمات : وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (3) الوحوش مفرده الوحش ومعناه حيوان البر، أو ما لا يُستأنس من دواب البرّ.(الأقرب) حشرت حشر الناس حشرًا: جمعهم.وحشَر السنان: دققه ولطفه.وحشَر فلانًا: جلاه عن وطنه.وحشر الجمع: أخرجه من مكان إلى آخر.وحُشرت الوحوش: ماتت وأهلكت.(الأقرب) التفسير : هذه نبوءة عظيمة أخرى وقد تحققت في هذا العصر.فمن معانيها: ١ - سيأتي زمن تُحشر فيه حيوانات البر.وبالفعل ترى كيف حُشرت وحوش البرّ في حدائق الحيوانات هل سبق لذلك نظير في الأزمنة الخالية؟ ليس في الدنيا اليوم قطر ولا بلد ولا إقليم إلا وتوجد فيه حدائق الحيوانات الوحشية والدواب.ولعله لم يوجد في الماضي مكان واحد في العالم كله حشرت فيه وحوش البر والبحر بهذا الشكل.فهناك تنافس بين بلد وآخر وإقليم وآخر في حشرها بعدد أكبر.وعلاوة على حدائق الحيوانات هناك متاحف يحتفظون فيها بجثث الحيوانات الميتة وذلك بحشو جلودها بمختلف المواد ، ليشاهدها الناس ويزدادوا بها معرفة.ثم هناك معاهد للبحوث العلمية في علم الأحياء، حيث يحتفظون بهياكل الحيوانات المنقرضة، ويجرون عليها الفحوص لمعرفة عمرها وما مضى عليها من الزمن، ومراحل المحنطة، تطورها.إذا، فقد تحققت هذه النبوءة بإنشاء حدائق الحيوانات والمتاحف ومراكز البحث في علم الأحياء، وقد حشرت هذه الوحوش الحية أو الميتة حشرًا غير مسبوق.٢ - كما يمكن أن تكون الوحوش هنا مجازا ، بمعنى الأناس الوحشيين؛ حيث تستعمل هذه الكلمة بهذا المعنى بكثرة ، وفي لغتنا الأردية أيضًا يقولون: لا تكلمه يقال: هو من وحش الناس: أي أراذلهم.(المنجد) فإنه

Page 281

الجزء الثامن و ۲۷۷ سورة التكوير وحشي أو يقال : هؤلاء القوم من الوحوش وعليه فقوله تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشَرَت يعني أن الأقوام الوحشيين، أي الهمجيين وغير المتعلمين ولا المتحضرين، سيتم جمعُهم بالأمم المتحضرة نتيجة انتشار الحضارة وكثرة الطرق وسهولة المواصلات.فلو زرت منطقة "البار" في إقليم "البنجاب" لسمعت مرارا أن هذه قرية جديدة، وتلك قرية "الهمجيين".والهمجي يعني الوحشي.وهذا يعني أن هذه الشعوب الهمجية أو الوحشية وغير المتحضرة التي كانت تعيش منعزلة قد اختلطت الآن بالشعوب المتحضرة تماما.وأهل الجبال كانوا يُعدّون من الوحشيين في الماضي، أما اليوم فقد أُنشئت على كل جبل تقريبا متنزهات ومصايف يرتادها الأثرياء في أيام الصيف بكثرة، وهكذا تم اختلاط أهل الجبال بالأمم المتحضرة.أتذكر أننا ذات مرة كنا قادمين من قرية قريبة من مصيف نور بور) الواقعة على بعد ١٥ ميلا من مدينة (بطانكوت)، وكان معنا المولوي يار محمد المحامي المرحوم، واقفة وسط الطريق، فلم نستطع أن نتقدم بالسيارة، وذهب المولوي يار فوجدنا امرا محمد إليها وخاطبها قائلا: (مائي) - أي أيتها السيدة - تنحي قليلا عن الطريق حتى تمر سيارتنا.فأخذت في الصراخ والسباب وزعمت أنه قد أهانها.فاندهش المولوي وقال: كيف أهنتُك؟ فأخذتنا الحيرة وتساءلنا عما حصل ولكنها ظلت تصرخ وتسب وتقول له: لماذا ناديت (مائي)؟ فتوسل إليها المولوي في الأخير قائلاً: سامحيني لوجه الله ؛ فإني لم أرد إهانتك، وإنما ناديتك بهذه الكلمة لأنها كلمة احترام عندنا.ولكنها ظلت تقول: كلا، بل إنك سميتني زوجةً لأبيك.عندها أدركنا ماذا فهمت من كلمة (مائي)، ولماذا كانت تصرخ وتشتم.وقبل فترة كنت عائدًا من مصيف (دلهوزي)، فعلمتُ أن سائق سيارتنا سكان من قرية (نور بور)، فحكيت له هذه الطريفة، فقال: هذا كان في القديم، أما اليوم فلا تتحرج نساء هذه المنطقة من هذه الكلمة؛ إذ كثر اختلاط أهل البنجاب بأهل منطقتنا، وبدأت نساؤنا يفهمن معنى هذه الكلمة.أما قبل أربعين عاما فإن "المولوي يار محمد" ظل يتوسل إلى تلك السيدة حوالي ثلث ساعة، وكانت تصر على قولها: كيف جعلتني زوجة أبيك؟

Page 282

الجزء الثامن ۲۷۸ سورة التكوير فالله تعالى قد أنبأ في قوله وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أنه سيأتي زمن سيجمع فيه بين الأمم الوحشية أو المتخلفة والشعوب المتحضرة، وبتعبير آخر سوف يُعمر كل شبر من الأرض، وتكون هناك صحوة بين الشعوب المتخلفة ويكثر التعليم بينهم.وبالفعل نرى أن سكان إفريقيا الذين كانوا يعيشون عراة في الماضي أخذوا يفدون إلى الغرب للدراسات العليا ويرجعون حاملين شهادات الدكتوراه والمحاماة.كان داعيتنا "المولوي عبد الرحيم نير" يُرينا صور الأفارقة الذين كانوا يعيشون عراة قبل وصول دعاتنا إليهم، ولكنهم بدءوا يلبسون الثياب الآن فتربية الشعوب الوحشية كلها في الزمن الراهن أمر لم يسبق له مثال لو كان هناك أمر واحد فيمكن أن يسميه المرء صدفة، ولكن كيف يمكن أن تُعتبر كل هذه العلامات المذكورة في القرآن في مكان واحد وعن عصر واحد صدفة ؟ وحشية ٣- وقد يراد بقوله تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ الأمم التي كانت تُعتبر زمن نزول القرآن حيث ينهض بها فتنتشر في الدنيا، أي يصبح أهل أوروبا وأمريكا غالبين.ذلك أن أهل أوروبا كانوا يعيشون كالوحوش تمامًا في زمن النبي ، وكان معظمهم يعيشون شبة عراة كالأفارقة، بل لو نظرنا إلى صورهم قبل خمسة أو ستة قرون، وجدناهم لابسين جلودًا تصل إلى ركبهم وحاملين في أيديهم القسي والنشاب، وعلى رؤوسهم قبعة عجيبة.فمن معاني قوله تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشرت أنه سيتم النهوض بالأمم التي كانت تُعتبر وحشية زمن نزول القرآن، فتتحد وتتقوى وتنتشر في الدنيا.٤-ومن معاني قوله تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشِرَتْ أن الأمم غير المتدينة ستنال الحكم، لأن الإنسي هو من عنده دين والوحشي من لا دين له.فهذه نبوءة عن نيل - O الأمم الملحدة الحكم مثل روسيا وغيرها من الشعوب التي لا رغبة لديها في الدين.وقد يراد من قوله تعالى (وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشِرَت نبوءة عن انتشار الأخلاق الذميمة، وضعف أهل الدين.٦- ومن معاني قوله تعالى ﴿وَإِذَا الْوُحُوسُ حُشَرَتْ أن الشعوب الوحشية ستطرد من أراضيها، كما يحصل اليوم في إفريقيا.فلو ذهبت إلى كينيا أو أوغندا ستجد

Page 283

الجزء الثامن ۲۷۹ سورة التكوير المشهد نفسه.لقد وصل الإنجليز إلى تلك البلاد، فقالوا لأهلها: إما أن تعمروا ما تملكون من الأرض أو تخرجوا منها.وكان بعضهم يملك منطقة مساحتها ٦ أميال مربعة، فطرده الأوروبيون من أراضيه وضياعه واستولوا عليها.وتجد اليوم بعض الإنجليز في إفريقيا يملك مليونًا ونصف المليون من الفدادين، ولكنه لا يعمرها، إلا أنهم لما ذهبوا إلى تلك البلدان خيّروا أهلها بين إعمار أراضيهم والخروج منها.وكيف يمكن لشخص واحد إعمار هذه الأراضي كلها، وكانت النتيجة أن استولى الإنجليز على الأرض وطردوا منها أهلها.وهذا ما حدث في القارة الأمريكية أيضًا؛ كان الهنود الحمر يملكون أمريكا الشمالية والجنوبية كلها، ولكن الأوروبيين انتزعوا منهم أرضهم واستولوا عليها كلها.٧- ومن معاني (حُشرت) أهلكت، وعليه فيعني قوله تعالى (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشَرَتْ أن الأمم الوحشية ستباد بطرق شتّى.وبالفعل قد قتل الأوروبيون سكان تلك البلاد القدامى بأنواع التعذيب.لقد قرأت عن ولاية أنه لم يبقَ فيها الآن من سكانها القدامى إلا ثلاثة عشر فردا، وكانوا يعيشون فيها بمئات الآلاف من قبل.وكذلك لا يوجد لسكان أستراليا الأصليين أثر ولا خبر اليوم؛ وكانوا يعيشون بمئات الآلاف في ذلك لأن الأوروبيين قد أبادوهم عن بكرة أبيهم بأنواع الآلام والتعذيب الماضي.ومحوا أثرهم.شرح الكلمات: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجَرَتْ (3) البحار البحر: خلافُ البر؛ الماء الملح؛ كل نهر عظيم؛ كل متوسع في شيء، فالرجل المتوسع في العلم بحر، والفرس المتوسع في حريه بحر، وجمع البحر بحور أبحر وبحار.(الأقرب)

Page 284

الجزء الثامن ۲۸۰ سورة التكوير سُجِّرت: سجّر الماء: فجّره ، وسجر التنور: ملأه بالحطب ليحميه، وفي القرآن: وَإِذَا الْبحَارُ سُجِّرَتْ..قيل أي أحميت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً واحدا.(الأقرب) التفسير: تسجير الأنهار يمكن أن يكون بطريقين أولهما: أن تُشق القنوات من نهر، أو يؤخذ ماء نهر آخر ويُصَبّ في آخر.والمراد أنه ستُشق القنوات من الأنهار بكثرة حتى تكاد تجفّ، أو سيؤتى بالمياه من نهر وتُصَبُّ في آخر لزيادة مائه.ونرى أن كلا الأمرين قد تحقق اليوم.ليس في بلادنا رواج للسفن، ولكنها تُستخدم في أوروبا بكثرة.إنهم يصلحون الأنهار عند مصبّها في البحر، ويسيّرون السفن عبرها داخل البلاد، فيسهل النقل والمواصلات، فالثابت بالتجربة أن نقل البضائع بالقطار أكثر كلفة منه بالسفن حتى اليوم، ولذا نجد أهل الغرب يُكثرون من استعمال السفن للتجارة.يصلحون الأنهار، فتصل سفنهم عبرها داخل البلاد لثلاثين بل أربعين بل مئة ميل في بعض الأماكن، وهكذا يجدون سهولة كبيرة في التجارة.هذا الأمر لا يوجد في بلادنا، ولكن له رواج كبير عندهم.ثم إنهم يشقون القنوات من الأنهار، بل يأخذون ماء نهر إلى آخر، ليشقوا منه قنوات واسعة، وهذا هو تسجير البحار.ومن معاني قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ أن العلماء يُنزع منهم العلم فيصبحون جهالا، إذ إن من معاني البحر الرجل العالم المتوسع في علمه.وإذا كانت البحار هنا بمعنى الماء الملح، أي بمعناها المعروف، فالمراد أن بعض البحار تُربط بغيرها، كما ربط البحر الأحمر ببحر الروم (المتوسط) بشق قناة السويس، وربط البحران الأمريكيان بشق قناة بنما.

Page 285

الجزء الثامن ۲۸۱ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوجَتْ (2) سورة التكوير التفسير : هذه الآية تشير إلى سهولة المراسلة والسفر والاتصال، حيث أخبر الله تعالى أنه ستخترع في الزمن الأخير مخترعات تقرب الناس بعضهم من بعض.وأكبر ما يدل على صدق هذه النبوءة القرآنية في الزمن الراهن هو القطار.فتجد في عربة واحدة للقطار أحد الصينيين جالسًا في مقعد وإنجليزيا في آخر وبنغاليا في ثالث وأفغانيا في مقعد رابع وبنجابيا في خامس فعربة واحد تجمع أشخاصًا ينتمون إلى مناطق مختلفة ويتكلمون لغات شتى.في الماضي كان الناس يرون أهل البلاد الأجنبية والمناطق الأخرى بصعوبة، أما اليوم فقد كثرت وسائل المواصلات وسهل السفر بحيث تجد الأمريكان يمشون في الهند والهنود في أمريكا.श्री ثم إن أجهزة البرق والبريد والمذياع قد حققت نبوءة تزويج النفوس هذه بجلاء حيث نسمع بالمذياع خُطب الصينيين حينًا وخطب اليابانيين حينا آخر، وتصل إلى أسماعنا ونحن جالسون في بيوتنا - أصوات الألمان تارة وأحاديث الإنجليز تارة أخرى.إذا فإننا نكون جالسين مع صيني في مكان مرة، ومع ياباني في مكان مرة أخرى، ومع إنجليزي حينًا، ومع ألماني حينًا آخر.كما أن قوله تعالى (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ إِشارة إلى انتشار وجهة نظر واحدة في العلوم.وبالفعل قد سادت اليوم العلوم الغربية العالم كله بحيث أصبح اتحاد النفوس وارتباطها فيما بينها سهلاً جدا.لقد غزت هذه العلوم العالم حتى أحاطت بأهل الدنيا كلها، خاصة الفلسفة الأوروبية التي أخذت تصوغ عقول الناس بطابع خاص.فعندما يفكر الصيني أو الياباني أو العربي أو الأفغاني اليوم فإنما يفكر بأسلوب أهل الغرب رغم اختلاف شعوبهم وألسنتهم، وليس ذلك إلا لأن الفلسفة والحضارة الغربية قد غزت عقول الجميع، وتم تزويج أفراد شتى الأمم علميا.وقد يراد بقوله تعالى ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ كثرة التزاوج بين أفراد شتى الشعوب والأمم.وبالفعل تجد الإفريقيات تزوجن من الإنجليز والفرنسيين، وتزوجت الإنجليزيات رجالا من الشعوب الأخرى.لو زرت فرنسا مثلا، وجدت الفرنسي

Page 286

الجزء الثامن ۲۸۲ سورة التكوير يمشي واضعا يده في يد زوجته الإفريقية دون أي إحساس أنه فرنسي وزوجته إفريقية.كما بدأت الدول تُصدر قرارات بجواز التزاوج بين أهل الأديان المختلفة حتى لا يبقى هناك عائق في هذا الصدد في الماضي كان الناس يترددون كثيرا في الزواج من الأجانب، أما اليوم فيضغطون على الحكومات لإصدار القرارات للزواج بين أهل الأديان الأخرى لإزالة أي عائق بهذا الشأن عندما كنت مقيما في مدينة لاهور من أجل علاج زوجتي أم طاهر رضي الله عنها، زارني أحد الزعماء الكبار مع زوجته فأخبرتني زوجته أنها ولدت عند أبوين مسلمين، وأنهن ثلاث أخوات، وقد تزوجت إحداهن مسلم، والأخريان بهندوسيين.ومرة حصلت ضجة كبيرة في مدينة بيشاور حين تزوجت بنت "الدكتور خان" من طيار ينتمي إلى طائفة "السيخ".باختصار، لقد شاعت الزيجات بكثرة بين أهل الأديان والشعوب المختلفة، وهذا دليل بين على صدق هذه النبوءة القرآنية.كما تشير هذه النبوءة إلى اتحاد نفوس شتى وتأسيس جمعيات ونقابات وأحزاب مختلفة.وبالفعل نشاهد في الدنيا أحزابا كثيرة مثل حزب العمال والحزب الفاشي والحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي، حيث يجتمع أصحاب فكر واحد ويشكلون أحزابا خاصة بهم، فيكافح العُمّال والصُنّاع والمعلمون والتجار من أجل حقوقهم، ويتنافسون حتى لا يتأخروا عن غيرهم في سباق الرقي والتقدم.إذ من إن هذه العلامات كلها تتعلق بهذا العصر، وقد حققها الله تعالى في هذا العصر نفسه؛ المحال أن تُقدَّم من تاريخ العالم فترة تحققت فيها هذه العلامات.فكل إنسان نعرض عليه هذه العلامات سيقول لنا حتمًا إنها تشير إلى زمننا هذا دون غيره.ورد في الروايات أن سيدنا عمر كان يخطب مرة يوم الجمعة فقرأ قول الله تعالى وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت وقال: "تزوجها أن تؤلّف كل شيعة إلى شيعتهم." (رواه ابن النعمان أبي حاتم عن جمعيات ونقابات.ضي عن بن بشير، ابن كثير..أي أن أهل مهنة واحدة سيشكلون إذًا، فقد تحققت هذه النبوءة بجلاء كما تدل عليه أحوال العصر الحاضر.

Page 287

سورة التكوير الجزء الثامن شرح الكلمات: ۲۸۳ وَإِذَا الْمَوْءُ دَةُ سُبِلَتْ.الموءودة: وَأَدَ بنته يئدها وأدا: دفنها في القبر وهي حية.وعبارة "الأساس" (للزمخشري): "أثقلها بالتراب"، فهي وئيد ووئيدة وموءودة.(الأقرب) التفسير: قوله تعالى ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ يعني أنه سوف يُسأل عن البنت التي كانت تُدفن حيةً.ولكن المفسرين يقولون أن الموءودة نفسها ستُسأل، لأن في توجيه السؤال إلى الموءودة تبكينًا أكبر، لأنها ستطالب بالإدلاء بشهادتها (الكشاف).ولكني أرى أن هذا المعنى غير صحيح وخلاف للأسلوب القرآني المعروف، إذ يتضح من القرآن أن السؤال يوجه إلى الظالم لا إلى المظلوم.يقول الله تعالى : لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (الأنبياء: ٢٤)..أي أن الله تعالى لا يُسأل عما يفعل، بل الناس هم الذين يُسألون عن أعمالهم.وقال تعالى ليَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صدقهم (الأحزاب:۹)، وقال تعالى وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَة عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (العنكبوت:١٤)، وقال تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أشهدُوا خَلْقَهُمْ سَتَكْتُبُ شَهَادَتْهُمْ وَيُسْأَلُونَ) (الزخرف: ٢٠).فكل هذه الآيات تكشف أن السؤال يوجه دائما إلى المجرم لا إلى الضحية، إلا في مكان واحد وهو قول الله تعالى للمسيح بن مريم اللي وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسَكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوب (المائدة: ۱۱۷).والسبب في توجيه السؤال الى المسيح أن النصارى قالوا: إن المسيح هو الذي علمهم هذا التعليم، فإفحاما للنصارى وإبطالاً لشبهاتهم كان توجيه هذا السؤال إلى المسيح ضروريا.ولكن ليس الأمر هكذا في قوله تعالى (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ.فمتى قالت الموءودة أن يدفنوها حية؟ لو كان هناك ادعاء من الكفار أن الموءودة هي التي قالت لهم بدفنها حية، لجاز سؤالها، ولقال الوائد : لماذا تسألونني هذا السؤال، بل اسألوا الموءودة نفسها، لأنها العلية هو مي

Page 288

الجزء الثامن ٢٨٤ سورة التكوير مَن قالت ادفنوني حيّةً.وحيث إنه ليس هنالك أي ادعاء للكفار بالنسبة للموءودة فكيف يوجه إليها السؤال؟ وعندي أن مفهوم الآية كالآتي: وإذا الموءودة سُئل عنها.لقد دفنت ظلما بغير حق، فحين يُسأل وائدها عن وأدها تثبت إدانته.لا شك أن المؤمن أيضا يحاسب، والكافر كذلك، ولكن هناك فرق بين حسابهما، وهو أن حساب المؤمن يسير سهل لقوله تعالى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسيرًا (الانشقاق : (۹)..أي أنه سيُسأل أسئلة بسيطة ثم يُخلّى سبيله، ولكن حساب الكافر يكون شديدا.ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: "من نوقش الحساب عُذَبَ.(البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب).والواقع أن المجرم لا يُسأل بشدة إلا ليعاقب بعد الحساب، أما المؤمن فيريد الله أن يعطيه نصيبا من نعمه وجزائه، فلذلك سيُسأل عن و جزائه، فلذلك سيُسأل عن أعماله الحسنة ويقال: هل فعلتَ كذا؟ وعندما يعترف بها يُدخله الله الجنة.فثبت أن الغرض من حساب الكافر إهانته وإذلاله ولكن الغرض من حساب المؤمن هو كشف أروع أعماله على الناس، ليعرف الناس مدى روعة أعماله الحسنة.لهذا السبب يقول الله تعالى هنا يومئذ يُسأل المجرمون عن الموءودة سؤالا شديدا، ويقال لهم بأي ذنب دفنتموها حية؟ لقد ناقش المفسرون هنا أمرًا ضمنيًّا لا أهمية له من الناحية العقائدية، كما أنه ليس ذا نفع كبير في هذه الدنيا، لأن الأمر يتعلق بالآخرة، غير أنه موضوع مهم حدا من الناحية النظرية.قال الزمخشري إن قوله تعالى (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ) دليل على أن أولاد المشركين لا يعذبون في الآخرة، لأن الموءودة غير مذنبة عند الله تعالى، وإلا لم يقل: بأي ذنب قتلت.(الكشاف) وقد خاض المفسرون فيما إذا كان استنتاج الزمخشري صائبا أم خطأً، وما إذا كانت هذه القضية صحيحة أم باطلة.والحق أن الزمخشري قد اتبع ابن عباس في استنتاجه من هذه الآية وقال إن أولاد المشركين أبرياء وأنهم سيدخلون الجنة.فقد ورد في الروايات أنه قيل لابن عباس الله يقول البعض إن ذراري المشركين يدخلون الجحيم، فقال: لقد كذب هؤلاء، لأن الله تعالى يقول في القرآن الكريم (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُلَتْ.

Page 289

الجزء الثامن ٢٨٥ سورة التكوير ولكن صاحب روح المعاني يقول إن هذا الأثر ضعيف.فترى أن ابن عباس أيضا قال بهذا، ولكنه لم يذكر وجه استدلاله، وإنما ذكر الآية فقط.أما الزمخشري فقد اعتبر قوله تعالى فقد اعتبر قوله تعالى بأي ذنب قتلت دليلاً على براءة أولاد الكافرين ونجاتهم من النار، ولكن استدلاله من هذه الآية خطأ، إذ لا يعني قوله تعالى بأَيِّ ذَنْب قُتلَتْ أن ذراري الكافرين سيدخلون الجنة؛ ذلك لأن عدم ثبوت إدانة شخص في قضية ما لا يتضمن براءته في القضايا كلها؛ إذ يمكن أن يكون قد ارتكب جريمة أخرى.لا شك أن استدلال الزمخشري صحيح بشأن البنات الموءودات، ولكنه ليس صحيحا على إطلاقه، لأن عدم ثبوت جريمة ضد شخص لا براءته من أية جريمة أخرى.يعني بالضرورة إلا أن هناك أمرًا واحدًا يقوّي رأي الزمخشري وهو أن قوله تعالى بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ يتعلق بطفل غير بالغ، وحيث إن الطفل الذي لم يبلغ أشده غير مكلف بالشرع، فلا يمكن أن نقول بأنه إذا لم يكن قد ارتكب هذه المعصية فربما ارتكب غيرها.وأبين الآن بعض الحلقات الأخرى من سلسلة هذا الموضوع، ثم في الأخير سأزيد وجهة نظري وضوحًا.هناك اختلاف كبير بين العلماء فيما يتعلق بأولاد المشركين، أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ وقد نقل البعض أحاديث وآثارا بهذا الصدد، فمثلا روى الإمام أحمد بن حنبل عن سلمة بن يزيد الجعفي أن رسول الله ﷺ قال : الوائدة والموءودة في النار، إلا أن تدرك الوائدةُ الإسلام فيعفو الله تعالى عنها.(روح المعاني، وابن كثير).وقد روى النسائي هذا الحديث عن داود بن هندية.وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود: الوائدة والموءودة في النار ابن كثير).وعن ابن عباس : سئل رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال : "خلقهم الله - حين خلقهم - وهو يعلم بما كانوا عاملين." (النسائي وأبو داود، كتاب الجنائز) الله عنها - قالت قلت يا رسول ولتأييد موقفهم ينقلون رواية عن عائشة - رضي الله، ذراري المؤمنين؟ فقال: هم من آبائهم قلت بلا عمل؟ قال: الله تعالى أعلم بما

Page 290

الجزء الثامن ٢٨٦ سورة التكوير كانوا عاملين.قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال: من آبائهم.قلت: بلا عمل؟ قال : الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين.(أبو داود، كتاب الجنائز) فبالجمع بين هذه الرواية والحديث السابق يستدل هؤلاء أن أولاد المشركين سيدخلون النار لأنهم سيكونون مشركين في المستقبل في علم الله تعالى.كما أن هناك رواية عن خديجة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله ﷺ عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال : هما في النار.(مسند أحمد، مسند عبد مسعود) هذه الله بن هي الأحاديث والآثار التي يُستدل بها على دخول أولاد المشركين النار.أما أولاد المسلمين فيقول الإمام النووي: "أجمعَ مَن يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا." (المنهاج شرح النووي لمسلم، كتاب القدر - ولكن البعض توقف في هذا الشأن لحديث عائشة الله عنها - بأن صبيًا رضي أنصاريًا ،تُوفي فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوءا و لم يدرك.فقال النبي : أو غير ذلك.يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً..خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا..خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم.(مسلم، کتاب القدر وقد أجاب عليه القائلون بدخول أولاد المؤمنين في الجنة بقولهم: لعل رسول الله ﷺ نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع.ويُحتمل أنه قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة؛ فلما علم الحقيقة قال: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحِنْتَ إلا أدخله الله الجنةَ بفضل رحمته إياهم" (روح المعاني، والنسائي، كتاب الجنائز، باب من يتوفى له ثلاثة).فهذا الحديث يصرح في رأيهم أن أولاد المؤمنين سيدخلون الجنة، لأن النبي هي عائشة عن هذا الوليد عصفورًا من عصافير الجنة قبل انكشاف الحقيقة.أما أولاد الكفار والمشركين، ففيهم ثلاثة مذاهب ؛ فقال الأكثرون: هم في النار تبعًا لآبائهم لحديث سُئل فيه النبي الي الله عن أولاد المشركين الذين يموتون في صغرهم فقال تسمي أن

Page 291

الجزء الثامن نعلم هذا ۲۸۷ سورة التكوير : "الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين".وتوقفت طائفة في هذا الشأن قائلة: كيف وهو مما يتعلق بيوم القيامة، فلا نتدخل فيه.وقالت الثالثة: إنهم من أهل الجنة، ويستدلون بأدلة أكبرها عندهم حديث أن رسول الله ﷺ رأى في المعراج إبراهيم الله جالسا تحت شجرة كبيرة مع ولدان يلعب معهم.فقيل: يا رسول الله، هل أولاد المشركين بين هؤلاء الولدان أيضا ؟ قال : نعم، وأولاد المشركين...أي حيث إن العذاب لا ينزل إلا بعد بعثة ،رسول، والرسول لا يبعث إلى الأولاد كونهم غير مكلفين، فثبت أن أولاد المشركين لن يُعذبوا.(البخاري: كتاب التعبير، وروح المعاني).أدلتهم أيضًا قول الله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ ومن رَسُولا) (الإسراء: ١٦).وهناك مذاهب أخرى أيضًا منها أن هؤلاء الأولاد سيكونون في عالم البرزخ بين الجنة والنار.ومنها أنهم سيُختبرون يوم القيامة، فيدخلون الجنة أو النار بحسب نتيجة هذا الاختبار.وطريقته أنه سيقال لهم ادخلوا النار، فمن رضي بدخولها، اعتبر مؤمنًا وأُرسل الى الجنة، ومن رفض دخول النار، اعتبر كافرًا وأُلقي في النار.ويقول أصحاب هذا الرأي عن قول الرسول ﷺ: "والله أعلم بما كانوا عاملين" أنها كلمات مبهمة لا تذكر النتيجة النهائية؛ إذ اكتفى النبي الله بقوله: الله أعلم بما كانوا فاعلين إنْ بلغتهم الدعوة وماذا سيكون مصيرهم.فهو لم يصرح هنا بمصيرهم، بل يبدو أنه أراد أنهم لو أُتيحت لهم الفرصة، فالله أعلم بما سيكون مصيرهم.وقد رجح الإمام ابن تيمية هذا التأويل.(روح المعاني) وهذا الرأي تدعمه تلك الأحاديث التي تقول: إن الله تعالى سيبعث في الآخرة نبيا لاختبار المجنون والمعتوه والشيخ الهرم الذي لا شيئًا.(مسند أحمد، حديث الأسود بن سريع ) يسمع نص يعي الحديث: عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعِ أَنْ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لا شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقَ، وَرَجُلٌ هَرَمْ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ.فَأَمَّا الأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإِسْلَامُ وَالصَّبْيَانُ يَحْدِفُونِي بِالْبَعْرِ، وأمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإِسْلَامُ وَمَا أَعْقَلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ

Page 292

الجزء الثامن ۲۸۸ سورة التكوير وقد رجح السيوطي هذا الرأي، غير أنه أضاف أن أولاد المشركين سيُحشرون بلا شك، ولكنهم سيصيرون ترابًا كالحيوانات الأخرى لكونهم غير مكلفين.وقد اضطر لهذا الاستدلال بسبب قوله تعالى ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئلت، إذ لا يمكن هذا السؤال إلا بعد أن تحشر الموعودة.وهذا يماثل ما ذكره حديث بأن شاة نطحت شاة أخرى في الدنيا ستُحشر يوم القيامة فيقال للنطيحة انطحي الناطحة (مسلم، كتاب البر).إذا قد اضطر السيوطي إلى القول بحشر الأولاد بسبب هذه الآية، ولكنه يقول لأن الأولاد لا يستحقون الجنة نتيجة عمل إذ لم يعملوا شيئًا، فلذلك يحولون ترابًا بعد أن يجيبوا على هذه الأسئلة، مثل الحيوانات الأخرى التي ستصير إلى الفناء بعد أن يؤدي بعضها حقوق بعض.وقد مال الإمام أحمد السرهندي - رحمه الله - أيضا إلى رأي الإمام السيوطي، وقال إن الأولاد سيحشرون، ولكنهم سيفنون مرة أخرى.(روح المعاني والقائلون بدخول الأولاد في الجنة قد ناقشوا سؤالا آخر وهو: إن هؤلاء الأولاد لا عمل لهم، ويدخل المرء الجنة عن استحقاق أي نتيجة عمل، فكيف يدخلونها إذا؟ فأجاب بعضهم أنه فضل الله تعالى يعطيه من يشاء ولا يحق لأحد أن يتدخل فيه.وقال البعض الآخر : سيكون هؤلاء الأولاد في الجنة كالخدم وسيفرح آباؤهم برؤيتهم، فلا يدخلون الجنة عن استحقاق وإنما يكونون هناك من أجل خدمة الآخرين.(روح المعاني) 28 وهناك رواية أخرى آخر راو فيها امرأة، وهي عمة الخنساء، قالت: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة، والموءودة في الجنة.(مسند أحمد).كذلك نقل ابن أبي حاتم عن الحسن رواية مرسلة، وهي: "قيل مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ.فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ.قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بَيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرَّدًا وَسَلَامًا.قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَ هَذَا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا".(المترجم)

Page 293

الجزء الثامن ۲۸۹ سورة التكوير یا رسول الله مَن في الجنة؟ قال: الموءودة في "الجنة" ابن كثير).كذلك نقل ابن أبي حاتم عن ابن عباس : "أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب، يقول الله تعالى ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتلَتْ".(ابن كثير) هذه هي الآراء القديمة التي نجدها في كتب الحديث وكتب العلماء السابقين فيما يتعلق بأولاد المؤمنين والمشركين والظاهر منها أن غالبيتهم متفقون على دخول أولاد المؤمنين في الجنة.هناك حديثان فقط يجعلان هذه المسألة موضع شبهة إذا كانا صحيحين؛ أحدهما ما نُسب إلى خديجة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله ولدين لها ماتا في الجاهلية، فقال : هما في النار.لو كان أولاد المسلمين سيدخلون الجنة حتمًا ، فلماذا قال النبي الهلال الهلع عن ولدي خديجة أنهما في النار؟ والحديث الآخر أن عائشة - رضي الله عنها - لما قالت عن ولد أنصاري توفي: طوبى له عصفور عن من عصافير الجنة ، قال النبي : أو غير ذلك ، لعله يكون من أهل النار.ثم دلل على ذلك بقوله: إن الله تعالى خلق للجنة أهلا..خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا..خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (مسلم).فكيف يمكننا الجزم أن أولاد المؤمنين من أهل الجنة أو من أهل النار؟ لقد ذكرتُ من قبل أن المحدثين يقولون عن قول النبي لعائشة إنما قاله قبل انكشاف الحقيقة عليه حيث غيّر عقيدته بعد انكشافها ولكنهم يواجهون هنا مشكلة أخرى، إذ ورد في حديث آخر أن رسول الله رأى إبراهيم العليا جالسا في الجنة أطفال، وكان بينهم أولاد المشركين ،أيضا وقد رأى ذلك في واقعة مع المعراج الذي وقع في السنة الخامسة للبعثة.وهذا يعني أن الحقيقة كانت قد انكشفت على النبي الله قبل الهجرة بثماني سنوات، بينما تزوج النبي عائشة بعد الهجرة بسنة.وهذا يعني أن الحقيقة انكشفت عليه قبل زواجه بها بتسع سنوات، فكيف يمكن أن يقول لعائشة قولاً يخالف هذا الانكشاف السابق؟ فلا جدوى من إجابة المحدثين هذه.إذا، إننا نجد التعارض في الأحاديث، فلا بد لنا من العودة الى القرآن الكريم، لنتدبره ونعرف تعاليمه بهذا الشأن، فهو وحي أنزله الله تعالى، ويمكننا قبوله سه

Page 294

الجزء الثامن ۲۹۰ سورة التكوير والأخذ به دونما تردد ولا خطر.لا جرم أن بعض هذه الأحاديث قوية الإسناد وقد وردت في الصحاح، ولكن يبدو أنه قد اختلط فيها الحابل بالنابل، أو أن بعضها موضوع من قبل الوضاعين فلا بد لنا من التوجه إلى القرآن الكريم لمعرفة حقيقة القضية.يقول الله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ (آل عمران:١٨٣).وحيث إن الله ليس بظالم، فكيف يمكن أن يُدخل الأولاد في النار من دون ذنب؟ إن عقاب من لم يرتكب جريمة، ثم هو غير مكلف بأحكام الشرع، لظلم يقينا.ثم يقول الله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء (١٦)..أي لا نعذب الناس من دون بعثة رسول.وقد استدل المحدثون أنفسهم بهذه الآية على نجاة الأولاد.فالله تعالى يعلن أنه لا يظلم العباد، ثم يعلن أنه لا يعذب الناس بدون إقامة الحجة عليهم ببعثة رسول، وهذا دليل على أن الأولاد لا يمكن أن يعذَّبوا؛ إذ لم يرتكبوا جريمة و لم يُبعث إليهم رسول.كذلك قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب منْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلُّ وَنَحْزَى (طه ١٣٥).وقد تكرر المعنى نفسه في قوله تعالى (يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة من الرُّسُل أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة (٢٠).فقد أعلن الله هنا أن إقامة الحجة إنما يعني أن يُبعث نبي فيصدقه الناس أو يكذبوه، إذ يخبر تعالى هنا أننا قد بعثنا إليكم الأنبياء حتى لا تقولوا يوم القيامة لم يأتنا رسول.فرغم أنهم كانوا عقلاء إلا أن الله تعالى يقول لهم: لو لم نبعث إليكم الأنبياء لاعتبرناكم أبرياء.وحيث إن الكبار يُعدّون أبرياء إذا لم يأتهم نبي، فإن تحريم الصغار واعتبارهم من أهل النار - مع أنهم لا يفهمون حقيقة النبوة وليسوا مكلفين بأحكام الشرع لاعتقاد مخالف للقرآن الكريم يقينًا إن القرآن يعلن أن العاقل لا يُعَد محرمًا ما لم يُبعث إليه نبي، فكيف يا ترى يُعَدُّ محرمًا مَن ليس عنده عقل ولا ور •

Page 295

۲۹۱ سورة التكوير الجزء الثامن فهم أصلا؟ وما دام الله تعالى لا يعتبر العقلاء مجرمين إذا لم يبعث إليهم نبي، فكيف يمكن أن يعذب الأطفال الذين لم تَقُمْ الحجة عليهم حتى ببعثة النبي؟ إذا فقد تبين من هذه الآيات جليًّا أن القرآن الكريم يرفض دخول الأطفال في النار وأنها عقيدة باطلة تماما.لا بد من أما السؤال: إذا كان أولاد المؤمنين والكافرين غير مكلفين، فماذا يكون مصيرهم؟ فليكن معلومًا أن أولاد المؤمنين سيدخلون الجنة كما يؤيد ذلك حديث المعراج، والعقلُ أيضا يفتي بصحة هذا الحديث وقوته.إنه حديث متواتر ومتعدد الإسناد.لا شك أنه مضطرب في بعض أجزائه، إلا أن المحدثين قد اعتبروه قويًا جدًّا.إذا فحديث المعراج دليل على أن أولاد المؤمنين سيدخلون الجنة.ثم إن العقل يفتي بضرورة دخول أولاد المؤمنين الجنة من أجل سرورهم وسكينتهم.يقول الله تعالى عن أهل الجنة لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) (النحل) (۳۲)، وإن أكبر أمنية للأم أن يرجع إليها ولدها.لقد رأينا أن بعض النساء إذا أتاهن أجلهن قلن: سوف أُحَقُّ الآن بابني الذي قد مات فثبت أن العقل أيضا يفتي بأنه من أجل سكينة الأمهات واطمئنانهن لقاء أولادهن في الجنة، أيا كانت نوعية هذا اللقاء، سواء كخدم أو دُمى، اللهم إلا أن يكون هؤلاء الأولاد من أهل النار وأعداء الله ولرسوله، لأن المؤمن يقطع صلته عن مثل هؤلاء الأولاد، ولا يفكر بلقائهم أبدا.باختصار، إذا كان الولد بالغًا كافرًا مشركًا فلن يبالي المؤمن أينما يدخله الله تعالى، ولن يتأذى بدخوله النار؛ لأنه قد نفض حبه من قلبه.أما الولد غير البالغ الذي مات في سن البراءة، فإن العقل والفطرة يقتضيان أن يُسكَن مع أبويه المؤمنين في الجنة.بل الحق أن الجنة لن تكون جنة للأم إلا إذا كان معها أولادها وبناء على هذا الدليل العقلي يمكن القول إن حديث المعراج مطابق للفطرة تماما.أما أولاد الكفار والمشركين فلا شك أن هناك أحاديث تؤيد أنهم يدخلون النار، أن هناك أحاديث أخرى توضح أنهم سيدخلون الجنة مثل حديث المعراج الذي ورد فيه أن أولاد المشركين كانوا مع إبراهيم الام في الجنة.وقضية أولاد المشركين ليست ذات أهمية إلا أن قضية أولاد المؤمنين ذات أهمية بلا شك.وفيما يتعلق غير

Page 296

الجزء الثامن ۲۹۲ سورة التكوير بأولاد المشركين فهناك أحاديث تقول بدخولهم في الجنة، وأحاديث تقول بدخولهم في النار، ولذلك فإننا نرجّح الأحاديث الأولى لقوله تعالى ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف ١٥٧)، لأن القرآن الكريم قد بين لنا مبدأ أساسيًا أنه إذا تعارض أمران فخُذوا الأقرب إلى رحمة الله، لأنها غالبة على غضبه.فحيث إن الأحاديث بنوعيها تروى عن الرسول ﷺ ولا نستطيع ترجيح بعضها على بعض، فالدراية تفتي الأحاديث التي تقول بدخولهم في الجنة عملاً بالمبدأ القائل: (وَرَحْمَتِي بترجيح وَسَعَتْ كُلِّ شَيْءٍ.وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهناك تأويل آخر في رأيي، وهو أن أهل النار عندما يخرجون منها ويدخلون الجنة فلا يمكن أن يتبوأوا فيها المقام الذي تبوأه من دخلها مباشرة، فربما سيميّز الله بين من دخل الجنة مباشرة وبين من لم يدخلها مباشرة بأنه سيسكن أولاد الفئة الأولى الصغار معهم أيضا، ولو بصفة خدم، أما الذين يدخلون الجنة فيما بعد فأولادهم الصغار يُفنون؛ إذ لا يستحقون الجنة استحقاقا ذاتيا إذ لم يعملوا شيئا، كما لا ينفعهم الاستحقاق غير المباشر أي بسبب آبائهم.أما إذا كانت هذه القضية ستُحسم بحسب ما ورد في الحديث أن نبيا سيُبعث إلى الأولاد يوم القيامة لاختبارهم (مسند أحمد فلا قيمة للبحث السابق، إذ لا يبقى عندها فرق بين أولاد المؤمنين وأولاد الكافرين وسيكون المراد من حديث المعراج عندها أن أولاد المؤمنين والمشركين كلهم سيظلون في الجنة تحت رعاية إبراهيم ال كلُعب إلى يوم البعث، ثم سيُبعث إليهم يوم القيامة نبي لاختبارهم، فيدخلون الجنة بتصديقه أو النار بتكذيبه.أما إذا فسرنا هذا الحديث بمفهوم آخر - كما فعل المسيح الموعود اللة إذ يرى أن أمر إيمانهم سيُحسَم يوم القيامة بحسب فطرتهم - فنقول إن الذين يستحقون النار سيدخلونها حتمًا، أما أولادهم الصغار فلو شملهم الفناء ترحما عليهم فلا ظُلْمَ في هذا، لأن إسكان أولاد المؤمن في الجنة تأليفا لقلبه هو الرحمة بعينها، أما الكافر فحيث إنه قد فقد سكينته بدخوله النار سلفًا ففي فناء أولاده رحمة له لا ظلم.وہ

Page 297

الجزء الثامن ۲۹۳ سورة التكوير إذا، فأولاد المؤمنين سيسكنون مع آبائهم في الجنة ولكن أولاد الكافرين يفنون كالحيوانات، ويصيرون ترابا.ولو سلمنا بهذا المعنى لتوافق القولان، وبدا رأي الإمام أحمد السرهندي - رحمه الله – أقرب إلى الصواب.فإن الله ست أما السؤال بأي شكل سيسكن هؤلاء الأولاد في الجنة، فهو نقاش نظري فقط، وحده يعلم كيف يُسكنهم فيها، ولا دخل لنا في ذلك.غير أنه قد انكشف علي بالتدبر في آيات من القرآن الكريم أنه لن يتمتع بنعماء الجنة حقا إلا البالغون، أما الصغار فيسكنون فيها من أجل سكينة آبائهم البالغين.كنت أظن من قبل أن الأولاد سيسكنون في الجنة كما يسكن فيها ،آباؤهم ولكن هناك فرق بينهم وبين آبائهم بهذا الشأن.أما الآية الأولى التي تشير إلى ذلك فهي قول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (الطور: ٢٢)، والآية الثانية هي قوله تعالى جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتهمْ (الرعد (٢٤).ثم هناك قول الله تعالى الذي هو عبارة عبارة عن دعاء الملائكة، وهو رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صلَحَ منْ آبائهمْ وَأَزْوَاجهمْ وَذُرِّيَّاتهم (غافر : (٩).فنرى في كل هذه الأماكن أنه قد وردت فيها ألفاظ وَمَنْ صَلَحَ أو بإيمان ، مما يدل على أن هناك فرقا بين الكبار والصغار فيما يتعلق بدخول الجنة.فلأن أرواح الصغار لن تكون متطورة بشكل كامل فلا يدخلون الجنة وإنما يُدخلونها تسكينًا لآبائهم، ولذلك قد انتقل ذهن المفسرين إلى أن الصغار سيكونون في الجنة كالخدم.أما أنا فلا أسميهم خدمًا بل أسميهم لَعَبَّا، لأن أرواحهم لن تكون متطورة حتى تستمتع بنعماء الجنة حق الاستمتاع.ثم إن الله تعالى قد أخبر هنا أن الملائكة سيستقبلون أهل الجنة على أبوابها قائلين : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار (الرعد: ٢٥)، والملائكة لن يسلّموا إلا على من يكون ممن آمن أو ممن صلح، والله تعالى قد ذكر هنا واتبعتهم ذريَّتُهُمْ بِإِيمَان) و (وَمَنْ صَلَحَ منْ آبائهمْ وَأَزْوَاجهمْ وَذُرِّيَّاتهم، والصغار لم يؤمنوا ولم تتطور كفاءاتهم بعد، وبالتالي لن يتبوءوا في الجنة المقام الذي يتبوأه الآخرون ممن بلغوا أَشُدَّهم.فثبت أن سد عن استحقاق،

Page 298

الجزء الثامن ٢٩٤ سورة التكوير الكبار سيدخلون الجنة استحقاقا، أما الصغار الذين ماتوا في طفولتهم فلو دخلوها بغير أي اختبار زائد، فإنما يُسكنون فيها ثلجا لصدور آبائهم، أيا كان شكلهم هناك ومهما كانت درجة روحانيتهم، فهذا سر من أسرار الله تعالى لا حاجة بنا للخوض فيه.وكما قلتُ، لم يخطر هذا المعنى ببالي من قبل، وكانت تأخذني الحيرة دائما إذ كنت أقول: لماذا يُسكنون في الجنة خدمًا، ولكن بعد التدبر في هذه الآيات تبين لي أن أرواحهم لن تكون متطورة بشكل كامل، ولذلك فإنهم رغم دخولهم في الجنة سيختلفون حالا عن الآخرين، سواء سميتموهم الآخرين، سواء سميتموهم خدمًا أو لُعبًا.أن والجدير بالذكر أيضًا أن هناك مسألة أخرى تستنبط - ضمنيًا - هنا، من وهي النبي ﷺ قال: إن إسلام المرء يمحو كل ما ارتكب في زمن كفره من ذنوب.هذه مسألة شهيرة ومذكورة في الحديث، غير أنها بحاجة الى شيء من التعديل في رأيي، لا أسميه تعديلاً إصلاحيا، بل أسميه تعديلا إكماليا.فقد ورد في الحديث أن قيس بن عاصم جاء النبي وقال يا رسول الله، لقد وَأَدْتُ بعض بناتي في الجاهلية.فقال أعتق عبدًا عن كل موءودة.قال: يا رسول الله إني صاحب إبل، وليس صاحب عبيد، فهل أنخَرُ عن كل موءودة.فقال : فانحر فانحر عن كل واحدة منهن بدنة.(ابن كثير، والمعجم الكبير للطبراني، باب الْقَافِ : قَيْسُ بن عَاصِمِ الْمِنْقَرِيُّ، رقم الحديث (١٥٢٥٧ يتضح من هنا أن الإنسان لو أدى كفارةً عن ذنوبه التي غُفرت له نتيجة إسلامه وتوبته، ولكنها لا تزال تثقل على قلبه فيؤنبه ضميره بسببها، لكان ذلك أدعى لتكميل روحانيته.الآن أنقل حديثا آخر بصدد الوأد يجب إلقاء الضوء عليه فعن سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة عن جُذامة بنت وَهَب أخت عُكاشة قالت: حضرت رسول الله في ناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهى عن

Page 299

الجزء الثامن ٢٩٥ سورة التكوير الغيلة، فنظرتُ في الروم وفارس فإذا هم يُغيلون أولادهم ولا يضر أولادهم ذلك شيئا.ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله ﷺ: ذلك الوأد الخفي".(مسند أحمد: حديث جذامة، ومسلم كتاب النكاح، وأبو داود والترمذي: كتاب الطب، والنسائي، كتاب النكاح وبناء على هذه الرواية قال البعض حيث إن العزل وأد خفي فيجب أن يُعاقب صاحبه بعقوبة ما.وآثم ولكن استنتاجهم من هذه الرواية غير سليم، فأولاً : إذا كان العزل ممنوعًا لكونه وأدًا خفيًا فيجب أن يكون جماع الحامل أيضا ممنوعًا، ولكنا لا نجد حرمة جماع الحامل، مع أنه وأدٌ قطعي ويقيني.وثانيًا: هناك أحاديث تجيز العزل حيث ورد أن العزل، فقال: لا عليكم ألا تفعلوا، فإنه ليست نَسَمةٌ كتب الله أن سُئل عن النبي تخرج إلا وهي كائنة (البخاري، كتاب القدر، باب وكان أمر الله قدرًا مقدورًا).ولما كان العزل جائزا بحسب الحديث فيكون المراد من هذا الحديث – رغم كونه حديثا قويًا - أن العزل جائز عند الضرورة فحسب ومن لجأ إلى العزل بغير ضرورة فقد قام بوأد خفي، بمعنى أنَّ الذي يعزل عزلاً فيه انقطاع نسل فهو مجرم عند الله تعالى، وإلا فإن العزل جائز في بعض الحالات.فمثلاً هناك شخص قوي، ولكن زوجته مريضة وهو لا يقدر على الزواج بثانية، فقد خلق الله تعالى في هذا الإنسان القوة الشهوانية من ناحية، ومن ناحية أخرى يحذره الطبيب من خطر الحمل على حياة زوجته ؛ فماذا يفعل؟ الحق أن العزل ليس جائزا له فحسب، بل إسقاط الحمل جائز لو حملت زوجته بل لقد سمعتُ المسيح الموعود اللي يقول إن مثل هذه المرأة إذا لم تُسقط حملها وماتت بسببه فسوف تُعتبر منتحرة.لقد قال العلا: يجب إسقاط الجنين في هذه الحالة فإننا لا نعلم عن الجنين ولا عن مصيره وعاقبته شيئا، ولكنا نعلم حتمًا أن أُمَّه حيّةً تُرزق، والحفاظ على حياتها يفرض علينا إنقاذها والخلاص من الجنين.أما إذا لجأ أحد للعزل أو إسقاط الحمل خشية إملاق فهو يرتكب حرامًا.أَغالَ فلانٌ ولده: إذا غَشِيَ أُمَّه وهي ترضعه.(مختار الصحاح)

Page 300

الجزء الثامن ٢٩٦ سورة التكوير باختصار، إن فتوى جواز العزل أو عدمه يتعلق بحالة المرأة، فلو تم العزل عند الضرورة فهو جائز، أما بدون ضرورة فهو مكروه، ولو تم لقطع النسل فهو حرام؛ فالأوربيون مثلاً يلجأون إلى العزل لقطع النسل فقط، ولأن هذا يدمر الأمة فهو غير جائز وحرام يقينًا.وإذا قام أحد بالعزل بدون ضرورة فهو يرتكب مكروها.وإذا لجأ أحدٌ إلى العزل لضرورة حقة فلا سبيل عليه.باختصار، لهذه المسألة ثلاثة جوانب : إذا جُعل العزل سببًا لتدمير النسل فهو حرام، وإذا لم يؤد إلى تدمير النسل ولكنه تم بدون ضرورة فهو مكروه، وإذا تم لإنقاذ حياة المرأة أو لضرورة مماثلة أخرى أجازها الشرع فهو جائز.فليس كل عزل وأدًا خفيًا، إنما يُعَدُّ العزل جريمة إذا أدى لدمار الأمة كما نرى في هذه الأيام في فرنسا وفي غيرها من البلاد حيث أدى إلى نقص في تعداد السكان بشكل خطير، وأصبح هذا الشعب ذليلاً مقهوراً أمام الشعوب الأخرى.ولذلك قال النبي : "تزوجوا الودود الولود" النسائي، كتاب النكاح..أي تزوجوا من النسوة اللواتي هن ودودات ويُنجبن بكثرة، لأن ذلك يُساعد على رقي الأمة.وأما إذا طبقنا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْعُودَةُ سُئِلَتْ على القيامة فيكون لكلمة سُئلت مفهومان: أولهما أن وائدها سوف يُسأل، وثانيهما أنَّ الموءودة ستُحيا مرة أخرى - ولو لبعض الوقت وستفنى بعدها كما ستفنى الحيوانات - لكي تُسأل، بيد أن قوله تعالى بأَيِّ ذَنْب قَتَلَتْ إنما يُشير إلى أن وائدها سيُسأل عنها.هذا، وككل النبوءات الأخرى الواردة في هذه السورة قد تحققت هذه النبوءة أيضًا في هذا العصر، حيث أخبر الله تعالى هنا أنه سيأتي زمان يتم فيه الحظر على وأد البنات بسن القانون، وسُيُعاقب الوائد بموجبه.وبالفعل قد سنّت الحكومة البريطانية عام ۱۸۷۲ قانونًا بهذا الشأن، وهكذا قد تحققت هذه العلامة المتعلقة بالزمن الأخير.

Page 301

الجزء الثامن ۲۹۷ سورة التكوير شرح الكلمات: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (2) نُشرت نشر الخبر نشراً: أذاعه.نشر الثوب والكتاب : بَسَطَه خلافُ طَواه.ونَشَرَ الله الموتى أحياهم.ونَشَرَ الموتى : حَيُوا.لازم ومتعدٌ (الأقرب) فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني -١- حين تنشر الصحف، ٢- حين تُفتح الصحف، ٣- حين تُعاد الصحف الميتة إلى الحياة.التفسير: كل هذه المعاني لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قد تحققت في هذا العصر.المعنى الأول هو حين تُنشر الصحف وتُشاع، وقد تحققت هذه النبوءة باختراع المطابع لطبع الكتب والجرائد وباختراع القطار الذي يوصل هذه المطبوعات إلى شتى أنحاء العالم فهناك جرائد يُطبع منها حتى خمسة ملايين نسخة، كما تُطبع بعض الكتب بعشرة بل عشرين مليون نسخة.وهذا ما ورد في هذه الآية حيث تنبأت عن طبع الكتب والصحف ونشرها في العالم على نطاق واسع.والمعنى الثاني هو أن الصحف ستُبسط وتُفتح، وقد تحققت هذه النبوءة أيضا اليوم، حيث تُقرأ الكتب في هذا العصر بكثرة، كما أُنشئت مكتبات ضخمة يرتادها الناس لمطالعة الكتب والجرائد كما يستعير أعضاؤها الكتب ليطالعوها في بيوتهم.باختصار قد فتحت الكتب وبسطت بدل أن تظل مغلقة، وصار للعلم رواج في كل أنحاء العالم.وقد تحققت هذه النبوءة من حيث إن علماء الآثار قد نقبوا عن مكتبات ضخمة قديمة، فقد عثروا مثلا على مكتبة نبوخذ نصر المنقوشة على الحجارة & Assyria " Babylon Uncovered, by: W.H.Boulton ،(www.biblemagazine.com/magazine/vol-9/issue-3/assyria_babylon.html وهكذا قد أحيوا الصحف الميتة.فلا يزال علماء الآثار يُنقبون عن الكتب المنسية المتروكة عَمليًا ويعرضونها على الناس.كما أنهم ينقبون عن آثار فرعون موسى العلا ويدرسونها كانت لغة المصريين القديمة التي تُسمى الهيروغرافية قد اندرست •

Page 302

الجزء الثامن ۲۹۸ سورة التكوير تماما، ولكن علماء الآثار قد أنفذوا أعمارهم في فك رموزها وتمكنوا من قراءتها وأخبروا ما حدث مثلا قبل موسى العلم بألفي سنة وما حدث قبله بثلاثة آلاف سنة.(Encyclopedia Britanica Vol.8 : Hieroglyphic Writing) باختصار، إن الصحف الميتة تُعاد إلى الحياة ثانية في هذا العصر وتتحقق النبوءة وَإذَا الصُّحُفُ نُشْرَتْ جليًا.شرح الكلمات: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ : و له كُشطت كَشَطَ رفع شيئًا عن شيء قد غشاه ، ونحاه.كشط الجل عن الفرس والغطاء عن الشيء: قلعه ونزعه وكشفه عنه كشط البعير: نزع جلده، ولا يُقال سلخ البعير (كما يقال سلخ الشاة، لأن العرب لا تقول للبعير إلا كشطته أو جلّدته (الأقرب).فقوله تعالى (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشَطَتْ يعني: حين يُنزع جلد السماء أو يُزال غطاء السماء.يعني التفسير: قد يراد بالسماء العلوم السماوية الروحانية، فقوله تعالى ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشَطَت انكشاف العلوم السماوية في ذلك العصر، أي في ذلك العصر تكون العلوم الروحانية مغطاة مخفية تحت أنواع الحجب، فيبعث الله تعالى شخصا من عنده يكشف تلك العلوم الروحانية، ويُظهر أسرار القرآن المكنونة، ويبين غوامض علم الحديث.والمعنى الثاني لكشط السماء هو نزع جلد السماء..أي أن علم الفلك والهيئة سوف يتطور بشكل هائل في لغتنا أيضًا يقال: أنت تقشر الشعرة..أي تتكلم بكلام عميق دقيق.وبالفعل نرى في هذا العصر أن علم الحياة والفلك قد تطور تطورًا يفوق تصور الأولين.كما تطورت في هذه الفترة الوجيزة علوم خلق الكون وسعته وسير النجوم والأجرام الفلكية وغيرها تطورًا غير عادي لم يحدث في عشرات القرون الماضية.فما كان بوسع المهندسين وعلماء الرياضيات قبل قرن أو

Page 303

الجزء الثامن ۲۹۹ سورة التكوير و و قرن ونصف من الزمان ليقدّروا أن هذا التطور سيقع بهذه السرعة.في الماضي كان عندهم منظار لا يتعدى قطره قدمًا ونصف قدم، أما اليوم فقد اخترعوا في أمريكا منظارا قطره مئة قدم وكلما كان المنظار أكبر قطرًا ازدادت كفاءته وقدرته.يقال إن تكلفة صنع هذا المنظار تبلغ مئة مليون دولار.وليس صعبًا تقدير عدد السنوات التي استغرقها صُنع هذا المنظار وعدد العلماء المتخصصين من شتى المجالات الذين جمعوهم من العالم.لقد تطوّر علم الفلك باختراع هذا المنظار بشكل مدهش.يقدر علماء الفلك والهيئة المسافة بين نجم وآخر بسرعة الضوء.إنهم يقولون إن الضوء يقطع مسافة مئة ألف وستة وثمانين ألف ميل في ثانية واحدة.ولو ضربنا هذا العدد في ٦٠ عرفنا المسافة التي يقطعها الضوء في دقيقة واحدة ثم ضربناه في ٦٠ عرفنا المسافة التي يقطعها الضوء في ساعة واحدة، ثم ضربناه في ٢٤ عرفنا المسافة التي يقطعها الضوء في يوم واحد ثم ضربناه في ٣٦٠ عرفنا المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة.فلو أراد العلماء بيان المسافة بين نجم وآخر، فلا يقولون إنها كذا الأميال، بل يقولون إن هذا النجم يبعد عن الآخر مثلاً بعشرين سنة ضوئية أو ألف سنة ضوئية..أي لو ضربنا هذه السنوات في ما يوجد في السنة الضوئية من مسافة عرفنا المسافة بين النجمين.باختصار، إن اختراع هذه المناظير قد أدى إلى تطور علم سير النجوم، كما أدى إلى ثورة كبيرة في العلوم السابقة عن سعة الكون.دَع العصور السابقة جانبًا، فحتى ما قبل الحرب العالمية السابقة كان العلماء يظنون أن سعة الكون هي ألفان السنين الضوئية، ولكن عند نهاية الحرب أعلنوا أن سعته اثنا عشر ألف سنة ضوئية.أما اليوم فيقولون إنهم عاجزون عن تقدير سعته كليةً.وما يبينونه على وجه التقدير ستة وثلاثون ألف أو أربعون ألف سنة ضوئية.أما الآن وأنا أراجع هذه الملاحظات التفسيرية فقد أعلنوا أنهم قد اكتشفوا نجوما تقع أبعد هذه المسافة من هو أيضًا.من من ثم إنهم نتيجة الحسابات الجديدة قد تقدموا في بحوثهم حتى ادعوا أنهم قد اكتشفوا مركز الكون كله الذي تبدو فيه هذه الأجرام من شمس وقمر ونجوم كذرة صغيرة.

Page 304

الجزء الثامن سورة التكوير يقولون هناك عالم فوق هذا العالم ثم عالم ثالث فرابع وهكذا دواليك، وفي الأخير هناك مركز عظيم هائل لهذا الكون تدور حوله كل هذه الكواكب والنجوم والشمس والقمر وغيرها.وقد غرَّهم بحثهم هذا أن زعموا أنهم قد اكتشفوا سرّ الألوهية، إذ يزعمون أن هذا المركز هو الإله، ويتحكم في هذا الكون كله المركز.من ذلك وكذلك قد تغيرت نظريتهم عن خلق الكون بشكل جذري.لقد اخترعوا أجهزة تساعدهم على تحليل الأضواء النابعة من النجوم المختلفة، فيعرفون بذلك المواد الموجودة فيها.ذلك لأن الضوء الصادر من أي نجم يحمل معه أطياف المعادن والمواد التي رُكَّب منها ذلك النجم.في الماضي كان الناس يظنون أن كل الأضواء من نوع واحد، ولكن العلماء قد علموا الآن أن ضوء كل نجم مختلف عن ضوء الآخر بسبب اختلاف أطيافه، فلو فُحص الضوء الصادر من البلاتينيوم علم أنه صادر من معدن البلاتينيوم، ولو فُحص الضوء النابع من الراديوم، علم أنه صادر من الراديوم فبفحص الضوء وحده يخبرون عن معدنه ومادته.ونتيجة لهذا التقدم العلمي قام العلماء بتحليل ضوء الشمس وأخبروا عن العناصر الموجودة فيها، وقاموا بتحليل ضوء المريخ وأخبروا عما يوجد فيه من عناصر ومعادن.باختصار لقد وقعت تطورات ثورية مذهلة في مجال علم الفلك.ثم هناك اكتشاف آخر يشهد على صدق الإسلام كانت نظرية "دارون" هي السائدة في أوروبا كلها في الماضي، لكنهم قالوا الآن إن عمر الدنيا ٤٨ ألف سنة، وأن الشمس كلما اقتربت من مركزها ازدادت حرارة وعند انتهاء ٤٨ ألف سنة ستشتد حرارتها جدًا حتى تذيب كل الكواكب التي تدور حولها بما فيها الأرض..

Page 305

الجزء الثامن سورة التكوير وهذا نفس ما ورد في الحديث أن الشمس ستقترب من الأرض جدًا عند يوم القيامة حتى تدمر حرارتها الأرض.دينهم من اللغة الفلانية باختصار، لقد نُزع جلد السماء نتيجة الثورة التي حصلت في علم الهيئة والفلك، حيث تطور هذا العلم تطورًا هائلا غير مسبوق وق.والمعنى الثالث من كشط السماء كشط علومها..أي أن الناس سينزعون جلد الدين، بمعنى أنهم سيفحصونه فحصا كأنما ينزعون جلده.وبالفعل ترى أنهم قد قاموا في هذا العصر ببحوث دينية غير مسبوقة.كما قام أتباع كل دين بتحليل إلى أبعد الحدود.خُذوا مثلا التوراة؛ فإن العلماء المسيحيين أنفسهم قد فحصوها فحصا كأنما نزعوا جلدها، فأثبتوا مثلاً أن القول الفلاني ليس من كلام العليا بل هو من كلام هارون الله، وأن الكلمة الفلانية موسی وأن الناس المعاصرين لموسى لم يكونوا يتكلمون بتلك اللغة، فثبت أن تلك الكلمة قد أضيفت إلى التوراة فيما بعد لقد قاموا بتحليلها بحيث قد بينوا حقيقة كل كلمة فيها.أما كتاب "الفيدا" الهندوسي فإن العلماء الهندوس أنفسهم قد قاموا ببحوث كبيرة ،حوله، وأثبتوا أن كيت وكيت من اللغات قد أُدخلت فيه، وأن تلك اللغات كانت شائعة في كذا وكذا من الفترات الزمنية.كما قاموا بتحليلات عن تاريخ "الفيدا" وترتيبه وكأنما نزعوا جلده.وإذا كان ثمة كتاب نجا الموت نتيجة هذا الكشط والشق فإنما هو القرآن الكريم وحده.كانت هناك نبوءة قرآنية أن علوم السماء سوف يتم كشطها ونزع جلودها وكشف أسرارها، لذلك فقد جعل الله تعالى بحكمته الكاملة شقَّ الصحف الأخرى وفحصها في أيدي الأوروبيين، أما القرآن الكريم فقد فوّض الله تعالى مهمة كشف غوامضه وبيان مذهلة من و أسراره في هذا العصر إلى المسيح الموعود ال.لقد كانت نبوءة ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ نص الحديث: حَدَّثَنَا الْمقْدَادُ صَاحِبُ رَسُول الله ﷺ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُول: إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أذنيت الشمسُ مِن الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ فِيدَ ميل أو التين...فَتَصْهَرُهُم الشَّمس." الترمذي، كتاب صفة القيامة)

Page 306

الجزء الثامن سورة التكوير كشطت ستنطبق على الصحف كلها، ولكن الله تعالى لم يُرِدْ تكريم الصحف الأخرى، فجعل أمرها في أيدي هؤلاء الجزارين ليقوموا بشقها وسلخها، أما القرآن الكريم فأراد الله تعظيمه فلم يجعله تعالى في أيدي هؤلاء الأغيار، بل جعله في يد أحد عباده المصطفين ليكشف غموضه ويبين أسراره للعالم.شرح الكلمات: وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِرَتْ ) سعرت: سعر النار والحربَ: أوقدَهما وأشعلهما وهيجهما.(الأقرب) التفسير : من معاني الجحيم "النار".وتسعير النار إشارة إلى شدتها.ومن معاني تسعير النار كثرة أهل النار لكثرة ارتكاب الذنوب في ذلك الزمن؛ ذلك لأن نزول الضيف في بيت يستلزم إشعال النار فيه إعدادًا لطعامه وضيافته، وحيث إن جهنم دار ضيافة لأهلها فإنهم حين يدخلون فيها بكثرة، فلا بد من أن تشعل فيها النار لضيافتهم.ومن معاني قوله تعالى (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعَرَتْ أن الله تعالى سيبعث نبيا من عنده في ذلك الزمن فيشتد غضب الله على الناس لمعارضتهم إياه، وذلك لقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (الإسراء : ١٦)..أي أننا لا نعذب الناس حتى نتم الحجة عليهم ببعثة رسول إليهم.فهذه الآية إشارة لطيفة إلى بعثة مأمور عند الله في ذلك الزمن، لأن بعثة المأمور الرباني إذا كانت تفتح أبواب الرحمة للمؤمنين، فإنها تفتح أبواب العذاب للكافرين أيضًا.من شرح الكلمات: وإذا الجنه از نفت :أزلفت أزلفه: قرَّبه (الأقرب) ١٤

Page 307

الجزء الثامن سورة التكوير التفسير: تذكر هذه الآية نتيجة طبيعية لقوله تعالى ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعَرَتْ، ذلك أن الجنة تُقرَّب من الناس عند كثرة الذنوب والغفلة عن الله تعالى، فيدخلون في الجنة بجهود قليلة وتضحيات يسيرة.إن دخول الجنة لا يكون سهلا في الزمن الذي تكثر فيه الخيرات كما يكون في الزمن الذي ينتشر فيه الإلحاد واللادينية، لأن المرء يفوز برضا الله عندها بقليل من التوجه إليه تعالى.ومن معاني هذه الآية أن التضحيات التي تُقدَّم في ذلك العصر لدخول الجنة ستكون أخف وأسهل نسبيا، حيث يؤجل الجهاد القتالي عندها ، فلا يطالب الناس بالتضحية بنفوسهم بل من خلال التضحية بأموالهم أو أوقاتهم أو مشاعرهم وأحاسيسهم يدخلون الجنة.كان المؤمنون في العهد الأول للإسلام يُعلمون أن الجنة تحت ظلال السيوف، أما اليوم فقد أُجل الجهاد بالسيف بحكمة من الله، فلا يعاني المؤمنون تلك المشاق التي كانوا يتكبدونها في الماضي، بل يمكن أن ينال المرء الجنة بالتضحية بالمال بدون الجهاد بالسيف.ومن مفاهيم هذه الآية أن دخول الجنة يصبح أسهل نسبيًّا للذين يبايعون على يد المأمور الرباني بالمقارنة مع الذين لم يدركوا زمن إمامهم الرباني.فمثلاً إن النور الذي لم يكن يحظى به الناس قبل قرن من الزمان إلا ببقائهم طوال العمر في صحبة العلماء الربانيين يتولد في قلوبنا الآن بسماع بعض المعارف التي بينها المسيح الموعود العليلا ثم متى تيسرت لهم رؤية هذه الآيات والمعجزات التي رأيناها على يده العلا والتي رأينا بها وجه الله تعالى؟! ثم متى تيسرت لهم الإلهامات المتجددة التي تزيدنا اليوم إيمانًا على إيمان؟ فثبت أن دخول الجنة أصبح أسهل لنا من السابقين نتيجة بعثة المأمور الرباني في هذا العصر وبيعتنا على يده وهذه هي علامة زمن المأمور الرباني، حيث تُقرَّب الجنة من الناس في وقته.

Page 308

الجزء الثامن وو ٣٠٤ عَامَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (3) سورة التكوير التفسير: يخبر الله تعالى هنا أن قدره الخاص سيظهر في تلك الأيام وستظهر نتائج أعمال الناس بشكل خاص..أي أنه في الزمن العادي يُحاسب الناس على الصعيد الفردي، أما في زمن الأنبياء فيحاسبون على صعيد الأمة، كما هو ظاهر من قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً.والمحاسبة على صعيد الأمة تكون عسيرة جدا، لأن المحاسبة الفردية لا تكون بادية للجميع، إذ تتم مع الفرد على انفراد، أما المحاسبة على صعيد الأمة فيراها الجميع، إذ تتعلق بالأمة كلها.وهذه المحاسبة على صعيد الأمة قد أخذت في الظهور الآن من خلال الزلازل والحروب التي تقع بكثرة.يخبر الله تعالى في القرآن أن الأرض ستزلزل زلزالا شديدا حتى يقول الإنسان ما لها ؟ (الزلزلة:٤)..أي ماذا حصل بهذه الأرض إذ يحلّ بها عذاب بعد عذاب ودمار بعد دمار؟ وبالفعل نجد إحساسًا عاما عند الناس أن هذه الآفات ليست إلا عذابًا سلطه الله على أهل الأرض، وهو الذي يُحدث ثورة في العالم من خلال هذه الزلازل والحروب والأوبئة.إذا، فهذه الآية نبوءة بأنه سيأتي يوم تظهر فيه نتائج هذه الحروب والزلازل على صعيد الأمم، وسيظهر قدر الله تعالى في الدنيا ظهورا خاصا.فَلَا أُقْسِمُ بِالْخَنَّس ( الْجَوَارِ الْكُنَّس ) شرح الكلمات: 17 الخنس: جمع الخانس، وخنَس عنه: تأخر وانقبض.وخنس بين أصحابه: استخفى.وخنَس القول: أساءه.(الأقرب) الجوار: جمع الجارية، وهي مؤنث الجاري..أي الساري.والجارية: الصبيّة؛ الأَمَةُ (المنجد).والجارية: الشمس ؛ السفينة الحيّة (الأقرب).ويمكن أن تعنى الجواري أناسا يمضون قُدُمًا.

Page 309

الجزء الثامن ٣٠٥ سورة التكوير الكنس: جمعُ الكانس وهو الظبي يدخل في كناسه.(الأقرب) التفسير : لقد قدم الله تعالى هنا كشهادة قومًا ذوي خصال ثلاث: ١- أنهم يمشون قدما، ۲ - أنهم ينحرفون ويتأخرون ٣- أنهم يختفون وهؤلاء القوم هم المسلمون في هذا العصر؛ إذ توجد فيهم هذه الخصال الثلاث المدمرة للأمم؛ وهي المضي قدما بتهور دون تفكير، والفرار عند الخطر، والجلوس في البيوت عاطلين.لقد بين الله تعالى من قبلُ في قوله عَلَمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ أن الإنسان سيرى نتائج أعماله حتمًا، أما الآن فذكر عيوب المسلمين في هذا العصر وهي أنهم سيسلكون مسلكا خاطئا، ويفرون من المعركة خوفًا من الحضارة الغربية، وسيقدمون الإسلام بقشره دون لبه تاركين العقل والمنطق ومن ناحية أخرى لن توجد فيهم تضحية روحانية، بل يختفون قابعين في بيوتهم، ولن يتصدوا لعدوهم الروحاني غير مبالين بما يحل بالإسلام من مصائب، ولذلك سيضعف الإسلام ويغلب أعداؤه.ومن ووجد هذه تدبر في حالة المسلمين في هذا العصر قليلا وجدهم هكذا تمامًا، السورة تتحدث عن هذا العصر.فمعظم المسلمين قد أصبحوا من الخَنَّس، أعني منحرفين عن الصراط المستقيم بعيدين عن الحق بمعنى أنهم أخذوا يعملون كما يعمل أهل الكفر، ومع ذلك يعتبرون هذا الأسلوب خدمة للأمة والوطن.لقد اتخذوا منهج الأوروبيين وسلوكهم وفلسفتهم واعتبروه عين الصواب، واعتبروا خلافه خسرانًا وتبابا.إنهم مسلمون بالاسم فقط، وقد اعتبروا اتباع الحضارة الغربية إسلامًا.لقد ساءت الأحوال الآن لدرجة أن ترى شخصين يعيشان بأسلوب واحد أحدهما مسيحيا والآخر مسلما، والباحث المحقق يقول في ذهول: كيف يمكن أن تسمى طريقة العيش الواحدة مسيحية وإسلامية معا؟ وبالرغم من أنهم قد انحرفوا عن الإسلام في الواقع إلا أنهم سائرون على طريقه في الظاهر، ويُسمون مسلمين..فكأنهم يتركون الإسلام من جهة، ويُظهرون رغبتهم فيه من جهة أخرى، ويزعمون أنهم يتبعون منهجه.والحق أن حماسهم هذا ليس إلا تقليدًا فارغا وثرثرة لسان، إذ يدّعون الإسلام بلسانهم، ويختفون في بيوتهم عند العمل دون أن يقدموا في سبيل الإسلام أي تضحية.لقد تركوا تعاليم الإسلام، ثم يدعون أنهم ومع ذلك يسمى

Page 310

الجزء الثامن ٣٠٦ سورة التكوير يتبعونه يرفعون الهتافات عالية لتأييد الإسلام وعند العمل يهربون من تقديم التضحية الحقيقية.ولو أنهم ضحوا تضحية صادقة كما يفعل الأوروبيون رغم ما انحطاط وضعف لاستردّوا من مجدهم الدنيوي الغابر كثيرا.ولكنهم يصبحون من الكنس عند العمل الحقيقي مختفين في مغاراتهم، فيسلب العدو متاع أصابهم من w الإسلام بحرية.دَعْ أوروبا جانبًا، فإن المسلمين رغم كثرتهم لا يقفون بشجاعة في وجه بعض شعوب الهند الضعيفة الحقيرة رغم ،قلتها وليس ذلك إلا لخوفهم من المثابرة على التضحية الدائمة الثابتة، فيفرون مدبرين عند أول هتاف العدو، وفي كل مرة تكسب المعركة شعوب هي أقل منهم قوة ولكنها أكثر منهم ۱۹ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ : وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (3) شرح الكلمات : ۱۸ عسعس عسعس الليل مضى، وأظلم.(الأقرب) تنظيما.تنفّس : أدخل النفس إلى رئته وتنفّس الصبحُ : تبلج (الأقرب)..أي أشرق وأنار.الله تعالى في الآيات السابقة حالة المسلمين التعيسة في هذا التفسير: لقد رسم الزمن، التي توحي بأن لا مصير لهم إلا الهلاك، أما الآن فيطمئن أهل الإسلام ويخبر أن هذه الظلمة لن تدوم، بل يشهد الله بالليل الذي قد ولّى واقترب من النهاية، كما يشهد بالصبح الذي قد تنفس..أي أشرق وظهر.إن ذهاب الليل وانبلاج الصبح دليل على انقضاء فترة الانحطاط وبداية فترة جديدة من الازدهار، وهذا ما تشير إليه هذه الآيات.فالله تعالى يعلن أنه لن يسكت على فترة انحطاط الإسلام هذه، بل سيهيئ لإزالة ضعف الإسلام أسبابًا، فيطلع نجم الصبح من عنده تعالى، أي سيُبعث مصلح الزمان وإمامه الذي يظهر ظهور نجم الصبح عند انتهاء كل ليلة.إذا ظهرت آثار النور ولو باهتة - عند اشتداد الظلمة وقنوط الناس، فإن هذا المشهد يماثل إنسانا ميّتًا في الظاهر حيًّا في الحقيقة، فإذا رُس في وجهه ماء باستمرار

Page 311

الجزء الثامن ۳۰۷ سورة التكوير تنفس تنفسا ضعيفا بعد جهود استغرقت ساعة أو يزيد، فيقول الله تعالى وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفْس..أي سوف يشتد الظلام يومئذ حتى يقول كل إنسان: قد مات الإسلام ولم يبق فيه أثر للحياة؛ فبعضهم سيتركون الإسلام باعتباره ميتا، وبعضهم يأخذون في البكاء عليه وبعضهم سيظلون في عملهم ويرشون الماء على وجه الإسلام فيتنفس نفسا ضعيفا فيقول الجميع ها قد عاد الإسلام للحياة.هذا ما يشير الله إليه بقوله وَالصُّبْح إذَا تَنَفْس..أي أننا نقدم الصبح كشهادة عندما يتنفس بظهور بعض الناس.كما سبق أن بينا أن قولهم "تنفس الصبح" يعني تبلج، أي أشرق وأنار، وهذا المفهوم كان بيانه بأساليب أخرى ممكنًا، ولكن الله تعالى قد اختار هنا لبيانه كلمات تشير إلى القنوط الذي سيسود الناس، وأخبر أن ازدهار الإسلام سيُعتبر ضربًا من المحال في ذلك الوقت، ولكن هذا الليل المظلم سيأتي في نهاية المطاف، فيتنفس الصبح بصعوبة، فترتفع همم ،المسلمين فيوقنون في قلوبهم أن الإسلام سيغلب حتمًا، وأن خدامه سينتصرون يقينًا.إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٢) ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينِ مُطَاع ثُمَّ أُمِينِ ) شرح الكلمات ۲۲ مَكين: مَكُنَ فلان عند السلطان: عَظُمَ عنده وارتفع وصار ذا منزلة.(الأقرب) التفسير: إن هذه الأمور التي فصلتها هذه الآيات من رقي الإسلام، ثم ضعفه، ثم غلبته ثانية في الزمن الأخير، عندما يخاطب بها شخص لم يقع أمامه شيء منها بعد في قلبه تساؤلات ثلاثة أوّلها كيف يقال لنا أن دين الإسلام سيؤول إلى الضعف والانحطاط ونحن لا نرى أثرًا لرقيه في أي مكان ولا بقعة، ولا نرى الناس قد دخلوا فيه بكثرة بعد، فماذا تعني من الإخبار عن ضعفه ؟ تنشأ

Page 312

الجزء الثامن ٣٠٨ سورة التكوير متى يعني وثانيها: لو سئل المسلمون الذين رأوا ازدهار الإسلام والحكومات الإسلامية: هل لكم من زوال، لقالوا كلا مستحيل، فمن ذا الذي يقدر على كسر شوكة الإسلام؟ فمثلاً كان للأمويين والعباسيين أن يتصوروا أن النصارى الذين يعيشون تحت حكمهم سيصبحون غالبين عليهم في يوم من الأيام، وسينالون من القوة بحيث إنهم لن يبالوا بصوت المسلمين وإن صرخ جميعهم معا.هذا أن غلبة الإسلام كما بدت مستحيلة عند القوم في بداية الإسلام، كذلك كان من المحال أن يصدّقوا في أيام ازدهاره أنه سيصاب بالضعف والانحطاط.وثالثها: لو أُصيب الإسلام بالضعف فعلاً كما هو الحال الآن، وكان ضعفه شديدا بحيث إننا مهما قلنا الآن للمسلمين إنه سيصبح غالبًا ثانية فلن يصدقوا ذلك، ويقولون كيف يمكن أن يزدهر المسلمون بعد هذا الانحطاط الشديد؟ الواقع أن اليقين بغلبة الإسلام ثانية إنما يتولد في قلب المرء اليوم بتصديق المسيح الموعود العلا، أما بدون تصديقه العليا فلا سبيل لذلك، ومن أجل ذلك نجد أن المسلمين الآخرين كلما سعوا لغلبتهم تمنوا مصالحة المسيحيين أو تشكيل حكومة بالتعاون مع الهندوس، وليس ذلك إلا لأن المحال أن يتصوروا أن المسيحية ستؤول غدًا إلى ما من آل إليه الإسلام ،اليوم، وأن النصارى سيصبحون بلا حول ولا قوة أمامهم كما هو حالهم اليوم.إن هذا البرنامج هو برنامج جماعتنا فقط، لأننا رأينا آيات الله تتحقق أمام أعيننا، ولأننا قد آمنا بإله حي قوي.من من باختصار، لم تكن أي هذه الأمور أو المراحل لتخطر ببال الناس قبل ميعادها.عندما نزلت هذه السورة كان رقيّ الإسلام ضربًا من الخيال، ثم لما جاءت فترة ازدهاره كان تخيُّلُ انحطاطه محالاً.ثم لما أُصيب الإسلام بالضعف اليوم، قيل إن رقيه المستحيلات.وحيث إن كل نبوءة من هذه النبوءات الثلاث هي مما لا يمكن للناس أن يوقنوا به، فلذلك قال الله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم..أي ستكشف لكم الأيام كيف يتحقق ما يقول لكم رسولنا الكريم هذا اليوم تنظرون إلى رسولنا بازدراء واحتقار، ولكننا نخبركم كنبوءة أولى أن الناس سيصدقون أن هذا الرسول رسول كريم.إنها نبوءة تتعلق بالمستقبل القريب، وإذا تحققت كان هناك أمل في

Page 313

الجزء الثامن ۳۰۹ سورة التكوير تحقق النبوءات الأخرى بعيدة المدى.إن رسولنا غير معزّز في أعينكم، وتظنون أنه تحت رحمتكم ولكنكم سترون عن قريب بأعينكم أنه رسول كريم، وإذا تحقق ذلك المحال في الظاهر، فلا بد أن تتحقق الأنباء الأخرى التي تظنونها مستحيلة الوقوع.أن لقد اعترض البعض هنا قائلاً إن قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيمٍ يعني القرآن كلام بشر وليس كلام الله.هذا الاعتراض راجع إلى عدم فهم أساليب.الكلام.الواقع أنه عندما يأتينا شخص بخبر نفحصه بطريقين: أولهما: نرى ما إذا كان ما يقوله صحيحًا لفظًا أم لا؟ وثانيهما أننا لا نهتم بالكلمات، بل نهتم بفحوى الرسالة ونرى ما إذا كان قد أداها بشكل صحيح أم لا؟ وهذان أمران مختلفان، وبينهما بون شاسع فمثلا أتاك شخص وأخبرك أن فلانًا قال له أنك أُعطيت وظيفة كذا فقد تعرف سلفًا أنك قد مُنحت الوظيفة، ولكنك لا تعرف بالضبط كلمات القرار بهذا الشأن فتسأله : أتعلم ما هي كلمات القرار بالضبط؟ فلو كان على علم بها أخبرك ، وإلا اعتذر إليك.وقد لا تعرف عن هذا الخبر شيئا، فتقول لهذا الشخص أصحيح ما تقوله؟ فلا تهتم في هذه الحالة بكلمات الخبر بقدر ما تهتم بصحة فحواه فهاتان حالتان مختلفتان نواجههما دائمًا.والآن تعالوا نتدبر في هذه الآيات لنعرف ما هي مطالبة العدو التي أجيب عليها في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَريم.والتدبر القليل يكشف لنا أن العدو لا يسأل هنا: الله تعالى هو الذي قال إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أو وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ؟ بل كان يسأل متى يتحقق هذا الخبر غير مهتم بالكلمات وقائلها.فالواقع أن قوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم جاء تأكيدًا لفحوى ما قيل في هذه السورة، لا تأكيدا لكلماتها.لا شك أن العدو يناقش كلمات الرسالة أحيانًا، ولكن عند الحديث عن الأنباء لا تناقش كلماتها، وإنما يكون السؤال عن موعد تحققها.ولم يكن الكافرون يعترضون هنا على كلمات هذا الخبر أهي كلمات الله أم كلمات محمد، إنما اعتراضهم على فحوى الخبر، فرد الله عليهم بقوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم..أي قد وصلتكم

Page 314

الجزء الثامن سورة التكوير هذه الرسالة عن طريق رسول معزّز ، والرسول المعزّز لا يكذب أبدا، فكونوا على يقين بصحة فحوى رسالته، إذ سيتحقق حتمًا ما قيل لكم.والملاحظ أن الله تعالى لم يقل هنا رسول أمين، بل قال رَسُول كَرِيم، ذلك لأنه تعالى قال رَسُولُ أَمينٌ (الشعراء: ۱۰۸) في معرض الحديث عن ضبط كلمات الوحي وحفظها بنصها، أما عند الحديث عن نقل فحوى الرسالة بشكل صحيح، فقال تعالى رسول كريم، لأن الرسول إنما يستحق الإعزاز والتكريم إذا نقل الرسالة بشكل سليم، أما إذا أخطأ في تبليغ فحواها فلا إكرام له.فمثلاً لو أمر سيدٌ خادمه أن يبلغ فلانًا بحضوره غدًا في المكان الفلاني، فذهب وقال للمرسل إليه: يقول سيدي إنه لن يستطيع الحضور، فلا شك أن مثل هذا الخادم سيسقط في عين سیده، فالرسول يستحق التكريم إذا نقل الرسالة بشكل سليم.والكافر لا يهتم بكلمات الرسالة بقدر ما يهتم بفحواها ومعناها، ولذلك من مهمات الرسول أن يبين للناس المفهوم الصحيح لكلمات الوحي، أما إذا لم يبينها فيخاف أن الناس فهم الوحي.فالسؤال هنا ليس عن كلمات الوحي الأصلية، بل عن مفهومه الصحيح، ولذلك قال الله تعالى : إن رسولنا هذا ،كريم، وقد نقل لكم الرسالة بشكل سليم تمامًا، ولو لم يكن مؤهلاً لنقلها بشكل صحيح لما لقي هذا التكريم الخاص منا.باختصار ليس الحديث هنا عن كلمات القرآن وحدها، بل عن شرحها وبيانها أيضًا.أذكر هنا أمراً ذوقيا، وهو أن المفسرين قالوا إن المراد من رسول كريم جبريل روح المعاني والكشاف).وقد ضعف الله تعالى قولهم بطريق غريب يسر القلب.ذلك أن المسلمين لا يطلقون كلمة رسول كريم إلا على النبي ، فكلما قرأ مسلم كلمة (رسول) كريم انتقل ذهنه إلى النبي الله فورًا، ولا يفهم منه إلا النبي يسيء هو ثم يجب أن نعرف أن شرح الوحي ليس من مسؤولية جبريل، وإنما عليه نقل الوحي بكلماته الواضحة.لو كان الحديث هنا عن صحة كلمات الوحي فقط، لقال الله تعالى هنا رَسُولُ أَمينٌ ، لأن نقل الكلمات بنصها وفصها يدل على أمانة

Page 315

الجزء الثامن ۳۱۱ سورة التكوير الرسول، ولكن الله تعالى قد قال هنا رسول كريم للدلالة على الإكرام والإعزاز والرسول إنما تظهر عزته وكرامته إذا نقل الرسالة للناس مع شرحها معرزًا السليم.إذا فالله تعالى قد قال هنا للكفار سترون أن هذا الرسول سيصبح مكرَّمًا ذا فهم ،وحكمة كما سترون أنه سينال القوة يوما ما.أما اليوم فترونه ضعيفا، ولا ترون أي دليل على صدقه، ولكنا نخبركم أنه سينال قوة عظيمة.وهذا ما حدث بالضبط.من لقد أتى على النبي يوم حاصره فيه الكافرون في بيته ليقتلوه، ثم أتى عليه ذلك اليوم الذي نال فيه القوة العظيمة بعد صلح الحديبية مباشرة، حتى بدأ يبعث الرسائل إلى الملوك الكبار يدعوهم فيها إلى الإسلام وكان هؤلاء الملوك يتحيرون هذا الأمر جدا، إذ كانوا يقولون ما هذا الانقلاب العجيب الذي حصل ونحن ننظر ؟! فهل يعقل أن إنسانا عربيا أميًا لا قيمة له في أعين الناس قد نال هذه القوة حتى بدأ يخاطبنا ويدعونا إلى الدخول في الإسلام؟ إن الأوضاع قد تغيرت اليوم كثيرا، حيث يتلقى الملوك رسائل الناس فيقرءونها ثم يرمونها في سلة المهملات غير مبالين بمعرفة صاحبها، أما في الماضي فكان الأمر على عكس ذلك؛ إذ كان هناك ملوك جبابرة عظام، وما كان للإنسان العادي أن يجرؤ على مراسلتهم.لذلك نجد أن كسرى لما قرأ رسالة النبي و استشاط غضبًا واعتبرها إساءة له وعبّر عن غيظه الشديد (الطبري، الجزء الثالث: ذكرُ خروج رسل رسول الله ﷺ إلى الملوك).اليوم لا نستطيع تقدير خطورة مراسلة أولئك الملوك ، لأن الزمن قد تغير، إذ يمكن لكل واحد مراسلة الملوك إذا شاء، بل حتى قبل هذه الحرب العالمية الثانية) كان من السهل أن يراسل أي شخص هتلر، أو موسوليني أو روزفلت.كانت مراسلة شخص عادي للملوك في ذلك العصر بمثابة إلقاء النفس في التهلكة.الواقع أن الإنسان يغتر كثيرًا لعدم معرفة حقيقة الأمور فمثلا كان المولوي محمد حسين البطالوي يتفاخر بأنه يراسل الحاكم الإنجليزي للهند فيرد على رسائله، فكان المسيح الموعود ال يقول تعليقًا على ذلك: أي مفخرة في ذلك؟ لأنه لو بعث أحد كناسي الطرق رسالة إلى هذا الحاكم لرد على رسالته.إن الإنجليز يخاطبون

Page 316

الجزء الثامن ۳۱۲ سورة التكوير الجميع في رسائلهم بكلمات محدّدة مثل (DEAR SIR) أي سيدي العزيز، فيظن القارئ أن الحاكم يعظمه، مع أنها كلمات عادية يستخدمونها لكل من هب ودب، ولكن المولوي محمد حسين يتفاخر أن حاكم الهند يخاطبه في رسالته بالسيد العزيز !! والحق أنه ليس عند الإنجليز كلمات أخرى للخطاب.فلو راسلوا أحد الكناسين الخاطبوه: أيها السيد العزيز، ولو راسلوا حاكم محافظة لخاطبوه: أيها السيد العزيز، ولكن الناس يغترّون بها ويتفاخرون.رأيت ذات مرة أحد الإخوة الأحمديين في نقاش مع صاحبه وهو يقول له : هل سمعتني أكذب ولو مرة؟ وكان يستدل على صدقه بقول الله تعالى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِه أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يونس: ۱۷).مع أنه لا يحق لكل من هب ودب الاستدلال بهذه الآية على كونه صادق القول، إنما يصح ذلك لمن له مكانة بارزة بين القوم وأعلن دعواه.إن هذه الآية دليل على صدق من صار محط أنظار الناس ولكنها لا تنفع غيره.وبالمثل إذا أجاب اليوم أحد من كبار القوم على رسالة إليك، فليس فيه أي مفخرة لك، ومن أجل ذلك تأخذ بعض المسلمين حيرة حين يقرأون عن مراسلة النبي الملوك ويقولون: ما الغرابة في ذلك؟ إنهم لا يدرون أنه كان في مراسلة الملوك في ذلك العصر خطر كبير، إذ كانوا في بعض الأحيان يقتلون صاحب الرسالة سخطًا.أما اليوم فقد تغير الوضع تماما، إذ لم تعد مراسلة الملك - ولو كل يوم – ذات أهمية.ثم علينا أن نرى كيف كان ردّ فعل الملوك على رسائل النبي ، فهل اعتبروها أمرًا عاديًّا، أم كان لها وقع ملفت للنظر ؟ يتضح من التاريخ أن رسالة النبي ﷺ لما وصلت قيصر دعا أبا سفيان ووجّه إليه عدة أسئلة ولما انتهى حواره مع أبي سفيان بني قال هذا لأصحابه بصورة عفوية: لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة! إنه يخافه ملك الأصفر (البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي)..أي أن أمر محمد قد تفاقم، حتى إن ملك الروم يخافه.كذلك إن قول النبي لقيصر - وقد جاء بجيوشه إلى الشام -: "أسلم، وإلا فإن عليك إثم الأريسيين"، يدل أنه قد بعث هذه الرسالة إليه رغم علمه أنه قد يزحف بجيشه إلى المسلمين، أو يأمر بقتله

Page 317

الجزء الثامن مع ۳۱۳ سورة التكوير ذلك لم يأبه بذلك مطلقا، وقال لهؤلاء الملوك العظام علنًا: إن أسلمتم فأنفسكم تنفعون، وإن كفرتم بي فسوف تمثلون أمام الله مجرمين.إذا يقول الله تعالى هنا للكافرين: إنكم تنظرون اليوم إلى محمد باحتقار، وسترون عن قريب كيف ينال القوة والعظمة الخارقتين حتى إن الملوك الجبابرة يرتعدون خوفا منه.لك أما قوله تعالى عندَ ذي الْعَرْش مكين، فقد بين فيه ميزة أخرى، ذلك أن الناس إذا نالوا القوة أهملوا أحكام الدين عادة، وإذا نالوا القوة غصبوا حقوق الضعفاء، ولكنه لا لن يكون هكذا ، بل هو عند ذي العرش مكين رغم قوته.الواقع أن أهل مكة كانت تنتابهم شبهات كالتي تنتاب أهل أوروبا اليوم بأن محمدا إنما يريد الملك والحكم، ولذلك نجدهم قالوا له مرة: إذا كنت تريد المال جمعنا الثروة ما لا يملكه أحد من العرب، وإذا كنت تريد السيادة اخترناك ملكا من علينا، بشرط أن لا تتعرض لآلهتنا (السيرة لابن هشام الجزء الأول: قول عتبة بن ربيعة في أمر رسول الله ﷺ.كانوا يظنون أنه لا يُدلي بهذه الأنباء إلا حبا للحكم والسيادة، فيرد الله عليهم: لا شك أنه سيصبح ملكا، ولكنه لن يحكم بما يحلو له، بل سيزيده مُلكه تقوى وورعا ومثل هذا الإنسان لا يقال عنه أنه كان يرغب في السيادة، بل يقال أن الله تعالى هو الذي نصبه في هذا المقام.باختصار، يخبر الله تعالى هنا أننا عندما نعطي الملك لمحمد رسول الله، فسيكون متواضعا للناس عطوفا بالفقراء خادما لخلق الله ومؤديا حقوق الله وحقوق العباد.وكأنه تعالى يقول إن سيزيده صلاة وصومًا وصدقةً وحجًا وغيرها من الصالحات.فأضاف الله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مكين إلى قوله ذي قُوَّة لبيان هذا الأمر الهام.ذلك لأن القوة فيها جانب خير وجانب شر، وجانب الخير أن ذا القوة يصبح غالبا على الآخرين، وجانب الشر فيه أنه إذا نال القدرة تجاسر على هضم حقوق الآخرين، ولكن الله تعالى يخبر الكافرين هنا أنكم لن تروا في رسولنا جانب الشر.فلن تجعله قوته مغرورا، بل ستجعله عند ذي العرش مكينا.إن ملكه سيزيده خيرًا، وبالتالي يزداد قربا من الله تعالى.إن تقدُّمه في الدين والورع والتقوى وأدائه لحقوق الناس..الملك

Page 318

الجزء الثامن ٣١٤ سورة التكوير سيكون دليلا أن مُلكه ليس يُملك مادي، وأن حُكمه ليس مما يبعده عن دين تعالى، بل يزيده تقوى وقداسة وعرفانا.الله ثم يقول الله تعالى مُطَاعِ ثُمَّ أَمِين.وهنا أيضا ذكر أمرين مختلفين: فقوله تعالى مطاع يدل أن كل الناس سيضطرون للإذعان له، غير أنه سيكون مطاعا أمينا.ذلك أن من أصبح مُطاعًا يصاب أحيانًا بالكبر والزهو، ظنا منه منه أنه قادر على أن أحد أن يفعل ما يشاء، وليس بوسع يفتح فاه ضدّه أو ضد قراراته، ولكن الله يبين هنا أنه حين يضع رقاب الناس وشرفهم ومالهم في يد هذا الرسول فسيرون أنه سيؤدي لكل ذي حق حقه بأمانة.فهو بأداء حقوق الله تعالى كاملة سيكون مصداقا لقوله تعالى عندَ ذي الْعَرْشِ مَكين وبأداء حقوق العباد يكون أمينا.هذه الكلمات الأربع قد الله تعالى أخلاق الحاكم المثالي بما لا نظير له رسم حيث أخبر أن هذا الرسول سيصبح ملكا، ولكنه يكون خاضعا لملكوت الله.إنه سيصير حاكما على الناس، ولكنه سيؤدي حقوق الجميع بكامل إنصاف..أي أنه سيكون مطيعا الله تعالى حين ينال المقدرة، ويكون مشفقا على خلق الله عندما يكون العباد تحت رحمته باختصار إن كلمات كريم ذي قوة عند ذي العرش، ،مكين، مطاع، أمين..كلها صفات الرسول الله.وهناك مفهوم آخر لهذه الآيات، وهو أن النبي نال من العز ما لم يتيسر لغيره من ملوك الدنيا، وأصبح ذا قوة بحيث أطاح بعروش قيصر وكسرى.كما كان عند ذي العرش مكينا من حيث إن كل من أراد إهانته قد أهين ولا يزال يُهان حتى اليوم.ثم إنه مطاع من حيث إنه عندما أُطيح بعروش الملوك الآخرين كلهم قد حمى عرشه مرة أخرى ببعثة مأمور من عنده تعالى في هذا الزمن.ثم إنه أمين من حيث إن كلام الله الذي كلف بتبليغه للناس لا يزال محفوظا بنصه وفصه حتى اليوم، كما لا يزال يهيئ الله الأسباب لحفظه روحانيا.وهذا دليل عظيم على قوته القدسية، وإلا فكيف حصل هذا كله؟ الله

Page 319

الجزء الثامن ٣١٥ دو وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونِ (*) ۲۳ سورة التكوير التفسير : عند سماع مثل هذه الأنباء يرمي الناس صاحبها بالجنون، لذلك قال الله تعالى ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بمَجْنُون بعد ذكر أخلاق النبي..أي لا تظنوا أنه مجنون، إذ إنه ليس غريبا عنكم، بل هو صاحبكم الذي عاش بينكم، وقد شهدتم عظیم صلاحه ورجاحة عقله وإصابة رأيه، فكيف تعدّونه مجنونا؟ فإن المرء يصاب بالجنون إما لصدمة فجائية أو بمرض، ولكن رسولنا قد عاش بينكم وتعرفونه جيدًا من وتعلمون أنه لم يُصب بأي صدمة ولا مرض، فكيف ترمونه بالجنون؟ كمال إعجاز القرآن الكريم أنه يسوق أدلة صدقه في كلمة واحدة أحيانا، وهنا أيضا قد دحض تهمة الجنون بكلمة واحدة وجيزة: صَاحِبُكُمْ، حيث نبه الكافرين بأن محمدا كان صاحبكم أي كنتم تعتبرونه صديقا ومستشارا وأمينا، فكيف أصيب بالجنون فجأة؟ وكيف يحق لكم اتهامه بالجنون بعد دعواه؟ وكيف تغير رأيكم فجأة وقد كنتم تعتبرونه سيدًا لكم من قبل معترفين بزعامته ورجاحة عقله وزيادة فراسته؟ وَلَقَدْ رَوَاهُ بِالْأُفُق البين + وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينِ ) شرح الكلمات: ٢٤ ۲۵ الأفق: الأُفُق والأفق: جمع الآفاق، وهي النواحي (الأقرب).والأفق المبين ناحية المشرق لأن الشمس تطلع منها.وما هو على الغيب بضنين: أي ما هو عليه ببخيل.(المفردات) التفسير : بعد الرد على تهمة الجنون بين الله هنا أن عهد نبوة محمد رسول الله ممتد لفترة طويلة، فالحري به أن يدلي بالأنباء المتعلقة بهذه الفترة الطويلة.إنه ملزم ورد في تفسير فتح القدير" للشوكاني بالأفق المبيين، أي: مطلع الشمس من قبل المشرق، لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين لأن من جهته تُرى الأشياء." (المترجم)

Page 320

الجزء الثامن ٣١٦ سورة التكوير دعواه بإلقاء الضوء على أمور ستقع زمن بعثته ولكنكم تستبعدونها باعتبارها خلاف العقل.إن ذلك الزمن هو كالغيب لكم ولكنه بمنزلة الظاهر المكشوف بالنسبة له، وهو بمثابة الأفق المبين لسمائه، فيراه عيانا، واعلموا أن الأخبار التي يتحدث عنها تتعلق بالمشرق.ويستفاد معنى المشرق من حيث إن الأفق يطلق على كل جهة بعيدة تترآى فيها السماء والأرض كأنهما تلتقيان، ولكن ليس كل أفق مبينًا أي أفقًا يكشف الأشياء ويُظهرها، إنما الأفق المبين جهة المشرق التي تطلع منها الشمس وتبدّد الظلمة.فعبارة (الأفق (المبين ليست إشارة إلى الزمن البعيد فحسب، بل تخبر أيضًا أن ظهور هذه الأنباء سيكون من قبل الشرق.يقول الله تعالى للكافرين: لا شك أن الأخبار التي يدلي بها رسولنا أمامكم تبدو غريبة لكم، ومع ذلك لا يحق لكم أن تتهموه بالجنون، لأنه وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بضنين..أي أنه ليس ببخيل عن الغيب، بمعنى أنه لم يخبركم بخبر واحد عن تتهموه بالجنون بل قد أدلى أمامكم بكثير من الأنباء الهامة، وقد تحقق العديد حتى الغيب منها.لو أن محمدًا اكتفى بقوله آمنوا بي لأن هذا الأمر سيقع بعد ثلاثة عشر قرنًا، لَحُقَّ لكم أن تتهموه بالجنون، ولكنكم لا تستطيعون ذلك الآن، لأنه ليس بخيلا بأنباء الغيب.إنه ليس أول نبأ أخبركم به، بل قد أدلى بكثير من أنباء الغيب التي قد تحققت فيمكن أن تعرفوا قياسًا عليها أن هذه النبوءة أيضا ستتحقق في يوم من الأيام، ولا يحق لكم اتهامه بالجنون.إننا نحن المسلمين الأحمديين، حين تجادل المدعين الكاذبين الذين خرجوا في هذا العصر ونقول لهم : ما هي أنباؤكم التي تحققت إلى الآن يقولون: ألا تؤمنون بنبوءة جماعتكم بأن جماعته ستصبح غالبة بعد ثلاثة قرون؟ فما دمتم تؤمنون بنبوءة ستتحقق بعد ثلاثة قرون، فلماذا لا تصدقون ما نتنبأ به؟ فنرد على هؤلاء: لو كانت هذه النبوءة الوحيدة لمؤسس الجماعة فلا شك أنه ليس في ذلك أي دليل قطعي على صدقه، ولكن الدليل على صدقه الا أنه قد تنبأ بكثير من النبوءات الأخرى التي قد تحققت وقياسًا عليها يمكن القول إن نبوءاته عن غلبة جماعته أيضا ستتحقق يوما ما، أما أنتم فلم تتحقق من أنبائكم أي نبوءة، وأن كل أنبائكم تتعلق بالمستقبل ولم مؤسس

Page 321

الجزء الثامن ۳۱۷ سورة التكوير تتحقق.وبالفعل فكل واحد ممن ادعى النبوة من هؤلاء يركز على شيء واحد، وهو قوله إذا آمنت بما أقول سوف ترى أن الإسلام يزدهر ولكن هذا المدعي لا يفكر أنه لا يمكنك أن تؤمن بقوله بدون أن يأتي بدليل على صدقه.ولذلك يقول الله تعالى هنا وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بضنين..أي أن من أكبر القواعد لمعرفة المدعي الصادق أن أي بعض أنبائه تتعلق بالزمن القريب، وبعضها تتعلق بالزمن البعيد.فمثلا: قد تنبأ المسيح الموعود الي أن عصا روسيا ستوضع في يده، أو أن جماعته ستصبح غالبة في العالم كله خلال ثلاثة قرون تذكرة ،الشهادتين، الخزائن الروحانية المجلد ۲۰ ص ٦٧.وعندما يقرأ العدو هذه الأنباء يعتبرها مجرد ترهات كيف يمكن لأحد أن يصدق هذا؟ وقد ردّ الله على أمثال هؤلاء بهذه الآية فقال إن محمدًا ليس بخيلا بشأن الغيب.إنه لم يُدل بنبوءة أو اثنتين تتعلقان بعصور بعيدة، بل لقد أدلى بكثير من الأخبار الغيبية الأخرى التي قد تحققت فعلا، فلم لا تعترفون بعد أن رأيتم تحققها بأم أعينكم بأن أنباءه الأخرى ستتحقق كما تحققت الأولى.أتذكر جيدا أنه كلما جاء المسيح الموعود الا شخص مطالبًا بآية قال له: ماذا انتفعت من الآيات السابقة التي قد تحققت حتى أُريك آية أخرى؟ (الملفوظات المجلد الخامس ص ٦٤٣-٦٤٤).وهذا هو الأمر الذي ينبه إليه الله تعالى بقوله وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنين..أي أنكم تستبعدون تحقق نبوءة ظهور مأمور رباني من قبل الشرق البعيد وازدهار الإسلام على يده، ولكن لو كانت النبوءة هذه ضربًا من الجنون كما زعمتم فكان الواجب ألا يكون هناك أي دليل آخر على صدقه.وحيث إن هناك أنباء كثيرة أخرى له قد تحققت، فلا بد لكم الاعتراف أنه ليس بمجنون.ثم إن أخلاقه الحميدة ووقائع حياته السابقة أيضًا من دليل آخر على أنه ليس بمجنون.شرح الكلمات: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَنٍ رَّحِيمٍ ) ٢٦ رجيم رحمه رماه بالحجارة ؛ قتله ؛ قذفه ؛ لعنه ؛ شتمه ؛ هجره؛ طرده.(الأقرب)

Page 322

الجزء الثامن ۳۱۸ سورة التكوير التفسير : لقد قدّم الله هنا دليلاً قويًّا لطيفا يميز الصادق من الكاذب من المدعين.ولكن هذا الدليل دقيق لا يُفهم إلا إذا قدمه شخص خبير بالنقاش بطريق سليم.فمن معاني الرجيم المطرود، وعليه فقوله تعالى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْل شَيْطَانٍ رَحِيمٍ يعني أن القرآن ليس قول الشيطان المطرود..أي كانت هناك تهمتان يمكن أن يوجههما الكافرون إلى النبي الاول : التهمة الأولى أنه مجنون والعياذ بالله، فجاء الرد عليها في الآيات السابقة، وكانت التهمة الثانية أنه شرير وعلى صلة بالشيطان والعياذ بالله - فردّ الله عليها بقوله وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْب بضنين، إذ متى تيسر علم الغيب للشيطان؟ وكيف يقال عمن تحققت نبوءاته أنه على صلة بالشيطان؟ بل الشيطان مطرود من الحضرة الإلهية.وقد بين الله هذا الموضوع في مكان آخر من القرآن إذ قال إِنَّا زَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيا بزينَة الكَوَاكب ) وحفظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَان مَارد ( لا يَسمَّعُونَ إلَى الْمَلاَ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانب ) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ن إِلا مَنْ خَطفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شَهَابٌ ثاقب (الصافات: ۷-۱۱).والمراد من قوله لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الأَعْلَى أن الشياطين لا يقدرون على سماع كلام المقربين عند الله تعالى فأنى لهم أن يسمعوا وحي الله تعالى.وأما قوله تعالى إلا مَنْ خَطفَ الْخَطْفَةَ فيعني أنه لو خطف أحدهم شيئًا من كلام المقربين عند الله تعالى فيدمر.لقد صرح الله هنا أن الشياطين لا يعطون علم الغيب.ولو أن المدعين الكاذبين نسبوا إلى أنفسهم شيئا من معرفة الغيب لعاقبهم الله ودمرهم.وحيث إن محمدا رسول الله ليس ببخيل بأنباء الغيب..أي أنه يخبر عن الأمور الغيبية بكثرة، فكيف يكون على صلة مع الشيطان؟ كلا، بل هذا دليل على أنه مبعوث من عند الله تعالى.أما قوله تعالى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانِ رَحِيمٍ فقد ذكر الله فيه دليلا ثالثًا على صدق نبيه.لقد قلتُ من قبل أن الرجيم يعني المطرود، وقد نبه الله الكافرين هنا أن هذا المدعي في ازدهار مطّرد، مع أن من كان على صلة مع الشيطان يظل مطرودًا ومهانًا، ولا يكتب له التقدم والازدهار فكيف يكون محمد كاذبًا؟

Page 323

الجزء الثامن ۳۱۹ سورة التكوير وأرى لزامًا أن أذكر هنا أن بعض الناس لا يفهمون هذا الدليل فهما سليما، فينخدعون ويصعب عليهم التمييز بين مدع صادق وكاذب؛ ذلك أن الناس عادةً ينضمون – ولو بعدد قليل – إلى كل مدع وإن كان كاذبًا، فيعتبرهم المدعي دليلا على صدقه قائلا انظروا لقد كنت وحيدا وقد صارت لي الآن هذه الجماعة.فمثلا يقول المدعي "ميان عبد الله التيمابوري: كنت وحيدا، ولكن قد صار عدد أتباعي كذا الآن.ويقول المدعي ميان غلام محمد إن عدد أتباعي قد بلغ كذا وكذا، وهذا دليل على صدقي، ولو كنتُ كاذبًا لما كتب الله لي هذا النجاح.وقد رأيتُ أن أفراد جماعتنا أيضًا يصابون بالقلق أحيانًا عند سماع هذا الكلام.والحق أن هذا الدليل دقيق جدًّا، والاستدلال به خطير كخطورة المرور بالسفينة من بين الصخور، إذ قد ينخدع منه أحد فيدمر إيمانه.والرد على هذه الشبهة هو أن هذا الدليل لا يكتمل من دون توافر شروط ثلاثة؛ ومن دون توفرها لا يصح تقديم هذا الدليل من قبل أي مدع على صدقه وأول هذه الشروط أن يكون أفراد جماعته على مستوى عال من الطهارة والصلاح، لأن انضمام حفنة من الناس إلى المدعي وتصديقهم لدعواه لا يقوم دليلا على صدقه، بل لا بد لإثبات صدقه من أن يصل أتباعه إلى مستوى عال من الورع والطهارة والصلاح، ليكون هذا دليلاً على أن المؤمنين به قد صاروا على صلة مع الله تعالى.إذ من الممكن أن يصدق الناس أن المرء كان حسن النية وأراد الترقي في الخير، ولكن عقله فسد، فادعى بهذه الدعوى، ولكن كيف يمكن أن يحدث في حياة كل من ينضم إلى هذا الكذاب تغيّر طيب ويسري على قلبه الصلاح والورع؟ فمن أدلة صدق المدعي الصادق أن يرتفع مستوى أتباعه في الصلاح والتقوى وخشية الله والتضحية والإيثار لبني نوع الإنسان بحيث إن كل من يراهم يقول تلقائيا إذا كان هذا هو مستوى صلاحهم، فما بالك بصلاح مُطاعهم.وأما إذا لم تتوفر هذه العلامة في جماعة فليس هناك دليل يقيني على أنهم ليسوا على صلة مع الشيطان الرجيم.والمعنى الآخر للشيطان الرجيم هو الشيطان المرجوم أي المطرود الذليل المهان في أعين الناس وعلامة النبي الصادق أن جماعته تكون معززة بالقوة، أي أن أفرادها

Page 324

الجزء الثامن ۳۲۰ سورة التكوير يكونون مزودين بكفاءات التقدم والرقي، بحيث إن كل من يراهم يوقن بأن هؤلاء القوم سيغلبون العالم حتماً في يوم من الأيام.وذلك كما قال الكافرون لصالح ال يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوا قَبْلَ هَذَا (هود:٦٣)..أي يا صالح كنا نعقد عليك آمالا كبيرة، وكنا نرى أنك ستأخذ القوم إلى أوج الرقي والازدهار.لا شك أن هذه الآمال تُعقد على مثل هؤلاء الرجال قبل بعثتهم، ولكن حين تقف معهم جماعة من المؤمنين بعد دعواهم فتشحن عقولهم بنضارة وقلوبهم بهمة بحيث لا يبالون بعدها بأية عوائق ولكن ليس المراد من علوّ الهمة أحلام اليقظة، كما هو مشهور عن أحد المدعين الذي ادعى أنه سيُعطى الملك، فقال له أحد مريديه: ماذا هذا الملك؟ قال له : لك مُلْكُ البنجاب بل المراد من علو الهمة أن المدعين الصادقين يتبعون خططا تجعل العالم يوقن بأن هؤلاء يتخذون بالفعل أسبابا لفتح العالم ويقومون بمساع معقولة للغلبة على العالم إذن، فثاني علامات المدعين الصادقين أن جماعتهم تتحلى بالإقدام لا بالرجم وأعني بالرجم الفرار، لأن أنال من يُرجم يهرب ويفر، ولكن جماعة المدعي الصادق لا تفرّ من الميدان، بل يبدو ستبتلع العدو.من أنها حتى والمفهوم الثالث الكامن في كلمة الرجيم هو أن من يُرجَم يختفي هنا وهناك ولا يتصدى لعدوه، ومن أجل ذلك أمر الله المؤمنين بالاستعاذة والدعاء دائما ينجيهم من وساوس الخناس، وهو الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّة وَالنَّاس، أي أنه يلقي الشبهات في قلوب الناس ثم يختفي؛ ومن أجل ذلك قد ذكر الله تعالى الخُنّسَ في هذه السورة.أما جماعة الأنبياء فلا خفاء ولا تستر عندهم، بل إنهم يبلغون الناسَ أحكام الله بكل جلاء ووضوح، ويقولون: هل عندكم من اعتراض على هذه التعاليم؟ ولكن أتباع المدعين الكاذبين يفتقرون إلى هذه الشجاعة، ويحاولون دائما ألا يطلع الناس على تعاليمهم خذوا مثلا البهائيين، فإنهم يُخفون مذهبهم دائما، مع أن الشرطي يمشي بين الناس في زيّه الرسمي ولا يختفي، إنما اللص هو الذي يختفي هنا وهناك كي لا يراه أحد.فالذين يُبعثون من عند الله تعالى لا يُخفون شيئا مما نزل عليهم بل يعلنون بين الناس أن هذه عقائدنا هي

Page 325

الجزء الثامن هي ۳۲۱ سورة التكوير يعزى وهذا ما نؤمن به وهذه أحكام شريعتنا ، وإذا كان لديكم أي اعتراض، فأتوا به.ولكن المدعين الكاذبين يخفون مذهبهم وتعاليمهم بطريق أو بآخر دوما.ولذلك يقول الله تعالى ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَحِيمٍ..أي أن القرآن ليس من الشيطان الرجيم، وإلا لحاول محمد إخفاءه.لقد أمرناه صراحة فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر: (٩٥)، وقلنا له بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (المائدة: ٦٨).وما دام محمد لا يخفي عنكم شيئا من وحيه، فكيف يكون وحيه من شيطان رجيم؟ يمكنكم أن تعترضوا على وحيه وتقولوا عن تعاليمه ما شئتم، وسوف يُجاب على كل اعتراض، وسوف تُفنَّد كل مطاعنكم، حتى يتأكد لكم أن التعاليم الحقيقية إنما ما يقدمه محمد.وحيث إن الوحي النازل عليه خال مما يستحيل أن إلى الله تعالى، أو ما يضطر لإخفائه خوفا من مطاعن الناس، فهذا في حد ذاته دليل أن وحيه ليس من قول شيطان رجيم.الحق أن هذه العلامة هي من أكبر ما يميز بين مدعي النبوة الصادق والكاذب، لأن الكاذب يخفي عادة بعض تعاليمه حتما، أما الصادق فيقول ما يقول جهارا نهارا، ولا يبالي بأي اعتراض كما أن الجماعات الشيطانية تفتقر إلى الشجاعة والإقدام، ولا تكون عندها من الخطط العملية ما يرجى به التقدم والازدهار.لا شك أن الله الأسباب غير العادية لازدهار ،جماعته ولكن التدابير التي تتخذها هذه الجماعة لها دخل كبير في ازدهارها.إن الله تعالى لا يجعل أتباع نبيه غالبين على العالم بقوله كُنْ فَيَكُونُ ، بل يجعلهم يتخذون أنواع التدابير المادية أيضًا.وكأن تعالى يهيئ 6 التقدير والتدبير كليهما يعملان باستمرار، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكرينَ (آل عمران:٥٥)..أي أن الكافرين اتخذوا التدابير والله تعالى اتخذ التدابير أيضا، وفي الأخير غلبت التدابير الإلهية على تدابيرهم.وقد تبين من ذلك أن للتدابير المادية دخلا في نجاح الجماعات الإلهية.لا شك أن زمام التدبير والتقدير كليهما في يد الله تعالى وأن مشيئته هي التي تُنفذ في العالم، إلا أن من أهم واجب الجماعات الإلهية أن تتخذ التدابير لرقيها، وتخطط لتقدمها المتواصل.

Page 326

الجزء الثامن ۳۲۲ سورة التكوير انظروا إلى جماعتنا مثلاً، فإن الله تعالى قد جعل في كل فرد منها قوة الإقدام بحيث يتراءى للجميع أن هذه الجماعة ستبتلع العالم كله في نهاية المطاف.فمرة كتب محرر جريدة (زمیندار) التي تعادي جماعتنا عداء شديدا فقال: إني مصاب بالذهول برؤية أن الذين لا يأبهون لفلسفة "كانت" و"هيجل" هم الآخرون ينضمون لجماعة میرزا غلام أحمد القادياني.(جريدة زميندار، عدد التاسع من اكتوبر ١٩٣٢).والحق أن اعترافه هذا بمنزلة إعلان منه أنه يشعر أن هذه الجماعة سوف تتغلب على العالم حتمًا.ثم إن تعاليم المدعي الصادق لا يكون فيها سرّية ولا خفاء، بل إنه يعرضها على علنا ويتحدى العالم كله قائلا: إن كان لديكم اعتراض فأتوا به ولسوف أرد عليه.ولكن متى كانت هذه الشجاعة في شيطان رجيم، إنما يسعى أن يختفي عن الناس كالخنّاس.أعين الناس ويظل مستورا عنهم كما أن جماعة المدعي الصادق تحرز مستوى رفيعا في الصلاح والتقوى، وأنى لأتباع المدعي الكاذب أن يحرزوا هذا المقام؟ باختصار، إن الشيطان جبان، ولكن المؤمنين يتحلون بالإقدام.الشيطان يدعو إلى الشر والسوء، ولكن المؤمنين يزدادون صلاحا وخيرا الشيطان لا مبادئ له ولا قواعد، ولكن المؤمنين أمامهم خطة عمل محددة تضمن لهم النجاح.الشيطان يتكلم مختفيا متسترا، ولكن المؤمنين يتكلمون علنًا.فكيف تقولون أيها الكفار أن الوحى الذي يقدمه محمد رسول الله هو من قول شيطان رجيم؟ إن القرآن يستخدم كلمات وجيزة أحيانًا، ولكنها تنطوي على معان واسعة، وهذه الآية مثال على ذلك، حيث بين الله تعالى في قوله شَيْطَانِ رَحِيمِ موضوعا واسعا جدا، وأشار به إلى كل تلك الآيات التي تتحدث عن الشيطان الرجيم و وبالتالي دعا الكافرين إلى دراسة كل العادات والخصال الشيطانية المذكورة في القرآن وإلى التفكير في كل واحدة لأن هذا سيكشف عليهم أن هذا الكلام ليس من شيطان رجيم

Page 327

الجزء الثامن شرح سورة التكوير فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ : إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) الكلمات: ۲۷ ۲۸ ذكر: الذكر : التلفظ بالشيء؛ وإحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيت؛ الشرفُ الكتابُ فيه تفصيل الدين ووضع الملل.والذكر من القول: الصَلْبُ المتين.(الأقرب) التفسير : يقول الله هنا للكافرين: هل بقي أمامكم مفرّ الآن؟ فلو قلتم إن في شخص هذا الرسول عيبًا، فقد أجبنا عليه بقولنا وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون...أي أنه زميلكم الذي يعيش بينكم ليل نهار ، ويجالسكم كل وقت، وأنتم شاهدون على أنه لم يكن به مس من الجنون.ولو قلتم إن الكلام الذي يقدمه لكم ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان فقد أجبنا عليه أيضا مفصلاً، فأين تهربون الآن؟ فليس أمامكم الآن إلا أن تنضموا إلى محمد وتدخلوا في بيعته.ولو فعلتم ذلك دخلتم الجنة، أما إذا كفرتم دخلتم النار.ثم يقول الله تعالى إِنْ هُوَ إِلا ذكرٌ لِلْعَالَمِينَ..أي أما اعتراضكم على إدلائه بأنباء تتعلق بالمستقبل البعيد، فجوابه أن القرآن ليس لأهل مكة فقط، بل هو أيضًا للذين يأتون بعد ثلاثة عشر قرنًا، وأيضًا الذين سيأتون إلى يوم القيامة.فمثلكم يا أهل مكة، كمثل ضفدع يعيش في البئر فقط فأنى لكم أن تعرفوا أن القرآن ليس لكم فقط، ولا للعرب وحدهم، بل للعالم كله بل للناس أجمعين إلى يوم القيامة، فلذلك لا بد لمحمد رسول الله أن يتحدث عن الأمور المتعلقة بالمستقبل البعيد؟ فسخريتكم بهذه الأنباء دليل على قصور نظركم، إذ لا تدرون أننا جعلنا القرآن ° هدى للعالمين كلهم، فلا بد أن يتضمن الأنباء عن الأحداث التي تقع في المستقبل.

Page 328

الجزء الثامن ٣٢٤ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (3) ۲۹ سورة التكوير أحكاما التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا الكافرين أن من محاسن القرآن أنه لم ينزل هديًا للعصور كلها فحسب، بل إن أحكامه تراعي كل فطرة وشريعته تلبي حاجة كل طبيعة، فصاحب أي فطرة وطبيعة إذا أراد أن يسلك سبيل التقرب إلى الله سيجد فيه هداه بسهولة، وسيجد فيه أسبابا لذلك حسب ضرورته القرآن يحتوي تناسب الجميع منكم، سواء الثري والفقير والذكر والأنثى، والصغير والكبير، والسيد والعامل، والحاكم والمحكوم، وليس هناك مجال من مجالات الحياة إلا وفيه تعاليم متكاملة، ولا يشق العمل بأحكامه على أي فطرة، بل إنه راعى كل أنواع الفطرة والطبائع في كل العصور، لذلك نعلن أن بوسع أيّ من أفراد الجنس البشري أن ينتفع بالقرآن إذا أراد.علما أن كلمة منكم ليست موجهة إلى أهل مكة فحسب، بل تخاطب أهل الأرض كلها وأن كلمة لمن شاء تعني تعني لمن شاء من سكان المعمورة، ولذلك فالمراد أن كل إنسان من أي عصر ومن أي طبيعة وفطرة سيجد في القرآن أسباب هداه يا أهل مكة، لا شك أن في القرآن أمورًا لا تتناسب مع فطرتكم أو عصركم فترونها ضربًا من الجنون، ولكن لا نستطيع أن نضرب عن ذكرها صفحا، لأن القرآن ليس لكم فقط، بل هو لكل العصور.وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ (3) التفسير : كنت أظن من قبل أن الواو في قوله تعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ حالية، وكنت أفسر هذه الآية مقرونة بالآية السابقة كالآتي : مَن شاء منكم أن يسير على الصراط المستقيم حال كونه تابعًا لمشيئة الله فسوف ينال الهدى.ولكن قد انكشف على الآن مفهوم آخر لهذه الآية وأنا أفضله على المعنى السابق بالنظر إلى ترتيب موضوع هذه الآيات.وهناك أمر آخر جدير بالتذكر هنا وهو أن الله تعالى قد قال من قبل إن هُوَ إلا ذكرٌ لِّلْعَالَمينَ ، بينما قال هنا ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ،

Page 329

الجزء الثامن ٣٢٥ سورة التكوير وهذا هو الأمر الذي لفت نظري إلى المفهوم الثاني لهذه الآية، وتبين لي أنها تشير إلى مفهوم أوسع مما كنت أرى من قبل، وإليك بيانه: أن يأتي على الناس عصران عصر يكون فيه الهدي متيسرا، سواء توجه إليه الناس وانتفعوا به أم لا؛ وعصر آخر ينمحي فيه الهدي كليةً، ويأتي الانحطاط على الأمة بأسرها من حيث دينها، وفي هذه الحالة من المحال أن يرغب الناس في سلوك الصراط المستقيم، لأن القلوب ترغب في شيء برؤية نموذج، حيث يرى المرء غيره متحليًّا بميزة فيرغب في التحلي بها أيضا، أو يرى غيره مواظبا على الصلاة فيسعى يواظب عليها مثله أو يرى صاحبه يصوم بالتزام فيرى أن من واجبه أيضا أن يصوم مثله.فالرغبة في فعل الخيرات لا تتولد إلا إذا كان أمام الإنسان أسوة ونموذج، ولذلك قال الله تعالى كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: ١١٩)..أي إذا أردتم الترقي في الخيرات فعليكم بصحبة الصالحين.ولكن، كيف يرغب الناس في فعل الخيرات إذا لم يوجد نموذج ومثال في عصر يكون فيه الدين مصابًا بالضعف والاضمحلال في الأمة كلها ؟ كلا، إنهم لن يرغبوا فيها في مثل ذلك العصر، إلا إذا ظهرت مشيئة الله أولاً، أي أن يبعث من عنده أحدًا لإصلاح الناس وينزل عليه الهدى السماء.من إذن، هناك عصران: عصر تكون أسباب الهدى مهيأة فيه من عند الله تعالى لمن أراد أن يرغب في الدين وينال الهدى، أما إذا قصر في ذلك فهذا ذنبه، وعصر آخر لا ينال الناس فيه الهدى إلا أن الله يهيئ لهم الهدى من بدون ذلك فلا من جديد، أما يمكن أن تتولد في قلوبهم رغبة صادقة في اتباع الصراط المستقيم، ناهيك أن يسيروا عليه بالفعل والعلاج الوحيد لأهل هذا العصر هو بعثة مأمور رباني بينهم، وإلا فمن المحال أن يتبع الناس سبيل الهدى.كانت الآيات السابقة تنبئ عن زمن يُبعث فيه مأمور من عند الله، كما أن الزمن الذي أُدلي فيه بهذه النبوءة هو الآخر كان زمن المأمور الرباني ، بتعبير آخر، تنبئ هذه السورة في بدايتها عن قوم كان سيُبعث فيهم مأمور من عند الله، بينما تتحدث هذه السورة في أواخر آياتها عن قوم كان المأمور الرباني كان المأمور الرباني موجودا فيهم،

Page 330

الجزء الثامن ٣٢٦ سورة التكوير ولذلك قال الله تعالى ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ..والمعنى أيها المعترضون على محمد رسول الله، تزعمون أنكم لا حاجة بكم إلى الإيمان به، أو المعنى أيها الذين أُخبرتم عن بعثة مأمور رباني في "الأفق المبين"، تزعمون أنكم لستم بحاجة إلى مأمور من الله، لأنكم ستتبعون سبل قرب الله تعالى بأنفسكم، اعلموا أن الهدى قد انمحى واندثر في عصركم كلية فلستم كقوم يكونون في زمن نبي ويكون الهدى ميسراً لهم، وبوسعهم أن يتبعوه متى شاءوا.تدعون أنكم ستحرزون الرقي بقوتكم بدون اتباع أي مأمور ،رباني، فاعلموا أنه خيال فاسد باطل تماما.عندما يأتي ذكر للعالمين فمن المستحيل أن يزدهر القوم من دون الإيمان به.فإذا كان فرد أو أمة تظن هكذا فإنما هو جهل منها كلا، بل الحق أنه عندما ينمحي الإيمان من القلوب كلية فلا ترغب قلوب الناس في الهداية، دعك أن ينالوا الهدى فعلا، إلا إذا أنزل الله الهدى من عنده فاعلموا أن ازدهاركم محال الآن بدون الإيمان بمحمد رسول الله.لأي مسيح زعمهم من الله في هذا العصر أيضا نرى مشايخ كبارًا بين المسلمين يقولون: أي حاجة للمسلمين أو مهدي؟ إن العلماء يقومون بواجب الهدى، وهذا يكفي.والحق أن هذا باطل كل البطلان، إذ يقول الله تعالى إن مشيئة رب العالمين هي التي تثور أولاً لينزل كلامه إلى الدنيا، وبعدها سيتولد في قلوب الناس الرغبة الصادقة في قرب الله تعالى.أما بدون ذلك فلن تتولد هذه الرغبة أبدا.باختصار، لقد بين الله تعالى هنا مبداً هاما بأنه إذا انمحى الهدى من الدنيا في عصر، وانتشر الضلال في كل الجهات، واختفى نور الله أعين الناس، فمن المحال أن عن يحرز أهل ذلك العصر الرقي إلا من خلال الآيات السماوية وببعثة مأمور من عند الله تعالى.وهذا يعني أن مشيئة الله تظهر أولاً الله تظهر أولاً من السماء، وبعدها يرغب الناس في الخير، ولذلك قد جاء قوله تعالى ذكر للْعَالَمينَ ) مقرونًا بقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمينَ، ليبين أنه سيأتي على الناس زمان لن تتولد فيه رغبة صادقة للخير في قلوبهم إلا إذا أنزل رب العالمين ذكرًا للعالمين.أما بدون ذلك فلا.ومن غفل عن هذه الحكمة حُرم الهدى.

Page 331

الجزء الثامن ۳۲۷ سورة الانفطار مستقلة سورة الانفطار مكية، وهي عشرون آية مع البسملة 28 سورة الانفطار تسلسل لموضوع سورة التكوير، وقد فُصلت عنها لكونها حلقةً من حلقات سلسلتها.موضوعهما ،واحد ولكن هذه السورة تبرز الجانب الآخر من الموضوع..حيث بين الله تعالى فيها أمورًا تخص المسيحيين.أما فيما يتعلق بالحكم الكامنة في بيان هذا الموضوع الواحد في جزءين أو سورتين، فالحكمة الأولى أن بعض أجزاء الموضوع تكون ذات أهمية قصوى، فتذكر منفصلة من أجل التركيز عليها والحكمة الثانية هي أن هذا الأسلوب هو إحدى ميزات القرآن، ورغم أنه أمر بسيط في الظاهر إلا أنه ينفع المؤمنين بالقرآن الكريم كثيرا، وبيانه كالآتي: • من هناك وعد رباني بحفظ القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية، وكان ترسيخ مضامينه في قلوب المؤمنين من أهم الحاجات.إذا كان أتباع الصحف السابقة قد نسوها فلا بأس في ذلك؛ إذ كان من المقدَّر أن تأخذ مكانها صحف أخرى، ولكن لو نسي القرآن أتباعه، وهو آخر الشرائع لهلكت الدنيا ووقع الناس في ضلال أبدي.فاتخذ الله لذلك تدبيرًا يبدو بسيطا ولكنه هام جدا حيث النتائج بحيث يصعب تقدير قيمته ومدى نفعه.فأنزل القرآن الكريم مجزا، وجعل بعض أجزائه صغيرا وبعضها كبيرا، فيستطيع الطفل الصغير حفظ بعض أجزائه، كما يستطيع الكبير أن يحفظ قسطا أكبر منه، ويمكن أن يحفظ بعض أجزائه أضعف الناس ذاكرةً، ويحفظ أصحاب الذاكرة الأقوى أجزاءً أكبر منه.فسورتا الإخلاص والكوثر مثلاً صغيرتان جدا بحيث تكتبان في سطر واحد بخط صغير، ويستطيع حفظهما عن ظهر قلب طفل بسيط الذاكرة في الرابعة من عمره.أما سورة البقرة श्री

Page 332

الجزء الثامن ۳۲۸ سورة الانفطار سور فهي تساوي جزءين ونصف الجزء من الثلاثين جزءاً من القرآن.ثم هناك متفاوتة الطول ما بين خمس آيات وعشر آيات حتى ٣٠ و ٦٠ و ١٠٠ آية، وكل إنسان أيا كان مستوى ذاكرته يستطيع حفظ سورة من سوره، أما قوي الذاكرة فيستطيع حفظ القرآن كله وهذا ما يحدث فعلا، والمسلمون المتعلمون يحفظون سورًا من الأجزاء الأخيرة من القرآن الكريم على قدر وسعهم، وهكذا تجد مئات الآلاف الحفاظ لشتى أجزاء القرآن الكريم.من هذا الأمر يبدو بسيطا في الظاهر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان هذا التدبير من قبل بشر فلماذا لم يخطر ببال أحد قبل محمد منذ أن خلقت الدنيا أيا كان عمرها؛ ستة آلاف سنة أو مئة ألف سنة أو مليون سنة؟ هناك احتمالان فحسب، فإما أن القرآن من كلام بشر أو من كلام الله تعالى.لو قيل إنه کلام بشر فنقول: هذه الميزة لا توجد في كلام أي بشر، ولم يخطر هذا التدبير في بال إنسان حتى لم يخطر ببال أحد بعد نزول القرآن أيضًا.أما إذا قلنا إنه كلام الله تعالى فلا بد من الاعتراف أنه تعالى قد أراد لهذا الكتاب أن يُحفظ عن ظهر قلب، ولذلك اتخذ هذا التدبير.لو قيل هو كلام ،بشر فيثبت فضل القرآن أيضا، إذ أحدث هذا الإنسان ثورة باتخاذ تدبير بسيط في الظاهر أما إذا اعتبرناه كلام الله تعالى فلا بد من الاعتراف أيضا أن الله تعالى أراد بذلك حفظه.ولو قال أحد ما دام الإنسان يقدر على حفظ أي جزء من أي كتاب، فأي خصوصية للقرآن في نزوله مجزا؟ فالجواب : لا شك أن المرء يمكن أن يحفظ أي جزء من أي كتاب ولكن هل بوسع كل إنسان أن يقرر أن يكون ذلك الجزء متكاملا في موضوعه؟ كلا، بل إن مؤلف الكتاب أو مُنزّله هو الذي يمكن أن أنا من أجزائه متكاملا في موضوعه؟ علمًا أن كل سورة قرآنية ليست اسما لبضع آيات فحسب، بل إنها موضوع متكامل في حد ذاتها.لو حفظ أحد ثلاث آيات من سورة البقرة، فما الفائدة من ذلك؟ إذ قد لا تكون متكاملة في مضمونها، ولا يتضح معناها إلا بربطها بسياقها.أما سورة الإخلاص مثلا، فهي تحتوي على موضوع متكامل مع أنها لا تتجاوز سطرين.كذلك الحال لسورة الكوثر وسورة يخبر

Page 333

الجزء الثامن ۳۲۹ سورة الانفطار المسد ،وغيرهما، فهي كلها متكاملة في موضوعها.ولكن لو جمع من السور الأخرى ما يساوي إحدى هذه السور القصار فليس ضروريا أن يكون هذا الجزء متكاملا في موضوعه، أما إذا قام منزّل الكتاب بنفسه بتجزئة كتابه سهل المجموع الأمر كثيرا على القراء.فثبت أن حفظ بضع آيات من القرآن الكريم لا يكون نافعًا بقدر ما تنفع أجزاؤه الحالية، ولن يؤثر في القلوب كما يؤثر بصورته الموجودة؛ ولأجل ذلك إذا سألت عددا من المسيحيين عما يحفظونه من مقاطع الإنجيل عن ظهر قلب، لوجدت أنهم لا يحفظون منه إلا بضعة مقاطع شهيرة، ولن تجدهم حتى بمجموعهم يحفظون الإنجيل كله.أما لو سألت المسلمين عما يحفظونه من القرآن لوجدت أن غير الحفاظ أيضا يحفظون القرآن كله بأجزاء مختلفة؛ فبعضهم منهم يحفظ سورة البقرة، وبعضهم سورة آل عمران وبعضهم سورة النساء، وبعضهم عديدا من سوره الأخيرة.إذا فتقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء متفاوتة الطول والقصر قد ساعد في حفظه، وهذا كان مستحيلا لو كتب مرة واحدة.وبسبب هذه الحكمة فقد جعل القرآن مقسما بحراً.باختصار، فرغم أن موضوع هذه السورة تسلسل لموضوع السورة السابقة، إلا أنها فصلت عنها لتنبه إلى مضامين جديدة أخرى.حلقة هي من السلسلة السابقة، ولكنها تختلف عنها في نواح أخرى.وكما قلت فإن من خصوصيات القرآن أنه كلما تنوع الموضوع فيه بينه في سورة منفصلة لكيلا تشق قراءته وحفظه على الضعفاء.الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ أَنفَطَرَتْ (3) شرح الكلمات: انفطرت: انقطر الشيء: انشق.(الأقرب)

Page 334

الجزء الثامن من ٣٣٠ سورة الانفطار التفسير: يشير قوله تعالى إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ إلى ذلك الانقلاب الذي كان سيحصل في الزمن الأخير، والذي هو خاص بالمسيحية، أعني أن هذه السورة تشير إلى غلبة المسيحية.قال الله تعالى في سورة مريم تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وَتَحرُّ الْجِبَالُ هَذَا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَن وَلَدًا) (الآيات: ۹۱-۹۲).لم تكن المسيحية عند نزول القرآن الكريم غالبة إلا على مناطق قليلة، ولم يكن أهلها يبشرون تبشيرا عاما، ومع ذلك وصف الله شركهم بأنه تكاد السماوات يتفطرن منه؛ أما وقد تفاقم شركهم اليوم عشرة أضعاف بل مئة ضعف فيصح القول بحسب محاورة القرآن الكريم قد انفطرت السماء فعلا بشركهم.لما نزل القرآن لم تكن هناك دولة مسيحية إلا الدولة الرومانية، ولكنها لم تكن تحكم العالم كله، وإنما كانت تحكم تركيا ومصر والحبشة واليونان، أي أنها كانت تحكم جزءا آسيا الوسطى؛ أما اليوم، فالمسيحية غالبة على العالم كله، كما اتخذ المسيحيون للتبشير من التدابير ما لم يتخذوه في الماضي قط.لقد نشروا ملايين الملايين من نسخ الإنجيل في العالم، وينفقون الملايين لإنجاح مراكزهم التبشيرية، ويفتحون المدارس ليجعلوا النشء صيدا للمسيحية، وينشئون الكليات لتسميم قلوب الشباب باسم المسيحية، ويؤسسون مستشفيات للمجذومين وغيرهم من المرضى، وليس هدفهم وراءها إلا أن يجعلوا الناس يتركون عبادة الإله الواحد، ويؤمنون بآلهة ثلاثة.فما دام الله تعالى قد وصف غلبة المسيحية المحدودة بقوله: (تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَذَا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، فحري بنا أن نقول الآن وقد انتشر شركهم في العالم كله، وبلغت غلبة المسيحية ذروتها: إن السماء التي كانت على وشك الانشقاق من قبل قد انفطرت الآن فعلا شركهم.إذا زدت الضغط على الشيء المضغوط إلى أقصى مداه سلفًا انفجرَ ولم يعد سالما ولذلك قال الله تعالى هنا إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ.وكأنه تعالى يقول: قد قرب الزمان الذي كنا نقول عنه أن السماء والأرض على وشك الانشقاق من العقيدة الوثنية المسيحية، ولو ازداد شركهم قليلا فينفطران فعلا، إذ سينصب سوء من شدة

Page 335

الجزء الثامن ۳۳۱ سورة الانفطار تركيزهم على ادعائهم أن الله تعالى قد اتخذ ولدا فتنفطر السماء بسبب بلوغ ظلمهم منتهاه.إذا، فالمراد من انفطار السماء غلبة المسيحية وانتشار شركها في العالم بكثرة.والحقيقة أن المسيحية قد أحرزت اليوم من الرقي والغلبة ما لم يوجد له مثيل حتى في زمن ازدهار الإسلام أيضا الفرق الوحيد أن الإسلام قد حقق الازدهار بقفزة واحدة، أما المسيحية فحققته في عشرات القفزات ثم إن رقي الإسلام كان مُعجزا، أما رقي المسيحية فليس فيه أي إعجاز.ولكن فيما يتعلق بالمقاييس المادية فإن غلبتها قد فاقت غلبة الإسلام بلا شك.وسببه أن الإسلام يعلم أتباعه العدل ولا يسمح لهم بالظلم، أما هؤلاء فلا يبالون بالعدل ولا يتورعون عن الظلم ولا يبالون بغصب حقوق الآخرين.لقد ظل هؤلاء ينتشرون في آخر أقطار الشرق والغرب، ويرسخون عظمة المسيح الليلة في القلوب بحيث ستجد بين المسيحيين كثيرا ممن لا يؤمنون بالآلهة الثلاثة، ومع ذلك لم يزُل تعظيم المسيح من قلوبهم.مرة جاء لمقابلتي طبيب ملحد خلال زيارتي لإنجلترا، فرأيته أثناء الحديث يشن الهجوم على النبي بين حين وآخر، فقلت له هذا الأسلوب ليس صحيحا، ويجب ألا تهاجم رسول الله ولكنه ظل كالآرية الهندوس يوجه هجوما تلو هجوم على رسول الله.فلما رأيت أنه يستغل حلمي بهذا الشكل المشين، ولا يتورع عن مهاجمة النبي ، بدأت أكشف له حقيقة يسوعهم، و لم أتكلم كثيرا حتى احمرّ وجهه وقال لي: لماذا تذكر المسيحَ في حديثك؟ قلتُ إني أعلم أنك ملحد، ومع ذلك لم تزل المسيحية من قلبك، لذلك سأتطرق إلى الحديث عن المسيح حتما.فقال: ولكني لن أتحمل أي شيء ضد المسيح قلت وأنا لا أستطيع سماع أي قول ضد الرسول ، وإذا استمررت في الهجوم عليه ، فلا بد أن تسمع مني عن المسيح ما لا يُعجبك.فغضب وترك الكلام وخرج.لقد رأيت أن بعض الناس يفرحون بأن أوروبا قد انتشر فيها الإلحاد، وهذا دليل على أن أهلها قد تبرءوا من المسيحية والواقع أن عظمة المسيح اللي لم تزل من قلوبهم رغم إلحادهم.وقد أدرك المسيح الموعود اللي نقطة ضعفهم هذه، ومن

Page 336

الجزء الثامن ۳۳۲ سورة الانفطار المؤسف أن المسلمين أصدروا فتاوى التكفير ضده للسبب نفسه.لقد أعلن العلا أنه ما لم يتم دفن المسيح فلن تموت المسيحية إزالة أوهام، الخزائن الروحانية ج ٣ ٤٠٢ ، والملفوظات ج ۱۰ ص ٤٥٨ الحاشية.إنهم يعبدون المسيح فقط، ولا يبالون بالعقائد الأخرى، ولذلك يقول الله تعالى هنا: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ..أي حين تحل البلية الكبرى ويحصل الظلم الذي ليس فوقه ظلم.ص كما قد يكون المراد من انفطار السماء تقطع قلوب أهل السماء برؤية هذا الظلم والمراد أن الله تعالى يكره هذا الأمر، كما أن ملائكته سوف يتأذون منه، وقلوب الأنبياء ستتألم برؤية هذا الظلم.لقد كتب المسيح الموعود اللي أيضا أنه رأى المسيح في الحالة الكشفية يتألم ويضطرب بسبب هذا الظلم الذي يُرتكب باسمه على الأرض.نور الحق، الخزائن الروحانية ج ٨ ص (٥٦) باختصار، إن هذه الآية تنبئ أن المسيحية ستصبح غالبة، وأن السماء ستهيج برؤية هذا الظلم على الأرض الذي لم يسبق له مثيل، وهذه هي الآفة التي لا نظير لها.كان الخليفة الأول الله يذكر بهذا الصدد لطيفة ذوقية لأحد الصلحاء بأنه قال إن الشدّ والمد في قوله تعالى وَلاَ الضَّالِّينَ ) يشيران إلى أن الفتنة المسيحية ستكون شديدة وطويلة.شرح الكلمات : وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ) الكواكب: جمع الكوكب، وكوكَبَ الحديدُ بَرق وتوقد.والكوكب: النجم؛ نقطة بيضاء تحدث في العين؛ ما طال من النبات؛ سيد القوم وفارسهم؛ شدة الحرّ؛ السيف؛ الماءُ؛ المحبس؛ المسمارُ؛ الخطَّةُ يخالف لونُها لون أرضها؛ الطَّلْقُ من الأودية؛ الرجلُ بسلاحه؛ الجبلُ؛ الغلام المراهق؛ الفُطْرُ؛ معظم الشيء؛ نَوْرُ الروضة؛ بريقُ الحديد وتوقده؛ والكوكب من البئر: عينه الذي ينبع الماء منه؛ قطرات من الجليد

Page 337

الجزء الثامن ۳۳۳ سورة الانفطار تقع بالليل على الحشيش فتصير مثل الكواكب.ويقال: ذهبوا تحت كل كوكب: تفرقوا يوم ذو كواكب ذو شدائد.(الأقرب).انتثرد نثر الشيء: رماه متفرّقا.وتناثر وتنتر وانتثر الشيء: تساقط متفرقا.تقول العرب: تفرّق القوم وتنثروا (الأقرب) التفسير : الجدير بالتذكر هنا أن الله تعالى قال في السورة السابقة ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، بينما قال هنا وَإذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ، وذلك لأن هذين خبران مختلفان يشيران إلى فرق خاص، ولذلك جاءت في السورة السابقة كلمة النجوم، وهنا كلمة الكواكب، كما جاءت في الأولى كلمة انكدرت وهنا كلمة انتثرت.لا شك أن الانكدار يعني الانتشار أيضا، ولكن السؤال هنا: لماذا غيّر الله الكلمات هنا أن تغييرها لم يكن ضروريا في الظاهر، خاصةً وقد مع جاءت في القرآن بعض الآيات بكلمات واحدة في ثلاثة أو أربعة أماكن؟ فليس من أساليب القرآن تغيير الكلمات حتمًا عند إعادة الموضوع في موضع آخر، إذ نرى أنه في بعض الأحيان يعيد الكلمات نفسها في مكان آخر.إذا فلا بد من حكمة في استبدال انکدرت) بكلمة (انتثرت).لو كانت انكدرت) في السورة السابقة بمعنى انتثرت) لم يكن من المستبعد أن يستخدم الله تعالى (انتثرت) مكان انکدرت هنالك، وإذا كانت انتثرت) هنا بمعنى انكدرت لكان من الممكن أن يقول تعالى هنا (انكدرت) بدلاً من (انتثرت)، لوجود أمثلة عديدة في القرآن لإعادة آيات بنفس كلماتها وعليه فاستبدال الكلمات هنا دليل على وجود فرق بين التعبيرين من حيث المفهوم.بعد هذه الكلمة التمهيدية :أقول إننا حين نرجع إلى القواميس لمعرفة معنى (النجم) يتضح لنا أن معناها الحقيقي هو أصل الشيء؛ فمن معاني النجم مثلا النبات الذي لا ساق له؛ ومن المحتم أن النبات الذي لا ساق له لا يمكن أن يطول.وعلى النقيض نجد أن من معاني الكوكب ما طال من النبات، ومن معانيه أيضا سيد القوم وفارسهم، أن في لفظ (الكوكب) مفهوم النبوغ والمهارة، لأن الفارس هو قائد القوم.مما يعني

Page 338

الجزء الثامن ٣٣٤ سورة الانفطار إذن، فكلمة النجم تشير إلى الأصل أو السلالة لا إلى النبوغ، أما كلمة الكوكب فلا تشير إلى الأصل بقدر ما تشير إلى النبوغ.ثم إن من معاني الكوكب شدة الحرّ، مما يبين أن الكواكب إشارة إلى أُناس ذوي نشاط كبير وطبع حماسي وتأثير ونفوذ على الآخرين كالسيف الماضي.هذا الفرق يبين أن كلمتي النجوم وانكدرت في السورة السابقة وكلمتي الكواكب وانتثرت في هذه السورة لم ترد بلا بلا سبب، بل وراءها حكم بالغة.الواقع أن الانكدار يعني تكثر الشيء، والانتثار يعني سقوط الشيء وتفرقه.وقوله تعالى في سورة التكوير (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ إشارة إلى أن الرؤساء عريقي النسب سيفقدون نفوذهم في عامة الناس ، وقوله تعالى هنا وَإذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ إِشارة إلى أن أصحاب الفن والمهارة في حرفهم الذين كانوا يتمتعون بالنفوذ بسبب مهارتهم لن يستطيعوا ذلك، أي أن الانقلابات الحاصلة نتيجة تقدُّم الأوروبيين ستقضي على قوة كبار أهل الفن والمهارة وبالفعل نرى في هذا الزمن أن كلا الأمرين قد تحقق؛ فرغم أن العلماء موجودون في البلاد غير المسيحية إلا أن نفوذهم قد زال، كما يوجد فيها كبار أصحاب المهارة والفن، ولكن لم يعد لهم نفوذ ولا قوة.أما البلاد المسيحية فقد تشكلت فيها برلمانات نتيجة هذه الانقلابات وانكسرت شوكة الأمراء والرؤساء عندهم، وأخذت أحزاب العمال والاشتراكيين مكان الأمراء وأهل الفن والمهارة فثبت أن هذه الآية إشارة إلى الثورة الحاصلة نتيجة تقدم أهل أوروبا.لا شك أن هذه الثورة بدأت تقع في البلاد غير المسيحية تأثرًا من الأوروبيين، ولكنها ليست ثورة كاملة.وحيث إن هذه السورة تتحدث عن الشعوب الأوروبية المسيحية خاصة، فقد أخبر الله تعالى هنا أن الثورة الحاصلة في هذه الشعوب تكون كبيرة، بحيث إن أهل النفوذ – سواء من الأمراء أو من الأسر العريقة أو من أهل الفن والمهارة كلهم سيسقطون، وتأخذ القوى الأخرى مكانهم، أما الشعوب غير المسيحية فإن الأمراء فيها سيفقدون نفوذهم نتيجة هذا الانقلاب.

Page 339

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٣٣٥ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجَرَتْ (3) سورة الانفطار فجر: مثلُ فجَر، شُدّد للمبالغة.يقال فجر الماء: فتح له طريقا فجرى.وفجر القناة: شقها وقيل شقا واسعًا.وفَجَّرَ الرجلَ : نسبه إلى الفجور.(الأقرب) الله و التفسير تشبه كلمات هذه الآية كلمات آية في السورة السابقة حيث قال الله تعالى هنالك: ﴿وَإِذَا الْبحَارُ سُجِّرَتْ)، بينما قال هنا: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ).لقد قلتُ من قبل أن سورة الانفطار تتحدث عن موضوع خاص بالمسيحيين، لذا فإن كل الأمارات الواردة فيها تنطبق على هذه الأمة.فمن مفاهيم هذه الآية عندي أن المسيحيين في زمن رقيهم سيشقون البحار حتى يوصلوا بعضها ببعض.وإن أبرز مثال على ذلك قناة السويس وقناة بنما، وكلتاهما قد شُقتا بأيدي المسيحيين.لا شك أنه قد شقت في العالم قنوات عظيمة أخرى، منها ما شقه الفرس، ومنها ما شقه الأفغان والمغول.ولا شك أن الأوروبيين قد تقدَّموا في هذا الفن، ولكنهم ليسوا منفردين ولا سبّاقين في شق القنوات.أما شق البحار وإيصال بعضها ببعض فلا شك أنهم تفردوا في ذلك؛ إذ لم توصل البحار من قبل بحفر الأرض هكذا.لقد فسّرتُ البحار في قوله تعالى (وَإِذَا الْبحَارُ سُجِّرَتْ في السورة السابقة بشق القنوات من الأنهار عموما، وذلك لأنها تتحدث عن الانقلابات العامة التي ستقع في الزمن الأخير، أما هذه السورة فتتحدث عن الشعوب المسيحية خاصة وتذكر علاماتها بشكل خاص.وحيث إن إيصال البحار بعضها ببعض بحفر الأرض أمر غير مسبوق، فلذلك فسرت البحار هنا بمعناها المعروف نظرًا إلى أحوال المسيحيين الخاصة.وقد يكون البحر هنا بمعنى العالم الكبير، وعليه فقوله تعالى (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ إشارة إلى أن الفسق والفجور سيُعزى إلى القساوسة المسيحيين بكثرة.وهذا يعنى أن هذه الآية تخبر أن المسيحية ستصبح غالبة على العالم وتنشر الشرك في الناس، كما تصبح الكنيسة نجسة وسخة تماما من جهة أخرى.

Page 340

الجزء الثامن ٣٣٦ سورة الانفطار إذن، فالتفسير المادي لقوله تعالى ﴿وَإِذَا الْبحَارُ فُجِّرَتْ يعني إيصال البحار بعضها ببعض، أما التفسير الروحاني فيعني أن الكنيسة تفسد كلية.والمعنى الثالث لهذه الآية أن الأنهار ستُوسع في ذلك الزمن، وهذا ما نراه فعلاً في هذا الزمن، حيث قاموا بتوسيع مصبّات أنهار كثيرة في أوروبا وأمريكا فتمرّ بها سفن كبيرة.في الماضي كانت الأنهار تتفرع عند مصابها في البحار وتصبح جداول صغيرة كثيرة، أما اليوم فقد عمَّقوا مصاب كثير من الأنهار في فرنسا وألمانيا وأستراليا وإنجلترا وأمريكا؛ فتجري فيها السفن بسهولة.وفي بعض الأماكن تصل هذه السفن إلى عمق اليابسة عبر مصاب هذه الأنهار العميقة إلى مسافة مئتي ميل، وهكذا تصل البضائع داخل البلاد وتخرج منها بسهولة وبكلفة زهيدة.شرح الكلمات وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت (3) بعثرت: بعثر الشيء: فرّقه وبدده.وبعثر الشيء: استخرجه فكشفه وأثار ما فيه.(الأقرب) التفسير وهذه العلامة أيضًا نراها جلية في هذه الشعوب المسيحية في هذا العصر.في الماضي كان الناس يعظمون المقابر تعظيما كبيرا بحيث يتضح لنا من التاريخ القديم أن الناس إذا وجدوا مقابر غيّروا خريطة بلدتهم و لم يشيدوا مبانيهم هناك، وكانوا لا يطيقون التقصير في حرمة المقابر.أما هذه الشعوب الغربية المسيحية فلم يعد عندهم احترام للمقابر إطلاقا.فعندما يريدون إنشاء مدينة ينبشون القبور بكل جرأة، ويبنون مكانها ما يشاءون.لقد نبش هؤلاء مئات المقابر بلا هوادة عند بناء مدينة دهلي الجديدة.إذن فأحد معاني هذه الآية أن المقابر ستُنبَش نتيجة الكثرة السكانية.وبعثرة القبور تعني أيضا فتح المقابر القديمة، كما يحصل اليوم في مصر، حيث يحفرون قبور القدماء ويخرجون منها مومياواتهم.وهذا ما تشير إليه هذه الكلمة حيث ورد في القواميس: "بَعثرَ القبر: استخرجه فكشفه وأثار ما فيه والشعوب المسيحية الغربية

Page 341

الجزء الثامن ۳۳۷ سورة الانفطار أيضا تقوم بحفر القبور المصرية، فيستخرجون منها المومياوات ثم يرسلونها إلى متاحف ،بلادهم، بعضها إلى إنجلترا وبعضها إلى فرنسا وبعضها إلى أمريكا وبعضها إلى روسيا.فكأنهم يقسمون فيما بينهم جثث الموتى كما تُقسم أموال الإرث ليحتفظوا بها في متاحف بلادهم.فالمسيحيون هم الذين استخرجوا جثث الموتى من القبور القديمة وكشفوها للناس ونشروها في مختلف البلاد.وأرى أن من واجب المسلمين حين ينالون الغلبة أن يعيدوا هذه الجثث إلى القبور مرة أخرى، لأن من المنكر جدًا إخراج الجثث من قبورها وعرضها للناس لأنها إساءة كبيرة للموتى.يجب أن يدفنوا مومياء فرعون مصر في الأرض ثانية، ويكتبوا على القبر اسمه.وحيث إن القبر يُطلق على الأشياء المدفونة أيضا، فيمكن تفسير هذه الآية أن مدنا كبيرة ستُستخرج من تحت الأرض في الزمن الأخير، وبالفعل نرى أن دفائن المدن القديمة تستخرج وتوضع في المتاحف وتوزع عليها.إذا فمن مفاهيم هذه الآية اكتشاف المكتبات القديمة والعثور على المباني والمقابر القديمة في ذلك الزمن.عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَرَتْ (3) التفسير: لماذا قال الله تعالى هنا : عَلمَت نَفْس ، و لم يقل: (علمت كل نفس)؟ أجاب بعض المفسرين على ذلك بأن الله تعالى قد سبق أن قال: كُلُّ نَفْس في موضع آخر وذلك في قوله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرِ مُحْضَرًا) (آل عمران: ۳۱)، فاكتفى هنا بكلمة نَفْس ) ).أنا لا أنفي استعمال القرآن الكريم هذا الأسلوب، حيث يكتفي بالتلميح إلى أمر ما في موضع، ويفصله في موضع آخر، ولا بأس في ذلك، ولكن لا أتفق استدلال مع المفسرين، وأرى أن كلمة نفس هنا إشارة إلى النفس المسيحية المذكورة من قبل، حيث جاء التنوين هنا على سبيل التحقير ، والمعنى أن هذه النفس الحقيرة التي لا تعرف

Page 342

الجزء الثامن ۳۳۸ سورة الانفطار خيرها من شرها ولا تدري ماذا يجب أن تفعل أو لا تفعل، ستعرف يومئذ ما قدمت وما أخرت.لقد نبشوا القبور من ناحية، وارتكبوا شركا كبيرًا انفطرت به السماء من ناحية أخرى، وكلا الأمرين تعافُهما الفطرة، فلذلك استخدم الله هنا كلمة نفس النكرة تحقيرًا لشأنهم، وقال ستعرف هذه النفس الحقيرة ما قدمت وأخرت.وكلمات مَا قَدَّمَتْ وَأَخَرَتْ أيضًا جاءت تحقيرا لأعمالهم.وقد أُشير إلى الأمر نفسه في قوله أنه عبد من عباده تعالى إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ..أي أنهم أسقطوا ذات البارئ تعالى الذي كان يجب أن يعظموه، ورفعوا المسيح وأجلسوه على عرش الله تعالى، مع تعالى.وبالفعل ترى أن المسيحيين يتوسلون في أدعيتهم إلى المسيح لا إلى الله تعالى، وكأنهم -والعياذ بالله - قد أحالوا الله إلى التقاعد ووضعوا مهمة الألوهية في يد المسيح الا فأحد الأمثلة على صدق قوله تعالى عنهم مَا قَدَّمَتْ وَأَخَرَتْ أَهم أنزلوا الإله منزلة العبد ورفعوا العبد إلى درجة الإله.وثانيا إنهم قد نبشوا قبور الموتى ووضعوها في المتاحف ليتفرج عليها الناس.وحيث إن قوله تعالى ما قدمت وَأَخَرَتْ تعني التقديم والتأخير ، فالمعنى أنهم سيدركون ما فعلوا وما لم يفعلوا، وما فضلوا وما لم يفضّلوا..بمعنى أن هذه النفس الذليلة الحقيرة ستدرك يومئذ أي الأعمال كانت أحق بالقيام بها، وأيها كانت أولى بالترك..أي أنها ستدرك أنها لم تعمل ما كان يجب أن تعمله وعملت ما لا يليق بالعمل.القدماء ويمكن تفسير هذه الآية بمعنى آخر، وهو أنه حين تقع الأحداث المذكورة آنفا - أي انتشار الشرك، وانكسار شوكة الملوك والرؤساء، وإيصال البحار بعضها بعض، ونبش القبور وكشفها وتفريقها - سيهيئ الله عندها من الأسباب ما يجعل هذه النفس الحقيرة، التي أخذت أمر ألوهية الله بيدها، تدرك ماذا كان يجب عليها أن تفعل وما لا تفعل..أي سينكشف عليهم شناعة شركهم وفداحة خطأ التكالب على الدنيا، فيعودون إلى التوحيد ثانية نادمين على أخطائهم.

Page 343

الجزء الثامن ۳۳۹ سورة الانفطار يَتَأَيُّها الإِنسَنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (3) شرح الكلمات : : غَرَّك : يقال ما غرَّك بفلان، أي كيف اجترأت عليه.(الأقرب) الكريم ذو الكرم.(الأقرب) الْكَريم التفسير : هنا أيضا ليس المراد من الإنسان كل إنسان، بل الإنسان المذكور في قوله تعالى عَلَمَتْ نَفْسٌ، حيث يقال له: يا أيها الإنسان الدنيء النفس مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ تريم ؟ أي ما الذي جراك على ربك الكريم؟ بمعنى كيف تجرأت على معصية الله وأمنت عقابه ، و لم تكن هذه الجرأة جائزة لك.علما أن كلمة الكريم وردت هنا لتشنيع جرأتهم هذه على ربهم حيث بين الله تعالى أن جرأتهم لم تكن عملاً لائقًا على الإطلاق.ذلك أن من الأفعال التي يأتيها المرء لا تليق به نظرًا إلى مكانة من يتعامل معه، ولذلك استخدم الله تعالى كلمة بربك وقال لهذا الإنسان كيف تجاسرت بهذه الفعلة على الذي هو ربك؟ ثم قال (الكريم)، ليبين أن فعلتك لا تليق بك إطلاقا، لأنه تعالى ليس ربّك فحسب، بل هو ربك الكريم؛ فكان عليك أن تخجل وتستحي من التجاسر على مثل هذا الرب الكريم، بدلاً هذه المحسن، والإساءة إليه.المرء إذا أبدى الجرأة في موضعها كان الكفران بنعم شرفًا له ولكنه إذا أبداها في غير محلها كان تمورا منه.فتجاسرك هذا لؤم وخسة ورذيلة، حيث أسأت إلى محسنك وعصيت ربك الكريم بدلا من أن تذعن له وتنقاد، من وابتدعت العقائد التي لا تليق بعظمته تعالى.لقد ذكر المفسرون أقوالا عجيبة غريبة حول قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.فكتب بعض الصوفية مثلاً أن الله تعالى قد علّمنا بقوله هذا كيف نجيبه إذا سألنا عن جرائمنا؟ وكأنه تعالى قال لنا: عليكم أن تجيبوا إن ربنا كريم، فهذا ما غرنا وأوقعنا في المعاصي.وقيل" للفضيل بن عياض رحمه الله : إن أقامك الله القيامة وقال لك: يوم ما غرك بربك الكريم، ماذا تقول؟ قال أقول : غرتني ستورك المرحاة" (تفسير حقي البروسي، والكشاف)..أي أن عفوك وإحسانك قد جعلني مغرورًا.و

Page 344

الجزء الثامن ٣٤٠ سورة الانفطار لقد تبادرت أذهان هؤلاء القوم إلى مثل هذه الأقوال لأنهم لم يتدبروا في مفهوم هذه السورة كلها، وإنما أخذوا فقرة منها وقاموا بهذا الاستنتاج.ولو أنهم أدركوا أن هذه السورة إنما تتحدث عن أعداء الإسلام لما اعتبروا قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ متعلقا بالمسلمين.علي في بلادنا أيضا يقال : كَرَمُك جعلني جريئا، ولكن هذا التعبير لا يصح إلا على سبيل الاستعارة لا على وجه الحقيقة.فلا تعني الجرأة عندها معناها المعروف، بل يراد بها التباسط وعدم التكلف والمراد أن الإنسان يقول في تباسطه أحيانًا ما لا يقوله في جده.ولكن لا يصح هذا التعبير إطلاقا بالمعنى المعروف للجرأة، لأن الكرم لا يجعل الإنسان وقحا، بل يزيده حبًّا وطاعة لمن أحسن إليه.لا شك أن هذه الجملة قد استعملها المسيح الموعود اللة براهين أحمدية، الخزائن الروحانية ج ١ ص ٦٦٢)، ونستعملها نحن أحيانًا، ولكنها بالمفهوم الذي ذكرته، إذ الواقع أن الكرم لا يجعل الإنسان جريئا مسيئا إلى من أكرمه.ويذكر المفسرون واقعة لعلي هه لدى تفسير هذه الآية، فيقولون إنه الله صاح بغلام له مرات فلم يُلبه.فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: ما لك لم تُحبني؟ قال: لتَقَني بحلمك، وأَمْني من عقوبتك.فاستحسن جوابه وأعتقه.(الكشاف) ويقول المفسرون أن هذا الحادث أيضا يؤكد أن قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَريم يشير إلى أن أنواع العنايات الربانية والعفو الإلهي تجرّئ الإنسان على الذنوب! ضي لا بأس بهذه الواقعة لو اعتبرناها أمرًا ،ذوقيا، ولكن لا علاقة لها إطلاقا بقوله تعالى غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، إذ نستطيع القول إن الخادم لما وجد عليا نه ساخطًا عليه أجابه بهذا الجواب اللطيف، فأعجب به عليه.ولكن ليس هناك دليل على أن الآية قيد التفسير تشير إلى هذا المعنى نفسه.كلا، إنما هو من الأمور الذوقية فحسب.فمثلا يقول الشاعر سعدي بالفارسية: پادشاهان گاهے بسلامے برنجند و گاهی به دشنام خلعت دهند گلستان سعدي ص ٩)

Page 345

الجزء الثامن وسألها عن الثانية من من ٣٤١ سورة الانفطار أي أن الملوك أحيانًا يسخطون بالمدح، وأحيانًا يكافئون على السب.ولكن مثل هذه الأقوال لا تُستنبط منها الأصول، وإنما نقول بشأنها إن للناس أذواقا متنوعة، كما أنهم يمرون بأحوال مختلفة في أوقات مختلفة، فيفرحون بسماع قول حينًا، ويسخطون بسماعه حينا آخر.فمثلاً يحكى عن الملك المغولي "جهانغير" أنه حينما كان أميرًا ناول خادمته "نورجهان" حمامتين، فانفلتت إحداهما من يدها فرجع "جهانغير" بعد قليل الحمامة الأخرى؟ فقالت : طارت.فسألها غاضبا كيف؟ فأفلتت الحمامة يدها وقالت: هكذا.فأُعجب من بساطتها وعشقها.ولكن أباه عارض زواجه منها، فتزوجت من شخص آخر ولكن توفي زوجها بعد فترة، فتزوجها "جهانغير" بعد موت أبيه.تاريخ هندوستان للمولوي ذكاء الله، المجلد السادس ص ۷۳) فأحيانًا يعجبك الجواب الخاطئ أيضا، ولكن لا يمكن أن نعتبر ذلك تفسيرا لهذه الآية، إذ من الممكن أن عليه الله لما سمع جواب هذا الغلام الخادم أُعجب ببراعته في التخلص العقاب فأعتقه، رغم ما في جوابه من إساءة.إنه في كل حال حادث شخصي، ولا نبني تفسير القرآن الكريم على مثل هذه الأحداث.لقد أورد الإمام القشيري في كتابه "شرح الأسماء" قصة عجيبة ذات عبرة، وإني معجب بها جدا.علما أنها الأخرى ليست تفسيرًا لهذه الآية، إلا أني أسجلها لأبين كيف أن الفطرة الإنسانية تهرب من العقوبة بحيل بارعة.يقول القشيري إن أحد الصلحاء قال: رأيتُ في سوق البصرة جنازة يحملها أربعة وليس معهم مشيّع، فقلتُ: لا إله الا الله! سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيّعها أحد؟! إني لأُشيّعها، فتبعتها.ولما دفنوه سألتهم عنه، فقالوا لا نعرفه، وإنما استأجر ثنا تلك المرأة، وأشاروا إلى امرأة واقفة قريبا من القبر، ثم انصرفوا.فرفعت المرأةُ يدها إلى السماء تدعو، ثم ضحكت وانصرفت فتعلقت بها وقلتُ لا بد أن تخبريني بقضيتك.فقالت: إن هذا الميت ابني، ولم يترك شيئا من المعاصي إلا فعله فمرض ثلاثة أيام، فقال لي يا أمي، إذا مت فلا تُخبري الجيران بموتي فإنهم يفرحون بموتي ولا يحضرون جنازتي...ولكن اكتبي على خاتمي: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وضعيه في أصبعي، وضعي رجلك على خدّي إذا متُ وقُولي: هذا جزاء مَن الله.فإذا دفنتني فارفعي يديك إلى الله هي عصى

Page 346

الجزء الثامن ٣٤٢ سورة الانفطار وقُولي: اللهم إني رضيتُ عنه فارض عنه.فلما مات فعلتُ عنه فارضَ عنه.فلما مات فعلتُ جميع ما أوصاني به.فلما رفعتُ يدي إلى السماء ودعوتُ سمعت صوته بلسان فصيح: انصرفي يا أمي، فقد قدمت على رب كريم رحيم، فرضي عني ، فلذلك ضحكت سرورًا بحاله.(نقلاً عن تفسیر روح البيان للبروسي) فف الله أعلم ما إذا كانت هذه القصة صحيحة أم ،باطلة والإمام القشيري عالم كبير، فلعله كتبها بعد تحرّي الأمر.لقد قال رسول الله إن المرء يظل يرتكب أعمال أهل النار حتى يكاد يسقط فيها، ولكن يكون في قلبه خير خفي، فتحميه يد فضل الله تعالى من السقوط فيها، فيدخل الجنة.وإن المرء ليعمل أعمال أهل الجنة حتى يكاد يدخلها، ولكن يكون فيه شرٌّ خفي، فيظهر ويلقيه في الجحيم (البخاري: كتاب القدر، باب في القدر).فسواء أكانت هذه القصة حقيقة أم من نسج الخيال إلا أنها تحمل درسًا هاما، ولذلك أحبّها كثيرا، وقد ذكرتُها هنا رغم أنها لا تمت إلى تفسير هذه الآية بصلة.فقولُ هذا الابن لأُمه ضَعِي رجلك على خدّي إذا متُ وقُولي: هذا جزاء من عصى الله" يدلّ على أنه كان في قلبه خير، ففكّر أنه قد ارتكب من المعاصي بحيث لا يقدر لسانه على التفوه بكلمات التوبة إلى الله.غير أني أرى أن قوله هذا لأمه كان بمثابة التوبة العملية منه، ويبدو أن الله تعالى سُرَّ بفعله هذا فأدخله الجنة.فكما قلتُ سواء أكانت هذه القصة حقيقة أم أسطورة، إلا أن فيها درسًا رائعا يكشف لنا سعة مغفرة الله تعالى." وإزاء هذه الأقوال الذوقية التي ذكرها أصحاب التفاسير، نجد الصحابة قد اتبعوا الطريق اللائق بالإنسان العاقل، فلم يميلوا إلى الأقوال الذوقية بل ذكروا ما يثبت من هذه الآية.فقد قال سفيان إن عمر الله سمع رجلا يقرأ: يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِّكَ الْكَريم ، فقال عمر : الجهل.ابن أبي حاتم عن ابن كثير).ونقل ابن أبي حاتم قول ابن عمر: "غرّه، والله، جهله".وروي عن ابن عباس والربيع بن خيثم والحسن رد البصري مثل ذلك.وقال قتادة : ما عَرَّ ابن آدم غيرُ هذا العدو الشيطان.(ابن كثير) و لم يقل الصوفية هنا ما قالوا إلا لأنهم رأوا أن الله تعالى قد وجه هنا سؤالاً إلى الناس بقوله يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، ثم علّمهم الجواب أيضًا بإضافة كلمة و

Page 347

سورة الانفطار الجزء الثامن ٣٤٣ الكريم، وكأنه تعالى قال : إذا سُئلتم ذلك فقولوا إن عَفْوَ رَبِّنا الكريم وكرمه هو الذي شجّعنا على المعاصي ! ولكن ما نراه على صعيد الواقع هو أن الناس لا يجرؤون على ارتكاب الذنوب نتيجة عفو الله تعالى، وإنما سببه اتباعُهم الشيطان، أو هو راجع إلى جهالتهم؛ ولو أنهم فقهوا أحكام الله تعالى وأدركوا أهمية طاعته وأعملوا بصيرتهم لما ارتكبوا هذه المعاصي.لا شك أن المؤمن يؤمن بأن الله كريم، ويوقن بعفوه وغفرانه كل لحظة، ولكن لا يصحّ أبدًا أن نعتبر كرمه سببًا لارتكاب المعاصي.لقد الله تعالى في القرآن أن أكبر صرح سبب لوقوع الإنسان في الذنوب جهالته: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام: (٥٥).فالحقيقة أن الذي يرتكب الإثم إنما يرتكبه عن جهالة؛ إذ لا يرتكب الإثم عمدًا إلا الكافر.لذا يجوز لنا القول إن الإنسان يغتر باتباعه الشيطان، أو أن جهالته هي التي تجعله مغرورا، ولكن لا يجوز القول أن كرم الله وعفوه هو الذي يدفع الإنسان إلى هذه الجرأة والغرور؛ اللهم إلا أن نعتبره نتيجة غير طبيعية للكرم، مما يدل بحد ذاته على مرض في قلب هذا الشخص.إن كرم يزيد الإنسان إيمانًا وعرفانا وليس جرأة على ارتكاب الذنوب.فمن الخطأ تماما القول أن كرم الله تعالى يجرّئ الإنسان على الذنوب.لا شك أن المؤمن يوقن بكرم الله تعالى أيما إيقان ويرجو رحمته دائما، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: أي داع لمثل هذا الحديث في هذا السياق؟ إذ إن هذه الآيات تتحدث عن الكافرين، وكأن هؤلاء الصوفية يقولون أن الله تعالى سيقول للكافرين إني حين أسألكم سبب ذنوبكم فقُولوا: كنت كريما بنا، وكرمك هو الذي غرنا.هل يقبل العقل السليم أن يكون سياق الآيات يشير إلى سخط الله على الكافرين من ناحية، ومع ذلك يتحدث الله كما يتحدث الحبيب إلى حبيبه ؟ لو كان الحديث هنا عن لكان من المعقول إلى حد ما- قبول ما يقولون، ولكن الحديث هنا الكافرين وعن سخط الله عليهم، حيث يقول تعالى إنهم قد ارتكبوا جريمة تكاد تنفطر السماء منها.ولكن هؤلاء الصوفية يخبروننا أن الله تعالى بنفسه قد علّم المجرمين ما يجيبون به عند السؤال عن جريمتهم، فقال لهم: لا شك أن جريمتكم كبيرة جدا، الله المؤمنين، معهم عن عن

Page 348

الجزء الثامن ٣٤٤ سورة الانفطار ولكن إذا سألتكم فأجيبوني بهذا الجواب ولسوف أغفر لكم من المستحيل أن يكلم الله تعالى الكافرين بمثل هذا الكلام اللطيف وهو يريد إنزال العذاب الشديد عليهم.لا ندري ما الذي دعا الصوفية لأن يفسروا هذه الآية بهذه الأقوال، مع أنها تعني أن الواجب عليكم أن تستحوا أمام ربكم الكريم ، ولكن قد دفعتكم وقاحتكم إلى عدم الاكتراث بربكم الكريم أيضا.هناك واقعة للنبي تبين أن الكريم يُستحى منه.ورد في الحديث أَن عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله مُصْطَحِعًا في بَيْتِى كَاشفًا عَنْ فَحَذَيْهِ أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْر، فَأَذنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَ، فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذَنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلكَ فَتَحَدَّثَ.ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ الله وَسَوَّى تَيَابَهُ...فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرِ فَلَمْ تَهْتَشَ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟ فَقَالَ: أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ (مسلم): كتاب الفضائل، باب من فضائل عثمان).فنرى سه ى أن النبي الا الله و قد استحى من عثمان الله لأنه كان كثير الحياء.فكيف نصدق بعد ذلك أن الله الذي هو رب كريم هو نفسه قد جرّأ الناس على الذنوب؟ أرى أن قوله تعالى رَبِّكَ الْكَرِيمِ إنما يشير أنه كان من واجب الإنسان أن يطيع ربه الكريم على الأقل، لا أن يعصيه.- وأرى أن قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ إنما يشير إلى المسيحية بأسلوب لطيف، لأنها تركز في زعمها على رحمة الله تركيزاً كبيرا، بل إن أساسها أن الله محبة، وأنه رحيم (رسَالَةُ يُوحَنَّا الرَّسُولِ الأُولَى ٤ : ٨، ولوقا٦: ٣٥-٣٦).لا شك أن المسيحيين يعتبرون الله تعالى جد ظالم – والعياذ بالله فيما يتعلق بالأمور التفصيلية، زاعمين أنه تعالى لا يقدر أن يغفر للناس ذنوبهم، ولكنهم يركزون أيضًا على رحمة الله كثيرا؛ فيرد الله عليهم أن الغريب أنكم تسمّون الله كريما من جهة، ثم تعزون إليه صفات تنافي كرمه، فتتخذون له ولدا ظانين أنه تعالى حين لم يجد طريقًا لغفران ذنوب الناس ضحى بابنه كفّارةً عن ذنوبهم! (رسالة يوحنا الأولى ٤ : ٨-١٠)

Page 349

الجزء الثامن والرحيم ٣٤٥ سورة الانفطار باختصار، إن هذه الآيات لا تتحدث عن المؤمنين وإنما عن أعداء المؤمنين الذين يسمون الله ربا كريما، ومع ذلك يزعمون أنه لا يقدر على غفران الذنوب.إنني لا أتذكر الآن جيدا، ولكن أغلب ظني أن الكتب المسيحية تذكر صفتى الله الكريم معًا على العموم ومهما يكن فإن الكرم يشمل الرحمة أيضا.وإن قول الله تعالى رَبِّكَ الْكَريم إشارة إلى أمة تسمي الله ربا كريما من جهة، وتتهمه بعدم القدرة على غفران الذنوب من جهة أخرى، فيرد الله عليهم: أيها الإنسان، ما الذي جراك أن تعتبر الله ربا كريما، ثم تزعم أنه لا يقدر على غفران ذنوب الناس، ولذلك ضحی بابنه على الصليب؟ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّنَكَ فَعَدَلَكَ في أَى صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَبَكَ شرح الكلمات: (0 < ( فسَواك: سوّى الشيء: جعله سويًّا (الأقرب)..أي أزال عيوبه ونقائصه كلها.عَدَلَكَ: عدل السهم : أقامه، "جعلني في قوم إذا ملْتُ عدلوني" أي قوموني.وعدل فلانا وازنه.(الأقرب) في أي صورة ما شاء ركَّبَك: هناك أقوال في شرح هذه الجملة القرآنية، وأسهَلُها أن "ما" هنا زائدة، والمعنى: ركبك في أي صورة شاء.بمعنى أنه أعطاك صورة جسمانية وروحانية حسب مشيئته.فكلمة "شاء" تشير إلى أنه تعالى اختار للإنسان صورة أرادها له..أي أن الإنسان لم يُخلق بهذه الصورة على وجه الصدفة، بل اختار الله له هذه الصورة بنفسه.التفسير : لقد ذُكرت هنا عدة أمور أولها أن الله قد خلق الإنسان، وثانيها: أنه قام بتسويته، أي أزال كل ما فيه من نقص وعيب ذاتي، وثالثها: أنه تعالى قام بتعديله..أي جعله أكثر اعتدالاً من الأشياء الأخرى، ورابعها أنه تعالى أعطى الإنسان صورة

Page 350

الجزء الثامن رميهم ٣٤٦ سورة الانفطار أرادها له، وبحسبها قام بخلقه أي أودع فيه كفاءات عالية.وهذه الأمور الأربعة تبرز شناعة إساءة المسيحيين إلى الله تعالى.إن التاريخ المسيحي هو عبارة عن عيبين خطيرين العيب الأول : الإساءة إلى الله، وتفصيله كالآتي: (أ) إشراكهم بالله، (ب) الله بأنواع العيوب كقولهم إنه لا يقدر على أن يعفو وأن يغفر، (ج) اتهامهم الله تعالى أنه أورث خطيئة آدم في ذريته (د) اتهامهم الله تعالى بالظلم، حيث إنه يعاقب الأبرياء مكان الآخرين.والعيب الثاني يتعلق بالناس وتفصيله: (أ) كبرهم وغرورهم، حيث يفضّلون أنفسهم على الأمم الأخرى في كل شيء، (ب) إخفاؤهم حسنات الآخرين وكفرانهم بصنيعهم (ج) اعتبارهم الفطرة الإنسانية نجسة، وادعاؤهم امتلاك القدرات الإلهية.ولقد نبههم الله تعالى هنا إلى خطئهم هذا قائلا: أيها الإنسان المذكور آنفا..أي أيها المسيحي، أخبرني ما الذي جعلك مغرورا متكبرا على ربك الكريم؟ بمعنى أنك تعظم الله من ناحية وتحقره من ناحية أخرى.فتارةً تسلّم بأن ربك كريم، وتارةً أخرى تتخذ عبدا من عباده ابنًا له، بحجة أن الله تعالى ليس بقادر على أن يغفر للناس ذنوبهم، ولما كان غير قادر على الغفران، فلزم أن يكون هناك ما يقوم مقام الغفران، فبعث الله ابنه الذي ضحى بنفسه فداء عن الناس.هذا هو أساس مسألة الفداء أو الكفّارة التي هي أساس الدين المسيحي، والتي بناء عليها يقوم المسيحيون بالدعاية أن المسيح ابن الله أعمال الرسل ٩: ٢٠).مع أن عديدا من الأنبياء الآخرين، بل الشعب اليهودي أيضا قد سُمّوا أبناء الله في التوراة، حيث ورد "وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى : عِنْدَمَا تَذْهَبُ لِتَرْجَعَ إِلَى مِصْرَ، انْظُرْ جَمِيعَ الْعَجَائِبِ الَّتي جَعَلْتُهَا فِي يَدَكَ وَاصْنَعْهَا قُدَّامَ فَرْعَوْنَ.وَلَكِنِّي أَشَدِّدَ قَلْبَهُ حَتَّى لَا يُطلَقَ الشَّعْبَ فَتَقُولُ لفِرْعَوْنَ: هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنَى الْبِكْرُ.فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلَق ابْنِي." (الخُرُوجُ ٤ : ٢١-٢٣).ثم يقول الله تعالى عن سليمان: "وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنَا، وَأَنَا لَهُ أَبَا، وَأُثبتُ كُرْسى مُلْكه عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَد." (أخبار الأيامِ الأَوَّلُ ٢٢ : ١٠) السلام سلام ذنوب هي أنّ فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : ما دام الأنبياء بل الصلحاء قد سُمّوا أبناء الله، فما خصوصية المسيح في أن يُدعى ابن الله؟ فاخترع المسيحيون ميزة للمسيح زاعمين غفران ذنوب الناس كان منوطا بتضحية المسيح، وهي خصوصية انفرد بها المسيح

Page 351

في الجزء الثامن ٣٤٧ سورة الانفطار بمعنى دون سائر الأنبياء، ولذلك كانوا أبناء الله بمعنى آخر، وكان المسيح ابن الله مختلف.وهكذا رسخوا في قلوب الناس بالتدريج عقيدة ألوهية المسيح الوثنية.(قاموس الكتاب (أردو) ص (۷۹۲ والأمر الآخر الذي أدّى إلى غرور المسيحيين وكبريائهم هو قوتهم المادية وتقدمهم المادي المدهش والواقع أنهم قد أحرزوا هذا التقدم لأن العلوم الإسلامية كانت متيسرة لهم كبذرة فبنوا عليها صرح رقيهم.لقد وجد المسلمون العلوم اليونانية، فأضافوا إليها بحوثهم وازدهروا، أما المسيحيون فوجدوا علوم المسلمين، فكانت النتيجة الحتمية أن يحرزوا تقدمًا أكبر مما أحرزه المسلمون.فبإحراز هذا الرقي أخذتهم الكبرياء فقالوا لم يأت أي شعب قبلنا بما جئنا به من مخترعات، مع أنه كان جديرا بهم أن يزيدهم رقيهم إنابةً إلى الله تعالى.أما قول الله تعالى الذي خَلَقَكَ فقد نبه به المسيحيين، وكأنه قال ليتكم فكرتم الله الذي خلقكم، فارتدعتم عن هذا الظلم! ورد في التوراة: "وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللَّهُ خَالِقًا.هَذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلقَتْ يَوْمَ عَملَ الرَّبُّ الإلهُ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ" (التَّكْوِينِ ۲ : ٣-٤).وورد أيضًا: «قُومُوا بَارِكُوا الرَّبَّ إِلَكُمْ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ.وَلْيَتَبَارَكَ اسْمُ جَلَالِكَ الْمُتَعَالِي عَلَى كُلِّ بَرَكَةٍ وَتَسْيح.أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ.أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَات وَسَمَاءَ السَّمَاوَات وَكُلُّ جُنْدهَا، وَالْأَرْضَ وَكُلِّ مَا عَلَيْهَا، وَالْبحَارَ وَكُلٌّ مَا فِيهَا، وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا" (نَحَمْيَا ٩ ٥-٦).فكأن الله تعالى قد نبههم هنا إلى أنه تعالى ما دام هو خالقهم فلماذا ينسبون ملكه إلى غيره؟ ثم نبههم بقوله تعالى فَسَوَّاكَ إلى أنه خلقكم مبرأين من العيوب.لقد جعل الله تعالى بحكمته الكاملة في الفطرة الإنسانية علاجًا لكل ما يوجد فيها من نقص، فمثلا إذا كان الإنسان يتعرض لمصاعب كبيرة، فقد زوّد الله فطرته إزاء ذلك بميزة الصبر على الشدائد، وإذا كانت جراثيم شتى الأمراض تهاجم الإنسان، فقد خلق الله إزاءها مناعة تلقائية في جسده، وهكذا تفنى كثير من الأمراض تلقائيا في النفس البشرية.فيقول الله تعالى أنه ما دام قد جعل علاج أمراضكم الجسدية في دمائكم

Page 352

الجزء الثامن ٣٤٨ سورة الانفطار وشفاء أمراضكم الخلقية والروحانية في أنفسكم، فكيف يمكن أن يتبع طريقة غير طبيعية لنجاتكم، فيقتل البريء على الصليب الخلاصكم؟ وكأنه المتعطش للدم، فلا يترك أحدا من دون أن يشرب دمه، والعياذ بالله.أفضل من أما قول الله تعالى فَعَدَلَكَ ، فنبه به إلى أنه لم يُصلح أنفسكم فحسب، بل خلقها الكائنات الأخرى، فصرتم أهلاً للحكم على المخلوقات الأخرى.وهذا يعني أن الله تعالى إذ كان قد منح الإنسان كمالاً ذاتيًا..أي جعله كاملاً في ذاته، فإنه قد منحه كمالاً نسبيا أيضا..أي جعله أكمل من المخلوقات الأخرى؛ فكيف يصح بعد ذلك الظن أن الإنسان بحاجة إلى فداء ابن الله تعالى لنجاته؟ وكيف يجوز للشعوب أن تتفاخر على الشعوب الأخرى وتحتقرها وتزدريها نتيجة التقدم الذي أحرزته نتيجة القوانين الربانية؟ ولنتذكر أن قول الله تعالى فَسَوَّاكَ لا يشير إلى التسوية العادية الجسدية فقط، بل فيه إشارة أنه تعالى قد خلق في الإنسان كفاءات عالية لو استغلها لحظي بلقاء الله تعالى.أما قوله تعالى فَعَدَلَكَ فإشارة إلى أن الله تعالى قد قام بموازنة قوى الإنسان ليرى ما إذا كان قد صار مزوَّدًا بالكفاءات التي تساعده على المهمة التي خُلق من أجلها، وهي نيابة الله على الأرض..أي ليرى ما إذا كان قد صار أهلاً للحكم على المخلوقات الأخرى أم لا.وبهذه الموازنة قد زود الله تعالى الإنسان بكل القوى التي تجعله أهلاً للحكم على الدنيا المادية.لقد سبق أن ذكر أن للعدل معنيين، أولهما: التقويم، وقد أُشير إليه في قوله تعالى (فَسَوَّاكَ ، والمعنى الثاني هو الموازنة، وهذا هو من قوله تعالى فَعَدَلَكَ، وإلا تصبح كلمة فَعَدَلَكَ تكرارًا عابنا لا يليق بالقرآن الكريم.فالمراد من قوله فَعَدَلَكَ أن الله تعالى قد أودع الإنسان كفاءات عليا بالمقارنة مع المخلوقات الأخرى تمكنه من الحكم عليها والنيابة عن الله الأرض.وقد بين الله تعالى بذكر هذا الموضوع أنه إذا نال قوم الحكم في الدنيا وأحرزوا تقدمًا علميا، فعليهم أن يكونوا شاكرين الله تعالى إذ زوّدهم بهذه القوى، لا أن يصبحوا مزهوين متكبرين بما عندهم من العلم والحكم، فيعلنوا التمرد على المراد في

Page 353

الجزء الثامن ٣٤٩ سورة الانفطار حكم الله تعالى، ويدعوا الفضل على الآخرين فيرجعوا بغضب الله وبسخطه بدلاً من أن ينالوا مغفرته.ثم قال الله تعالى في أَيِّ صُورَة مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ليشير إلى أنه تعالى أعطى الإنسان صورة أحبّها ورضيها ،له أي زوّده بقوة الاتصاف بصفات الله تعالى، لأن صورة الله أفضل الصور.فمن ذا الذي هو أكثر حظا ممن وُفِّق لأن يتصوّر بصورة الله تعالى؟ جاء في التوراة أن الله خلق الإنسان على صورته حيث قيل: "فَخَلَقَ اللَّهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَته.عَلَى صُورَة اللَّه خَلَقَهُ" (التَّكوين۱: ۲۷).وهذه الفقرة إنما تعني أن الله تعالى قد زوّد الإنسان بقوة الاتصاف بصفاته تعالى، وكأن يصبح مظهرًا الله تعالى من حيث الصفات.وقد أُشير إلى هذا المعنى في أن الحديث الشريف حيث قال رسول الله ﷺ: "تخلقوا بأخلاق الله." (تفسير الرازي: بوسعه سورة النساء، قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا، إحياء علوم الدين) فجملةُ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ إما تفسير لقوله تعالى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ..أي أنه تعالى خلقه خَلْقًا أراده له، وسوّاه تسويةً أحبّها له، وعدله عدلاً شاءه له؛ أو أن المراد منها أن الله تعالى بعد أن زوّد الإنسان بالكفاءات اللازمة وهب له صورة أحبّها له..أي زوّده بقوة التخلق بأخلاق الله.والحق أن هذا المعنى الثاني هو الأصحّ عندي، أي أنه تعالى أعطاه صورة روحانية، ذلك لأن الصورة الجسمانية قد ذكرت من قبل في كلمة خَلَقَك، ولا داعي لتكرار هذا المعنى، فثبت أن هذه الجملة تتحدث عن تكميل صورته الروحانية.ومن الأدلة على ترجيح هذا المعنى على المعنى الأول أن أنف الإنسان وأذنه وفمه وغيرها من الأعضاء ليس مما ينظر الله إليه، وإنما صورته الروحانية هي التي ينظر الله إليها بإعجاب، وإن كان أنفه وأذنه ووجهه يفتقد إلى الجمال الظاهري.إذن، فقوله تعالى في أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكْبَكَ تعني

Page 354

الجزء الثامن أننا بعد ٣٥٠ سورة الانفطار أن زوّدنا الإنسان بكل القوى اللازمة علّمناه كل المبادئ الروحانية المرضية عندنا، التي تؤهله لأن يكون مظهرًا لنا.الحق أن قول الله هذا إشارة إلى أن أي صورة أرادها للإنسان في عصر من العصور قد العليا وهبها له فعلاً؛ فالصورة الروحانية التي ارتضاها الله تعالى للإنسان في زمن نوح ال علّمه المبادئ الملائمة لها، والصورة التي كانت مناسبة لزمن إبراهيم ال علمه المبادئ الملائمة لها، والصورة التي كانت تليق بزمن موسى وعيسى -عليهما السلام- علمهما الله مبادئها، والصورة التى كانت مناسبة لزمن محمد الله مع علمه الله مبادئها الملائمة.كما أن كل قوم تقدموا ماديًا واخترعوا شتّى المخترعات في شتى المجالات والعلوم بحسب بيئتهم وظروفهم.وكأن الله تعالى يقول هنا لقد أنزلنا المعارف الروحانية والعلوم المادية بحسب أحوال وضرورات كل عصر لقد أنزلنا التوراة عندما كان الناس بحاجة إليها، وأنزلنا القرآن عندما كان الناس بحاجة له، وعلّمنا العلوم اليونانية عندما كان العقل الإنساني قادرًا على استيعابها، وأنزلنا العلوم العربية حينما قدر الإنسان على فهمها، وأنزلنا العلوم الغربية عندما صار الإنسان أهلاً لتلقيها.فكيف تتفاخرون على الآخرين وتكفرون بنعم الله وتعرضون عن الدين الحق؟ • ذهبت مرة إلى "مدينة "لاهور" حين كنت في العشرين من عمري، وأقمت عند "ميان محمد شريف" الذي كان تربطني به أواصر صداقة، فقال لي: تعال نذهب للحوار مع قسيس اسمه مستر ،وود وكان عميدا للكلية التبشيرية هنالك.فذهبت.وكان القسيس لا يعرف الأردية جيدا، كما كنت لا أعرف الإنجليزية جيدا، ومع ذلك دار الحديث بيننا، إذ ساعدني بالإنجليزية وساعدته بالأردية.قلت له: كيف نال إبراهيم وموسى عليهما السلام النجاة؟ فالطريق الذي نالا به النجاة سينال به الناس النجاة اليوم أيضا.قال: لقد نالا النجاة بإيمانهما بالمسيح.قلتُ: كيف ذلك وقد كانا قبله؟ علما أن القرآن الكريم أيضًا قد أثار هذا السؤال مفندا زعم النصارى أن إبراهيم كان نصرانيا، فقال كان إبراهيم قبل المسيح، فكيف يُعدّ من النصارى؟ فقلت للقسيس: إن ما تقوله باطل تماما.فما هو دليلك على أن إبراهيم وموسى كانا مؤمنين بالمسيح؟ قال : إن داود قد تنبأ بولادة شخص من أولاده يكون ابنا له.قلت: لم يكن المسيح من

Page 355

الجزء الثامن ٣٥١ سورة الانفطار أولاد داود، فكيف تنطبق عليه هذه النبوءة؟ فقد ورد في الإنجيل نسب المسيح الليل في موضعين متى ١ ١٦١، ولوقا ۳ ،۲۳ وقد جاء في الموضعين كليهما أن ادعائك يوسف الذي تزوج مريم كان من أولاد داود! فكيف كان يسوع من يسوع من أولاد داود و لم يكن ابن يوسف، بل قد ولد من دون أب؟ والمعروف أنه لا يُنسب الولد إلى أمه عند بني إسرائيل وإنما إلى أبيه.فالواقع أن ولادة المسيح من دون أب تتنافى تماما مع بكون المسيح ابن داود ثم كيف ثبت إيمان إبراهيم بالمسيح من خلال نبوءة داود؟ فداود هو الذي تنبأ بهذه النبوءة، فكيف ثبت بها إيمان إبراهيم بالمسيح؟ فقال القسيس : قد ورد أن إبراهيم وعد برقي أولاده قلتُ: إن المسيح لم يكن من نسل إبراهيم، وإذا كانت هناك نبوءة عن رقي أولاد إبراهيم، فإنها لا تخص إلا أولاده، أعني أنها تخص النبي لا المسيحَ الذي لم يكن ابن إبراهيم بل كان ابن الله.وإذا كان المسيح ابن إبراهيم فقد انتهت قضية بنوته الله.وبعد نقاش طويل تضايق القس وقال: هناك مثل يوناني أن السؤال يمكن أن يثيره كل ،أحمق ولكن لا بد للجواب من إنسان عاقل.وكان في طبعي حماس في تلك الأيام، فلم ألبث أن قلتُ: لقد جئتُكَ ظَنَّا أنك عاقل.لقد عرفتُ فيما بعد أنني أخطأت في جوابي، إلا أنه كان قد سفّهني فرددت عليه قوله.في مني إذن، فقد بين الله تعالى في قوله فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ أننا لم نزل عبر العصور المختلفة ننزل للناس تعاليم مختلفة بحسب ضرورة كل عصر، وكل منها كان مناسبًا لحاجات إنسان ذلك العصر، إذ كان يستطيع الفوز برضا الله تعالى بالعمل به.فرغم رؤية سنتنا هذه، فإن النيل من الأنبياء السابقين واحتقار الأمم الأخرى كما دأب المسيحيين - خلافٌ للعقل، كما أن إنكار التعليم المتكامل الذي نزل بعد هو ويت المسيح يتنافى مع العقل.باختصار، فقوله الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ في أَيِّ صُورَة مَا شَاءَ رَكْبَكَ الله للمسيحيين، حيث قال تعالى أيها الإنسان المغرور، لقد خلقك ربك كرمًا منه، أي جعل خَلْقَك نتيجة صفة ،كرمه، ثم بكرمه قد أزال منك كل عيب قد يعيق قيامك بمسؤولياتك، ثم بكرمه جعلك أكمل من المخلوقات الأخرى، فلمّا تنبيه من فعل

Page 356

الجزء الثامن ٣٥٢ سورة الانفطار لك كل ذلك نسيت غاية خلقك، وانحرفت ناحية أخرى.الواقع أن مثلك كمثل ملك يقوم بتعبئة جيش وتجهيزه وتدريبه ويعد له العدّة من سلاح ومطايا، ويبعثهم إلى حرب العدو، ولكنهم ما إن خرجوا من المدينة حتى توجهوا إلى الحانات لشرب الخمر ولعب الميسر.ألا يجلب هؤلاء عارًا على سيدهم؟ أيخاطبهم الله بقوله بِرَبِّكَ الْكَرِي ليتأسف عليهم ويزجرهم، أم ليعلمهم جوابًا يتخلصون به من المسؤولية؟ لا شك أن كلمة برَبِّكَ الْكَريم تدل على أسف المحسن وسخطه، حيث يعدد نعمه على من أحسن إليه، متأسفا بأنه أراد شيئا، ولكن هذا فعل عكس ما أُريدَ.شرح الكلمات: و كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (*) الدين: الجزاء؛ المكافأة؛ الحساب؛ القضاء.(الأقرب) التفسير : أي أننا نقول لكم القول الحق، أما قولكم أن خطاياكم ستغفر بإيمانكم بالمسيح ليس إلا مجرد عذر والحق أنكم لا تؤمنون بالمغفرة وعدم المغفرة، إذ لا تؤمنون بالقيامة وهذا ما نراه على صعيد الواقع فحتى القسيسين أيضا لا يؤمنون بالقيامة إيمانًا حقيقيا.لقد وجدت أنهم حينما يتحدثون عن القيامة، فإنما يعنون بها نزول المسيح من السماء ثانية، أما القيامة التي ستأتي بعد فناء البشرية فلا يوقنون بها.عقيدتهم هذه مذكورة في كتبهم.فمثلا هناك كتاب بالأردية باسم (دعائى عام) نشرته الجمعية المعرفة المسيحية"، وقد جاء فيه ضمن أدعية الصباح أن على كل داعٍ أن يدعو كالآتي: أؤمن بالإله الآب القادر مطلق القدرة وخالق السماوات والأرض وبيسوع المسيح الذي هو ابنه الوحيد وربنا، والذي أُلقي في البطن بقدرة روح القدس وولد من مريم العذراء.لقد أُوذي في عهد بيلاطس وصلب ومات ودفن ونزل في عالم الأرواح، ثم أحيي من الموتى في اليوم الثالث إلى السماء، وجلس على يمين الإله الآب القادر مطلق القدرة، وسيأتي للعدالة بين الأحياء والأموات.(دعائى عام (أردو) ص ١٠) كما ورد في المرجع نفسه ص ٢٤٥ تحت عنوان: تعميد الأطفال علنًا: "إنه (المسيح) سيرجع من هناك في آخر الدنيا للدينونة بين الأحياء والأموات." وصعد

Page 357

الجزء الثامن ٣٥٣ سورة الانفطار وسبب ذلك أنه لا ذكر للقيامة في الديانة اليهودية.أما نحن فنؤمن أن التوراة لا بد أنها ذكرت القيامة؛ إذ من المحال أن يخلو كلام الله من ،ذكرها، ولكن ليس في التوراة الحالية أي دليل قطعي على القيامة.لا شك أن القرآن قد أخبر أن اليهود كانوا يقولون لن يعذبنا الله إلا أياما ،معدودة، ثم يغفر لنا :(البقرة: (۸۱)، إلا أن العثور على عقيدتهم هذه في مصادرهم القديمة أيضًا يتطلب منا جهودًا مضنية.فلو كانت كتبهم تذكر القيامة بكثرة لما اضطررنا لهذا البحث المضني.الواقع أن الديانة اليهودية قد ذكرت القيامة قليلا حتى إن معظم اليهود ينكرون عقيدة القيامة كلية، ولذلك يتكالبون على حطام الدنيا وهذا هو حال المسيحيين أيضا، ولذلك يقول الله تعالى لهم كَلَا بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدِّينِ..أي لم تستدعون عذاب الله بإنكاركم الصريح بالقيامة؟ ومن معاني قوله تعالى كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدِّين أن الإنسان إذا أحسن استخدام كفاءاته نال الراحة، وإذا أساء استخدامها وقع في العذاب.فكأن الله تعالى يقول لهم: دمتم تستخدمون قدراتكم الموهوبة من ربكم الكريم في عصيانه، فلا بد أن تنحرفوا عن الصراط المستقيم، وتروا عاقبته الوخيمة في النهاية.ما وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَنفِظِينَ * كِرَامًا كَتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ۱۲ التفسير : يتضح من القرآن الكريم في مواضع أخرى أن الله تعالى يحفظ أعمال الإنسان وأن الملائكة تتكفل بذلك، كما تنص الأحاديث الصحيحة على هذه الحقيقة.فتسجيل الأعمال أم لا شك فيه، ولا خصوصية للمسلمين فيه، فأعمال المسيحيين واليهود والزرادشتيين وغيرهم أيضًا ستسجل.فأعمال كل إنسان تسجل سواء أكان فقد اتضح من الجملة الأخيرة تماماً أن المسيحيين يرون أن القيامة هي المجيء الثاني للمسيح.(المفسر)

Page 358

الجزء الثامن ٣٥٤ سورة الانفطار كافرا أو متدينا مؤمنا أو مشركا وسيسأل عنها يوم القيامة.واختراع جهاز اللاسلكي في هذا العصر قد أكد بيان القرآن الكريم أكثر ، إذ ثبت به أن كل حركة يقوم بها الإنسان مهما كانت خفيفة تنتشر في الجو، وبتعبير آخر إنها تسجل في الجو.فورا.وإلى متى ستظل تلك الحركة أو الصوت محفوظة في الجو؟ أما أنا فإني آمل دائما أن يأتي زمان نسمع فيه أصوات السابقين عبر جهاز ما، فنسمع به صوت نابليون بونابرت من فمه مثلا؛ أو إذا لم نستطع سماع أصوات السابقين فقد يُخترع جهاز نسمع به الأصوات التي تنتشر الآن في الجو بعد يومين أو أربعة أو عشرة.ولا شك أن المذياع والفونوغراف يحققان هذا الهدف حيث يخطب ملك بلد ويعاد خطابه بعد يومين أو أربعة مثلا إذن فاللاسلكي والفونوغراف قد أثبتا معا صدق القرآن الحقيقة أن أي عمل للإنسان لا يضيع بل يترك بصمته حتما بطريق أو آخر، فيظهر بعد عدة أجيال أحيانًا.كان الناس في الماضي يقولون في استغراب: كيف يمكن أن تُكتب أعمال الإنسان؟ ولكن اللاسلكي والفونوغراف قد هيا دليلا جديدا على صحة بيان القرآن الكريم.الكريم.إن كل ما قاله القرآن الكريم عن يوم القيامة نؤمن به ونوقن أنه واقع حتمًا في يوم من الأيام، فتشهد يد الإنسان ورجله على أعماله ونوعيتها.قد يكون في يوم القيامة جهاز توضع عليه أعضاء الإنسان من يد ورجل ولسان وغيرها، فتخبر كل ما فعل بها، وكأن مسجلا سيعمل ويقول للإنسان تعال واسمع ما كنت تأتيه أعمال، من فيسمع أنه يُسبّح حينًا، ويسب حينًا، ويكذب حينًا، فينتابه الخجل والندم.لقد جاء في القرآن الكريم عن المؤمنين أنهم يحاسبون حسابا يسيرا (الانشقاق:٩)، ومعناه عندي أن الله تعالى يريد العفو عن المؤمن، فلن يفضحه يوم القيامة بالسؤال عن بالتفصيل، وإنما يكتفي بالسؤال عما إذا كان حسابه الإجمالي صحيحا أم لا، فإذا كان حسابه الإجمالي على ما يرام، فيقول الله : خُذوه إلى الجنة؛ وهكذا تظل سيئاتهم في الخفاء.أما مَن لم يكن حسابه الإجمالي صحيحا، فيقول الله تعالى أخرجوا سجلَّ أعماله واعرضوه عليه كله، وهكذا ستعرض عليه سيئاته واحدة تلو الأخرى، فيُفضح ويخزى أمام الأولين والآخرين.أعماله

Page 359

الجزء الثامن ٣٥٥ سورة الانفطار أما إذا اعتبرنا قوله تعالى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ليم كراما كاتبين خاصا بالمسيحيين، فالمراد من الحافظين الكرام الكاتبين في رأيي هو المبعوث الرباني في هذا الزمن وجماعته.إذًا فالله تعالى يخبر هنا المسيحيين: سنأتي بقوم يسجلون أعمالكم الوثنية ويحفظونها جيدًا، لأن مهمتهم إبطال أعمالكم الشركية والقضاء على سمومها.و فلأن مهمتهم تفنيد عقائدكم الوثنية فلسوف يسجّلون ما تفعلون وسيعلمونه جيدا.قوله تعالى (يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ لا يعني أنهم سيعلمون كل ما يفعله المسيحيون، بل المراد أنهم سيعلمون حقيقة أعمالهم جيدا؛ ذلك لأن المسيحية تخدع الناس وتحاول تصوير سيئاتها أمامهم كحسنات، ولكن هؤلاء القوم لن يقعوا في خداعها، وسيعرفون نواياها ويعلمون حقيقة سرائر المسيحيين جيدًا.إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمِ (3) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي حَيمِ (3) يَصْلَوْنَهَا ١٤ يَوْمَ الدِّينِ (3) شرح الكلمات : ١٦ الأبرار: جمعُ البَرِّ.وبرَّ والدَه : أحسن الطاعة إليه ورفق به وتحرَّى مَحابَّه، وتوقى مكارهه.(الأقرب) فالأبرار هم الذين يحسنون الطاعة، ويعاملون ،برفق ويعملون جاهدين لكي يفوزوا برضى الله ويتجنبوا سخطه عمل.نعيم: النعيم: المالُ ؛ الدَّعَةُ، ورجلٌ نعيم البال: هادى البال مرتاحه؛ ونعيم الله: عطيته.(الأقرب).إن كلمة النعيم توهمنا نحن غير العرب كأنها صيغة جمع، وكنت أظن هكذا لمدة طويلة، وقد ترجمها المولوي محمد علي المحترم أيضا بصيغة الجمع، ولكنها ليست كذلك، وإنما معناها النعمة فقط.

Page 360

الجزء الثامن ٣٥٦ الله سورة الانفطار أن التفسير : يبدو من قوله تعالى إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمِ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَح جَحِيـ المؤمنين في نعيم، وأن الفجار في جحيم، غير أن الله تعالى قد أوضح بعد ذلك يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ..أي أنهم سيدخلونها يوم الجزاء.لا شك أن كلمة (يَصْلَون) تُستعمل لدخول النار لا لدخول الجنة، وقد وردت بحق الكفار هنا، ولكن من الأساليب العربية أنهم يستعملون الفعل الخاص بأمر قاصدين به الأمر الآخر أيضا؛ ويبدو أن الله تعالى لم يذكر هنا دخول المؤمنين الجنة لأنه مفهوم – ضمنيًا - من دخول الكافرين النار.وعليه فستعني هذه الآية أن التدبر سيكشف عليكم، أيها المسيحيون أن لا حاجة بكم للانتظار حتى بعد الموت، بل سترون أن المؤمنين في الجنة في هذه الدنيا نفسها وأن الكافرين في النار في هذه الدنيا نفسها؛ أي أن قلوب الكافرين تفتقر إلى الطمأنينة التي تملؤها سكينةً، فيرون رغم أموالهم وثرواتهم أن جهودهم لا تأتي بالنتائج المرضية، وعلى النقيض يجدون المؤمنين يتمتعون باليقين والأمل رغم ما هم فيه من شدة وضيق ومصائب في الظاهر، وأنهم ينعمون بالجنة في هذه الدنيا برؤية انتصار دينهم ومستقبلهم المشرق.الواقع أنّ مَن ليس عنده إيمان صادق بالله تعالى فلن يجلب له ثراؤه -مهما بلغ- سكينةً ولا سلوانًا.إن فلاسفة أوروبا متفقون كلهم أن قلوب الأوروبيين قد خلت من السكينة، ورغم ما عندهم من ثراء وقوة في الظاهر إلا أن في قلوبهم قلقًا واضطرابا أفقدهم المتعة بثرائهم؛ فلا يجدون الطمأنينة رغم توافر شتى أسباب الراحة والهدوء، بل جحيم تشتعل في قلوبهم دائما ولكن المؤمن يشعر كأنه في الجنة في هذه الدنيا.هناك لا يكون عنده مال ولا ثراء، ولكن قلبه مطمئن فيشعر كل حين أنه في جنة الله.هناك حادث شهير للمسيح الموعود الله يبين كيف أن المؤمن في الجنة دائما.رفعت إلى قاض قضية ضد المسيح الموعود ال ، فأخبر أن القاضي مصمم على معاقبته ال.وكان الخواجا كمال الدين هو الذي أتاه بالخبر وكان خائفًا مما سيحدث.فلما سمع المسيح الموعود الي الخبر احمر وجهه وقال: إذا كان القاضي يقدر على محاربة أسد الله فليفعل وليَرَ عاقبته.إنه لو حاول الهجوم علينا فلن نصاب بأي أذى، بل سوف يصاب هو بجراح بالغة.سيرت طيبة (أردو) ص (٢٦٢

Page 361

الجزء الثامن ٣٥٧ سورة الانفطار فلأن المؤمن يثق بالله ثقة كاملة فيكون قلبه مطمئنا بأنه مهما كبرت المصيبة التي ستحل به، فإن الله تعالى سينصره ، وهكذا يكون المؤمن في الجنة في هذه الدنيا نفسها.وهناك حادث للنبي وهو مثال منقطع النظير على عيش المؤمن في الجنة في هذه الدنيا.لما كان النبي له وأبو بكر مختفيين في الغار، وجاء العدو على مدخل الغار واقترب منه جدا ، خاف أبو بكر أن يراهما العدو لو نظر داخل المغارة قليلا.فنبه النبي إلى الخطر، فقال له بمنتهى الهدوء: لا تحزن إن الله معنا.(سورة التوبة: ٤٠، والروض الأنف مجلد ٢ حديث الغار.فالمؤمن يعيش في الجنة كل حين، والكافر يعيش في النار كل حين.إذًا فالجنة والنار ملازمتان لكل إنسان، فإما أنه يحترق في الجحيم كل حين، أو ينعم بالجنة مطمئنا كل حين.ولو كان عند المرء بصيرة لرأى هذه الجنة والجحيم في الدنيا نفسها، ولكن الله تعالى يخبر أن هؤلاء الكافرين لا يرون هذه الجحيم بعد، ويظنون أن المؤمنين في الجحيم وأنهم في الجنة، ولكن لا تقلقوا لأننا سوف نكشف عليهم هذا يوم الدين ونريهم بأعينهم الجحيم التي يحترقون فيها الآن سرا.يومئذ يعترف العدو أنه في الجحيم وأن المؤمن في الجنة.الساط وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَايِبِينَ ) ۱۷ التفسير : أي أن هؤلاء سيسعون جاهدين لكي لا يدخلوا هذه الجحيم، ولكنهم لن ينجوا منها، وسيأتي يوم تُحطّم فيه قوتهم، ويُقضى على حكمهم، يومئذ يُسحب تحت أقدامهم.والحق أن هذه الحرب الجارية في هذه الأيام جحيم بعينها، من وقد قوّضت قوتهم، حيث بدأوا يشعرون أن انحطاط أوروبا وشيك.وكما أخبرني الله تعالى أيضا - قد أشعتُ هذا الخبر منذ سنتين أن هناك استعدادات في السماء لحرب شديدة أخرى، بسببها سيأتي يوم لا يقولون فيه أن زوال أوروبا قريب، بل يقولون إن زوالها قد أتى فعلا لا شك أن الكافرين بالدين الحق سيدخلون الجحيم يوم ولكنهم سيصلونها في الدنيا أيضا.وَمَا هُمْ عَنْهَا بغَائبينَ ، ولن ينجوا منها.إنهم لن يشير حضرته الله إلى الحرب العالمية الثانية.(المترجم) القيامة،

Page 362

الجزء الثامن ٣٥٨ سورة الانفطار يألوا جهدًا للنجاة من هذه الجحيم، بل يسعون جاهدين لإغلاق أبوابها – بإنشاء جمعيات كعصبة الأمم مثلاً حينًا، وباتخاذ تدابير أخرى لإطفاء هذه النار حينا آخر - ولكن تدابيرهم ومحاولاتهم كلها ستبوء بالفشل.سيودون أن يغيبوا عن ذلك اليوم، ولكنهم ما هم عنه بغائبين سيبذلون كل ما في وسعهم لينجوا من هذه الجحيم، ولكن لن ينجوا منها..بل سينقلب عليهم كل تدبير، وسيدفعون أكثر وأكثر إلى الجحيم التي قُدّر لهم دخولها.وَمَا أَدْرَنكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ : ثُمَّ مَا أَدْرَنكَ مَا يَوْمُ الدِّين ۱۹ هو ۱۸ التفسير: اعلم أنه حيثما وردت كلمة وَمَا أَدْرَاكَ في القرآن مكررةً فإنها قد أُعيدت لشرح الموضوع المذكور هنالك ، ويَوْمُ الدِّين هو الموضوع المذكور هنا، فأعيد قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ ليشرح معنى يوم الدين هنا.وكأن تعالى يقول إن أيام الدين كثيرة، وها نحن نخبركم ما نعنيه هنا من يوم الدين.ولو لم يكن إعادة قوله ومَا أَدْرَاكَ من أجل شرح الموضوع نفسه لصار تكرارًا عابيًّا، لأن ما قيل من قبل أيضا مما أخبر الله به و لم يعلمه الإنسان بنفسه، وبالتالي فقوله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يصبح معنى.لو كانت الأمور المذكورة من قبل مما علمه الإنسان بنفسه لفهمنا أنه تعالى يقول له إن هذه الأمور ،تعرفها ولكن ماذا تعرف عن يوم الدين؟ ولكن حيث إن الإنسان لم يعلم هذه الأمور أيضًا إلا بإخبار رباني، فكيف يعرف حقيقة يوم الدين من دون إخباره؟ مما يدل بوضوح أن الله تعالى لم يكرر قوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين إلا ليبين مراده من يوم الدين هنا.وكأن الله تعالى يقول: تعالوا نخبركم ماذا نعني من يوم الدين هنا.بلا

Page 363

الجزء الثامن ٣٥٩ سورة الانفطار وو يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَ ْس لِنَس شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَبِذٍ لِلَّهِ (ج) نَسُ سر التفسير : أرى أن المراد من النفس هنا النفس المسيحية المذكورة في قوله تعالى من قبل عَلَمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَرَتْ ، والمعنى أن تحالفات الشعوب المسيحية الأوروبية لن تغني عنهم شيئا إنهم سيسعون من خلال شتى التحالفات والمنظمات والهيئات مثل عصبة الأمم لأن يتجنبوا هذا العذاب ولكن لن تنفعهم أحزابهم ولا اتحاداتهم ولا عُصبهم شيئا، ولن ينجوا من العذاب.:7 ، وحيث إن أساس المسيحية هو الكفارة، فيمكن أن قوله تعالى يَوْمَ لا تَمْلكُ يعني نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا أَن كفارتهم لن تجديهم شيئا إزاء هذا العذاب.أما قوله تعالى ﴿وَالأَمْرُ يَوْمَئِذ لله فمفهومه واضح بالنسبة إلى يوم القيامة.أما بالنظر إلى هذه الدنيا فالمعنى أن النصارى يدعون منذ تسعة عشر قرنا متتالية: "يا رب، ليكن ملكُك في الأرض كما في السماء متى (٦: (۱۰) ، ولكنهم فشلوا في إرساء ملك الله في الأرض كما هو في السماء في هذه المدة المديدة، ولكن الله تعالى سيقيم جماعة أخرى ستنجح في إنزال حكم الله من السماء إلى الأرض وإقامة ملكوته في الأرض.فكأن المهمة التي فشلوا فيها طوال تسعة عشر قرنا ستنجزها جماعة ربانية أخرى، وسوف ينفّذ حكم الله على الأرض.ليس الله جسم حتى ينزل به على الأرض، وإنما المراد من مجيئه إقامة ،مُلكه، وهذا ما تنبئ به هذه الآية بأن ملكوت الله سيقام في الأرض في الزمن الأخير، وسيأتي الحق وسيزهق الباطل.وبهذا الخبر قد أزال الله تعالى اليأس الذي قد يستولي على القلوب نتيجة دراسة الآيات السابقة، حيث طمأن الله المؤمنين بأن لا تراعوا، ولا يستولينَّ اليأس على قلوبكم بسماع خبر صعود القرآن من الأرض إلى السماء ووصول الإيمان إلى الثريا وغلبة الكفر على الدنيا وانتشار الشرك والمعصية بين الناس واختفاء وجه رسول الله الأغرّ عن أعين الناس وخلو القلوب من شوق اتباع الصحابة ، فإننا نبشركم الأَمْرُ يَوْمَد لله..أي لا أن فتنة جرم المسيحية كبيرة جدا، ولكننا قد قررنا إقامة حكم القرآن والإسلام في الدنيا، وليس في الدنيا قوة تقدر على أن تبدّل قرارنا هذا سنقيم الإسلام ثانية، ونوطد حكم القرآن

Page 364

الجزء الثامن ٣٦٠ سورة الانفطار مرة أخرى، ونرسي حكم محمد م ل ل ل له في العالم كله.فلا داعي للقلق ولا مجال للقنوط، بل إن الموقف يبعث على الابتهاج والسرور ، لأن الإسلام سيسترد مجده الغابر، ويصبح غالبا على العالم كله مرة أخرى.

Page 365

الجزء الثامن ٣٦١ سورة المطففين سورة المطففين مكية، وهي سبع وثلاثون آية مع البسملة هناك اختلاف حول زمن نزول هذه السورة، فيرى بعض المفسرين أن آياتها الست الأولى..أي حتى قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مدَنية، بينما يرى البعض الآخر أنها كلها مدَنية (الدر المنثور والإتقان).غير أنها مكية عند معظم المفسرين وهذا هو المسجل في المصاحف المطبوعة في بلادنا.فكان من اللافت للنظر أن الباحثين الأوروبيين الذين ناقشوا هذا الموضوع قد اعتبروا هذه السورة مكية، وذلك خلافا للقواعد التي وضعوها لبحث هذا الموضوع، المفروض أن يعتبروها مدنية بحسب اتجاههم المعادي للقرآن، خاصة وقد اعتبرها بعض المفسرين مدنية، ولكن من التصرف الرباني الغريب أنهم اعتبروها مكية، بل من أوائل ما نزل بمكة.فالبروفيسور الألماني نولدكه والسير وليام موير كلاهما قال إنها نزلت قبل الهجرة بأربع سنوات تقريبا تفسير "ويري" للقرآن الكريم).والحق أن هذا هو الرأي الصائب؛ فإنها سورة مكية ومن أوائل ما نزل في مكة.هناك أسس مختلفة وضعت لتحديد المكي والمدني في سور القرآن، أولها: الروايات التي رواها المسلمون المعاصرون لنزول القرآن فقالوا إن السورة الفلانية نزلت في وقت كذا حسب علمهم وثانيها: أحيانًا لا يذكرون هذه الروايات بناء على علمهم، بل بناء على اجتهادهم مثلا يقولون ذهبنا إلى المدينة في وقت كذا، فقُرئت علينا هذه السورة عندها، ولذا فهي مدنية مع أن من الممكن أن تكون السورة قد نزلت في الفترة المكية ولكنهم سمعوها عندئذ.وثالثها: بناء على الأحداث المذكورة فيها ورابعها بناء على بعض كلماتها المعينة، فيقولون مثلا: هذه الكلمات كانت تُستعمل في الفترة المكية.وخامسها: يعتبر المستشرقون السورة مدنية إذا كانت مواضيعها مفصلة، لأنهم يرون أن القضايا التفصيلية قد

Page 366

الجزء الثامن - ٣٦٢ من سورة المطففين وردت في السور المدنية.سادسها يحددون زمن السورة من أسلوب بيانها، فمثلاً إذا كانت طويلة الآيات اعتبروها مدنية، وإذا كانت قصيرة الآيات اعتبروها مكية.وسابعها: إذا ذكر اليهود في سورة اعتبرها المستشرقون مدنية.وثامنها: إذا جاء في سورة حكم شديد بحق الكفار قالوا إنها مدنية.والحق أن الأساس الأول من هذه الأسس هو القطعي اليقيني، أما باقيها فكلها ظنية، ولا يتورع المستشرقون في استعمالها سلاحًا للهجوم على الإسلام.إن بعض هذه الأسس باطل بصورة قاطعة ولكن ليس هذا مجال هذا البحث.ثم إن المستشرقين يخالفون هذه الأسس أيضًا إذا ما كان لهم غرض معين يريدون تحقيقه أحيانا، كما أشرتُ - وسأظل أشير إلى ذلك أثناء تفسيري في أماكن مختلفة.الواقع أن المستشرقين يريدون من اللجوء إلى بعض هذه القواعد أن يُظهروا أن محمدا قد تعلّم من اليهود والنصارى ما ذكره في القرآن الكريم.فمثلاً إذا لم ترد تعاليم اليهود والنصارى مفصلة في السور المكية، قالوا لقد ثبت هذا أن هذه التعاليم إنما ذُكرت في السور المدنية لأن محمدًا تعلّمها بمخالطة اليهود والنصارى في المدينة.والحق أن المفسرين المسلمين الذين يبنون رأيهم في هذه الأمور على هذه الأسس والأدلة الضعيفة إنما يقوّون أيدي المسيحية من حيث لا يدرون.مع أن هذه الأدلة والمبادئ ليست إلا اجتهادية فقط، وتحديد الأحداث التاريخية بناء على الاجتهاد طريق خاطئ تماما ؛ إذ لا يصح في مثل هذه القضايا إلا الشهادة التاريخية القطعية أو القياس الداخلي للحادث بشرط أن يكون سياق القرآن مؤيدا لذلك.وهذا الموضوع طويل جدا لا يمكن الإحاطة به ،الآن وإنما نبهتُ إليه ضمنيا، إذ يقتضي هذا الموضوع أن يؤلف حوله كتيب مستقل.ففيما يتعلق بكون السورة مكية أو مدنية، فإننا نقبل الروايات الصحيحة والبحث المدعوم بالتاريخ، أما الأمور الاجتهادية البحتة منها فقد وضع هؤلاء بصددها قواعد خاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة مما يستغلها أعداء الإسلام استغلالا مشينا ولسنا لنقبل مثل هذه الأمور أبدا.على أية حال، وكما قلت فإن هذا الموضوع يتطلب أن يؤلف حوله كتيب مستقل، يبحث في هذا الموضوع ويناقشه بالتفصيل ويبين خطأ استدلالاتهم بصدد

Page 367

الجزء الثامن أحدا من ٣٦٣ سورة المطففين ترتيب القرآن الكريم، وكيف يمكن تدارك هذه العيوب.ندعو الله تعالى أن يوفق جماعتنا، أو يوفقني أنا لتأليف كتيب مستقل حول هذا الموضوع، لأنه ضروري جدا.الواقع أن كتاب "الإتقان" للإمام السيوطي هو أول محاولة في هذا المجال، ولكن قد وقعت فيه بعض الأخطاء.وهناك حاجة ماسة أن يُكتب كتاب الإتقان الحقيقي، لأن الإتقان معناه القول المحكم القوي، ولكن السيوطي أورد في إتقانه بعض الأمور الضعيفة خطأ كما قلتُ.فلا بد من تأليف كتاب "الإتقان" بحيث يكون متقنا بالفعل، ويتناول هذه القضية على أسس سليمة، ويفنّد الأمور الخاطئة.ترابطها بما قبلها : لهذه السورة صلتان بما قبلها صلة قريبة وصلة بعيدة.إن خبرتي تؤكد أن كل سورة تقريبا - وثيقة الصلة بغيرها من السور، كما أن لكل سورة صلتين بالسور الأخرى صلة قريبة وصلة بعيدة..أي أن هناك ما يربطها بالآيات الأخيرة من الصلة من السورة السابقة، وهناك ما يربطها بموضوع السور السابقة.ثم إن هذه الصلة النوع الثاني تنقسم إلى قسمين صلة تربط السورة بموضوع السورة السابقة أو التي قبلها بحيث تكون كل هذه السور حلقات من سلسلة موضوع واحد، وأحيانًا هذه تربط السورة بست أو سبع أو عشر سور سابقة.والحمد الله على أنني أول من فهم هذا الموضوع إلى حد ما.لقد علمتُ بفضله تعالى ما بين سورة وأخرى ذلك قريبة، وما يربط عدة سور من حيث الموضوع المذكور فيها، من عندي انطباع أن بين السور علاقة يمكن أن نسميها بعيدة وأبعد، ولكن لم أجد فرصة لحل هذا الموضوع بصورة كاملة لكثرة مشاغلي ولا أرى أني سأتمكن من ذلك في المستقبل لتكاثر أعمالي باستمرار، فأضع أمامكم اقتراحا لحل هذا صلة ومع الموضوع.في رأيي أنّ على المرء أن يستكتب سور القرآن على أوراق منفصلة ويعلقها في غرفة كما تُعلّق الخرائط، وينظر إليها بتدبر كلما وجد فرصة، وهكذا سيطلع حتمًا على ما يوجد بينها من رابط.وإذا تمكن من الاطلاع على الرابط الموجود بين

Page 368

الجزء الثامن ٣٦٤ سورة المطففين مجموعة من السور، فيُلعمل فكره على مجموعة أخرى، وهكذا دواليك.لو اتبع مي هذه الطريقة من عنده فرصة وشوق للتدبر في القرآن الكريم لانتفع بها كثيرا.والصلة القريبة لسورة المطفّفين بالتي قبلها تكمن في أن الله قال في آخر سورة الانفطار يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذ لله ، لله، وهذا يعني أن الله تعالى قد تحدث هنا عن ،المحاسبة، مبينًا أن هذه الخسارة لن يتكبدها إلا أنتم.بينما قال الله الآن في هذه السورة وَيْلٌ للْمُطَفِّفِينَ، ليبين أن مَن كان عليه حساب فلْيُسَوِّه بلا نقصان أو تخسير.وهذا هو الأمر الذي قد حثّ عليه المسيح ، ولكن المسيحيين أهملوه، حيث قال الله: "طُوبَى للرُّحَمَاء، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ" (مَتَّىه )، وقال: "إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَاتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا للنَّاسِ زَلاتهم، لا يَغْفِرْ لَكُمْ أَبوكُمْ أَيْضًا ولا تكُم مَتَّى ٦:١٤-١٥).وهذه الحقيقة التي بينها الله هنا في القرآن الكريم، ونبه المسيحيين أنهم ماثلون أمام الله تعالى، فإذا أرادوا تحنُّب الخسران يوم القيامة فعليهم ألا يبخسوا الناس حقوقهم.الغريب أن المسيحيين أخذوا يقولون نستطيع أن نرحم، ولكن الله لا يستطيع أن يرحم الناس، مع أن المسيح الله قد نبههم هنا أن الله تعالى سيرحمكم بسبب رحمتكم بالناس حيث يقول: ارحموا الناس حتى يرحمكم أبوكم السماوي.وهذا أننا بحاجة إلى الرحمة بالناس لكي يرحمنا ربنا ولكن المسيحية الحالية تقول إن الناس يمكن أن يرحموا ولكن الله غير قادر على أن يرحم الناس.كم هو متعارض هذا التعليم مع تعليم المسيح العلم! المهم أن الله تعالى يقول للمسيحيين هنا في القرآن الكريم: يجب أن تتذكروا أنكم مع الله تعالى، فإذا أردتم أن يعاملكم الله برفق ولطف، فعاملوا عباده برفق ولطف.فقوله تعالى (يَوْمَ لا تَمْلكُ نَفْسٌ لَنَفْس شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذ لله يشير إلى معاملة الله مع الناس، وقوله تعالى ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ يشير إلى معاملة الناس مع الناس، حيث نبه الله العباد أن عليهم أن لا يغشوا في معاملتهم مع الناس، لكي يعاملهم الله برفق.إذا فأواخر سورة الانفطار تؤكد قولاً للمسيح الناصري ال، أما أوائل سورة المطففين فتؤكد قولاً آخر له الي.يعني تتعاملون العليلا

Page 369

الجزء الثامن ٣٦٥ سورة المطففين أما الصلة البعيدة لهذه السورة بالتي قبلها فهي أن السورتين السابقتين تتحدثان المسيحية.والحق أن جزأين كبيرين من أعمال المسيحيين خطيران جدا؛ الجزء المتعلق بالدين، والجزء المتعلق بالشعوب الأخرى.وسوء أعمالهم فيما يتعلق بالدين ظاهر من أنهم يشركون بالله ويتخذون المسيح ابنا الله ويقضون على وحدانية الله.عن وقد أُشير إلى الأمر نفسه في السورة السابقة في قوله تعالى إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ أي كنا أخبرنا أن السماوات تكاد يتفطرن من شناعة شرك هؤلاء القوم، وها قد جاء وقته وقد انفطرت السماء فعلا لظلمهم العظيم والجزء الثاني من أعمالهم يتعلق بتحالفاتهم وسوء معاملتهم مع الشعوب الأخرى كلها.فبعد أن نبه الله تعالى في السورة الماضية إلى سوء أعمال المسيحيين الدينية فقد بيّن الآن في هذه السورة أن معاملتهم مع الشعوب الأخرى تكون سيئة جدا، حيث ينهبون خيراتها، وتكون معاهداتهم ومعاملاتهم ذات وجهين دوما ستكون معاملاتهم فيما بينهم على عكس معاملاتهم مع الشعوب الأخرى باختصار، إن التطفيف علامة بارزة للمسيحيين.ولن تجد لتحالفات الشعوب الأوروبية مثالا بين الأمم في التاريخ كله.إن هؤلاء ملحدون لا علاقة لهم بالمسيحية من حيث العقائد، ولكن كلما تعلّق الأمر بالمسيحية انحازوا إليها، وساندوها رغم كونهم ملحدين.فالألمان ،ملحدون ولكنه يعاملون المسيحيين على عكس ما يعاملون الأمم الأخرى؛ يصبّون أقسى الفظائع على اليهود ولكن يعاملون المسيحيين برفق والحال ذاته بالنسبة إلى الإنجليز والأمريكان فليس عندهم أي دين في الحقيقة ولكنهم لا يطيقون اندثار اسم المسيحية.فمثلا في هذه الحرب الجارية يدفعون المسلمين والهندوس إلى المعارك ليُقتلوا ويمزقوا، ويقولون إننا نريد إقامة الحضارة المسيحية، مع أنه ليس هنالك شيء اسمه الحضارة المسيحية.هناك حضارة ،معاصرة ولا علاقة للمسيحية بها لا قريب ولا من بعيد، ومع ذلك يقولون إن كل ما نقوم به إنما نقوم به لإقامة الحضارة المسيحية في العالم.الغريب أن الشعوب المسيحية تظلم بعضها بعضا أيضا، ولكن نطاق هذا الظلم محدود جدا، وكأنهم جعلوا للظلم نطاقين، نطاق ظلم المسيحيين ونطاق ظلم غير من

Page 370

الجزء الثامن ٣٦٦ سورة المطففين المسيحيين.وعندما يتعلق الأمر بظلم الشعوب الأخرى فكل الشعوب المسيحية تتحد ضدهم متناسية ما بينها من خلافات.فالحق أن هؤلاء يرتكبون نوعين من الظلم ظلم يتعلق بالله تعالى وظلم يتعلق بمخلوقه وحيث إن ظلم المسيحيين بخلق الله كان جزءا آخر من أعمالهم لذلك قد جعل الله لذكره بابا منفصلا، أعني أنه تحدث عنه في سورة منفصلة، فكما أن الثورة المسيحية كانت هامة جدًّا بين ثورات الزمن الأخير، لذلك أنزل الله تعالى لذكرها سورة منفصلة، كذلك لما كان المسيحيون يرتكبون نوعين من الظلم العظيم، ظلم يتعلق بالله وظلم يتعلق بمخلوقه، فقد ذكر الله ظُلمهم به في سورة الانفطار، وظُلمهم بالناس في سورة المطففين.شرح الكلمات ويلٌ: كلمة عذاب.(الأقرب) الله الله الرحمن الرحيم ) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) للمطففين: طفَّف المكيال: نقصه.وطفّف الوزن : نقصه.وطفف على عياله: قتر الله عليهم وطفف على الرجل: أي أعطاه أقل مما أخذ منه..(الأقرب) التفسير: إن هذه علامة مميزة للأوروبيين فإنهم لا مثيل لهم في اغتصاب حقوق الآخرين.إن المبدأ الأساس لسياستهم واقتصادهم هو غصب حقوق الشعوب الأخرى.كان الخليفة الأول للمسيح الموعود الله يذكر أمرًا قد ترك في نفسي وقعا عميقا حيث كان يقول : إن بعض الشعوب يَلقون الذل بأخذ الربا، وبعضها بإعطاء الربا، ولكن أمر الشعب المسيحي غريب، فإنهم ينهبون الآخرين بأخذ الربا كما ينهبونهم بإعطاء الربا.فكان الله يقول : إن مثال نهبهم للناس بأخذ الربا واضح مما تعطي بنوكهم الناسَ من قروض، أما مثال نهبهم الناس بإعطاء الربا فهو ما فعلوه بالولاية الهندية "أوده".ولما قمتُ بتحرّي الأمر في المصادر التاريخية منهم،

Page 371

الجزء الثامن ٣٦٧ سورة المطففين وجدتُ قوله لال له صوابا تماما، فإنهم بالفعل نهبوا ولاية "أوده" بإعطاء الربا.لقد أعلنوا بين الناس أن من يضع نقوده في بنوكهم في مدينة "كولكتا" فسوف يعطونه ربحا كبيرا فوضع الناس أموالهم في بنوكهم حتى إن النساء بعن حليهن ووضعن أموالهن في بنوكهم، فأعطوهم أرباحا كبيرة فظنّ الناس أن الإنجليز خيرون، إذ يعطون الأرباح بسخاء! ولما حصل الخلاف بين الإنجليز وملك هذه الولاية، وزحف الجنود الإنجليز على عاصمته "لكهناو" فإن أمراء الملك أخفوا عنه كلية تقدُّم الجنود الإنجليز، لأنهم لما اقتربوا من العاصمة تلقى جميع أمراء ولاية "أوده" إنذارا من الإنجليز أنهم لو فعلوا ضدهم أي شيء فسوف يجمّدون أموالهم المودعة في بنوكهم.فظلوا صامتين ولم يعلم الملك بالجيش الإنجليزي إلا بعد أن طرق أبواب العاصمة.ويقول البعض إن الأمراء دعوا الملك إلى مشاهدة الرقص لإغفاله عن زحف الإنجليز الذين داهموه وهو منهمك في مشاهدة الرقص.(حقائق الفرقان، سورة البقرة، قوله تعالى : الذين يأكلون الربا) فالواقع أن الشعب المسيحي قد نهب الآخرين بأخذ المال وبإعطاء المال أيضا.إنهم المطففون حقا.ويجعلون حقهم حق فوق الآخرين في كل قضية.وإذا كان للآخرين حق عليهم فيعترضون ألف اعتراض عند أدائه.فالسؤال الذي يفرض نفسه ما هو السبب الذي جعلهم لا يأبهون بالعالم كله؟ وما هي المبررات التي بسببها قد بسطوا سلطانهم على العالم؟ هم يتدخلون في الصين والهند، ويضغطون على أفغانستان، ويتدخلون في بخارى وتركستان الصينية والقفقاس وجورجيا، ويتصرفون في سياسات الدول العربية ويتدخلون في معاملات تركيا، وقد استولوا على مصر والبلاد الإفريقية ما ذنب الناس أنهم يُغلبون أمامهم في كل مكان، يغلبون دوما؟ إنما سببه أن القوة بيدهم مثلهم كمثل القرد الذي أكل قطعة الجبنة التي عثر عليها قطان؛ فيحكى أن قطين سرقا قطعة جبن، ثم اقتتلا عليها، فكان أحدهما يقول حصتي كذا والآخر يقول حصتي كذا.وأخيرا احتكما إلى قرد ليوزعها عليهما بعدل فأخذ القرد ميزانا وقطع القطعة نصفين، ووضعهما في الكفتين، فلما حمل الميزان وجد فرقا بين الكفتين، فبدلا من أن يأخذ قطعة صغيرة الله وهم

Page 372

الجزء الثامن من ٣٦٨ سورة المطففين الكفة الراجحة ويضعها في الكفة الناقصة وضع القطعة الكبيرة في فمه وأكل منها قطعة كبيرة، ثم وضعها في الكفة، فرجحت الكفة الأخرى، فأكل هذه المرة القطعة الأخرى قطعة كبيرة وهكذا ظل يأكل الجبنة مرة من هنا ومرة من هناك، حتى لم يبق من الجبنة إلا القليل فأدرك القطان أنهما قد ارتكبا حماقة بوضع الجبنة في يد القرد فإنه سيأكلها كلها هكذا فقالا له جناب القرد، أعطنا الآن الجبنة لنتقاسمها بأنفسنا، فقال القرد: لم يبق من الجبنة الآن إلا أُجرتي، فالتهم بقية من الجبنة! هذا هو مثال الأمم المسيحية؛ كلما يسوّون قضية قوم يقولون: حقنا فيها كذا، ويحاججون على حقهم هذا حتى يأكلوا البلد ،كله والنتيجة النهائية أن الذين يطالبون بالحق يظلون محرومين منه، وهذه الأمم تنهب كل حقوقهم وتستولي على بلدهم.الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (3) شرح الكلمات: اكتالوا اكتال منه واكتال عليه اكتيالا: أخذ منه وتَولّى الكيل بنفسه.(الأقرب).فالمراد من قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ أنهم يأخذون المكيال بأيديهم عندما يأخذون حقهم من غيرهم، ويأخذونه وافيا حسبما يحلو لهم.التفسير : لقد استعمل الله تعالى هنا كلمات لبيان عيب للأمة المسيحية كان يمكن بیانه بغيرها من الكلمات أيضا.مثلا كان من الممكن أن يقول الله تعالى إنهم عندما يتاجرون يأخذون حقهم كاملا، ولكنه تعالى لم يقل هكذا بل قال الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أو وَّزَنُوهُمْ يُحْسِرُونَ)، وذلك ليخبر أنهم يتخذون المعاملة كلها في أيديهم، ويكون لهم الخيار كله لاتخاذ القرار، سواء أكان عليهم أن يأخذوا حقهم أو أن يعطوا غيرهم حقوقهم.إن الأحداث اليوم تؤكد هذا النبأ.أيا كانت القضية فإن خيارها يكون في أيديهم خذوا مثلا قضية

Page 373

الجزء الثامن هو ٣٦٩ من سورة المطففين الغلبة بحيث تحتفظ استقلال الهند، فمن المحال أن يجتمع الزعماء الهنود ويتخذوا قرار الاستقلال بالتشاور فيما بينهم.يقول الإنجليز يمكن أن تتشاوروا وتفكروا معا، ولكن ليس لكم إلا أن ترفعوا مطالبكم إلينا ونحن الذين نختار منها ما نشاء ونرفض منها ما نشاء.هذا الأمر الذي بينه الله هنا أن هذه الأمة ستنال بالخيارات كلها سواء كان عليهم أن يؤدوا للناس حقوقهم أو يأخذوا منهم حقوقهم.في العالم للزبون حقه وللتاجر حقه، ولكن هذا الشعب إذا كان زبونا فيقول للآخر لا خيار لك في الكيل، وسوف نتولى الكيل بأنفسنا.وإذا كان تاجرا فيقول للزبون أيضا عليك أن تعطينا ما نريد ولن نأخذ أقل من ذلك.فيمتلكون كل الخيارات؛ خيار الأخذ وخيار العطاء، ولا يسمحون للآخرين بالتدخل في القضية.لقد استعمل الله هنا كلمة يَسْتَوْفُون، ومعناها الأخذُ أخذا وافيًا تاما (الأقرب).وهذا المعنى يدل في الظاهر على العدل، ولكن الواقع أن هذا لا يعني يستوفون الحق أي ما هو حقهم بل المراد أنهم يستوفون المطالبة..أي أنهم لا يبرحون حتى يأخذوا ما يطالبون به والدليل على ذلك أن الحديث هنا عن سيئاتهم لا عن حسناتهم ولا مدحهم والسيئة أن يأخذوا أكثر ويعطوا أقل.فثبت أن ليس المراد من قوله تعالى (يَسْتَوْفُونَ أنهم يأخذون حقهم كاملا، بل المعنى أنهم يأخذون مطالبهم كاملة نعم يمكن على سبيل التنزل أن يراد هنا أنهم يأخذون كاملا على الدوام، ولا يتركون جزءا من حقهم لأحد رحمة له.وهذا يعني يتصرفون كـ "شايلوك "" الشهير.والدليل الآخر على ما قلته حقهم أنهم من أنهم هو قول الله هو بطل مسرحية شيكسبير: "تاجر البندقية" تحكي المسرحية أن تاجرا اسمه أنطونيو من أهالي البندقية اضطر للدين من المرابي اليهودي الجشع "شايلوك"، فوافق أن يُقرضه بشرط أنه إن لم يوفه حقه بعد سنة فله الحق باقتطاع كيلوغرامين لحما جسده.لكن التاجر، خسر كل ما لديه، ولم يعد لديه ما يملك وأكله الهم والغم فأصبح هزيلاً، والمرابي يقف له على الأبواب يريد حقه.فرفع شكواه للحاكم وقرّر الحاكم تنفيذ الشرط.وكان للتاجر محام ذكي حضر قبيل الاقتصاص، ليدحض الشرط ويقوضه على رأس المرابي.كانت حجة المحامي بسيطة وقوية.قال إن الشرط لم ينص على الاقتطاع من كل أنحاء الجسد، ولا يوجد لدى موكلي كيلوين من اللحم في جهة

Page 374

الجزء الثامن تعالى اكتالوا ، لأن الاكتيال يعني ۳۷۰ سورة المطففين أن يأخذ المرء المكيال بيده لأخذ حقه ولا يدع الآخر يكيل له فهذه الكلمة أيضا دليل على أن هذه الأمة تأخذ حقها كما يحلو لها، ولا تدع الآخر ليتصرف في القضية.فالواقع أن قصة "شايلوك" الشهير تنطبق على هذه الأمم المسيحية حق الانطباق، فإن كان لهم الحق على أحد طالبوه بقسوة غير مبالين بأي شيء، وإن كان عليهم الحق لأحد لجأوا إلى ألف عذر.لقد سبق " أن أخبرتُ أن "اكتال" "منه" و "اكتال" "عليه بمعنى واحد؛ غير أن بعض علماء العربية فرّق بينهما، فقال الفراء النحوي الشهير إن قولهم اكتلتُ عليه يعني أخذتُ ما عليه ،كيلاً، أما اكتلتُ منه : فمعناه استوفيت منه كيلا.(روح المعاني) وكأن في قولهم: "اكتال" "عليه التركيز على الأخذ ، وأما في قولهم: "اكتال" "منه فالتركيز على الأخذ وافيًا.كذا باختصار، قد بين الله هنا أن هؤلاء القوم لا يبرحون حتى يأخذوا حقهم بالقدر الذي يرونه.الحق يؤخذ بطريقتين: أولاهما أن يأخذ المرء حقه بالتفاوض مع الطرف الآخر، حيث يستمع إلى أدلته، فيتحدد حقه بالتشاور والتراضي بين الطرفين، وثانيتهما أن يأخذ حقه جبرًا وقهرًا حيث يقول للطرف الآخر حقي وكذا، ولن أدعك حتى آخذه منك.وقد أخبر الله تعالى هنا أن هذه الأمم المسيحية تكون مصابة بهذا الداء، حيث يقولون للآخرين عليكم أن تعطونا ما نطالبكم به، ثم يحتفظون بحق تحديد حقوقهم، ثم يحتفظون بالكيل بأيديهم ويأخذون من الآخرين ما يشاءون بإصرار وإلحاح.وهذا يعني أنهم لا يتركون تحديد مقدار حقهم للآخر، بل يحتفظون بهذا الخيار لأنفسهم، وبدلاً من أن يتحدد حقهم بتراضي الطرفين، يحددونه بأنفسهم كما يحلو لهم.وهذا يعني أنهم لا يعرفون الشفقة واحدة فقط، والثاني أن الشرط يقتصر على اللحم و لم يأت ذكر للدم فإن أي دم يهراق يجب أن يؤخذ ما يعادله من دم شايلوك.فخسر شايلوك دعواه كما خسر نقوده." (المترجم)

Page 375

الجزء الثامن ۳۷۱ سورة المطففين والرحمة على الآخرين وأن تعاملاتهم التي يقومون بها باسم الحق تكون في الواقع ظلما وجورًا.بعد فهم الأمر بهذا التفصيل يسهل علينا الرد على الاعتراض الذي أثاره البعض قائلا: ليس في هذه الآية شيء من الذمّ، فلماذا بدأت هذه السورة بكلمة ويل فقال الله تعالى ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - أي ) العذاب للمطففين الذين يأخذون حقهم كاملا - مع أنه ليس في أخذ الحق وافيا ما يدعو إلى الدم.فكما قلتُ إن تفسيري هذا يردّ على هذا الاعتراض، لأن إصرار المرء على تحديد حقه بنفسه، ثم لجوءه إلى القسوة وعدم الرحمة عند أخذ حقه أمر أن مذموم والأمة التي لا تعرف الرحمة والشفقة على الآخرين تستحق الويل فعلاً.يجب أن نتذكر أيضًا أن حرف الجر (على) يأتي عادة بمعنى المخالفة، فلو اعتبرنا معنى إلحاق الإضرار مشمول في اكْتَالُوا عَلَى النَّاس فهذا محل الذم واللوم، إذ المراد عندها أنهم يأخذون من الناس بحيث يلحقون بهم الضرر، وهكذا جاز استعمال كلمة (الويل) في حقهم.وهنا ينشأ اعتراض وهو: إذا كانت (على) هنا بمعنى المخالفة، فما معنى يستوفون إذن؟ الجواب أن قوله تعالى (يَسْتَوْفُونَ عندها يعني أنهم يأخذون حقهم وافيًا بحسب أهوائهم وليس بحسب الواقع.فمثلا إذا كان الطرف الآخر يرى أن أن حقهم كيلوغرامان، فلن يرضوا بأخذ كيلوغرامين ،فقط، بل سيأخذون ثلاثة كيلوغرامات مثلا أو أكثر.إذا فقوله تعالى (يَسْتَوْفُونَ يعني أنهم يستوفون كما يحلو لهم، أو أنهم يستوفون حسب مطالبتهم.وهكذا فإن لفظ (يستوفون) لا يتعارض مع مفهوم (على) وإنما يطابقه ويؤكده.وقال البعض إن حرف (على) ليس متعلقا بـ (اكتالوا)، بل هو متعلق بـ (يستوفون)..والمعنى أنهم يلجأون إلى الاستيفاء ضد الآخرين عند أخذهم حقهم، أي يستوفون حقهم بحيث يضرون الآخرين والتقدير كالآتي: إذا اكتالوا يستوفون على الناس، أي أنهم يأخذونه كاملا بحسب أهوائهم ملحقين الضرر بالطرف الآخر.فكأنه استيفاء في حقهم، ولكنه هضم لحقوق الآخرين.

Page 376

الجزء الثامن ۳۷۲ سورة المطففين لقد بينتُ من قبل أن اللغويين قالوا إنه لا فرق بين اكتال" منه" و"اكتال عليه" من حيث المعنى، ولكن المفسرين قالوا: إذًا، فلماذا قال الله اكْتَالُوا عَلَى ولم يقل اكتالوا) (من)؟ لقد ذكرت من قبل أن الفراء يرى أنه قد استعمل حرف (على) واستغني عن حرف (من)، وجيء مكانه بكلمة (يستوفون)، لأنك إذا قلت اكتلت منه فتعني استوفيت منه كيلاً.كأنه أن كلاً یری من حرفي الجر (من) و (على) قد استعمل هنا في الواقع، إذ إن يستوفون ينوب عن (من)، وأما حرف (على) فهو مذكور في الظاهر كما ترى.لا شك أن ما قاله الفراء يجيب على اعتراض المفسرين ولكنه يبدو خلاف المحاورة القرآنية، لأن التدبر في القرآن يبين لنا أنه قد فرّق بين حرف (من) و (على)..وأن كلا منهما يفيد معنى مختلفا.فقال الله على لسان إخوة يوسف لأبيهم: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَحَانَا نَكتل وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف: ٦٤) ، بينما قال في موضع آخر فَأَوْف لَنَا الْكَيْلَ (يوسف : (۸۹) مما يبين أن إخوة يوسف ال لم يكيلوا الكيل بأنفسهم، بل كال لهم غيرهم.وكذلك في القرآن قول يوسف أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أو في الْكَيْلَ (يوسف : ٦٠).لقد تبين من هنا أن يوسف العليا هو الذي قام بالاكتيال لإخوته ، ولم يكيلوا الغلال بأنفسهم، ولكنهم مع ذلك يقولون لأبيهم (نكتل)، مما يعني أن قول بعض أهل اللغة إن الاكتيال يعني كيل المرء الشيء بأخذه المكيال بيده قول باطل؛ إذ ورد قول إخوة يوسف لأبيهم: فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَحَانَا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعترفون أنهم لم يتولوا الكيل بأنفسهم، بل يوسف يكيل لهم.ثم إن يوسف نفسه يقول أَنِّي أُوفِي الْكَيْل، ويمكن أن نَكْتَل كان 11 نستنتج من ذلك أن قولهم: اكتال "منه يفيد مفهومين؛ أي أخذ الكيل بنفسه أو بيد غيره، أما قولهم: "اكتال عليه" فيعني كال بنفسه بتولي المكيال بنفسه، لأن حرف (على) يفيد معنى المخالفة.

Page 377

الجزء الثامن شرح الكلمات : ۳۷۳ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ تُخْسِرُونَ (٤) سورة المطففين كالوهم: كالَ الطعام وغيره، وأكثر استعماله في الطعام: حقق كميته أو مقداره سيعني • بواسطة آلة معدَّة لذلك كالصاع والإرْدَب والذراع ونحو ذلك.(الأقرب) فالكيل يعني تحديد مقدار الشيء سواء بالحجم أو بالطول أو بالوزن.ولما كان القرآن الكريم قد أضاف هنا كلمة أو وَّزَنُوهُمْ ، فعلينا أن نفصل الوزن عن الكيل، فالكيل تحديد حجم الشيء بالصاع أو طوله بالمتر مثلاً.كذلك يقول أهل اللغة : وقد يتعدى لمفعولين فيقال: كلتُ زيدا الطعام، وقد تدخل اللام على المفعول الأول فيقال: كلتُ لزيد الطعام.ويأتي الكيل للوزن أيضًا فيقال: كال الصيرفُ الدراهم: أي وزنها.(ثم يتوسعون في معنى الكيل فيقولون) كال الشيء بالشيء: قاسه.وكلتُ فلانا بفلان أي قسته به وكال الفرس بغيره: قاسه به في الجري (الأقرب)..وهذا يعني أن الكيل يُستعمل للتقدير المعنوي أيضا على وجه الاستعارة، علاوة على الكيل والوزن الماديين.التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن هؤلاء القوم إذا أعطوا قوما بالكيل أو بالوزن ألحقوا بهم الخسارة دائما..أي أنهم يتظاهرون للآخرين أنهم يعطونهم ما يستحقون وافيًا إذ يعطونهم بالمكيال والميزان والواقع أنهم يربحون ويضرون الآخرين.وهذا العيب يوجد في الأمم المسيحية بوجه خاص، حيث ينهبون الشعوب الأخرى بالوزن وبالكيل أيضًا.لقد غلبت هذه الشعوب من خلال التجارة في الواقع، وهم ماكرون جدا فيها.لا يغش 1% الأوروبيين بل ١ من في التجارة الفردية، بينما تجد ٩٩% من الآسيويين يغشون في التجارة الفردية، بل ١٠٠% يغشون فيها، ولربما تجد ١ من الألف منهم أمينًا في التجارة الفردية، فسيرة الآسيويين من الألف منهم منهم سيئة جدا في هذا الصدد على العموم يكذبون عند الكيل، ولا يهدأ لهم بال ما يغشوا قليلا وما لم ينقصوا شيئا، ويبذلون جهدهم أن ينتفعوا ولو قليلا بغش الآخرين.فلا جرم أن نموذج الأوروبيين رائع فيما يتعلق بالتجارة الفردية.أما التجارة بين الدول فتنهب فيها هذه الأمم نهبًا لا حدود له هناك أمثلة كثيرة على ذلك،

Page 378

الجزء الثامن من هناك ٣٧٤ و سورة المطففين حيث أخذوا من الدول الأخرى ملايين الملايين من المال ليصنعوا لهم المدافع وغيرها الأسلحة، ولكن المدافع والطائرات التي بعثوها لهم كانت رديئة.فلا شك أنه ليس من يباريهم أمانةً في التجارة اليومية البسيطة، ولكن فيما يتعلق بالتجارات الكبيرة فينهبون نهبا بلا حدود ويدمرون البلاد تلو البلاد، ويُقحمون السياسة في التجارة.إنها ليست تجارة، وإنما هي سياسة يستولون بها على البلدان الأخرى.مثلاً لنفترض أن (أ) (ب) بلدان أوروبيان متعاديان ، ويرى (أ) أنه لو نشبت الحرب بينه وبين (ب) فلا بد أن البلد (ج) سيساعد (ب) ، ولكن (ج) بحاجة إلى الأسلحة من (أ)، وفي هذه الحالة يخفض (أ) أسعار الأسلحة من أجل (ج) مكرًا وخداعا، ويبدي رضاه لصنع الأسلحة ولكنه لن يصنع له أي شيء في وقته إلى أن تنشب الحرب بين (أ) و (ب)، فلا يستطيع مساعدة (ب) لعدم توفر الأسلحة عنده، وقد يسحقه (أ) سحقا.وفيما يتعلق بالتجارات بين الدول فالأمم المسيحية تقوم بتطفيف هائل، وهذه السورة تتحدث عن عيبهم هذا بشكل خاص.(ج) من أجله، وهنا ينشأ سؤال آخر لا بد من الرد عليه وهو أن الله تعالى قال في الآية السابقة الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، بينما قال هنا وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُحْسَرُونَ..أعني أن الوزن قد ذُكر هنا إضافة الى الكيل، مع أن الكيل يشمل الوزن أيضا، كما ذكرنا عند شرح الكلمات، فما كانت هناك حاجة في الظاهر لإضافة روز نوهم إلى كالوهم لكون الكيل يشمل الوزن أيضا.فلو قيل: قد استُعمل الكيل هنا بمعناه الأشهر المعروف..أي الكيل بدون الوزن، فيقال في هذه الحالة كان الواجب أن يُذكر الوزن في الآية السابقة أيضا، ولكن الأمر ليس كذلك.كان المفروض أن تكون الآية السابقة هكذا: "الذين إذا اكتالوا واتزنوا على الناس يستوفون ، أو أن تكون الآية قيد التفسير خالية من الوزن هكذا: "وإذا كالوهم يخسرون".لقد أثار الزجاج هذا السؤال واكتفى بالرد عليه بقوله إن الكيل والوزن متقاربان ومتشاركان في المعنى، ولذلك اكتفى الله بذكر أحدهما لكون الآخر مفهوما تلقائيا، فالآية الأولى أيضا تعني: وإذا اكتالوا واتزنوا.

Page 379

الجزء الثامن ۳۷۵ سورة المطففين لا بأس بهذا الجواب، وهناك في القرآن الكريم أمثلة اكتفى فيها بذكر إحدى الكلمتين لكونهما متشاركتين ومتقاربتين معنى.فمثلا إذا أراد الله تعالى ذكر الحر والبرد معًا اكتفى بذكر أحدهما فقط، أو إذا أراد ذكر الشمس والقمر اكتفى بذكر الشمس فقط، لأن ذكر القمر متضمَّن في ذكرها، فصحيح أن إحدى الكلمتين المتقاربتين معنى تُترك أحيانا، ولكن هذا الجواب لا يشفي الغليل، لأن السؤال الذي يفرض نفسه هو : لماذا زاد الله تعالى هنا قوله أو وَّزَنُوهم إلى قوله كالوهم ؟ ولماذا لم يكتف بذكر الكيل فقط دون الوزن؟ الجواب أن خطر الخسارة في الكيل يكون قليلاً، ولكنه في الوزن يكون كبيرًا.يوجد في بلادنا أيضا مكاييل شتى مثل الصاع وبعض الأكواب والأواني بمقادير مختلفة، وإذا كال بها أحد ونقص الكيل، كان النقصان ضئيلا جدا، لأن الزبون يشاهد بعينه ما إذا كان البائع يملأُ المكيال جيدًا أم لا.أما الوزن فيمكن به التخسير وہ إلى حد كبير.والماهر في فن التلاعب بالميزان قد يُخسر من الكيلوغرام ربعه دون أن يدرك الزبون ذلك أنه مع يرى، أما الصاع وغيره من المكاييل فلا يمكن للبائع التلاعب فيه بحيث يخسر من الكيلوغرام ربعه.فلما كانت إمكانية التخسير بالميزان أكبر، اكتفى الله بذكر كلمة اكتالوا عند الحديث عن أخذ الأمة المسيحية حقها، ليبين أن هؤلاء القوم عندما يأخذون حقهم بالكيل فيأخذونه كاملا، وقد تضمن هذا الذكر أنهم ما داموا لا يطيقون خسارة بسيطة قد تكون بالكيل فكيف يطيقون خسارة كبيرة تكون بالوزن؟ فقال الله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ..وفُهم منه أنه كيف يمكن أن يرضى بالخسارة الكبيرة الناتجة قوم لا يرضون بالخسارة القليلة الناتجة عن الكيل؟ أما قوله تعالى في الآية التالية وإذا كالوهم - أي أعطوهم بالكيل أقل مما يستحقون – فلا يثبت منه أنه يمكن أن يسلبوا الناس أكثر، لأن أحدًا إذا ألحق بغيره ضررًا قليلا فليس فيه دليل على أنه سیلحق به ضررا أكبر أيضًا، إذ من الممكن أن يخاف مرتكب إثم صغير من ارتكاب إثم أكبر.فلأن قوله تعالى كالوهم لا يكشف حقيقة هؤلاء القوم كل الكشف، فأضاف إليه كلمة أَو وَّزَنوهم ليبين أنهم إذا قدروا على إلحاق ضرر بسيط عن الوزن

Page 380

الجزء الثامن ٣٧٦ سورة المطففين بالناس ألحقوه ولكنهم لا يتورعون عن إلحاق ضرر أفدح بهم أيضًا لو تمكنوا من ذلك.يُحْشَرُونَ يعني فقوله تعالى الَّذينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أو وزتُوهُمْ أن هؤلاء الأمم عندما يكون لهم حق على الآخرين فلا يطيقون عند استرداده أدنى خسارة، وإذا كان عليهم حق للآخرين، فيحاولون إلحاق الخسارة بهم ما أمكنهم.إذن، طبقًا للترتيب الطبيعي لهذه المعاني كان حذف (اتزنوا) بعد كلمة (اكتالوا) بليغا.أما حذف (وزنوا) بعد (كالوهم) فكان خلافا للبلاغة.أَلَا يَظُنُّ أُولَتَبِكَ أَنهُم مَّبْعُوثُونَ (5) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (3) التفسير : أي أن هذه الشعوب يعيشون اليوم معًا في أمن، ويظنون أن ليس في الدنيا قوة تستطيع أن تضرّهم شيئا، ولكن سيأتي يوم يبعثون فيه بعثا من نوع جديد.علما أن قوله تعالى اليَوْم عَظيم يمكن أن يراد به القيامة، وأيضًا الوقت الذي تظهر فيه نتائج هذه الفترة الأخيرة.والواقع أن لكل قوم فترة ولكل فترة قيامة.لقد قال البعض أن قوله تعالى لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني لحساب يوم عظيم.يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ التفسير: ليس هناك أمة ازدهرت ولم يأت يوم حسابها ولكن الغريب أن الأمم تظل غافلة عن يوم موتها وحسابها كما ينسى الأفراد موتهم.الواقع أنه ليس في الدنيا أمر يقيني وقطعي كالموت، ولكن الموت هو الذي قد نسيه الإنسان أكثر من أي شيء آخر.كل واحد يعلم أن أباه قد توفي أو جده قد توفي وأن أبا جده أيضًا قد مات، وكل إنسان يعرف كثيرًا من أقاربه قد ماتوا، وأن الباقين أيضا سيموتون في يوم من الأيام، ومع ذلك ينسى الموت أكثر الموت أكثر من أي شيء آخر.ومن الغريب أيضًا أن كل أمة في الماضى فنيت وبادت، والأمم الموجودة اليوم أيضا ستفنى غدا،

Page 381

الجزء الثامن ومع ۳۷۷ سورة المطففين ذلك تظل الأمم غافلة عن الموت أكثر من أي شيء آخر.لقد ركز القرآن الكريم على هذا الأمر تركيزًا كبيرًا، وقال مرارا وتكرارا هل هناك أمة نجت من الموت؟ لو قمنا بالتحقيق من الناحية التاريخية لوجدنا أن ألف أمة على الأقل في التاريخ قد نالت من الغلبة ما جعل الناس يظنون أنها لن تُهزم أبدًا.كما ظنت هذه الأمم المنتصرة نفسها بسبب كبريائها أن الأمم السابقة تعرضت للانحطاط بعد الرقي ووقعت في الحضيض بعد العزّ، أما نحن فلا زوال لنا بعد هذا التقدم ولكن ما حصل هو أن هذه الأمم المنتصرة دُمِّرت وبادت وانمحت في الأخير، ولم يبق لهم اسم ولا أثر في العالم.لذلك يقول الله تعالى هنا ألا يظن هؤلاء الأمم الغربية - الذين لا يرتدعون عن ظلم الناس، بل يصبون عليهم ظلما بعد ظلم، ويسلبون حقوق العباد باستمرار - أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين؟! أي ألم يفكروا أنهم سيُبعثون ليوم عظيم يومَ يُعرَضون على رب العالمين؟! وكأنه تعالى يقول : ألم يكن الآسيويون عبادا لي؟ ألم يكن الأفارقة عبادا لي؟ فلماذا صبّوا صبا ؟ فيوم فيوم يأتى الله البعث هذا فإن يوم رب العالمين سيجعل هؤلاء الكبار صغارا والصغار كبارا.وقد أُشير إلى ذلك أيضا في قوله تعالى ﴿إِذَا بُعْثَرَ مَا في الْقُبُور (العاديات:١٠).والبعثرة تعني قلب الأرض وجَعل عاليها سافلها، فالمراد أن الله تعالى سيبعثر يومئذ هذه الشعوب الحاكمة ويحرمها من عروشها، ويرفع الشعوب المقهورة على كرسي الحكم الواقع أن ازدهار الأمم وزوالها ظاهرة دوريّة؛ مثلها كمثل أخوين يتصارعان دومًا، فيصعد أحدهما على صدر الآخر..وعندما يرى أبواهما أن هذا لا ينزل عن صدر أخيه يجرّان ،رجله فيصعد الآخر على صدره.كذلك فإن الله تعالى حين يرى الملك عليهم الظلم أمةً تستغل غلبتها استغلالا مشينا، فإنه يجرها من فوق كرسي الحكم ويضع زمام في أيدي الشعوب المقهورة.لقد كانت في الدنيا شعوب طالت غلبتهم كثيرًا، أما المسيحية فلم تمض على غلبتها إلا ثلاثة قرون فقط، بينما استمرت غلبة المسلمين ألف سنة، ومع ذلك قد أصابهم الانحطاط في الأخير.ولذلك يقول الله تعالى لماذا لا يفكر هؤلاء القوم أن هناك بعثا لهم وسيأتي عليهم يوم يحاسبون فيه على ما

Page 382

الجزء الثامن ۳۷۸ سورة المطففين يفعلون.لقد استعملت هنا كلمة (يُبْعَثُونَ لأنه إذا جاء يوم بعث قوم فلا تظهر فيه نتيجة أعمال الأفراد فحسب، بل تظهر نتائج أعمال آبائهم أيضا.عندما تقوم أمة ضد أمة ، فلا تحاسب الأمة المغلوبة على أعمالها فحسب، بل ينتقم منها بسبب تصرفات آبائها أيضا، وكأن أفراد تلك الأمة كلها يُبعثون عندها ليقدموا حساب أعمالهم.فالواقع أن قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ إشارة إلى قوله يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ؛ حيث أخبر الله تعالى أن هذه الشعوب المسيحية الغربية تفرّق اليوم بين شرقي وغربي وأسود وأبيض وآسيوي وأوروبي، ولكن سيأتي يوم يقومون فيه للحساب أمام ربهم الذي هو رب العالمين، فيسألهم عن فظائعهم ويقول: لماذا أهنتم هؤلاء الناس واحتقر تموهم؟ ولماذا جعلتموهم مغلوبين مقهورين؟ إن الله ليس رب شعب معين، بل هو رب العالمين.إنه رب الآسيويين والأفارقة، ورب الصينيين ورب اليابانيين، ورب الإنجليز ورب الأمريكان أيضا، فلا يفرح أن يكون عباده تحت حكم أحد إلا الذي يتحلى بصفة الله رب العالمين، ويكون مظهرا كاملا لربوبيته سبحانه وتعالى.لا شك أن الحكومات المؤقتة قامت في الدنيا وزالت بعد فترات قصيرة، ولكن لا يحكم العالم على أسس دائمة إلا الذين لا يطالبون الناس بأكثر من حقوقهم كما يقولون للناس إن هذا الحكم ليس لنا بل هو حكمكم أنتم إن الأمة التي تهبّ في الدنيا بعاطفة خدمة الناس ولا تطالب بأكثر من حقوقها هي التي ستكتب لها الحياة الأبدية، ولا يحتاج الناس إلى التمرد عليها.لا يعني الحساب الإلهي أن الله تعالى يحاسب الناس مباشرة في الدنيا، بل الحق أنه سيتولى بنفسه حساب الناس يوم القيامة، أما في الدنيا فيقيم فردًا أو أمة الناس لحسابهم، وهذا يكون بمنزلة الحساب من عنده تعالى.من بين

Page 383

الجزء الثامن ۳۷۹ سورة المطففين وو كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِينِ (3) وَمَا أَدْرَنكَ مَا سِحِينٌ كِتَبٌ مَّرْقُومٌ.شرح الكلمات: سجين: السجين: الدائم؛ الشديد.(الأقرب) وقال البعض لا معنى نونًا للسجين لأنه لفظ غير عربي أصله سجل وقد يُدلّ تنوينه كما قال الله تعالى في موضع آخر كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب (الأنبياء: ١٠٥)، ومعناه الكتابة؛ أو أن أصله سجيل، وهو الحجارة غير المنحوتة، كما في قوله تعالى ترميهم بحجارة من سجيل ) (روح المعاني، وفتح البيان) ولكن استدلالهم هذا غير سليم، لأن العلماء الكبار كأمثال الفراء والزجاج وأبي عبيدة قد بينوا معاني كلمة السجين فكيف يا ترى بينوا معنى كلمة هي عربية أصلاً، ثم دعموا هذه المعاني بضرب أمثلة من الشعر القديم.(روح المعاني، والقرطبي) لیست وبالفحص والإمعان نجد مشتقات أخرى من حروف (س) ج ن التي منها اشتُقَّ السجين؛ فيقال: سجنه سجنًا: حبسه في سجن، وسجن الهم: أضمره..أخفاه (الأقرب).فما دامت هناك مشتقات أخرى للسجين وما دام علماء العربية قالوا إن معناها الدائم أو الشديد فالقول أنها ليست بكلمة عربية، بل هي أعجمية ضُمت إلى العربية لقول باطل لا أساس له.الحقيقة أن هذا خطأ من بعض المفسرين العرب، فعندما يرون كلمة لا تُستعمل في العربية عادة يظنون أنها غير عربية، مع أنها تكون عربية عند علماء اللغة الآخرين.وقد استغل المسيحيون خطأهم هذا في هذه الأيام وراحوا يطعنون في القرآن الكريم بأن فيه كلمات غير عربية، وبالتالي باطل دعوى القرآن أنه عَرَبِي مُبِينٌ.والحق أن طعنهم خلاف للعقل تماما حتى ولو سلمنا جدلاً بوجود كلمات أجنبية في القرآن كما زعم بعض المفسرين؛ إذ ليست في الدنيا لغة تخلو تماما من كلمات

Page 384

الجزء الثامن سورة المطففين اللغات الأخرى.نعم، قد تخلو فقرة صغيرة من لغة ما كلمة أجنبية، إلا أنه فيما من يتعلق بالعبارات الطويلة فليس هناك لغة في هذا العصر إلا وتوجد في عباراتها الطويلة كلمات أجنبية.ففي التوراة كلمات لغات أخرى أيضا، وفي "الفيدا" من لغات أجنبية.هناك في التاريخ مثال واحد فقط كتاب الهندوس كلمات من لشخص ادعى عدم استعماله كلمة من لغة غير لغته في كتابه وكان أديبا فذا وعالما شهيرا، ولكنه أيضا لم يستطع ذلك رغم أنه بذل كل ما في وسعه، فاضطر لاستعمال عشرات الكلمات الأجنبية، أعني الشاعر الفارسي فردوسي، الذي ادعى أنه سيكتب كتابه الشهير "شاه "نامه باللغة الفارسية الخالصة، ولكنه فشل في ذلك، إذ توجد في كتابه هذا عشرات الكلمات الأجنبية؛ بعضها من الفارسية الجديدة، وبعضها عربية، وبعضها من لغات أخرى.الواقع أن من المستحيل أن تتطور أي لغة ولا أن تتحضر ما لم يختلط بها كلمات من لغات أخرى لكثرة اختلاط الناس، بل الحق أن بعض أهل اللغة يتوقون لنقل كلمة معينة إلى لغتهم، فتصبح جزءاً من لغتهم بالتدريج.فمثلا هناك كلمة (pukka) تُستعمل في اللغة الإنجليزية مع أنها كلمة أردية (يكا..أي الناضج الصَّلْب القوي)، قد أُعجب الإنجليز بها لكثرة اختلاطهم بالناطقين بالأردية، فضموها إلى لغتهم وهي موجودة في قواميسهم حيث ورد في شرحها أنها كلمة أردية نُقلت إلى الإنجليزية.ومثاله الآخر كلمة (بكواس) الأردية، فهي الأخرى قد أعجبت الإنجليز، فإذا غضب أحدهم على الآخر قال له: (don't buck)..أي اخرس ولا تهذ.وهناك مئات الكلمات المنقولة إلى الإنجليزية من العربية أو الأردية، فمثلا إن كلمة (admiral صورة مشوهة للكلمة العربية أمير البحر، فقد أخذ الإنجليز كلمة الأمير (admiral وتركوا كلمة البحر.فالواقع أن في كل لغة لغات أخرى، ولكن لا يقال إنها ليست من من اللغة التي نُقلت إليها، كلا بل إنها تصبح جز من اللغة الثانية وتُعتبر منها لكثرة تداولها.فمثلا إذا استخدم أحدنا في الأردية كلمة إنجليزية متداولة بكثرة، فلا نقول إن لغته قد فسدت باستعماله هذه الكلمة الإنجليزية خلال الكلام بل نقول إنه يتكلم باللغة الأردية كلمات

Page 385

الجزء الثامن ۳۸۱ سورة المطففين الكلمات الفصيحة.نعم، لو أكثر المرء استعمال المفردات الأجنبية خاصة غير المتداولة منها فهذا محل اعتراض بلا شك.إن العربية أم الألسنة، ولذلك توجد كثير من العربية في اللغات الأخرى.كما أن كثرة اختلاط الناس فيما بينهم تعمل على نقل كلمات أو ألفاظ من كل لغة إلى أخرى، والعربية ليست مستثناة هذه القاعدة؛ من فإذا وجدت كلمة أجنبية في العربية فاستعمالها لن يجعل العربية غير فصيحة، كما لن يُعتبر الكلام الذي وردت فيه هذه الكلمة الأجنبية كلاما غير عربي.إن شكسبير مثلاً أديب إنجليزي شهير وقد وردت في كتبه كلمات فرنسية كثيرة، فهل يجيز لنا هذا أن نقول إن لغته غير فصيحة.وبالمثل لو استخدم القرآن كلمة أجنبية قد استعملها العرب واستحسنوها، فهذا لا يقدح في كونه قرآنا عربيا.الواقع أن هذا الاعتراض مثال واضح للمعارضة الجنونية.لقد أثار بعض المنافقين في القديم هذا الاعتراض على القرآن الكريم، فراح المستشرقون يرددونه قائلين إن ادعاء القرآن أنه نزل بالعربية باطل لأن فيه كلمات غير عربية؛ ثم يقدم هؤلاء قائمة بهذه الكلمات.لا شك أن بعض هذه الكلمات ليست عربية ككلمة التوراة، فإنها ليست كلمة عربية.كما لا يمكن لمسلم أن يدعي أن كلمة جبريل عربية.لا شك أنها بشكلها الحالي ليست عربية.كذلك الحال لكلمات ميكائيل، وإسحاق، أو وهي صورة معدّلة للكلمة الإنجليزية (JESUS) فإننا لا ننكر أنها كلمات غير عربية، بل نقرّ أن في القرآن الكريم كلمات أجنبية؛ فإذا كان هؤلاء الطاعنون يبحثون في القرآن عن مثل هذه الكلمات ظانين أنهم يستطيعون بها الهجوم على القرآن والإسلام فإنهم يهدرون وقتهم في الحقيقة.وإذا كنا نستنكر ما يقولون، فإنما هو أن هناك كلمات عربية ولكنهم يعدّونها غير عربية على سبيل الإجحاف دونما دليل نحن لا نقول أنه لا يوجد في القرآن الكريم أي كلمة غير عربية، إنما نتضايق من قولهم لأنهم يكذبون أو يبالغون أشد المبالغة في محاولتهم لأن يعتبروا الكلمات العربية أجنبية.هذا ما نعترض عليه وإلا فنحن نقرّ أن في القرآن من لغات أخرى أيضا، وهذا ليس محل اعتراض عندنا بحال من الأحوال.فمن الكلمات التي يعتبرونها أجنبية إجحافًا وتحكمًا كلمة سجيل، مع أنها كلمة عیسی كلمات

Page 386

الجزء الثامن ۳۸۲ سورة المطففين عربية عندنا، ولكنهم يعتبرونها غير عربية دونما دليل وهذا ما نعترض عليه، وإلا فلو ثبت أن في القرآن ٥٠٠ لفظ أجنبي، ناهيك عن لفظ واحد، فسوف نقول: لا حرج في ذلك، لأن العرب ما داموا قد ضموا هذه الكلمات إلى لغتهم واستعملوها بكثرة، فوجودها في العربية بعد ذلك ليس محل اعتراض إطلاقا.فعلى سبيل المثال يذهب أحدنا إلى محطة القطار ويطلب من المسؤول التذكرة قائلا: أعطني تكت (TICKET)، أو يذهب بعضنا إلى المكتبة ويطلب من صاحبها قلما سائلا فيقول: أعطني فونتن بن (FOUNTAIN PEN).فكلمة "تكت" أو "فونتن بن" ليست أردية، ذلك عندما يتكلم بها أحدنا يفهم الجميع أنه يتكلم الأردية وليس لغة أخرى.إذن، فاستعمال الكلمات الأجنبية التي تلقى الرواج في لغة ما ليس محل اعتراض أبدا.كذلك الحال للكلمات الاصطلاحية، أو التي تكون ضرورية لإقامة الحجة على الآخرين، فاستعمالها في صورتها الأصلية ليس موضع اعتراض أبدا.ثم إن ذكر الأسماء الأجنبية بلغتها الأصلية ليس موضع طعن قطعا.فمثلا إذا كان اسم شخص كريشن" جند"، فلن نذكر اسمه في لغة أخرى مترجما، بل نذكره كما ومع هندوسي هو ولن نبالي بأنها كلمة أجنبية، ولن يقال بأننا نتحدث بلغة أخرى.إذن فهذا الاعتراض الذي يثار ضد القرآن الكريم لغو وباطل كلية، ولا سيما اعتراضهم على كلمة (سجيل)، فهو خطأ فاحش.فإنها كلمة عربية، وهي موجودة في القواميس، وتوجد لها اشتقاقات أخرى في العربية.إني لم أجد فرصة للبحث والتحقيق، وإلا فقد نجد إثبات ذلك في الاشتقاق الكبير.وعلى كل، فإن اعتبار كلمة (سجيل) غير عربية قول باطل تماما.مرقوم: رقم الكتاب: أعجمه وبينه (أي شكله بالحركات).ورقم الثوبَ: خططه -O الله وأعلمه.وفلان يرقم في الماء: يُضرب مثلاً للحذق في الأمور (الأقرب).وقال الضحاك: (مرقوم مختوم في لغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة.(فتح البيان) التفسير : لقد أثار البعض هنا اعتراضا على كون كتاب الفجار في كتاب مرقوم، حيث أخبر الله تعالى أولاً أن كتاب الفجار في سجين، ثم فستر سجين بأنه

Page 387

الجزء الثامن ۳۸۳ سورة المطففين هذه معنی كتاب مرقوم؛ فكأنه قيل: إن كتاب الفجار في كتاب مرقوم.فقالوا: ما الجملة الغريبة؟ إنها غير مفهومة.لقد أورد الزمخشري هذا السؤال في تفسيره ثم قال في الجواب: إن السجين كتاب جامع، هو ديوان الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة والمنافقين والفجار، وهو كتاب مسطور بين الكتابة، فالمعنى أن ما كُتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان (الكشاف).فكأنه يعتبر كتاب الفجار بابا من ذلك الديوان الذي يسمى سجينًا.ريد و وقال الواحدي : كتاب مرقوم ليس تفسيرًا للسجين، لأن السجين ليس من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين، بل إن كتاب مرقوم) بيان لما ذكر في قوله تعالى إنَّ كتَابَ الْفُجَّار، والتقدير : إن كتاب الفجار هو كتاب مرقوم.(فتح البيان).كأنه يعتبر قوله تعالى الفي سجِّين ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَجِّين جملة اعتراضية، والجملة الأصلية هي إن كتاب الفجار كتاب مرقوم".ولكن هذا غير صحيح، لأن (سجين) في هذه الحالة سيظل بلا تفسير، وهذا خلاف لأسلوب القرآن الكريم.وأما آراء المفسرين في معنى سجين فهي كالآتي: قال أحدهم: في قوله تعالى كَلاً إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّار لفي سجين، السجين صخرة كبيرة تحت الأرض السابعة، تُقلب فيجعل تحتها كتاب الفجار.الملائكة هذه وقال غيره : السجين ليس صخرة، بل هو خدّ إبليس.فكلما مات كافر صعدت بروحه إلى السماء، فتأبى أهل السماء ،قبولها فيترلون بها إلى أسفل الأرض حيث السجين وهو خدُّ إبليس، فيُوضع كتابه تحت خده المنتفخ بسبب السجلات الكثيرة.فكلما جاءته روح كافر أخذ سجل أعماله وضمه إلى القائمة الموضوعة تحت خده ويستلقي مرة أخرى.(فتح البيان) هناك روايات سخيفة أخرى ذكرها أصحاب التفاسير.يبدو أن اليهود كانوا يحكونها لبعض المسلمين السذج الذين كانوا بدورهم يذكرونها للآخرين حتى إن بعض المفسرين سجلوها في تفاسيرهم.اليهود أعداء ألداء للإسلام ولا يصح أبدًا

Page 388

الجزء الثامن اليهود ظَنَّا منه ٣٨٤ يوجد سورة المطففين سؤالهم عن معنى آية من القرآن الكريم، ومع ذلك كان هؤلاء السذج يذهبون إليهم ويسألونهم عن معانيها، فكانوا يحكون لهم على سبيل السخرية أقوالا سخيفة لا أساس لها.وفي التفاسير روايات مماثلة كثيرة ولكن لا أثر لها حتى في كتب اليهود، غير أن بعضها مسجلة في كتبهم؛ وهذا يعني أن بعض اليهود كانوا أمناء، فرووا للمسلمين ما في كتبهم كما هو، ولكن بعضهم كانوا يحكون للمسلمين الأباطيل، فكانوا الجهلهم يظنون أن هذا هو تفسير آيات القرآن.وقد ذكر "ابن كثير" أمرًا لطيفا جدا بصدد هذه الروايات معلقًا على رواية كهذه فقال: إن هذه الرواية تماثل بعض الإسرائيليات المروية عن ابن عباس فكان ابن عباس يسأل أنهم سيقولون ما عندهم، وكان يصدق ما يقولون لحسن ظنه بهم.وكما قلت إن قوله هذا أعجبني جدًّا، إذ ألقى الضوء على هذه المسألة بكل جرأة وبسالة.والحق أن الروايات الموجودة في التفاسير بصدد (سجين) هي مما لا له أثر حتى في الكتب اليهودية.العجيب أن الله تعالى قد صرح هنا أن السجين كتاب مرقوم، ولكن بعض المفسرين يقولون إن السجين صخرة تحت الأرض السابعة، أو هو خدّ الشيطان.لو لم يذكر الله تعالى هنا شيئا، لجاز لهم أن يقولوا ما يحلو لهم، ولكن إذا كان الله تعالى قد بين معنى السجين، فمن خطئهم الفاحش أن يفسروه بخلاف ما قد بينه الله في القرآن الكريم، خاصة وإن معنى السجين موجود في القواميس وكذلك الكتاب أيضًا؛ إذ ورد في شرح السجين: الدائم والشديد.أما الكتاب فمن معانيه : ما يُكتب فيه، والدواة، والتوراة؛ والصحيفة؛ والفرض والحكم والقدر.وفي "المصباح" : يطلق الكتاب على المنزل الأقرب).وعليه فقوله تعالى ﴿إِنَّ كتَابَ الْفُجَّار لَفى يعني أن حكمنا في الفجار موجود في كتاب اسمه سجين.تسمى الكتب في الدنيا بأسماء مختلفة ويخبرنا الله تعالى أن السجل الذي ورد فيه ذكر الفجار اسمه سجين..بمعنى أن سجل أعمال الفجار يكون مكتوبا على رأسه أن هؤلاء هم قوم سيعاملون معاملة شديدة دائمة، ذلك لأن من معاني (السجين) الدائم والشديد.سجين معنی

Page 389

الجزء الثامن ٣٨٥ سورة المطففين كِتَابٌ ولو اعتبرنا الكتاب هنا بمعنى القدر، فالمراد من الآية أن قدرهم الخاص يكون في سجين، أي في حالة دوام وشدة.ثم قال تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَجِّين مَرْقُومٌ..أي أنه قدرٌ لا راد له.فقوله تعالى: (إِنَّ كِتَابَ الْفُكَّارِ لَفِي سِجِّين يعني الله في حقهم، أو قدر الله في حقهم، أن قضاء الله في حق الفجار، أو حكم لفي سجين..أي في سجل فيه ذكرُ قوم عذابهم دائم وشديد.فلو أخذنا هذه المعاني الواردة في القواميس فلا تبقى هنالك أي حاجة للقول إن خد الشيطان يُشَقِّ ليوضع فيه سجل أعمال الكفار..أو لن نكون بحاجة لأن نبحث عن صخرة تحت الأرض حيث أعمال الكفار.هذه الأقوال كلها لغو وعبث.هما من لقد نُسب إلى قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب أنهم قالوا: السجين صخرة تحت الأرض السابعة، فتزاح ليوضع تحتها كتاب الفجار! ويقولون أن هناك حذف مضاف تقديره : السجين مَحَل كتاب مرقوم..أي السجين محل سجل أعمال الكفار.أما أبو عبيدة والمبرد وهما من كبار الأدباء والأخفش والزجاج و كبار النحويين، فقد فسروا قوله تعالى لفي سجين) أي لفي حبس وضيق شديد، حيث قالوا: قد جعل ذلك دليلا على خساسة منزلتهم (القرطبي).وفي هذه الحالة يعتبر كتابٌ مَرْقُومٌ صفةً لسجين..أي أن مقام الشدة والحبس هذا في کتاب مرقوم..أي أنه قدرٌ لا يُرَد.أرى أن المعنى الواضح البين لهذه الآية أن قضاء الفجار في سجين وهو قدر محتوم، و ان أو المعنى أن السجين قرار هو كتاب مرقوم، أي حُكم لا يُرَدِّ، أو قدرٌ لا يُردّ.ومفهوم هذه الآية هو أن الأمة المسيحية التي تتحدث عنها هذه السورة لن تسيء إلى الآخرين في المعاملات فحسب، بل سينتشر بينها الفجور أيضا، وذلك لأنه إذا كثرت سيئة في قوم سُمّوا بها.فباستعمال كلمة (الفجار) قد بين الله تعالى أن هؤلاء القوم لن يكون فيهم عيب ظلم الشعوب الأخرى فحسب، بل ستكون بينهم عيوب أخرى كالفسق والفجور، وأن القرار الذي سيؤخذ بشأنهم سيكون شديدًا وذا صبغة دائمة..أي كما كانت معاملتهم مع الأمم الأخرى قاسية

Page 390

الجزء الثامن ٣٨٦ سورة المطففين شديدة ودائمة، وانتصارهم ونجاحهم دائمين كذلك تكون المعاملة الإلهية معهم ودائمة.ولهذه الآية معنى آخر أيضًا لم يفطن إليه المفسرون وهو أن القرآن الكريم جزءان؛ جزء إنذاري وجزء تبشيري، فبعض القرآن يشتمل على ذكر هلاك أعداء الحق ودمارهم، وبعضه يتحدث عما قدر للمؤمنين من رقي ورحمة وبركة من الله تعالى، وكلمتا سجين وعليين اسمان لهذين القسمين من القرآن، فالعليون قسم من القرآن فيه ذكر المؤمنون، والسجين قسم منه يحتوي على ذكر الكافرين.وعليه فقوله تعالى إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّين يمكن أن يفسر بمعنى لطيف للغاية، وهو: كيف يمكن أن لا يهلك هؤلاء القوم في حين أن قرار هلاكهم مسجل في ذلك القسم من القرآن الذي يشمل أنباء عن الدمار الذي سيقع في المستقبل، بما فيها نبأ هلاكهم أيضا؟ علما أن الضحاك قال إن المرقوم هو المختوم في لغة حمير، وهذا المعنى ينطبق هنا كل الانطباق، لأن كتاب مختوم هو ما لا يتبدل، وقراره نهائي وقطعي غير قابل للتغيير فكأن هذا الكتاب خاتم الكتب.وهذه الميزة لا توجد في غير القرآن الكريم.لو كانت هذه القرارات مذكورة في كتاب سينسخ مستقبلا لقيل ما دام هذا الكتاب سينسخ مستقبلا، فما الخوف من قراراته؟ ولكن الله تعالى يخبر أن هذا السجين كتاب مرقوم..أي أن هذه القرارات مسجلة كتاب لا تبديل ،له فقراراته حتمية نهائية.وفي هذه الحالة سيعني الكتاب في قوله تعالى كتابَ الْفُجَّار الحكم، والمراد أن حُكم هؤلاء الفجار في سجين، أي موجود في القسم الإنذاري من القرآن الكريم، وسيكون لفظ عليين بمعنى القسم التبشيري من القرآن حيث ذكر رقي المؤمنين.في إذن، فهذا المعنى لطيف وواضح جدا وينطبق هنا بكل روعة، لأن رسول الله ﷺ كما هو خاتم النبيين، كذلك فإن القرآن خاتم الكتب وقراراته قطعية لا تبديل لها، سواء كانت تتعلق بدمار الكفار أو رقي المؤمنين.

Page 391

الجزء الثامن ۳۸۷ سورة المطففين هناك أمر لطيف آخر جدير بالتذكر هنا، وهو أن كلمة (ما أدراك) وكلمة (ما يدريك) بمعنى واحد في اللغة العربية، أي ما تدري ولكن التدبر في القرآن يكشف لنا أنه قد فرّق بين الكلمتين.وردت كلمة (ما أدراك في القرآن في ۱۲ موضعا، أما (وما يدريك) ففي ٣ مواضع.لقد وردت ما أدراك) في الآيات التالية: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) (الحاقة: ٤) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ﴾ (المدثر : ۲۸) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْل ) (المرسلات: (١٥) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين ) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين) (الانفطار (۱۸-۱۹) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سجين (المطففين: ٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عَلِّيُّونَ) (المطففين: ٢٠) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (الطارق : ٣) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾ (البلد: ۱۳) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (القدر: ٣) مَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ﴾ (القارعة : ٤ ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هيَة (القارعة: ١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ)) (الهمزة : ٦) وأما (وما يدريك) فوردت في الآيات التالية: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا )) (الأحزاب: ٦٤) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَريب (الشورى: ۱۸) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (عبس: ٤) ونرى في هذه الأماكن كلها أنه قد جاء بعد ما أدراك) اسم دائما، أما (ما يدريك) فقد أُشير بعدها إلى فعل أو حادث.والفرق الآخر أنه حيثما قال الله تعالى (ما أدراك قد أجاب بعدها عن سؤال، أما (وما يدريك) فوردت بعدها لعل، وتُركَ الجواب مبهما يحتمل وجوها.

Page 392

الجزء الثامن ۳۸۸ سورة المطففين فمثلا قال الله تعالى في سورة الحاقة: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَة فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلَكُوا بالطَّاغية ) وَأَمَّا عَادٌ فَأَهْلِكُوا بربح صَرْصَرٍ عَاتية (الآيات : ٤ - ٧).فترى أن الحديث في هذه الآيات وما بعدها عن أمم تعرضت للعذاب كقوم فرعون وثمود ،وغيرهم وهكذا بين الله تعالى أن المراد من الحاقة ذلك العذاب الحاسم الذي لم تستطع هذه الأمم القوية ردَّه رغم محاولاتها المستميتة.أما سورة المدثر فقال الله فيها: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ) لا تُبقي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ * للْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَة (الآيات: ۲۸-۳۱).فجاء بعد سقر بتفسيرها بأنها نار لا تبقي ولا تذر الإنسان، وعليها تسعة عشر ملكًا.سر برید وقال الله تعالى في سورة المرسلات: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِدْ للْمُكَذِّبِينَ..هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ﴿ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذ للْمُكَذِّينَ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ) (الآيات: ١٥-٣٩).فهنا قد أجاب جوابا طويلا فصل فيه يوم الفصل، والمراد من المكذبين من يكذبون بعذاب الله تعالى.° ثم قال الله تعالى في سورة الانفطار: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ....يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِد الله (الآيات: ۱۸-۲۰)، وهنا أيضا فسّر يوم الدين.وقال الله تعالى في سورة المطففين: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَجِّين » كِتَابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِد للْمُكَذِّبِينَ) (المطففين: ٩-١١).فهنا فسر السجين بأنه كتاب أي حكم لا يبدل.ثم قال الله تعالى في هذه السورة نفسها : وَمَا أَدْرَاكَ مَا عَلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ (الآيات: ۲۰-۲۲)..فبين أن عليون فبين أن عليون هو حكم قطعي لا بد أن ينفذ وسيراه المقربون.وكأن سجين قضاء سيبكي الكافرون برؤيته، ود و عليون قضاء يتوق إليه المؤمنون برؤيته.

Page 393

الجزء الثامن ۳۸۹ سورة المطففين النَّجْمُ ثم قال الله تعالى في سورة الطارق وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ الثاقب (الآيتان: ٣-٤).ثم قال الله تعالى في سورة البلد: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَتْ رَقَبَة أَوْ إِطْعَام في يَوْمِ ذِي مَسْغَبَة ( يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةِ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةِ (البلد: ۱۳-۱۷).فبين هنا أن المراد من العقبة تحرير العبد أو إطعام الأيتام والمساكين.كذلك قال الله تعالى في سورة القدر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ منْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (الآيات: ٣-٦).فهنا بين أهمية ليلة القدر وعظمتها.وكذلك قال الله تعالى في سورة القارعة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (الآيات: ٤-٦).فبين هنا أن المراد من القارعة هنا حادثة عظيمة.وقال الله تعالى في سورة القارعة نفسها: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هي - نار حامية (الآيتان: ۱۱-۱۲).فهنا فسّر الهاوية بأنها نار مضطرمة.وقال الله تعالى في سورة الهمزة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ) نَارُ الله الْمُوقَدَةُ الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَة (الآيات : ٦-٨).ففسر الحطمة بأنها نار.إذن، فحيثما قال الله في القرآن وَمَا أَدْرَاكَ أجاب بعدها على سؤال دائمًا، وحيثما قال تعالى ﴿وَمَا يُدْرِيكَ بدأ الحديث بعدها بلعلّ وترك الجواب مبهما.وفيما يلي أمثلة (وما يدريك): وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) (الأحزاب : ٦٤) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَريبٌ) (الشورى: ۱۸) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) (عبس: ٤) هذا الفرق بين استعمال (وما أدراك و ما يدريك لدليل ساطع على فصاحة القرآن الكريم.لا شك أنه لا فرق بين التعبيرين لغةً، إذ معناهما ما تدري ولكن السؤال هو : لماذا أشار القرآن في أحدهما إلى عدم علم الناس بشيء ثم زوّدهم بعلمه، وفي التعبير الثاني أشار إلى عدم علمهم بشيء دون أن يُزيل الإبهام بشأنه.

Page 394

الجزء الثامن ۳۹۰ سورة المطففين والجواب: قوله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ ماض، وقوله تعالى ﴿وَمَا يُدْرِيكَ مضارع، ورغم أن المعاجم لا تفرّق عادة بين التعبيرين من حيث المعنى، إلا أن القرآن قد فرق بين (أدرى) و(يدري)؛ وذلك لأن الماضي يدل على اليقين، إذ إن ما حصل ووقع فلا شك في كونه قطعيًا ويقينيا، أما المضارع فيدل على التوقع فحسب.فالله تعالى قد استخدم تعبير وَمَا أَدْرَاكَ قبل الأمر الذي أراد تبيانه، لأن الماضي يدل على القطع واليقين، بينما استخدم تعبير وَمَا يُدْرِيكَ قبل ما أراد أن يظل مبهما لبعض الوقت، لأن في المضارع دلالة مبهمة غير يقينية حيث يفيد الظن فحسب؛ فمثلا عندما نقول: هو يذهب فليس هذا بخبر يقين إذ لا ندري أيذهب أم يموت أو يمرض أو يسجن.وهكذا قد راعى الله تعالى بين التعبيرين فرقًا دقيقا لطيفا يلاحظه الأدباء من قبل.وَيْلٌ يَوْمَيذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ : الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (3) ۱۲ التفسير : هذه الآية إشارة إلى قوله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين الوارد في السورة السابقة، حيث نبه الله هنا أن المرء يجرؤ عادة على ارتكاب هذا الظلم نتيجة عدم اكتراثه لعاقبة أمره أو إنكاره لها.فإذا ظن المرء أنه لن تترتب أية نتيجة على سيئاته، فإنه يقدم المنفعة العاجلة ويزداد شرا على الدوام.لو أن كل فرد وشعب تذكر مصيره لم يقع في هذا الظلم قط، ولكن الأسف أن الدنيا لا تنتفع من هذه العبرة اليقينية فيهلك الأفراد بتصرفاتهم الخاطئة وتدمّر الأمم نتيجة أعمالها السيئة.إنّ مشاهد هلاك السابقين تكون ماثلة أمام أعينهم، ومع ذلك لا يعتبرون بها، فيهلكون أفرادا وأمما مرة بعد أخرى.كنا نقرأ في القصص أن هناك جبلاً مغناطيسيا في البحار، وكلما اقتربت منه سفينة لم تقاومه وانجذبت إليه بشدة وتحطمت فيبدو أن عادة تكذيب يوم الدين ونسيان العاقبة أصبحت كهذا الجبل المغناطيسي الأسطوري، فلا تقدر سفينة الحياة الفردية أو القومية على مقاومته، بل لا بد أن تنجذب إليه وتتحطم أخيرا.لم

Page 395

الجزء الثامن ۳۹۱ سورة المطففين الحقيقة أن من التدبير الإلهي لهلاك الظالمين أنهم ينسون يوم الدين، وبالتالي يزدادون ظلما، فيتحطمون بصخرة الظلم هذه ويهلكون في نهاية المطاف.لقد جعل الله الكافر في قلبه وعقله ومنها تتهيّأ أسباب هلاكه في النهاية.تعالى جحيم شرح الكلمات: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) ءَ معتد: اعتدى عليه اعتداء: ظلمه.(الأقرب) أثيم: أَثْمَ: عَمِلَ ما لا يحلّ.وأتمت الناقةُ المشي إنّما أبطأت (الأقرب).وهذا يعني أن لفظ الإثم في أصله يدل على النقصان ولفظ الاعتداء يدل على الزيادة.التفسير أي إن ما قلنا عن مصير المكذبين بالدين ليس ظلمًا من جانبنا، لأن نسيان يوم الدين لا يحدث صدفةً؛ ثم إننا لم نقصر في تحذيرهم من نتائج أعمالهم، بل أخبرناهم بذلك جيدًا، فإنهم يعلمون أن عواقب تصرفاتهم ستكون وخيمة؛ ومع ذلك ينسون يوم الدين.وهذا يرجع إلى سببين الاعتداء والإثم..أي يفعل المرء ما : يجب أن لا يفعله، ويهمل ما يجب أن لا يهمله، لأن المعتدي هو من يفعل ما لا يحلّ له، والأثيم من لا يفعل ما يجب عليه فعله.لا شك أن المعنى المعروف للإثم هو الذنب، ولكن إذا وردت كلمة مقابل كلمة أخرى أفادت معناه الخاص عند وضع اللغة.فلو أن كلمة (معتد) وردت هنا وحدها لجاز لنا تفسيرها بمعناه المعروف وهو " الأثيم"، سواء كان هذا الإثم نتيجة زيادة أو تقصير في عمل ما، كذلك لو أن كلمة أثيم وردت هنا وحدها لفسرناها وحدها لفسرناها بمعنى الذنب سواء كان نتيجة زيادة أو تقصير؛ ولكن هاتين الكلمتين قد وردتا في هذه الآية معًا، فلا بد أن نفسرهما بمفهومين متباينين كالآتي: الإثم يدل على النقصان والاعتداء على الزيادة، حيث بين الله هنا أن المرء يكذب بيوم الدين دائمًا إما نتيجة اعتدائه وإما نتيجة إثمه، إذ يرتكب ذنبًا، ثم يخاف أن يؤخذ أو يُفتضح، فيدفعه الخوف إلى خطوة تالية،

Page 396

الجزء الثامن ۳۹۲ سورة المطففين فيحاول أن ينسى مصيره فرارًا من وخز الضمير.فكأن التكذيب بيوم الدين حمر تسكر المرء وتجعله غير مبال بمصيره كما قال الشاعر غالب بالأردية: مےسےغرض نشاط ھےکس روسیاہ کو اک گونه بیخودی مجھے دن رات چاہیے (دیوان غالب ص (٦٨ أي أن فكرة المصير تظل مستولية على قلبي وتذيب نفسي وفراراً منها أشرد الخمر لأظل في حالة سكر دائم، فلا تتراءى عاقبتي أمام عيني.من الوخيم.الدین أعماله كذلك فإن التكذيب بيوم الدين نوع من الخمر.فعندما يزداد المرء اعتداء وإثما، يحاول نسيان عاقبته فيتناول الأفيون حينًا، ويشرب الخمر وغيرها من المخدرات أو حشيش أوقات حينا آخر، ليظل في سكر دائم، فلا يتراءى له مصيره وإذا لم يلجأ إلى شرب الخمر والأفيون، فيبدأ في التكذيب بيوم فكريًا، ويقول هذا مجرد وهم ولن يُبعث أحد بعد الموت، ولن يُسأل عن أمام الله.إذا فإنه يسعى إلى إحماد وعيه ومعرفته إما باللجوء إلى السكر المادي، أو باللجوء إلى السكر الفكري، فرارًا من العذاب الذي ينتظره.وهذه حقيقة إذا تدبر فيها المرء ذُهل؛ فهناك الملايين الذين هم مصابون بهذا المرض، وليس ذلك إلا نتيجة الاعتداء والإثم إنهم يزدادون اعتداء ،وإثما وعندما يفكرون في عاقبتهم الوخيمة يسعون لأن يتناسوها، فيلجأون إلى حالة من السكر المادي إما بتناول الأفيون أو الخمر أو غيرهما، أو إلى حالة من السكر الفلسفي بتكذيب يوم الدين قائلين ليس البعث بعد الموت إلا أكذوبة، فيزدادون إثما واعتداء.فمثلهم كمثل نمر أكل لسانه: يحكى أن نمرًا كان جائعا، فحك لسانه على صخرة فجرحه، فاستمتع بلذة الدم، فظل يحلّ لسانه بالصخرة ويمتص الدم حتى تآكل لسانه كله.فهؤلاء القوم أيضا يقعون في الاعتداء والإثم أولاً، فينسون يوم الدين وبالتالي يزدادون اعتداء وإثما، إلى أن تصطدم سفينة أعمالهم بصخرة اعتداءاتهم وتتحطم.

Page 397

الجزء الثامن ۳۹۳ سورة المطففين إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ وَايَتُنَا قَالَ أَسَطيرُ الأَوَّلِينَ (٤) شرح الكلمات الأساطير: جمع الإسطار والأسطار والأسطور والأسطير، ومعناه ما يُسطر أي يكتب، وتُستعمل في الحديث لا نظام له (الأقرب) ما الأسطورة هي الأسبانية ومنها إلى الإنجليزية.فقوله تعالى إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني بالنظر إلى معاني الأساطير أن هؤلاء المعتدين الآثمين يقولون عن الآيات المتلوّة عليهم إنها أقوال كُتبت ونُقلت عن الأولين، أو أنها كلام عن الأولين لا نظام فيه ولا ربط، أو أنها قصص الأولين.(STORY) بالإنجليزية، وقد انتقلت هذه الكلمة إلى اللغة يسمى التفسير: لقد تكررت تهمة (أساطير الأولين في تسعة أماكن في القرآن الكريم كالتالي: أولاً : ذكر الله تعالى في سورة الأنعام أهل الكتاب أولاً، ثم قال عن الكفار الكفار حتى إذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الآية : ٢٦).ثانيا: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ تَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلا أساطيرُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال: (٣٢) ثالثا: قال الله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا و - يَزرُونَ) (النحل: ٢٥ - ٢٦) رابعا قَالُوا أَنذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّنَا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنَّ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلين (المؤمنون: ٨٣-٨٤) خامسا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكَ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصيلا) (الفرقان : ٥ - ٦)

Page 398

الجزء الثامن ٣٩٤ سورة المطففين :سادسا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَتَنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (النمل: ٦٨ - ٦٩) سابعا: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أَخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانَ اللَّهَ وَيْلَكَ آمَنْ إِنْ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأولينَ) (الأحقاف: ١٨) ثامنا: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) سَنَسِمُهُ عَلَى الْحُرْطُوم (القلم: ١٦-١٧) وأخيرا قال الله في هذه الآية قيد التفسير: (وَمَا يُكَذِّبُ به إلا كُلُّ مُعْتَد أَثِيمٍ ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ).وبالنظر في هذه الآيات نجد أن آية أساطيرُ الأَوَّلين في سورة الأنعام جاءت في معرض الحديث عن النبوءات السابقة..أي عندما تعرض عليهم نبوءات الصحف السابقة والآيات الجديدة التي أتى بها محمد الله يقولون إنها ليست إلا أقوال السابقين التي تعاد أمامنا كأنهم يقولون إنها ليست نبوءات، وإنما هي عبارات من الكتب القديمة تعرض علينا خداعًا لتحقيق غرض معين، فيقال لنا مثلا: انظروا إلى ما قال موسى لفرعون، لفرعون، ثم فكروا في مصير فرعون؛ فيريد محمدا أن يخوفنا بأن فرعون حارب موسى فهلك ولو حاربتموني هلكتم أيضًا، مع أنه شتان بين موسى وبين محمد.أو تُقرأ علينا قصة إبراهيم مثلاً ويقال لنا: ألا ترون أن أعداءه قد دمروا، وكذلك تدمرون، مع أنه شتان بين إبراهيم وبين محمد.وقد رد الله عليهم بأنهم سيقولون عند ظهور النتائج النهائية ليتنا لم نعارض محمدًا ومثاله ما وقع يوم فتح مكة.لقد ذكرتُ مرارًا قصة أبناء صناديد العرب الذين حضروا مجلس عمر في عهده.فبينما هم في ذلك أخذ صحابة الرسول يحضرون مجلسه واحدًا تلو الآخر وكانوا في الماضى عبيدا لهم أو لآبائهم الذين كانوا يسخرونهم في أنواع الأعمال الشاقة.وكلما جاء صحابي طلب عمرُ من هؤلاء الرؤساء إفساح المجال له، فلم يزالوا يتأخرون في المجلس في كل مرة حتى وصلوا إلى مكان الأحذية، ثم خرجوا من المجلس ساخطين.وقالوا فيما بينهم: يا لها من إهانة لقيناها اليوم.فقال

Page 399

الجزء الثامن ٣٩٥ سورة المطففين أحد هؤلاء الفتية وكان أكثرهم ذكاء: هل فكرتم في سبب هذه الإهانة؟ إنما سببها آباؤنا فلو أنهم لم يعارضوا النبي ، ولو أن هؤلاء العبيد لم يضحوا في سبيل الإسلام، لما لقينا هذا الذل والهوان وما نال هؤلاء هذا العز اليوم.هذا هو المعنى الذي بينه الله تعالى في هذه الآية من سورة الأنعام، إذ أخبر أن هؤلاء المكيين سيتمنون يومئذ لو لم يعارضوا، ولكن لن يغني أسفهم عنهم شيئا.أما سورة الأنفال فلا تتحدث عن النبوءات السابقة، بل تقارن بين التعاليم، ولذلك قال الكافرون: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ..أي ليس هذا القرآن إلا نقلاً وتقليدًا للكتب السابقة، ولو شئنا لقلنا مثله.أما سورة النحل فهي أيضا تتحدث عن هذا الموضوع نفسه أي أن محمدًا يقلدّ الأولين، إذ ورد وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾..فينبههم الله تعالى ويقول لنفترض أن محمدا يقلد الأولين، ولكنه يقلد الأخيار، وأنتم تقلّدون الأشرار، إذ قال الله تعالى بعدها بآية قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بنْيَانَهُمْ (النحل : ۲۷) ؛ فكأن الله تعالى يقول لهم: قولوا إن شئتم إن محمدا رسول الله يقلد موسى ويقلد إبراهيم أو أي نبي آخر، فقولكم هذا يدل على أنه يقلد الأخيار، ولكن هل فكرتم فيما تفعلون؟ إنما تفعلون ما فعل فرعون عدو موسى وما فعل أعداء عيسى وأعداء نوح، وقد خسر هؤلاء الأولون نتيجة معارضتهم لأنبيائهم، وكذلك ستخسرون لأنكم تقلدونهم.أما محمد فلا شك أن مصيره سيكون مثل مصير الأخيار المقبولين الأولين الذين تتهمونه بتقليدهم.علما أن هذه الآيات من سورة النحل تتحدث عن القيامة والتوحيد أيضا، حيث قال الله تعالى لهم يمكنكم أن تسموا التوحيد الذي يعلّمه محمد رسول الله تقليدًا للأولين، إلا أنه نفس التعليم الذي أتى به موسى وعيسى، وحيث إنكم تعارضون هذا التعليم، فليس مثلكم إلا كمثل الفريسيين والكتبة ونمرود وشدّاد، والمعروف أن المقلّد يكون مع من يقلده، فعلام تفرحون إذا؟ أما سورة المؤمنون فهي تتحدث عن القيامة الأخروية كما يدل عليه السياق، حيث قال الكافرون للنبيلة الهلال لو كان الأولون أيضًا يتحدثون عن القيامة ولكنها لم تقم بعد،

Page 400

الجزء الثامن ٣٩٦ سورة المطففين فكيف تقوم بقولك هذا؟ فرد الله عليهم أن الله قادر على كل شيء.فقولكم إن القيامة لم تقم بعد يمكن أن يفسر بمفهومين أولهما: أن الله ليس قادرًا أن يأتي بالقيامة، وثانيهما لم لم تأت القيامة بعد؟ والجواب أن أفعال الله تعالى هي أمام أعينكم، ولا يحق لكم بعد رؤيتها أن تقولوا أن القيامة لن تأتي.أما سؤالكم لم لم تقم القيامة بعد، فجوابه أنها ستأتي في ميعادها.لماذا تقولون لم لم تأت بعد؟ سيتحقق هذا الأمر أيضًا فتقوم في وقتها.وهذه الآية من سورة المؤمنون دليل أيضًا على أن في القرآن الكريم وعدًا بالقيامة التي تكون بعد الحياة الدنيا، وهكذا تصبح هذه الآية ردًا على الذين يزعمون أن القرآن لا يذكر إلا القيامة التي تقوم في هذه الدنيا فقط.صحيح أن في القرآن وعدًا بالقيامة الدنيوية أيضا، ولكن الكفار قالوا لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ، مما يعني أنهم كانوا يتحدثون عن آبائهم أيضا، وهذا يعني أنهم كان يتحدثون عن القيامة الأخروية، والقرآن لم يخطئهم ولم يقل لهم إننا لم نعدكم بالقيامة الكبرى، بل اعترف من جهة بصحة اعتراضهم حيث قال: نعم هناك وعد بالقيامة، ومن جهة أخرى فند اعتراضهم قائلا إن الله ذو قدرة عظيمة وسيحقق هذا الوعد أيضا في وقته المناسب.معاملة الله أما الآيات من سورة الفرقان فهي تتحدث عن الأحكام، حيث اتهم الكافرون رسول الله ﷺ بسرقة شرائع السابقين، فردّ الله عليهم أن القرآن يكشف غوامض الكون وغوامض الفطرة، وقد بين أسرار السماء وأسرار الأرض، أي قد فصل مع العباد ومعاملة العباد مع الله تعالى كل التفصيل، وأخبر كيف يتصرف ذوو الطبائع المختلفة في شتى المواقف؛ فالشريعة التي تبين أسرار فطرة الناس جميعًا، سواء كانوا عرباً أو هنودًا أو أمريكان أو أوروبيين، والتي تسدّ كل حاجة للطبائع الإنسانية على اختلاف أنواعها وتبيّن كل ما يعامل الله به عباده، سواء أكان مذكورا في الصحف السابقة أم لا..أقول كيف تعتبرون مثل هذه الشريعة نقلاً وسرقة للصحف السابقة؟ وأية شريعة تتصف بكل هذه المزايا؟ إن الصحف السابقة كانت محدودة الهدى ومختصة ،الزمان ثم كانت مختصة بمناطق

Page 401

الجزء الثامن ۳۹۷ سورة المطففين محدودة لا للعالم كله، ولذلك فلم تراع تلك الصحف كل أنواع الطبائع البشرية.لقد اهتمت التوراة بالشعب اليهودي فقط، وقد غضت الطرف عن باقي الشعوب، كما لم تراع العصور كلها، أما القرآن الكريم فهو للأمم كلها وللأزمنة جميعها؛ إنه لليهود والنصارى والمسلمين والهندوس والأوروبيين والصينيين واليابانيين وللمتحضرين وغير المتحضرين فما من قوم إلا وجاء القرآن لهم بالهدى، وليس هنالك زمان يمكن فيه إنكار ضرورة القرآن؛ فلذلك قد أنزل الله تعالى فيه أحكامًا جامعة جدًّا تناسب كل أنواع الفطرة ،والطبع وهي صالحة للعمل بها في كل عصر إلى يوم القيامة؛ فكيف يقال، والحال هذه، أن القرآن نقل وسرقة من الكتب السابقة؟ أما سورة النمل فقال الله فيها وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَثْنَا لَمُخْرَجُونَ ( لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الآيتان: ٦٨-٦٩).ومضمونها يماثل ما ورد في سورة المؤمنون في قول الله تعالى وقَالُوا أنذا مثنا وَكُنا تُرَابًا وَعِظَامًا أَتَنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الآيات : ٨٣-٨٤)، والفرق البسيط هو أن الله لم يرفض في سورة النمل اعتراضهم كلية، بل قال فيها قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُحْرمينَ) (الآية : (۷۰).فالجواب هو نفس ما أجيب به في سورة المؤمنون، حيث اعتبر اعتراضهم صحيحا ثم ردّ عليهم أن اليوم الآخر والقيامة الدنيوية متلازمان فإذا قامت القيامة الدنيوية فتأكدوا أن قيامة الآخرة آتية أيضا.أما سورة الأحقاف فقد ورد فيها وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعدَانَنِي أَنْ أَخْرَجَ وَقَدْ خَلَت الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَان اللَّهَ وَيْلَكَ آمَنْ إِنْ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (الآية: (۱۸) هنا أيضا أخبر أن الكفار أنكروا القيامة الكبرى قائلين: إن الأولين أيضا كانوا يقولون إن القيامة آتية، وأنت أيضًا تقول مثل قولهم.

Page 402

الجزء الثامن ۳۹۸ سورة المطففين أما سورة القلم ففيها ذكر إنكار الكفار للنبوءات، حيث قالوا إن محمدا يخوفنا بذكر قصص الأنبياء السابقين، فيرد الله تعالى أنه إذا جاءكم العذاب فلن تقولوا أنه يخوّفنا بذكر قصص الأولين بل ستعلمون أنها كانت أنباء صادقة.فما دامت هذه أنباء حقيقية فكيف تقولون أن القرآن نقل وسرقة للكتب السابقة؟ عندما تُرغَم أنوفكم بالعار، وينزل عليكم عذاب السماء، وتمانون في الدنيا، ويصبح الإسلام غالبًا، عندها ستعلمون أأساطير الأولين هي أم نبوءات صادقة.والآية التاسعة قد سبقت هذه الآية قيد التفسير من سورة المطففين.وإنها تتحدث عن الأمور الثلاثة: الشرائع والبعث القريب والبعث البعيد، حيث ينكر هؤلاء الكافرون البعث القريب والبعث البعيد قائلين إنها حكايات بالية، أو أن الأولين أيضًا قد خوّفوا من القيامة كما يخوّف هذا، ولكن لم يقم أي شيء.والحق أن هذه الأمور كلها ستتحقق، فيقع البعث القريب والبعث البعيد، كما سيظهر بطلان تهمة التقليد؛ لأن الكفار أيضا مقلدون للكفار الأولين، فقال الله تعالى إن كتاب الْفُجَّار لفي سجين، أي لو قارنت بين أحوال أعداء الأنبياء السابقين وأحوال الكافرين بمحمد لوجدت بينهما تطابقا تاما بحيث يبدو أن الكتب السابقة إنما سجلت أحوال الكافرين بمحمد هلال الهلال فإن ما يفعله هؤلاء الفجار توجد أمثلته حتمًا في كتب الأولين فثبت أنهم أيضا يقلدون، ولكنهم يقلدون أهل سجين، أما محمد رسول الله ﷺ فهو أيضا يقلد ، ولكنه يقلد أهل عليين؛ فلو فكروا في أعماله وأحواله لوجدوها تماثل أحوال وأعمال موسى وعيسى وإبراهيم ونوح وغيرهم من الأنبياء.والبديهي أن الصالح يقلد الصالح والطالح يقلد الطالح؛ وما دام الأمر كذلك فلا قيمة لهذا الاعتراض.وكأن الله تعالى يقول إن التقليد أيضا ليس سهلا، وإلا كيف تمكن محمد من تقليد موسى وعيسى وإبراهيم ونوح، ولم توفقوا لتقليدهم.فإذا كنتم تتهمونه بالتقليد فلماذا لا تقلدون هؤلاء الأنبياء؟ فتقليدكم لأهل سجين وتقليد محمد لأهل عليين في حد ذاته دليل على فضله، وليس مدعاة للطعن فيه.وقد سبق رد آخر على هذا الاعتراض في سورة الفرقان.

Page 403

الجزء الثامن ۳۹۹ القيامة لقد سورة المطففين لقد تبين مما سبق أن الكفار قد أثاروا اعتراض أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ في ثلاث مناسبات إحداها عند إنكارهم البعث البعيد أعني أنهم كلما ذكروا بيوم قالوا إن الأولين أيضا خوّفوا منها كذبًا وزورًا وأنت أيضا تخوفنا منها مثلهم؛ بطلت أقاويل الأولين وأنت أيضا كذبت، إذ لم تقم القيامة بعد.والمناسبة الثانية التي أثار فيها الكفار اعتراض أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ البعث القريب..أي الحديث عن رقي الإسلام وغلبته وهلاك الكفر.ولكنهم في هذه المرة لا يُكذبون الأولين، بل يقولون يا محمد إنك تطبق عليك أمثلة حياة الصالحين الأولين لتخويف الناس ولكن أمرك مختلف عنهم، إذ كانوا صادقين وأنت كذاب، والعياذ بالله.هي الحديث عن وقولهم هذا يماثل ما يقول لنا غير الأحمديين اليوم، إذ يقولون لنا عند النقاش: لماذا تذكرون عيسى؟ ولماذا تذكرون أمثلة من حياة محمد رسول الله ﷺ عند الحديث عن صدق مؤسس جماعتكم؟ ما علاقتكم بهؤلاء الأنبياء الصادقين حتى تذكروا أمثلة من حياتهم، وتقولوا هكذا قال موسى وهكذا قال عيسى وهكذا قال محمد فالمعارضون في زمن النبي لو كان يتبعون نفس هذا الأسلوب قائلين: كيف تحاول تطبيق أمثلة حياة هؤلاء المقدسين الأولين تخويفا للناس، مع أن أمرك مختلف عنهم، إذ كانوا صادقين وأنت كذاب والعياذ بالله؟ أما المناسبة الثالثة لطعنهم بقولهم (أساطير (الأولين فهي أنهم عندما رأوا مماثلة بين شرائع الإسلام وشرائع الأنبياء السابقين قالوا هذا نقل وسرق كتب الأولين.من فمثلاً حين رأوا في القرآن حكمًا ثم وجدوا مثله في كتاب موسى أو عيسى قالوا يا محمد إنك تعرض علينا ما سرقته من شرائع السابقين، فما فضلك في ذلك؟ وهذا أنهم كانوا يعترفون بفضل هذه الأحكام وفضل أصحابها الأولين، ولكنهم كانوا يكفرون بدعوى الرسول القائلين : لا فضل في النقل والسرقة.فما دمت تنقل لنا شرائع موسى وعيسى فكيف ثبت بذلك أنك صادق في دعواك؟ باختصار، إن المطاعن في المواضع الثلاثة مختلفة، وقد أراد الكافرون بتوجيه هذا الطعن غاية متباينة في كل مرة.فحينا يعنون من أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أن القرآن يعني قة

Page 404

الجزء الثامن سورة المطففين حكايات منقولة من السابقين وحينًا يعنون بها أن محمدًا يذكر أحداث الأنبياء يعنون السابقين محاولاً تطبيقها على نفسه عبئًا، مع أنه لا علاقة لها به، وحينًا ثالثا بأساطير الأولين أن تعاليم القرآن مسروقة من كتب السابقين..إنها شرائع موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء و لم يقدم محمد شيئا جديدا.باختصار هذه الاعتراضات الثلاثة تطابق المعاني الثلاثة للأساطير، وقد أجاب القرآن على كلّ واحد منها منفصلا، لأن الاعتراض في الآية قيد التفسير ذو ثلاث شعب، حيث كان موجهًا إلى شرائع القرآن والبعث بعد الموت وبعث الأمة، فالرد عليه أيضا جاء مغطيًا المواضيع الثلاثة وفيما يتعلق بالبعث القريب أي بعث الأمة فقد أجيب عليه بأن هذه الشعوب الغربية تظن أن لا زوال لها، ولكنها سوف تنهار في النهاية وتذل وتخزى وسيأخذ الإسلام مكانها، وهذا يكون دليلا على البعث بعد الموت.فالبعث الأول يُثبت البعث الثاني.سر الله والاعتراض الثالث هنا في هذه السورة كان حول تعاليم القرآن..أي أن شرائع الإسلام نقل وتقليد لكتب الأولين، فأجاب الله عليه بقوله كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لفى عليين..أي لنفترض أن محمدًا يقلد الأولين، لكن ما باله لا يقلد إلا موسى وعيسى وغيره من الأنبياء، أما أنتم فأيضًا تقلّدون ولكنكم تقلّدون فرعون وأمثاله؛ فكيف ترمون محمدا بالكذب؟ إذا وضع محمد رسول الله ﷺ يده وضعها في يد موسى وغيره من الأنبياء، أما أنتم فكلما وضعتم أيديكم وضعتموها في يد فرعون وأمثاله، ثم إنه يعمل بشرائع الأنبياء السابقين، وأنتم تهربون من اتباع تعاليمهم وتتبعون الشياطين.فكل من الفريقين يقلد ما يشابهه ويماثله لو كانت أعمال كلا الفريقين كأعمال العلّيين، ولو كانت أقوال الكفار كأقوال الأنبياء كما أقوال محمد، لاشتبه الأمر على الناس ولم يعرفوا أي الفريقين على الحق، لأن كلا الفريقين يقول ما قاله موسى وعيسى ويفعل ما فعله موسى وعيسى؛ ولكن هناك فرق بين وبارز بين الفريقين، لأن أقوال محمد وأعماله تماثل أقوال موسى وأعماله، في حين أن أقوالكم وأعمالكم تشبه أعمال فرعون وأقواله.إنه يتبع خطوات الأبرار، وأنتم تتبعون خطوات الفجار، وتدعون إلى ما يتعارض مع تعاليم أنبيائكم أيضا، مي

Page 405

الجزء الثامن ٤٠١ سورة المطففين وهذا دليل أن محمدا رسول الله ﷺ يتبع خطوات الأنبياء، وأنتم تتبعون خطوات أعدائهم.فسقط اتهام التقليد كلية إنه ليس تقليدا إنما هي مشابهة تم هي.مشابهة بعليين، وهذه المشابهة دليل على صدقه.والجدير بالذكر هنا أن كفار مكة طعنوا في القرآن الكريم بقوله أَسَاطِيرُ الأولين، والآن وبعد مرور ۱۳ قرنًا قد رمى الأوروبيون نبينا محمدا بالتهمة نفسها، حتى ألف القسيس تسدل (C.Tisdall) كتابًا بعنوان "مأخذ القرآن" أثبت فيه زعمه - أن القرآن نقل وسرقة من الكتب السابقة ينابيع الإسلام).وحيث إن سورة المطففين تتحدث عن الشعوب الأوروبية المسيحية، فنجد هنا تشابها بين الأوروبيين وكفار مكة، حيث رددوا نفس الطعن الذي وجهه كفار مكة إلى رسول الله ، وألفوا كتبًا رددوا فيها نفس الاعتراض الذي أثارته قريش.وكأن قوله تعالى إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ يتضمن نبأ أن المسيحيين سيتهمون الإسلام والقرآن بنفس التهمة إبان غلبتهم في المستقبل.وكما قلت فقد نوقش هذا الموضوع بوجه خاص في كتاب مأخذ القرآن)، علاوة على الكتب الأخرى التي نشرها المسيحيون ورموا فيها القرآن الكريم بنفس التهمة.يعني أنه حين باختصار إن قوله تعالى إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ يُعرض القرآن الكريم على هؤلاء المكذبين بالدين فإنهم سيقولون ما قيمة هذا الكتاب؟ فبعض ما فيه منقول من الفيدا، وبعضه مسروق من التوراة، وبعضه مأخوذ من الإنجيل، وبعضه من الزندافستا.وقد ردّ الله عليهم في الآية التالية، ولكن الإنسان المتدبر يكفيه هذا الجواب الرباني بأنكم كيف تتهمون محمدا، أنه قد أخبر في القرآن سلفا أنكم سترمونه بهذه التهم في يوم من الأيام، فالحق أن تهمتكم لیست دليلا على ،كذبه بل إنها لتزيد صدقه جلاء.مع

Page 406

الجزء الثامن شرح ٤٠٢ سورة المطففين كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) الكلمات: كلا: حرف معناه الردع والزجر.وفي "الكليات": وقد تجيء بعد الطلب لنفي ° إجابة الطلب كقولك لمَنْ قال لك: افعل كذا كلا..أي لا يجاب إلى ذلك.وقد الله يجيء بمعنى حقا، نحو كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى).(الأقرب) و ران رانَ الشيءُ فلانًا وعليه وبه يرين رينا وريونا غلب عليه.ورانت النفس: خبثت وغثَت.الأقرب).والرين: صدأ يعلو الشيء الجليل.(المفردات) التفسير : أي عودوا إلى صوابكم يا من تقولون إن القرآن أساطير الأولين، وتكلّموا بعقلانية، وفكروا : مَن تتهمونه! = وحرفُ "بل" يفيد الاستدراك، وهو نوعان: أولا : (أ) ما يفيد نفي ما قبله وإثبات ما بعده، (ب) ما يفيد إثبات ما قبله ونفي ما بعده ومثال الأول هذه الآية قيد التفسير حيث تم نفي ما ورد قبل (بل) من تهمة الكفار بأن القرآن أساطير الأولين، وتم إثبات ما بعده، حيث قال الله تعالى بلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، ومثال الثاني قوله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وشقاق (ص: ۲-۳)..أي لا شك أن القرآن ذو الذكر، ولكن إنكارهم غير معقول، بمعنى أنهم لم ينكروا القرآن لخلوه من الذكر، إنما أنكروه لكبريائهم وكراهيتهم للصدق.وأيضا الأمثلة على النوع الثاني قوله تعالى ق وَالْقُرْآن الْمَجيد ) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ) (ق) : ٢-٣)..أي لا شك أن القرآن مجيد، ولكن إنكارهم له يرجع إلى جهالتهم..بمعنى أنهم يستغربون من مجيء منذر منهم ولا يتدبرون فيما جاءهم به.من وهناك نوع آخر من (بل) الذي لا ينفي ما قبله ولا ما بعده، وإنما يأتي لبيان معنى زائد، كقوله تعالى أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ بَلْ قَالُوا أَصْغَاتُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ (الأنبياء: ٤ - ٦).فحرف (بل) هنا يفيد في كل مرة ° - إثبات ما قبله وما بعده ويبين معنى زائدا.فمثلا قوله تعالى قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامِ

Page 407

الجزء الثامن ما لا ينفي ٤٠٣ سورة المطففين ورد قبله ولا يعني أنهم لا يتهمون محمد ا ل بالسحر، بل يبين أمرا زائدا بأنهم يُضيفون إلى اتهامه بالسحر أن القرآن أضغاث أحلام.ثم أُتي بحرف (بل) آخر ليشير إلى تهمة أخرى، أي أنهم لا يتهمون أن وحيه الله أضغاث أحلام فحسب، بل يتهمونه باختلاقه من عنده ثم جيء بحرف (بل) للمرة الثالثة للإشارة إلى تهمة.رابعة وهي قولهم هُوَ شَاعر..أي أنه يؤلف كلاما خلابًا لإغواء النشء.ومثاله الآخر قول الله تعالَى لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورهمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ (الأنبياء: ٤٠ - * ٤١).فحرف (بل) هنا يصدّق ما قبله ويزيد أمرا آخر عليه، وكأنه قيل إن العذاب يكون شديدا بحيث لن يستطيعوا رده كما أنه سيفاجئهم فترتجف قلوبهم ويتيه صوابهم.وو أما قوله تعالى هنا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ فقد جيء بحرف (بل) لنفي تهمة أساطير الأولين، حيث بين الله تعالى أن تهمتهم هذه ،باطلة والحقيقة أن الجهل قد علا أفئدتهم وأن الرين قد غطى قلوبهم، كما ذكر عند شرح الكلمات أن الرين هو غلبه الشيء والإصابة بالصدأ.قال الفراء: كثرت منهم المعاصي والذنوب فأحاطت بقلوبهم، فذلك الرين عليها.وقال الحسن: الرين هو الذنب على الذنب حتى يسْوَدَّ القلب" (لسان العرب).فيرى الفرّاء أن قوله تعالى بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ يعني أن سيئاتهم قد أحاطت بقلوبهم فأصبح إصلاحهم مستحيلاً، بينما يرى الحسن البصري أن قلوبهم سُلبت قوة معرفة الحق نتيجة ذنوبهم المتكررة.وقال أبو زيد يقال: قد رِينَ بالرجل رَيْنا، إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له "به" (فتح البيان..أي أن قوله تعالى بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أعمالهم السيئة قد كثرت بحيث لا يستطيعون الخروج منها حتى لو أرادوا ذلك.ويقول أبو معاذ النحوي الرين أن يسود القلب من الذنوب، والطبع أن يُطبع على أشد من الرين والإقفال أشد من الطبع." (فتح البيان) " القلب، وهو يعني أن

Page 408

الجزء الثامن ٤٠٤ سورة المطففين ولكن هذا ليس صحيحا عندي، بل إن هذه الكلمات الرين والطبع والإقفال تشير إلى معان مختلفة.الرين هو الصدأ، وحقيقة الصدأ أن الشيء المصاب به يتآكل، إذ ليس الرين إلا أن الشيء يتغير من داخله بتأثير خارجي ويفقد ماهيته؛ فإصابة الحديد أو النحاس بالصدأ يعني أن الندى قد أثر أن الندى قد أثر عليه من الخارج فبدأ يتأكسد.أما الطبع فمعناه قبول نقش الشيء الآخر، لأن الطبع معناه الختم.أما الإقفال فيعني عدم انفتاح الشيء بقوته، بل الله هو الذي يفتحه إذا شاء.إذن، فهذه الكلمات الثلاث تشير إلى كيفيات ثلاث مختلفة.فيشير الرين إلى أن السيئات الخارجية قد أثرت فيهم بحيث قد تغيرت تمامًا ماهية قلوبهم التي هي منبع الخير، فتجرأوا على المعاصي.أما الطبع فقد أُشير به إلى أن قلوبهم قد ختمت بالمعاصي، أي أنهم أصبحوا من كبار العصاة لأن الشيء المختوم يكون ذا مستوى عال وأما الإقفال فقد بيّن أن حالتهم قد ساءت بحيث لن تنفتح أقفال قلوبهم بيد وق إنسان بل بيد الله فقط..أي لم يعودوا قادرين على إصلاح أنفسهم بأنفسهم.وهناك حديث بصدد الرين..فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُول الله ﷺ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَحْطَأَ خَطِيئَةٌ تُكتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، صُقِلَ قَلْبَهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّهُ كَلَا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الترمذي: كتاب تفسير القرآن).ووردت هذه الرواية أيضًا في مسند أحمد والنسائي وابن ماجة والطبري بألفاظ مقاربة.وقوله ﷺ تكتت في قلبه نكتة سوداء" يعني أن قلبه مال إلى السيئات.لقد بين الله تعالى في هذه الآية حكمةً بالغة تتعلق بعلم النفس والأخلاق وهي: : أن كل عمل يترك وراءه أثرا.وليس أثر العمل ما يكون أثرا طبيعيًا مباشرا فحسب، بل إنه يترك تأثيره على أخلاق المرء وعقله وعلمه أيضا فمثلا عندما يكذب المرء فتأثيره المباشر أنه يشوه سمعته بين الناس ويحرمه من ثقتهم به، ويستحق عذاب الله عاجلا أو آجلا نتيجة عصيانه ، له كما أن خصمه يصبح عدوا له ويحاول الانتقام منه؛ ثم يهجره ه أصحابه الصلحاء أيضًا قائلين أنت كاذب ولا تصلح لصداقتنا.هذه كلها تأثيرات طبعية ومباشرة للكذب، ولكن هناك تأثير آخر يتركه إثم المرء على سه

Page 409

الجزء الثامن ٤٠٥ سورة المطففين عقله وقلبه؛ فعلى سبيل المثال إن أول تأثير للكذب على عقل صاحبه وقلبه أنه يصبح أقل كراهيةً للكذب، فيسهل عليه الكذب بعدها شيئًا فشيئًا.والحال نفسه بالنسبة إلى المعاصي الأخرى؛ فكل إنسان يخاف عند أول سرقة أو أول قتال أو أول سبّة أو أول فساد أو أول قتل، لأنه يخاف أن يُقبض عليه، أو تشوه سمعته بين الناس، ولكن الكذبة الأولى تؤثر في عقله فتقل كراهيته للكذب، بل يسهل عليه الكذب بعد ذلك.والحال نفسه بالنسبة إلى المعاصي الأخرى، فإذا ارتكب معصية منها مرة سهل عليه ارتكابها، فيقع فيها بلا تردد بعدئذ.والتأثير الثاني للذنب على عقل المرء ،وقلبه هو تناقص كراهيته للمعاصي الأخرى أيضًا.فمن يسرق تسهل عليه الجنايات الأخرى نسبيا، لأن السرقة تقلّل من إحساسه بمعصية الله.والحال نفسه بالنسبة إلى الذنوب الأخرى.فكل ذنب يكون سيئًا بحد ذاته، لكن له تأثير خارجي آخر بأنه يقلل كراهية المرء تجاه السيئات الأخرى، فيزداد عصيانا الله تعالى.والتأثير الثالث للذنب في نفس الإنسان أنه يسيء الظنّ بالآخرين، لأنه يفكر أن الآخرين أيضا يرتكبون هذا الذنب مثله.فمثلاً إذا قلت للكاذب قولاً صادقا، فإنه يقول في نفسه: إن هذا أيضًا كذوب مثلي، إذ كيف يمكن أن يصدق أحد في قوله؟ وهذا راجع إلى اعتياده الكذب.فهكذا يظل مثل هذا الإنسان محروما من معرفة الحق، وبدلا من أن ينتفع من الصدق ينسب أفعال الآخرين إلى سوء النيات؛ إذ يُعرَض عليه الحق، فيرفضه بدلا أن يتدبر فيه، ظنا منه أن هذا أيضًا يكذب مثلي، وأنه يحاول خداعي كما أنا أخدع الناس.والتأثير الرابع أن مثل هذا الإنسان يصبح محروما من معية الصادقين؛ إذ يظن أن ليس في الدنيا أي صادق، وأن الجميع كذابون مثله كما أن الصادقين أيضا يتجنبون صحبته.من هذا الموضوع واسع جدًا، وهو بمثابة الأصل للخير والشر الموجودين في الدنيا، ويكشف لنا سبب دمار أخلاق أهلها.لقد بين القرآن الكريم في هذا القول الوجيز كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أن أي عمل له نتيجتان: مباشرة وو

Page 410

الجزء الثامن ٤٠٦ سورة المطففين وغير مباشرة، والمراد من النتيجة غير المباشرة أن سيئته تدمر قواه العقلية والعلمية والفكرية، وهذا ما رينا.يسمى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَبِذٍ لَحْجُوبُونَ (3) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (3) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ، تُكَذِّبُونَ (3) ۱۸ التفسير هذه المرة الثالثة لتكرار كلمة ( كلا) في هذه الآيات، إذ قال الله تعالى من قبل كَلَّا إِنَّ كتَابَ الْفُجَّار لفي سجِّين، وقال كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، وقال الآن كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.وسيأتي بعدها بقليل قول الله تعالى ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عَلِّيِّينَ.وربما لم تتكرر كلا في القرآن الكريم بهذه الكثرة في آيات قليلة، حيث تكررت هنا أربع مرات.ولقد سبق أن بينتُ أن (كلا) تفيد الردع والزجر، فتكرارها هنا إشارة إلى شدة العذاب.قال الله تعالى في القرآن بحق النصارى فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة: ١١٦ ).ذلك أن المسيح الا كان قد طلب من الله تعالى إنزال مائدة لقومه، فأجابه الله أني سأعطيهم نعمة المائدة، ولكن كفرانهم بها سيؤدي إلى نتائج وخيمة جدا.لقد دعوت لقومك بالتقدم المادي، فسوف أكتبه لهم على نطاق واسع ولكنهم لو كفروا وتبرءوا من الدين وابتعدوا عن الله تعالى وأعرضوا عن أحكامه، فإني سأعذب الأمة المسيحية بعذاب لم أعذب به أي أمة قبل ذلك.فلما كان هناك في سورة المائدة وعد من الله تعالى بأنه سيمنح الشعوب المسيحية رقيا ماديًا كبيرًا، كما كان هناك خبر أنهم إذا مالوا إلى الكفر فسوف يعذبهم عذابًا لم يسبق له نظير، فتكرار كلا هنا سيعتبر إشارةً إلى هذا العذاب الشديد نفسه، وكأن الله تعالى يحذر أمة المسيح الله ويقول أيها المسيحيون انتبهوا، فقد أصبحتم ،مطفّفين، حيث تغصبون حقوق العباد، وترفلون في الرخاء المادي.لقد كنتُ حذرتكم من قبل أنكم لو كفرتم بي بعد إحراز الترقيات

Page 411

الجزء الثامن ٤٠٧ سورة المطففين المادية، وكفرتم بنعمتي وتكالبتم على الدنيا معرضين عني، فسوف أعذبكم عذابا لم أعذب به أحدا العالمين، فاعلموا أن هذا العذاب قد قرب، وآن الأوان أن من نبطش بكم بطشا شديدا مهيبا.والتدبر في تكرار كلا ههنا يكشف أمرًا آخر أيضًا، وهو أن كلا قد تكررت هنا ٣ مرات بعد ذكر الكفر ، ومرة واحدة قبل ذكر المؤمنين، وفي ذلك إشارة أنه ستقع ثلاث هزات لتدمير المسيحية، ثم تقع الهزة الرابعة لازدهار الإسلام.ويبدو، بحسب ما يُفتي به العقل أن الحرب العالمية التي انتهت سنة ١٩١٨ كانت هي الهزة الأولى التي أُصيبت بها المسيحية، والحرب العالمية الحالية (الثانية) هي الهزة الثانية لها، وستكون بعدها حرب عالمية ثالثة لتكون الهزة الثالثة والأخيرة لهلاك الشعوب الغربية، ثم تليها الهزة الرابعة التي يزدهر بعدها الإسلام ثانية، فتصبح هذه رید الشعوب ذليلة مقهورة تماما ؛ ذلك لأن الله تعالى يقول بعد ورود كلمة الكلا المرة الرابعة مباشرةً : كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَار لَفي علِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عَلِّيُّونَ o كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ).أما قوله تعالى إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ، فاليوم المذكور هنا هو نفس اليوم المذكور من قبل في قوله تعالى يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (الآية: ۱۲).وقد أُشير بكلمة ربهم هنا إلى أن علاقة ربوبية الله هنا إلى أن علاقة ربوبية الله مع العبد كعلاقة الأُمّ مع الولد؛ فإن الأُم تربي ولدها وترضعه وتعتني به وتسدّ حاجاته حتى يترعرع ويكبر؛ وهذا هو معنى الرب أيضا، حيث يهيئ الله الأسباب لتربية الإنسان ماديًا وروحانيا.فالرب يسعى من جانبه لأن يقترب من الذي يربيه ويحاول من يتلقى الربوبية أيضًا أن يقترب من ربه؛ شأن الأم حيث تحب ولدها وولدها أيضًا يحبها.فالله تعالى يبين هنا أن الصلة بيني وبين هؤلاء القوم تفرض أن أحبهم ويحبوني، ومع فسينغمسون في المعاصي حتى يُحجَبوا عن ربهم.والمحجوب من منع من الوصول إلى شيء بوضع حجاب بينهما.وأيّ شك في شقاوة إنسان صار محجوبا عن ربه؟ ولذلك يقول الله تعالى هنا ما أشقى هؤلاء القوم فإنهم سيُحجبون عن ربهم يومئذ رغم صلة الربوبية بينهم وبينه.ذلك

Page 412

الجزء الثامن ٤٠٨ سه سورة المطففين ) هنا ينشأ سؤال: ما هو المراد من قوله تعالى إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.(۱) هل المراد أن باقي الناس سيرون رهم بينما يظل هؤلاء المسيحيون محجوبين عن ربهم (۲) هل كان المسيحيون قبل ذلك يرون ربهم بينما يكونون يومئذ من المحجوبين عنه؟ المرء من الانه يعني الجواب أنه فيما يتعلق بالرؤية القلبية، فكل إنسان غير معرض عن الدين يرى الله، لقوله تعالى (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى (الإسراء:۷۳)..أي أن من لم ير الله تعالى في الدنيا لن يراه في الآخرة.مما أن الله تعالى قد اعتبر كل المؤمنين الناجين ممن يرونه.ومع ذلك لا يمكن لكل مؤمن أن يقول إنه قد رأى الله في الدنيا.وهذا يعني أن مجرد الإيمان يُعتبر أولى درجات الرؤية الإلهية، فإذا رزق المرء الإيمان جاز لنا القول إنه قد رأى الله تعالى ذلك أن الإيمان لا يتيسر بغير معرفة صفات الله تعالى؛ إذ ليس اسما لشيء مادي، بل هو ذلك الذي اتصف بكل الصفات الحسنة من ربوبية ورحمانية ورحيمية ومالكية يوم الدين.وإذا فهم ربوبية الله ورحمانيته ورحيميته ومالكيته وغيرها من صفاته موقنا بها، تيسرت له درجة من رؤية الله تعالى ،إذن، فمن رؤية الله ما يتيسر لكل مؤمن بدون استثناء ولا فرق، سواء كان ضعيف الإيمان أو من المقربين.ثم يقول الله تعالى في سورة طه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتَ بَصِيرًا ) قَالَ كَذَلكَ أَتَنْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (الآيات: ١٢٥-١٢٧)..أي أن من أعرض عن ذكري و لم يتدبر في صفاتي و لم يدرسها عاش عيشة ضيقة جدا؛ ذلك لأن نطاق عمل الإنسان إنما يتسع نتيجة معرفته بصفات الله تعالى؛ فمن تيسر له الإيمان الصادق بالله تعالى، تحلّى بالسخاء والصدق والأمانة والسداد والرأفة والمحبة، ولم يزل يزداد في حسناته هذه، ولكن من لا يؤمن بصفات الله تعالى فإن نطاق عمله يظل محدودًا جدًّا.الحقيقة أن نطاق عمل المرء يتسع بسمو طموحه؛ أما من لم يكن مطمحه عاليًا فإن أعماله تظل في نطاق ضيق؛ ولذلك نجد أخلاق الفلاسفة لا تساوي أمام أخلاق

Page 413

الجزء الثامن ٤٠٩ أعماله سورة المطففين الأنبياء شيئا، كما أن أخلاقهم القليلة أيضًا تظل ضيقة النطاق جدا.لو نظرنا إلى أخلاق النبي ﷺ أو إلى أخلاق موسى أو عيسى عليهما السلام- لوجدناها واسعة سعةً غير عادية.فكان صدقهم عظيما، وأمانتهم عظيمة، وبشاشتهم عظيمة، وسخاؤهم عظيما، ورحمتهم وعنايتهم بالفقراء وعدلهم وتوكلهم عظيمًا؛ لقد تحلوا بعشرات الأخلاق الحسنة، وبمستوى عال جدا.وعلى النقيض إذا رأيت الفلاسفة، فقد تجد أحدهم أمينا أو سخيا، ولكن لن تجد أيا منهم يجمع في نفسه الأخلاق الحميدة كلها وليس ذلك إلا لأن المرء تظل أعماله محدودة في نطاق ضيق ولا تتسع أبدا ما لم يكن أمامه مطمح عال يتطلع إليه، وما لم يكن أمامه أسوة رائعة يتأسى بها.وإذا ظلت أعمال المرء في نطاق ضيق جدا فلن تتسع ولن تتنوع أبدًا ؛ فأَنَّى له أن يرى ربه يوم القيامة؟ وكيف يعرف إلهه الربَّ مَن لم يسعَ للتحلي بربوبية كربوبيته؟ وكيف يعرف إلهه الرحيم من لم يكن رحيما؟ وكيف يعرف إلهه الرحمن من لم يكن رحمانًا؟ وكيف يقدر على رؤية الله تعالى يوم القيامة من لم يكن غفورًا وستّارا ومهيمنا؟ فمَن لم يذق في حياته الشمام مثلاً، كيف يعرف طعمه حتى ولو رآه؟ كلا، سيفشل في استيعاب كنهه.فالذي يظل نطاق عمله محدودا ضيقا، ولم يعكس صفات الله تعالى في مرآة قلبه في الدنيا، فكيف يعرف ربه إذا ظهرت صفاته أمامه يوم القيامة؟ كلا بل إنه سيقف كالأعمى ولن يرى منها شيئا.وحيث إنه يُبعث يوم القيامة أعمى، مع ظنه أنه فيلسوف حكيم بصير ومفكر كبير، فيقول الله تعالى يومئذ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا )..أي لمَ بعثتَني أعمى اليوم مع أنني كنت بصيرا حكيمًا، وعالم نفس كبيرا، وفيلسوفا عظيمًا وعالما كبيرا، أؤسس معلوماتي على المشاهدة، وأقضي ليلي ونهاري في مطالعة الكتب والتدبر في أسرار الكون؟ فيجيبه الله تعالى كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلكَ الْيَوْمَ تُنْسَى..أي قد أريناك على يد رسولنا المعجزات، وأتيناك بالآيات على كوننا إلا قادرا ، وربَّا ورحيما ومالكا ومحييا ،ومميتا، فلم تأبه بها ولم تتوجه إليها.كنت ترى رسولي وتعتبر كلامه فارغا، وتقول أنى لهذا الشيخ أن يستوعب علومي ومعارفي أنا فيلسوف! أنا "كانط" ! وأنا "هيجل"! كيف أضيع وقتي في

Page 414

الجزء الثامن ٤١ سورة المطففين هذه الأمور التافهة.فما دمت مُعرضا عنا، فنُعرض عنك.ولأننا نحن من يهب للإنسان الأعين والنور اللذين بهما يبصر ، فلو كنت متوجهًا إلينا من قبل لأعطيناك العيون والنور ولكنك أعرضت عنا، فنزعنا منك ،نورنا فحُشرت في هذه الحياة أعمى.لقد تبين من هنا أن المعجزات والآيات إنما تهب المؤمن نوعًا من رؤية الله تعالى، ولكن المحرومين من هذه الرؤية يظلون محرومين من الرؤية التي هي أكبر منها، والتي تتيسر في هذه الدنيا أو في الآخرة.الله، وكان السؤال الثاني هل كان المسيحيون قبل ذلك اليوم يرون الله تعالى حتى قيل هم إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، فالجواب: أن ذلك اليوم خاص برؤية ومع ذلك لن يُرزقوها يومها أيضا ذلك أن القاعدة أن العلم يزيد المرء معرفة بالأشياء فورًا، ولكن في بعض الأحيان يصاب القلب بالصدأ بحيث لا يتيسر العرفان رغم العلم؛ فمثلا إذا قلت لإنسان عادي أن هذا الشيء هو الأفيون، وفيه أضرار كثيرة، فسوف يتجنب تناوله، لعلمه أن لو تناوله أصيب بالمرض وضعفت أعصابه، ولكن من اعتاد تعاطي الأفيون، فلن يجديه نصح الطبيب، مهما حذره ونهاه عن تعاطيه، بل إنه يستمر في تعاطيه مهما ساءت أخلاقه وتدهورت صحته.فهذا الشخص يملك العلم ولكن يعوزه ،العرفان لأن عادته القديمة ورين قلبه قد حالا دون تيسر المعرفة له رغم تيسر العلم له؛ فلا يستطيع ترك الأفيون.هاتان هما الحالتان اللتان تطرآن على الناس والحق أن الرؤية الإلهية اسم للعرفان وليس للعلم؛ وحيث إن ذلك اليوم يكون خاصاً لرؤية الله تعالى وهذه الرؤية إنما تتيسر بالعرفان لا بالعلم، فلذلك عندما تتجلى قدرة الله وقوته يومئذ فلن يتيسر لهم العرفان رغم انکشاف خطئهم عليهم، لكون قلوبهم نجسة قد رانت عليها ذنوبهم..أي لن يكون عندهم العرفان الذي هو نتيجة طبيعية للعلم، فمثلهم كمثل متعاطي الأفيون، الذي لن يتركه مهما حذرته وخوفته لاعتياده تناوله.فالله تعالى يبين هنا أن ذلك اليوم يوم الانكشاف، فرغم تيسر العلم لن يتيسر لهم العرفان لكون قلوبهم قد تنجست، فبرغم أنهم يقولون ربنا قادر ويدركون أن الله

Page 415

سورة المطففين الجزء الثامن ٤١١ رحيم وعزيز، ولكن لن يكون لهم أي صلة بالرب الرحيم القادر الكريم ، فلا يستحقون الجنة بل يدخلون النار.۱۹ كَلَّا إِنَّ كِتَبَ الْأَبْرَار لَفِي عِلَيْين : التفسير : أي لا تظنوا أن المؤمنين لن يزدهروا ولن يتقدموا؟ كلا، بل إن نصيب المؤمنين مكتوب في عليين.لو فسرنا عليين بمعنى القرآن، فالمقصود تلك الآيات القرآنية التي فيها أنباء عن ازدهار المسلمين، ولو كان عليين بمعنى الدرجات العلى، فالمراد من قوله تعالى إنَّ كتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عَلِّيِّينَ أن نيل المؤمنين درجات عُلا قضاء مبرم.قال ابن عباس إن المراد من عليين الجنة ابن كثير).وقال صاحب المفردات: بل ذلك في الحقيقة اسمُ سُكانها، وهذا أقرب في العربية، إذ كان هذا الجمع يُختص بالناطقين." وعليه فقوله تعالى إنَّ كتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عَلِّيِّينَ " بیاری الأبرار مكتوب في عليين، وأن ذكرهم موجود حيث ذكر عليين أن اسم يعني أن وهناك رواية عن عبد الله أبيه قال: "لما حضرت كعبا الوفاة أتته كعب عن بن بشر بنت البراء، فقالت: يا أبا عبد الرحمن إن لقيت ابني فلانا فاقرأ عليه مني السلام.فقال لها: غفر الله لك يا أُمَّ بشر، نحن أشغلُ بشر، نحن أشغلُ من ذلك.قالت: أما سمعت رسول الله ﷺ يقول : "إن نسمة المؤمن لتسرح في الجنة حيث شاءت، وإن نسمة الكافر في سجين؟ قال بلى قالت فهو ذاك.ابن) ماجة، كتاب الجنائز، والطبراني الحديث رقم ۱۲۲، والبيهقي الحديث رقم ٤٢٤٠).لقد تبين من هذا الحديث أن عليين يعني الحرية، إذ ورد في الحديث أن "نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت"؛ وقد بينا من قبل أن معنى السجين هو السجن ؛ وعليه فتعني هذه الآية أن الكافرين كما جعلوا نطاق أعمالهم محدودًا جدا، وقصروا في الحسنات، كذلك فإنهم سيوضعون في سجين، أي في حالة سجن

Page 416

الجزء الثامن ٤١٢ سورة المطففين وقيد، أما المؤمنون فكان نطاق أعمالهم واسعا جدا، فلذلك يكونون في عليين، أي في جماعة لا حدود لصلاحها وارتقائها.هذا المعنى بيّنته نظرا إلى هذه الدنيا.أما بالنظر إلى الآخرة، فالمراد أن المؤمنين لما وسعوا نطاق أعمالهم في الدنيا، فسيعاملهم الله تعالى في الآخرة برحمة واسعة، فيضع أرواحهم في حرية، فتسرح في الجنة حيث شاءت.ولقد ناقشت هذا الأمر في كتابي "الأحمدية..أي الإسلام الحقيقي"، حيث بينت أن الروح الإنسانية يمكن أن تذهب في الجنة حيثما تشاء.ولكن هذا لا يعني أن أهل الجنة يكونون جميعًا على درجة واحدة.لقد أثبتُ في كتابي هذا أن لأهل الجنة أن يذهبوا حيث شاؤوا، وفي نفس الوقت تكون درجاتهم متفاوتة.باختصار، لقد حذر الله تعالى المسيحيين بقوله إنْ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عَلِّيِّينَ، وأخبر أنه ستقع لهلاكهم ثلاث هزات قوية وبعدها تقع الهزة الرابعة الأخيرة، الله المسلمين من تحتهم ويبوئهم أعلى المراتب والدرجات.فيرفع وَمَا أَدْرَنكَ مَا عَلِيُّونَ : كِتَبٌ مَّرْقُومٌ : يَشْهَدُهُ الْمُقَرِّبُونَ ) ۲۲ التفسير: أي أيها المستمع ماذا تعلم عن عليين؟ كتاب مرقوم..أي أنه سجل مكتوب، أو أنه كتاب مختوم، أي قرار قد ختم عليه فلا يُغيّر ولا يُبدَّل؛ أو المعنى أنه قرار مكتوب، وهذا أيضا بالمعنى السابق لأن الكتاب المكتوب لا يتغير.ثم قال الله تعالى يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ..أي سيرى المقربون المصير المذكور سابقا.هو الفرق بين المؤمن والكافر، فإن ذلك اليوم يكون عسيرا على الكافر بحيث يقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ الْمُكَذِّبِينَ..أي أنه سيتأوه متأسفا ويسعى للفرار من مصيره هذا أما المقرَّب فيسارع إلى رؤية مصيره، ويذهب إليه برغبته، لأن مصيره محمود.

Page 417

الجزء الثامن ٤١٣ سورة المطففين كأن الله تعالى يختم الحديث عن نبوءات هلاك الكافرين وازدهار المؤمنين هنا، مبينًا أن غلبة هؤلاء المطففين ستطول بلا شك، ولكن الله تعالى سيُنهيها حتما، ومن أجل ذلك كرر لفظ ( كلا) أربع مرات في سورة واحدة على فترات قصيرة، وفيه كما قلتُ من قبل إشارة خفية إلى وقوع ثلاث هزات قوية لإهلاك الشعوب الغربية، ثم بعدها تقع الهزة الرابعة التي يتراءى بها مصير هؤلاء المطففين أمام أعينهم، فيغلب الإسلام ويهلك الكفر، وسيكون مصير هؤلاء المسيحيين وخيما بحيث سيحاولون الفرار منه بكل وسيلة ولكن بدون جدوى.أما المؤمنون فيسارعون لرؤية مصيرهم قائلين نعم المصير ونعمت العاقبة! والجدير بالذكر هنا أن كلمة سجين التي قد وردت هنا بحق الكافرين مفردة، وكلمة عليين الواردة بحق المؤمنين جمع.وهذه إشارة إلى أن الله تعالى لا يزيد في عقوبة الكافر، بينما يزيد في جزاء المؤمن، وبالتالي يظل الكافر مقيَّدا في سجن واحد، بينما يظل المؤمن ينتقل من بيت إلى آخر أجمل وأروع وأعلى، وهكذا يسير به في عوالم كثيرة.فللمؤمن بيوت كثيرة، وللكافر بيت واحد.هذا هو أن الله تعالى استخدم صيغة المفرد لبيت الكافر وصيغة الجمع لبيت المؤمن.الله شرح الكلمات: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ) ۲۳ السبب نعيم: انظر في شرح الكلمات في سورة الانفطار تحت الآية: ١٤.التفسير : لم يقل الله تعالى هنا إن الأبرار سيُنعم الله عليهم، بل قال إنهم سيكونون في نعمة..أي أن الله تعالى سيجعل محيطهم كلَّه نعمةً.ويمكن تفهم هذا التعبير بمثال شخصين أحدهما يُصب عليه الماء بدلو، والآخر يقفز في بركة الماء، لا شك أن كليهما سيتبلل بالماء، ولكن شتان بينهما.إذا فالمراد من قوله تعالى ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم أن الله تعالى سيجعل محيطهم كله نعمة، وكأنما قفزوا في بركة النعمة، أي أن النعمة ستحيط بهم وتغطيهم من كل جانب.

Page 418

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٤١٤ عَلَى الْأَرَآبِكِ يَنظُرُونَ (3) ٢٤ سورة المطففين الأرائك: جمعُ الأريكة، وهي سرير منجد مزيَّن في قبة أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حَجَلَةٌ.(الأقرب) التفسير : كلمة ينظرون صفة للأبرار، أو حال فإذا اعتبرناها حالاً فالمعنى أن المرء ينال بعض النعم في الدنيا ولا يدرك حقيقتها، ولكن الله تعالى سيؤتي المؤمنين هذه النعمة وهم ينظرون أي يدركون عظمتها وقيمتها.ومثاله الواضح أنك إذا أعطيت طفلا قطعة ألماس فلن يعتبرها شيئا ذا قيمة، كذلك حين ينعم الله على بعض الأمم بنعم فلا يدركون حقيقتها؛ فمثلا قد أُعطيت الشعوب الأوروبية مائدة، تلك المائدة التي دعا لها المسيح من أجلهم ولكنهم يظنون أن كل ما أحرزوه إنما أحزروه بقوتهم؛ وكأنما قد عميت بصيرتهم.ولكن الله تعالى يقول عن المؤمنين إننا حين ننعم عليهم سيكونون عندها على الأرائك ينظرون..أي يدركون أن هذه النعم نتيجة للنبوءات الواردة عنهم.وكأن المعنى أنهم لما كانوا يتمتعون بالبصيرة الروحانية، فسيحملون عبء الأمانة جيدا.انظروا مثلاً إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعليه أجمعين فإنهم كانوا يدركون عند كل خطوة أن ما أُعطوه ليس ملكًا لهم، بل الله تعالى قد وضع هذه الأمانة في أيديهم، فحافظوا عليها كما ينبغي أن يحافظ على أمانات الله.أما إذا اعتبرنا " ينظرون" صفة للأبرار، فمعنى الآية عند المفسرين: ١- ينظرون إلى ما شاءوا من رغائب مناظر الجنة وما أعدَّ الله لهم من كرامات، ٢- ينظرون إلى أهل النار أعدائهم.(روح المعاني) الواقع أن المفسرين ظنوا أن هذه الآيات خاصة بيوم القيامة، فدفعهم ذلك إلى التفكير في أشياء تتعلق بالقيامة.لا شك أن هذه الآيات يمكن أن تنطبق على يوم القيامة أيضا، ولكن قبل حلول القيامة يمكن أن يراد من نعيم نعم هذه الدنيا، التي وعد بها الأبرار؛ ولذلك أرى الآتي:

Page 419

الجزء الثامن وبسبب ٤١٥ سورة المطففين أولاً: لقد أخبر الله تعالى من قبل عن مصير هؤلاء الفجار فقال كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ..أي أنهم لن يُرزقوا رؤية ربهم يوم القيامة، فكان لزامًا الآن أن يخبر عن مصير الأبرار، فلذلك قال إِن الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ..فلذلك يجب تفسير قوله تعالى (يَنْظُرُونَ على ضوء مصير الفجار المذكور في الآية السابقة، هذه القرينة سكت الله عما ينظرون إليه؛ ولذلك فأحد معاني ينظرون هنا أنهم ينظرون إلى ربهم ولا يكونون من المحجوبين عنه.وهذا النظر نوعان :أولهما صفاتي أي ما يتعلق بظهور الصفات الإلهية في الدنيا، كما يقول الناس في بلادنا عند رؤية مصيبة أو انقلاب عظيم أو حالات غير عادية: لقد رأيتُ برؤيتها ربي.وعليه فقوله تعالى عَلَى الأَرَائِكَ يَنْظُرُونَ) يعني: عندما يحين موعد تحقق هذه الأنباء سيُحدث الله في الدنيا انقلابات عظيمة، فيقول كل مؤمن برؤيتها: هذا ليس إلا من عند الله تعالى.وأمثلة ذلك موجودة في تاريخ الإسلام؛ فمثلا مرةً كان والد أبي بكر جالسا في مجلس بمكة حتى جاء شخص من المدينة، فسأله عن حال المدينة، فقال : لقد توفي رسول الله ، فقال : فماذا حصل بعد ذلك؟ فقال الزائر : لقد انتخب الناس خليفة له.قال : مَن؟ قال: أبو بكر.فقال والد أبي بكر : مَن أبو بكر ؟ قال ابن أبي قحافة فذكر أبو قحافة له أسماء عدة عائلات كبيرة، وقال: هل رضي هؤلاء بانتخابه؟ فقال: نعم، لقد بايعوه جميعا.فلم يملك والد أبي بكر نفسه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الطبقات الكبرى ذكرُ بيعة أبي بكر..أي لولا أن الله أحدٌ وأن محمدا رسوله لما رضيت كبار قبائل مكة وعائلاتها التي لا تعرف الانقياد ولا الإذعان لأحد من غيرهم – بأبي بكر خليفةً.كذلك كان الأنصار يعيشون في مدينتهم وكان يمكن أن يفكروا في أن الحكم يجب أن يكون بيدهم، ولكنهم بايعوا على يد أحد أهالي مكة.ولذلك يخبر الله تعالى أنه ستحدث ظروف بحيث يقول الناس: لقد نظرنا إلى الله ورأيناه، كما تذكر أبو قحافة الله تعالى عند خلافة أبي بكر وقال تلقائيا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

Page 420

الجزء الثامن ٤١٦ سورة المطففين والرؤيا الثانية هي رؤية روحانية، أي أن ينزل الله على قلب عبده ليثبته على مقام اليقين الكامل.وهذه الرؤيا القلبية تلي الرؤيا الأولى، لأن الرؤيا القلبية تؤدي إلى الشبهات أحيانًا، إذ يظنها مجرد وهم أو خيال، فلذلك لا ينزل الله على قلب الإنسان إلا بعد أن يُريه الآيات فيما ،حوله، وحيث إن هذا الإنسان يكون قد رأى له اليقين صفات الله متجليةً فيما ،حوله، فعندما يتجلى الله بصفاته على قلبه يتيسر الكامل بذات الله تعالى.لقد بين الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر أيضا حيث قال: ﴿وَفي الأَرْضِ آيات لِلْمُوقِنِينَ ( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: ٢١-٢٢).فأخبر أولاً أن في الأرض آيات ثم أخبر أن في أنفسكم آيات إذًا، فمن سنة الله تعالى أن يري آياته فيما حول الإنسان أولاً، ثم يتجلى على قلبه لكي لا يبقى في غُمّة من أمره.وقد ورد عن النبي ﷺ قول عائشة رضي الله عنها : أَوَّلُ مَا بُدئ به رَسُولُ الله ﷺ مِن الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.(البخاري، كتاب و ده بدء الوحي).فالله تعالى بنفسه يهيئ مثل هذه الظروف لكي لا يظل صاحب الو - والإلهام في شك، ولا يقول من حوله إن به مسا من الجنون؛ ثم بعد ذلك يتجلى عمل على قلبه.إن التجليات التي ظهر الله بها على المسيح الموعود الله أيضا كانت تدريجية، فأولاً تلقى إلهامات من قبيل: "اليوم سيأتي المال من أحد أقارب الحاج أرباب محمد خان" (براهين أحمدية، الخزائن الروحانية ج ١ ص ٥٦٥)، أو: "فصلت القضية في حقه، لأنه "مسلم" (المرجع السابق ص (٦٥٩ ولما تواترت الإلهامات وتحققت وظهر للناس صدقه، كما امتلأ قلبه باليقين، تحلّى الله عليه بتجل آخر أعظم.باختصار، يهيئ الله تعالى من الظروف ما يدرك به صاحب البصيرة الثاقبة أن أمرًا ما سيظهر من وراء قدرة الله تعالى.فقوله تعالى عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ يعني أن المؤمنين العاديين سيرون التجلي الإلهي الذي يظهر فيما حولهم، أما المؤمنون الكُمَّل فيرون ذلك التجلي الإلهي الذي سيظهر في نفوسهم هم.ولقوله تعالى عَلَى الأَرَائكَ يَنْظُرُونَ) معنى آخر، وهو أن الأرائك والسرر تُستخدم لإزالة التعب بالنوم أو الاستلقاء عليها، بينما يقول الله تعالى إن هؤلاء الأبرار يكونون

Page 421

الجزء الثامن ٤١٧ سورة المطففين ملتزمين بدينهم كليًّا حتى في مقام النوم والراحة أيضًا، فيكونون نشيطين ويراقبون المهمات المفوضة إليهم بتيقظ وكأن الله تعالى يخبر هنا أن الآخرين إذا نالوا النعمة والرخاء والراحة ركنوا إلى الكسل والغفلة وقصروا في أداء مهامهم، فتهاونوا في أداء حقوق الناس بل وانغمسوا في الملذات ونسوا واجباتهم ولكن هؤلاء الأبرار ليسوا كذلك، بل حين يعطيهم الله تعالى الحكم والملك في الدنيا ويكتب لهم العزة والشرف ويعطيهم المال والثروة فلن يركنوا إلى الكسل والغفلة، بل سيؤدون واجباتهم على أحسن وجه، يقظين حذرين من أن يحصل في أدائها نقص، وكيف يمكن تلافيه إن حصل.وبالفعل قد أعطى الله المسلمين المال والعز حسب وعده، ومع ذلك لم يغفلوا عن الإسلام.فقد ورد أن عبد الرحمن بن عوف به ترك عند وفاته من المال والعقار ما يساوي الملايين، وكان دخله السنوي بمئات الآلاف الطبقات الكبرى: ذكر وصية عبد الرحمن بن عوف، ومع ذلك ظل له يعمل على نشر الإسلام ليل نهار، ولم يركن إلى الكسل أو الغفلة لكثرة المال والثراء.وقد نال أبو بكر وعمر رضي عنهما مُلكًا عظيما، ولكنهما لم يغفلا ولم يكسلا، بل قاما بواجباتهما بكل حذر وتيقظ.فقد رُوي عن عثمان الله له أنه كان جالسًا في قبته ذات يوم، وقد أنهكه الحر الشديد بحيث لم يقدر على فتح بابها.فرأى من نافذتها شخصا يمشي في القيظ، فقال هذا فأزال الستار فإذا شخص قد لفح الحرّ وجهه بشدته.فقال: عنه الله الخادمه: انظر من مسافر.فلما اقترب من قبته عرف أنه عمر ه ، فقلق عثمان له وقال له: ماذا تفعل في هذا الحرّ يا أمير المؤمنين؟ قال: أبحث عن بعير فُقد من بيت المال.(أُسد الغابة: عمر بن الخطاب ) فقد أخبر الله تعالى بقوله عَلَى الأَرَائكَ يَنْظُرُونَ أن هؤلاء سيراقبون مهماتهم دائمًا ﴾ رغم جلوسهم على الأرائك، فلن يجعلهم رخاء الدنيا ونعمها كسالى.ولن يدفعهم جلوسهم على الأرائك إلى النوم والكسل، بل سيكونون فيها يقظين حذرين يراقبون حقوق الناس ويؤدون واجباتهم أحسن أداء.

Page 422

الجزء الثامن ٤١٨ سورة المطففين شرح الكلمات : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (3) ۲۵ نَضْرة: النضرة : النعمةُ ؛ العيش ؛ الغنى.وقيل الحُسن والرونق واللطف.....قوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ..أي بريقه ونداه.(الأقرب) التفسير : من معاني هذه الآية أن النعمة الإلهية الروحانية ستنزل على قلوبهم بحيث تتدفق من وجوههم فلن يستطيعوا إخفاءها.ذلك أن الأمور في الدنيا نوعان؛ ما يمكن إخفاؤه، وما لا يمكن إخفاؤه فيتجلى تلقائيا، ولذلك يخبر الله تعالى أن نضرة النعيم ستتدفق من وجوه الصحابة، ولن يستطيعوا إخفاءها.لقد جاء في زمن الفيج الأعوج متصوفون من المسلمين لم يكونوا يخبرون مريديهم شيئًا من معارف الدين إلا بعد أن يخدموهم لعشر أو لاثنتي عشرة سنة، أما الصحابة فكانوا على عكس ذلك؛ إذ كان الواحد منهم يقول: لو وضع العدو السيف على عنقي، وتذكرت قولاً لرسول الله لم أذكره للناس، فسوف أذكره لهم قبل أن تُضرب عنقي (البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول).إذًا فكان الصحابة تواقين لنشر أحكام الله في الدنيا، ولكن هؤلاء المتصوفة يظنون أنهم لو أخبروا الناس شيئًا من علومهم فإنها ستنفد، فيصبحون سواسية معهم.فمثلاً لما ألقيتُ خطابًا بعنوان "ذكر الله" في الجلسة السنوية، كان أحد المتصوفين غير الأحمديين يسمع خطابي، فبعث إلي رسالة في وريقة بما معناه: ما هذا الذي تفعل؟ تخبر الناس هذه المعارف واحدة تلو أخرى، مع أن المتصوفين الآخرين لا يذكرون واحدة منها لأحد إلا بعد أن يخدمهم عشر سنوات؟! فثبت أن من عادة الناس أنهم يخفون علمهم ولكنا لا نبالي بذلك، لأن الله تعالى يعلمنا معارف جديدة كل حين، وإن إخفاء العلوم عندنا هو بمنزلة تكدير الماء الصافي النقي.ثم إنه مخالف لما أمرنا الله تعالى به في قوله وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّتْ (الضحى : ۱۲)..أي انشروا نعم الله بين الناس ما استطعتم.إذن، فالله تعالى يخبر هنا أن هؤلاء الأبرار لا يُخفون نعمه عن الناس، بل من وجوههم ويودّون أن يجدوا من يعرضونها عليه.هي ستتدفق

Page 423

الجزء الثامن ٤١٩ سورة المطففين وهناك معنى آخر لهذه الآية، وبيانه أن الآية السابقة تحدثت عن الترقيات المادية، فلذلك قال الله تعالى الآن أنهم لن يتصرفوا كالآخرين حين ينالون الرقي المادي.فهناك أناس ينالون النعم المادية ومع ذلك تظل قلوبهم تحترق، إذ يفتقرون إلى الطمأنينة والسكينة، فإذا نال أحد الملك مثلاً وقعت في أسرته فرقة وفساد حتى يصبح وبالا عليه أو يتآمر عليه أمراؤه ووزراؤه بحيث لا يجد سكينة القلب مطلقا رغم أنه صاحب مُلك؛ فإذا أتاه الطباخ بالطعام خاف أن يكون قد دس فيه السم، وإذا أتاه ملكه الطبيب للعلاج ظنّ أنه يريد قتله بدواء مسموم ، وإذا جاءه وزير خاف أن يغتاله؛ أنه ولذلك نجد عند الملوك وسائل شتى وغريبة للحراسة والرقابة.ولكن الله تعالى يخبر سيعطي المؤمنين نعماً لن تكون آثارها بادية على وجوههم فحسب، بل ستترل على قلوبهم، فلن يفقدوا طمأنينة القلب كما يفقدها الآخرون رغم نجاحهم المادي، بل إنهم يحرزون الترقيات المادية، كما تنعم قلوبهم بالفرحة والسكينة مع الترقيات المادية.ثالث لهذه الآية، وهو أن الله تعالى قد بيّن هنا أنهم سينالون غنى النعيم..وهناك معنى أعني أنهم سينعمون بالغنى الذي هو نتيجة النعمة الحقيقية، والذي بسببه يرحم المرء الفقراء.فإننا نجد في الدنيا أن بعض الأخلاق الحميدة تتيسر للإنسان بالكسب، وبعضها يتحلى بها بالوراثة؛ فمثلا نرى أن من نال الثراء بالكسب حافظ عليه كل الحفاظ، ومن نال الثروة نتيجة نسبه أي ورثها عن أبيه، لم يحافظ عليها مثل الأول.فمثلاً لو أضاع خادم من نال الثراء بالكسب شيئًا، عامله بقسوة، ولكن من كان غني القلب نتيجة نسبه، فلن يعاقب خادمه مثل الأول، بل يؤثر التغاضي والعفو عنه.ومن معاني (نضرة) الغنى أيضا، وعليه فقوله تعالى تعرفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يعني أن الصحابة رعاة الإبل - عندما سيجلسون على العرش فإنهم سيتحلون بسعة الصدر وغنى النفس ودمائة الخلق بحيث يبدو للرائي أنهم ورثوا الملك آبائهم.وكأنهم يتحلون - فور جلوسهم على كرسي الحكم بإذن الله – بالأخلاق التي تتولد بالتدرب والكسب وأيضا بالأخلاق التي يرثها المرء بالنسب.وبالفعل لن تجد في أعمال الصحابة شيئا من اللؤم والخسة، مع أننا نجد أن الذين يكونون عن

Page 424

الجزء الثامن ٤٢٠ سورة المطففين حديثي عهد بالثراء يظل فيهم شيء مما يسمى بالإنجليزية (Foppishness) أي أنهم يسعون بطريق أو آخر لأن يتظاهروا للناس بثرائهم، فيعرف القوم أن هؤلاء حديثو عهد بالثراء.ولكن الله تعالى يخبر أنكم إذا نظرتم إلى الصحابة فستجدون على وجوههم الغنى، ولن يخطر ببالكم أنهم حديثو عهد بالثراء، بل سيخيل إليكم أنهم لا زالوا أهل حكم وثراء نسلا بعد نسل، إذ لن تجدوا فيهم خسة، فلا يتنازعون على كل صغيرة وكبيرة متظاهرين بثرائهم.كان الخليفة الأول له يحكي لنا قصة أحد المسلمين الذي تنصر فيما بعد، أنه ورث عن أبيه مالا كثيرا، فأنفقه بإسراف ،وأفلس، ومع ذلك كلما نزل من القطار بمحطة لاهور دعا حمالاً وناوله منديله وأمره بأن يتبعه.فسأله حضرته ذات مرة: ما هذا الذي تفعله؟ إذ ليس معك متاع ولا حقيبة ليحملها الحمال عنك، فتخرج من جيبك منديلك وتضعه في يده وتأمره أن يأتي وراءك ! فقال الرجل: ذلك لأن مكانتي لا تظهر بدون ذلك! فالذين يجدون الثروة فجأة تفسد أخلاقهم، ولكن الله تعالى يخبر هنا أن رعاة الإبل هؤلاء عندما يجلسون على العروش فلن تجدوا في أخلاقهم من وصمة تجدونها عند حديثي عهد بالثراء، بل سيظهر في وجوههم غنى النعيم وبالفعل، كان الصحابة يعترفون صراحة على الدوام أنهم كانوا فقراء جياعا، لم يجدوا ما يأكلونه، ولكن الله تعالى أعطاهم هذه النعم ببركة إيمانهم بمحمد رسول الله ﷺ.لقد قال لهم مَلكُ الفرس مرة: كيف تجاسرتم على شن الغارة على مُلكي وأنتم شعب حقير يأكل الضب ؟ لو كان هناك غير الصحابة لرد على الملك الفارسي: لقد أهنتنا بقولك هذا، ولكن الصحابة قالوا له في هدوء تام قد صدقت أيها الملك، إذ كنا كذلك من قبل، ولكن لم نعد هكذا بعد بعثة محمد رسول الله ﷺ بيننا، بل قد تغيرنا تماما الآن.الطبري، سنة أربعة عشرة، ذكر ابتداء أمر القادسية) معناه في العربية: تظاهر وإسراف في اللباس والزينة الغالية غير المنسقة غالبًا، مما يشير إلى أن هذا الشخص ثري ولكنه حديث عهد بالثراء.(المترجم)

Page 425

الجزء الثامن ٤٢١ سورة المطففين فالله تعالى يبين هنا أن غنى النعمة أصبح جزءاً من أنفسهم، فلا يُخفون كالآخرين ماضيهم مخافة الإهانة، إذ لا يرون في ذلك أي إهانة، بل يعتبرونه آية من آيات الله تعالى، فيخبرون الناس حقيقتهم مسرورين.إذن، فمن معاني قوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أَنك ترى في وجوههم غنى النعمة، ولن تجد أخلاقهم كأخلاق قوم حديثي عهد بالثراء.يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّحْتُومٍ شرح الكلمات: رحيق: الرحيق الخالص ؛ الخمرُ ؛ ضرب من الطيب.(تاج العروس) مختوم ختم يختُم حَتْمًا وختامًا: طبعه ووضع عليه الخاتَمَ.ويتعدى أيضا بعلَى، يقال ختم الكتاب وعلى الكتاب.وختم الشيء حتمًا: بلغ آخره.وختم الكتاب: قرأه كله وأتمه.وختم الصكَ وغيرَه : وضع عليه نَقش خاتمه حتى لا يجري عليه التزوير.وختم العمل : فرغ.منه.وختم الإناء: سدَّه بالطين ونحوه، وفي القرآن: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقِ ختامه مسك.وختم الزرع وختم عليه : سقاه أول سقية.ختم الله له الخير: أتمه.وختم على قلبه : جعله لا يفهم شيئا ولا يخرج منه شي شيء.وختم الله له مختوم الخير : جعَل له عاقبة حسنة.وختمه بمعنى ختمه، والتشديد للمبالغة.(الأقرب) التفسير : من معاني المختوم ما ختمه المرء..أي بلغ آخره؛ فالمراد من قوله تعالى يُسْقَوْنَ مِنْ رَحيقِ مَحْتُومٍ أنهم سيُسقون شرابًا راقيا لطيفا من شربه لم يتركه حتى يُنهيه..كلّ بحسب ظرفه وقدره.وهذا يبين أن الرحيق المختوم لا يعني الخمر المعروفة، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى ختامه مسك وقوله لاحقا مِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم ، حيث بين الله تعالى أنه ليس خمرا مادية دنيوية، بل هو شيء لا بد من نسبته إلى الآخرة.أما إذا اعتبرنا هذا الشيء من نعم هذه الدنيا، فلا بد أن يراد به ما يشربه الناس كله، ولا يتركون منه ،قطرة، كلّ بحسب ظرفه وقَدْره وعندي الرحيق هنا نشوة حب الله تعالى التي يولّدها القرآن، فإن عشق الله يخلق في المرء حالة أن المراد من

Page 426

الجزء الثامن ٤٢٢ سورة المطففين من النشوة والسكر فيخر على العتبة الإلهية كل حين، شأن الخمر التي تسكر شاربها.والشعراء أيضا قد شبّهوا عيون الحبيب بالمخمرة بكثرة، لأنها تسكر العاشق كما تسكر الخمر شاربها.وقد تبين من ذلك أن الخمر لا تكون مادية فحسب، بل إن سكر المحبة والعشق أيضا يسمى خمرا، ولذلك قال الله تعالى يُسْقَوْنَ مِنْ رَحيقِ مَحْتُومٍ..أي أنهم سيُسقون خمر المحبة..والمراد منها تعاليم القرآن ومعارفه أو ما بينه الرسول مع من أحكام على ضوء القرآن الكريم، وأنهم سيعملون بها مخمورين بنشوة المحبة حتى يبلغوا في عشقهم الذروة.وكلمة مختوم تدل على جودة الشراب، كما تدل على مزايا من يتعاطاها.لقد أعطى الله الأمم السابقة شرائعها ، ولكنهم لم يعملوا بها إلا عملا ناقصا، فقوم موسى ال عملوا ببعض شريعته ولم يعملوا ببعضها، وهذا ما فعل قوم عيسى العليا أيضًا، ولكن أمة محمد رسول الله هي تلك الأمة التي حين وضعت الكأس على شفتيها ظلت تشربها حتى ختمت ما فيها..أي أنهت ما فيها..أعني أنهم عملوا بكل حكم من أحكام شريعته.وكلمة مختوم تدل على روعة شريعة القرآن الكريم أيضا، لأن الأحكام التي لا يُترك العمل بها تكون ملائمة للفطرة الإنسانية تماما، وليست مما لا تطيقها.إن الحكم الذي لا يطيقه الإنسان يتركه ولكن قال الله تعالى عن القرآن الكريم وَلَقَدْ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ للذكر (القمر : ۱۸)..أي جعلناه سهلاً للعمل به، إذ ليس فيه حكم ترفضه الفطرة الصحيحة، أو يشق عليها العمل به.فبكلمة واحدة..مختوم..قد أشير إلى محاسن هذا الشرع وأصحابه؛ فمن ناحية أخبر تعالى أنه ليس في القرآن حكم يمكن تركه بل بوسع الإنسان العمل بكل أحكامه، ولا يمكنه أن يقول إن العمل به محال عليه؛ ومن ناحية أخرى أثنى على الصحابة أيضا، حيث بين أن الله تعالى قد وهب لمحمد رسول الله الله أصحابا وخداما إذا وضعوا كأس الشريعة بأفواههم أنهوها كلها.والمعنى الثاني للختم هو الطبع..والشيء المختوم هو ما لا يمكن خلط الشيء فيه، فقوله تعالى رَحيق مَختُوم يعني أنه طيب نقى منزّه عن أي شائبة.وهذه أيضا من مزايا القرآن الكريم؛ فإن أكبر أعدائه أيضًا يعترفون ما عدا الشيعة – أنه منزه

Page 427

الجزء الثامن ٤٢٣ سورة المطففين داخله.عن أي خلط وتحريف..لم يدخل فيه شيء من خارجه، و لم ينقص شيء من ذلك أن من مزايا الشيء المختوم أنه لا يدخل فيه شيء من الخارج ولا يخرج من داخله شيء؛ كذلك فإن القرآن كتاب مختوم عندما نزل القرآن كان النبي ﷺ حيًّا ، فما كان لأحد أن يجرؤ على تحريفه؛ ولكن كان هناك خطر أن يتطرق الفساد إليه بعد وفاته فبشر الله تعالى أنه سيظل مختومًا بعد وفاته.أيضا.وحيث إن هذه الآيات تتحدث عن إعطاء المسلمين المُلْكَ، حيث أخبر الله تعالى أنه سيأتي زمان يجلس فيه المسلمون على الأرائك ينظرون ، لذلك نبه الله أيضا أنهم عندما ينالون الملك والحكم والقوة والمنعة بكل أنواعها فإن القرآن سيظل محفوظا عندها أيضا، ولن يقدر أي من ملوكهم على التصرف فيه.عندما تنال أمة الملك في الدنيا، يتمنون عادةً الانغماس في ملذاتها، ولما كانت تعاليم دينهم تحول دون ذلك، فيأخذون في تحريف شرائعهم، ولكن الله تعالى يبشر أن القرآن كتاب مختوم، وسيظل كذلك خالصا نقيًّا تماما في زمن رقي المسلمين، فلن يُنقص منه حُكم ولن يضاف إليه تعليم.لقد تطرق الفساد إلى المسيحيين حين أراد الملك الرومي اعتناق المسيحية، حيث قال لهم: ليس عندي عذر في اعتناقها، غير أني أرى أن تحتفلوا بيوم الأحد بدلاً من السبت الذي تحتفلون به، لأن قومي يحتفلون بيوم الأحد، فغيّر المسيحيون احتفال السبت إلى الأحد.ثم قال لهم: إن لا يؤمنون بالتوحيد الخالص، فيجب أن تدخلوا في عقيدة التوحيد بعض الاستعارات والكنايات ليسهل على قومي اعتناق المسيحية، فرضوا باقتراحه وقالوا: سنقول من الآن إن هناك الإله الآب والإله الابن والإله الروح القدس؛ فدخل الملك مع قومه في المسيحية.فمع أن المسيحيين أدخلوا هذه الأسماء الثلاثة في عقيدتهم لضم الآخرين إلى دينهم إلا أنها أخذت مكان الحقيقة بالتدريج، واستبدل المسيحيون عقيدة الآلهة الثلاث بعقيدة الإله الواحد إذن فتتسرب أنواع التحريفات في الدين حين ينال الشعب الملك والرخاء والقوة، ولكن الله تعالى يخبر هنا أن المسلمين حين يجلسون على الأرائك وينالون الحكم والقوة والسلطة، فإن القرآن الكريم سيظل عندها أيضًا كرحيق مختوم ، ولن يجرؤ ملك من ملوكهم على إضافة شيء أو نقص قومي

Page 428

الجزء الثامن ٤٢٤ سورة المطففين شيء من أحكامه تحقيقا لمآربه.وبتعبير آخر قد وعد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم في ز من ازدهار الإسلام أيضا.وقوله تعالى: حيق مَحْتُوم قد تضمن الرد على الشيعة أيضًا، الذين يظنون أن المصحف الحالي ينقصه جزء من القرآن؛ ذلك أن المختوم له مفهومان كما قلتُ؛ أي لا يُدخل فيه شيء ولا يُنقص منه شيء، فكيف يصح إذن زعم الشيعة عن كتاب مختوم أن جزءا منه ناقص؟ ختَمُهُ مسْكُ وو شرح الكلمات: الختام مصدرُ حَتَم يختم والختام الفص من مفاصل الخيل؛ والمقطع من القصيد)؛ والطين يُختتم به على الشيء.(الأقرب) فالمراد من قوله ختامه مسك : أولا: أن ذلك الشيء يُختم بالمسك ثانيا: أن آخره مسك ثالثا: أنه يكون مسكًا حتى نهايته.التفسير : أول مفاهيم قوله تعالى ختامه مسك أن ختمه يكون مسكا، أي أن ما سيوضع على هذا الرحيق لحفظه يكون كالمسك.والبديهي أن مهمة خدمة القرآن وحفظه ظاهريًّا منوطة بالحفاظ والقراء؛ أي أنهم خدام القرآن وحفظته.وكما أن كلمة (مختوم تشير إلى أنه لا يدخل فيه شيء من الخارج ولا يخرج من شيء كذلك فقوله تعالى ختامه مسك يعني أن مهمة خدمة القرآن ستُفوَّض لقوم يفوحون كما يفوح المسك..أي أنهم يكونون صلحاء من الطراز الأول، يدركون مسؤوليتهم ويحفظون القرآن حق الحفظ.وبالفعل نرى أنه قد مضى على نزول القرآن أربعة عشر قرنًا، ومع ذلك لم تأت خلالها فترة لم يوجد فيها جماعة كبيرة الحفاظ الخادمين للقرآن إذن فقوله تعالى ختامه مسك يتضمن نبوءة بأن من

Page 429

الجزء الثامن ٤٢٥ سورة المطففين الله تعالى سيقيم لحفظ القرآن ظاهرًا قومًا يتبوءون مقاما عاليا في الورع والتقوى، ويفوحون كما يفوح المسك.والمفهوم الثاني لقوله تعالى ختامه مسك أن آخره يكون مشكا.هناك شيء دائمًا في قعر إناء الخمر ويسمى دردیا ومن عادة الأوروبيين أنهم يتركون يرسب بيع الخمر بعد صنعها في أوان كبيرة سنة أو سنتين، وأحيانًا عشر بل خمس عشرة سنة، ليرسب في قعرها الدردي من دقائق ذرات العنب وغيرها، ثم بعدها يملأون بها القوارير.ولكن لم يكن الأمر هكذا في الزمن القديم عادة، إنما كانوا يسارعون في الخمر بعد صنعها، فكان الدردي يرسب في القارورة.والله تعالى يقول هنا لا شك أن دردي الخمر يكون رديئا ، ولكن دردي القرآن الكريم كالمسك، فما بالكم بكتاب دُرْدِيُّه مسكُ؟ ما هو الدردي؟ هو ظاهر الشيء؛ لأنه حين تصنع الخمر من العنب أو التمر وغيرهما فإن دقائق ذراتهما ترسب في قعر الإناء، ويبقى فوقها رحيقهما الخالص الذي هو الخمر ؛ فثبت أن الدردي ظاهرُ الشيء والخمر رحيقه.وقد أخبر الله تعالى هنا أن دردي القرآن ،مسك فالمراد من درديه ظاهرُ أحكامه.والمعنى أن القرآن كتاب ظاهر تعاليمه جيد، كما أن باطن أحكامه جيد أيضا.فلو فحصتم أبسط تعاليمه في أية قضية لوجدتموها مسكًا، فما بالكم بتعاليمه الروحانية من الطراز الأول؟ التي هي شخص والمفهوم الثالث لقوله تعالى ختامه مسك أن نهايته أيضا مسك، بمعنى أن بداية القرآن عظيمة كما أن نهايته أيضا عظيمة.ففي البداية قد جاء برسالة الله هذه عظيم كمحمد رسول الله ، وفي النهاية سيبعث الله لنشرها المسيح الموعود الليلة في الزمن الأخير.وكأنه تعالى يقول إنها كأس يبدأ الناس بشربها من زمن محمد ، وسيظلون يشربونها، إلا أنها ستظل مسكا حتى النهاية..بمعنى أن الله تعالى سيبعث على الدوام أُناسا يخدمون القرآن وينشرون الإسلام، ثم في الزمن الأخير سيبعث شخصًا ينشر شذى القرآن في العالم كله.وهناك أمر لطيف جدير بالذكر هنا وهو أن المسيح الموعود اللي كان يحبّ المسك كثيرًا ويتناوله دائما فكأن قول الله تعالى ختامه مسك إشارة إلى أنه

Page 430

الجزء الثامن ٤٢٦ سورة المطففين من سيقيم في النهاية لنشر القرآن الكريم شخصًا يُكثر من تناول المسك.علما أن سنة الله تعالى أنه يجعل علامة ظاهرة لمعرفة مبعوثه الصادق عادة، ومثاله الآخر علامة ختم ظاهر جعله الله على ظهر النبي الا الله بالإضافة إلى ختم النبوة عليه بمعناها الحقيقي.شرح الكلمات: وَفِي ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُونَ ) ۲۷ فليتنافس المتنافسون: تنافسوا في الشيء بمعنى نافسوا.ونافس في الشيء الشيء منافسةً ونفاسًا: رغب فيه على وجه المباراة في الكرم؛ بالغ فيه وغالى وزايد.(الأقرب) التفسير: إن قول الله هذا يبين بجلاء أن الرحيق المختوم ليس شيئا ماديا، بل روحاني، إذ لو كان ماديَّا، فكيف يقال لشخص لا يقدر على شرب كأس واحدة منه أن يباري الآخرين في شربه؟ إنما يكون التنافس حيث يحاول الواحد سَبْقَ الآخر.فهذا دليل على أن الرحيق المختوم شيء روحاني يمكن أن يتنافس فيه الواحد مع الآخر، وليس شيئا ماديا يتناول بقدر محدود ولا مجال للتسابق فيه.وحيث إن هذه النعمة الروحانية يمكن أن يتنافس فيها الناس، فقال الله تعالى لو غبطتم الآخرين في خدمات الدين وتسابقتم فيها، فهذا ليس جائزا فقط، بل هو ضروري.ومن معاني التنافس التزايد والتقدم باضطراد، وعليه فقوله تعالى ﴿وَفي ذَلكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ يعني بالإضافة إلى معنى سبق الآخرين في الخيرات- أن كل - واحد منهم سيسعى ليكون حاضره أفضل من أمسه.إذًا فمعنى المباراة يدعو المؤمنين إلى التسابق، ومعنى التزايد يحتهم على أن يكون حاضر كل واحد أفضل من أمسه ولو وضعوا هذين الأمرين نصب العين لتقدموا بسرعة فائقة.

Page 431

الجزء الثامن ٤٢٧ سورة المطففين ۲۹ وَمَزَاجُهُ مِن تَسْنِيمِ (3) عَيْنًا يَشْرَبُ مَا الْمُقَرَّبُونَ : شرح الكلمات: ۲۸ مزاجه: مَزَج الشرابَ بالماء مزجًا ومزاجًا: خلطه به.(الأقرب) ود تسنيم: سنم الكاةُ البعير: عظم سَنَامَه.وسلّم فلان الإناء: ملأه.وسم المكيال: ملأه ثم عمل فوقه مثل السنام من الطعام.وسنّم الشيء: علاه.وسم القبرَ : ضِدُّ سطحه.(الأقرب) التفسير: أي أن الله تعالى سيمدّ كؤوس الخمر هذه بماء الإلهام، لكي يستمتع بها كلّ إنسان من أي زمن بحسب مزاجه وطبعه.بمعنى أن القرآن خمر بلا شك، إلا أن الخمر يضاف إليها ماء يناسبه، فإذا كانت بحاجة إلى ماء قليل مزج إليها القليل منه، وإذا كانت بحاجة إلى ماء كثير مُزج إليها الكثير منه.وكأنه تعالى يقول: هذا الرحيق بحاجة إلى تغيير شكله مع البقاء على أصله - بحسب مختلف العصور ومختلف الأذواق لكي ينتفع به الناس حق الانتفاع.إذن، فقوله تعالى ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تسنيم إشارة إلى أنه سبحانه سيترل في كل عصر ماء الإلهامات التي تُمزج برحيق القرآن حسب حاجة ذلك العصر.فالتسنيم هنا هو ماء الإلهام الذي يُمزج بالقرآن في كل زمان، وهكذا أخبر الله تعالى أن مكانة القرآن الكريم لا تتجلى كما ينبغي من دون نزول الإلهام المتجدد ، وإنما تنكشف عظمته وشأنه وفضله كما ينبغي حين يُمزَج به ماء.التسنيم.لا شك أن القرآن الكريم رحيق مختوم، ولكن ستتجدد الضرورات في كل عصر، مما سيتطلب نزول إلهام جديد، فعندها نُترل وحينا وإلهامنا الذي سيكون بمثابة التسنيم للقرآن الكريم أي سيتسبـ في انكشاف عظمته ورفعته.ثم أخبر الله تعالى ما هو التسنيم؛ فقال : عَيْنًا يَشْرَبُ بهَا الْمُقَرَّبُونَ..أي أنه ينبوع يشرب منه المقربون.وقد قال البعض عن قوله تعالى يَشْرَبُ بهَا : الباء هنا زائدة، والمعنى: يشربها.وقال الآخر: الباء هنا بمعنى (من)، أي يشرب منها.وقال غيرهما: الباء هنا للحال،

Page 432

الجزء الثامن ٤٢٨ سورة المطففين والمعنى: عينًا يشرب ممتزجا بها المقربون..أي أنها عين يشرب المقربون الرحيق ممزوجا بها.وقال البعض: الباء هنا وردت بمعناها الأصلي، وهناك حذف والتقدير: عينا يشرب ويلتدّ بها المقربون.(روح المعاني) فقوله تعالى يَشْرَبُ بهَا الْمُقَرَّبُونَ قد كشف بوضوح أن قوله تعالى ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم يشير إلى الإلهام الإلهي، لأن هذه الآية تخبر أن أحكام القرآن ستعرض على الناس على ضوء إلهام متجدد ينزل على المقربين..أي سيوجد في الأمة المحمدية أُناس على الدوام يتفجر في قلوبهم ينبوع التسنيم، فنتيجة شرب مائه يقومون بتفسير القرآن وشرحه مما يجعل الناس ينتفعون به في كل عصر.إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ (3) وَإِذَا مَرُّوا بهمْ يَتَغَامَرُونَ (3) شرح الكلمات: الناس، يضحكون: النِّحْكُ: انبساط الوجه وتكثُرُ الأسنان من سرور النفس.واستعير الضحكُ للسخرية، وقيل: ضحكت منه.ورجلٌ ضُحَكَة: يضحك من وضُحْكَة : لمَن يُضحك منه، قال تعالى: وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ ، ﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ، تَعْجَبُونَ ) وَتَضْحَكُونَ)؛ ويُستعمل في السرور.المجرد.واستعمل للتعجب المجرد تارة، ومن هذا المعنى قصد من قال: الضحك يختص بالإنسان، وليس يوجد في غيره من الحيوان.(المفردات) أستغرب كيف قال صاحب "المفردات" هذا الكلام مع أن التعجب باد في الحيوانات فمثلا إذا وضعت أمام حيوان شيئا اقترب منه، وقلبه بفمه وشَمَّه، فإذا لم يره صالحا للأكل تنحى عنه.غير أننا لا نرى حيوانًا يقهقه.نعم، نجد القرد يضحك إلى حد ما.

Page 433

الجزء الثامن ٤٢٩ سورة المطففين ثم يقول صاحب المفردات: "ولهذا المعنى قال وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى." لقد فسر صاحب "المفردات" الضحك في قوله تعالى أضحك بمعنى التعجب، مع أن هذا المعنى لا ينطبق هنا، لعله أورد هذه الآية هنا خطأ.إنما الآية التي يُستنبط منها معنى التعجب قد ذكرها فيما بعد أعني قوله تعالى (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ.ثم يقول صاحب المفردات: "وضحكُها كان للتعجب بدلالة قوله أَتَعْجَبينَ منْ أَمْر الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ.ويدل على ذلك أيضًا قولَه أَأَلدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عَجِيبٌ.وقولُ من قال: حاضت، فليس ذلك تفسيرًا لقوله فضحكت كما تصوّره بعض المفسرين." وأضاف صاحب المفردات أن الشيء الواضح البريق يسمى ضاحكًا على وجه الاستعارة، حيث سُمِّيَ البرقُ العارض ضاحكا، والحجر يبرق ضاحكا، وسُمي البَلَحُ حين يتفتق ضاحكا.وطريقٌ صَحواً واضح.وضحك الغدير: تلألاً امتلائه." (المفردات) يتغامزون تغامز القومُ: أشار بعضهم إلى بعض بأعينهم.(الأقرب) التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن الذين أجرموا وقطعوا صلتهم عن بسبب معاصيهم سيسخرون من المؤمنين.والحق أنه تعالى قد أشار هنا إلى ما سيؤول إليه المسلمون من ضعف وانحطاط شديدين، حتى يبدو أن رقيهم ثانيةً مستحيل، فيضحك الكفار برؤيتهم، وعندما يقول لهم المسلمون واثقين بوعود الله تعالى إنه سيكتب لهم الرقي والازدهار مرة أخرى سيقولون: لقد جُنَّ هؤلاء وفقدوا صوابهم، حيث لا يزالون يحلمون بالحكم، ويظنون أنهم سيحدثون ثورة من الله تعالى عظيمة في العالم ويقيمون نظاما جديدا.ثم قال الله تعالى ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَرُونَ.يشير المرء بالعين إلى صاحبه حين يكون على يقين أن الشخص الثالث مجنون؛ ذلك أن الجنون يجعله يوقن بأنه سينجح ويصبح ملكًا، فيعلن بذلك بين القوم، فيلفت بعضهم أنظار بعض إلى المجنون، مشيرين بعيونهم مخافة أن يشتبك معهم إذا تكلموا بشيء من أفواههم.

Page 434

الجزء الثامن ٤٣٠ سورة المطففين ولذلك يقول الله تعالى إن هؤلاء الكافرين عندما يرون المؤمنين ويسمعون دعاويهم بإحداث ثورة عظيمة في العالم، يقول بعضهم لبعض مشيرًا بعينه: انظروا لقد حُنَّ هؤلاء.حين العلية هذا المشهد يماثل مشهد نوح كان يصنع الفلك، وكان أعداؤه يضحكون منه.فلما بدأ نوح اللي بصنع السفينة بأمر الله تعالى، كان الكفار يمرون به فيضحكون منه بأنه مجنون، لذلك يقول الله هنا إن الكفار في الزمن الأخير حين يرون المؤمنين منهمكين في القيام بمهماتهم ، ويقول بعضهم لبعض مشيرًا بعينه: انظر ماذا يفعل هؤلاء المجانين؟ وهذه الآية تنبئ أمرًا آخر وهو أن الأمة الغالبة في ذلك الوقت ستبدو متسامحة، وتتظاهر بخلاف ما تخفيه في صدرها، ذلك لأن المرء يتغامز إذا ما رأى أن كلامه سيُعتبر خلافًا للأخلاق.وهذه العلامة توجد في الشعوب الأوروبية بشكل بارز، فإذا تكلمت معهم سيقولون فورًا: أنت مصيب فيما تقول، بينما يعدونه شخصاً مجنونا.إذن، فالله تعالى بقوله يتغامزون قد لنا أخلاق الأوروبيين بأنهم يعملون في الظاهر على عكس ما يضمرونه.شرح رسم وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ )) الكلمات: فكهين: جمع فَكه.فكه الرجلُ فَكَها وفكاهةً: كان طَيِّبَ النفسِ مَزَاحًا ضَحوكًا، أو يحدث أصحابه فيُضحكهم، فهو فاكة وفكةٌ وفَيكَهان.وفكه منه: تعجب.(الأقرب) التفسير: أي أن هؤلاء القوم عندما يرجعون إلى قومهم أو إلى أهليهم يضحكون من المسلمين قائلين: ما أشد هؤلاء غباء!

Page 435

الجزء الثامن وفكة منه يعني ٤٣١ سورة المطففين تعجب أيضًا، فالمعنى أنهم يتعجبون من المسلمين قائلين: ما أسخف هؤلاء وما أشدَّهم حماقةً، إذ يظنون أن تعاليمهم يمكن أن تنتشر في زمن الحضارة والتقدم هذا.وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُونَ ومن الخطأ التفسير: ضمير (هم) في قوله تعالى رأوهم يمكن أن يرجع إلى المؤمنين أو إلى أهل الكافرين..أي أحيانًا يكتفي الكافرون بالتغامز فيما بينهم برؤية المؤمنين، وأحيانًا لا يتمالكون أنفسهم فيقولون فيما بينهم انظروا إلى هؤلاء الأغبياء الضالين.وإذا أرجعنا الضمير إلى أهل الكافرين، فالمراد أنهم عندما يرجعون إلى قومهم يقولون: لقد رأينا هؤلاء القوم عن كتب فوجدنا أنهم هالكون حتما، أن نعقد عليهم أي أمل للرقي، أو نظن أنهم سيُحدثون أي انقلاب طيب في الدنيا.وفي هذه الحالة يكون قولهم السابق خلاف هذا القول..أي أن هؤلاء يتغامزون فيما بينهم أمام المؤمنين، فمثلاً إذا جاءهم أحد من قساوسة المسيحيين يقول أنتم المسلمون تعملون عملا رائعا ولكنه عندما يرجع إلى قومه يؤلف كتبا قاسية ضد الإسلام ويقول لقومه إن هؤلاء قوم ضالون.وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَيفِظِينَ (3) ٣٤ التفسير : هذه الآية تشير إلى علامة أخرى للشعوب الغربية المسيحية بأنهم يستولون على بلاد الآخرين، وإذا قيل لهم : لماذا تستولون على هذه البلاد؟ يقولون: لقد فعلنا ذلك لحمايتهم.لقد سيطروا على الهند بحجة حمايتها، واستولوا على إفريقيا وغيرها من البلاد بحجة حمايتها.لذلك يقول الله تعالى لم يُرسل هؤلاء محافظين على الآخرين، فلم يتدخلون في سياسة كل دولة ويسيطرون عليها بحجة حمايتها؟

Page 436

الجزء الثامن ٤٣٢ سورة المطففين الحقيقة أن هذه الآية تتضمن السؤال والجواب معًا، لأن من أساليب القرآن اللطيفة أنه يترك السؤال تارةً ويجيب عليه وتارةً أخرى يذكر جزءا من الحديث ويترك الآخر، لأنه مفهوم من السياق.فقوله تعالى ﴿وَمَا أُرْسَلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ جزء من موضوع متكامل، وباقي جزئه محذوف، والمراد لماذا يستولي هؤلاء على بلاد الآخرين مع أن الله تعالى لم يفوّض إليهم مهمة الحفاظ عليها، حتى يجوسوا خلال بلاد الآخرين ويستولوا عليها بحجة حمايتهم، وكأنهم مسيطرون عليهم من الله فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) عند تعالى؟ التفسير فيومئذ يقال : اليوم سينتقم المؤمنون من الكفار على استهزائهم.المؤمن لا يليق به أن يستهزئ أو يسخر من أحد، لأن القرآن الكريم قد عدَّ هذا الفعل جهالة؛ فالمراد من يضحكون أنهم ينتقمون منهم على استهزائهم.عَلَى الْأَرَآبِكِ يَنظُرُونَ (2) التفسير : هنا أعاد الله تعالى الموضوع السابق نفسه وبين كيفية انتقامهم جالسين على الأرائك ينظرون فبيّن أنهم لن ينتقموا منهم انتقامًا سيئا، بل انتقاما حسنًا.عندما كان الفجار على الأرائك كانوا يرتكبون الظلم، أما هؤلاء فيعدلون وينصفون وهم على الأرائك ينظرون كي لا يُظلم أحد علمًا أن قوله تعالى ينظرون ) هنا بمعنى الرقابة..أي أنهم سيراقبون الأمور كلها جيدًا حتى لا يُظلم أحد.هَل ثُوبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) التفسير قوله تعالى هَلْ تُوِّبَ الْكُفَّارُ إما متعلق بـ (ينظرون، والمعنى أنهم ينظرون هل أُعطي الكفار جزاءهم كاملا أم لا ؛ أو أنه جملة استئنافية، والمعنى:

Page 437

الجزء الثامن ٤٣٣ سورة المطففين سيقال لهم: هل ظهرت نتائج أعمالكم أم لا؟ فقد كنتم تظنون أنكم لن تُسألوا عن تطفيفكم ،وظلمكم، وأن غلبتكم ستستمر إلى يوم القيامة، وأن الدول المسيحية ستظل تصبّ الفظائع على الناس كيفما تشاء؛ فأخبرونا الآن، أجزيتم على فظائعكم أم لا؟

Page 438

الجزء الثامن ٤٣٥ سورة الانشقاق سورة الانشقاق مكية، وهي ست وعشرون آية مع البسملة سورة الانشقاق مكية، ويبدو من مضمونها وأسلوب عبارتها وما رُوي عنها أنها مما نزل في بداية البعثة النبوية.إن موضوعها مرتبط بسور التكوير والانفطار ،والمطففين وصلتها بهذه السور ظاهر بين تكمن علاقتها بالسورة السابقة في أن الله تعالى قد ختمها بقوله هَلْ تُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ...أي أن الكفار يظنون أنهم لن يعاقبوا على سلوكهم الطائش، ولكن حين تكسر شوكتهم وينتصر المسلمون سيقال لهم : أيها الكافرون، انظروا إلى هلاككم! أجزيتم على تصرفاتكم الخاطئة أم لا؟ عندها يُقضى على قوتهم.وهلاك الكفر متلازم لرقي الإيمان، لأن الفراغ الكامل محال في العالمين الروحاني والمادي؛ بل كلما انعدم شيء حلّ مكانه شيء آخر.فإذا ذهب الكفر حل الإيمان مكانه، وإذا ذهب الإيمان أخذ الكفر مكانه.ولما كانت السورة السابقة تتحدث عن دمار الكفر، فهذه السورة تتحدث عن ازدهار الإيمان وكأن صلة هذه السورة بالسور الثلاث السابقة – المتحدة معها في المعنى - هي أنّ الموضوع الأساس فيها هو رقي الكفر ثم عاقبته، أما هذه السورة فتتحدث أساسًا عن انتصار الإيمان وغلبته ؛ وهكذا فإن هذه السورة أيضا تتحدث الزمن الأخير مثل السور الثلاث الأولى.لقد سبق أن قلتُ إن سورة المطففين في الواقع تسلسل لسورة الانفطار، حيث بدأت سورة الانفطار بذكر انفطار السماء، كما بدأت هذه السورة أيضا بذكر انشقاق السماء بقوله تعالى إذَا السَّمَاء انشقت وكان انفطار السماء في سورة الانفطار نتيجة غضب الله تعالى.وأما انشقاق السماء في هذه السورة فإشارة إلى نزول رحمة الله تعالى.إذن، فهذه السورة مع أخواتها الثلاث السابقة تتحدث عن الغلبة الثانية للإسلام وما قبلها من مفاسد وشدائد وآلام فلكل سورة من هذه السور طابع جديد.فهذه السورة عن مي

Page 439

الجزء الثامن ٤٣٦ سورة الانشقاق تتحدث عن الزمن الأخير حيث تخبر أن الله تعالى سيكشف علوم السماء في ذلك الزمن ، وأن الأرض ستتقبلها..وكأن المراد من انفطار السماء في سورة الانفطار غلبة المسيحية.أما المراد من انشقاق السماء في سورة الانشقاق فهو انكشاف علوم السماء أو نزول مطر السماء، ولذلك قال الله تعالى بعدها وَأَذنَتْ لرَبِّهَا ليبين أن انشقاق السماء هذه المرة ليس نتيجة معصية الله تعالى، بل هو بسبب هو طاعته.شرح الكلمات : والله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ أَنشَقَّتْ : انشقت: انشق انفعال من شَقَّ شَقَّ الشيء شقا: صَدَعَه وفَرَّقَه، ومنه قولهم: شَقَّ عصا المسلمين..أي فَرَّقَ جَمْعَهم وكلمتهم.وشق نابُ البعير شقوقا: طلع، وكذا شَقَّ نابُ الصبي والصبحُ شَقًّا طَلَع.وشَقَّ النبتُ شقوقا: وذلك في أول ما ود لیک تنفطر عنه الأرض.وشق العصا: فارق الجماعة وشقق الحطب: شقه.وانشق الشيء انفتح فيه فرجةً وانصدع وانشق الأمرُ: انفرق وتبدد اختلافا.وانشق الفجر : طلَع.انشق البرقُ: انعقَ (الأقرب).فالانشقاق يعني انصداع الشيء وظهور شيء آخر من ورائه.التفسير : بينا في شرح الكلمات أن للانشقاق نتيجتين : أن ينشق الشيء ويَتلَف أو ينشق الشيء ويظهر من ورائه شيء آخر، لأن الشيء يكون حائلا دون شيء، وإذا انشق ظهر ما وراءه وعليه فيمكن أن يراد بانشقاق السماء نزول العذاب أو حمة منها، لأن عند الله العذاب وعنده الرحمة.إن قوله تعالى إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ في سورة الانفطار يعني انشقاق السماء ونزول العذاب منها، أما قوله تعالى في هذه السورة إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فيعني انشقاق السماء ونزول كلام الله منها، ويماثل هذا قول الله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ الو

Page 440

الجزء الثامن ٤٣٧ سورة الانشقاق كَفَرُوا أَنْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (الأنبياء: ۳۱)..أي لم لا يتدبر الكفار في أن السماء والأرض كانتا ككرة منغلقة، فشققناهما.وانشقاق السماء هنا لا يعني نزول العذاب منها، بل نزول الرحمة منها، لقوله تعالى بعد ذلك وَجَعَلْنَا منَ الْمَاء كُلِّ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنبياء: ٣١)..أي أن السماء والأرض كانتا مغلقتين ليس بهما شق، فلم تكن الأرض تخرج نباتها، ولا السماء تنزل ماءها، فلما شققناهما أخذت السماء تنزل ماءها، وأخذت الأرض تخرج نباتها.وهذا هو المعنى الذي بينه الله تعالى بأسلوب آخر بقوله في هذه السورة: إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ..أي بسبب نزول العذاب ونتيجة انتشار الكفر والشرك والبدع المذكورة في السورة الماضية، كانت السماء قد أمسكت بركاتها وانكمشت و لم يكن فيها شق ينزل منه الرحمة على أهل الأرض، بل كان فيها شق ينزل منه العذاب فقط، فرحم الله عباده، فشق السماء شقا تنزل منه رحمته.ثم أتى بالدليل على ذلك وقال وَأَذنَتْ لرَبِّهَا وَحُقَّتْ...أي كما كان الانشقاق السماوي من قبل نتيجة العصيان ،والإثم فالانشقاق الآن نتيجة الانصياع والطاعة، لتنزل منه الله رحمة الله وكلامه.شرح الكلمات: وَأَذِنَتْ لِرَيْهَا وَحُقَّتْ : أذنت: أَذنَ بالشيء إذْنا وأذنا وأذانًا وأذانةً : علم به.أذن له في الشيء: إذنًا وأذينًا: أباحه له.وأذن إليه أَذَنَّا: استمع.(الأقرب).وورد في المفردات وأذنَ : استمع نحو قوله: وَأَذنَتْ لرَبِّهَا وَحُقَّتْ.وفي البخاري حديث عن رسول الله ﷺ: "ما أَذنَ اللَّهُ لِشَيْء مَا أَذنَ للنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بالْقُرْآن" (البخاري: كتاب فضائل القرآن باب من لم يتغنَّ بالقرآن)..أي لا يستمع الله لشيء كما يستمع إلى صوت نبيه حين يقرأ القرآن بالتغني.حُقَّت حَقَّ عليك ويحق عليك وحُقَّ لك أن تفعل أي وجب عليك...وقول

Page 441

الجزء الثامن ٤٣٨ سورة الانشقاق القرآن: وَأَذنَتْ لرَبِّهَا وَحُقَّت..أي حُق لها أن تفعل (الأقرب).فقوله تعالى وَحُقَّتْ) يعني: حُقَّ للسماء أن تفعل كذا..أي جدير بالسماء أن تصغي لحكم ربها وتطيعه.و السماء.التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أنه في الزمن الأخير سينزل على الأرض غضب الله وشتى الآفات الأخرى من جهة ومن جهة أخرى سينزل الله كلامه.والحق أن انشقاق القمر يدل على نزول المطر، فالمراد أن السماء تنشق لكي ينزل الغضب على قوم، كما أنها تنشق لتُمطر رحمة الله على قوم آخرين، وينكشف كلام الله وعلوم السماء..بمعنى آخر أن القرآن سيكون عندها كالميت، ولكن الله تعالى سيُنزل معارف القرآن ويهطل مطر كلامه وإلهامه من ويمكن تفسير هذه الآية بمفهوم آخر على ضوء قوله تعالى في موضع آخر وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا...(الحاقة: ١٧ - ۱۸)..أي ستنشق السماء فتصبح متخرقة ضعيفة، وتقف الملائكة على أطرافها طاعةً وانقيادًا..أي كما أن الله تعالى قال للملائكة اسْجُدُوا لآدَمَ عند خلق آدم الأول، كذلك ستنشق السماء في الزمن الأخير ويولد آدم روحاني جديد وتحدث ثورة روحانية في العالم وتنفتح أبواب السماء، وستكون الملائكة مستعدة لطاعة أوامر الله تعالى وتنفيذها..أي ستنزل الملائكة من السماء لنصرة آدم وتأييده.والملاحظ هنا أن الله تعالى قال أوّلاً وأَذنَتْ لِرَبِّهَا، ثم قال وَحُقَّتْ..بمعنى أن السماء ستستمع إلى أمر ربها وهذا هو اللائق بها، فكلمة حقت إشارة إلى شدة الإذعان والانقياد كان يكفي أن يقول الله تعالى إن السماء ستنقاد لأمر الله تعالى ولكنه زاد كلمة حقت البيان أنها قد خُلقت لهذا الانقياد.والشيء المهيّأ لعمل يكون أقدر على إنجازه من الأشياء الأخرى.فمثلا: يمكن أن تنجز بالخنجر ما لا تنجزه بالموسى، لأن كفاءة الخنجر أعلى من كفاءة الموسى، وبالمثل ما تفعله بالسيف لا تستطيع أن تفعله بالقضيب وإن كان القضيب ينفعك بعض الشيء.فما صُنع لغرض معين هو الأدعى لتحقيقه من غيره من الأشياء الأخرى.

Page 442

الجزء الثامن ٤٣٩ سورة الانشقاق فالمراد من قوله تعالى وحقت أن السماء ستطيع أمر الله وتنفّذه إلى أقصى حد، إذ خلقها الله تعالى للطاعة والانقياد والإذعان لأوامره كما ينبغي.شرح الكلمات وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (4) مُدَّت: مَدَّ الله الأرض أي بسطها.ومدَّ الله عُمُرَه : أطاله.ومَدَّ المديون: أمهله.ومدَّ القومَ: صار لهم مَدَدًا وأغاثهم بنفسه.وفي اللسان": مددتُ الأرض مَدًّا : إذا زدت فيها ترابًا أو سمادًا من غيرها ليكون أعمرَ لها وأكثر ريعًا لزرعها.ومدَّ السراج بالسَّليط: صَبَّ فيه زيتًا.(الأقرب) فقوله تعالى ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت يعني: ۱- أنها ستُبسط، ۲- ستُمهَل ليعوض عن يعني: نقصانها، و٣- سوف تغاث.1 التفسير : يقال مَدَّ الله الأرضَ : بسَطها، وعليه فقوله تعالى (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّت عندما تُمَدُّ الأرض مدًّا.قال الله تعالى في آية أخرى وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا (الحجر: (۲۰)، ولما كانت الأرض ممدودة سلفا فليس المراد من مدها في الزمن الأخير إلا معنى ،روحانيا، وهو أنها تكون فاسدة مدمرة نتيجة كفر الناس ومعاصيهم، فيخلق الله للناس أرضا روحانية جديدة..بتعبير آخر: تكون الأرض قد فقدت كفاءاتها نتيجة كثرة الكفر والمعاصي، فيشق الله السماء ثم يجعل الأرض صالحة لجذب أنواره.ويقال : مدَّ الله عمره أطاله، ويقال : مدَّ المديون: أمهله، وعليه فقوله تعالى وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّت أن السماء حين تنشق نتيجة كثرة الكفر والشرك في الزمن الأخير، ستستحق الأرض أيضا أن تدمر وتباد نتيجة كثرة ارتكاب الذنوب يعني الله عليها، ولكن الله تعالى سيشقّ السماء شقا فتنزل منها أنواره وبركاته على الأرض، فتستحق الأرض أن يُمدَّ في عمرها.لو قامت القيامة بمجيء نبي صارت بعثتُه ،عبنا، لذلك لا بد أن يُعطى أهل الأرض مهلةً، وتتاح لهم الفرصة ليُصغُوا إلى

Page 443

الجزء الثامن ٤٤٠ سورة الانشقاق كلام الله ويتدبروا فيه.فالمراد من قوله تعالى (وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت أنه سيُمَدُّ في الدنيا وتُمهَل لكي تنتفع من بركاتنا.عمر ويقال مَدَّ القومَ: صار لهم مددًا وأغاثَهم بنفسه، وعليه فالمراد من قوله تعالى ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت...أي حين تغاث الأرض..أي أنها تستغيث الله تعالى نتيجة ذنوب الناس وشركهم وتقول ربّ قد نجسني الناس وأفسدوني ودمروني بكثرة معاصيهم.فتنشق السماء وتنزل الملائكة منها لإغاثة الأرض، وهكذا تغاث الأرض.يقال مَدَّ الأَرضَ مَدًّا: إذا زدت فيها سمادًا، وعليه فالمراد من قوله تعالى ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت أن الله تعالى سيهيئ الأسباب ثانيةً للنهوض بالناس روحانيا مرة أخرى.أن وكذلك يقال: مدَّ السراج بالسليط: صَبَّ فيه زيتا، وصَبُّ الزيت يُعتبر بمعنى منح الحياة والكفاءات ثانية، وعليه فقوله تعالى ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّت الأرض ستزود بكفاءات جديدة.يعني باختصار هذه الآية تفيد أن الله تعالى سيمد في عمر الأرض ويؤخر هلاكها ويزيدها سمادًا لتزدهر مرة أخرى.وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ : شرح الكلمات: تخلت تخلى منه وعنه تركه وتخلى له: تفرغ له.(الأقرب) : التفسير : من مفاهيم هذه الآية أن الله تعالى سيهب لمبعوثه في الزمن الأخير - أجله السماء لتنزل الملائكة منها - جماعة مخلصة تقوم الذي ستنشق من بتضحيات كبيرة تكون مصداقا لقوله وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ..أي أنهم يضحون في سبيل الله بكل غال ونفيس من مال ونفس وعز ووطن وراحة ومشاعر، ولن يترددوا في ذلك مهما كبرت التضحية وبالفعل فإن الجماعة التي وهبها الله تعالى المسيح الموعود لا تتحلى بهذه الميزة.يقول ال:

Page 444

الجزء الثامن ٤٤١ سورة الانشقاق من عدة "إن جماعتنا التي خلقها الله في هذا العصر تشبه جماعة الصحابة وجوه..إنهم يشاهدون المعجزات والآيات كما شاهدها الصحابة ، ويتزودون مثلهم بالنور واليقين برؤية الآيات والتأييدات الإلهية المتجددة.إنهم يتعرضون في سبيل الله لأنواع الإساءات من استهزاء وسخرية وسباب ولعن وطعن وقطع رحم وغيرها، كما تعرض لها الصحابة.إنهم ينالون حياة طاهرة ببركة آيات الله البينات وتأييداته السماوية ومعرفة حكمة أوامره كما نالها الصحابة.فكثير منهم يبكون في صلواتهم ويبللون بالدموع مساجدهم كما كان الصحابة يبكون.وكثير منهم يرون رؤى صادقة ويتشرفون بإلهام الله تعالى كما كان الصحابة و الان يتشرفون.وكثير منهم ينفقون أموالهم - التي كسبوها بعرق جبينهم – في سبيل جماعتنا ابتغاء مرضاة الله ،فقط كما كان الصحابة لا ينفقون.ستجدون كثيرا منهم يذكرون الموت حلماء القلوب ومتحلين بالتقوى الصادقة كما كانت سيرة الصحابة له.إنهم حزب الله الذي يرعاهم، ويطهر قلوبهم يوما فيوما، ويملأ صدورهم بالحكم الإيمانية ويجذبهم إليه بالآيات السماوية، كما جذب الصحابة.باختصار، توجد في هذه الجماعة كل تلك العلامات التي تفهم من قوله تعالى وَآخَرِينَ مِنْهُمْ، وكان حقا أن يتحقق ما قال الله تعالى يوما ما.(أيام الصلح الخزائن الروحانية المجلد ١٤ وكذلك يقول العليا: ص (٣٠٦-٣٠٧ عن أرى أن التقدم الذي أحرزته جماعتي في الصلاح والورع هو في حد ذاته معجزة، فآلاف منهم يفدونني بأرواحهم.ولو أمرتهم اليوم أن يتخلّوا عن كل أموالهم لتخلّوا عنها، ومع ذلك فلا أزال أحتّهم على المزيد من التقدم، ولا أحدّثهم بحسناتهم، ولكني مسرور في قلبي برؤية حالهم.(مجلة "الذكر الحكيم" عدد ٤ يوم ٢٤ مايو/أيار (١٨٩٦).باختصار، إن قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ يعني أن الله تعالى سيعطي عبده المبعوث في الزمن الأخير جماعةً تقدم إليه كل ما تملك لينفقه في سبيل الله ورسوله.

Page 445

الجزء الثامن ٤٤٢ سورة الانشقاق ومن معاني قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ..أن هؤلاء القوم سيستخدمون كفاءاتهم على أحسن وجه.ويقال: تخلى له أي تفرغ له واستعد له وعليه فمن معاني قوله تعالى ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ أن النفوس الطيبة ستكون يومئذ مستعدة لسماع كلام الله، فينزل عليهم مطر السماء، وتُمهد قلوبهم كما تُمهد الأرض بالفلاحة والسماد، وكل هذه المفاهيم متضمنة في كلمة (مُدَّت).كما أشير بقوله تعالى (وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ إلى أن الأرض ستلقي أنواع العلوم الروحانية والمادية ولن يبقى هناك خفاء، ستجتمع هذه العلوم في ذلك العصر اجتماعا لم يسبق له مثيل في أي زمن ستخرج الأرض كنوزها، وستكشف السماء علومها، ويحدث تطور هائل في العلوم السماوية والأرضية.أما نظرا إلى المعنى الظاهري فستعني هذه الآية أنه ستقع في الأرض تطورات عظيمة تجعل الأرض تلقي ما في بطنها.وبالفعل ترى أنه قد خرجت من بطن الأرض أنواع الأشياء والمعادن من نفط وكيروسين وفازلين وجلسرين وراديوم وغيرها مما يستعمله الإنسان اليوم.فكأن الله يخبر هنا أن السماء في ذلك الزمن ستلقي ما فيها، كما تلقي الأرض ما فيها.وقد ورد هذا الموضوع في مكان آخر في قوله تعالى إذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (الزلزلة: ٢-٣) ومن معاني قوله تعالى ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّت أن الأرض ستدفع فدية ذنوبها..أي أنها ستلقي كل ما يخفى فيها من نجاسة وكدورة خفية، وتتخلى عنها، وستنصلح وتتقدم في الصالحات وتتبرأ من السيئات نتيجة تأييد السماء ونصرته وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (3) التفسير: ليس الحديث هنا عن أرض الكفر ، بل عن أرض الإيمان، حيث أخبر الله تعالى أنها ستُصغي إلى ربها يومئذ والإذن يعني الإصغاء، والإصغاء أقوى من السماع، لأن من أراد ألا يفوته شيء أصغى إليه، ولذلك يقول الله تعالى إن الأرض

Page 446

الجزء الثامن ٤٤٣ سورة الانشقاق ستأذن، أي ستصغي إلى ربها، لأنها أهل لذلك..أي أننا سنزودها بهذه الصلاحية، فتكون مؤهلة لطاعة الله طاعة كاملة.يَتَأَيُّهَا الْإِنسَنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَقِيهِ (3) شرح الكلمات: V كادح كدح في العمل يكدح كَدْحًا سعى وعمل لنفسه خيرًا أو شرًا وكَدَّ.وقيل : الكَدَحُ جُهْدُ النفس في العمل والكدُّ فيه حتى يؤثر فيها.(الأقرب).فالكادح من يجتهد حتى تتدهور صحته وتُنحَر عظامه ويتأثر جسده إلى أعماقه.التفسير : أي أيها الإنسان عندما تجتهد حق الاجتهاد وتبذل كل ما في وسعك لوصال مع الله تعالى، فعندها ستلاقيه حتمًا.والمراد من الإنسان هنا كل إنسان، أو إمام الوقت فقط.فلو أُريد به كل إنسان، فالمعنى أيها الإنسان إن سبيل وصال ربك مفتوح أمامك، بشرط أن تكدح لذلك كدحًا أما المعنى الثاني فهو: أيها الإنسان الكامل، لا مناص لك لوصال ربك من تضحيات جسيمة، وعندها ستجده.فإذا حظي الإنسان الكامل بوصال الله، يؤمر الجميع باتباع سبيله، ونيل قرب الله تعالى.لقد العشق بين الله هنا أن وصاله تعالى ليس أمرا سهلا، بل على الإنسان أن يجاهد في سبيل ذلك مجاهدةً تؤثر في عظامه وتنخرها.هذا أمر لا يعرفه الناس، فيظلون محرومين من لقاء الله تعالى.إنهم يظنون أنهم قد آمنوا وأنهم يصبحون كاملين في الروحانية لو جلسوا مع الآخرين قليلا وتحدثوا معهم حديث الإيمان وصلوا وصاموا.مع أن روحانية المرء لا تكتمل إلا نتيجة الالتياع الذي يتولد من الذي ينخر عظامه، ولا يتيسر له لقاء الله تعالى ما لم تكن في قلبه هذه الرغبة العارمة وهذا الالتياع وهذا العشق.أما إذا ظن أنه قد تحمل مشقة كبيرة بأداء الصلوات والصيام فهذا ليس من الكدح في شيء.فهناك أناس هم أشد مشقةً منهم، مثل كناسي المراحيض وغسالي الثياب وسُقاة الناس، إذ يكابدون مشقة

Page 447

الجزء الثامن ٤٤٤ سورة الانشقاق كبيرة، ومع ذلك لا تنخر هذه الأعمال عظامهم، وإنما تؤثر في أجسامهم فقط، وهذا التأثير أيضا يزول بعد فترة.بينما قد استخدم الله تعالى هنا لفظ الكادح، والكدح هو اجتهاد الإنسان في عمله وكأنه أفسد صحته ونخر عظامه ودمّر جسده.فعندما يعمل المرء بهذا الشكل يُعَدّ مفلحا، أما دون ذلك فالأمل في الفلاح وعبث.لقد أنشأتُ مجلس خدام الأحمدية" ومجلس "أنصار الله" في الجماعة خطأ الله " لهذا الغرض نفسه..كي يجتهدوا وتعتاد جماعتنا على تحمل المشاق وأن يظل كل فرد منها مشغولا بعمل ما إذ من المحال أن يلقى الإنسان ربه ما لم يحافظ على وقته من الضياع.فبقوله يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه قد بين الله تعالى أنه لا يمكن لأمّة أن ترى الله تعالى ما لم يُفْن كل فرد منها نفسه بالعمل..لا شك أن لقاء الله تعالى على الصعيد الفردي ممكن بعد الكدح، ولكن نعمة لقاء على صعيد الأمة محال إلا إذا تفانى كل فرد منها في العمل.إن لقاء الله تعالى يتيسر في الدنيا على صعيدين فردي وقومي.فمن الممكن أن يحظى بعض أفراد الأمة بقرب الله تعالى وإن كانت أمتهم كلها قد هلكت، كما كان الحال قبيل بعثة المسيح الموعود الل، حيث كان المسلمون قد هلكوا على ومع ذلك قد وجد فيهم صلحاء مثل حضرة عبد الله الغزنوي – الذي المسيح الموعود اللي أنه كان من أولياء الله تعالى (حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية، المجلد ۲۲ ص ٢٥٠ - وحضرة المحدد أحمد البريلوي، وحضرة سيد محمد إسماعيل الشهيد وغيرهم من صلحاء الأمة، ولكن كان هؤلاء نفوسا معدودة حظيت بلقاء الله تعالى بين أربعمئة مليون مسلم في ذلك الوقت.لقد شرفهم الله بلقائه ليُرِيَ العالم أن الإسلام لا يزال يتمتع بقوة روحانية وأنه قادر على إحياء الناس وإيصالهم إلى بلاط الله تعالى، ولكن وجود هذه القلة من أهل الله تعالى لم صعيد الأمة، كتب عنه ينفع الأمةَ نفعًا ذا بال.من كان أحمد البريلوي؟ ومن كان المولوي سيد محمد إسماعيل الشهيد؟ كان كل واحد منهم في الحقيقة بمنزلة حجة أقامها الله على الكسالى والغافلين.لقد أتى إلى الدنيا ليكون دليلا على أن الإسلام لا يزال يتمتع بتأثيرات إحيائية ولكن لم ينفع وجوده أمة الإسلام نفعا ذا بال، لأن الإسلام اسم

Page 448

الجزء الثامن ٤٤٥ سورة الانشقاق لأربعمئة مليون مسلم منتشرين في الصين واليابان وسومطرة وجاوة وغيرها من بلدان العالم، ولكن لم يصل صوت هؤلاء الأولياء إلى أهل هذه البلدان.لا شك أن جماعتنا صغيرة حتى الآن، ولكنها بفضل الله تعالى - تنتشر في شتى أقطار العالم.إذن، فكان هؤلاء الصلحاء مجرد حجة على الغافلين ودليل على الكسالى أن الله تعالى قادر على إحياء الأمة حتى اليوم، وإن كان الواقع أن المسلمين لم يروا وجه الله على صعيد الأمة في زمن هؤلاء الصلحاء.فقوله تعالى يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ يعني: يا ) جماعة المؤمنين، لا بد لكل فرد منكم من التفاني في هذا السبيل، وعندها ترون وجه الله على صعيد الأمة، وتتيسر لكم نعمة لقائه.والحق أن هذه هي النعمة الحقيقية، وإلا فإن الناس في كل زمن يحظون بلقاء الله على الصعيد الفردي، ولكن هذا اللقاء لا ينفع الأمة ككل، وإنما يظهر جلال الله على صعيد الأمة، ويرى كل فرد وجه الله تعالى بعينه حين يتفانى كل واحد منها في سبل قرب الله تعالى، ولا يضعف إلى أن ينال هذه النعمة العظيمة.وضمير الغائب (هـ) في قوله تعالى فَمُلاقيه يمكن أن يعود إلى الجزاء، ولكن إرجاعه إلى الله تعالى أنسب وأولى، نظرا إلى المعنى الذي بينته.فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ (٤) فَسَوْفَ تُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا : وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ) التفسير : اليد اليمنى هي التي تُستخدم للعمل عادةً، ولما كانت الآية السابقة تحثّ الإنسان على الكدح فكأن الله تعالى قد أخبر الآن أن الرقي كله في العمل المتواصل باليد اليمنى؛ فإذا ظللتم تعملون بيدكم اليمنى فسوف تنتصرون حتما.

Page 449

الجزء الثامن ٤٤٦ سورة الانشقاق الحق أن هذه الآيات تُلخّص مشروع تحريك جديد كله..أي الكد والاجتهاد والاعتياد على العمل باليد وتكبد المشاق يضمن للإنسان النجاح في حياته.الحق أن قوله تعالى فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسيرًا..يعني أن الإنسان لن يصاب بالقلق والضيق عند حلول الشدائد لأن اعتياده على تحمل المشاق سيسهلها له.أما الشخص العاطل الكسول المعتاد على حياة البذخ فيصاب بالذعر عند حلول مصيبة بسيطة، ولكن المجتهد المعتاد على تكبد المشاق يستسهل جبال المصاعب.لا شك أن هذه الآية تعني أن الله تعالى سيسهل معاملة المؤمن عند الحساب، ولكنها تعني أيضا أنه مهما كانت المحنة شديدة إلا أنه يستسهلها.فمن ذا الذي كان أشدَّ محنةً من الذين تركوا أوطانهم وعزتهم وأموالهم وأولادهم من أجل النبي ، ومع سهلت عليهم كل هذه المصائب فصبروا عليها برضا وطواعية؟ كان الشاعر "غالب" يتعاطى الخمر، ومع ذلك قد جرت على لسانه كثير من الحكم، مما يدل على أنه كان في قلبه خير حتمًا.فيقول في شطر بيت مشکلیں اتنی پڑیں مجھ پر کہ آساں ہو گئیں ذلك دیوان غالب ص ۱۱۰) أي لقد صُبَّت علي المصائب بكثرة حتى هانت علي.فالذي يعتاد على تحمل الشدائد والمشاق يرى حسابه يسيرا، ولكن حين يأتي وقت حساب من اعتاد الرفاهية والبذخ يجده عسيرا.كان المسيح الموعود اللي يقول إن الابتلاء نوعان: أحدهما ما يكون بيد الإنسان أن يخفّفه والثاني ما يكون بخيار الله تعالى والذي يشق على الإنسان جدًّا.في عام ١٩٣٤م أعلن أعداء الأحمدية في الهند كلها أنهم سيدمرون قاديان ويدكونها دكًا حتى يُقضى على هذه الجماعة التي كانت لا تزال في مهدها فقدّم الخليفة الثاني للمسيح الموعود الله أمام أبناء الجماعة مشروعا للتقتير على أنفسهم لتوفير الأموال لنشر الإسلام الصحيح ليس في أرجاء الهند فحسب بل في العالم أجمع وسماه "تحريك جديد"..أي المشروع الجديد.وإن شبكة مساجد الأحمدية ومراكزها الله وازدهارها في معظم بلدان العالم خير دليل على عظمة هذا المشروع وكونه مباركا من الله.(المترجم)

Page 450

الجزء الثامن ٤٤٧ سورة الانشقاق الماء إذا وكان اللي يضرب مثال الوضوء للنوع الأول من الابتلاء، فقال إن الوضوء ضروري للصلاة، ولكن لو كان الطقس باردًا، فبخيار الإنسان أن يسخن شاء، ومثال النوع الثاني من الابتلاء الذي يكون الخيار فيه بيد الله فقط، وليس بيد الإنسان أن يخفف وطأته: موتُ قريب له، فإن الإنسان لا يحتمله إلا إذا كان معتادا على حياة المشقة والمرارة، تاركا عيشة الراحة والبذخ، ولو اعتاد المشقة سهل عليه كل الصعاب.(ملفوظات، المجلد ۳ ص ٦٣٨ أما قوله تعالى وَيَنْقَلبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا فيبين بوضوح أن الحديث هنا عن الحساب الذي يتم في هذه الدنيا، إذ لن يعرف أحد مصير أهله عند الحساب في الآخرة.ثم ليس ضروريًا أن يكون أهله كلهم من أهل الجنة، إذ يمكن أن يكون بعضهم في النار، بينما يقول الله تعالى هنا إنه يرجع إلى أهله مسرورا بعد الحساب فوراً.مما لا شك فيه أن الله تعالى سيجعل أهل المؤمن وعياله معه في الجنة، ولكن هذا سيتم بعد الحساب، وليس أنه يكون في حساب بينما يكون أهله موجودين في الجنة قبله كلا بل الموقف أشدُّ من ذلك، حتى قال النبي : لو أردتم أن تبحثوا عني يومئذ فعليكم بكذا وكذا من العلامات؛ وما دمنا بحاجة إلى علامات للعثور على مكان النبي يوم الحساب، فكيف يجد المؤمن العادي أهله فور حسابه؟ فثبت بذلك أن قوله تعالى وَيَنْقَلبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا يتحدث عن هذه الدنيا..أي أن الكادح في سبيل الدين سيظل في جده وكده، وعندما يقطف ثمار اجتهاده الطيبة في الدنيا يرجع إلى أهله مسرورا.هو وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَبَهُ، وَرَآءَ ظَهْرِهِ : فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا ت وَيَصْلَى سَعِيرًا شرح الكلمات: ثبورا الثبور الهلاك والفساد.(المفردات)

Page 451

الجزء الثامن ٤٤٨ سورة الانشقاق يعني التفسير : قوله تعالى وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْره أن الذي يؤخر عمل اليوم إلى الغد دائما، ويلقى أعماله وراء ظهره باستمرار، فإنه سيؤتى كتابه وراء ظهره، أما من ظلت يده اليمنى مشغولة بالعمل، فسيؤتى كتابه في يده اليمنى.ثم يقول الله تعالى فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا.الظاهر أن الذي يتلقى كتابه من وراء ظهره لن يجد فيه ما يسرّه، لأن الخبر السارّ يُكشف والخبر المحزن يُخفى، وحيث إن ما في كتابه سيحزنه لذلك سيعطى كتابه من وراء ظهره، وعندما يراه يدعو ثبورا..أي ثبورا لنفسه، أي يتمنى هلاكه.أو المعنى أن بطش الله يكون شديدا حتى يقول الإنسان ليتني كنت ترابا، لكي لا أرى هذا المصير.ويمكن أن يفسر قوله تعالى ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا أن هلاك هذا الإنسان لا الله ظلما، بل إنه بنفسه يرد مورد الهلاك بسيئاته..بتعبير آخر إن الله يكون من تعالى لا يريد أن يعذب العبد بل إن العبد نفسه يدعو العذاب بعمله.وقوله تعالى ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا يعني أنه سيدخل في نار مضطرمة، ومفهومه - من منظور هذه الدنيا – أنه سيحترق في نار الهموم والغموم..أما نظرا إلى الآخرة فمعناه ظاهر بين.إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (3) ١٤ التفسير : ورد في الآيات السابقة أن المؤمن لم يكن يجد فرصة الجلوس في بيته براحة وهدوء لكثرة اجتهاده وكدحه، ولذلك عندما ينال جزاءه، فسوف ينقلب إلى أهله مسرورا، إذ رجع إليهم ناجحا فائزا ، أما الكافر فكان يجلس في بيته عاطلا منغمسا في الملذات، ولم يكن يجتهد لإرضاء ربه، ولذلك عندما تظهر نتائج أعماله فيكون في حزن وغم شديد.لقد تبين من ذلك أن المؤمن يبدأ عمله بغمّ، وتكون عاقبته سرورا ، والكافر يبدأ عمله فرحًا وتكون عاقبته غما.

Page 452

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٤٤٩ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن تَكُورَ ) سورة الانشقاق يحور: حارَ يحور حَوْرًا وحُؤورًا: رجع.وحارت الغُصَّةُ حَورًا: انحدرت كأنها رجعت من موضعها وحارَ فلان حورا تحيَّر وحارَ بعدما كار: نقص بعد ما زاد.ومنه: "نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر" أي النقصان بعد الزيادة.(الأقرب).من فقوله تعالى إنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يعني أنه ظن أنه لن يرجع إلينا، أو لن يئول من السراء إلى الضراء، أو لن يتعرض للمشاكل بحيث يحتار من أمره، أو أنه لن يصاب بالخسارة.التفسير: إن أكبر سبب لهلاك الناس في الدنيا أنهم إذا حققوا نجاحًا ورفعة ظنوا أن لا زوال لهم بعد ذلك، فلا يُعدّون عُدّتهم لتجنب هذا الزوال.الشعوب تزدهر، ولكنها لا تسعى بعد ذلك لسدّ طرق الزوال، وعندما يأتي الزوال لا يبقى عندهم فرصة للعودة.ومثل القانون الإلهي كالقطار الذي إذا سار في اتجاه ظل سائرا لبعض الوقت حتى بعد انتهاء وقوده.وهذا ما يخدع الأمم دائما.فلو أن قطار التقدم القومي توقف فورا عند انتهاء الوقود لتوجهوا إلى تدارك ،أمرهم ولكن يظل يسير لبعض الوقت رغم انتهاء وقوده..والنتيجة أن القوم يشعرون بدمارهم بعد فوات الأوان.بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ) - 17 التفسير : أي أن تفكير هذا الإنسان ليس صحيحًا، بل الحقيقة خلاف ذلك، فإن ربه يراه جيدا، بمعنى أن كل أعمال الأمة تكون تحت رقابة الله تعالى، فهو لا ينساها وإن نسيها الإنسان أو الأمة ، فلذلك مهما ظلت أعمال القوم في الخفاء في الظاهر، إلا أن نتائجها تكون حسب الواقع لا خلافه، وإن أسباب زوال هؤلاء القوم أيضا ستتهيأ.والمراد من هؤلاء القوم معارضو الحق في الزمان الأخير، حيث أخبر الله تعالى هنا أن الكفر سيكون قويا في الظاهر عند هذه الثورة السماوية

Page 453

الجزء الثامن ٤٥٠ سورة الانشقاق والأرضية، ويظن الرائي أن الكفر لن يُغلب ولكن الواقع أن الكفر سيكون منخورا داخله نتيجة تغيرات كثيرة بحيث لن يقدر على مقاومة النظام السماوي.من شرح الكلمات: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ) هناك اختلاف بين النحويين حول (لا) الواردة في قوله تعالى ﴿فَلا أُقْسِمُ بالشفق، فيقول أبو عبيدة وجماعة من المفسرين إنها زائدة، والتقدير: "أُقسم"..أي أقدِّمُ الشفق شهادةً على ما أقول ويقولون: "زيادتها جارية في كلام العرب"، ومثاله قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (الأعراف: ۱۳)، حيث المراد: ما منعك أن تسجد، وقوله تعالى الئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَاب )) (الحديد : ٣٠)، حيث المراد: ليعلم أهل الكتاب.ثم يقول بعض العلماء: "إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أوله".غير أن بعض المفسرين قال : إن هذه القاعدة تنطبق على كلام الناس لا على القرآن الكريم، لأنه كله في حُكم سورة واحدة، متصل بعضه ببعض، فحيثما جاءت فيه (لا) كهذه اعتبرت في وسط الكلام.وقد اعترض عليه البعض فقال: لا شك أن مضمون القرآن الكريم كله في حكم سورة ،واحدة ولكن آياته تُعتبر منفصلة بعضها عن بعض من حيث عبارته الظاهرة، فلا يمكن أن نعتبر سورةً جزءاً من أخرى.وهذا الاعتراض لو سلمنا بصحته- يَردُ على (لا) الواردة في بداية السور، لا على التي تأتي وسط الكلام الكشاف فتح البيان وليكن معلوما هنا أن هذا الكلام كله ناتج عن وسوسة، وهي أنهم قد اعتبروا (لا) هذه نافية.لا شك أننا بحاجة إلى تقدير شيء قبل (لا) لتنفيه، ولكن لو اعتبرنا (لا) هنا زائدة، فلا يبقى هناك أي اعتراض.وجاء في الكشاف: إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، وفائدتها توكيد القسم.

Page 454

الجزء الثامن وقال بعضهم: هي ٤٥١ سورة الانشقاق رد لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم، أُقسم بيوم القيامة.(فتح القدير) وقال الفراء وكثير من النحويين إنها ليست ،زائدة بل هي نافية، ومثاله عندهم: قول العرب في حديثهم: لا والله؛ إذ لا يعني القائل أنه لا يقسم بالله، بل يعني أنه يرفض ما قيل له وأنه يُقسم على صحة موقفه.(فتح القدير) وقال البعض الآخر وقيل: هي للنفي، لكن لا لنفي القسم، بل لنفي ما ينبئ عنه من إعظام المقسم به ،وتفخيمه، كأن معنى "لا أُقسم بكذا": أي لا أُعظمه حق عن الله بإقسامي به حقَّ إعظامه، فإنه حقيق بأكثر من ذلك.(فتح القدير) الظاهر أن هذا المعنى لغو وباطل أيا كان قائله لأننا نتحدث هنا عن القسم الذي يقسم به الله تعالى، فقولهم إن الجملة تعني هنا أن الله تعالى يقول أنني أقسم ولكنني لا أستطيع أداء هذا القسم، لقول باطل بداهة؛ إذ كيف يقال الذي يقال عنه الحمد الله أنه لا يؤدي حق القسم؟ وقيل: إنها لنفي القسم لوضوح الأمر ، أي لا أُقسم بهذا الشيء، لأنه واضح ظاهر، ولا حاجة للقسم به.ولكن هذا المعنى أيضا باطل بداهة، لأن الأمر المطلوب بيانه هو المقسم عليه، أما الشيء الذي يتم القسم به فهو يُقدَّم كشاهد على المقسم عليه؛ فالقول إن قوله تعالى هذا يعني: إني لا أقسم بهذا الشيء لأن شهادته واضحة، لهو قول لا معنى له.فالحقيقة أن ( لا) هذه زائدة تفيد التوكيد.وليس المراد من قولنا إنها زائدة أن لا فائدة لها، إذ لا يوجد في القرآن حرف زائد لا فائدة له، وهي مألوفة في أسلوب كلام العرب، ولا حاجة لأي تكلف في تأويلها.نعم، عندما تكون (لا) نافية فلا بد أن يُذكر قبلها شيء، سواء في السورة التي وردت (لا) فيها أو السور التي سبقتها والتي هي كلها حلقات من موضوع واحد متسلسل.الشفق: الشفق: الحُمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة أو إلى قريبها أو إلى قريب العَتَمة، فإذا ذهَبَ قيل: غاب الشفقُ علمًا) أن العرب يطلقون العشاء على صلاة المغرب أيضا، ولذلك إذا أرادوا الصلاة التي بعدها قالوا الصلاة الآخرة

Page 455

الجزء الثامن ٤٥٢ سورة الانشقاق ويطلقون عليها العتمة أيضا).قال الأصمعي : سمعتُ بعض العرب يقول: عليه ثوب كأنه الشفق، وكان أحمر.وقال الجوهري في "الصحاح": الشفق بقية ضوء الشمس وحُمرتها في أول الليل إلى قريب من العتمة.(الأقرب) ورد في بعض التفاسير اللغوية عن عليّ وابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وابن عمر ومحمد بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذئبة وعبد العزيز بن أبي سَلَمَةَ الماجشون أنهم قالوا الشفق هو الحمرة.وقال مجاهد : الشفق هو الحمرة قبل طلوع الشمس، وقال أهل اللغة: هو الحمرة بعد غروبها ابن كثير) وعن عبد الله " الشفق: الله عمر عن رسول الله ﷺ أنه قال: وقت صلاة المغرب ما بن يَغَب الشفقُ.(مسلم: كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس) ويقول ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث : فيه دليل أن ما قال أصحاب اللغة صحيح، والشفق حمرة بعد غروب الشمس." (ابن كثير) ودليلُ مجاهد أن الليل مذكور بعدها في الآية التالية، لذلك فالمراد من النهار قبل طلوع الشمس، إذ قال الله تعالى هنا فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ، فالمقارنة هنا ،بالليل، فثبت أن الشفق إشارة إلى النهار.ولكنه دليل عقلي بحت، وقد أقر مجاهد نفسه أن قوله لا يستند إلى دليل من اللغة.مع مع أن الواقع أنه لا بأس عقلاً من اعتبار الشفق بمعنى الحمرة التي تكون بعيد غروب الشمس إزاء الليل، لأن الشفق هو ذلك الوقت الذي لا يزال فيه بقية من ضوء النهار.فالحقيقة أن معنى الآية كالآتي: أستشهد بذلك الوقت الذي يذهب فيه النهار، ويبقى شيء من ضوئه، وأستشهد أيضا بالليل حين ينتشر ظلامه.وفي هذه الحالة تظل المقارنة بين الليل والنهار كما هي دون أن نلجأ إلى تفسير الشفق بالنهار خلافا للغة.التفسير : انظر تفسير هذه الآية عند تفسير قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ.

Page 456

الجزء الثامن ٤٥٣ سورة الانشقاق شرح الكلمات: وَالَّيْل وَمَا وَسَقَ ۱۸ وَسَقَ: وَسَقه يسقه وَسَقا: جمعه وحمله.ووسَق البعير: حمله الوَسْقَ.وَوَسَقَ البعير وسيقا: ساقه.والوَسقُ عادةً ستون صاعًا، وقيل الوسق عند أهل الحجاز ۳۲۰ ،رطلا وعند أهل العراق ٤٨٠ رطلا.وقيل هو : حمل بعير (الأقرب).وقال المفسرون: قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة : وما وَسَق: أي وما جمع.وقال قتادة : وما جمع من نجم ودابة.وقال عكرمة : وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ : يقول ما ساق من ظلمة.(ابن كثير) التفسير : سيأتي تفسيره عند الآية التالية.شرح الكلمات: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ : ۱۹ اتَّسَقَ: افتعال من وَسَقَ.اتسق أمرُه: انتظم واستوى.(الأقرب) وورد في المفردات: "الاتساق: الاجتماع والاطراد".واطَّردَ الأمرُ : تَبِعَ بعضه بعضا واستقام.(المنجد) ويقول الفراء في تفسير قوله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ: اتساقه امتلاؤُه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة إلى ست عشرة، وهو الوسق الذي هو الجمع.(القرطبي، وزاد المسير) ويقول الحسن البصري: انسق أي امتلأ واجتمع.وقال قتادة: استدار.افتعال من ويقال : أمرُ فلان متسق: أي مجتمع.(ابن كثير، والطبري) وورد في ابن كثير: قال ابن عباس: إذا اتسق..إذا اجتمع واستوى.وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ومسروق وأبو صالح والضحاك وابن زيد: إذا أَتَّسَقَ إذا استوى.وقال الحسن: إذا اجتمع وإذا امتلأ وروي عن الحسن البصري

Page 457

الجزء الثامن ٤٥٤ سورة الانشقاق أيضا: وَالْقَمَرَ إِذَا أَتَّسَقَ أي امتلأ واكتمل ضوؤه.وقال قتادة: استدار.ومعنى كلامه : أنه إذا تكامل نوره وأبدر.(ابن كثير) ويقول الآلوسى في تفسيره: اتَّسق: اجتمعَ نوره وصار بدرا (روح المعاني).وقال صاحب الكشاف اتسق: اجتمع واستوى ليلة أربعة عشر.وقال ابن عباس: اتسق استوى.وعنه قال ليلة ثلاثة عشر.(فتح القدير) التفسير : لقد تحدثت هذه الآيات الثلاث عن مراحل ثلاث تأتي على الإسلام فأوّلُ ما قال الله تعالى هنا هو أننا نقدّم أمامكم حالة الشفق كشهادة على صدق ما نقول.والشفق كما بينت سابقا هو ذلك الوقت الذي يلى مغيب الشمس، والذي يكون فيه في الأفق ضوء وحُمرة، وأما الوَسَق فمعناه الجمع، وعليه فقوله تعالى وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ يعني: نقدّم أمامكم كشهادة الليل حين يستجمع في نفسه كل الصفات والكيفيات التي تجعله ليلا كاملا.سے ثم يقول الله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا أَتَّسَقَ..أي نقدِّم أمامكم كشهادة القمر حين استوائه الليلة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة؛ فكما أن الليل يجمع في نفسه كل ما يجمعه من ظلام وهدوء وغيرهما، كذلك سيجمع القمر عندئذ في نفسه كل طاقاته.والمعروف أن القمر يجمع كل طاقاته ويكون في أوجه وهو في الليلة الرابعة عشرة من الشهر.لقد قال بعض المفسرين: هذه الآيات إشارة إلى مراحل اكتمال القمر تدريجيا، حيث بين الله تعالى بذلك أن الأمم أيضا تزدهر هكذا بالتدريج.श्री وقد قال البعض إن هذه الآيات تتحدث عن ازدهار الإسلام في زمن النبي ولكن هذه الفكرة مرفوضة بداهة، لأن النبي قد جاء عند اشتداد ظلمة الليل، فأي شفق كان عندئذ؟ ثم إن الله تعالى قد سمى النبي شمسا، بينما تتحدث هذه الآية عن القمر، والمعروف أن القمر يستمد نوره من جرم آخر.ومتى كان النبي قمرا حتى يصبح بدرا فيما بعد؟ كلا، بل كان شمسا.فالحق أن هذا المعنى راجع إلى قلة التدبر.

Page 458

الجزء الثامن عن ٤٥٥ سبق سورة الانشقاق - كما بينت الأنظار.الواقع أن الله تعالى قد أخبر من قبل في سور التكوير والمطففين وغيرهما أنه سيأتي زمان يحيط فيه الكفرُ بالعالم كله، أما هذه السورة فأنبأ فيها من قبل - عن ازدهار الإسلام لا ازدهار الكفر.لا شك أن هذه السورة تتحدث الكفر أيضا، ولكن كان الكفر هو الموضوع الأساس في السور السابقة، وكانت تتحدث عن ازدهار الإسلام.ضمنيًا.أما هذه السورة فموضوعها الأساس الإسلام وتتحدث عن الكفر ضمنيًا كما أن استدللنا من قوله تعالى وَأَذنَتْ لرَبِّهَا وَحُقَّتْ.فلما تحدث الله هنا عن ازدهار الإسلام ثانية نشأ سؤال تلقائي: متى يؤول الإسلام إلى الانحطاط ؟ ولذلك أخبر الله تعالى هنا عن كل تلك التغيرات التي كانت ستحدث في المسلمين بعد الرسول ﷺ معروف أن الله تعالى قد سمى النبي سرَاجًا منيرا (الأحزاب : ٤٧)، ووجود حالة من الشفق عند غروب الشمس أمر طبيعي، وإلى ذلك قد أشار الله هنا بقوله فَلا أُقسم بالشَّفَق..أي أقدم أمامكم كشهادة ذلك الزمن الذي يختفي فيه نور النبي الكريم عن والحكمة في ورود كلمة الشفق هنا هي كلمة أن الشمس تكون موجودة في الحقيقة وقت الشفق، ووقت الليل ووقت طلوع القمر أيضًا، ولكنها تكون خافية عن أنظار الناس.فعندما أشار الله تعالى في الآيات السابقة إلى انحطاط الإسلام كان يمكن أن ينشأ في ذهن البعض تساؤل: لعلّ نبوّة محمد رسول الله ﷺ لن تعود في ذلك الوقت؟ فرَدَّ الله على هذا التساؤل وبيّن أن نبوته لن تصبح غير صالحة عندها، بل سيكون ذلك الزمن زمن الشفق والليل ومعلوم أن الشمس لا تنمحي وقت الشفق والليل، بل تكون موجودة إلا أن الناس لا ينتفعون منها.فالحق أن الله تعالى قد بيّن بهذه الكلمات أن الإسلام لن يؤول إلى الانحطاط بسبب ضعف القوة القدسية المحمدية، وإنما بسبب انحطاط المسلمين.ذلك أن انحطاط الأمة له سببان : فساد ،زعيمها أو إعراضُها عن زعيمها الذي لم يفسد.فكأن الله تعالى يقول هنا قد أخبرناكم عن انحطاط الإسلام، ولكن هذا لن يكون نتيجة فساد في محمد رسول الله ، وإنما سببه فساد المسلمين الذين يبتعدون عنه، فيُحرمون من اكتساب نور الهداية منه ، فمثل انحطاط أمته كمثل الشفق والليل اللذين ليسا نتيجة صالحة

Page 459

الجزء الثامن ٤٥٦ سورة الانشقاق انمحاء الشمس، بل نتيجة اختفاء الأرض عن الشمس.وقد أشير هنا إشارة لطيفة إلى أمر آخر، وهو دوران الأرض حول الشمس، إذ لو اعتُبرت الشمس هي الدائرة حول الأرض لم يستقم هذا المثال، إذ يكون المعنى في هذه الحالة أن محمدًا رسول الله هو الذي هرب معرضًا عن أمته، أنه لم يهرب، وإنما المسلمون هم الذين هربوا وأعرضوا عنه.فالحق أن هذا يخبر مع أن الله تعالى المثال إنما يستقيم اذا اعتبرنا أن الأرض هي التي تدور حول نفسها وحول الشمس.وقد بدأت فترة الشفق هذه في زمن أشار إليه الرسول في الحديث التالي: كُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثم يكون بِعِدِهِم قَوْمٍ يَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُون وَيَنْذِرُون وَلا يَفون، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ." (البخاري : فضائل أصحاب النبي..أي أن ثلاثة قرون بعدي ستكون قرون خير ثم تنتشر المفاسد وهذه القرون الثلاثة الأولى المباركة هي قرون شمس النبي ، وبعدها حُجبت الشمس المحمدية، وبدأ زمن الشفق، ذلك الزمن الذي كان النور والظلام لا يزالان مختلطين فيه، ثم بدأت فترة الليل الذي جمع فيه الظلمات بكل أنواعها.وهناك أمر آخر جدير بالذكر، وهو أن فترة الشفق تكون جد قصيرة عادة، بل تعتبر جزءاً من الليل نفسه، بينما يكون الليل طويلاً؛ فلماذا ذكر الله الشفق منفصلاً يا ترى؟ الجواب أن فترة الشفق في الإسلام ذات خصوصية، وهي أن الله تعالى قد قدّر لأمة رسول الله أن يكون زمن شفقهم طويلاً وزمن ليلهم قصيرا، وهكذا فقد كانت فترة الشفق في الإسلام ذات سمة مستقلة منفصلة.وهذا ما حصل بالفعل بعد عهد النبي ، حيث كان بين المسلمين في كل عصر قوم عملوا عَمَل الشفق، ولم يدعوا نور الرسول يختفي عن الدنيا الحقيقة أن فترة الليالي المظلمة في تاريخ الإسلام لم تكن إلا في القرنين الهجريين الحادي عشر والثاني عشر، بل لو أمعنا النظر لوجدنا فيهما أيضا شيئا من الشفق.ثم يقول الله تعالى وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ..أي نُقسم بالليل وما جمع.لقد تبين من هنا بوضوح أن هذا الشفق في الإسلام سيستمر إلى الوسق، وهذه إشارة إلى أن نور النبي لن ينطفئ، بل المسلمون أنفسهم سيُعرضون عن نوره.كما أن فيه إشارة

Page 460

الجزء الثامن سيصبح ٤٥٧ سورة الانشقاق إلى أن ذلك الليل يكون شديد الظلام مُرْعبًا حيث يستجمع في نفسه كل ما يجعله كامل الظلام، حيث تقع فيه حالات السرقة وقطع الطرق والقتل، وتخرج فيه الثعابين والعقارب ويشتد الظلام بحيث لا يرى أي شيء.إذن، فقد بين الله تعالى بقوله وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ أن تلك الفتنة تكون شديدة، وسيجتمع عندها كل ما يجعل ليلها كامل الظلمة مرعبًا.فقوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ - وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * واضح في مراده بحيث يبطل به تلقائيا - قول المفسرين أنه إشارة إلى أن الرقي يتم بالتدريج.فقد ذكر الله تعالى أولاً الشفق، ثم الليل الشديد الظلام، ثم القمر الذي بدرًا بعد السير في منازله.وهذه الأمور الثلاثة لا تجتمع في العالم المادي أبدا، فلا يأتي بعد الشفق ليل شديد الظلام حتمًا، ولا يطلع البدر بعد ليلة شديدة الظلام.فهل من مفسر يخبرني أي بدر يطلع بعد الحالة المشار إليها في قوله تعالى وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ؟ حيث ذكر الله هنا ظلمة الليل أولاً، ثم طلوع البدر.فثبت أن هذه الآيات لا تتحدث عن قاعدة الرقي التدريجي في العالم المادي، ولا تذكر أيَّ قانون مادي، وإنما تذكر أمرًا روحانيًا حيث تنبئ عن شتى مراحل انحطاط الإسلام ورقيه فليس الليل هنا ليلا ماديا بل المقصود ليل ،روحاني، والفرق بين الليالي المادية والروحانية أن الليالي المادية لا تكون مظلمة قبل طلوع البدر، بل تكون مضيئة، حيث إن الليلتين الثانية عشرة والثالثة عشرة اللتين تسبقان طلوع البدر لا تكونان مظلمتين بل تشتد الظلمة في الليلتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين الشهر.بينما يحدث العكس في العالم الروحاني، حيث يطلع البدر بعد من أن تكون ليلة شديدة الظلام قد أحاطت بالعالم كله.إذا فإن الله تعالى قد نبه بإيراد قوله وَالْقَمَرِ إِذَا أَتَسَقَ بعد قوله وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ إلى أن الحديث هنا ليس عن العالم المادي، بل عن الشفق الروحاني والليل الروحاني والبدر الروحاني.فلا ذكر هنا لأي قانون عن الرقي التدريجي في العالم المادي.يقول الله تعالى ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا أَتَسَقَ..أي أننا نقدّم كشهادة القمر حين يصير بدرًا.وهذه نبوءة واضحة عن بعثة المسيح الموعود اللي بحيث إن من الظلم العظيم القول أنه لا ذكر لبعثة المسيح ود

Page 461

الجزء الثامن ٤٥٨ سورة الانشقاق الموعود في القرآن الكريم.لقد ذكر الله تعالى هنا ثلاثة أدوار تأتي على الإسلام، فأخبر عن فترة الشفق التي تأتي بعد الرسول ﷺ وتكون طويلة، ثم تليها فترة قصيرة الظلمة، ولكنها رغم قصرها تكون شديدة الظلام بحيث تجتمع فيها كل ظلمات الدنيا، وبعدها فجأةً يتحول قمر من رجال استمدوا نورهم من الرسول ل إلى بدر كامل فيحيط بهذه الليلة بحيث يبدد ظلمتها تماما، لأن من شأن البدر الكامل أن يبدد الظلام كليةً.فهذا البدر الروحاني الكامل أيضًا سينشر نوره في من العالم بحيث لن يشعر الناس بما يوجد بينهم وبين الرسول ﷺ من بعد الزمان.إذا فهذه الآيات ترسم لنا رسما واضحًا ومتكاملاً التغيرات المستقبلية التي كانت ستؤثر على الإسلام، بدءا من زمن الرسول إلى آخر الزمان.شرح الكلمات: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) طَبَقًا عن طَبَق الطبق: القرن من الزمان؛ الناس؛ الجماعة الحال.(الأقرب) وورد في المفردات الطبق المطابقة.التفسير: يقول عز من قائل: إنا نقسم أنكم ستمرون من مرحلة إلى أخرى.الملاحظ هنا أن الله تعالى قد استعمل في قوله لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق اثنين ومن من أدوات التوكيد اللام والنون المشددة؛ وأتساءل ما الداعي لهذا التأكيد الشديد إذا كانت هذه الآيات لا تتضمن أية نبوءة هامة عن المستقبل؟ الحق أن صياغة هذه الآية تبين أن لا علاقة لها بزمن الرسول ﷺ إنما تنبئ عن أحداث ستقع في المستقبل؛ إذ لا مجال للشفق في عهد الرسول ، ولا لليلة شديدة الظلمة، ولا للقمر الذي سيتسق.فثبت أن هذه الآيات تتعلق بالمستقبل قطعًا.ويفيد حرفُ (عن) معاني كثيرة منها البعدية كقولك: عن قليل أزورك..أي بعد قليل أزورك، وقد ورد حرف (عن) في قوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق البعدية، والمراد لتركبنَّ طبقًا بعد طبق.وقد مرَّ في شرح الكلمات أن : أيضًا بمعنى

Page 462

الجزء الثامن ٤٥٩ سورة الانشقاق من معاني الطبق: الحال والجماعة، وكلاهما ينطبق هنا؛ فكأن الله تعالى يقول: أُقسم أنكم ستمرون بهذه الحالات الأربع المذكوة آنفًا حالةً بعد حالة.أو المعنى: لتركبن جماعة بعد جماعة أي ستمرون بحالات الجماعات المذكورة هنا جماعة بعد جماعة.وبالفعل نرى أن الله تعالى قد حقق كل هذه الأنباء بشكل رائع.فقد ظلت الشمس المحمدية المنيرة تضيء العالم ثلاثة قرون ثم جاء بعدها فترة الشفق التي امتدت طويلا، حيث وُجد فيها صلحاء كبار كأمثال السيد عبد القادر الجيلاني، ومعين الدين الجشي، ومحيي الدين بن عربي، الذين قد حافظوا على نور النبي وتعاليمه.لا شك أن الليل كان مخيما في تلك الفترة أيضا، ولكن ليس بوسع أن ينكر وجود الشمس عندها؛ إذ لم تزل من هناك حمرة الشفق.وبعدها في ود أحد القرنين الهجريين الثاني عشر والثالث عشر سادت الظلمة وكانت شديدة ومخيفة، بحيث رأى العالم مشهد وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ..أي أن تلك الليلة المظلمة جمعت في نفسها ما يمكن أن تجمعه من بلايا وآفات ومصائب كانت تلك الفترة فترة دمار للإسلام والمسلمين لا مثيل له في الأزمنة الخالية.ثم بعد تلك الليلة الليلاء تحوَّل فجأة قمر إلى بدر كامل بحسب قوله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، وبدأ ينشر نور رسول الله ﷺ في العالم أجمع.فكّروا في هذه النبوءة، فسوف تجدون أنها لم تتحقق مضمونًا فحسب، بل شكلاً أيضا.لقد سبق أن بينا لدى شرح الكلمات أن اتساق القمر يعني استواءه من الليلة الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة من الشهر ؛ وقد تحقق هذا الأمر جليًا، حيث ولد المسيح الموعود الليلة في القرن الثالث عشر الهجري، وأعلن دعواه في القرن الرابع عشر، ثم أنبأ اللا أن عهده ممتد لثلاثة قرون، أي حتى آخر القرن السادس عشر الهجري.فقد قال العلية : "إن عهد المسيح الموعود الممتد إلى الزمن الذي يوجد فيه الذين رأوه أو الذين رأوا من رأوه، أو الذين رأوا هؤلاء..وظلوا عاملين بتعاليمه.باختصار، إن مدة القرون الثلاثة ضرورية نظرًا إلى منهاج النبوة." (ترياق القلوب، الخزائن الروحانية مجلد ١٥ ص ٤٧٨ الحاشية).وكذلك قال العلية :

Page 463

الجزء الثامن ٤٦٠ سورة الانشقاق "لن ينقضي القرن الثالث من هذا اليوم إلا ويستولي اليأس والقنوط الشديدان على كل من ينتظر نزول عيسى، سواء كان مسلماً أو مسيحيا، فيرفضون هذه العقيدة الباطلة؛ وسيكون في العالم دين واحد وسيد واحد.ما جئتُ إلا لزرع البذرة، رة، وقد زُرعت هذه البذرة بيدي، والآن سوف تنمو وتزدهر، ولن يقدر أحد على أن يعرقل طريقها.تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية مجلد ٢٠ ص ٦٧) وقال العلية عن مصير معارضيه: " من المقدَّر للذين سيظلون خارج هذه الجماعة أن يتناقصوا يوما بعد يوم، وكل الفرق الإسلامية التي لم تنضم إلى هذه الجماعة ستظل في تناقص مستمر؛ فإما أن ينضموا إلى هذه الجماعة أو ينقرضون شيئا فشيئا كما حصل مع اليهود، حيث ظلوا ينقصون شيئا فشيئا حتى أصبحوا قليلي العدد هكذا يكون مصير معارضي هذه الجماعة.أما أبناؤها فسيصبحون غالبين على الجميع بعددهم وقوة مذهبهم.براهين أحمدية، الجزء الخامس، الخزائن الروحانية المجلد ٢١ ص ٩٥) إذن، فعهد المسيح الموعود اللي يبدأ من القرن الثالث عشر الهجري ويصل إلى نهاية القرن السادس عشر.وهذا ما يقوله أهل المعاجم بأن اتساق القمر يعني استواءه من الليلة الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة.لو وُضعت هنا كلمة (البدر) لما اتسع الموضوع هكذا كما اتسع بقوله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، إذ تشير إلى زمن المسيح الموعود ال..أي أنه سيولد في القرن الثالث عشر، ويظهر في القرن الرابع عشر، وسيظل تأثيره يزداد باطراد حتى آخر القرن السادس عشر الهجري.فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (3) ۲۱ التفسير : أي سيقال لأهل ذلك الزمن ما لكم لا تؤمنون؟ كان يجوز لهم يقولوا لا نعرف متى يتسق القمر، وكان بوسعهم أن يقولوا: نحن لم نر ظهور البدر الكامل، ولكنهم ما داموا قد رأوا فترتي الشفق والليل، فكان أن يدركوا بذلك أنه لا بد الآن أن يأتي زمن تتحقق فيه النبوءة الواردة في قوله تعالى وَالْقَمَر بوسعهم

Page 464

الجزء الثامن ٤٦١ سورة الانشقاق إِذَا اتَّسَقَ.ولكن اليأس قد تمكن من قلوبهم نتيجة الليل، فيظنون أن الإسلام لن يزدهر الآن أبدا.فما بالهم قد رأوا الشفق ثم الليل أيضا، ذلك لم يفهموا أن ومع طلوع البدر الكامل أيضا مقدَّر.فقوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ يعني أنهم لا يؤمنون أن البدر الكامل سوف يغطّي على هذه الليلة الليلاء ويبدد ظلماتها.وَإِذَا قُرئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لَا يَسْجُدُونَ ) شرح الكلمات: لا يسجدون: سجد يسجد: خضع وانحنى.وسجدت السفينة للرياح: أطاعتها ومالت بميلها.(الأقرب) من جديد.التفسير: لقوله تعالى لا يَسْجُدُونَ :مفهومان: أولهما أنهم لا يطيعون، وثانيهما أنهم لا يسجدون سجدة الشكر على نزول القرآن في زمنهم مرة أخرى.الحقيقة أن هذه الآية تتضمن نبوءة أنه سيأتي على الناس زمان لن يبقى فيه القرآن في الأرض، بل يرتفع إلى الثريا، فيعود به إلى الدنيا شخص يكون بمنزلة البدر، فيُقرأ القرآن على الأرض ثانية، ويُعمَل به مرة أخرى وتجدد أحكامه وهذه نعمة عظيمة وفضل كبير من الله تعالى وكان المفروض أن يخرّوا له ساجدين شكرًا على أنه قد رجع إليهم كتابهم وأنّ كنزهم الروحاني الذي كان قد ضاع منذ مدة طويلة قد أعاده إلى بيوتهم ثانية، ولكنهم أصبحوا ناكرين للجميل باتهامهم هذا الإنسان بأنه يحرف القرآن.أو المعنى أن هذا الإنسان الذي يكون كالبدر سيعرض عليهم القرآن الكريم، ولكنهم سيعرضون أمامه الحديث وأقوال الأسلاف بدلاً أن يطيعوا القرآن من الكريم، ولن يقبلوا ما فيه.هناك قصة شهيرة لأحد الإخوة من جماعتنا وهو ميان نظام الدين"، وقد حكيتُها مرارا.فقبل بيعته جاء إلى المسيح الموعود اللة وقال: لو جئتك بمئة آية قرآنية على حياة المسيح ال، فهل تؤمن بحياته؟ فقال له المسيح الموعود اللي : "

Page 465

الجزء الثامن دعك ٤٦٢ سورة الانشقاق مئة آية! ائتني بآية واحدة، ولسوف أؤمن بحياة المسيح.قال: سآتيك من بعشر آيات على الأقل.ثم خرج من عنده ال فرحًا مسرورا، وذهب رأسًا إلى بار المولوي محمد حسين البطالوي لكي يُخرج له من القرآن هذه الآيات.وكان المولوي البطالوي عندها في مدينة لاهور، وكان حضرة المولوي نور الدين الله الخليفة الأول للمسيح الموعود الهلال أيضًا قد حضر هنالك من ولاية "جامون" لقضاء إجازة، وكان الاثنان يضعان شروطًا للمناظرة بينهما بشأن وفاة المسيح العليا أو حياته.وكان الخليفة الأول لله يقول للبطالوي: يجب فصل هذه القضية على ضوء القرآن الكريم، بينما كان البطالوي مصرا على أن يتم الفصل فيها على ضوء القرآن الكريم والحديث الشريف معًا.وبعد نقاش طويل رَضِيَ الخليفة الأول ه بضم صحيح البخاري إلى القرآن لمناقشة الأمر.وكان من عادة البطالوي الفخرُ والمباهاة، فلما رَضِيَ الخليفة الأول بهذا الشرط لم يتمالك البطالوي نفسه من شدة الفرح، فجلس في مسجد وأخذ يتباهى بأنه قد حاصر المولوي نور الدين بدليل كذا، وصرعه وصرعه بقول كذا وفيما هو في ذلك حتى وصل إليه "ميان نظام الدين" وقال : أيها الشيخ دَعْ هذه المناظرات؛ لقد جئتُ من عند حضرة الميرزا، وقد أقنعته أني لو جئته بعشر آيات من القرآن الكريم على حياة المسيح العليا فسوف يتوب عن عقيدته ؛ فأرجوك أن تكتب لي بسرعة عشر آيات قرآنية فقط لكي أعرضها عليه.فسُقطَ في أيدي البطالوي الذي كان يتباهى بإلحاق الهزيمة بالمولوي نور الدين فقال في انفعال شديد أي جاهل مجنون قال لك أن تتدخل في الأمر؟ فبعد محاولة شهرين متتاليين تمكنتُ من إقناع المولوي نور الدين بمناقشة الموضوع على ضوء الحديث وأنت حوّلت القضية إلى القرآن مرة أخرى؟ وكان قوله هذا سيئا بحيث لم يتحمل سماعه "ميان نظام الدين" الذي كان يحبّ الإسلام جدا، فظل ينظر إلى وجه البطالوي في دهشة بعض الوقت، ثم قال له: إذا كان الأمر هكذا، فأنا مع القرآن الكريم.ثم خرج من عنده وجاء إلى المسيح الموعود الع وبايع على يده حيات أحمد (أردو) للعرفاني المجلد الثالث ص ١٤٣-١٤٥) إذن، فمن معاني هذه الآية أن ذلك الإنسان الذي يكون كالبدر الكامل

Page 466

الجزء الثامن ٤٦٣ سورة الانشقاق سيعرض على الناس القرآن الكريم، ولكنهم سيحاولون أن يأخذوه إلى الأحاديث الضعيفة وأقوال الناس.ومن معاني هذه الآية كما قلت أن القرآن سيصعد إلى السماء في ذلك العصر، فيعود به إنسان بدري إلى الأرض ثانية.ولكن القوم لن يشكروا الله على أنه قد ردّ لهم هذه النعمة العظيمة، وأنعم عليهم هذا الإنعام الكبير، ورحمهم الرحمة الواسعة، إذ حمى دينهم من الهلاك، وأنقذ أُمّتهم من الدمار وهم على شفا حفرة منه.هذه إذا لم نأخذ بهذا المعنى فلا يبقى أي رابط بين قوله تعالى ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ وقوله تعالى ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ.غير أننا نستطيع أن نثبت الصلة بين الآيتين على ضوء حديث صحيح أخبر فيه النبي أن تعليم الإسلام سيندثر في الزمن الأخير، وأن الإيمان سيصعد إلى الثريا، إذ قال : "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا يبقى من القرآن إلا رسمه".المشكاة: كتاب العلم، وكنز العمال: الحديث رقم 31136)..أي سترتفع معارف القرآن وحقائقه وعلومه إلى السماء، وعندها سيبعث من عند الله تعالى رجل فارسي الأصل، فيعود بالإيمان من الثريا ويحيي علوم القرآن ومعارفه.فثبت أن المعنى الذي نبينه ينطبق هنا كل الانطباق، ولكن المعنى الذي يذكره الآخرون لا يبيّن أي صلة بين القرآن الكريم وبين الشفق والليل والقمر.بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ۲۳ التفسير: حرف (بل) يأتي لبيان أمر إضافي، فالمراد أنهم لن يخروا أمام الله ساجدين شكرًا على نزول القرآن ،ثانية ولن يطيعوه وليس ذلك فحسب، بل سيكذبون هذا الموعود بدلا من طاعته سيعرض عليهم آيات القرآن، ولكنهم يقولون نحن لن نقبلها.

Page 467

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٤٦٤ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ) ٢٤ سورة الانشقاق يوعون : أوعى الشيء والكلام: حفظه وجمعه.وأوعى الزادَ والمتاعَ: جعَله الوعاء وجمعه فيه.(الأقرب) التفسير: من معاني قوله تعالى (يُوعُونَ : يحفظون ويجمعون، فالمراد أن الله تعالى أعلم بما يجمعونه في قلوبهم والمعنى الثاني أن الله تعالى أعلم بما تنطوي عليه قلوبهم..أي أن القرآن سيخرج من قلوبهم ولن يبقى فيها إلا أقوال الناس التي حفظوها.فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ۲۵ التفسير : أي أننا أردنا أن ننفعهم بهذا التدبير.لقد أردنا أن نمنحهم نصيبا من هذا النور، لنسهل عليهم السير في سبل التقرب إلى الله تعالى، ولكنهم ظلوا قابعين في الزوايا المظلمة معرضين عن نور الله، ورافضين بركاته، وبدلاً من أن يخروا له ساجدين شكرًا على منّته كذبوا بآياته فلا بد أن يقاسوا آلاما شديدة.من من إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ هُمْ أَجْرُ غَيْرُ مَمْنُون (3) شرح الكلمات: ممنون: الممنون: المقطوع.(الأقرب) التفسير: إن مفهوم هذه الآية هو ما أشار إليه المسيح الموعود الله في كتبه أنّ المستحيل بعد بعثته أن ينال أحد قرب الله ويحظى بمقام ولايته إلا الذي يكون جماعته ويتبعه ويقتدي به.ولو بعث في المستقبل نبي من الله تعالى فلا بد له أيضًا أن يمر بباب المسيح الموعود اللي لا شك أنه يحصل عند بعثة نبي جديد بعض التغير والتبدل في ظاهر الأمور، ولكن لن تنقطع علاقته عن المسيح الموعود

Page 468

الجزء الثامن ٤٦٥ سورة الانشقاق العليا.فكما أن من المحال أن ينقطع نور محمد ال إلى يوم القيامة، كذلك لن ينقطع نور جماعة المسيح الموعود اللة إلى يوم القيامة.لا شك أن هذه الآيات تتحدث عن جماعة المؤمنين، ولكن الجماعة تكون تابعة للنبي، وحيث إن المسيح الموعود ال هو مسیح موعود ورسول بعثه الله إلى جميع الناس إلى يوم القيامة، فستعني الا هذه الآية أن كل من أراد أن يكون مقربًا عند الله وعند رسوله فلا بد أن يصل إليهما بواسطة المسيح الموعود الله، أما بدون ذلك فلا يمكن لإنسان الآن نيل بركات الله.

Page 469

الجزء الثامن ٤٦٧ سورة البروج سورة البروج مكية، وهي ثلاث وعشرون آية مع البسملة هذه السورة أيضا متسلسلة الموضوع مع السور السابقة.إنها مكية حيث قال المفسرون: لا خلاف في مكيّتها.ولكن المستشرقين حاولوا التشكيك في ذلك؛ حيث يعتبرها المستشرق الألماني "نولدكه" مما نزل في الفترة الأولى البعثة من النبوية..أي في السنتين والنصف الأولى، ولكنه مع ذلك يظن أن قوله تعالى ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلى قوله تعالى ذلكَ الْفَوْزُ الْكَبير قد أُضيف إليها فيما بعد.وليس المراد من قوله هذا أن هذه الآيات قد أضيفت إلى القرآن من قبل شخص آخر، بل أن محمدا ( نفسه قد أضافها إلى هذه السورة في الفترة المدنية.وحجته أن هذه الآيات تختلف أسلوبًا مع الآيات المكية، فهي أطول من الآيات الأخرى، وأشبه بالسور المدنيّة.يعني فَلَهُمْ أما القسيس "ويري" فيضيف أمرًا آخر قائلا: لقد ورد في هذه السورة لفظ (المؤمنات) في قول الله تعالى إنّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤمنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا عَذَابٌ جهنم و وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَريق، وهذا اللفظ لم يكن شائعا في السور المكيّة، بل تكرر في السور المدنية فقط.وهكذا فإن "ويري" أيضًا يؤيد المستشرق نولدكه" الذي زعم أن آيات هذه السورة بدءا من الآية ٨ الآية ۱۱ مَدَنيّة.وفيما يتعلق بقضية كون السورة مكية أو مدنية فليست بذات بال بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا نؤمن أن آيات القرآن كلها قد نزلت من عند الله تعالى، صالحة للعمل، سواء في مكة نزلت أو في المدينة؛ فكونها مكية أو مدنية لا " مي حتى الأمر كثيرا بالنسبة لنا.أما منكرو الإسلام فهم يرون أن آيات القرآن ود يغير من اختلاق محمد ) ، فلا ينفعهم أيضا البحث فيما إذا كانت آيةٌ ما مكيةً كلها من

Page 470

الجزء الثامن ٤٦٨ سورة البروج أو مدنيةً.ومع ذلك سأناقش هذا الاعتراض، لأبين كيف يتكلم هؤلاء المستشرقون أحيانًا عن الإسلام بأمور سخيفة لا أساس لها إن زعم "نولدكه" هذا خلاف العقل في رأيي، لأن طول بعض الآيات قليلاً ليس في حد ذاته دليلاً على نزولها في المدينة نحن المسلمين نؤمن أن القرآن كله تنزيل من رب العالمين، بينما يرى نولدكه" وأصحابه أن القرآن كله تأليف من ،محمد وليس مصدره أي جهة أخرى.فلو قلنا إن القرآن كله نزل من عند الله، فالقول إنه تعالى كان قادرا على إنزال آيات طويلة في المدينة دون مكة حمق وغباء.أما إذا قلنا إن كل القرآن هو من تأليف محمد، فزعم نولدكه وغيره أن محمدا لم يكن قادرا على تأليف آيات طويلة في مكة وقادرا عليها في المدينة سخف.إذا كانت الآيات المكية قصيرة عادةً- لحكمة ما، فلا ذلك أن يعني سه مؤلفها لم يكن قادرًا على إطالتها عند الحاجة.فثبت أن دعواهم هذه باطلة عقلاً كل البطلان.ثم إن دعواهم باطلة على صعيد الواقع أيضًا، لأن لفظ المؤمنات الذي بنى عليه "ويري" اعتراضه زاعمًا أنه لم يرد إلا في السور المدنية لموجود في السور المكية أيضًا، حيث قال الله على لسان نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزد الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا (نوح: ٢٩).فقد ورد في هذه الآية لفظ المؤمنات، كما أنها طويلة أيضا، ثم ليس هناك من خلاف في كون سورة نوح مكيةً.فيقول صاحب "فتح البيان": إنها مكية.وقال الزبير: نزلت بمكة.وقال صاحب "روح" المعاني : مكية بالاتفاق.حتى إن "نولدكه" - الذي اعتبر بعض آيات سورة البروج مكية بسبب طولها – فهو نفسه يقول عن سورة نوح: إنها مما نزل في السنوات الخمس الأولى من البعثة.وأما "ويري" - الذي يعتبر بعض آيات سورة البروج مدنية لورود لفظ المؤمنات فيها – فهو الآخر يعترف أن سورة نوح قد نزلت في السنة السابعة للبعثة النبوية.فثبت بشهادة نولدکه وويري نفسيهما أن لفظ المؤمنات قد ورد في السور المكية أيضا، وأن بعض آيات السور المكية طويلة أيضا.فثبت أن استدلالهم عن كون سورة البروج

Page 471

الجزء الثامن ٤٦٩ سورة البروج مَدَنيّة إنما كان مجرد تخمین ،مفترى وحيث إن المرء ينسى ما قاله على سبيل التخريص والتخمين، فنجد هؤلاء المستشرقين يأتون باستنتاجات متناقضة.الواقع أن ما يقدمه المستشرقون الأوروبيون كدليل على طعنهم في القرآن الكريم أفواه إنما هو مجرد ظنّ ،وتخمين ولكن المثقفين الهنود عندما يسمعون شيئا من المستشرقين يظنون أنه أكثر قداسة من الوحي الرباني، مع أن التدبر في أقوالهم يكشف أنها ليست أكثر من تخريص وافتراء.م الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج (٤) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (3) شرح الكلمات: البروج: جمع يُرْج، وهو الرُّكْن والحصن والقصر، وواحد بروج السماء.ويقال برجتْ عينُه بَرَجًا: كان بياضُها محدقا بالسواد كله لا يغيب من سوادها شيء، فهي برجاء، وجمعها بُرْجٌ، ومنه: رأيتُ بُرْجًا في بُرْج، الأول جمع برجاء والثاني بمعنى القصر (الأقرب)..أي رأيتُ في قصر نسوةً بياض عيونهن محدق بالسواد.وهذا أن البرج يُستعمل مفردًا أيضا، ومعناه الركن والحصن والقصر، ويُستخدم يعني ما هي جمعا مفرده مفرده برجاء بمعنى النسوة التي عيونها كما وصف أعلاه.التفسير: يقول الله تعالى: نقدّم كشهادة السماء التي فيها بروج.هذه البروج؟ قال المفسرون: هي البروج المعروفة في علم الفلك والهيئة.يقولون: هناك اثنا عشر برجًا للنجوم، وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والعذراء والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.وقال بعضهم إن أجرام النظام الشمسي السبعة تدور في هذه البروج الاثني عشر الخاصة بها، فالحمل والعقرب للمريخ، والثور والميزان للزهرة، والجوزاء والعذراء لعطارد، والسرطان للقمر والأسد للشمس، والقوس والحوت للمشتري، والجدي والدلو لزُحل.

Page 472

الجزء الثامن ٤٧٠ سورة البروج وروى ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبي سئل ما هي البروج؟ فقال الكواكب.(روح المعاني) باختصار، يُطلق البرج لغةَ على ما يقيم فيه الملوك والأمراء من قصر وحصن وغيرهما، ويُطلق في اصطلاح علماء الفلك على النجوم، أو على مدارات الكواكب.فعلماء الفلك القدماء متفقون على أن عدد البروج اثنا عشر، وعليه فقوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج يعني أننا نقدم كشهادة السماء ذات البروج الاثني عشر التي هي مدار الكواكـ مدار الكواكب.ثم قال الله تعالى: إننا نقدّم كشهادة اليوم الموعود.فلو فسرنا البروج بمعنى اثني عشر مقامًا، فيصبح اليوم الموعود المقام الثالث عشر.وكأن الله تعالى يستشهد بهذه المقامات واليوم الموعود، التي عددها ثلاثة عشر.وعندما نربط هاتين الآيتين بقوله تعالى الوارد في السورة الماضية: وَالْقَمَرَ إِذَا أَتَّسَقَ، تنسجم السورتان في موضوعهما كل الانسجام؛ حيث قال الله في السورة السابقة: نقدّم كشهادة القمر حين يدخل في ليلته الثالثة عشرة، بينما قال تعالى هنا نقدّم كشهادة الاثني عشر برجا واليوم الموعود ، أي ثلاثة عشر قرنًا، وهكذا ثبتت علاقة وطيدة بين هذه السورة مع التي قبلها.فالحق أن الله تعالى قد أعاد هنا نفس الموضوع المذكور في السورة السابقة ولكن بشكل آخر وجعله دليلا على صدق ما قال هنالك.لقد قال تعالى في السورة السابقة فَمَا لَهُمْ لاَ لا يُؤْمِنُونَ ، والظاهر أن من الصعب جدا أن يؤمن الناس بالشيء وهو في بداياته، ولذلك قد قال الله تعالى في بداية هذه السورة إننا نقدم كشهادة تلك المقامات الاثني عشر التي هي مقامات النجوم..أي نقدم كشهادة المجددين الذين ظهروا بعد النبي في الاثني عشر قرنا، لتجديد الدين بحسب مشيئته تعالى.فكأنه تعالى يقول: ما دمنا سنبعث المجددين لإزالة ما سيقع بالمسلمين من اختلافات بسيطة وما سيحل بالإسلام من مصاعب عابرة، فكيف يمكن أن تحل بالإسلام مصيبة كبيرة ولا نعمل شيئًا لإزالتها؟ إذًا فقوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج) قد جاء ردا على المعارضين الذين قيل فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، حيث قدّم الله تعالى لهم شهادة السماء وبروجه فيهم: 6

Page 473

الجزء الثامن ٤٧١ سورة البروج الاثني عشر التي هي مدارات النجوم..كأنه تعالى يقول: ما دمنا نبعث المجددين مجددًا تلو مجدد لاثني عشر قرنًا لهداية الناس..فلماذا يئستم في المرة الثالثة عشرة، فظننتم أن الله لن يبعث الآن أحدًا لهداية الناس؟ عندكم شهادة بأن الله تعالى قد أقام عند القرن الأول أناسًا لتجديد دينه، ثم لم يزل يقيمهم قرنًا بعد قرن لمدة اثني عشر قرنًا، وهكذا أثبت ۱۲ مرة أنه سيظل يقيم لنصرة دينه وتأييده عبادا له مؤيدين ومنصورين من عنده لينشروا تعاليم المصطفى في الدنيا.فالعجيب أنكم قد صدّقتم هؤلاء المجددين الذين لم يكونوا موعودين من عند الله تعالى ولكن الثالث عشر الذي كان موعودًا من الله تعالى قد أنكرتم بعثته! ذلك أن الله قد أخبر عن بعثة هؤلاء الأولين بكلمات غير محددة، حيث قال النبي ﷺ: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها." (أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المئة، ومع ذلك صدّقتموهم، بينما أنكرتم هذا الثالث عشر الذي قد الرسول في نبوءاته اسما محددًا وذكر أعماله وعلاماته وآيات صدقه أعطاه الرسول وموعده وعصره بكلمات صريحة وليس هذا فحسب بل لقد ساءت حالة المسلمين أنهم أخذوا يقولون بعد بعثة المسيح الموعود العلي: لا حاجة لنا لأي مصلح لرقي الإسلام والمسلمين ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا: لماذا خطرت هذه الفكرة ببالكم بعد مرور اثني عشر قرنا؟ لقد كنتم تؤمنون لاثني عشر قرنًا أن إحياء الإسلام بحاجة إلى المجددين وأن ازدهار الإسلام وغلبته بحاجة إلى مبعوث رباني، وعندما جاء القرن الثالث عشر وأرسلنا هذا الموعود أنكرتموه، بل قلتم لا حاجة لنا لأي مصلح! ولذلك يقول الله تعالى: فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ...أي ماذا حصل لهم؟ فرفضتم الإيمان بموعودنا الذي سبق أن أنبأنا عن أخباره مفصلاً، والذي أوصاكم نبينا بالإيمان به خاصة وتحدث كثيرًا عن سموّ شأنه وعلوّ درجته، بل قلتم أن رقي الإسلام بحاجة إلى بعثة رجال من عند الله! إننا نلفت أنظاركم إلى اثني عشر برجا لرقي الإسلام، لتفكروا وتروا كيف نصر الله الإسلام في كل موطن وأفشل هجمات الكفر بإقامة عباد.ربانيين.ثم لما جاء القرن الثالث إن من الخطأ الزعم عشر أرسلنا عبدنا الموعود الذي ما زلنا نخبر عنه.

Page 474

الجزء الثامن ٤٧٢ سورة البروج من قدرة الله تعالى أن مفاهيم هذه الآيات القرآنية قد انكشفت علينا بعد بعثة المسيح الموعود لال، إلا أن الغريب أنه الله قد اشتهر في جماعتنا باسم المسيح الموعود..أي المسيح الذي ظهر في اليوم الموعود.فلو تحدثت مع أي أحمدي، عالما كان أو جاهلاً مثقفًا كان أو أميًّا تجده يقول : لقد قال المسيح الموعود ال كذا وكذا، وإن دليل صدق المسيح الموعود ال كذا وكذا..والله تعالى سماه مسيحا موعودا.لقد كثرت هذه التسمية بين الأحمديين بحيث غاب اسم المهدي بينهم مع أن اسم المهدي أيضا قد كثر في الحديث، بينما سماه القرآن الكريم موعودا ، لذلك فقد روّج الله تعالى بعجيب حكمته تسمية المسيح الموعود في الدنيا.ورد في الحديث عن ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس، قال رسول الله : اليوم الموعود: يومُ القيامة.وشاهد يوم الجمعة ومشهود: يوم عرفة، وشاهد: محمد ، ومشهود : يوم القيامة (فتح القدير، وابن كثير) تقريبا، 28 نحن لا ننكر صحة هذا الحديث، ولكن الحقيقة أن اليوم الموعود لم يكن يوما بعينه، إذ كان يوم بدر يوما موعودا بحسب القرآن إذ قد تنبأ عن هذه المعركة وكانت غزوة الأحزاب يوما موعودا أيضا إذ كانت فيه نبوءة عنها، وكان سلفا، يعني يوم فتح مكة يوما موعودا إذ كانت في القرآن نبوءة الله من عن هذا الفتح (سورة القمر : ٤٦، وسورة الأحزاب : ۱۲ ، وسورة الفتح (۲) فلا شك أن اليوم الموعود كان أيامًا كثيرة، ولكنا نقول إن اليوم الموعود الذي أُريدَ هنا هو ذلك اليوم الآتي بعد الحادث المذكور في قوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوحِ ؛ ولذلك فلا اليوم الموعود يومَ القيامة أو غيره، وإنما يراد به يوم ظهور الشخص الموعود الذي سيظهر في القرن الثالث عشر بعد ظهور البروج الاثني عشر.ذلك أن اللفظ متعدد المعاني لا يراد به معنى واحد في كل موطن بل إنه يفيد مفاهيم مختلفة بحسب المحل والسياق.فلا شك أن معركة بدر كة بدر كانت يومًا موعودا ، وكذلك يوم الأحزاب كان يوما موعودا وفتح مكة كان يوما موعودا نحن لا ننكر ذلك، ولكنا نقول إن اليوم الموعود المذكور بعد قوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج لا يمكن أن يكون إلا يوم بعثة المسيح الموعود.وهو نفس الموعود الذي أُخبر عنه في قوله تعالى

Page 475

الجزء الثامن ٤٧٣ سورة البروج وَالْقَمَر إِذَا أَتَّسَقَ أيضا.أما إذا لم نفسر اليوم الموعود هنا بمعنى يوم بعثة المسيح الموعود، فمن ذا الذي جعل بين هذه الآيات والتي قبلها هذا الرابط القوي بحيث قد ينطبق على المسيح الموعود كل ما يتحقق منها؟ فقول القرآن وَالْقَمَرَ إِذَا اتَّسَقَ ثم استشهاده بالبروج بقوله (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج ثم قول علماء الفلك أن عدد البروج اثنا عشر..كل ذلك يدل على أن كل ما حصل إنما حصل بتصرف رباني.والآية التالية تقول وَشَاهِد وَمَشْهُود..والواقع أنه قد جاء في الدنيا آلاف وآلاف ممن كان كل واحد منهم شاهدًا..بل كل نبي كان شاهدا، فهل ثمة نبي لم يشهد على وجود البارئ تعالى بالأدلة والمعجزات والبينات؟ لا جرم أن كل نبي شهد على ذلك.إذًا، فكل نبي شاهد من حيث إنه كان شاهدًا حيًّا على وجود الله تعالى وقدرته وجلاله.كما أن كل نبي كان مشهودا، لأن الله تعالى يشهد على صدقه عند بعثته إلى الناس بالآيات والمعجزات.إذا فالنبي يكون شاهدا على الله تعالى، كما يكون مشهودا من قبله تعالى حيث يظهر تعالى صدقه بالآيات والمعجزات.وكذلك يكون الله تعالى شاهدا في زمن كل نبي، إذ يشهد على صدق كما أن الله تعالى يكون مشهودا أيضا، إذ يُعرَف في الدنيا من خلال نبيه.وإلى هذه الحقيقة نفسها قد أشير في الإلهام الآتي للمسيح الموعود العلي: "يا قمر، يا شمس، أنت مني وأنا منك" (التذكرة ص ٥٠٠)..أي أنت قمر من حيث اقتباسك النور مني، وأنت شمس من حيث إشراق وجودي في العالم بواسطتك، وكذلك أنا شمس إذ لولا نصرتي لك لما نجحت في مقصدك في الدنيا، وأنا قمر أيضا لأنك أنت الذي رفتني في الدنيا.نبيه، شمسا فكما أن الله تعالى يكون شمسا من جهة وقمرًا من أخرى، كذلك يكون النبي من شاهد جهة وقمرًا من أخرى، والحال نفسه للشاهد والمشهود، فكل نبي الله مشهود من جهة، ومن جهة أخرى يكون الله شاهدًا ويكون النبي مشهودا، أننا لا نستطيع أن نعتبر أي شيء آخر شاهدًا أو مشهودًا، ففي ولكن هذا لا يعني الحديث المذكور آنفا قد سمى النبي يوم الجمعة شاهدًا ويوم عرفة مشهودا من جهة، ومن ناحية أخرى اعتبر يوم القيامة أيضا مشهودا.فالحق أن كل هذه الأحاديث

Page 476

الجزء الثامن ٤٧٤ سورة البروج صحيحة في مكانها، ونحن لا ننكر أن يوم القيامة أيضا يوم موعود، كما نقرّ بصحة كل ما ورد في الأحاديث عن شاهد ومشهود ولكن السؤال هنا: ما هو المعنى المناسب الملائم هنا لليوم الموعود: أهو بمعنى زمن المسيح الموعود، أو يوم القيامة.لقد بين الله تعالى بقوله وَالْقَمَر إِذَا اتَّسَقَ أنه سيجعل القمر يتسق بعد ليلة روحانية مظلمة تخيم على العالم كله؛ وقد أثبتنا أن اتساق القمر يعني لغةً دخوله في الليلة الثالثة عشرة..أي أن الله تعالى قد قدّم في السورة السابقة شهادة القمر وهو في الليلة الثالثة عشرة؛ ثم أعاد هنا الموضوع أعاد هنا الموضوع نفسه، ولكن بأسلوب آخر، حيث ذكر أولا اثني عشر برجا، ثم اليوم الموعود ، مما يدل بوضوح أن المراد من اليوم الموعود هنا وقت بعثة المسيح الموعود المقدر ظهوره بعد الاثني عشر برجًا.واليوم يعني الوقت، فالمراد من اليوم الموعود هو وقت ظهور هذا الشخص الموعود.كذلك اليوم يعني النهار المعروف أيضا، وعليه فالمعنى أننا وإن كنا سمينا ذلك الوقت ليلاً إلا أن ذلك الوقت يكون مضيئا مثل النهار، فلذلك نسميه اليوم الموعود، إذ يظهر فيه نور الله وجلاله.وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) لار ٤ التفسير : أرى أن المراد من "الشاهد" هنا ما قد سبق أن بينه الله تعالى في قوله في سورة هود: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمَنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي تك فى مرية منْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاس لا يُؤْمِنُونَ ) (الآية: ١٨)..أي كيف يمكن أن يكون كذابًا مَن كان قائما على حجة بينة من ربه، وسيأتي الله شاهد يشهد على صدقه ويكون تابعا له، ومن قبله كتَابُ مُوسَى الذي كان إِمَامًا وَرَحْمَةً للناس، ويؤمن به أتباع موسى الصادقون أيضا؟ فهنا أنبأ الله تعالى في بعثة المسيح الموعود، فالشاهد هو المسيح الموعود قوله وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ والمشهود عن بعثة عند من د هو الرسول.وهذا هو المراد من الآية قيد التفسير أيضًا، حيث قال الله تعالى إننا نقدم كشهادة ذلك الشاهد المذكور في مكان آخر من القرآن،

Page 477

الجزء الثامن ٤٧٥ سورة البروج الشاهد كما نقدم كشهادة المشهود أيضًا أي محمدًا رسول الله...فالمراد من هنا ذلك الشخص الموعود الذي يأتي في الزمن الأخير حين ينمحي صدق رسول الله ال م م م م ، القلوب ، فيشهد أمام الناس على صدقه له، كما يكشف عليهم صدق من القرآن الكريم.قُتِلَ أَصْحَبُ الْأُخَدُودِ (3) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٢) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (3) شرح الكلمات: الأخدود : الحفرة المستطيلة في الأرض، جمعه أخاديد.(الأقرب) التفسير: أي هلك أو سيهلك أصحاب الخنادق المليئة بالنار ذات الوقود..وكأنه تعالى بين أن سبب هلاكهم ليس حفر الخنادق وإنما إشعال النار فيها لتعذيب الناس.ثمة قولان للمفسرين في تفسير هذه الآيات أولهما أنها تتحدث عن ملك في الحبشة كان يعذب بعض الموحدين.والقول الآخر أنها تتحدث عن دانيال وصاحبيه الذين عدهم نبوخذنصر.(روح المعاني، والطبري، وفتح البيان) أستغرب كيف كتب المفسرون هذه الأقوال، مع أن هذه الآية تتحدث عن واقعة حقيقية وردت في التوراة في كتاب دانيال كالآتي: بو حَذْ نَصَّرُ الْمَلكُ صَنَعَ تمْثَالاً مِنْ ذَهَب طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتْ أَذْرُعٍ، وَنَصَبَهُ فِي بُقْعَةِ دُورًا فِي وِلايَةِ بَابِلَ ثُمَّ أَرْسَلَ نَبُوخَذَ نَصَّرُ الْمَلِكُ لِيَجْمَعَ الْمَرَارَيَةَ وَالشَّحَنَ وَالْوَلاةَ وَالْقُضَاةَ وَالْحَزَنَةَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَكُلِّ حُكام الولايات، ليَأْتُوا لتدشين التمْثَالَ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْ نَصَّرُ الْمَلكُ.حينئذ اجْتَمَعَ الْمَرَازِبَةُ وَالشَّحَنُ وَالْوَلَاةُ وَالْقَضَاةُ وَالْحَزَنَةُ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُفْتُونَ وَكُلٌّ حُكّام الولايات لتدشين التمثال الذي نَصَبَهُ نَبُوخَذْ نَصَّرُ الْمَلكُ، وَوَقَفُوا أَمَامَ النِّمْثَالَ الَّذِي و

Page 478

الجزء الثامن سه ٤٧٦ سورة البروج نَصَبَهُ نَبُوخَذْ نَصَّرُ.وَنَادَى مُنَادٍ بشدَّة: «قَدْ أُمِرْتُمْ أَيُّهَا الشُّعُوبُ وَالأُمَمُ وَالأَلْسِنَةُ، عنْدَمَا تَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْن وَالنَّاي وَالْعُود وَالرَّبَاب وَالسِّنطير وَالْمَرْمَارِ وَكُلِّ أَنْوَاعِ الْعَرْف أَنْ تَحرُّوا وَتَسْجُدُوا لتمثال الذَّهَب الذي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصرُ الْمَلكُ.کاو وَمَنْ لَا يَخِرُّ وَيَسْجُدُ، فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ يُلْقَى فِي وَسَط أَتُون نَارِ مُتَقدَة».لأَجْل ذلِكَ وَقْتَمَا سَمِعَ كُلُّ الشُّعُوبِ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِير وَكُلٌّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ، حَرَّ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمَ وَالأَنْسَنَةِ وَسَجَدُوا لتمْثَالِ الذَّهَبَ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْ تَصَّرُ الْمَلكُ.لأجل ذلكَ تَقَدَّمَ حِينَشَدَ رِجَالٌ كَلْدَانِيُّونَ وَاشْتَكَوْا عَلَى الْيَهُود، أَجَابُوا وَقَالُوا لَلْمَلَك تَبُوحَذَ نَصَرَ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، عش إلَى الأَبَدا أَنتَ أَيُّهَا الْمَلكَ قَدْ أَصْدَرْتَ أَمْرًا بِأَنَّ كُلَّ إِنْسَان يَسْمَعُ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالطيرِ وَالْمِرْمَارِ وَكُلِّ أَنْوَاعِ الْعَرْف يَحرُّ وَيَسْجُدُ لتمثال الذَّهَبِ.وَمَنْ لاَ يَخرُّ وَيَسْجُدُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فى وسط أنون نار متَّقدَة.يُوجَدُ رِجَالٌ يَهُودٌ، الَّذِينَ وَكَلْتَهُمْ عَلَى أَعْمَال ولاية بَابِلَ: شَدْرَخُ وَمَيشَحُ وَعَبْدَنَعُو.هؤلاء الرِّجَالُ لَمْ يَجْعَلُوا لَكَ أَيُّهَا الْمَلَكُ اعْتَبَارًا.الهَتُكَ لاَ يَعْبُدُونَ، وَلتمْثَالَ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَ لَا يَسْجُدُونَ».حينئذ أَمَرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ بِغَضَبٍ وَغَيْظَ بِإِحْضَارِ شَدْرَحَ وَمِيشَحَ وَعَبْدَتَغُوَ فَأَتَوْا بهؤلاء الرِّجَالِ قُدَّامَ الْمَلِكَ.فَأَجَابَ تُبوخَذْنَصَّرَ وَقَالَ لَهُمْ: «تَعَمُّدًا يَا شَدْرَحُ مَحْ وَعَبْدَنَغُوَ لا تَعْبُدُونَ الهَتِي وَلا تَسْجُدُونَ لتمْثَالَ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتُ! فَإِنْ كُنتُمُ الآنَ مُسْتَعِدِّينَ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايَ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِيرِ وَالْمِرْمَارِ وَكُلٌّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ إِلَى أَنْ تَخِرُّوا وَتَسْجُدُوا للتّمْثَالِ الَّذِي عَمِلْتَهُ.وَإِنْ لَمْ تَسْجُدُوا فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تُلْقَوْنَ فِي وَسَط أنون النَّارِ الْمُتَّقدَةَ.وَمَنْ هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُنْقذَكُمْ مِنْ يَدَيَّ ».فَأَجَابَ شَدْرَحُ وَمِيشَحُ وَعَبْدَتَغُوَ وَقَالُوا للملك: «يَا نَبُوخَذْنَصَّ ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْر هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّينا من أنون النَّارِ الْمُتَّقدَة، وَأَنْ يُنقذنا منْ يَدكَ أَيُّهَا الْمَلَكُ وَإلا فَلْيَكُن مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلَكُ، أَنَّنَا لا تَعْبُدُ الهَتَكَ وَلَا تَسْجُدُ لَتَمْثَالَ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ.و

Page 479

الجزء الثامن.٤٧٧ سورة البروج حينئذ امْتَلأَ نَبُوخَذْنَصَّرُ غَيْظًا وَتَغَيَّرَ مَنْظَرُ وَجْهه عَلَى شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ، فَأَجَابَ وَأَمَرَ بأَنْ يَحْمُوا الأَتُونَ سَبْعَةَ أَضْعَاف أَكْثَرَ ممَّا كَانَ مُعْتَادًا أَنْ يُحْمَى.وَأَمَرَ جَبَابِرَة الْقُوَّة في جيشه بأَنْ يُوتَقُوا شَدْرَحَ وَمِيشَحَ وَعَبْدَنَعُوَ وَيُلْقُوهُمْ في أَتُونَ النَّار الْمُتَّقدَة.ثُمَّ أَوثق هؤلاء الرِّجَالُ في سَرَاويلهمْ وَأَقْمَصَتَهُمْ وَأَرْدَيَتِهِمْ وَلَبَاسِهِمْ وَأَلْقُوا وَسَط أنونَ النَّارِ الْمُتَّقدَةِ.وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلِمَةَ الْمَلَكَ شَدِيدَةٌ وَالأَتُونَ قَدْ حَمِيَ جدًّا، قَتَلَ لَهِيبُ النَّارِ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا شَدْرَحَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ.وَهَؤُلاَءِ الثَّلَاثَةُ الرِّجَالِ، شَدْرَحُ وَمِيشَحُ وَعَبْدَاغُوَ، سَقَطُوا مُوثَقِينَ في وسط أنون النَّارِ الْمُتَّقدَة.حينئذ تَحَيَّرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلَكُ وَقَامَ مُسْرَعًا فَأَجَابَ وَقَالَ لَمُشْيريه: «أَلَمْ نُلْقِ ثلاثة رجال مُوثَقِينَ فِي وَسَط النَّارِ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا لِلْمَلَكَ: «صَحِيحٌ أَيُّهَا الْمَلكُ».أَجَابَ وَقَالَ: «هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رجَال مَحْلُولينَ يَتَمَسُّونَ في وَسَط النَّار وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ، وَمَنْظَرُ الرَّابع شَبية بابْنِ الآلهة».ثُمَّ اقْتَرَبَ نَبُوخَذْتَصرُ إِلَى بَابِ انون النَّارِ الْمُتَّقدَة وَأَجَابَ، فَقَالَ: «يَا شَدْرَخُ وَمِيشَحُ وَعَبْدَتَعُو، يَا عَبِيدَ اللهُ الْعَلي، اخْرُجُوا وَتَعَالَوْا».فَخَرَجَ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو مِنْ وَسَط النَّارِ.فَاجْتَمَعَت الْمَرَارَبَةُ وَالشَّحَنُ وَالْوُلاَةُ وَمُشيرُو الْمَلَك وَرَأَوْا هؤلاء الرِّجَالَ الَّذينَ لَمْ تَكُن للنَّار قُوَّةٌ عَلَى أَحْسَامِهِمْ، وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِق، وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ ، وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ فَأَجَابَ نَبُوخَذْنَصَّرُ وَقَالَ: «تَبَارَكَ إِلَهُ شَدْرَحَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ، الَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبيدَهُ الَّذِينَ اتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ المَلك وَأَسْلَمُوا أَحْسَادَهُمْ لِكَيْلاً يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإله غَيْرِ الهِمْ فَمِنِّي قَدْ صَدَرَ أَمْرٌ بأَنْ كُلِّ شَعْب وَأُمَّةَ وَلسَان يَتَكَلَّمُونَ بالسُّوءِ عَلَى إِللَهِ شَدْرَحَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ، فَإِنَّهُمْ يُصيَّرُونَ إربا إربا ، وَتُجْعَلُ بُيُوتُهُمْ مَرْيَلَةً، إذْ لَيْسَ إِلَهُ آخَرُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَ هَكَذَا».حينئذ قَدَّمَ الْمَلِكُ شَدْرَحَ وَمِيشَحَ وَعَبْدَنَغُوَ فِي وِلَايَةِ بَابِلَ." (دَانِيال ٣:.(۳۰-۱ إِرْبَا، الله لقد أخطأ المفسرون إذ قالوا إن دانيال كان من بين هؤلاء المعذبين، وقد وقعوا و من في هذا الخطأ لعدم توافر نسخ التوراة في وقتهم بكثرة، فظنوا أن دانيال كان بين هؤلاء المعذبين.على أية حال، هذه واقعة من الماضي وقد ذُكر فيها الأتون

Page 480

الجزء الثامن و ٤٧٨ سورة البروج وإشعال النار وإلقاء ثلاثة أشخاص فيها، وأن الملك وأصحابه كانوا يرون هذا المشهد ولا بأس بهذه الواقعة إلى هذا الحد، ولكن تفاصيلها لا تنطبق على ما ذكره القرآن الكريم هنا، لأنه لم يقل أنهم خرجوا من النار أحياء.قد تكون هذه الجزئية قد أُضيفت إلى هذه الواقعة إذ توجد في التوراة مبالغات كثيرة.صحيح أن هؤلاء قد أُحرقوا في الأتون لإيمانهم بالله الأحد، وهذا يحدث في كل عصر، ففي زمن كل نبي يقوم أعداء الدين بتعذيب المؤمنين بالله بطرق شتى، ولكني على يقين أن هذا الحادث لا علاقة له بهذه الآيات؛ لأنها بدأت بقوله تعالى ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ( وَشَاهِدِ وَمَشْهُود ، فلزم أن تكون هذه الشهادة متعلقة بحادث يقع في المستقبل، لأن المعروف في القرآن الكريم أنه يقدّم الشهادة على أمر يقع في المستقبل، فإنك لن تجد الله تعالى يقول في القرآن مثلاً إني أستشهد بالشمس والقمر على أني بَعثتُ في الماضي آدم أو نوحًا وإبراهيم وموسى.إنما تكون شهادته على أمور غيبية ستقع في المستقبل.وحيث إننا لا نجد في القرآن أي قَسَمِ قُدِّم كشهادة على أحداث الماضي، فإن تطبيق حادث التوراة على قوله تعالى قتل أَصْحَابُ الأُخْدُود ) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود ) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود خلاف لأسلوب القرآن ومناف للعقل؛ إذ لا داعي أن يحلف الله من أجل حادث تاريخي وقع في الماضي.إني لا أنكر أن واقعة كهذه قد تكون قد وقعت في الماضي، وإنما أقول لقد أنبأ الله تعالى هنا أن حادثا مماثلا سيقع في المستقبل، وهكذا يتضمن قوله تعالى قتلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود ) النَّار ذَاتِ الْوَقُود ) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود نبوءة أخرى الزمن الأخير، حيث أنبأ الله تعالى من قبل عن ظهور المسيح الموعود الذي سيجعل الإسلام غالبا ثانية، وقد دلل الله على ذلك بأنه لم يزل في الماضي يبعث المجددين لإحياء الإسلام دائما، فلا بد أن يفعل ذلك في المستقبل، خصوصا أنه قد عن بعثة موعود في الزمن الأخير، أما الآن فقد بيّن تعالى هنا أن اليوم الموعود لغلبة الإسلام لن يأتي بسهولة، بل لا بد أن يقدم المؤمنون من أجله تضحيات كبرى.كان الله تعالى قد ركز كثيرا على اليوم الموعود، وكان من الممكن أن تظن جماعة ذلك المأمور المبعوث في الزمن الأخير أن هذا اليوم الموعود سيأتي تلقائيا عن أنبأ

Page 481

الجزء الثامن ٤٧٩ سورة البروج بدون تضحيات وجهود، فصحح الله أفكارهم بقوله: قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود ، وبين لهم أن هذا اليوم الموعود سيأتي يوما، ولكن لا بد لكم أن تضحوا بأنفسكم في سبيله، وتتعرضوا لفظائع مروعة على يد المعارضين فترة من من الزمن.لقد نبه المسيح الموعود اللي جماعته مرارًا إلى أن رقي الإسلام والأحمدية يتطلب منا موتًا، فإذا كنا نظن أننا سنحقق أهدافنا دون تقديم تضحيات كالتي قدمها الصحابة أو التي قدمها أتباع الأنبياء السابقين، فليس هناك من هو أشدّ منا حمقا وسذاجة.إن ازدهار الإسلام والأحمدية منوط بتضحياتنا، وهذا هو الموت الذي فيه الحياة الحقيقية.يقول الله وهو ينبئ عن غلبة الإسلام والأحمدية: "سوف ينتصر الحق وسوف يرى الإسلام أيام النضارة والنور ثانية كما كان في الماضي، وسوف تطلع هذه الشمس على ذروتها ثانية كما طلعت من قبل؛ ولكنها لن تطلع الآن، بل لا بد أن تمنعها السماء من الطلوع ما لم تَدْمَ قلوبنا من الجهد والتعب وما لم نتخل عن كل أنواع الراحة من أجل طلوعها، وما لم نقبل كل أنواع الذلة لإعزاز الإسلام إن إحياء الإسلام يتطلب منا فدية! فما تلك هي الفدية؟ إنها موتنا في هذا السبيل.وبهذا الموت قد أُنيطت حياة الإسلام وحياة المسلمين، وعليه يتوقف تجلّي الإله الحي وظهوره".(فتح الإسلام، الخزائن الروحانية، المجلد ۳ ص ۱۰-۱۱) وكذلك يقول العلا: الله خير من شدة لا تَفْتتنوا بملذات الدنيا، فإنها تُبعدكم عن الله تعالى بل اختاروا حياة المرارة لوجه الله، فإن الألم الذي فيه رضا الله اللذة التي تجلب غضبه، وإن الهزيمة التي تُرضي الله أفضل من الانتصار الذي يوجب غضبه، فأقلعوا عن المحبة التي تدنيكم من غضبه.لو أقبلتم على الله تعالى بقلوب صافية لنصركم في كل موطن، ولم يقدر العدوّ على النيل منكم ولكنكم لن تحظوا برضا الله تعالى ما لم تتخلّوا عن إراداتكم وملذاتكم وعزّتكم وأموالكم وأنفسكم، وما لم تتجشموا في سبيله

Page 482

الجزء الثامن ٤٨٠ سورة البروج 28 تلك المرارة التي تشبه الموت.أما إذا كابدتم المرارة في سبيله تعالى لكنتم كالطفل الحبيب في حضن الله ، ولورثتم الصدّيقين الذين خلوا من قبلكم." وقال ال أيضا : "لا تظنوا أن الله تعالى سوف يضيعكم، فأنتم بَدْرَةٌ بَدَرَها الله تعالى في الأرض بيده.يقول الله تعالى: إن هذه البذرة سوف تنمو وتزدهر وتتفرّع في كل طرف، ولسوف تصبح دوحة عظيمة.فطوبى لمن يؤمن بكلام الله تعالى ولا يخشى الابتلاءات العارضة، إذ لا بُدَّ من الابتلاءات أيضا لكي يختبر الله من هو صادق منكم في البيعة ومن هو كاذب.ومن زلّت قدمُه نتيجة ابتلاء فلن يضر الله شيئا، وسوف تُوصله شقاوتُه إلى الجحيم، ولو أنه لم يُولد لكان خيرًا له.ولكن الذين يصبرون إلى النهاية رغمَ زلازل المصائب التي تأتي عليهم وعواصف الابتلاءات التي تَهُبُّ عليهم وسخرية الأقوام منهم، وتعامل الدنيا معهم بمنتهى الكراهية؛ فأولئك الذين سيفوزون في آخر الأمر، وتُفتح عليهم أبواب البركاتِ على مصارعها.لقد قال الله تعالى مخاطبًا إِيَّايَ أَنْ أُخبر جماعتي بأن الذين يؤمنون إيمانًا لا تشوبه شائبة الدنيا، ولا يكون ملونا بالنفاق أو الجبن ولا يكون خاليًا الطاعة، فأولئك هم المَرْضِيُّون عند الله تعالى، ويقول الله تعالى إنهم هم الذين لهم قدم صدق." (الوصية، الخزائن الروحانية المجلد ۲۰ ص ۳۰۷-۳۰۹) كما أزال المسيح الموعود السوء الفهم لدى أولئك الذين يظنون أن الإسلام والأحمدية سيزدهران تلقائيا وأن لا حاجة بهم إلى تضحية أو جهد! فقال العلمة: "اعلموا أنه ليس عندنا أيُّ رُقْية نجعل بها أحدًا الأبدال دفعة واحدة.لقد أجمعَ الأنبياء كلهم على أنه لا بد من الابتلاء للترقي في الدرجات العلى.لا يمكن لأحد أن يكون صادقًا في إيمانه إلا إذا مرَّ بالاختبار والامتحان.ومن سنة الله أن مع العسر يسرا.اعلموا أن الذي لا يكون مستعدا لمعاناة المصائب والشدائد في سبيل الله تعالى فإنه يُفْصَل من الجماعة.فكروا في الصحابة كيف تحملوا أنواع المصائب و تعرّضوا لأنواع الأذى في سبيل الدين، ولم يذوقوا طعم الراحة ليلا ولا نهارا.لقد رضوا بكل مصيبة في سبيل الله تعالى حتى ضحوا بأرواحهم.اعلموا أنكم لن تحققوا شيئا ما لم تسعوا بإخلاص وصدق.كثير هم الذين يبايعون على أيدينا هنا، من من من

Page 483

الجزء الثامن ٤٨١ سورة البروج ثم إذا رجعوا إلى بيوتهم وتعرضوا لأذى بسيط أو تهديد أو مقاطعة ارتدوا فورًا.إن هؤلاء يبيعون إيمانهم.انظروا إلى الصحابة كيف أنهم قدَّموا رؤوسهم لتقطع في سبيل الدين.كانوا مستعدين على الدوام للتضحية بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله تعالى.لم يكترثوا لعداء عدو.لقد تحمّلوا كل أنواع الأذى في سبيل الله، وظلوا مستعدين في كل حين ليكونوا هدفًا لأي نوع من الآلام، وكانوا مصممين على ذلك في قلوبهم.إنما المؤمن من لا يتزعزع، وإن عاداه العالم كله، وإن لدغته الأفاعي والعقارب من كل جهة، وإن سقطت عليه الصواعق من كل طرف وإن تعرّض للتعذيب من كل مكان." جريدة ،بدر ، ١٧ تشرين الأول / أكتوبر سنة ١٩٠٧ ص ٨-٩) هذه هي روح التضحية التي يجب أن تتحلى بها جماعتنا الإسلامية الأحمدية هي الروح التي تحيا بها الأمم.لقد نبه الله تعالى هنا منكري المسيح الموعود ال قائلا: إنكم ما زلتم تصدقون المجددين الذين ظهروا لاثني عشر قرنا، فما لكم تنكرون الموعود الذي ظهر عند القرن الثالث عشر والذي لم نزَل نؤكد لكم مجيئه.كما نبه المؤمنين به العلم أن عليهم أن يتذكروا دوما أنه لا بُدَّ لهم من أن يدخلوا النيران الملتهبة، وعندها سيطلع يوم غلبة الإسلام ومجده ثانية.باختصار وهذه ترسم لنا هذه الآيات شدّة المعارضة التي ستتعرض لها الأحمدية في المستقبل.أما قوله تعالى إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ فيظهر منه أن الأعداء سيتفرجون على تعذيب المؤمنين فرحين التعذيب نوعان: تعذيب تُعقبه مشاعر الرحمة في قلب المعذب، ومثاله إعدام المجرم شنقاً، إذ يتأسف على موته القاضي والشرطة أيضا، ولكن هناك تعذيب آخر يشعُر المعذب إثره بالفرحة والتفاخر بأنه قد أحسن صنعا؛ هنا أن هؤلاء المعذبين سيفرحون بتعذيب المؤمنين، وكأنهم يقومون فالله تعالى ينبئ بمسيرات ومظاهرات احتفالا بفعلتهم هذه ومثاله في جماعتنا استشهاد الصاحبزادة عبد اللطيف الشهيد الله ، إذ لم يرحمه أحد لما استُشهد رجما.لقد اشترك في عملية رجمه الملك وحاشيته كلهم يحرض بعضهم بعضًا على رجمه.وبتعبير آخر إنهم كانوا يجتمعون لتعذيبه فرحين كأنهم في عرس.

Page 484

الجزء الثامن ٤٨٢ سورة البروج ثم يقول الله تعالى وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.والشهود جمعُ شاهد، يقال: شهد يشهد شهودًا أي حَضَر واطلع عليه ؛ فالمفهوم الأول لهذه الآية أنهم يعذبون المؤمنين وهم يعلمون أنهم بريئون؛ والمفهوم الثاني أنهم يحضرون وقت تعذيبهم ويتفرجون عليهم ولا تأخذهم بهم رحمة.علما أن قول الله تعالى إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ يوضح أمرين: أولهما أنهم سيجمعون الناس ويقيمون احتفالاً ليعذبوا المؤمنين أمام الجميع، وثانيهما أنهم سيعذبونهم على التوالي، لأن القعود أي العكوف على الشيء يعني مواصلة العمل بلا انقطاع.وفي اللغة الأردية أيضا يقال: أنت جلست على هذا الأمر..أي واصلته وما تركته فيقول الله تعالى أنهم يعارضون المؤمنين متعمدين مدركين أنهم يكذبون ويخدعون، وأن هذه المعارضة ستستمر لزمن طويل، وتقع أحداث تعذيب المؤمنين مرة بعد أخرى.وبالنظر إلى تصرفات مناهضي الأحمدية نجد وكأن هذه الآيات قد رسمت حالهم؛ فإنهم يعلمون جيدًا أن الحق كما تقوله الأحمدية، ومع ذلك يرون معارضة هذا الحق لزامًا، لأنه قيل من قبل الأحمدية.فمثلاً لو قلنا اليوم إن المقام السامي الذي تبوءه الرسول ﷺ قد تبوءه بجهده وسعيه أقاموا ضجة في العالم أن الأحمديين يسيئون إلى الرسول ، مع أنه ليس في ذلك أي إساءة، بل فيه تعظيم وتوقير له كنت أظن من قبل أن هؤلاء القوم لم يقرءوا كتبنا، ويثيرون الضجة ضدنا بما سمعوه من الآخرين، ولكن أرسل إلي أحد الإخوة قبل بضعة أيام قصاصة جريدة اقتبس فيها صاحب الجريدة عبارةً من خطبتي، ثم علّق عليها قائلاً: انظروا كيف يسيء الأحمديون إلى رسول الله ﷺ إذ يقولون إن الرسول ﷺ قد نال هذا المقام بقوة عمله، ولم يكن هذا مجرد هبة ربانية وهذا يعني أن صاحب الجريدة كان يفهم حقيقة الأمر، ولكنه رأى معارضتنا ضرورية ليثور الناس ضدنا ويشتعلوا غضبًا.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا: وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ..أي أنهم شاهدون على ما يأتونه من تصرفات خاطئة متعمدة.إنهم سه

Page 485

الجزء الثامن ٤٨٣ سورة البروج سيظلمون المؤمنين وهم يعلمون أنهم يظلمون، وسيكذبون ويخدعون وهم يعلمون أنهم يفترون ويخدعون، ومع ذلك لن يرتدعوا عن المعارضة.وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (3) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ © شرح الكلمات: وما نقموا نقم منه كذا أنكره عليه وعابه وكرهه أشدَّ الكراهة لسوء فعله.: ونقم منه: عاقبه.(الأقرب) التفسير: أي أن هؤلاء المعذبين لا ينقمون من هؤلاء المضطهدين لأن أمرًا ساءهم منهم، إذ لا يستطيعون أن يرموهم بعيب حقيقي، إنما "جريمتهم" أنهم يؤمنون بالله تعالى.لا شك أن هؤلاء المعذبين أيضًا يكونون مؤمنين بالله تعالى، ولكنهم يؤمنون بإله ميت، لا بالله العزيز الحميد..الإله الحي القادر كما سيؤمن أتباع هذا الموعود وهذا ما سيدفعهم لمعارضتهم وإيذائهم واتهامهم أنهم قد اختلقوا دينا جديدا.هؤلاء يعرضون على الناس إلها حميداً، بينما ينسب أولئك إلى الله تعالى أنواع النقائص كاعتقادهم أن عیسی ال حي في السماء، أو أن الله جعل النبي ﷺ أفضل الرسل دونما سبب إذ كان من الممكن أن يسبقه غيره لو كان الأمر يتوقف على الأعمال.فالحق أن كل عقيدة يطعنون بسببها في جماعتنا تؤكد حمد الله وثناءه، ولكن كل عقيدة من عقائدهم هذه تسيء إلى الله تعالى.ومن أجل ذلك لم يقل الله تعالى هنا "إلا أن يؤمنوا"، بل قال إلا أَنْ يُؤْمِنُوا بالله الْعَزِيزِ الْحَميد.أي أن كلا الفريقين سيؤمن بالله، ولكن الفارق أن أولئك القوم يؤمنون بإله غير

Page 486

الجزء الثامن ٤٨٤ سورة البروج عزيز ولا حميد، أما هؤلاء فيؤمنون بالله العزيز الحميد؛ وهذا الاختلاف هو أصل كل العداء.ثم يقول الله تعالى الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..أي أن هؤلاء المضطهدين لن ينتبهوا إلى أن هؤلاء المظلومين يؤمنون بالله الذي هو مالك السماوات والأرض ويسعون لإرساء عظمته وحمده ،تعالى، فلن يسكت على اضطهادهم.إن أذلّ إنسان في الدنيا أيضا يحترم مَن يُكرمه، فكيف يمكن أن ينجح العدو في تدمير قوم يسعون لتوطيد عظمة مالك السماوات والأرض وحمده؟ ألا يفكرون أن مالك السماء والأرض سيثور غيرةً برؤية ظلمهم، فيسحقهم برحى غضبه؟ ثم يقول الله تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ..أي أنهم يضطهدون المؤمنين عمدًا مغرورين بأن الجماهير معهم، فلا يقدر هؤلاء على أن يضروهم شيئًا.ولكن هؤلاء المغرورين لا يدرون أننا أيضا نراقب كل شيء ونسجله.إذا كان هؤلاء قد غرّهم أن أغلبية الجماهير معهم يحترمونهم ويستحسنون فظائعهم، فكيف يظنون أني سأظل صامتًا على اضطهادهم لقوم يسعون لإقامة عظمتي وحمدي في الأرض؟ كلا، سأنزل لنصرتهم حتمًا، وأسحق هؤلاء الظالمين بغضبي.إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ) يخبر شرح الكلمات: فتنوا : فتن الشيء: أحرقه.(الأقرب) 11 التفسير : الكافرون يلقون المؤمنين والمؤمنات في نار محرقة أعدوها لهم، فلذلك الله هنا أن الذين يعذبون المؤمنين والمؤمنات فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق.ويراد بالنار هنا النار المادية والمعنوية كلتاهما، إذ يؤذون المؤمنين جسديًا، كما يؤذونهم نفسيًا برميهم بشتى التهم التي تحرق قلوبهم، فلا يدرون ماذا يفعلون

Page 487

الجزء الثامن ٤٨٥ سورة البروج تجاهها.فالله تعالى يقول: يجب ألا يظن الذين يحرقون المؤمنين والمؤمنات جسديًا ويحرقون قلوبهم بالصاق أنواع التهم والأباطيل أنهم سينجون من بطشنا.والجهود التي تُبذل لإثارة الفتن ضدّ جماعتنا في هذه الأيام مثال واضح على صدق هذه الآية، فالمسلمون غير الأحمديين يُدمون قلوبنا باتهامهم أننا لا نؤمن والعياذ بالله - - بالرسول (تحفه قاديانيت (أردو) مجلد أول ص (٦٧١.بينما يؤذينا اللاهوريون باتهامهم إيانا أننا نؤمن والعياذ بالله - - بنسخ الشهادة (جريدة "بيغام صلح" ۲۹ أغسطس/ آب ۱۹۷۳ ص ۳.مع أن كل ما نقوله إنما نقوله لتوطيد عزة محمد ﷺ وجلالته، ولا نقول أبدًا ما يسيء إليه ويقلل من مكانته.إذَا، فالله تعالى يقول هنا ما دام هؤلاء يحرقون أجساد المؤمنين والمؤمنات أو قلوبهم أو بيوتهم، فسوف نلقيهم في العذاب إلا من تاب منهم فنقبل توبته ونعفو عنه مهما كان ذنبه كبيرا.أما إذا لم يتوبوا فليعلموا أنهم كما أحرقوا قلوب المؤمنين وأجسادهم، كذلك سنعذبهم عذابين؛ مادي ومعنوي مقابل العذابين اللذين صبّوهما عليهم؛ وعذاب جهنم إشارة إلى العذاب المادي، وعذاب الحريق إشارة إلى العذاب المعنوي، ويمكن العكس أيضا.إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَهُمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تَحتِهَا الْأَبْهَرُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (3) شرح الكلمات: الفوز: هو الظفَرُ بالخير؛ النجاة.(الأقرب) ۱۲ التفسير : العمل الصالح يعني العمل بحسب مقتضى الحال.وهذا الأمر هام فف وضروري جدا بحيث مهما ركزنا عليه فلا نفيه حقه، إذ يكمن فيه نجاح المسلمين ورقيهم.لو كان العمل بحسب مقتضى الحال فهو عمل صالح يقينا، وإذا لم نراع مقتضى الحال أصبح عملنا غير صالح.فمثلاً لم تكن الخمر محرّمة قبل الإسلام الذي

Page 488

الجزء الثامن ٤٨٦ سورة البروج شرب حرمها حرمة قطعية (المائدة: (۹۱)؛ وعليه فالعمل الصالح لا يعني فقط عدم الله عنه؛ فإذا نهى الله عن المرء عن شيء حين ينهى أن الخمر، وإنما يعني ينتهي الخمر مثلا انتهى المرء عنها، وإذا لم ينه عنها فلا بأس إذا لم يكف عن تعاطيها.لذا فلا شك أن الإسلام يختلف عن الشرائع السابقة في قضايا كثيرة، إلا أن الخمر تكن محرمة فيها حرمة قطعية، فمن شرب الخمر من أصحاب هذه الشرائع فلم يعمل عملا غير صالح، بل كان عمله صالحا بحسب حالات ذلك الزمن.باختصار، يقول الله تعالى عن الذين يؤمنون ويعملون الصالحات أن لهم جنات تحتها الأنهار.لقد ذكر الله تعالى من قبل أن للكفار نوعين من ويخبر الآن أن للمؤمنين نوعين من النعم جنات تظلّهم بظلها من فوق، وأنهار تحت هذه الجنات وكأنهم ينالون البرد من فوقهم ومن تحتهم، ويكونون تجري من جارية من العذاب، في راحة في الظاهر وفي الباطن، ويكون لهم العزة عند الناس وعند الله أيضا.ولقوله تعالى لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ مفهومان: أولهما أن ظلال هذه البساتين تكون كثيفة لا تتخللها الشمس لتقارب أشجارها والتفاف أغصانها، ولن تصل الشمس إلى أرضها، كما أن الأنهار التي تجري من تحتها ستكون أيضا تحت الظلال لكونها مكثفة متصلة لا تتخللها الشمس؛ وكأن هذا إشارة إلى كمال رحمة الله بهم.وثانيهما: أن قوله تعالى لَهُمْ إشارة إلى أن هذه البساتين مع أنهارها ستكون ملكا لهم.فمثلا هناك قنوات عندنا في منطقة "سرجودا" و"لويل بور"، ولكنها ليست ملكا لأصحاب تلك الأراضي، بل هي ملكُ للدولة، ولكن الله تعالى يخبر هنا أن تلك البساتين مع أنهارها تكون ملكًا لأهل الجنة.وهذا ما يدل عليه أيضًا قوله تعالى مِنْ تَحْتِهَا..لأن الأنهار ستكون ضمن الجنات..أي أن الذي يملك هذه البساتين يملك ما فيها من أنهار ونعم أخرى أيضا.كما أن قوله تعالى من تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إشارة إلى سعة الجنات، لأن القناة أو النهر لا تجري في ثلاثة أو أربعة فدادين، بل في مساحة شاسعة تبلغ خمسين أو ستين بل ألفين من الأميال.

Page 489

الجزء الثامن ٤٨٧ سورة البروج من أسباب رقيهم ستكون باختصار، تشير هذه الآيات أولا إلى أن أهل الجنة سينعمون بالنعم الظاهرة والنعم المعنوية.ثانيا : أن كل ما يوجد في هذه الجنات تحت سيطرتهم وتصرفهم.وثالثا أن هذه الأسباب تكون واسعة جدا.شرح الكلمات: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدُ (*) بَطْشَ : بَطَشَ به بَطْشَا: أَخَذَه بالعنف؛ تناوله بالشدّة عند الصولة؛ أَخَذَه أَحْدًا شديدا في كل شيء.(الأقرب) التفسير : أي أن الكافرين يؤذون المؤمنين، ولكن بطش الله أيضًا شديد جدا.وقد أوحى الله تعالى إلى المسيح الموعود اللة أيضا : "وإذا بطشتم بطشتم جبارين (التذكرة ص (٦١١)..أي أنهم سيؤذون المؤمنين إيذاء شديدا، ولكن عليهم أن لا ينسوا أن الله شديد في بطشه.إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ 3 ١٤ التفسير: أي أن الله تعالى هو الذي يخلق الشيء أولاً ويعيد خَلْقَه.والمراد أن الله تعالى هو الذي يعذبهم في الدنيا، ثم يعذبهم في الآخرة.وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ : " عن التفسير: أي أن الله تعالى كثير المغفرة وكثير المحبة.ولما كان الحديث هنا المسيحية التي يقول أهلها إن الله لا يغفر لأحد، ومع ذلك يقولون أنه تعالى يحبّ الإنسان، فذكر الله هنا صفتيه الغفور والودود معًا؛ وكأنه تعالى يقول: الغريب أنهم يزعمون أن الله لا يغفر للناس ذنوبهم، ثم يعلنون أن الله محبة، مع أن الغفور والودود صفتان متلازمتان؛ فمَن كان غفورًا فلا بدّ أن يكون ودودا، ومن كان ودودا فلا

Page 490

الجزء الثامن ٤٨٨ سورة البروج بد أن يكون غفورا.إذن، فقد أبطل الله تعالى بذكر هاتين الصفتين الإلهيتين معا عقيدة المسيحيين أن غفران الله لذنوب عباده مناف العداله الا الله.سه ذُو الْعَرْشِ المَجِيدُ ) 17 التفسير : لقد أعلن الله تعالى هنا أنه ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ.لقد قام المسيحيون بدعاء في زمن مضى، وهم لا يزالون يردّدونه حتى اليوم لسوء فهمهم قائلين: "أَبَانَا الذي في السَّمَاوَات لَيَتَقَدَّس اسْمُكَ لِيَأْت مَلَكُوتُكَ، لتَكُنْ مَشيئَتُكَ كَمَا السَّمَاءِ كَذلكَ عَلَى الأَرْضِ" (متى ٦: ٩-١٠) ، ورغم ترديدهم هذا الدعاء منذ في تسعة عشر قرنا، إلا أن ملكوت الله لم ينزل من السماء إلى الأرض في زعمهم؛ ولذلك يقول الله تعالى أيها المسيحيون ما هذا الذي تفعلون؟ فإن الله لذو العرش المجيد، وقد علّمكم هذا الدعاء منذ تسعة عشر قرنا، وظللتم ترددونه منذ ذلك الوقت، ومع ذلك لم يستجب لدعائكم ولم ينزل ملكوته على الأرض في زعمكم، فكيف يكون ذا العرش المجيد إذن؟ كلا، بل إذا قال أن يكون ملكوته على الأرض فلا يمكن أن يحول دون نزوله إليها أحد.وقد نزل ملكوته من السماء إلى الأرض فعلاً؛ مرّةً على يد المسيح ال، ثم على يد رسول الله ﷺ والآن على يد المسيح الموعود ال.ولكن هؤلاء لا يزالون يدعون: إلهنا، ليَأْت مَلَكُوتُكَ عَلَى الأَرْضِ كما هو في السماء.فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ ) التفسير : أي أن الله تعالى إذا أراد شيئًا فَعَلَه حتمًا، ولكنكم أيها المسيحيون، تظنون أنه تعالى أراد إنزال ملكوته من السماء إلى الأرض، ولكنه لم يستطع تنفيذ مشيئته بعد.مع أن الواقع أن المسيح الا جاء وعلى يده نزل ملكوت الله على الأرض، ثم جاء محمد رسول الله ﷺ وعلى يده نزل ملكوت الله على الأرض،

Page 491

الجزء الثامن ٤٨٩ سورة البروج والآن قد نزل ملكوت الله من السماء إلى الأرض للمرة الثالثة، ولكنكم لا تزالون ترددون إلَهَنا لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ عَلَى الْأَرْضِ كما هو في السماء.هَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ : فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ : التفسير: قوله تعالى فَرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَدَل من الجنود..حيث ذكر الله تعالى الجنود أولاً، ثم ذكر رؤساءهم فرعونَ وثمود، والمراد: قد بلغكم ما فعلنا بأعدائنا جنود فرعون وثمود إذ هو ليس خفيًّا على أحد، فلم لا تعتبرون بهم؟ ولماذا تتمادون في المعارضة؟ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبِ ) التفسير : أي أن قلوب هؤلاء الكافرين في حالة تكذيب، وكم من عبرة ،أمامهم، ولكنهم يأبون إلا المعارضة ،والإنكار، وإذا قسا قلب المرء بحيث يرى أن عليه أن يعارض كل شيء، فلا ينال الهدى، إذ يتيسر الهدى لمن فكر وتدبّر، أما إذا لم يتدبر ولم يفكر أصلاً، فأنى له الهدى؟ كان الخليفة الأول له يحكي دائمًا أن مَثَل معارضي المسيح الموعود ال كمثل البهلوان الذي يري ألعاباً بهلوانية، فيصعد حينًا على خيزران طويل ويقف عليها، وحينًا يمشي على حبل ويقول هل رأيتم ما فعلت؟ فيحرك أحد أصحابه رأسه: لا، لم تُرنا شيئا، فيُري لعبة أخرى ثم يسأل: أرأيتم لعبتي؟ فيقول صاحبه: لا، لم نَرَ منك شيئا، وهكذا يستمر الحديث بينهم بدون لنهاية، والحق أن لا علاج لمثل هذا العناد.وهذا ما يبينه الله تعالى في قوله بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكذيب..أي أن قلوبهم قد قست بحيث إنهم لا يتدبرون في أي آية يرونها مهما كثرت الآيات، وإنما هدفهم تكذيبها.فهؤلاء غرقى في بحر التكذيب.

Page 492

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٤٩٠ وَاللَّهُ مِن وَرَابِهم مُحِيطٌ ) 0=0 سورة البروج محيط أحاط بالأمر: أحدق به من جوانبه، وفي القرآن: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ محيط..أي لا يُعجزه أحد، قُدْرتُه مشتملة عليهم.(الأقرب) التفسير : أي أن هؤلاء غارقون في السُّخرية، فكلما جاءتهم آيات صدق ما نقول قالوا لن نؤمن بها، ولكنهم يجهلون أن الله تعالى قد قدّر لهم عذابا شديدا لسوء أعمالهم.المحيط يعني لفظا المحدق من كل جانب، وهو إشارة إلى عذاب الله، حيث يقول ° الله تعالى إنه محيط بهم من ورائهم وإحاطته بهم إشارة إلى عذابه التام؛ إذ لو كان هناك مناص هرب منه الإنسان، ولكنه لو كان محاطا كل جهة سُدّت عليه طرق الفرار كلها.من أما قوله تعالى من وَرَائهمْ فإشارة إلى أنهم لن يشعروا بالعذاب إلا بعد أن يحل بهم لأن الشيء الذي يأتي من ورائك يفاجئك.إذا يخبر الله تعالى أن هذا العذاب سيأتيهم بغتة ويحيط بهم من كل جهة، فلن يجدوا منه مهربًا.وقد أُوحي الى المسيح الموعود ال أيضًا مرارا: "إني مع الأفواج آتيك بغتة".(التذكرة ص (٢٤٢ لک بَل هُوَ قُرْهَانٌ تَحِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ شرح الكلمات ۲۲ لَوح: اللوحُ: كلُّ صحيفة عريضة خشبًا أو عظَما، قيل: مأخوذ من أن المعاني تلوح فيه بالكتابة (الأقرب)، حيث يقال لاحَ يلوح أي ظهر.التفسير: أي أن هؤلاء القوم أشدُّ عنادًا وعداء من المكذبين السابقين، وإنا أن هذا الوحي قرآن مجيد ، فلو ازدادوا تكذيبًا له ازددنا تصديقا له.فكأن نخبرهم

Page 493

الجزء الثامن ٤٩١ سورة البروج الله تعالى يقول إن غيرته لن تكتفي بتدمير هؤلاء الأعداء فحسب، بل إنه تعالى سوف يُرسي مجد القرآن في الدنيا، ويجعل الأعناق تعنو له.فمهما تمادى هؤلاء القوم في عدائه، فإن الله تعالى قد أراد إرساء مجد القرآن في العالم لأنه قرآن ذو مجد.أما قوله تعالى فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ ، فكلمة محفوظ لها قراءتان: محفوظ أو محفوظ والمعنى الأول أن القرآن موجود في لوح محفوظ، والمعنى الثاني أن القرآن المجيد في لوح ومحفوظ.وقال أبو الفضل وابن خالويه أن هذه الكلمة ليست لَوْح بل هي لوح، ومعناها الهواء الذي فوق السماء السابعة.(فتح القدير للشوكاني، وتهذيب اللغة للأزهري) وهذا باطل بالبداهة فمن صعد فوق السماء السابعة ورأى الفضاء هنالك وسماه هذا الاسم الخاص؟ قال الجوهري في "الصحاح" اللوح هو الهواء بين السماء والأرض (فتح القدير، ولسان العرب..أي أن معنى اللوح: الجو والفضاء.هذا المعنى قد ورد في المعاجم، وهو دليل على بطلان قول ابن خالويه وأبي الفضل.وقد روي عن ابن عباس أن لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر – يعني أن كل تعالى من ذكر لموجود في ذلك اللوح الواحد وإن ذلك اللوح ما نزل من الله تعالى من نور، وإنه مسيرة ثلاثمئة سنة.(فتح القدير) وأخرج ابن جرير عن أنس قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في قوله بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ ) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظ في جبهة إسرافيل.(فتح القدير) وروى السيوطي عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مئة عام، فقال للقلم: قبل أن يخلق: اكتب علمي في حَلْقي، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة.(فتح القدير) وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.(ابن كثير) الحق أن هذه الأقوال كلها إسرائيليات انتقم بها اليهود من المسلمين السذج.

Page 494

الجزء الثامن ٤٩٢ سورة البروج وكما هو ظاهر من شرح الكلمات، فإن اللوح هو السطح العريض المكتوب علیه خشبًا كان أو عظما، وهو من لاح يلوح أي ظهر.وحيث إن صفحة الورق يمكن طيها، لكن المكتوب على الخشب أو العظم لا يمكن طيه، فلذلك لوحا.والظاهر أن الشيء الذي لا يطوى فيه ميزة وعيب في وقت؛ الميزة أن يسمى ود كل واحد سيقرؤه، فيشاع بين الناس جيدا، والعيب أنه عرضة للمحو أو التلاعب لكونه مفتوحًا على الدوام، ولذلك زاد الله هنا كلمة محفوظ عند وصف القرآن الكريم، وقال إنه فِي لَوْحٍ مَحْفُوظ..أي أن من مزاياه أنه سيصل إلى أيد كثيرة، وينتشر انتشارا كبيرا ولكنه سيظل محفوظًا من تلاعب الناس، بمعنى يتميز بميزة الكلام المكتوب على اللوح، ومع ذلك سيظل محفوظا من العيب الموجود في اللوح.أنه

Page 495

الجزء الثامن ٤٩٣ سورة الطارق سورة الطارق مكية، وهي ثماني عشرة آية مع البسملة هذه السورة مكية، وقد روى البعض أن أبا جهل خاف مرةً عند سقوط نجم ثاقب، فنزلت الآيات الثلاث الأولى من هذه السورة (فتح البيان، وروح المعاني ویری نولدکه و مویر أن هذه السورة مما نزل في البداية المبكرة جدا للبعثة.ولكن القسيس "ويري" يقول إن آياتها من الحادية عشرة إلى السابعة عشرة نزلت بعد السنة الرابعة من البعثة، لأنها تتحدث عن مؤامرات الكافرين.(تفسير ويري) لقد قلتُ غير مرّة إن مثل هذا الاستدلال يرجع إلى العداء البحت.إذ ما الحرج لو قلنا إن مؤامرة الكفار في هذه السورة قد ذُكرت هنا كنبوءة، حيث إن القرآن مليء بالنبوءات؟ ثم إن هذا الفرق البسيط في تحديد زمن نزول هذه الآيات لا يضرنا شيئا، لأن القول بأنها نزلت بعد ظهور عداء الكافرين يستلزم أن يعترف هؤلاء المستشرقون أن القرآن قد تنبأ عن هلاكهم في الزمن المبكر جدًّا.ولا يسع "ويري" إنكار تحقق هذه النبوءة.الترابط : أن هذه رابع سورة تتحدث عن نفس الموضوع الجاري من سورة الانفطار ثم الانشقاق ثم البروج، علما أن سورة المطففين كما بينت من قبل- تناولت أحد جانبي الموضوع الذي كان قد بدأ من سورة الانفطار؛ والدليل على دعواي هو السورتين التاليتين لسورة المطففين تستهلان بلفظ (السماء)، ولكن المطففين لم تبدأ بلفظ (السماء)، لكونها تسلسلا لمضمون سورة الانفطار.باختصار، إن سورة الطارق آخر سورة تتحدث في الموضوع الجاري منذ بضع سور، حيث لم تستهل السور التالية لها بكلمة (والسماء)، بل تبدأ سورة الأعلى

Page 496

الجزء الثامن ٤٩٤ سورة الطارق بقوله تعالى سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى لتتحدث عن موضوع آخر جديد.وعندي أن سورة الطارق قد جاءت هنا بين السور كبرزخ، حيث يُعرَّج فيها من موضوع إلى آخر.لقد و و وردت كلمة (السماء) في مستهل هذه السورة والسور الأربع قبلها إلا سورة المطففين، وفي كل مرة قد ذكر مع السماء شيء مختلف، إذ قيل في سورة الانفطار (إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ، وقيل في سورة الانشقاق إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، ثم قيل في سورة البروج وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود)، والآن قيل هنا وَالسَّمَاء وَالطَّارق.والفرق الآخر أن السورة الأولى والثانية منها تتحدثان عن تغيرات ستقع في السماء، أما باقي السور فقد قدّمت فيها السماء كشهادة.بن مِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) شرح وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَنكَ مَا الطَّارِقُ.! الكلمات: الطارق هو الآتي ليلاً؛ النجم الذي يقال له كوكب الصبح؛ الضاربُ بالحصى على سبيل التكهن.(الأقرب) كلمةً : التفسير للطارق ثلاثة مفاهيم كما ذكرنا أعلاه، ولكن السؤال هنا: أتنطبق هذه المفاهيم كلها هنا أم أحدها ؟ وليكن معلوما هنا أننا نحن الأحمديين نفسر أحيانًا واحدة من القرآن بخمسة أو ستة ،معان فتنتاب الناس شبهة بأن هؤلاء يحملون الآية فوق ما تحتمل.والحق أنّ هذه الآية من سورة الطارق ومثيلاتها تؤيد نهجنا.إذا كانت الكلمة تفيد لغة معاني عديدة، فلا بد من أحد احتمالين، فإما أن يراد بها معنى واحد أو أكثر من معنى.ثم إذا أُريد بها أكثر من معنى، فيمكن أن يراد بها كل تلك المعاني أو بعضها.وإذا أريد بها معنى ،واحد فثمة احتمالان؛ أن يكون

Page 497

الجزء الثامن ٤٩٥ سورة الطارق هذا المعنى واضحًا كل الوضوح بحيث إن السياق يؤكده، أو لا يكون هذا المعنى واضحا تمامًا، فنحتاج إلى قرينة أخرى لتحديده.ومن أساليب القرآن أنه إذا أراد أن نأخذ بمعنى واحد معين للكلمة أتبعه بقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ.تكون الكلمة الواحدة تحتمل عدة معاني، ولكن الله تعالى يقول بعدها وَمَا أَدْرَاكَ، ثم يذكر معنی فثبت من ود المعنى المحدد الخاص بذلك السياق.وهذا دليل على أنه إذا خلت آيةٌ من جملة وَمَا أَدْرَاكَ فمن حقنا أن نفسر الكلمة الواحدة بكل المعاني المحتملة الممكنة بأكثر من للكلمة، وإلا فلماذا، يا ترى، يحدد الله معنی كلمة في مكان، ولا يحدده في مكان آخر؟ إنما سببه أن تفسير كلمة واحدة بأكثر من تفسير ليس خلاف مراد القرآن الكريم.نعم إذا حدَّد الله تعالى معنى كلمة، فلا يحق لنا تركه والأخذ بغيره.هنا أن الذين يعترضون على تفسيرنا قائلين لماذا يفسر هؤلاء كلمة واحدة بعدة معان محتملة بحسب اللغة إنما اعتراضهم راجع إلى قلة الفهم وعدم التدبر في القرآن الكريم.يقول الله تعالى هنا: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ..فلولا قوله تعالى هنا وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارق، لقال قائل: الطارق هنا بمعنى "الآتي ليلا"، وقال غيره: لا إنه بمعنى الكاهن ولكن الله تعالى حدَّد معناها بقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ..أي ليس عندكم سبيل لمعرفة ما نقصده من الطارق هنا، مع أنها كلمة عربية وكان العرب يعرفون معناها؛ فثبت أن قوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ أنه ليس عندكم سبيل لمعرفة المعنى المقصود للطارق في هذا السياق، فلذلك نحن نخبركم أننا نقصد به النجم الثاقب..أي كوكب الصبح.وتكمُنُ صلةُ هذه السورة بالسورتين السابقتين في أن الله تعالى قال في سورة الانشقاق وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ..أي نقدّم كشهادة قمر الليلة الثالثة عشرة، ثم قال في سورة البروج وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج ٥ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ..مُحْبِرًا عن بعثة شخص موعود يأتي بعد ظهور الاثني عشر برجًا، وهكذا أخبر الله تعالى في السورتين أن هذا الموعود سيكون بدراً.ولكن كلمة (بدر) تثير شبهة؛ ذلك أن لفظ البدر وإن كان يشير إلى أنه قد نقل ضوء الشمس إلى الناس نقلاً كاملا، إلا إنما يعني

Page 498

الجزء الثامن ٤٩٦ يعني سورة الطارق أن لفظ البدر ينطوي على مفهوم آخر أيضًا وهو اختفاء الشمس عن الأنظار، وبالتالي فلو كان البدر في النهاية فهذا يعني أن الشمس المحمدية لم تعد توصل ضوءها إلى الدنيا الآن مباشرة، وهذه منقصة وعيب، لأن هذا أننا سنرى النور المحمدي ولكن بواسطة شخص آخر وليس مباشرة؛ مع أن واقع الأمر أن الرسول هو النبي الحقيقي لهذه الأمة؛ وكل من يبعثه الله تعالى بعده لا بد أن يكون تابعا له ؛ ومن المستحيل أن يقف أي تابع حاجزًا بين الناس وبين النبي المتبوع لأن هذا يجعل التابع نبيًا أخيرًا مستقلا لأمة المتبوع.ومثاله عيسى العلم الذي تسبب في انكشاف النور الموسوي، ولكنه كان نبيا أخيرا مستقلا أيضًا.ولكن الله تعالى يخبر هنا أن الموعود الذي ننبى عن ظهوره لن يكون كالسابقين الذين جاءوا نبيهم إيذانًا بنهايتها.كلا بل إن لهذا الموعود الذي سيظهر في أمة الإسلام اسمين: البدر والطارق ومعلوم أن البدر يشير إلى غروب الشمس وإلى أن ضوءها سيصل إلى الدنيا بواسطته لا مباشرة.أما الطارق -وهو كوكب الصبح- فإشارة إلى أن الشمس على وشك الطلوع؛ وهذا يعني أن هذا الموعود لن يحجب نور الشمس المحمدية، إذ هو بدر من جهة وطارق من جهة أخرى.إنه بدر بمعنى أنه يستمد النور من نبوة محمد رسول الله ﷺ ويوصله إلى الدنيا، وإنه طارق بمعنى أن الذين سيكونون على صلة به سيتمكنون من إنشاء الصلة المباشرة برسول الله حيث سيرون نور شمسه بأنفسهم.بتعبير آخر إنه لكونه بدرًا سيستمد نور شمس النبوة المحمدية ويوصله إلى الناس، ولكونه طارقًا سيربي أتباعه تربية تمكنهم من في آخر آخر أمة اكتساب النور من محمد رسول الله ﷺ مباشرة.والعجيب أن هذا الموعود للأمة قد سُمي في الحديث أيضا باسمين: المسيح والمهدي ابن ماجه: كتاب الفتن باب خروج المهدي، والترمذي : أبواب الفتن، ما جاء في أن الدجال لا يدخل المدينة).وقد كتب المسيح الموعود ال أيضا أن أمري متوقف على اسم المهدي (أيام) الصلح الخزائن الروحانية المجلد ١٤ ص ٣٩٣-٣٩٨)، مع أن تسمية المسيح الموعود أكثر شهرةً وتداولاً في جماعتنا الواقع أن اسم البدر يمثل عيسى w المسيح، واسم الطارق يمثل المهدي.وكل أولئك الذين بعثوا من قبل في الأمم

Page 499

الجزء الثامن ٤٩٧ سورة الطارق ناحية، من جهة الخالية بصفتهم المسيح لم يكونوا آخرين في أمتهم فحسب، بل كانوا معلنين نهاية عهد نبيهم المشرع، حيث انتهت تلك الأمم بمجيئهم، وبدأت أمة جديدة من عند الله تعالى، ودرءا لهذه الشبهة قد سمى الله موعودَ الأمة الإسلامية مسيحا من ومهديا من ناحية أخرى، وسماه نبيًا من جهة، وتابعا كاملا من أمته أخرى.فهو البدر لكونه نبيًّا ، وهو الطارق لكونه تابعًا كاملا.باختصار، قد أطلق القرآن الكريم اسمين على هذا الموعود، وقد أشير إلى أحد هذين الاسمين في قوله تعالى ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ، وقوله تعالى وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، بينما أُشير إلى الاسم الثاني بكلمة الطارق التي فيها إشارة إلى أنه سينشر النور المحمدي في العالم ثانية بتعبير آخر إنه سيبشر برقي الإسلام وانكشاف الأنوار المحمدية.وهكذا قد بين الله تعالى في هذه السور كلتا النبوءتين: النبوءة المتعلقة المسيح، المذكورة من قبل في قوله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (الانشقاق: ١٩)، وفي قوله تعالى وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود (البروج: (۳)، أما النبوءة المتعلقة بالمهدي فقد ذكرت هنا في هذه السورة في كلمة الطارق.بعیسی وهناك لطيفة أخرى وهي أن الله تعالى قد عرّج ثانية في آخر هذه السورة على الزمن الأول للإسلام حيث قال لرسوله فَمَهْلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا..بمختلف فكما بدأ الموضوع بذكر الرسول ختمه أيضًا بذكره.قال الله تعالى وَالسَّمَاءِ وَالطَّارق..أي نقدِّم كشهادة السماء والطارق.والملاحظ هنا أن الله تعالى قدّم شهادة السماء في السورة السابقة أيضا، ولكنه تعالى قال عندها: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج، حيث بين هنالك أن الإسلام سيمر الأدوار، وفي كل عصر سيقوم الله تعالى بتجديده على يد بعض الناس، إلى أن يأتي اليوم الموعود، فيقيم الله تعالى شخصا يسمَّى نبيًّا، فتُساور القلوب شبهة بأن النور النبوي قد انتهى، ودرءا لهذه الشبهة ذكر الله تعالى وصفا آخر لهذا المبعوث فقال وَالسَّمَاءِ وَالطَّارق..أي إذا كان هو نبيًا من جهة، فإنه الطارق من جهة أخرى؛ فكما أن في النظام السماوي قمرًا منيرا وليلاً مظلما، كذلك هذا الموعود يكون بدرًا وطارقًا أيضا.وكأن أحد اسميه يشير إلى ختم الشيء، واسمه الآخر يشير

Page 500

الجزء الثامن ٤٩٨ سورة الطارق إلى فتحه واستمراره فبيّن الله تعالى أنه إذا كان ظهور المسيح الموعود سيتسبب في انتشار ضوء الشمس المحمدية بطريق غير مباشر فإنه سيتسبب في إقامة شريعة محمد في الدنيا أيضا.فإلى أن ينال الإسلام الغلبة سيسمى المسيح الموعود بدرًا يتسبب في انكشاف الفيوض المحمدية الروحانية كواسطة أو مرآة، وحين يصبح الإسلام غالبا سيعمل كالطارق، لأن فتح الإسلام وغلبته وإقامة الشريعة كلها مقدَّر على يد المهدي.إذن، فإلى أن تتم غلبة الإسلام سيغلب على المسيح الموعود اسم البدر؛ إذ كان المسلمون ضعفاء جدًّا في معركة بدر ؛ لا شك أن الفترة البدرية كانت علامة الفتح، ولكنها كانت علامة الضعف أيضا؛ أما اسم النجم الثاقب فإشارة إلى زوال الضعف وبداية الغلبة والرقي.وبذكر السماء في الموضعين – أي في قوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود وفي قوله تعالى وَالسَّمَاء وَالطَّارق * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ - قد بين الله تعالى أن كلا المقامين تابع لنظام السماء؛ أي لوحي الله تعالى إن المنصب البدري تابع للوحي، كما أن المنصب المهدوي تابع للوحي، وبغير نظام السماء لا يتيسر منصب البدر ولا منصب الطارق، بل كلا المنصبين بحاجة إلى نظام السماء.وقد أُشير بذكر نظام السماء في الموضعين إلى أن الله تعالى سيظل- بعد بعثة المسيح الموعود اللة - يخلق مظاهره، فبعضهم يكون مظهرا لمهدويته وبعضهم لمسيحيته، ولكن لا بد من نزول وحي الله عليهم لورود كلمة السماء في الموضعين، التي إشارة إلى الوحي.مي شرح الكلمات: النَّجْمُ الثَّاقِبُ ) ٤ النجم: راجع شرح الكلمات في سورة التكوير لقول الله تعالى ﴿وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَت.

Page 501

الجزء الثامن ٤٩٩ ود سورة الطارق الثاقب : ثقبه ثَقْبا : خرقه بالمثقب (الأقرب).وثقب النجم: أضاء.(المنجد) وفي "الأساس" (للزمخشري): "كوكب ثاقب ودُرِّي: شديدُ الإضاءة والتلألؤ، كأنه يثقب الظلمة فينفذ فيها ويدرَأُها"..أي يدفعها.(الأقرب) التفسير : لقد بيّنتُ من قبل أن الله تعالى قد أشار بوصف هذا الموعود بدرًا إلى أنه سينشر النور المحمدي في العالم رغم شدة الظلمة وأن جماعته ستكون خادمة للإسلام وأشار بكلمة الطارق أنه يبدد كل أنواع الظلمات ويزيلها.الحقيقة أن العصر المحمدي هو عصر الجلال، وأن زمن المهدوية يتعلق بالفتوحات، فأخبر الله تعالى بقوله الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أن مجيئه ستكون بداية لزمن الفتوحات الإسلامية، وأنه سيثقب كل أنواع الظلمات ويبددها.شرح الكلمات: إِن كُلُّ نَفْسٍ لَا عَلَيْهَا حَافِظُ لَمَّا إن (لَمَّا) لها عدة معان منها (إلا)، حيث ورد "والثالث من أوجهها أن...وده = تكون حرف استثناء، فتدخل على الجملة الاسمية، نحو: إِنْ كُلَّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حافظ..قال "أعجبُ الكلمات كلمة (لَمَّا)، إن دخل على الماضي سيبويه : يكون ظرفًا، وإن دخل على المضارع يكون حرفًا، وإن دخل لا على الماضي، ولا على المضارع، يكون بمعنى (إلا)" (الأقرب).ويبدو من استعمالات العربية أن (لَمَّا ) يفيد معنى (إلا) حتى وإن لم يدخل على الاسم، حيث يقال: أَنْشُدُكَ الله لما فعلت..أي لا أسألك إلا فعلك.(الأقرب) التفسير : لقد فُسّرت هذه الآية بمفاهيم مختلفة، أحدها أن الله حافظ كل إنسان.ورد في القرآن الكريم وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (الأحزاب:٥٣)، وحيث إن النفس تُطلق على كل شيء، فثبت أن الله تعالى حافظ كل شيء.وقال الله تعالى إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) كرَامًا كاتبينَ ﴾ (الانفطار: ۱۱-۱۲)، وقال الله تعالى لَهُ مُعَذِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله (الرعد: ١٢)..أي

Page 502

الجزء الثامن هناك جماعة سورة الطارق أمامه الملائكة يتناوبون بأمر الله على حفظه من ومن خلفه.وروي من في حديث أن النبي ﷺ قال : وكل بالمؤمن مئة وستون مَلَكًا يذبون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب (المعجم الكبير للطبراني).إذن، يذكر القرآن والحديث أن وهو يعني ورقيب، الله تعالى رقيب على الإنسان و حافظه، وأن الملائكة يقومون بهذا الواجب.ولكني أرى أن قوله تعالى كُلِّ نَفْس هنا ذلك النوع الخاص من الناس الذين هم بمنزلة النجم الثاقب أو نُوّابهم وهم كثيرون، إذ كان منهم موسى وعيسى ورسولنا الله وهو المسيح الموعود ولما كان هؤلاء جماعة كبيرة فقال الله تعالى كُلُّ نَفْس ، أي أنّ كل واحد من هذه الجماعة أو الطائفة عليها حافظ الله قال الله تعالى عن رسوله الكريم وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: ٦٨).وقد أُوحيت هذه الآية إلى المسيح الموعود ال أيضا.(انجام آتهم، الخزائن الروحانية المجلد ١١ ص (٦٠).وقد أوحي كلام مماثل إلى المسيح الناصري الي حيث قال الله تعالى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: (٥٦)..أي يا عيسى إني سأميتك ميتة طبيعية، وسأكرمك عندي، وأبرئك من افتراء الكافرين وأجعل أتباعك غالبين على الكافرين إلى يوم القيامة.وقد صرح المسيح الموعود لي أن أول نبي وآخر نبي من أي سلسلة نبوة لا يُقتل أبدا، بل الله تعالى يتولى حمايته، حيث قال الله: "مع أن قتل المؤمن شهادة، ولكن من سنة الله أن نوعين من رسله لا يُقتلان النوع الأول: هو النبي الذي يأتي في بداية سلسلة نبوة، ومثاله موسى ال حيث كان أول نبي في السلسلة الموسوية، ومثاله الآخر سيدنا ومولانا حيث كان في بداية السلسلة المحمدية.والنوع الثاني: هو النبي والمأمور الرباني الذي يأتي في آخر سلسلة نبوة، ومثاله عيسى الذي جاء في آخر السلسلة الموسوية، ومثاله أنا حيث جئت في آخر السلسلة المحمدية.تذكرة الشهادتين الخزائن الروحانية المجلد ۲۰ ص ٦٩-٧٠) يعني كلّ نفس من هذه فثبت أن قوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ الطائفة.لا شك أن كلّ نفس) يمكن أن يراد به كلّ الناس حيث إن القرآن الكريم

Page 503

الجزء الثامن 0.1 سورة الطارق ° والحديث قد ذكرا حفظ النفوس كلها من عند الله تعالى ولكن لا أجد أي صلة بين هذا المفهوم وبين قوله تعالى النَّجْمُ التَّاقب، بينما المعنى الذي أذكره فهو تماما هذه الآيات، إذ المراد أن الله تعالى يتولى حفظ الطائفة الذين هم منسجم من قبيل النَّجْمُ الثَّاقب ويحميهم من شرور أعدائهم.مع وقد ذكر الله تعالى هنا الثاقب ليؤكد أن هذا النجم سيثقب عدوه ويهلكه، و لن يقدر العدو على قتله.فَلْيَنظُرِ الْإِنسَنُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن ماءِ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَايب (3) شرح الكلمات A : دافق: دفَق الماءُ: انصب بمَرّة.والدافقُ: المنصب.(الأقرب) الصَّلْب : الصُّلب والصالبُ: عَظْمٌ في الظهر ذو فقار مِن العجب.(الأقرب) لَدُنْ الكاهلِ إلى الترائب: جمع تريبة، وهي عظام الصدر.(الأقرب) التفسير: لقد أخطأ المفسرون القدامى في تفسير هذه الآية إذ انتقلت أذهانهم إلى معنى خاطئ فقالوا إن معناها أن المني يخرج من عظام الصدر وفقرات الظهر.ولكن الخليفة الأول الله قد فسرها بمعنى لطيف جدا، فقال إن القرآن الكريم يستعمل كلاما مهذبًا ويتجنب استعمال كلمات مكشوفة مبتذلة، وقد أشار بهذه الكلمات إلى مكان الماء الدافق حيث يقع وسط الصلب والترائب حقائق الفرقان).وهذا لطيف جدا ويتلاءم مع عظمة القرآن الكريم.وقد قال البعض المراد من الصلب صُلْبُ المرء ومن الترائب ترائب المرأة..أي أن الإنسان يُخلَق من صلب المرء ويرضع من ثدي المرأة.فالصلب هنا صلب الأب، معنى

Page 504

الجزء الثامن ٥٠٢ سورة الطارق والترائب ترائب الأم ابن كثير وهذا المعنى أكثر معقولية من المعنى السابق الذي ذكره المفسرون ولا اعتراض عليه من الناحية العلمية والطبية.خُلق من إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ، لَقَادِرٌ : أنه هو التفسير : لقد تحدث الله تعالى هنا عن خلق الإنسان، وأوّلُ ما قاله هنا ماء دافق..أي قد جعل الله تعالى في الإنسان قوة الدفق، حيث خُلق من ماء دافق.والأمر الواقع أن كل أعمال الإنسان تصدر نتيجة صفة الدفق فيه..بمعنى أنه يظل يقفز دائما ويرغب في التقدم باستمرار.فكما أن القافز يرتفع مرة وينخفض أخرى، كذلك يمرّ الإنسان بحالات مختلفة، فحينا يكون في ارتفاع وحينًا في انخفاض ؛ وهذا كله دليل على أن فطرته مزودة بكفاءة التقدم، وأن الله تعالى قد فتح أمامه باب الرقي على مصراعيه، ولكنه إذا لم ينتفع من هذه الميزة فيه تضرر.يَوْمَ تُبْلَى السَّرَابِرُ (٢) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (3) شرح الكلمات: تبلى : تُكشَف وتُعرَف وتُظهر..السرائر: جمع سريرة، وهي السرّ الذي يُكتم سريرة الإنسان: ما أسره من أمره خيرًا، وقيل شرا.يقال : فلان طَيِّبُ السريرة: أي سليمُ القلب صافي النية.(الأقرب) التفسير : قوله تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ يعني يومئذ يكشف الله تعالى الأمور الخفية، أو يُمتحن الإنسان في سرائره؛ ولو أخذنا هذا المعنى فالآية تتحدث عن المؤمن والكافر كليهما.أما إذا فسرناها بمعنى أن سرائر أصحاب القلوب الصافية سوف تكشف، فالآية تختص بالمؤمنين.ولو كانت السرائر هنا بمعنى ما يكتمه المرء أسرار، فالحديث هنا عن الكافرين فقط.وقوله تعالى (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّة وَلا ناصر دليل على أن السرائر هنا لا تشير إلى أصحاب القلوب الصافية، بل تعني ما من

Page 505

الجزء الثامن ٥٠٣ سورة الطارق يكتم من أسرار ؛ ولا غرو أن الإنسان يكتم سيئاته دائمًا؛ وعليه فالمراد يوم يُكشف ما ارتكبه الإنسان من سيئات وما كتمه من نوايا شريرة، أو أنه يُمتحن بصددها؛ ومثل هذا الإنسان لن يجد في نفسه قوة ولن يجد نصيرا.لقد تحدثت الآيات السابقة عن النجم الثاقب، ومعلوم أنه لا يُثقب الأشياء من إلا ما يستوجب الإتلاف والهلاك، لأن الأشياء الجيدة لا تُثقب ولا تتلف بضربها بالحجارة مثلا.ثم قال الله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ..أي أن الناس سيعارضون هذا النجم الثاقب، ولكن الله تعالى سيبدد على يده الظلمات، ويفضح الذين يكيدون له سرًّا لإفشال مهمته ويكشف شرورهم ونواياهم السيئة، ويدمّرهم حتى لن يجدوا في أنفسهم قوة للنجاة كما لن يقف أحد لنصرتهم.مرة أخبرني أحد الإخوة قائلا: كان أبي صديقا حميما للمولوي محمد حسين البطالوي، وكان أبي يأمرني بزيارته كلما حضر إلى مدينة "شمله".فجاء البطالوي إلى "شمله" مرة، وذهبت للقائه، وبدأت في تدليك رجليه، وفيما أنا في ذلك إذ جاء الحافظ عبد الرحمن مؤلف كتاب الصرف وقال للبطالوي: "حضرة الشيخ، قد حقق الميرزا القادياني تقدّمًا كبيرًا، إذ يدخل الناس في جماعته بكثرة، وبدأت هذه الفتنة تتفاقم يوما فيوما".وبعد حديث طويل قال بعض الحاضرين: لماذا لا يقتله أحد منا ؟ فقال البطالوي: "المشكلة أن بعض الناس قد حاولوا ذلك مرارا، ولكنه ينجو في كل مرة".يقول الراوي: فقلتُ في نفسي: لا خبرة لهؤلاء العلماء والشيوخ بهذه الأعمال، أنا سأتولى قتل الميرزا لأنال هذا الثواب، وصممت على ذلك في قلبي.وفي اليوم التالي حضر الحافظ عبد الرحمن للقاء البطالوي وقال له : حضرة الشيخ، لقد وجدنا سبيلا لإلحاق الهزيمة بالقادياني.لقد نشر الميرزا إعلانًا أنه لن يخوض أي مناظرة بعد ذلك لأن الله تعالى قد نماه عن ذلك، وإعلانه هذا سيجعلنا غالبين عليه.فلننشر إعلانًا لمناظرته، فإذا رضي بالمناظرة قلنا: انظروا، لقد أعلن هذا الرجل أن الله قد نهاه عن المناظرات، ومع ذلك فقد رضي بالمناظرة، فثبت أنه كذب فيما قال ؛ وإذا لم يخرج للمناظرة، فقد هُزم أيضًا، لأننا سنعلن بين القوم أننا تحديناه للمناظرة ولكنه لم يخرج للنضال.ويتابع الراوي قائلا: كان الشيخ

Page 506

٥٠٤ سورة الطارق الجزء الثامن البطالوي مستلقيا فجلس مستويا وقال: حضرة الحافظ، لقد جئت بحيلة بارعة، وبالعمل بها ستسقطه في أعين الناس حتمًا.يتابع الراوي: لما سمعتُ حديثهما أيقنتُ منذ تلك اللحظة أن هؤلاء المشايخ كذابون كانوا يقولون من قبل إنهم حاولوا قتل حضرة الميرزا و لم ينجحوا في ذلك، واليوم قد أجمعوا على خطة تتنافى مع التقوى.لا شك أن قلوبهم قد خلت من التقوى والإيمان وهذا الحادث هو الذي قد تسبب في هداية هذا الأخ وانضمامه إلى الأحمدية.فالله تعالى يعلن هنا : يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّة وَلا نَاصِر..أي أن هؤلاء القوم سيلجأون إلى أنواع الحيل للقضاء على هذا النجم الثاقب، ولكنهم لن يجدوا في أنفسهم قوة ولن يجدوا نصيرا على ذلك، وكل من يقف لنصرتهم يبوء بالفشل.وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرّجع ( وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع ) شرح الكلمات ۱۲ السماء للسماء معان عديدة في المعاجم منها: الفلك؛ ما يحيط بالأرض من الفضاء الواسع ويظهر فوقنا وحولنا كقبة عظيمة، فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب كلَّ ما علاك فأظلك السحاب المطر.(الأقرب) الرَّجع: المطر بعد المطر.(الأقرب) الصَّدْع: هو الشَّقُ في شيء صلب؛ نباتُ الأرض.(الأقرب) و التفسير :.لقد تغيّر مفهوم السماء هنا، كما تغيّر من قبل في قوله تعالى إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وفي قوله تعالى إذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، إذ تعني السماء هنا الغيوم.وأما ذَاتِ الرَّجْع فالرجع هو المطر بعد المطر.فالله تعالى يعلن هنا: نقدّم أمامكم شهادة السماء ذات الرجع..أي ألم تروا إلى الغيوم كيف تمطر على الأرض مطرًا بعد مطر.ولو لم ينزل الماء من الغيوم ولو لم تمطر السحب مرة بعد أخرى، لتوقفت الأرض عن نمائها وازدهارها تماما.إن مياه الأمطار التي تنمي الأرض مي

Page 507

الجزء الثامن 0.0 سورة الطارق هي حال الحياة وتظهر كفاءاتها الخفية.لقد قال الله تعالى من قبل إنَّهُ عَلَى رَجْعَه لَقَادِرٌ..أي أنه قادر على تطوير الإنسان ثانية، وهنا يقول: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ..أي نقدم كشهادة السحب التي تمطر مرة بعد أخرى.فكما أن المطر يهطل على الأرض ويحييها مرة بعد أخرى، كذلك ينزل وحي الله وإلهامه إلى الدنيا أهلها ويهب حياة روحانية مرة بعد أخرى بضرب مثال السحب قد نبهنا إلى أن الغيوم كما تأتي وتمطر مرة بعد أخرى، ولولا ذلك لهلكت الدنيا، كذلك الروحانية، فلو لم يقم الله تعالى أناسًا من عنده لإصلاح الدنيا ولم ينزل على الأرض ماء الوحي والإلهام لم يحي الناس حياة روحانية أبدا.ثم يقول الله تعالى وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع..أي تزعمون أن الله تعالى أنزل الوحي والإلهام، ولكن ليس عند الناس استعداد لقبوله.والواقع أن هذا خطأ منكم.ألا ترون الأرض كيف تكون جرداء غير قادرة في الظاهر - على إنبات شيء، ولكنها تكون في الواقع مزودة بكفاءة الإنبات حيث تنشق عند هطول مطر السماء عليها وتُخرج أنواع النبات، فيصبح هذا المحال في الظاهر ممكنا، وتخرج أنواع الخضرة في مكان لم تكن هناك إمكانية ظاهرة لخروجها فيه.ذات ومن معاني الصدع النبات، وعليه فقوله تعالى ذَاتِ الصَّدْع يعني النبات، فالله تعالى يبين هنا أن هناك نظاما آخر جاريا في العالم إضافة إلى نظام السماء؛ حيث يهطل المطر من السماء على الأرض من جهة، ومن جهة أخرى تتمتع الأرض بكفاءة إخراج النبات مرة بعد أخرى.وبالمثل تجدون كفاءات الناس وكأنها ميتة ولكن بعد نزول مطر الوحي والإلهام الإلهي ترون أن هذه القلوب الميتة تبدأ في إخراج أنواع النبات والخضار.لا شك أن بعض الناس يكونون كأرض قاحلة لا تقدر على الإنبات إطلاقا ولكن بعد نزول مطر وحي يصدق كثير من الناس المبعوث الإلهي في وقتهم عاجلا أو آجلا.السماء

Page 508

الجزء الثامن ٥٠٦ سورة الطارق شرح إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ : وَمَا هُوَ بِأَهَزْلِ : الكلمات: قولٌ فَصْلٌ: فَصَل الشيء: قطعه وأبانه.والفَصْلُ: الحقُّ من القول؛ القضاء بين الحق والباطل...قول فصل: حق ليس بباطل (الأقرب) و الهَزْل: هَزَلَ الرجلُ : صارَ مهزولاً هزَل فلان في كلامه مرح وهَذَى.(الأقرب) التفسير : المراد من كون القرآن قولاً فصلا أنه بعد نزوله لن يحول شيء دون هزيمتكم أيها الكافرون، أو المعنى أن هذا القرآن قول فصل يفصل بين الحق والباطل ويتم التمييز بعده بين الكفر والإسلام حتمًا.أو يعود ضمير الغائب في قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَضْل إلى الشخص الموعود في المحال أن يأتي ذلك الموعود ولا تقع في الدنيا التطورات الزمن الأخير، والمعنى أن من المذكورة سابقا، فهذا أمر قطعي قد فُصل، وما هو بقول هزل ولا لغو.إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا.وَأَكِيدُ كَيْدًا : ١٦ ۱۷ التفسير: لقد أعاد الله تعالى هنا نفس الموضوع الذي بينه في السور الأربع الماضية، حيث بين الله فيها أن الإسلام سيحقق رقيًا عظيما، وسينتشر في العالم كله، وسيظل في زحفه حتى يصل إلى أنحاء العالم، وسوف تمدر جهود الكافرين وتبوء مكائدهم بالفشل.ثم أخبر الله تعالى في تلك السور أنه سيأتي على الإسلام فترة من الانحطاط، ولكنه سيزدهر ثانية ويهلك الكفر وبعد ذكر هذه الأمور كلها يقول الله الآن إنَّهُمْ يَكيدُونَ كَيْدًا ( وَأَكيدُ كَيْدًا..أي لقد أخبرناكم بتاريخ الإسلام كله سلفًا، وبيّنا لكم كيف يغلب الإسلام أولاً ، ثم كيف يضعف، ثم كيف الله تعالى بعد ضعفه أسباب رقيه وغلبة المسلمين، وكيف يجعل هذا الدين غالبا على العالم كله فهل بوسع أهل مكة أن يكسروا هذه الحلقات العديدة من يهيئ

Page 509

سورة الطارق الجزء الثامن هذه السلسلة الطويلة من مستقبل الإسلام؟ وهل ينجحون في نواياهم الشريرة؟ كلا، بل إنه سيزدهر في المستقبل، ثم يتقلص ،ظله، ثم يصبح غالبا على العالم ثانية ولكنكم يا أهل مكة تظنون أنكم ستمحونه بمكائدكم ! فيا محمد، إذا كان هؤلاء يكيدون كيدهم فاعلم أني أيضا أكيد كيدي.شرح الكلمات: فَمَهْل الْكَفِرِينَ أَمْهَلْهُمْ رُوَيْدًا.۱۸ مَهِّلْ: مهَّله الدين وأمهله : أنظره وأجله.ومهَّل فلانًا وأمهَلَه: رفق به.به.(الأقرب التفسير : تتضمن هذه الآية إشارة لطيفة رائعة بيانها أن الله تعالى كان يستطيع أن يقول هنا : فمَهِّل الكافرين رويدا، ولكن انظر إلى روعة البيان ولطفه، إذ قال الله تعالى بدلاً من ذلك: (فَمَهْلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا...فقوله (فَمَهْلِ الْكَافِرِينَ) كان سيؤدي إلى إثارة المشاعر المتباينة في قلوب المؤمنين وقلوب الكفار، إذ يفكر المؤمنون: لا ندري كم ستطول هذه المهلة التي سيُمنحها الكافرون، بينما يقول الكفار في أنفسهم لا داعي للقلق حاليًا، إذ قد أُعطينا مهلة، ونظرًا إلى هذه المشاعر المتباينة أضاف الله هنا قوله: أَمْهَلْهُمْ رُوَيْدًا؛ وهكذا طمأن المؤمنين أن الكفار لن يُعطَوا مهلة طويلة، بل هي بسيطة؛ كما خيب بذلك أي أمل عند الكافرين ونبههم ألا يظنوا أنهم سيُعطون الآن مهلة طويلة، كلا، بل لقد آن الأوان لهلاكهم ودمارهم.يقال: ساروا سيرًا رُوَيدًا: أي برفق وتُؤَدة (المنجد)، وعليه فقوله تعالى أَمْهِلْهُمْ أولاً: أعطهم مهلةً قصيرة وثانيًا: ارفق بهم في فترة المهلة هذه، لأن رُوَيْدًا ) يعني موعد عقابهم آت حتما، الله وسيهيئ بنفسه عندها أسباب دمارهم.

Page 510

الجزء الثامن ۵۰۹ سورة الأعلى سورة الأعلى مكية، وهي عشرون آية مع البسملة هذه السورة مكية عند الجمهور، وقد قال ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة إنها مكية.ورُوي في صحيح البخاري وغيره عن البراء بن عازب أنه قال: أول من هاجر من أصحاب النبي هو مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم، فجعلا يعلمان القرآن ثم جاء عمار وبلال ،وسعد ثم عمر بن الخطاب مع عشرين آخرين، ثم جاء النبي ، و لم أرَ أهل المدينة فرحين كما رأيتهم يوم مقدم الرسول..فكان الأطفال والكبار إذا اجتمعوا قال بعضهم لبعض: ها قد جاء رسول الله ها قد جاء رسول الله ﷺ وكنت عندها قد حفظتُ سورة الأعلى وأمثالها السور.(البخاري، كتاب المناقب، باب مقدم النبي من فثبت عن من هنا أن هذه السورة قد نزلت قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة.وقد قال المستشرقون أيضًا إنها سورة مكية، حيث قال الباحث الألماني "نولدكه" أنها نزلت بعد سورة القلم.فورا.أما القسيس "ويري" فيرى أن آياتها من السابعة عشرة إلى التاسعة عشرة مدنية، إذ تتحدث عن صحف إبراهيم وموسى، ولم يعرف محمد أحوال هذين النبيين إلا بعد اختلاطه باليهود في المدينة.وهذا الاستدلال مثال آخر على استدلالات هذا القسيس المغرضة؛ إذ الواقع أن السور المكية أيضا تذكر إبراهيم وموسى في مواضع كثيرة.ثم إن إبراهيم العليا عمیر فقدم قدم نص الحديث المشار إليه هو: "عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدمَ عَلَيْنَا مُصْعَب وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومَ وَكَانَا يُقْرِتَانِ النَّاسِ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسر ثُمَّ قَدمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عشرينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ.فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَة فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولَ الله ﷺ حَتَّى جَعَلَ الإِمَاء رَسُولُ اللهِ ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِن الْمُفَصَّلِ".(المترجم) يَقلَنَ الله بلال قدم

Page 511

الجزء الثامن 01.سورة الأعلى كان الجد الأكبر لقريش، فالقول إن ما ورد في هذه السورة عن إبراهيم إنما كان نتيجة اختلاط رسول الله ﷺ باليهود في المدينة قول ساقط عقلا.ورد عن هذه السورة في الحديث عَن النُّعْمَانِ بْن بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله يَقرأُ فى العيدين وفى الْجُمُعَة بـ (سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، و هَلْ أَتَاكَ حَدِيث الْعِيدَيْنِ وَفِي الْغَاشِيَة.قَالَ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمِ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْن.(مسلم) كتاب الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة، حديث النعمان بن بشير • و يو ومسند أحمد، وعَنْ أُبَيٍّ بن كَعْب قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.(أبو داود: كتاب الصلاة، والنسائي : كتاب قيام الليل وابن ماجة : كتاب الوتر، والدارقطني والبيهقي، والحاكم وعَنْ عَليٍّ اللهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله يُحِبُّ هَذِهِ السُّورَةَ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى.(مسند أحمد) وقد سئلت عائشة الله عنها: "بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: رضي كَانَ يَقْرَأُ فِى الأُولَى بـ سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى وَفِي الثانية بـ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّالثَة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ.(الترمذي: أبواب الوتر، وابن ماجة وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي أما صلة هذه السورة بالتي قبلها فيقول صاحب البحر المحيط" قد ذكر الله تعالى في السورة السابقة كيفية خلق الإنسان، بينما أكد في هذه السورة أن ربه الأعلى هو الذي خلقه هذه الخلقة.غير أني أرى أن صلة هذه السورة بالتي قبلها هي كالآتي: لقد بين الله تعالى في السورة السابقة أن من خصائص الشخص الموعود للأمة أنه سيجذب في نفسه نور الرسول ويوصله إلى الناس بمعنى أنه يكون كالبدر في الليلة الرابعة عشرة ينشر نور الإسلام في العالم ومن خصائصه أيضًا أنه يكون كالطارق، والطارق هو كوكب الصبح وفيه إشارة إلى طلوع الشمس، وعليه فالمعنى أن الناس لن يروا رسول الله ﷺ بواسطة هذا الموعود فحسب، بل إن الإيمان به سيمكنهم من

Page 512

الجزء الثامن هذا ۵۱۱ سورة الأعلى الاتصال الشخصي برسول الله ، حيث يجدون في نفوسهم أنواره وبركاته.هو السبب في أن هذا الموعود قد سُمي باسمين: المسيح الذي يشير إلى كونه بدرا، والمهدي الذي يشير إلى كونه طارقًا.وهذان الاسمان يشيران إلى مهمتين له، حيث بين الله تعالى أن هذا الموعود سيجذب في نفسه نور رسول الله ﷺ ويوصله إلى الناس، ثم يؤهلهم لإنشاء صلة مباشرة مع رسول الله.فهو بدر بحسب مهمة، وطارق بحسب مهمة أخرى.وهنا ينشأ السؤال التالي: إن الرسول ﷺ نبي كامل، وقد نزل عليه الوحي الأخير والقطعي، كما أُشير إلى ذلك في السورة السابقة بقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَضْل..أي قد نزل على هذا الرسول كلام هو قول فصل..أي ما يقطع سائر الأقوال الأخرى..حيث يُطلق القول الفصل على كلام هو الأعلى والأفضل..كما لا تبقى بعده حاجة لأي قول آخر، ومثاله قول الله تعالى عن داود العلية: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخطَاب ) (ص: ۲۱).والمراد من تلقيه فصل الخطاب أن قراره كان نهائيا.فالمراد من القول الفصل أنه الوحي الأخير الكامل الذي لا حاجة بعده لأي وحي أو كلام آخر وهنا ينشأ سؤال: ما دام القرآن قولاً فصلاً..أي وحيًا أخيرًا كاملا لا حاجة بعده لأي وحي آخر، فما الداعي لبعثة هذا الموعود؟ لما كان الوحي الذي نزل على الرسول ﷺ قولا فصلا وما دامت الشريعة النازلة عليه كاملة، بحيث لا تحتاج الدنيا إلى أي شريعة أخرى بعدها، فما الحاجة إلى نزول وحي آخر بعده؟ وليس هذا كل ما في الأمر، بل قد زاد الله على ذلك فقال وَمَا هُوَ الْهَزْل...أي أن شريعة القرآن لا يمكن أن تضعف، إذ الهزل هو الضعيف الذي لا قوة فيه ولا يصلح لشيء.كان المراد من قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ أن لا حاجة بعد القرآن لأي كلام؛ لأنه كلام متكامل، وحيث إن التعاليم المتكاملة أيضا يمكن أن تندثر أحيانا، فلذلك زاد الله على ذلك قوله وَمَا هُوَ بِالْهَزْل..أي أن هذا الكلام لن يضعف ولن يصبح غير صالح بحيث تساوركم الشبهات بأنه أيضا سينمحي في يوم من الأيام.لو اكتفى الله تعالى بقوله إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ لظلت هذه الشبهة قائمة؛ لأن بعض أنواع الكلام

Page 513

الجزء الثامن ۵۱۲ سورة الأعلى يكون قولا فصلا، ومع ذلك يكون مؤقتًا وينمحي بعد فترة، ومثاله قول الله تعالى عن داود الوَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخطاب، فرغم كون كلامه قرارًا نهائيا إلا أنه قد انمحى واندثر.فلا يتضح من قوله تعالى إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ما إذا كان القرآن الكريم قولاً فصلاً مؤقتًا أم أبديًا، بل كانت هناك إمكانية أن تنشأ في بعض القلوب الشبهة: لماذا لا نفهم من كون القرآن كلامًا أخيرًا بأنه كان كاملاً في عصره فحسب، وكان شرعًا أخيرًا في زمنه فقط، فيُنسخ مثل الكتب السابقة، وإذا استجدّت الحاجات فسيأخذ مكانه كتاب آخر وذلك كما يزعم البهائيون اليوم 6 (25 God Passes: by Shoghi Effendi, p) ودرءا لهذه الشبهة قال الله تعالى في وصف القرآن الكريم: وَمَا هُوَ بِالْهَزْل..أي لن يصاب هذا الكلام بالضعف أبدا.ولن يصبح غير صالح للعمل، بل ستظل الدنيا بحاجة إليه دومًا، ولن ينمحي فهذا الكلام ليس بالقول الفصل مؤقتا ، بل إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ للأبد.فما دام القرآن الكريم وحيًا أخيرًا وكاملاً وغير ضعيف، فالسؤال الذي ينشأ هنا: ما الحاجة بعده إلى وحي آخر؟ إنه كتاب كامل ولن يضعف، فأي حاجة لأي وحي أو مدعي وحي بعده؟ وإضافة إلى هذه الشبهة هناك تساؤل ،آخر وهو أن الله تعالى قد قال في السورة السابقة إن الإنسان خُلقَ مِنْ مَاء دَافق.وكان من الممكن أن يقول الله تعالى هنا إنه خلق الإنسان من ماء فقط، كما قال في مواضع أخرى، فبإضافة دافق هنا قد بين الله تعالى أن الخلق الظاهري للإنسان مشابه لخلقه الباطني..أي أنه بخاصية الدفق والقفز من الناحية الروحانية، وكما أنه خُلق من شيء يدفق ويقفز في مزود قال البهاء: "من يقرأ آية من آياتي خير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين." (الأقدس، النسخة البغدادية ص ۳۹ ، والنسخة الكندية ص (۸۱).وقال: "تالله لا يغنيكم اليوم كتب العالم وما فيه من الصحف إلا هذا الكتاب الذي ينطق من قطب الإبداع أن لا إله إلا أنا العليم الحكيم." (الأقدس، النسخة البغدادية ص ٤٧) (المترجم)

Page 514

الجزء الثامن ۵۱۳ سورة الأعلى ظاهره، كذلك يحدث في الإنسان دفق ،روحاني، وتأتي عليه أدوار شتّى للرقي، فهو يزداد وينقص باستمرار.وهذا الكلام أيضا يتعارض في الظاهر مع قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، حيث يقال : لقد أشير بقوله تعالى خلق من ماء دافق) إلى وجود قوة الدفق في الخلق الروحاني للإنسان، فتأتي عليه أدوار من الرقي والتراجع روحانيا، بينما وصف الله القرآن بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصل..وما دام القرآن قولا فصلا، فلماذا يوجد عند الإنسان رقي وتراجع روحانيا؟ كان ينبغي بعد نزول هذا الوحي الذي هو قول فصل أن يزداد الإنسان في روحانيته دائما ولا ينقص، ولكنكم تقولون إنه كما خلق من ماء دافق ظاهرا، كذلك قد خُلق من ماء دافق باطنًا..أي فيه تيار روحاني يرتفع حينا وينخفض حينًا، كالشيء القافز الذي يصعد مرة ويسقط أخرى، وأن الناس قد خُلقوا خلقةً بحيث يتقدمون تارة ويتأخرون أخرى، ويرتفعون حينًا وينخفضون حينًا، وهكذا ففيهم طابع الدفق وموجات مختلفة.يقال لنا من ناحية إن القرآن قول فصل، وهذا يحتّم ألا تنخفض هذه الموجات الروحانية بعد القول الفصل، فلماذا قيل خُلقَ مِنْ مَاء دَافق ؟ إذا لم يوجد الدفق في حياة الإنسان فتصبح هذه الآية باطلة، وإذا وجد فالسؤال : بأي شكل يكون هذا الدفق بعد نزول القول الفصل؟ ثم هناك سؤال ثالث ينشأ من قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ فَضْل، وهو: قد جاء عند الله أنبياء كثيرون منذ البداية حتى اليوم، فلماذا نزل القول الفصل الآن، ولَمْ ينزل من قبل على أحد منهم؟ من كان السؤال الأول عن القول الفصل: ما الحاجة إلى أي موعود سماوي بعد نزول القول الفصل ؟ وكان السؤال الثاني : إذا كان الناس يطيقون نزول القول الفصل فلماذا لم ينزل على نبي من قبل؟ ولماذا نزل الآن؟ إذا فهناك ثلاثة أسئلة: سؤالان يتعلقان بالقول الفصل، وسؤال يتعلق بـ خلق من ماء دافق.وقد أجاب الله على الأسئلة الثلاثة هنا في سورة الأعلى، وأخبر أن النواميس الطبيعية تبين أن بعض الأشياء تُخلَق لمنافع مؤقتة، وبعضها لمنافع طويلة.والأشياء المخلوقة

Page 515

الجزء الثامن جسم ٥١٤ سورة الأعلى كمالها لأهداف مؤقتة حياتها قصيرة جدا، أما الأشياء التي تُخلق لتبلغ منتهى فتكون حياتها طويلة جدًّا، وأن ارتقاءها الجسماني يصل إلى مرحلة ثم يتوقف.ولهذه السورة علاقة بالتي قبلها من حيث خلق الإنسان، فقد تحدث الله تعالى في السورة السابقة عن خلقه وارتقائه التدريجي فقال يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْب وَالتَّرَائب..أي أن الإنسان يخلق أولاً في الصلب، ثم تقوم الترائب بتنميته، بمعنى أن النطفة تتكون أولاً في الأب، ثم تدخل في رحم الأم وتتطور هناك، ثم بعد الولادة ينمو المولود تدريجيا بتناول غذائه ثدي أمه.أما هذه السورة فقد بين الله من تعالى فيها أن تطوره الروحاني أيضًا يتم تدريجيا مثل تطوره الجسدي.ولا شك أن الإنسان يُولد بقوى معينة، إلا أن الخبرة تطوّر عقله وتنميه.إذن فكما أن خَلْق الإنسان الجسماني يتطور تدريجا، كذلك فإن خلقه الروحاني يتطور تدريجا..ثم كما أن خلق الفرد يتم بمراحل، كذلك خلق الأمة يتم بمراحل، ويتطور عقلها بالتدريج، ولهذا السبب ينزل الهدي من الله تعالى حسب كل عصر.لا شك أن الخضروات ضرورية للإنسان إلا أن عمرها ،قصير حيث تفنى بسرعة، كذلك فإن الشرائع المؤقتة كانت تُنسخ وتضيع بعد فترة.أما الأشياء التي تكون الحاجة إليها دائمة لا مؤقتة، فإنها تظل تعمل منذ خلقها.خذوا مثلا الشمس، فإنها تعمل منذ أن خلقت كما هي حتى اليوم، وليس أن شمسا تندثر لتأخذ مكانها شمس أخرى.والحال نفسه بالنسبة إلى القمر فإنه لا يزال باقيًا كما خُلق.فثبت أنه فيما يتعلق بالمخلوقات، فإن منها ما انمحى وباد ولكن منها ما لم تنله يد الفناء، حيث يعترف علماء التطور أن بعض أنواع الخلق الناقصة انقرضت كليا، ولكن هذا التغير الارتقائي توقف عند خلق الإنسان.إذن، فالقول إن الشيء الذي خُلق يجب ألا يفنى قول خطأ وباطل؛ إذ هناك أشياء كثيرة يخلقها الله تعالى وتكون ضرورية ونافعة، ومع ذلك تنالها يد الفناء بعد فترة، لأن الزمان يتغيّر ، فلا تعود ذات فائدة عند الله تعالى.ود وهنا ينشأ سؤال آخر: ما هو الدليل أن القرآن لن يُنسخ في يوم من الأيام؟ فقد كانت التوراة ضرورية لعصرها، ومع ذلك صارت منسوخة بعد فترة، فلماذا لا

Page 516

الجزء الثامن سور ٥١٥ سور سورة الأعلى يقال عن القرآن الكريم بأنه ضروري لزمنه فقط وليس للأبد؟ وهذا السؤال يثيره البهائيون قائلين ما دامت الشرائع السابقة قد نُسخت، فكيف يقال إن القرآن لن يُنسخ أبدا؟ وقد أجاب الله على هذا السؤال أيضا في هذه السورة فقال تعالوا نخبركم لماذا نُسخت الشرائع السابقة ولماذا لن يُنسخ القرآن.من الغريب أيضا أن السور التي ورد فيها ذكر المسيح الموعود قد ذكر فيها التسبيح بوجه خاص، مما يدلّ على أن للمسيح الموعود صلة خاصة بالتسبيح.ولا أقصد بذلك أنه حيثما ذكر المسيح الموعود ذكر التسبيح، بل أعني أن السور التي ذكر فيها المسيح الموعود تتحدث عن التسبيح بوجه خاص.هناك عدة تتحدث عن المسيح الموعود، منها السور الأربع الماضية كما بينت من قبل، ولكن الصف والجمعة والأعلى تذكر المسيح الموعود ذكرًا خاصا، حيث تبدأ سورة الصف بقوله تعالى سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم، وتستهل سورة الجمعة بقوله تعالى يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلَك الْقُدُّوس الْعَزيزِ الْحَكيم)..وتبدأ سورة الأعلى بقوله تعالى (سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى.وقد وردت فيها الأفعال الثلاثة بصدد التسبيح؛ فعل ماض، ويُسَبِّحُ فعل مضارع وهو للحال والاستقبال، وسَبِّحْ) فعل أمر وهو خاص بالاستقبال، إذ إننا حين نأمر أحدًا بشيء فإنه لا يكون يعمل به عندها وإنما يبدأ العمل به بعدما نأمره وبذكر هذه الأفعال المتعلقة بالأزمنة الثلاثة بشأن التسبيح قد بيّن الله تعالى أن كل هذا التسبيح المتعلق بالأزمنة الثلاثة سوف يتم في هذا الموعود.وهذا موضوع مستقل لا مجال للخوض فيه هنا، وإنما اكتفيت بالإشارة إليه وبينتُ أن الله تعالى قد استعمل في هذه السور الثلاث الأفعال الثلاثة، وهكذا وعد بتكميل التسبيح على يد المسيح الموعود الل.عصر سرلک

Page 517

الجزء الثامن ٥١٦ سورة الأعلى واللهِ الرَّحْمرا سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) شرح الكلمات سَبِّحْ: أمرٌ مِن سَبَّحَ الله: أي نزهة.(الأقرب) رَبِّكَ : الربُّ: مَن يربّي ويطوّر ويوصل إلى الكمال تدريجيًا.فكلمة (الرب) متضمنة لمعنى خلق الشيء ثم تطويره إلى الكمال بالتدريج.التفسير: يمكن تفسير قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى بطريقين: سَبِّحِ اسم ربك الذي هو أعلى، أو سَبِّح الاسم الأعلى لربّك، ففي الحالة الأولى يكون "أعلى" صفةً للرب، والمراد : سَبح اسم ربك الذي ربوبيته أعلى وأرفع؛ وفي الحالة الثانية يكون "أعلى" صفةً للاسم، والمراد ارفَع في الدنيا الاسم الأعلى لربِّك.الواقع أن كثيرين يشاركون الله في مجال الربوبية، فكل من الوالدين مثلا - ربّ في محاله الخاص إذ يربي ولده، ولذلك قد استُعمل لفظ الرب في القرآن الكريم لغير الله أيضا، مُقرا أن الناس يشتركون مع الله تعالى في صفة الربوبية فيما يتعلق بالاسم، فالأب ربُّ بهذا المعنى والأم أيضا إذ يقومان بتربية أولادهما، والأستاذ أيضا ربِّ، والقائد الديني ربّ والمحسن ربِّ، لأنهم كلهم يقومون بربوبية الآخرين في مجالاتهم.ولما كان هؤلاء يشتركون مع الله تعالى في صفة الربوبية، فلم يصف الله نفسه هنا بالرب فقط، بل قال رَبِّكَ الأَعْلَى...موضحًا أن الآخرين يشتركون في هذه الصفة من ناحية الاسم بلا شك، ولكن ربّك هو الأعلى، والأرباب الآخرون أدنى درجة بكثير وربوبيتهم ناقصة، لأن ربوبية الله هي الكاملة من كل النواحي.إذا فبقوله تعالى سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قد أمر الله نبيه أن يردّ على كل ما يُثار ضد ربوبيته تعالى من اعتراض لأن ربوبية الآخرين الناقصة تؤدي إلى شبهات وأفكار خاطئة عند الناس، فينسبونها إلى الله، ظانين أنه تعالى أيضا يقوم بمثل هذه الربوبية الناقصة، فعليك بدفعها وإزالتها.خُذوا مثلاً الأستاذ، فإنه مُرَبِّ ،

Page 518

الجزء الثامن ۵۱۷ سورة الأعلى ولكن تربيته تؤدي أحيانًا إلى كثير من العيوب بدلاً من أن تكون نافعة.وبالمثل إن الوالدين أيضًا من الأرباب بلا شك، حيث يُطعمان أولادهما، ويسقيانهم ويكسوانهم ويسدان كل حاجة لهم، ولكنهما يُفسدان أخلاقهم أحيانا بتدليلهم الزائد فربوبيتهما تكون ناقصة أحيانا وتؤدي إلى كثير من العيوب بدلاً أن من تكون نافعة.ولكن الله تعالى يقول هنا لرسوله إن ربوبيتنا أسمى من أي نقص، فأخبر الناس أنه مع أن البشر يشتركون مع الله تعالى في اسم الربوبية، إلا أن الرب مثلا من يهيئ الذي أعرضُه على العالم هو الرب الأعلى، إذ لا يوجد في ربوبيته نقص ولا.مطلقا؛ فإنه تعالى إذا أعطى تعليمًا فلا بد أن يكون خاليا من أي نقص، وإذا هيّأ أسبابا فلا بد أن ما هو ضروري ومن المستحيل أن تكون ربوبيته ناقصة..يهيئ أي أن ما ليس ضروريا ولا ما يهيئ هو ضروري.بينما لا تخلو تربية الوالدين هذا العيب، إذ لا يعرفان أحيانا النافع من الضارّ، فمثلاً يُطعمان الطفل في وقت لا يحتاج فيه إلى الطعام أو لا يطعمانه ما هو بحاجة إليه.والواقع أن الأولاد يمرضون لهذا السبب في معظم الأحيان، إذ يقع آباؤهم في مثل هذه الأخطاء في العناية بهم.فأحيانًا يكون الوليد بحاجة إلى لبن أمه، ولكنها لا ترضعه، فيضعف وينحف، وأحيانًا لا يكون بحاجة إلى لبنها ولكنها ترضعه لو بكى قليلا، فتصاب معدته بأنواع الأمراض.في بعض الأحيان يبلغ الطفل من العمر بحيث يكون بحاجة إلى غذاء صلب، ولكن أمه لا تزال ترضعه لبنها، فتضعف هي، كما أن ولدها لا يقدر على هضم الغذاء الصلب.إن اللبن ليس غذاء مناسبا للطفل في كل سنّ، بل إنه مناسب إلى عمر معين ولو استمرّت الأم في إرضاعه بعدها ضعفت معدته، فلم يقدر على هضم الغذاء الصلب لاعتياده الغذاء السائل؛ فما إن يدخل الغذاء الصلب في بطنه إلا ويصاب بالإسهال.فإننا نرى أن الكبار أيضًا إذا مرضوا وتركوا الغذاء الصلب مكتفين بتناول الحليب والأرز مثلا أسبوعًا أو أسبوعين، ثم بدأوا بتناول الخبز اشتكوا من سوء الهضم، ذلك لأن معدتهم تضعف باستعمال الغذاء اللين.فلا شك أن اللبن غذاء جيد، ولكن الله تعالى قد جعله غذاء مناسبا للوليد الذي عمره سنة ونصف أو سنتان ، أما بعدها فلو أرضع اللبن فقط –كما تفعل بعض الأمهات

Page 519

الجزء الثامن ۵۱۸ سورة الأعلى اللواتي يُفرِطن في تدليل أولادهن حيث يرضعنهم ثلاث سنوات أو خمسا أو سبعًا أحيانًا أصابه المرض، وذلك أولاً لأن حليب أُمه يكون قد فسد، وثانيًا لأن معدته لم تتدرب على هضم الأغذية الصلبة، فيصاب الولد بضعف المعدة الدائم.ومع ذلك نجد بعض الأمهات ترضع ولدها سنوات عديدة لحبها المفرط، وإذا سألتها عن ذلك قالت: ماذا أفعل، إنه لا يتركني، ويبكي إذا لم أرضعه، والنتيجة أن الأم تصاب بالضعف، كما أن الوليد يكون ضعيفا.ولذلك يقول الله تعالى إن ربوبية الأرباب الآخرين ناقصة، إذ لا يعطون الإنسان ما يحتاجه عند الضرورة، ويعطونه إياه حين لا يكون بحاجة إليه، ولكن الله تعالى ليس هكذا، بل إن ربوبيته منزهة عن كل نقص وعيب.لقد ذكرتُ من قبل أن هناك اعتراضا يثار حول قول الله تعالى في السورة السابقة إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ فيقال لماذا لم ينزل الله القول الفصل منذ البداية، وقد جاء الرد على ذلك في هذه الآية، حيث أوضح الله تعالى أنه الربّ، فيراعي الحاجة والتدرج دائمًا.إذا كانت الأم وهي مظهر ناقص للربوبية- لا تطعم وليدها الخبز فور ولادته، بل ترضعه لبنها فقط، فكيف نعطي الإنسان غذاء روحانيا غير مناسب؟ قد تخطئ الأم، فتطعم وليدها كبابًا أو قطعة لحم، فيمرض ويموت، ولكن الله تعالى يعلن هنا أني لست عاطفيًا كالأم فأُنزلَ في أول يوم الشرع الكامل والقول الفصل، فيضُرّ عقل الإنسان بدلا من أن ينفعه، فإني لست ربًّا فحسب، بل أنا الربّ الأعلى.فمثلا لم يكن الناس في زمن آدم يعرفون ما هي السرقة، إذ كانوا قلةً وكانت الخيرات وفيرةً، فما كانوا يفتقرون إلى شيء منها، وبالتالي ما كان لأحد أن يفكر في السرقة، لأن المرء يرغب في السرقة عند حاجته إلى شيء، وحين تكون حاجته أكثر مما عنده ولكن لم يكن في زمن آدم أي قلة في الخيرات كان عدد العائلات في العالم محدودا، وكان كل شيء متوفرا بكثرة.فلو نزل القرآن الكريم في ذلك العصر، وقال لهم لا تسرقوا، لسأل بعضهم بعضا: ما السرقة يا ترى؟ ولو أخبروا أن السرقة أن تأخذ مال غيرك في غيابه بدون إذنه، وتسد به حاجتك، هي لبدأت السرقة في زمنه مع أن الواقع أن حالات السرقة قد وقعت بعد آدم بآلاف

Page 520

الجزء الثامن ۵۱۹ سورة الأعلى السنوات.أو لو قيل للناس عندها لا تقعوا في الفاحشة، لأخذ الناس في السؤال الفاحشة يومها، ولبدأ الضعفاء منهم بممارستها من أجل التجربة بعد العلم بها، ثم وجدوا المتعة فيها وروجوا لها.عن الواقع أن الإحساس بالفاحشة أيضًا يأتي تدريجيا في أول الأمر يخاف الإنسان من ارتكابها، مدركًا أن عمله هذا سيعتبر عملا قبيحا، ولكنه حين يرى أن فلانا قد ارتكب هذه الجريمة، ومع ذلك لم يحصل به شيء، فإنه يجد في قلبه الجرأة على ارتكابها.ذلك لأن الناس لا يستطيعون أن يروا العقاب الروحاني، ولا يوجد الإيمان بيوم الآخرة حقا إلا في قلة منهم، فلا يتجنبون الفاحشة إلا خوفا من نتائجها الوخيمة.ولكنهم عندما يرون أن فلانًا ارتكب الفاحشة ولم يُصبه ضرر، فيرغبون في ممارستها من أجل التجربة.فلو أن الله تعالى أمر الناس في زمن آدم العلا الفاحشة يا ترى؟ وإذا علموا بها ارتكاب الفاحشة لسأل بعضهم بعضا: ما هي انتشرت هذه المعصية في ضعاف الإيمان منهم.بعدم ثم خذوا القتل مثلا؛ إذ يتضح من القرآن أن فكرة القتل خطرت ببال أبناء آدم في وقت من الأوقات، ولا يعني ذلك أنها خطرت ببال أبناء آدم المباشرين، بل المراد أنها نشأت في نسله بعد مدة، حيث رمى أحدهم صاحبه بحجر في ثورة الغضب ومن علم الناس أن القتل أيضا وسيلة من وسائل الانتقام، وإلا لم يكن فمات، هنا القتل موجودًا في الدنيا من قبل، بل يوجد حتى اليوم شعوب لا تعرف القتل.فلو نزل الشرع الكامل في ذلك العصر الذي لم يخطر ببال أحد فيه قتل أو سرقة أو فاحشة..وقيل لهم لا تقتلوا ولا تسرقوا ولا تزنوا، لوضع عندها الأساس لكثير من الجرائم التي لم توجد إلا بعد آلاف السنين.أما لو لم ينزل شيء عن هذه الأمور لصار الشرع ناقصا بالنسبة للمستقبل الذي كان انتشار هذه المعاصي مقدرا فيه، ولم يقدر الشرع الناقص على سدّ حاجات الناس فمست الحاجة إلى شريعة جديدة.يتضح من القرآن الكريم أن بعض الجرائم نشأت في زمن شعيب، وبعضها في زمن لوط، وبعضها في زمن أنبياء آخرين ولو تحدّث الله عنها في زمن آدم لتوجه

Page 521

الجزء الثامن سورة الأعلى الناس إلى ارتكابها منذ آلاف السنين من اليوم، مما أدى إلى إعاقة رقيهم، لأن مثله كمَثَل الأم التي تُطعم رضيعها كبابًا أو قطعة خبز، فيموت، لأن عمره يتطلب أن يرضع اللبن فقط.فلذلك يقول الله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى..أي لو قال الناس: لِمَ لَمْ ينزل القول الفصل في بداية الإنسانية، فقُل لهم إن ربي أعلى؛ فإذا كان الأرباب الناقصون يطعمون شيئا واحدا لكل المواليد بغض النظر عن أعمارهم، فإن الرب الأعلى الكامل لا يعطي إلا عند الحاجة الحقيقية ولا يعطي إلا ما هو مناسب، ولذلك فإنه لم يُنزل القول الفصل في البداية، لأن القول الفصل يعني كتابًا كاملاً جامعا يحتوي بيان كل أنواع الضرورات بحيث لا يبقى بعده حاجة إلى وحي شرعي آخر.أما لو نزلت شريعة جامعة كهذه في البداية لوُضِعَ الأساس لكل الجرائم والمعاصي عند بداية الخلق الإنساني ولشملهم الفناء.لا شك أن الشرائع الأخرى أيضا تنهى عن السيئات، ولكن لم تَنْهَ عنها أية شريعة منها إلا بعد أن اخترعها الشياطين من الناس بمرور الزمن، وإلا فإنما تأسست أول شريعة على قوانين الفطرة فقط، ثم شيئا فشيئا تم التحول من قوانين الفطرة إلى شريعة الوحي، فكلما خالف الإنسان قانونًا من الفطرة نزل وحي الله تعالى بصدده لا أن وحي الله تعالى قد تحدث عن سيئة قبل إيجادها من قبل الناس، إذ لو نزل الشرع الكامل في البداية ونهى عن كل أنواع السيئات، لوضع حينها الأساس لكثير من الجرائم التي وجدت فيما بعد في الواقع، ولهلكت الدنيا أخلاقيا وروحانيا.ثم إن من الربوبية ما يكون مشوبًا بغرض، كأن يحسن المرء إلى الآخر تملقًا أو رياء، ولكن ربوبية الله ليست هكذا وأحيانًا يقوم المرء بعمل في غير محله، ولكن هذا العيب أيضًا.وهذا هو الموضوع الذي بينه الله تعالى في هذه الآية، فأوضح أن ربوبية ربك يا محمد، منزهة عن أي عيب.ربوبية الله منزهة عن إذن، فبرغم أن الآخرين يشتركون في بعض صفات الله تعالى اشتراكا لفظيا سال ناقصا ، إلا أن الواقع أن صفاته تعالى مغايرة تمامًا لصفات غيره.فمثلا يشترك الناس الله تعالى في صفته الرب والرحيم والعالم والمالك، ولكنه اشتراك بالاسم وفي مع

Page 522

الجزء الثامن ۵۲۱ سورة الأعلى الظاهر فقط، لا في الحقيقة.وإنما الغرض من هذا الاشتراك اللفظي البحت أن الإنسان لا يقدر على فهم صفات الله تعالى بدون ذلك، فأعطاه الله اسما يشبه صفةً صفاته تعالى، وإلا فالواقع أنه شتّان ثم شتّان بين صفات الله من شتان بين صفات الله وصفات الإنسان.إنما اختار الله تعالى هذا الأسلوب لتقريب المعنى إلى أفهام الناس، وإلا فهيهات أن تكون ربوبية العبد مثل ربوبية الله ورحيمية العبد مثل رحيمية الله، ومالكية العبد نسمي مثل مالكية الله.إذا سمي الله والعبد باسم واحد نظرا إلى بعض الصفات، فإنما ذلك ليفهم العبد صفات الله تعالى.وإذا كنا الله مالگا والإنسان مالكا، فليس معناه إلا أنه يوجد في الإنسان تشابة ناقص بصفة الله المالكية، وليس أن الإنسان مالكُ كمالكية الله تعالى لأن صفة العبد ناقصة، وصفة الله كاملة.باختصار، يقول الله تعالى هنا سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى..أي قد وقع الناسُ وبسبب في أنواع الشبهات حول صفات الله تعالى نتيجة بعض أفعال العباد الناقصة اشتراكهم في أسماء الله الصفاتية، فيظنون أن أفعال الله أيضا ناقصة كأفعال العباد، فعليك يا محمد، دَرْءً كل شبهة وردَّ كل اعتراض حول ربوبية الله تعالى.إنه لموضوع واسع لطيف وعلى المرء أن لا ينخدع بوجود هذا الاشتراك اللفظي الظاهري بين صفات الله تعالى وصفات العباد.وهناك معنى آخر لهذه الآية وذلك باعتبار اسم هنا أسماء، هنا بمعنى وهو: ربك الذي ربوبيته تفوق ربوبية الآخرين قد أحسن إليك أكثر مما أحسن إلى أحد؛ وما دام قد خصك بين الناس بهذا الإحسان العظيم، فمن واجبك الآن أن تردّ على كل من يثير أي اعتراض على ذات البارئ تعالى.وحيث إن الله تعالى قد أحسن إليك إحسانًا لا مثيل له فأنت الأولى بإزالة شكوك الناس حول ذات البارئ تعالى؛ ذلك لأن الذي قد رأى الله تعالى هو الذي يقدر على ردّ كل المطاعن على صفاته تعالى، أما الذي لم يشاهد في ذاته تجلّي صفاته تعالى فأنى له دفع هذه المطاعن، لذلك يقول الله تعالى لنبيه إن ربك الأعلى قد تولّى ربوبيتك بنفسه، وقد مَنَّ عليك بما لم يمن به على أحد من العالمين فمن واجبك الآن أن تردّ على كل المطاعن التي تثار عن أي صفة من صفات الله تعالى، وأن تبين للناس أن الصفات الإلهية منزهة عن

Page 523

الجزء الثامن ٥٢٢ سورة الأعلى كل نقص وعيب.والواقع أننا لو تدبرنا في سوانح الرسول ﷺ لوجدنا أن الله تعالى قد خصه بمعاملة لم يخص بها أحدا من العالمين، ولذلك ما كان بوسع أحد إدراك صفات الله تعالى كما أدركها الرسول الله خذوا مثلاً صفة الله المالك..فقد تجلى الله على رسوله بمالكيته بما لم يتجلّ بها على أبي جهل.كان أبو جهل يعترف بمالكية الله اعترافًا تقليديا كأناس آخرين، أما محمد رسول الله رسول الله فقد جعله الله مالكًا بالفعل ليعرف معنى المالك حق المعرفة، لأن المالك مَن تكون كل الأشياء في قبضته وتحت تصرفه، فيعطي من يشاء، ويحرم من يشاء وينزع ممن يشاء.لقد نزع الله تعالى الحكمَ من العرب الكافرين ومنحه محمدا رسول الله ، فكيف يمكن أن يكون أحد أكثر إدراكا لصفة الله المالك منه ؟ كان الآخرون أيضًا يؤمنون أن الله مالك، ولكن إيمانهم كان بناء على ما يردده الآخرون بأن الله مالك، ولكن الله تعالى قد جعل محمد نفسه مالگا و تحلّى عليه بصفة مالكيته مباشرة، فأنى للآخرين أن يتيسر لهم إدراك صفة الله المالك كما تيسر له ؟ ثم خذوا مثلا صفة الله الرب.يولد الناس ويتربون تحت ظل آبائهم وأمهاتهم، ويتلقون العلوم من أساتذتهم، فيظنون أن آباءهم أطعموهم وكسوهم وأنفقوا عليهم، وأن أساتذتهم علموهم.لا شك أنهم يعترفون بلسانهم أن الله ربهم ولكن لا يكون عندهم دليل على ذلك، وإنما يردّدون ما سمعوه.يقول لهم المشايخ إن الله هو الرزاق وهو يعطي المال ويهب العلم، فتأخذهم حيرة إذ لا يرون ذلك في الظاهر، فيقولون إن ما رأينا هم أطعمونا وليس الله ، وأن آباءنا هم علمونا وليس الله..الله..فحين يقال الله هو الرب، يقولون نعم إن الله هو ربنا، في حين أن قلوبهم لا تكون مستيقنة بما يقولون، وتظل عيونهم قاصرة عن رؤية صفة الله الرب؛ ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا لرسوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى..أي أن الله تعالى قد تجلّى على الآخرين بربوبية عادية ولكنه قد تجلى عليك بربوبيته الخاصة العليا..فكأن الله نوعان ربوبية عادية تظهر من خلال الآخرين وربوبية عليا تظهر من مباشرة، ولذلك يقول الله تعالى لرسوله من واجبك الآن أن تردّ على المطاعن هو أن آباءنا لهم إن ربوبية الله التي تثار على ربوبيتنا.لقد أطعمنا الناس بواسطة آبائهم، وعلّمناهم من خلال

Page 524

الجزء الثامن ٥٢٣ سورة الأعلى الأساتذة، أساتذتهم، أما أنت فتولّينا بنفسنا تربيتك، ورزقناك من عندنا، وعلّمناك لدناء من وتجلينا عليك بصفاتنا كلها تجليا مباشرا؛ فعليك أن تردّ الآن على اعتراضات الناس حول صفاتنا كلها، وتزيل شكوكهم ووساوسهم وشبهاتهم بشأنها.أما كيف وَهَب الله رسوله الله أنواع العلوم والمعارف، وكيف تجلّى عليه بصفاته مباشرة، فيمكن أن تقدر ذلك بما يلي: يتعلّم الناس العلوم من ولكن الله تعالى علم رسوله شتى العلوم مباشرة بلا واسطة.ثم إن الناس يكابدون مختلف المشاق والصعاب في سبيل تحصيل العلم، ولكن الرسول لم يكابد أي عناء ولا مشقة في سبيل العلم إن الذي يريد قراءة التوراة يتعلم العبرية مرة، واليونانية مرة أخرى، ويتصفح الصحف القديمة تارة، ويقضي سنوات وسنوات في هذا الجد والتعب، ومع ذلك لا يتيسر له إلا علم ناقص، وفي كثير من الأحيان يظهر خطوه فيما بعد.أما الرسول الا الله فكان ينام بالليل وهو لا يعلم شيئا مما ورد في التوراة من أحكام، وما أتى على بني إسرائيل من أحداث، وما كلّم الله به موسى من كلام، فيكشف الله عليه كل هذه الأخبار والأحوال وهو نائم على سريره في غفلة عنها.وكانت كل هذه العلوم صحيحة بحيث لا يزال صدقها ينكشف حتى اليوم.أما المعلومات التي جمعها الناس بعد تعب وكد لسنوات كثيرة، والتي كانت مسجلة في كتب التاريخ فيثبت بطلانها فيا ترى من ذا الذي يستطيع أن يشهد على أن الله عليم كما يمكن أن يشهد على ذلك نبينا الذي تلقى هذه الربوبية الإلهية المباشرة؟ لا شك أن الناس يؤمنون بأن الله عليم، ولكن ليس لأنهم قد شاهدوا واختبروا بأنفسهم كونه عليمًا، وإنما لأن آباءهم وأساتذتهم أخبروهم بذلك، أما محمد رسول الله الله فكان ينام ليلا بغير علم ويستيقظ في الصباح وقد ملئ صدره من كل أنواع العلوم والمعارف فأنى للآخرين أن يشهدوا مثله على صفة الله العليم؟ ثم خُذوا صفة الله الرزاق مثلا.إن الناس يرون أن الإنسان يكدح بنفسه ويكسب قوته بنفسه ويهيئ أسباب المعاش لنفسه ولعياله بنفسه، فلا تظهر صفة الله الرزاق أمامهم ظهورا مباشرا، فيكون إيمانهم بصفة الله الرزاق سماعيًا فقط خاليًا

Page 525

الجزء الثامن من ٥٢٤ سورة الأعلى من بركات المشاهدة والخبرة الشخصية.لا شك أنهم يؤمنون بأن الله رزاق إيمانا تقليديا، ولكن قلوبهم تكون خالية تماما من أي يقين بأنه تعالى رزاق.أما الرسول فقد تجلت عليه صفة الله الرزاق مباشرة بلا واسطة وكلّ ما رُزق من رزق كان بلا كد ولا جهد عندما كان لل طفلا صغيرا ألقى الله في قلوب أقاربه حبّه بشكل غير عادي؛ حتى ورد في التاريخ أن مُرضعه حليمة السعدية التي تولت تربيته قد أحبته حبا شديدا، وذلك لأن الله تعالى جعله سببًا لرزقها.كان أهلها فقراء، فأزال الله فقرهم بمجيئه إلى بيتهم وفتح عليهم أبواب فضله، فأحبوه حبا شديدا.وحيث إن الله تعالى أنعم عليها بفضله الخاص بسببه فكانت تود أن يبقى في بيتها أطول فترة ممكنة لكي تتمتع فترة أطول بما نزل في بيتها من بركات بسببه فلذلك لما بلغ سنتين أخذته حليمة إلى والدته غير أنها رجعت به إلى بيتها ثانية بإصرار شديد كان عادة أهل مكة أن يبعثوا مواليدهم الصغار مع النساء إلى القرى المجاورة في البادية لكي ينموا ويترعرعوا جيدًا بالعيش في الهواء الطلق، ولكي تتحسن لغتهم بالعيش بين البدو، لأنّ البدو أفصحُ لسانًا من أهل الحضر.وكانت نساء القرى المجاورة يرغبن في تربية هؤلاء الأولاد في بيوتهن، لأن آباءهم كانوا يعطونهن مبلغًا مُغْريًا، فيعشن به في سعة.فجاءت حليمة إلى مكة لكي تأخذ بعض أهلها ولدًا ،معها ولكنها تروي أن أهل كل بيت ذهبت إليه رفضوا أن يبعثوا معها ولدهم برؤية هيئتها الرثة وحالتها البائسة قائلين: أتريدين أن نبعث معك ولدنا ليموت عندك جوعًا؟ فلم تزل تتردد على البيوت طوال اليوم، ولكن لم تجد أي طفل تأخذه معها.وفي الجانب الآخر ظلّت والدة الرسول ﷺ تتوسل إلى كل واحدة من هؤلاء البدويات أن تأخذ ولدها معها ولكن كل واحدة منهن لوالدته : أنت امرأة فقيرة، فماذا عسى أن تعطيني من جزاء إذا أخذت ولدك معي؟ إذا ففي ذلك اليوم ظلت بدوية تبحث عن ولد في مكة لتأخذه معها، وظلت امرأة أخرى تبحث طوال اليوم عن مرضع بدوية لتأخذ ولدها معها.فمن جهة تلقت مرضع في ذلك اليوم الرفض التام من كل بيت بحجة فقرها وعدم قدرتها على تربية ولدهم، ومن جهة أخرى رُفض في ذلك اليوم طفل بحجة أن أُمَّه أرملة فقيرة من قالت

Page 526

الجزء الثامن ٥٢٥ فقلتُ سورة الأعلى لا تملك ما تدفعه للمرضع.لقد رفضت كل مرضع من تلك البدويات وليد هذه الأرملة قائلة: لو أخذتُ ولدك فلا آمل في أي مكافأة منك.وتقول حليمة فلما حل المساء واقتربت الشمس من المغيب، أخذتني الحيرة والخجل وقلت في نفسي: لقد انقضى اليوم ولم يُعطني أحد ولده بسبب فقري، وفيما أنا في ذلك حتى بلغني أن في بيت فلان طفلا لم تأخذه أي مرضع فاذهبي إلى أهله وخُذيه منهم.في نفسي: لأن أرجع بهذا الولد خير من أن أرجع خاوية الوفاض وأتعرض للعار والخجل.فذهبتُ إلى هذا البيت وأخذت محمدًا معي.وعندما عدتُ إلى بيتي رأيتُ ما حيّرني؛ كانت غنمي لا تدرّ لبنًا من شدة القحط والجفاف، ولم يكن في بيتنا أي حليب منذ فترة طويلة، ولكن لما وصلتُ البيت بمحمد درت ضروع غنمى وامتلأت كنتُ قلقةً بأني لم آت بهذا الولد إلى بيتي إلا خوفا من العار والخجل أمام زميلاتي، فماذا عسى أن تعطيني والدته من مال؟ ولكن لما رأيت ضروع غنمي قد امتلأت قلت إن هذا الوليد قد أتى لنا برزق، ومنذ ذلك اليوم تعلق قلبي به فربّيته بحب وشفقة لم أكنهما لأولادي.(سيرة ابن هشام: ولادة رسول الله فترى أن من يأتيه طعامه بواسطة الآخرين هو الآخر يؤمن بأن الله ربه، ولكن ليس لأنه شاهد تجليا لربوبية الله، إنما لأن الناس يقولون ذلك، أما الرسول ﷺ فإن الله تعالى قد تحلّى عليه بربوبيته وهو طفل لا يعي ما هو الربِّ، ثم لما كبر أخبرته مرضعه أنها لم تطعمه شيئا، بل بسببه هو جاءها الرزق والطعام.فكيف يمكن للآخرين والحال هذه أن يفهموا معنى الرب كما فهمه الرسول ؟ ألا لا يفهم ربوبية الله تعالى بشكل صحيح إلا من رأى تجليا مباشرًا لربوبيته تعالى.لا شك أن هذه الصفة الربانية تؤثر فيمن يشاهدها بواسطة الآخرين، ولكن شتان بين هذا التأثير وبين التأثير المباشر لهذه الصفة الربانية إننا نعطي الفقير شيئًا بأيدينا حينًا، وحينًا آخر نبعث إليه أحدا بهذا الشيء، ولا شك أن هذا الشيء سيصل إلى الفقير في الحالتين، ولكن تلك المحبة التي تتولد في قلب الفقير نحونا في حالة تلقيه هذا الشيء أو المال من يدنا مباشرة لا يمكن أن تتولد في حالة تلقيه بدون أن يدري من

Page 527

الجزء الثامن ٥٢٦ سورة الأعلى آتاه إياه.لا شك أن من يعطي الصدقة خفيةً يثاب أكثر، ولكن لا يتولد في هذه الحالة حب المتصدق في قلب الفقير كما ينبغي.أما إذا أعطى الصدقة للفقير مباشرة، فإنه ينال ثوابا أقل، ولكن حبّه سيتولد في قلب الفقير ولا بد أن يدعو له.وبالمثل فإن الذين أطعمهم الله بواسطة آبائهم فإنهم لا يتمتعون بربوبية الله كما تمتع رسول الله بربوبية الله له مباشرة.من ثم من صفات الله المحيي، والناس يؤمنون أيضا بكونه تعالى محييا إيمانا تقليديا حيث يعترفون: نعم، نؤمن أن الله سيحيينا بعد الموت، ولكن الرسول قد شاهد في حياته في الدنيا هذه الصفة الإلهية.لقد بعث الله الله في قوم قد ماتوا مونا لم يسبق له نظير في الدنيا، فأحياهم الله تعالى على يده وجعلهم فاتحي العالم وملوكه.إن المرضى يريدون الشفاء من مرضهم ولكن المريض الذي وضع في يد الرسول ﷺ للعلاج كان لا يريد الشفاء، بل كان يريد أن يموت ولا يبقى له أثر، ولكن هذا المريض نفسه الذي كان يؤثر الموت على الحياة والذي كان يرى شفاءه وحياته ضربًا من المستحيل..قد شُفي بيده وعاد إلى الحياة، بل أحيا مئات الآلاف الموتى الآخرين.كان أهل مكة الذين ولد الرسول ﷺ بينهم تجارا عاديين، و لم يكن عندهم حكم ولا نظام، ولم يكن لهم عز ولا شهرة كانوا يعيشون حاملي الذكر في حالة يُرثى لها، ولكن انظر كيف عادوا إلى الحياة بيد الرسول وانتشروا في العالم متحمسين كالمجانين، وقلبوا عروش دول كبيرة كالحدأة تنقض على صيدها وتأخذه بقبضتها في لمح البصر.كان العرب أمة حقيرة في العالم بحيث إن المسؤولين الصغار من الدول المجاورة كانوا ينهرونهم ويزجرونهم، ولكنهم لما صاروا خداما للرسول ﷺ نالوا من القوة ما جعلهم يصطدمون بالدول الكبيرة حتى مزقوا إمبراطوريتي قيصر و کسری فخرّت أمامهم الملوك الجبابرة خاضعين وحضروا عندهم مسالمين.هذا هو مثال الإحياء الذي أراه الله تعالى على يد رسولنا الكريم.أما الآخرون فيسمعون من غيرهم عن الإحياء الإلهي فيقولون: نعم، إن الله الموتى.يسمع الطفل من أبيه أن الله من يحيي أستاذه هو المحيي فيؤمن به، ويسمع التلميذ أن الله هو المحيي فيصدقه، ولكن الذي قد اختبر إحياء الله للموتى، ورأى بأم عينه

Page 528

الجزء الثامن ۵۲۷ سورة الأعلى كيف أحيا الله تعالى قومًا كانوا موتى منذ قرون، ولم يريدوا العودة إلى الحياة، وجعلهم فاتحي العالم وملوكه..فإنه سيكشف للعالم صفة الله الإحياء، بما لا يقدر عليه غيره.ثم من صفات الله صفة الشافي، ولكن الناس يجهلون حقيقتها أيضا.يقولون بلسانهم إن الله شاف ولكنهم لم يروا نموذجًا مباشرًا لصفة شفائه تعالى.كل ما يعلمون أنهم تناولوا حبات "هَرَر" فشفوا من الإمساك، ولذلك يظل عقلهم منحصرًا في الماديات فقط، ولا تتوجه قلوبهم إلى الله العظيم الذي يدير هذا الكون الهائل.ينتقل ذهنهم إلى الدواء المسهل، ولا ينتقل إلى الله الشافي! أما الرسول ﷺ فقد تجلى الله عليه بصفته الشافي تجليا مباشرا.لقد دعا عليا له قبل فتح خيبر ليسلّمه راية الجيش، ولكن كان في عينيه رمد، وكانتا متورّمتين من شدة الألم، فأخذ الرسول ل لعابه ووضع على عينيه، فشفي في الحال.(سيرة ابن هشام: ذكر المسير إلى خيبر.كان الله تعالى قد بشر النبي بفتح خيبر على يد علي ، فكان هو القرار الإلهي فمن المحال أن لا يشفي عيني علي، فأخرج لعابه ووضع على عينيه فشفاه الله فورًا.ومن مرّ بمثل هذه التجربة هو وحده الذي يمكن أن يخبر الناس عن صفة الله الشافي حقيقةً، أما غيره فإنما يقول: نعم، سمعتُ أن الله شاف، ولكني لم أشاهد أي تجل لصفة شفائه.يعلم أنه ما دام هذا له باختصار، لقد شاهد النبي تجليات صفات الله تعالى كلها مباشرة بلا واسطة، أما الناس فقد شاهدوها بطريق غير مباشر، فلا يستطيعون إزالة العيوب ودحض الشبهات التي ينسبها البعض إلى صفاته تعالى أما محمد ﷺ فيقدر على دحضها بكل جدارة وروعة، ولذلك يقول الله تعالى لرسوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى إذ قد تجلت عليه ربوبية الله العليا وأما الآخرون فظهرت عليهم ربوبيته العادية، ولذلك كانت رؤيتهم لنقش صفاته تعالى ضبابيةً، أما أنت فقد تجلّينا عليك بكل صفاتنا، فشاهدت بأم عينك أن لا عيب في صفاتنا ولا نقص؛ فمن واجبك شجرة هندية يُستعمل ثمرها كمُسهِل يشفي من الإمساك.(المترجم)

Page 529

الجزء الثامن ۵۲۸ سورة الأعلى الآن أن تدحض بكل قوة كلّ ما يثار ضد شريعة الله من مطاعن، وكل ما يُعزى إلى صفاته من عيوب؛ لأن الناس من يقول إن الله قد أشرك الأصنام في أُلوهيته، من ومنهم من يقول إن الله ولدا ومنهم من يقول إن الله ،بنات، ومنهم من يقول إن الله لا يكلّم العباد الآن ومنهم من يقول ليس الله دخل في إدارة الكون وإنما يُدار نتيجة الأسباب المادية فقط.فهناك شتى الاعتراضات التي يثيرها الناس حول ذات البارئ، وإنهم معذورون في إثارتها إذ لم يروا الله تعالى ولم يشاهدوا صفاته وجلاله وقدرته، ولكنك يا محمد قد رأيتنا وشاهدتنا، لأننا قد تجلينا عليك كرب أعلى، فالآن من واجبك أن تدرأ هذه العيوب عنا، وتكشف عظمتنا على العالم.هذا المفهوم الذي بينته الآن هو في حالة اعتبار اسم بمعنى أسماء الله كلها، وليس اسما واحدا.وفي حالة اعتبار الاسم بمعنى الأسماء ثمة مفهوم آخر لقوله تعالى سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وبيانه أن الله تعالى يقول لنبيه إنه تعالى أرفع شأنا وأكبر عظمة من الجميع، غير أنه رب..أي يطوّر الشيء من حاله الأدنى إلى الأعلى، وبحسب هذه الصفة أو القانون استعمل في الصحف السابقة كلامًا مجازيًا في حق أنبيائه، ولكن ربوبيته تعالى للإنسان قد بلغت الآن ،كمالها وحان الوقت لكشف الحجاب عن الحقيقة، لذا فعليك بإزالة كل الأخطاء التي وقع فيها الناس حول صفات الله لورود الاستعارة والمجاز في الكتب السابقة بكثرة.والواقع أننا لو قارنا القرآن الكريم بالصحف السابقة لتبين لنا فورًا أنها لا تَعرِض الربَّ الأعلى؛ أعني أن العقل الإنساني لم يكن قد تطوَّرَ عند نزولها بل كان في نمائه وارتقائه، فلم يكن قادرا على استيعاب دقائق المسائل، فكثر التشبيه والاستعارة في تلك الصحف فمثلاً اعتبرد محيئًا لله تارةً، وسمت الله أبا تارة ثانية، وسمت أحباءه أبناء له عمل تارة بعثة نبي ت ثالثة ذلك لأن هؤلاء القوم ما كانوا قادرين على استيعاب الحقيقة من دون هذا الكلام المجازي؛ ولكن الله تعالى يقول لرسوله لقد تجلينا عليك كربك الأعلى..

Page 530

الجزء الثامن ۵۲۹ سورة الأعلى أي تجلى عليك ربُّك منزّها عن أي تشبيه واستعارة، فقُمْ وادفع عنا كل ما يثار ضدنا من اعتراض نتيجة كثرة الاستعارات في الكتب السابقة.يتضح من دراسة الصحف السابقة أن الله تعالى قد دعي فيها أبا حينا، وأُما حينا آخر، وسُمي بعض الأنبياء ابن الله ، وبعضهم ابن الله البكر؛ ولم يكن معنى ذلك أن لله أبناء، أو أنه كالأب والأم في الواقع، وإنما كان كلاما على سبيل التشبيه والمجاز، أُريد به بيان حقيقة أن النبي يُبعث من عند الله تعالى لكشف صفاته تعالى كما يخرج الابن من أبيه ويظهر صفاته.وكان هذا الكلام المجازي ضروريًا عندها، لأن العقل الإنساني كان لا يزال في طور نمائه وارتقائه التدريجي، ولم يكن قادرًا بعد على إدراك ما في أحكام الشرع من أسرار أو ما في الوحي من حكم دقيقة.والتشبيه إنما يُستخدم حين لا يزال الشيء في طور ارتقائه من الأدنى إلى الأعلى، أما إذا بلغ رفعته المنشودة فلا مجال للتشبيه والاستعارة، وهذا ما قد أشار الله تعالى إليه هنا بقوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى..أي يا محمد، قد تجلّينا عليك الآن كالرب الأعلى، وقد شرحنا لك كل الاستعارات والتشبيهات السابقة، وبينا لك ما هو المراد من تسمية الله أبا الله أبا ومن تسمية النبي ابن الله البكر وما هو التوحيد، وما هو الشرك وأسبابه وأنواعه وغيرها من المسائل.والسابقون لم يكونوا قادرين مثلك على تصحيح هذه الأخطاء، لأننا لم نتجلَّ على الأنبياء السابقين كالرب الأعلى أن الله تعالى لم يكن الرب الأعلى حينئذ، وإنما المراد أن الربوبية لم تظهر عندها ظهورًا أعلى للأسباب المذكورة - أما الآن فقد تجلت عليك ربوبية الله بكمالها التام واكتملت الشريعة من كل النواحي، وبيّنا حكمة كل حكم وجمال كل تعليم، فواجبك الآن أن تدحض كل تلك المطاعن التي أثيرت حول ذات البارئ تعالى وصفاته وشريعته وغيرها.هذا لا يعني - ولو اعتبرنا لفظ الأعلى في قوله تعالى سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى صفةً للاسم فالمعنى سَبِّح الاسم الأعلى لربك وهذا لا يعني أن بعض أسماء الله أدنى، بل المراد أن صفات الله كلها تتجلى الآن بتجل ،أعلى، فمن واجبك أن تعرض على الناس أعلى ظهور لكل صفة من صفات الله، وتدفع أي اعتراض يثار ضد أي

Page 531

الجزء الثامن صفة ٥٣٠ سورة الأعلى من صفاته لكي لا يبقى لأي من هذه المطاعن أثر، ويظهر جلال الله في العالم أروع ظهور.وجدير بالتذكر هنا أنه قبل نزول قول الله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى كان رسول الله ﷺ وصحابته يدعون في الركوع في الصلاة: اللهم لك ركعت، وفي السجود : اللهم لك سجدت، ولكن لما نزلت هذه الآية قال الرسول ﷺ: "اجعلوها في سجودكم أبو داود : كتاب الصلاة، باب ما يُستفتح به الصلاة من الدعاء)، ولما نزل قول الله تعالى فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال : اجعلوها في ركوعكم (مسند أحمد، حديث عقبة بن عامر الجهني).إذا فإن الله تعالى بنفسه علّمنا كيف نسبّح في الركوع وكيف نسبّح في السجود، وعملاً بأمر الله تعالى نقول: "سبحان ربي "العظيم" في الركوع وسبحان ربي الأعلى" في السجود.ثم إن قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى يتضمن الإشارة إلى أن معرفة الأعلى ليس بمقدور الأدنى، فلا يليق بالإنسان أن يخمّن من عنده كيف يمكن أن تتجلى صفات الله تعالى، وماذا يتنافى مع صفاته، وماذا يتفق معها.هذا ليس من اختصاص الإنسان، وليس بمقدرته، إنما من اختصاص الله تعالى وحده يُطلع العباد على هذه الأمور بوحيه ؛ وبالتالي لا بد من نزول الوحي من عند الله تعالى، فالذين لا يعترفون بضرورة الوحي فكأنما يريدون أن يحيطوا بذات الله تعالى الله بعقلهم، وهذا محال ؛ إذ ليس بوسع الإنسان أن يعرف شيئا واحدا عن وجود تعالى وصفاته ما لم يخبره الله تعالى بنفسه عن ذلك بوحيه، فلذلك لا بد من الوحي.بدون وحي الله تعالى لا يقدر الإنسان على إدراك صفات الله، ولا يعرف سبل التقرب إليه، ولذلك قال الله تعالى هنا لرسوله سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى : أي يا من نزل عليك ،وحينا من واجبك كشف صفاتنا للناس، لأنهم لا يقدرون على إدراكها بعقلهم فقط.

Page 532

الجزء الثامن ۵۳۱ سورة الأعلى شرح الكلمات: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) سوى سوى الشيء تسوية : جعله سَوِيًّا، تقول: سويتُ المعوج فما استوى.وسواه صنعه مستويا.(الأقرب) فقوله تعالى الَّذي خَلَقَ فَسَوَّى يعني :أولاً : الذي خلقه وجعله بدون عيب، وثانيًا: الذي خلقه ثم أزال كل عِوَجِ حصل فيه فيما بعد.ومن " التفسير : يقول الله تعالى إنه قد خلق الإنسان بحيث زوده بكل القوى والكفاءات الضرورية لرقيه، ولذلك قيل في التوراة: "فَخَلَقَ اللَّهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَته التكوين :۱ (۲۷.فالمراد من تسوية الإنسان أنه تعالى قد زوّده بكفاءة الرقي والاعتدال فزوده بكل قوة ضرورية لذلك، كما هيّأ له كل ما يحتاج إليه من أسباب خارجية.هذا هو معنى تسويته أي خلقه بلا ،عيب، وإلا فليس المراد من خلقه بلا عيب أن يتصف بصفة الألوهية مثل الله تعالى.كلا، إنما المراد أنه ليس في خلقة الإنسان ما هو لغو وعبث خُذوا مثلا العين فإنها كانت عبثا لو لم يخلق الله تعالى إزاءها ضوء الشمس، فمن منة الله على الإنسان أنه خلق له العين من ناحية، ناحية أخرى جعل للشمس ضوءاً ترى به عينه وهذا هو الحال بالنسبة لجميع أعضاء الإنسان، فكل ما فيه قد خُلق لهدف محدد، ومنفعة معينة.هناك عضوان جسم الإنسان كان الأطباء يظنون أنهما خُلقا عبثا ولا جدوى منهما، وهما شحمة الأذن، والزائدة الدودية.كان الأطباء في الماضي يظنون أن هناك أعضاء أخرى لا فائدة فيها، ولكن انكشفت عليهم ضرورتها شيئا فشيئا.فلم يكن هناك إلا عضوان ظنوهما بلا نفع ولكن قبل حوالي ٤٠ أو ٥٠ سنة قد علموا بفائدة الزائدة الدودية، ذلك بعد أن قام طبيب من فرنسا بتجربة لمعرفة فائدتها.فإنه أخذ ۱۲ قردا، وقطع الزائدة الدودية من ستة قرود، وتركها عند الستة الأخرى، ثم بدأ يربيها كلها تربية متساوية وأخذ يلاحظ كل تغير يطرأ على أحد من المجموعتين، وبعد فترة وجد أن القرود التي أُزيلت زائدتها الدودية قد قلت المناعة عندها، فقط في سه

Page 533

الجزء الثامن ٥٣٢ سورة الأعلى فأخذت تصاب بأمراض و لم يعد ينفعها الغذاء كما ينبغي، أما المجموعة الأخرى التي لم تُستأصل زائدتها الدودية، فكانت قوية كالسابق.( The Text Book of (Anatomy, 2nd Edition p.387 لقد ثبت من ذلك أن الزائدة الدودية التي اعتُبرت في الماضي بلا فائدة هي وثيقة الصلة بصحة الجسم، وإذا أُزيلت من إنسان قلت مناعته.ولكن يجب أن لا يُفهم من ذلك أن مناعته تقل مقارنة مع الآخرين، إنما المراد أنه يصبح أقل مناعةً من ذي قبل؛ إذ من الممكن أن يكون هذا الشخص أكثر مناعة من شخص لم تُجرَ له هذه العملية ولكن المناعة عنده ضعيفة لسبب آخر.إذن، قد تبين من ذلك أنه إذا أُزيلت الزائدة الدودية من إنسان ضعفت مقاومته، فهذه التجربة التي أجراها الطبيب الفرنسي تؤكد أن الزائدة الدودية ذات صلة وثيقة بمناعة الإنسان ،وصحته وقد تظهر فوائدها الأخرى في المستقبل.على أية حال، لقد ثبت بذلك أن الله تعالى لم يخلق أي شيء عبثا.والعضو الثاني الذي كان يُعتبر بلا فائدة هو شحمة الأذن، ولكنهم قد علموا الآن أنها ليست عبثا، بل لها تأثير لطيف في السمع؛ شأنها شأن تلك القطعة الصغيرة من القماش أو الورق التي يربطها الأولاد في مؤخرة الطائرة الورقية، فإنها تبدو بلا تزيد فائدة، ولكنها في الواقع تساعد على الطيران كثيرا.وبالمثل فإن شحمة الأذن في جمالها، كما أن لها صلة وثيقة في التقاط الصوت.هناك أعضاء في الجسم الإنساني قد خلقها الله تعالى من أجل الجمال، ومنها شحمة الأذن التي لو قطعت لفقدت الأذن ،جمالها، كما أن لها فائدة أخرى كبيرة وهي أنها للينها تجمع موجة الصوت فتزيد من وضوحه هذه فائدة بيّنة لشحمة الأذن، وقد تظهر لها فوائد أخرى مستقبلا.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى إنه خلق الإنسان وجعله بلا عيب؛ إذ كل عضو من أعضائه يحقق غرضا، ولم يخلق الله أي شيء إلا لحكمة وفائدة.ثم إن من معاني قوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى أنه خلق الإنسان معتدل القوى من كل النواحي، فإذا زوّده الله بقوة الغضب خلَق إزاءها قوة الرفق، وإذا خلق فيه قوة الانتقام خلق حيالها قوة العفو، وإذا خلَق فيه الشهوة خلق إزاءها العفة.وهذه

Page 534

الجزء الثامن ٥٣٣ سورة الأعلى القوى المتضادة في الظاهر تعمل معًا على رقيه الأخلاقي والروحاني، ولولاها لما دُعيَ حَلوقًا، فمثلاً لا يسمَّى فاقد الشهوة عفيفا، ولا يُعتبر فاقد الغضب عَفُوا، ومَن ليس فيه رفق لا يُعتبر غيورا، ذلك أن الأخلاق الحقيقية إنما تظهر من إنسان يتزود بالقوتين.لقد قال المسيح الموعود اللة موضحًا هذا الأمر: إذا كان الشخص عنينا مثلاً، فلا يسمَّى عفيفاً، وإذا كان كفيفًا فلا يقال إنه لا يرتكب خيانة الأعين، إذ لا بصر عنده أصلاً ، لو كان عنده بصر، ثم لم يقع في خيانة الأعين فلا شك أنه يستحق الثناء، ولكن ما دام كفيفا فلا يمكن أن يسمى عفيف البصر.فثبت أن الإنسان لا يُعتبر خلوقا ما لم توجد فيه القوى بنوعيها، وما لم يحافظ على التوازن بينها.إذن، فمن معاني قوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى أن الله تعالى قد جعل الإنسان معتدل القوى، لقد جعل حوله قوى متضادة ثم زوّده بكفاءة أن يقف بين هذه القوى المتضادة باتزان واعتدال مثل كَفْتَي الميزان.فكأن الله تعالى يقول: إذا كنا قد خلقنا في الإنسان قوة الشهوة خلقنا فيه إزاءها قوة العفة، وإذا خلقنا فيه النجاسة زوّدناه إزاءها بقوة الطهارة أيضا، وإذا خلقنا فيه النشاط جعلنا إزاءه الكسل أيضا، وإذا جعلنا له أنواع الأكل والشرب، فقد جعلنا فيه قوة الصوم أيضا..أي القدرة على الجوع عند الحاجة.باختصار قد خلق الله في الإنسان القوى بنوعيها، ثم خلق فيه الكفاءة بأن يستعملها بشكل سليم صحيح ليصبح إنسانًا خلوقا وروحانيا.باختصار، قد زوّد الله تعالى الإنسان بكل القوى الضرورية من جهة، ومن جهة أخرى قد خلق فيه كفاءة الرقي ليرتقي باستعمالها المناسب يرعى أخلاقيا ودينيا.ومن معاني التسوية إصلاح العوج..وعليه فقوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى يعني أنه خلق الإنسان، ثم هيّاً أسباب إصلاحه كلما طرأ عليه فساد.فما دام الله الإنسان بحيث يهيئ الأسباب لإصلاح كل فساد يطرأ عليه، فكيف يقال أنه يترك العباد ليقعوا في الفساد ولا يهيئ الأسباب لإزالته.ترى كيف أجاب الله تعالى بكل روعة على السؤال الناشئ في السورة السابقة.أن بينتُ أن اعتراضا كان قد نشأ حول قوله تعالى في السورة السابقة لقد سبق

Page 535

الجزء الثامن ٥٣٤ سورة الأعلى إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ، وهو أنه ما دام الرسول قد أتى بالقول الفصل ونزل عليه الشرع الكامل لهداية الناس، فما الداعي لبعثة موعود بعده؟ فأجاب الله هنا على ذلك وقال يجب أن تفكروا في صفات الله تعالى.ترون أن الله تعالى قد خلق علاج الأمراض التي تهاجم جسم الإنسان في الدنيا، فكلما أصابه مرض أو طرأ عليه فساد، هيّأ الله لإزالة فساده أسبابًا من عنده وسواه.إذا هاجمه مرض جسدي هيأ الله الأسباب لصحة جسده، وكلما هاجمه مرض روحاني أتى الله بعلاج لصحة روحه فما دامت هذه السنة الإلهية مستمرة منذ القدم، فكيف يمكن الآن أن يطرأ على الإنسان عوج ولا يهيئ الأسباب لإزالته؟ لو ثبت أن عوجًا حصل في الناس ولم يُزله الله تعالى، لكان هذا عيبا بحق البارئ سبحانه واعتراضا على صفاته.إذا كان فساد الدنيا ممكنا فلا بد من إزالته، لأن من سنة الله تعالى أنه كلما فسد الإنسان هيّأ الأسباب لهدايته.أما لو قلتم لا حاجة لإزالة هذه المفاسد بعد نزول القول الفصل، فكأنكم تصمون الله تعالى بالعيب.فقولكم أن لا حاجة لأي وحي بعد نزول القول الفصل قول باطل لا أساس له لأنه لو حصل عيب في الإنسان فلا بد أن يزيله الله تعالى، وإلا سيقال إنه تعالى لم يصلح هذا الفساد.أنه لا بد أن يكون العلاج بحسب الفساد ؛ فمثلا إذا كان أحد لا يستطيع تناول الطعام لفساد معدته، فيجب أن نعالج معدته حتى يقدر على تناول الطعام، لا أن نغطيه ببطانية مثلا.فلو تطرق الفساد إلى عمل الإنسان، فالعلاج المناسب أن يتم إصلاح عمله وليس أن يُنزل الله تعالى له شريعة جديدة، أما إذا كان الفساد قد تسرب إلى الشريعة، فالعلاج الصحيح هو إصلاحها.من الضروري أن العلاج بحسب المرض، فلو تطرق الفساد إلى الكتاب فيجب علاج الكتاب، ولو تطرق الفساد إلى الناس فيجب علاجهم.أما إذا كان الناس على ما يرام، ولكن القانون أصبح ناقصا فيجب عندها إصلاحه ،وتعديله، أما إذا كان القانون غير يتم صحيحا، ولكن الفساد تطرق إلى الناس فيجب إصلاحهم لا تغيير القانون.باختصار، لقد ردّ الله تعالى بقوله خَلَقَ فَسَوَّى على الاعتراض الناشئ على قوله إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ في السورة السابقة، فأوضح أنه كلما تطرق الفساد إلى

Page 536

الجزء الثامن ٥٣٥ سورة الأعلى الإنسان أصلحه الله دائما، فلا بد أن يعمل الله على إزالة كل فساد يطرأ على الناس في المستقبل أيضا.شرح الكلمات: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) قَدَّرَ : قدَّرَه على الشيء: جعله قادرا.وقدّر الشيء بالشيء: قاسه به وجعله على مقداره.وقدّر فلان روّى وفكر في تسوية أمره.(الأقرب) ونظرًا إلى هذه المعاني الثلاثة للتقدير يمكن تفسير الآية بثلاثة مفاهيم؛ فأولاً: يقال قدر يعني قدره على الشيء، وعليه فالمراد من قوله تعالى ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى : قدّر الإنسان على نيل الهدى والترقي.وثانيا: يقال قدّر فلانا روّى وفكر في تسوية ،أمره، وعليه فالمراد أنه كلما حصل في الإنسان فساد دبر الله تعالى لإزالته، ولم يكن هذا التدبير عابرا، بل كان مخططا بالنظر إلى نوعية الخراب وحجم المرض ليكون العلاج ناجعا.الحقيقة أن العلاج إنما يكون ناجعا إذا كان بحسب المرض؛ فمثلا هناك شخص مصاب بحمى الملاريا ،البسيطة، فسيعطيه الطبيب مقدارا قليلا "الكونين"، ولكن هناك شخص آخر مصاب بالملاريا الشديدة، فيعطيه الطبيب مقدارا كبيرًا من "الكونين" يصيب أذنيه بالجفاف فيصاب بالصمم أحيانًا؛ ومن الجهل أن يقال لماذا أُعطي الأول مقدارًا قليلا من "الكونين" والآخرُ مقدارا كبيرا، ذلك لأن العلاج بحسب المرض.وبالمثل فإن الله تعالى يهيئ أسباب الإصلاح بحسب الفساد دوما، لذا فقوله تعالى أنه يقدّر المرض أولاً ويرى نوعيته وشدته، ثم يحدد العلاج قَدَّرَ فَهَدَى يعني بحسب ذلك.من وثالثا: يقال قدّر الشيء بالشيء: قاسه به وجعله على مقداره، وعليه فسيعني قوله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى أنه قدّر مرض الإنسان وبحسب مرضه وصف العلاج، وهيّأ الأسباب لإصلاحه.

Page 537

الجزء الثامن ٥٣٦ سورة الأعلى فهناك معنيان الأول: أنه أنزل العلاج بحسب نوعية المرض، والثاني أنه قدّر المرض وبحسب مقداره وصف العلاج.التفسير هذه الآية عميقة الصلة بالآية السابقة نظرًا إلى المعنيين لـ قَدَّرَ فهي تسلسل لنفس الموضوع المذكور في قوله تعالى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى.لقد فسرنا التسوية بمفهومين : أوّلهما أن الله تعالى جعل الإنسان معتدل القوى وصالحا للرقي وثانيا : كلما طرأ عليه فساد عمل الله على إزالته.ونظرا إلى هذين المفهومين فإن قوله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى أيضا يفسر بمعنيين: أولهما لأن الإنسان مزوَّد بكفاءة الرقي، وجُعل معتدل القوى وكاملها، فقدّر الله قواه وهيّأ الأسباب الملائمة لها ليمضي قُدُمًا في رقيه.وثانيهما أنه كلما حصل فيه فساد وعوج أرسل الله له الهدى بقدر عوجه فأصلحه؛ إذ لو كان الهدى أقلّ من حاجته لضلّ، ولو كان أكثر من حاجته لقصم ظهره واحتار في أمره، ولذلك اختار الله الطريق السليم لإصلاحه وأنزل الهدى بقدر ضرورته وحاجته.وكأن الله تعالى يقول إنه أنزل العلاج بحسب نوعية المرض وبحسب مقداره أيضا.وقد سبق تفصيل ذلك حيث قلنا إنه لو نزلت الأحكام أكثر من حاجة الناس لأهلكتهم، وقد ضربتُ لذلك مثالاً بأنه قبل زمن آدم العلم لم تكن كل المساوئ قد خطرت بالعقل الإنساني، كما لم تكن قد ارتكبت بعد، فلو تحدث عنها الوحي الذي نزل عندئذ لكثرت المعاصي و لم يتم أي إصلاح؛ فليس من الحكمة ذكرُ علاج السيئة قبل وجودها، لذلك لم ينزل الكتاب الكامل إلا حين اخترع شياطين الإنس أنواع السيئات والأخلاق الذميمة.ثم إنه لا يسهل استيعاب التعاليم السامية إلا بعد ارتقاء العقل، ولذلك كان لزاما أن لا ينزل عندها إلا الكتاب الكامل بحسب حاجات ،عصره، وأما الكتاب الكامل لحاجات الأزمان كلها فلا ينزل إلا بعد ارتقاء العقل الإنساني باختصار، حيث إن الإنسان قد خُلق كامل القوى فكان لزامًا أن يجد تعليمًا كاملا أبديا في وقت من الأوقات، ولكنه حين كان في طور التطور العقلي، فكان لزاما أن يُعطى عندها تعليما متوافقا مع درجة ارتقاء عقله..وهو كامل بحسبها.أما إذا لم يُعطَ تعليما

Page 538

الجزء الثامن ۵۳۷ سورة الأعلى كاملا أبديا فلا يكون قد تلقى جوابًا كاملا لقواه الكاملة، وإذا لم يُعط تعليما کاملا بحسب درجة ارتقائه لما ارتقى منازل التطور، ولذبُل من ثقل أعباء الشريعة قبل أن يبلغ درجة الكمال.فبما أن الله تعالى قد خلق الإنسان كامل القوى من ناحية، ومن ناحية أخرى جعله عرضةً للعيوب والأمراض ليجتهد ويستحق الثواب، فكان حريًا بالله تعالى أن يلاحظ الأمرين: فيهيئ له الهدى بأسلوب مرن ارتقائي.وهذا ما فعل بالضبط؛ فخلق الإنسان وهيّأ له أسباب الإصلاح بحسب نوعية عوجه كلما طرأ عليه عِوَجٌ.باختصار، لهذه الآية مفهومان نظرا إلى معنيي الآية السابقة، أولهما: أن الله تعالى لم يسمح بضياع ما في الإنسان من كفاءة لبلوغ الكمال، بل هيأ الأسباب لتطورها دومًا، وثانيا كلما طرأ عليه مرض هيأ له العلاج بحسب المرض.فأحد المفهومين يشير إلى رقيه وثانيهما يشير إلى إزالة مرضه.يتم والدليل على صحة المعنى الذي ذكرته هو أن الله تعالى ذكر قوله خَلَقَ فَسَوَّى قبل قوله قَدَّرَ فَهَدَى ، ولو كان المعنى على عكس ما أقول فكان ينبغي أن يذكر قَدَّرَ قبلَ خَلَقَ، لأن تقدير الشيء يسبق خَلْقه وصنعه، ولا معنى لتقدير الشيء بعد خلقه، لأن تقدير قوى الشيء الجسمانية أو الروحانية يجب أن قبل خلقه لا بعده.ولا شك أن التقدير الذي يتم بعد خلق الشيء إنما يتعلق باستعمال قواه في محلّها المناسب؛ فالمعنى أنه بقدر ما كان يمكن أن يُظهر الإنسان من قواه فعلا في وقت من الأوقات، قدّر الله حالته وأنزل الهدى بحسبها في ذلك الوقت أو بقدر ما وقع الإنسان في السيئة فعلا أنزل الله علاجه بحسبها، وعندما انكشفت له السيئات كلية وأصبح قادرًا على إظهار الحسنات بصورة تامة، أنزل الله له تعليمه الكامل.إن الذين يقولون إن قوله تعالى قَدَّرَة هنا يعني تقدير خلق الإنسان يجب أن يفكروا أن تقدير خلق الشيء يكون قبل صنعه لا بعده؛ فمثلا: إذا أردتَ خَبْز ربع كيلوغرام من الدقيق، فإنك تحدّد مقدار الدقيق المراد خبره قبل أن تبدأ بعملية الخبز..وليس أن تبدأ الخَبز ثم تفكر أن مقدار الدقيق يجب أن يكون ربع كيلوغرام.

Page 539

الجزء الثامن ومن ٥٣٨ يتم بعد سورة الأعلى كلا بل إن مثل هذا التقدير يتم قبل خلق الشيء وصنعه لا بعده.كذلك لو كان التقدير هنا متعلقا بالخلق لذكر قبل ذكر الخلق، ولكن ليس الأمر هكذا، بل قال الله هنا أوّلاً خَلَقَ فَسَوَّى ، ثم قال قَدَّرَ فَهَدَى.فثبت أن التقدير هنا ليس ما يكون قبل خلق الشيء، بل هو من نوع آخر.فمن التقدير ما يتعلق بقوى الشيء، التقدير ما يتعلق بإظهارها وتقدير قوى الشيء - سواء كانت جسمانية أو روحانية - يتم قبل خلقه دوما، أما التقدير المتعلق بإظهار قواه فيمكن أن خَلْقه في أي وقت.وقد تحدث الله تعالى هنا عن تقديره المتعلق بإظهار قوى الإنسان، وبيّن أنه بقدر ما يمكن أن يُظهر الإنسان من قواه بالفعل، قدّر الله حالته عندها وأنزل الهدى بحسبها في ذلك الوقت.ولهذه الحكمة لم يُنزل للبشر في البداية إلا الشرائع التي كانت كاملة في زمنها فقط، ثم في الأخير أنزل الشريعة الكاملة الأبدية.لقد نزلت الشرائع الكاملة بالنسبة إلى زمنها فقط عندما لم يكن الإنسان قد أظهر قواه كاملة بالفعل، بل كان يرتقي في منازل تطوره العقلي، أو لم تكن السيئات من كل نوع قد ظهرت منه ظهورًا كاملا، أما الشريعة الكاملة الأبدية فقد أُعطيها الإنسان عندما ظهرت منه السيئات ظهورا كاملا من جهة، ومن جهة أخرى أصبح قابلا للتحلي بالحسنات بشكل كامل.ومن معاني قوله تعالى (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أنه مما لا شك فيه أن الله تعالى قد خلق الإنسان معتدل القوى بريئا من النقائص، ولكنه في الوقت نفسه قد قيده بشتى الحدود والقيود، ولم يبح له استعمال قواه بلا ضوابط فمثلا قد زوّد الله الإنسان بقوة شرب الماء من ناحية، ولكنه ناحية أخرى قيده بحد وأوضح له أنه يمكنك شرب مائك أنت لا ماء الآخرين ومثال الماء هذا قد لا يستوعبه الناس عندنا جيدًا لكثرة المياه في بلادنا ولكن أهل الجزيرة العربية يفهمونه جيدا لشح الماء عندهم، إذ يجلبونه أحيانًا من عشرة أميال أو اثني عشر ميلاً، فأصبح للماء عندهم أهمية وقيمة لا توجد عندنا ومثاله الآخر أن الله تعالى قد أجاز لنا أكل اللحم من جهة، ومن جهة أخرى لهانا عن أكل لحم الخنزير والميت وغير المذبوح؛ وهكذا من

Page 540

الجزء الثامن فإن ۵۳۹ سورة الأعلى تعالى قد قيّدنا بشتى القيود والحدود، فلا يجوز للإنسان أن يفعل ما يشاء ما ويأكل ما يشاء.وهذا أيضًا من معاني التقدير المذكور في قوله تعالى : قَدَّرَ.ثم هناك تقدير رباني لحالات الإنسان وظروفه.لا شك أن الإنسان يريد أن يفعل ما يشاء، ولكن الله تعالى قد خلقه في ظروف لا يقدر فيها فعل ما يشاء.فمثلا من أراد أن يتبرع بألف جنيه فيمكنه أن يتبرع بها، ولكن ليس عند كل واحد هذا القدر من المال حتى يحقق رغبته هذه.يمكنه أن ينفق الملايين والبلايين 3 عالم الخيال والتصور ولكن على صعيد الواقع لا يستطيع كل إنسان أن يتبرع بالآلاف والملايين.ولذلك قال الله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى..أي أننا قد جعلنا حول كل إنسان حدا من الأوضاع لا يقدر على تجاوزها، وهو يسمى بمحيط الإنسان وظرفه.فكأن الله تعالى يقول هنا إن الإنسان يمشي بحسب محيطه، حيث لم يخلق الله تعالى للإنسان قواه وكفاءاته، بل خلق لظهورها محيطا، فتظهر بحسبه دائما.فكلما أنزل الله تعالى هداية للإنسان أنزله نظرا إلى محيطه.وهذا المحيط يكون ماديا أو دينيا أيضًا.لا شك أن المحيط المادي يكون للحيوان والإنسان جميعا، ولكن المحيط الديني..أي الشريعة..لا يكون إلا للإنسان وحده.ثم إن الشريعة أيضًا تكون بحسب المحيط المادي للناس، فمثلاً أمرنا بأداء الصلاة قيامًا، وإن لم نستطع فجلوسًا، وإن لم نستطع فاستلقاء، وكل ذلك نظرًا إلى محيط الإنسان وظرفه.فإذا كان المحيط يتطلب تعليما كاملا فسينزل التعليم الكامل، وإذا كان لا يقتضي تعليما كاملا فلا ينزل التعليم الكامل والاعتراض على ذلك إنما هو اعتراض على النواميس الطبيعية.فما دامت الأم لا تطعم وليدها كبابا، بل ترضعه الحليب، فكيف يُتوقع من الرب الأعلى أن يُنزل للإنسان تعليمًا لا يناسبه؟ وهذا ما يبينه الله تعالى بقوله قَدَّرَ فَهَدَى..أي أن التعليم الكامل هو ما يكون ملائما للظرف والمحيط فمثلاً لو أمرنا الله تعالى أن لا يصلي كل واحد إلا قائما، فماذا يفعل المريض الذي لا يقوى على القيام؟ ولكن الله تعالى أجاز للمريض منا أن يصلّي جالسا، وإن لم يستطع فمستلقيا.وهذا يعني أن الله تعالى قد أنزل أحكامه نظرًا إلى شتى الظروف المادية للناس لا بغض النظر عنها.فثبت أن التعليم الكامل ما يطابق

Page 541

الجزء الثامن ٥٤٠ سورة الأعلى قوله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى.والمثال الآخر للتعاليم المطابقة للظروف المادية للناس أن الله تعالى أمرنا في الإسلام بالزكاة، ولكنه قد صرّح أيضا أن هذا الحكم ليس كثير للجميع، بل هو لمن عنده مقدار معين من المال.ولولا هذا الاستثناء لم يستطع منا العمل بهذا الحكم وصاروا آئمين ولكن شرائع الأديان الأخرى لا تراعي المحيط والظرف.فمثلا من تعاليم الآرية الهندوس ضرورة إحراق الميت باستعمال مقادير معينة من مواد محددة مثل الصندل والزبد والزعفران وغيرها.فقد كتب الباندت دیانند تفاصيلها كالآتي: يجب أن تكون الزبدة بوزن الميت، يضاف إلى كل كيلوغرام من الزبدة عُشر الغرام من المسك، وغرام واحد من الزعفران.بالإضافة إلى عشرين كيلوغرام من الصندل على الأقل، وإذا زاد فلا بأس.ويجب أن تصنع أخشاب الأُلُوّة والتغر والكافور والبلاش وغيرها، ويوضع عليها منصة الحرق من الميت ويوضع الحطب فوق وجهه بارتفاع شبر وتُرَشّ الزبدة عليه ويُحرق.ستيارته يركاش (ترجمة أردية الباب ١٣ ص ٦٤٢) وذات مرة قدّرتُ ثمن هذه الأشياء الضرورية لحرق الميت، فوجدتُ أن ثمنها حوالي ٦٠٠ ٦٠٠ روبية.والظاهر أن كثيرًا من الناس لا يقدرون على جمع هذا المبلغ ولو باعوا كل ما في بيتهم.ثم إن كثيرا منهم لا يملكون بيتا ولا أرضا ولا عقارا، وإنما يعيشون حُرّاسا في بيوت الكبار، فأنّى لهم أن يأتوا بهذه المقادير من الزبدة والصندل والمسك والزعفران وغيرها.وهذا دليل على أن شريعة الآرية الهندوس ليست طبقًا لما ورد في قول الله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى، لأنها لا تراعى ظروف أن الإنسان إنما يعمل في نطاق ظروفه ومن المحال أن يعمل خارج الناس، مع محيطه.فالله تعالى يقول هنا إننا قد جعلنا للإنسان محيطا وأقمنا حوله أنواع الحدود التي لا يمكنه تجاوزها والتعاليم التي آتيناه إياها إنما آتيناها بالنظر إلى كل هذه الحدود.هذه أسماء لأشجار هندية.(المترجم)

Page 542

الجزء الثامن ٥٤١ سورة الأعلى فلو أمر الله – مثلا – أن يتبرع كل إنسان بعشر روبيات لأصبح مئات الناس كفارا، إذ ليس عند الجميع هذا القدر من المال، ولكنه تعالى قال أنفقوا في سبيله جزءاً مما عندكم قل أو كثر.وهذا الحكم يتلاءم مع ظرف كل إنسان وبيئته، إذ يمكن أن يتبرع شخص بقرش وينال الثواب ويمكن أن يتبرع الآخر بمئة ألف روبية وينال الثواب.إن أخذ الظروف في الحسبان ضروري جدا، لأن الحكم الصادر بغض النظر عن المحيط لا ينجح أبدا.والله تعالى قد راعى في أحكامه دائما محيط الفرد وظروف الأمة كلها أيضا ؛ وما لم يكن عقل الأمة كله قادرا على استيعاب التعاليم السامية لا يُنزلها.فالاعتراض لماذا لم ينزل الله تعالى القول الفصل قبل الإسلام اعتراض باطل، لأنه لو نزل القول الفصل عندها لكان مَثَله كَمَثَل أن يأمر الله الفقير المفلس بأن روبية والظاهر أن الذي هو بحاجة إلى كل قرش لا يقدر على دفع المال.فكيف يمكن إذن أن يُنزل الله تعالى قوله الفصل لقوم لم يتبرع بمئة ألف هذا القدر من تكن عقولهم قد تطورت ونضجت.ما كان القول الفصل لينزل إلا عند بلوغ العقل الإنساني أوج تطوره وعند قدرته على استيعاب كل الأحكام الروحانية السامية.فإذا كان هؤلاء يقولون: لماذا لم يعط الله آدمَ القول الفصل وأعطاه محمدا يسمى أليس هذا انحيازا لا مبرر له إذ لم يُعط الأول الشريعة السامية وأعطاها الأخير؟ فجوابنا: لماذا أنتم تضعون على رأس الولد الصغير كيلوغراما واحدا، وتُحملون الكبير القوي أربعين كيلوغراما مثلا؟ إنما سببه لأنكم تعلمون أنكم لو وضعتم على رأس الولد أربعين كيلوغراماً لمات ولكن الشخص القوي يحملها بسهولة.وهذا لا انحيازا، بل يسمى مقتضى الحال، ولو فعلتم خلافه صار ظلمًا.كذلك أنزل الله تعالى القول الفصل حين كانت الدنيا قادرة على حمله، ولو أنزله قبلها لكان ظلمًا منه لا إحسانا.فاعتراضكم أن الله تعالى والعياذ به قد ظلم الأنبياء السابقين وانحاز إلى محمد بإنزاله القول الفصل عليه ،دونهم، باطل لا أساس له مطلقا.فإن الله تعالى لم يظلم أحدًا ، بل الواقع أنه قد أحسن إلى قوم موسى وعيسى إذ لم ينزل عليهما القول الفصل، وإلا لهلكت أمتهما لكونها غير قادرة على

Page 543

الجزء الثامن ٥٤٢ سورة الأعلى إدراك ما في هذه الشريعة الكاملة من حكم ولا على العمل بها، فمثل هذه الشريعة ما كانت لتطوّر قواهم وكفاءاتهم، بل كانت ستقضي عليها وتدمّرها؛ ومن أجل ذلك أنزل الله إليهم الشرع الذي كان كاملا في عصرهم نظرا إلى ارتقائهم العقلي، و لم ينزل عليهم الشرع الكامل الكلي الأبدي.ونرى أن هذه الحدود والقيود قد جعلها الله في المخلوقات الأخرى أيضا، فجعل الأسد مثلاً يأكل اللحم ولا يأكل الكلأ، بينما جعل البقرة تأكل الكلأ لا اللحم.ومن مقتضى العقل أن لا يُكلّف أحدٌ إلا بما هو في وسعه وكفاءته.فكم هو أحمق وغِيٌّ مَن يرى البقرة تأكل الكلأ والأسد يأكل اللحم، فيقول هذا ظلم عظيم أن يُطعم أحدهما لحما والآخر كلةً، فإما أن يُطعم الاثنان لحما أو الاثنان كلا! فلو زار أحد حديقة الحيوانات ورأى أمام الأسد لحما وأمام البقرة كلةً، فقال: ما هذا الظلم والانحياز ، فهل يؤيده أي عاقل يا ترى؟ كلا، بل سيقول له الجميع: ليس في ذلك انحياز للأسد ولا ظلم للبقر، لأن البقر لا تقدر إلا على أكل الكلأ، والأسد لا يقدر إلا على أكل اللحم.كذلك هي حال الشرائع، فإنها تنزل دوما بحسب كفاءات الناس؛ فالقول لماذا لم ينزل القول الفصل في البداية يماثل القول: لماذا لا يُطعم الوليد الخبر من يومه الأول بدل الحليب؟ ذلك لأن الوليد لو أُطعم الخبز لمات أن من ينمو، فإنما منفعة الوليد أن يُسقى حليبا فقط ولو وضعت العظام أمام الأسد لمضغها ،وأكلها ولكن لو وضعتها أمام الإنسان لم يستطع تناولها ولو ابتلع عظمًا كبيرا لجرح أمعاءه وقتله في النهاية.وتوجد في حدائق الحيوانات الكبرى حيوانات كثيرة تأكل الحصى، فلو وضعت أمامها حصاة ابتلعتها فورا، فلو وضعت بدلا - وہ بعد رؤية هذا المشهد - الحصى أمام شخص وقلت له: كلها فإنك أشرف ،المخلوقات، فلا شك أنك تُعَدّ غبيًا، لأن الإنسان لو أكل الحصى مات.هذا هو الموضوع الذي بينه الله تعالى في قوله قَدَّرَ فَهَدَى، وقال عليكم أن تتذكروا دائما أن الشرائع نزلت دائمًا بحسب الظروف، ولو نزلت شريعة مهما كانت سامية دون النظر إلى ظروف الناس ،وقدراتهم لأهلكتهم بدلاً من أن ترتقي بهم إلى الدرجات العلى.فعدم نزول القول الفصل" إلى الأولين لم يكن ظلما بهم، بل

Page 544

الجزء الثامن ٥٤٣ سورة الأعلى أنزل الله إليهم ما كان ملائما لهم؛ ثم لما ارتقى العقل الإنساني وبلغ نضجه أنزل الله إليهم القول الفصل حيث رأى أن الناس قادرون الآن على حمله وأن نزوله صار ضروريًا.إن إنزال القول الفصل إلى الأولين كان ظلمًا، وعدم إنزاله لمن بعدهم كان ظلمًا أيضًا؛ ففعل الله عين الصواب؛ فالاعتراض على أي من أفعاله حمق من وغباء.باختصار، إن الله تعالى قد ردّ في هذه السورة على الاعتراضات التي يمكن أن تثار على قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ فَصْلٌ في سورة الطارق، حيث بين بقوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى أَن سنة الله أنه إذا فسد الإنسان أصلحه الله تعالى، وأن قانونه الطبيعي يكشف أنه خلق الإنسان معتدل القوى، فكيف يمكن – والحال هذه أن لا يُنزل شرعًا معتدلا..أي شرعًا يشفي غليل كل قوة من قوى الإنسان، وإلا فلا يُسمّى شرعًا كاملا فكان لزامًا على الله تعالى أن يُنزل شريعة يشفي بها غليل كل نوع من طبائع البشر، ثم كان ضروريًا أن يهيئ الله الأسباب لإصلاح كل فساد يتطرق إليهم؛ فوجود قوة الفساد في الإنسان كان يتطلب أن ينزل الشرع مرارا من ناحية، ومن ناحية أخرى يقتضي خلقُ الله الإنسان مزودًا بقوى معتدلة وكاملة أن تنزل في وقت من الأوقات شريعة كاملة كل الكمال..تراعي كل العواطف والمشاعر من الفطرة الإنسانية.وهذان المفهومان قد تضمنهما قوله تعالى الذي خَلَقَ فَسَوَّى ثم جاء شرحهما في قوله تعالى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى..أي أن الله تعالى يقدر طاقات الإنسان دائما، ثم ينزل هديه بحسبها.لقد بينت من قبل أن الحديث في قوله تعالى قَدَّرَ فَهَدَى ليس عن الكفاءات الإنسانية وقت ،خلقه، أو القوى الموجودة فيه، ذلك لأنه يُزوّد بها قبل أن يُخلَق لا بعده، بينما قدّم الله هنا قوله خلق على قوله قدر، إنما التقدير المذكور هنا يتعلق بوقت ظهور تلك القوى فعلا..والمراد أن الله تعالى كان يُنزل إلى الإنسان الهدى بقدر انكشاف قواه وكفاءاته ،فعلا ولا يعني التقدير هنا تقدير مدى كفاءات الإنسان؛ إذ كيف يمكن أن يخلقه الله أولاً ثم يفكر في الكفاءات التي تقدير

Page 545

الجزء الثامن ٥٤٤ سورة الأعلى سيزوده بها؟ إنما يزوده بها وقت الخلق لا بعده.فمثلا عندما يريد الصانع صنع محرك يقدر طاقته وقدرته أولاً، وبعدها يصنعه.هكذا يفعل الصانع الماهر دائما، يخبر الناس بعد صنعه هذا المحرك قوته كذا وكذا؛ أما الصانع عديم الخبرة فلا يعلم قوة المحرك إلا بعد أن يصنعه أو خذوا مثلاً صانع الأسرة فإنه يفكر أولاً أن طول السرير يجب أن يكون ستة أقدام مثلا، ثم يصنعه بحسب هذا المقاس، ولكن عديم الخبرة لن يفكر أولاً في مقاسه المناسب، بل سيصنعه أصغر من المقاس المطلوب أو أكبر، ثم يقول: لا بأس، سأصنع الآن غيره.باختصار، إن الصانع الماهر لا يفكر ولا يقدر مواصفات الشيء بعد صنعه.فما دام الله تعالى قد ذكر هنا قوله خَلَقَ فَسَوَّى قبل قوله قَدَّرَ فَهَدَى ، فهذا دليل واضح على أن الحديث هنا ليس عن تقدير كفاءات الإنسان الموجودة فيه عند خلقه، بل عن تقدير كفاءاته عند ظهورها فعلا، فبين تعالى أنه يُنزل الشريعة دائما بقدر تطور كفاءات الإنسان وبحسب قدرته على إخضاع مشاعره تحت القانون الإلهي؛ أو ينزل العلاج بقدر ما يتطرق فساد لا شك أن صحف موسى العلي كانت كاملة لقومه، وأن تعاليم اللي كانت كاملة لأمته، ولكنها لم تكن كاملة بالنسبة لأمة المصطفى ، لأن أهل الدنيا كانوا قد تطوروا عندها عقليا فمست الحاجة إلى أن يُنزل الله تعالى شرعًا كاملاً أبديًّا بدل الشرائع الكاملة في عصرها فقط.وفي الآيات التالية الخلق المادي، ليبين أن قانونه هذا ليس جاريًا في العالم إليها من عیسی يضرب الله تعالى مثالاً من الروحاني فحسب، بل يعمل في العالم المادي أيضا.وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٢) فَجَعَلَهُ غُشَاء أَحْوَى ) شرح الكلمات: ។ المَرْعى: المرعى: الكلأ تأكله الأنعام ؛ موضعُ الرعي (الأقرب).والمرعى هنا بمعنى الكلأ دون الرعي.

Page 546

الجزء الثامن ٥٤٥ سورة الأعلى و غُثاء: الغُثاء والغُنّاء: القَمَسُ (أي الرديء من كل شيء)؛ الزبد؛ الهالك؛ البالي من ورق الشجر المخالط زبد السيل.(الأقرب) أحوى: حَوِيَ الشيءُ: مَن به حُوَّة (الأقرب).والحوَّة سواد إلى الخضرة، أو حمرة إلى السواد.(الأقرب) الكريم ، غثاء التفسير: لقد دحض الله بهذه الآية ذلك الاعتراض الذي يثار حول القرآن بسبب قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ الوارد في السورة السابقة، فيقول الله هنا وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُتَاءً أَحْوَى..أي أن الله هو الذي أخرج الكلأ والحشيش الذي يبقى لفترة محدودة.فمن الكلأ ما عمره عشرون يوما، ومن الخضار ما عمره شهر أو شهران وستة أشهر ثم يتهشم ويفسد حتى يصبح أحوى..أي أنه لا يصبح شيئا متآكلا فاسدًا فحسب، بل يصير لونه مائلا إلى السواد.علما أن الشيء في بعض الأحيان يفسد ويُنتن ولكن لونه لا يتغير، وأحيانًا يتغير لونه أيضا.فكلمة أحوى جيء بها لبيان المعنى الإضافي بأنه لا فاسدًا فحسب، بل يتغير لونه أيضا.وبضرب هذا المثال قد بين الله تعالى أنه ما دامت بعض الأشياء التي هي من حلقه تفسد وتخرب لهذه الدرجة، فكيف يصح قولكم إنه ما دام الله يريد إنزال الشرع فلم لم يكتف بإنزال القول الفصل؟ ولماذا أنزل الشرائع التي كانت ستتعرض للتغير والفساد؟ هلا فكرتم أن الكلأ أيضا من خلق الله تعالى أيضا، وليس من خلق غيره، وأن الخضار التي تستعملونها ذلك أيضا، لا من خلق غيره، ومع ترون أن هذا الكلأ والحشيش والخضار أيضا يصبح من نتنا خلقه تتعرض للخراب والفساد بعد فترة من الزمن حتى تصبح منتنة متعفنة تولد غازات فاسدة وتتسبب في انتشار أمراض كثيرة؟ مع أنه حين تكون هذه الخضار والكلأ بحالة جيدة فتحمل للناس والأنعام منافع شتى حيث يأكل منها الناس والأنعام، فتنمو بها أجسامهم وتتقوى بها عقولهم، ولكن نفس هذه الخضار والحشيش تصاب بالفساد والخراب بعد أيام وتتسبب في تفشي كثير من الأمراض وفساد صحة أهل البلاد.فإذا لم يكن في خَلْق الخضار التي تفسد وتتعفن سريعًا وتضر الناس ما يقدح

Page 547

الجزء الثامن من ٥٤٦ سورة الأعلى في عظمة الله في رأيكم، ولا تقولون إنها من خلق غير الله تعالى، بل تعترفون إنها أيضًا آية من خلق الله وقدرته كالأشياء النافعة الأخرى التي تعيش طويلا، فلماذا تعترضون في العالم الروحاني على أشياء مماثلة نفعُها كان مؤقتا؟ ولم لا تفقهون أن الأشياء ما حياته قصيرة ومنها ما حياته طويلة، وأن بعض الشرائع تكون قصيرة المدى، وبعضها طويلة المدى.إن في خلق الله المادي دليل على أن الله تعالى قد خلق أشياء عمرها قصير مثل الخضار التي تعيش بضع أيام ثم تفسد وتملك، كما خلق أشجارًا تعيش مئات السنين، بل الواقع أن من المخلوقات ما سيبقى ما بقي الإنسان كالشمس والقمر والأرض والجبال والمعادن وغيرها فثبت أن المخلوقات في الدنيا نوعان مخلوق يعيش بضعة أيام ويفنى ومخلوق يعيش على الدوام بالنسبة لنا، وإن كان فانيًا بالنسبة إلى الله تعالى ومثاله الشمس، فالله وحده يعلم متى خُلقت إذ ليس بوسع بَشَرِ أن يقول إنه قد رأى خلقها، كما لا نعرف نحن ولا أجيالنا القادمة متى ستفنى، لأن الجنس البشري سيفنى قبل فنائها ولو تزامن فناء الجنس البشري بفنائها - على فرض المحال - لن يعرف الناس ذلك، لأنهم أيضًا سيفنون عندها؛ وكما أننا نرى الشمس، كذلك ستظل أجيالنا القادمة يرونها، ولن تفنى الشمس أمام أعين النسل البشري.ونفس الحال بالنسبة إلى القمر والأرض والنجوم والجبال.لا شك أن الجبال تتغير قليلا نتيجة الزلازل، إلا أنها كانت موجودة قبل خلق الإنسان، وستظل هكذا حتى فنائه قصارى القول، إن الله تعالى قد خلق الأشياء بنوعيها، ولا يعترض أحد على خَلْقها، بل يعتبر المخلوقات بنوعيها دليلاً على قدرة الله تعالى.فهناك آلاف الآلاف من الأشياء في الدنيا التي يعيش بعضها يوما، وبعضها أسبوعا، وبعضها ستة أشهر، وبعضها ساعة وساعة ونصف، فمثلا لا تزيد حياة النملة التي تُخلق في أيام المطر عن ساعة ونصف، حتى يضرب بها المثل في بلادنا فيقال: "حتى النملة صارت لها أجنحة".لو نظرت في البيت بعد خروج هذه النمل لوجدت على الأرض أكوامًا من جثثها.وأجنحتها.فهذا المخلوق الذي لا يعيش أكثر من ساعة ونصف هو أيضًا من خلق الله، ومع ذلك لا يطعن أحد برؤيتها في قدرة الله تعالى قائلا: لماذا خلق الله الشمس التي هي باقية منذ مئات الآلاف من

Page 548

الجزء الثامن السنين، ٥٤٧ سورة الأعلى وخلق هذه النملة التي أهلكها في ساعة ونصف؟ بل يقول الجميع: إن خلقها دليل على قدرة الله، كما أن خلق الشمس دليل أيضا على قدرته تعالى.فمن الحماقة القول: كيف يمكن أن يكون الشرع من عند الله تعالى، ثم يُنسخ بعد فترة من الزمن؟ لو كان من عند الله لما نُسخ هذه الفكرة توجد عند الهندوس عادة، إذ يقولون إن الله تعالى إذا أنزل كلامه فلا ينسخه أبدا، لأن في نسخه دليلاً على أنه ليس من الله تعالى.والواقع أنها فكرة باطلة لا أساس لها مطلقا، لأن التدبر في النواميس الطبيعية يكشف لنا أن الله تعالى قد خلق المخلوق بنوعين: ما تطول حياته، وما يعيش عيشة قصيرة؛ فبعض المخلوقات يفنى في دقائق، وبعضها في ساعات، وبعضها في شهور وبعضها في سنوات وبعضها تبقى ما بقي الإنسان، وسيراها ما بقي الجنس البشري على الأرض.أما الذين فسروا كلمة (أحوى) في قوله تعالى فَجَعَلَهُ غُتَاء أَحْوَى بمعنى: النَّضِر شديد النضارة (روح المعاني، فقد واجهوا مشكلة، لأن الغثاء هو الشيء الرديء المهشم، فالقول أن الشيء الرديء المحطّم يصبح حَضرًا نَضِرًا ليس قولاً سليما.وقد أوجدوا حلا جيدًا لهذه المعضلة بقولهم إن (أحوى) حال للمرعى، وقوله تعالى فَجَعَلَهُ غُتَاءً أَحْوَى جملة اعتراضية والتقدير: الذي أخرج المرعى وهو أحوى فجعله غثاء..أي أن هذا المرعى - رغم خضرته ونضارته – يفسد بعد أيام ويتلف.كذلك كانت حال الشرائع السابقة؛ إذ كانت تنزل لسد الحاجات المؤقتة، ثم تتعرض للخراب والفساد بعد مدة إلى أن آن الأوان لأن يعطى الجنس البشري شريعة دائمة أبدية.شرح الكلمات: سَنُقْرتُك فَلَا تَنسَى (٤) V ور سیر فلا تنسى: نَسيَ الشيْء نَسيا ونسيانا ونسايةً ونَسْوةً: ضدُّ حفظه.قال الراغب: النسيانُ: تَرْكُ الإِنْسانِ ضَبْطَ ما اسْتُودع..إما لضعف قلبه أو عن قصد حتى

Page 549

الجزء الثامن ينحذف ٥٤٨ سورة الأعلى عن القلب ذكره، وعليه وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ..أي لا تقصدوا الترك والإهمال.(الأقرب) وبعد التفسير: لقد بيّن الله تعالى في الآيات السابقة أن نزول الشرائع المؤقتة العابرة في زمن الأنبياء السابقين، وعدم نزول القول الفصل عندها، لم يكن خلاف سنتنا، لأن القول الفصل ما كان لينزل إلا بعد أن تصير البشرية قادرة على تحمله، أن تكون بحاجة إليه ؛ وحيث إن الحاجة إلى القول الفصل قد مست في زمن نزول القرآن فلذلك نزل القول الفصل الآن لا قبله.لكن هنا ينشأ سؤالان: أولهما كيف نصدّق أن هذا الوحي هو القول الفصل؟ لنفترض أن القرآن قد نزل من عند الله فعلاً، ولكن المعروف أن شرائع عديدة نزلت من عند الله لسدّ الحاجات العابرة في زمنها فقط، فلماذا لا نعتبر أن القرآن أيضا شريعة مؤقتة؟ ألم ينته عصر التوراة عندكم؟ ألم تنمح الأناجيل من الدنيا؟ ألم ينته زمن الفيدا ؟ ألم تنسخ الزندافستا؟ فما دمتم تعترفون أنها قد نُسخت وانمحت، فلماذا لا نقول إن القرآن أيضا سيُنسخ ويمحى بحسب هذا القانون؟ يمكن القول بضرورة القرآن في عصر محمد ، ولكن لمَ لا نقول إنه أيضا سوف يصبح منسوحًا مثل الصحف السابقة في وقت ما بعد انقضاء هذا العصر ؟ أما لو قلتم إنه كتاب كامل فلن ينسخ، فهذا ليس صحيحًا، لأن كتاب موسى أيضا كان كاملا في زمنه ذلك أصبح منسوحًا؛ فمجرد ادعائكم أن القرآن كتاب سماوي كامل لأهل هذا العصر ليس دليلا على أنه سيظل صالحا للعمل في المستقبل أيضا.لا شك أن هذا الأمر دليل على أن القرآن كتاب سماوي كامل لهذا العصر، ولكنه ليس دليلا على أنه لن تمس الحاجة إلى كتاب سواه في المستقبل أبدا، أو أن شريعة القرآن لن تُمحى ولن تُنسَخ أبدًا؛ كلا، بل من الممكن أن يفسد هذا الكتاب ويُنسخ في العصور وينزل مكانه كتاب آخر؟ من ومع كان من والسؤال الثاني هو : إذا كان في القرآن ما تنسبون إليه من المحاسن، وإذا المقدر أن لن ينزل بعده كتاب آخر، فلماذا يقول القرآن ببعثة موعود آخر، أو

Page 550

الجزء الثامن ٥٤٩ سورة الأعلى لماذا ينبئ محمد ) أنه سيأتي بعده مأمور آخر من عند الله تعالى؟ فهذان السؤالان لا يزالان من دون إجابة.أي كيف نصدق أن القرآن الكريم لن يفسد حتى نهاية الدنيا؟ ولماذا أُخبر عن بعثة موعود بعده ما دام كتابا سماويا كاملا؟ والإجابة على هذين السؤالين كانت قد جاءت ضمنيا- في قوله تعالى الذي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ، ولكنها لم تكن مفصلة، فلذلك يجيب عليهما الآن في الآية قيد التفسير.الله ملخص السؤال الأول : كيف نصدق أن القرآن هو القول الفصل، ولم لا نقول إنه أيضا سيُنسخ ويُلغى في يوم من الأيام ليأخذ مكانه كتاب آخر؟ فأجاب الله على ذلك بقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى..أي أن من سنة الله أن الأشياء التي قُدِّرَ لها التغيير والتبديل تنمحي أولاً بأول خذوا مثلا الإنسان، فبما أن المقدر له أن يموت ليأخذ مكانه غيره، فلذلك نجد الشيب يغزوه وتظهر عليه آثار الضعف والاضمحلال بعد عمر معين، مما يدل بوضوح أنه سيفنى الآن ويأخذ مكانه غيره.فثبت من ذلك أن سنة الله تعالى أن المخلوقات التي لم تُخلق لتعيش من كالشمس والقمر مدة طويلة يغزوها المشيب وتظهر عليها آثار الشيخوخة - والضعف بعد فترة ومثالها الإنسان والحيوان والشجر والمرعى وغيرها، مما يكشف بوضوح أن الله يريد لهذه الأشياء أن تنمحي ويأخذ غيرها مكانها.وهذا القانون نفسه نراه ساري المفعول فيما يتعلق بالصحف السماوية السابقة.فباستثناء القرآن الكريم لن تجد أية صحيفة سماوية في العالم محفوظة في صورتها الأصلية.فمثلاً تجد في نسخة من كتاب سماوي واحد ما لا تجده في نسخه الأخرى.خذوا مثلا الأناجيل، فهناك أربعة ، أناجيل، ومع ذلك توجد فيها عشرات الاختلافات.ثم إن الطريقة التي انتقوا بها هذه الأناجيل الأربعة تدل أنه لا يجوز اعتبارها سماوية بحال الأحوال، إذ كان عند المسيحيين من ۳۰۰ إنجيل انتقوا منها هذه الأربعة.(Dictionary Of The Bible, Dr.W.Smith Vol:11 p 943)

Page 551

الجزء الثامن ٥٥٠ سورة الأعلى وهناك قصة تُحكى عن انتقائها والله وحده أعلم بصحتها، وهي أن القسيسين ناقشوا طويلا قضية انتقاء الأناجيل الموثوق بها، فلما رأوا أنهم لا يتوصلون إلى نتيجة وضعوا على طاولة كل الأناجيل البالغ عددها ٣٠٠، وضربوها بالعصا، فما بقي منها على الطاولة اعتبروها موثوقا بها..أي أنها من عند الله تعالى، وما وقع منها على الأرض اعتبروها رديئة وقصتهم هذه تشبه قصة معلم كسول: يحكى أن معلمًا كان لا يفحص أوراق اختبار الطلاب، بل كان يضعها على طاولة أمامه ويضربها بيده، فكان يعتبر الطلاب الذين سقطت أوراقهم على الأرض راسبين، ومن بقيت أوراقهم على الطاولة ناجحين.و وحتى لو لم نصدق هذه القصة معتبرين انتقاء الأناجيل الأربعة نتيجة تفكير القساوسة العميق، فالقضية تبقى على حالها، لأنه لو حُقَّ للتفكير الإنساني العميق اعتبار كتاب كتابًا سماويًّا في الواقع الجاز له أن يأتي بشريعة جديدة أيضًا، أما إذا كان التفكير الإنساني غير قادر على صنع شريعة، فهو غير قادر أيضا على اعتبار كتاب إلهاميًا بصورة قطعية يقينية، إذ لو كان هناك مدعيان في قضية، فلا يمكن الحكم القطعي في صالح أحدهما من دون شهادة خارجية أو داخلية تدعم هذا الحكم.باختصار، أخذت الصحف السابقة تنمحي وتندثر بعد نزولها مباشرة، وذلك دليل قطعي على أن الله تعالى لم يُنزلها للهداية الدائمة الأبدية، حتى إن أتباعها أنفسهم يقرون أنها لا تزال تنمحي وتندثر منذ فترة طويلة.إن المسيحيين أنفسهم يعترفون أن الأناجيل قد دُوّنت بعد المسيح الناصري اللي بفترة طويلة جدًا، وأن البشر تولوا تدوينها و لم تنزل من السماء.أما الاختلاف بين شتى نسخ الأناجيل فيعترف به الباحثون المسيحيون أنفسهم والحال نفسه بالنسبة إلى التوراة؛ فإن شهادتها الداخلية تكشف أنها كانت قد انمحت واندثرت في وقت ما، حيث كان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد..أي في أواخر القرن الرابع عشر الإبراهيمي حين أحرق نبوخذنصر بيت المقدس، فاحترقت نسخ التوراة المقدسة أيضا، وأُسرَ اليهود ونُفوا إلى بابل، فظلوا في السبي سبعين سنة، ثم أُطلق سراحهم، فقام العُزير

Page 552

الجزء الثامن ٥٥١ سورة الأعلى - أي عزرا العلم الذي يوجد له كتاب في العهد القديم - بتدوين التوراة الحالية بمساعدة أحبار ،آخرين وكتبها بناء على ذاكرته.علما أن هناك كتابًا آخر باسم عزير العلم باليونانية واسمه (ESDRAS)، وهو غير الكتاب الموجود باسمه في العهد القديم.ورغم عدم وجود هذا الكتاب في التوراة الحالية، إلا أنه ليس أقل موثوقيةً منها ؛ ولذلك قد أُضيف إلى ملحق التوراة المطبوعة فيما بعد.ودراسة هذا الكتاب تكشف لنا كيف أعاد العزيز العليم كتابة التوراة بمساعدة خمسة من أصحابه في أربعين يوما.وقد ورد فيه ما يلي: انظُرْ أيها الإله، سأذهب كما أمرتني وسأشرح الأمر للموجودين، ولكن من يشرح للذين يولدون فيما بعد.إن الدنيا في ظلام، وأهلها يعيشون بدون نور، لأن الشرع قد احترق، فلا يعرف أحد ما تعمل أنت وما سيحدث.ولكن إذا كنتَ تشملني بفضلك، فأنزل علي روح القدس لأكتب كل ما وقع في الدنيا منذ البداية، وما هو مكتوب في شرعك، لكي يهتدوا إلى سبيلك وليحيا الذين يكونون في الزمن الأخير.فقال لي في الجواب : اذهب إلى سبيلك واجمع الناس وقل لهم أن لا يبحثوا عنك لأربعين يوما ولكن انظر، اصنَعْ خشب الصناديق الكثيرة وخذ معك سيريا ودبريا وسليميا وأكانس وأسيل & SARIA & DABARIA & SELEMIA ECANUS& ESIAL.هؤلاء الخمسة الذين هم مستعدون ليكتبوا بسرعة كبيرة، وائت بهم هنا، وسوف أُشعلُ شمعة الفهم في قلبك التي لن تنطفئ إلى أن تكتمل الأمور التي تبدأ بكتابتها.الباب الرابع عشر : الفقرات (٢-٢٥ ثم ورد: "فاعتزل العُزير مع هؤلاء الكتبة الخمسة أربعين يوما، وكتب بتأييد الإلهام مئتين وأربعة كتب في أربعين يوما.(الفقرة: ٤٤).ولم يكتب هؤلاء التوراة فقط، بل كل الكتب المنسوبة فيها إلى الأنبياء بدءًا من موسى إلى العُزير عليهم السلام.هذا، وليس هناك أية شهادة تاريخية على أن اليهود كانت عندهم عادة حفظ التوراة عن ظهر قلب، بل إنهم لا يحفظونها حتى اليوم؛ فكيف يُظَنّ -والحال هذه - أن الذين أعادوا كتابة التوراة قد كتبوها بشكل صحيح؟ إن تدوين التوراة ثانية قد

Page 553

الجزء الثامن بعد سبي ٥٥٢ سورة الأعلى اليهود بيد نبوخذ نصّر إلى بابل بفترة طويلة فعاشوا هناك ستين أو سبعين سنة تقريبا.راجع تاريخ بائيبل للقسيس ويليام ج ،بليكي، ص 401).ولما قويت شوكة قورش ملك فارس وميديا عقد معه اليهود في بابل معاهدة سرية، فلما هاجمها ساعدوه من داخلها فاستولى عليها بسهولة، ثم سمح لبني إسرائيل بالعودة إلى وطنهم جزاء على مساعدتهم له.وكان ذلك زمن النبي عزرا الذي في زمنه دونت التوراة ثانية.وهذه الفترة بين هجوم نبوخذ نصر وتدوين التوراة ثانية تصبح مئة سنة تقريبا ولا يخفى على المرء أن كثيرًا من اليهود ماتوا في مئة سنة.فلو سلّمنا جدلاً أن اليهود كانوا حافظين للتوراة عن ظهر قلب قبل حرقها، فمع ذلك ليس تدوينها بعد كل هذه الفترة بأمر يقيني لأن كثيرا منهم كانوا قد ماتوا في هذه المدة.ولكن الواقع أنه لم يكن عند اليهود رواج لحفظ التوراة أصلا، فما كتبه هؤلاء الكتبة إنما كتبوه بناء على قياسهم وخيالهم.ونجد الدليل على ذلك في التوراة نفسها، حيث ورد فيها أن موسى ال قال إن الله قد أمركم بكذا وبكذا، ثم ورد فيها: فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوابَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ.وَدَفَنَهُ فِي الجواء في أَرْضِ مُوآبَ مُقَابلَ بَيْتَ فَغُورَ، وَلَمْ يَعْرِف إِنْسَانُ قَبْرَهُ إلى هَذَا الْيَوْم.وَكَانَ مُوسَى ابْنَ مِئَة وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ، وَلَمْ تَكُلَّ عَيْنُهُ وَلا ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ." (التثنية ٣٤: ٥-٧) فمن ذا الذي سيُصدِّق أن الله قال لموسى وهو يكلمه: فمات موسی ودفن في أرض مؤاب، ولا يعرف قبره هناك إلى الآن؟ يتضح من هذا جليًّا أن هذه الأخبار قد كتبها شخص بعد موسى الله في وقت لم يعد الناس يعرفون مكان قبره العليا.إذ كيف يمكن أن لا يعرف أحد من أتباع موسى قبره العلة وهو سيد لمئات الآلاف، وكانوا يفدونه بأرواحهم، خاصة أنهم كانوا يحكمون تلك البلاد حكمًا متواصلا ؟ إن هذه الكلمات توضح أن آثار قبر موسى العلية كانت قد انمحت خلال فترة المائة سنة بدءًا من سبي اليهود حتى زمن النبي عزرا، وعندما عاد بنو إسرائيل إلى وطنهم ودونت التوراة ثانية أضاف بعض الكتبة من عنده أن لا أحد الآن.إذ كيف يمكن أن يندثر أمام أعين قوم قبر إنسان يعر ف مكان قبر موسى

Page 554

الجزء الثامن ٥٥٣ سورة الأعلى كان حاكمًا لهم ومؤسس جماعتهم ومحور قوتهم السياسية والعلمية، وقد رفعهم من الحضيض إلى القمة.فإننا نرى في بلادنا أن قبور الدراويش والفقراء العاديين أيضا لا تندثر ،آثارها فقبور نظام الدين أولياء ومعين الدين الجشتي وأحمد السرهندي وغيرهم - رحمة الله عليهم - لا تزال موجودة إلى اليوم، مع أن حكم المسلمين على الهند قد انتهى، وتحكُمُهم اليوم أمة أخرى.لو أتى زمن يصبح و الهندوس فيه غالبين على الهند ويطردون المسلمين منها ويهدمون أماكنهم المقدسة، ثم يرجع المسلمون بعد زمن إلى هذه البلاد، فيمكن أن يقال عندها لا ندري الآن أين كان قبر هؤلاء الصلحاء! أما العليلا فكان موسی ني الله، ونبيا تشريعيًا، وإمام قوم وقائدهم، فكيف اندثر قبره بهذه السرعة أمام أعينهم؟ فثبت بهذه الفقرة من التثنية بجلاء أن التوراة قد كتبت بعد عودة اليهود من السبي، ولأنهم ظلوا خارج بلادهم قرابة مئة سنة، فعندما رجعوا إلى وطنهم لم يعرفوا مكان قبر موسى العلمية لا.ولذلك كتب بعضُ كتبة التوراة: لا يُعرف مكان قبره الآن.هذه شهادة داخلية من التوراة على أنها كانت قد انمحت واندثرت، ثم دوّنها الناس بناء على ذاكرتهم.والحال نفسه بالنسبة لكتاب الفيدا الهندوسي، فأوّلاً لم يُفصل حتى اليوم فيما إذا كانت كُتب الفيدا ثلاثة أم أربعة.ثم هناك اختلاف كبير بين عبارات كتب الفيدا؛ حيث يوجد في كتاب جملة لا توجد في الآخر، ثم هناك اختلاف في عدد العبارات بين نسخة وأخرى.وثانيا: لقد أقرّ علماء الهندوس أنفسهم أن الفيدا ليس محفوظا على شكله الأصلي، بل نالته يد التحريف والتغيير.فيقول الباندت "شانتي ديو شاستري": لم يُفصل حتى اليوم فيما إذا كانت كتب الفيدا أربعة أم ثلاثة! إنها ثلاثة في رأي "منوسمرتي" و"شتبته براهمن" وهي: ريجفيدا ويجرفيدا وسامفيدا، بينما هي أربعة في رأي "واجنئى أُبنشد" و"برهمنو أبنشد" و"مندك أبنشد".(مجلة گنگا، فبراير ۱۹۳۱ ص (۳۲۲

Page 555

الجزء الثامن ٥٥٤ سورة الأعلى 110 بينما قال "ساهتي آچاريه باندت مَهِنْدَر مشر : قد وقع في الفيدا اختلاف كبير ناحية العصور والأقطار والتلاوة، ونتيجة العداء بين من وبسبب استعمال المعلمين الفيدا في مراسيم القرابين فقد حصل فيه اختلاف كبير، فصارت لكل كتاب من الفيدا نُسَخ كثيرة، فمثلا هناك عشرون أو إحدى وعشرون نسخة مختلفة لـ ريجفيدا، ومئة نسخة مختلفة ليَجُرفيدا، وألف نسخة لسامفيدا، وتسع أو خمس عشرة نسخة لأتمر وفيدا.(مجلة) گنگا يناير ١٩٣٢، ص ٤٨) وكتب الباندت راجا رام البروفيسور في كلية أ.بلاهور: "لقد ترك " و.سائن آچاريه الفقرات رقم الستين إلى الثلاث والستين من الباب التاسع من كتاب أتهروفيدا من دون تفسير.ويوجد بين الفقرتين ٦٩ و ٧٠ فقرة هي في الأصل من کتاب آخر هو ريجفيدا الباب ۱ فقرة.۹۹.وقد أثبت "هَبْتني" في مقال مفصل أن البابين التاسع عشر والعشرين من أتمر وفيدا أُضيفا إليه فيما بعد.(أتهروفيدا بهاش، مجلد ۲ ص (۸۳۱ ويقول الباندت ويدك منى": الواقع أنه ليس هناك كتاب من كتب الفيدا هو أسوأ حالاً من أتهروفيدا.لقد أضيفت إليه فقرات عديدة بعد زمن العالم "سائن آچاريه" أيضًا.وقد برعوا في اختراع طرق التحريف أيضا.ففي الماضي كانوا يكتبون قبل كل فقرة أو عبارة كلمة بداية وعند انتهائها كلمة لنهاية، ولكن حين لم يعد يسألهم أحد تركوا تسجيل هاتين الكلمتين المشيرتين إلى بداية الفقرة ونهايتها، وهكذا يضمون إلى المجموعة ما يشاءون.فكما أنهم يضيفون إلى مجموعة ريجفيدا أبواب بالكليه"، كذلك يضاف اليوم إلى أواخر "أتهروفيدا" فقرات تسمى "كُنتاب" (أي المشتملة على أنباء لم ينكشف معناها).ولو سألتهم من أين جاءت هذه الأبواب كلها، بدءًا من المجموعة الخامسة إلى فقرات "كنتاب"، فلا يعطون جوابا.لقد انتشر الجهل لدرجة أن كل من يقرأ في آخر الكتاب أتهروفيدا "مجموعة سمابتا" يوقن أن كل ما يوجد إلى آخر هذا الكتاب هو كله أبواب من "أتروفيدا"، ولا يفكرون فيمَن طبع هذا الكتاب ومن ألفه وما مكانته العلمية.(فيدسروسو ص " (۹۷

Page 556

الجزء الثامن ٥٥٥ سورة الأعلى ويقول الباندنت مهيش كندر بارشاد BA: إن لمجموعة "واجسنئي شكل ليَجُرفيد" أسلوبًا منفردًا تماما، حيث يوجد فيه "فيد" و"برهمن باغ" منفصلين، فيه أربعون درسًا، ولكن الناس يوقنون أن ثمانية منها أصلية والباقية أضيفت إليها فيما.بعد.....وأسلوب الباغ من الدرس رقم ١ إلى ١٨ يماثل أسلوب "مجموعة يئتري و كرشن ياجرفيدا" نظما ونثرا.وتجد شرح كل لفظ من هذه الدورس الثمانية عشر في براهمنه.ولكن يوجد في الدرس رقم ۱۷ ملاحظات مشتملة على بضعة فقرات.وقد اعتبر "كاتيائن" الدروس رقم ٢٦ إلى ٣٥ إضافات تحريفية.....أما الدروس رقم ١٩ حتى ٢٥ ففيها ذكرُ طرق القرابين ولكنها لا تشبه ما ورد في "مجموعة تيئتري".أما الدروس ٢٦ إلى ۲۹ فتجد فيها ذكرًا خاصا عن تلك القرابين التي هي مذكورة في الدورس السابقة.ومن هنا يُظن أنها أضيفت فيما بعد.(سنسكرت ساهتيه كا إتماس مجلد ٢ ص ١٦٠) إذن، علماء الهندوس أنفسهم يقرون بأن الفيدا لم يَعُدْ محفوظا كما كان، بل أصبح محرفا مبدلا.أما الزرادشتيون فإنهم يقولون بسبب عدائهم للمسلمين إن هؤلاء قد أحرقوا كتبنا الدينية بما فيها كتاب الزرادشت السماوي، فلم يبق عندنا إلا بضعة أبواب منه حيث ضاعت الباقية وتلفت.إن ادعاءهم أن المسلمين قد أحرقوا لهم كتبهم الدينية باطل، إذ الثابت من المصادر الزرادشتية نفسها أن كتابهم "زندافستا" قد أُحرق ق عند عند هجوم الإسكندر المقدوني على بلاد الفرس.ولو سلمنا جدلا بادعاء حرق المسلمين لكتبهم، فهذا يثبت - على الأقل أن كلام زرادشت ليس محفوظا عندهم بشكل كامل، إذ ليس بأيديهم إلا جزء قليل جدا من كتابه الأصلي.باختصار، لم يبقَ على وجه الأرض سوى القرآن الكريم- كتاب لأي ديـــن يمكن الادعاء بأنه محفوظ كما قدّمه مؤسس ذلك الدين.وفي هذا دليل على أن الله تعالى كان قد قرّر اندثار تلك الكتب ،وانمحاءها لينزل مكانها كتابا آخر؛ وإلا فلو أراد الله تعالى حفظ التوراة ونشرها في الدنيا، لأقام التوراة ونشرها في الدنيا، لأقام عند انمحائها نبيا وأنزلها

Page 557

الجزء الثامن على أن 007 من العليا سورة الأعلى عليه مرة أخرى قائلا له: لقد انمحت التوراة، فها إني أُنزلها عليك ثانية كمـا أنزلتها على موسى من قبل - لتنشرها في الدنيا مرة أخرى.ألم يكن الله قادرًا يهزم نبوخذنصر ويهلكه بعذابه عندما هم بإحراق التوراة؟ أو لم يكن الله قادرا على أن يهلك الإسكندر المقدوني بعذابه لو أراد إقامة زندافستا وحفظه في الدنيا ليعمل به الناس دائما ؟ أو لم يكن قادرا على أن يهلك أولئك الباندات وعلماء الفيدا الذين حرفوه لو كانت مشيئته أن يظل الناس عاملين بالفيدا على الدوام؟ ولو أراد الله تعالى أن تعمل الدنيا بالإنجيل فقط إلى الأبد، أفلم يكن قادرًا على إزالة العيوب والنقائص التي أدخلها المسيحيون في الإنجيل؟ كان الله تعالى قادرا علـــى ذلك بكل يقين، لكنه سمح بهذا التحريف لأنه لم يشأ أن يبقى أي هذه الكتب محفوظا في الدنيا إلى الأبد.هذا ما حصل فعلاً من جهة ومن جهة أخرى نرى أن الله تعالى إذا أراد الإبقاء على شيء لم تستطع الدنيا إفساده مهما حاولت.لقد حفظ الله تعاليم عيسى طالما أراد حفظها، ولم يدَع الله شريعة زرادشت أن تندثر طالما أراد أن يعمل بها الناس، ولكن لما انتهت مهمة هذه الكتب رفع الله عنها حمايته.فثبت أن الله تعالى أن يحفظ الكتب السماوية من كل تلاعب وتحريف وإضافة طالما صالحة ونافعة للدنيا، وعندما وعندما تنتهي مهمتها تأخذ الدنيا في العبث بها.كذلك نجد في عالم المخلوقات أن الأشياء ذات الفوائد العابرة تفسد وتتعفن بعد فترة من أما الأشياء ذات الفوائد طويلة المدى فتبقى كما هي.وهذا هو الدليل الذي يقدمه الله تعالى في قوله سَنُقْرتُكَ فَلا تَنْسَى.علما أن الخطاب هنا ليس موجها إلى رسول الله ﷺ فحسب، بل إلى أمته كلها فمن أساليب القرآن أنه يخاطب النبي أحيانًا جماعته كلها، فقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى يعني أن أُمته كلها ويعني لن تنسى هذا الكتاب، وأن كلماته ستبقى محفوظة إلى الأبد، ومن أجل ذلك قال الله تعالى في موضع آخر إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ١٠).فقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى لا أن الزمن، يعني سنة من هي الرسول وحده سيحفظ القرآن

Page 558

الجزء الثامن ٥٥٧ سورة الأعلى ذلك أن حفظه الهلهلهلهله للقرآن الكريم لا يكون حجة على الدنيا، إذ يمكن لأي مدع أن يقول إني أحفظ هذا الكلام الذي نزل علي كما هو.ولو قيل هذا الخطاب يشمل النبي الله ، والصحابة ، فهذا أيضا ليس صحيحًا، إذ كيف يكون عدم نسيان الصحابة للقرآن الكريم دليلا على بقاء القرآن محفوظا للأبد؟ إنما الدليل ما يُفحم المعارض ويُقنعه ولكن كيف يمكن إقناع المعارض بالقول إني لم أنسَ القرآن كما لم ينسه صحابتي، إذ يمكنكم أن تسمعوه مني ومنهم؟ لأن المعارض سيقول : صحيح أنك وصحابتك تحفظون القرآن عن ظهر قلب الآن، ولكن كيف يثبت من ذلك أنه سيظل محفوظا للأبد؟ إذ من الممكن أن يحفظه صحابتك، ولكن ينساه من يأتون بعدهم.فهذا ليس دليلا يقنع المعارض فيما يتعلق بحفظ القرآن الكريم.نعم يمكن أن يطمئن بهذا الدليل من كان إيمانه كإيمان العجائز ، ولكن القرآن ليس للمؤمنين فقط، بل يُعرَض على الأعداء أيضا، وإن الله تعالى نفسه قال في مستهل هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى..أي يا محمد، أثبت للناس نزاهة صفات ربك عن كل نقص وعيب، فما دام القرآن قد نزل ليُعرض على الدنيا كلها، فلا يمكن أن يقدم الرسول ولا من الأدلة على صدقه ﷺ إلا ما يكون حجة على المعارضين وليس ما يُطمئن به قلوب المؤمنين فقط، أما القول إن الخطاب هنا موجّه إلى الرسول الله وأصحابه فليس دليلا يقيم الحجة على المعارضين؛ لذا فلا بد أن يُفسر قوله تعالى فلا تَنْسَى بما يتفق مع عظمة القرآن وشأنه، وبما تؤيده الآيات الأخرى أيضا وليس سبيله إلا أن نقول إن الخطاب هنا ليس موجها إلى الرسول ﷺ فقط، بل إليه وإلى أتباعه كلهم أجمعين، والمراد أننا سنعلمكم كلامًا لن تنسوه إلى يوم القيامة، بل سيظل محفوظا كما ومن الأدلة على هذه الدعوى أنّ ألد أعداء الإسلام أيضا يقرون علنًا أن القرآن الكريم محفوظ اليوم تمامًا كما عرضه محمد ﷺ في وقته.فقد اعترف "نولدكه" و سبرنغر" و "وليام موير" في كتبهم قائلين: ليس هناك كتاب سماوي نستطيع القول قطعًا ويقينًا إنه لا يزال محفوظا حتى اليوم كما قدمه مؤسسه إلا القرآن.إنه الكتاب الوحيد الذي يمكن القول حتمًا وجزمًا إنه لا يزال محفوظا كما قدمه محمد " هو الآن.

Page 559

الجزء الثامن Оол سورة الأعلى الله تعالى، لأصحابه.ولما كان هؤلاء المستشرقون لا يصدّقون أن القرآن من وحي بل يعتبرونه من تأليف محمد رسول الله ، فلا يستطيعون القول إنه لا يزال محفوظا كما نزل من عند الله تعالى، ولذلك يقولون إنه لا يزال محفوظًا كما عرضه محمد على الناس.فقال السير وليام موير بعد أن ساق عدة أدلة في كتاب له: • الدنيا "إن هذه الأدلة تُقنع تماما أن القرآن الذي نقرأه اليوم هو بنصه وفصه نفس ما قرأه النبي على الناس (40) The Quran, its composition and teachings) وقال في كتاب آخر: "من الممكن جدا أن يكون القرآن من اختراع محمد ) وربما أحدث فيه تغييرا وتعديلا، إلا أنه مما لا شك فيه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو نفس ما أتانا به محمد (حياة محمد ص ٥٦٢) وقال أيضا : "نستطيع الجزم - بناء على قياسات قوية – أن كل آية من القرآن كما أوردها محمد ".آية أصلية غير محرفة، وهي " هي الذي بين أيدينا هي (المرجع السابق) وأما نولدکه فقال: من الممكن أن يتضمن القرآن أخطاء إملائية بسيطة، ولكن فحوى المصحف الذي قدّمه عثمان (ه) للعالم هو نفس ما عرضه محمد ) وإن كان ترتيبه يبدو غريبًا جدًّا في بعض الأحيان.لقد فشلت تماما محاولات العلماء الأوروبيين في إثبات أي تحريف في القرآن فيما بعد".(الموسوعة البريطانية، تحت القرآن باختصار يعترف المستشرقون أنه لا مجال للشبهة في القرآن الكريم مطلقا فيما يتعلق بحفظه الظاهري، بل هو نفس الكتاب الذي قرأه محمد رسول الله ) على الناس لفظا لفظا.فما أعظمها من نبوءة وردت في كلمة وجيزة سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ! ثم لا يغيين عن البال أن هذه النبوءة قد أُدليت حين لم يؤمن برسول الله ﷺ إلا بضعة أفراد، وكان العالم يعارضه ساعيًا لمحو أثره من وجه الأرض، ولم يكن حوله الآلاف والملايين من المؤمنين، فيُظَنّ أنه برؤية هذه الجموع الغفيرة حوله أعلن

Page 560

الجزء الثامن يقدر أحد ٥٥٩ سورة الأعلى أن من المحال الآن أن يقدر أحد على محو هذا الكتاب.الواقع أن النبي أنبأ بذلك في وقت كان فيه عرضة لكل هجوم، وكان أصحابه يُعدّون على الأصابع، فأعلن في هذه الحالة الضعيفة والوقت الحرج أن القرآن سيبقى في الدنيا إلى الأبد، ولا على محو أثره.لقد حُرِّف كتاب الفيدا الهندوسي رغم وجود ملايين المؤمنين به، وتعرضت التوراة للتحريف رغم وجود ملايين المؤمنين بها، وطالت يد العبث الإنجيل رغم وجود ملايين المؤمنين به، ولقد حرّفت كُتب زرادشت رغم وجود الملايين الملايين من أتباعه؛ ولكن شخصا - لم يكن معه إلا ثمانون أو تسعون شخصا، وفي بلد لم يكن فيه أية وسائل لحفظ كتابه إذ لم يكن به مكتبات ولا رواج للتعليم أعلن أن كتابه سيظل محفوظا وباقيا إلى يوم القيامة، ولن تقدر الدنيا - من على تغيير أي حركة فيه.لو كان أهل مكة يقرؤون ويكتبون لقيل لعل محمدا قام بهذا الإعلان نظرًا إلى كفاءة أتباعه العلمية، ولكن انظروا إلى عجائب قدرة الله تعالى؛ حيث ظهر الإسلام في قوم لم تَرُجُ بينهم الكتابة والقراءة، إذ لم يكن بين الصحابة الأوائل في مكة ممن يعرف القراءة والكتابة إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة على الأكثر ، ولم يتجاوز عدد جماعته كلها الثمانين أو التسعين، ورغم هذه الحالة الضعف أعلن الله تعالى لرسوله : سنقرئك القرآن فلا تنساه؟! فكأنما قال الله تعالى النبيه : أما الآخرون فلم نقرئهم قراءة خاصة، وأما أنت فقد تجلينا عليك بربوبيتنا العليا، فنعطيك درسًا أعلى لن تنساه..أي سيبقى الكتاب الذي أنزلناه عليك محفوظا إلى الأبد.ما أعظم هذه النبوءة وأقواها! ثم انظروا كيف هيا الله الوسائل والأسباب لحفظ القرآن الكريم، ليس حفظًا روحانيا فحسب، بل حفظا ظاهرا أيضا، وفيما يلي بيانها : الوسيلة الأولى : إن أول الأسباب التي هيأها الله لحفظ القرآن الكريم هو وقوع الاختلاف بين المسلمين بعد وفاته له فورًا.فلو ظلّ حزب موحد على الناس فكان هناك خطر أن يضعف إيمانه في وقت من الأوقات، فيُخرج من القرآن الكريم الآيات التي تعارض أهواءه؛ ولكن بعيد وفاة النبي ﷺ فكر الأنصار أنهم أولى بالخلافة، بينما رأى المهاجرون أنهم أحقُّ بها، وهكذا وقع بين المسلمين منهم حاكما

Page 561

الجزء الثامن ٥٦٠ سورة الأعلى اختلاف وخصام مما جعل بعضهم رقيبًا شديدًا على بعض.ترون كم بيننا وبين الأحمديين غير المبايعين من اختلاف اليوم.لا شك أنه أمر مؤلم، ولكنه جعل كلا الفريقين يراقب بعضه بعضا وكلما حصل منهم خطأً تصدينا لهم وقلنا: كلا، بل إن المسيح الموعود الله قد كتب خلاف ما تقولون كذلك كان الله تعالى قد جعل بين المسلمين نوعًا من الرقابة بعد وفاة الرسول ﷺ فورا، مما جعل كلا الفريقين منهم رقيبا على تصرُّفات الآخر ، فلم يجرؤ حتى أضعف المسلمين إيمانًا على أن يُحدث في القرآن الكريم أدنى تحريف.ثم جعل الله تعالى الشيعة والسنة يختلفون في زمن الصحابة.ثم ظهرت طائفة الخوارج.علما أن المسلمين تفرقوا إلى شيعة وسنة في آخر خلافة عثمان ، وكان عبد الله بن سبأ الذي قد أحدث فتنة كبرى في الإسلام في عهد عثمان متأثرا بالأفكار الشيعية.إذن قد بدأ النزاع بين السنة والشيعة بعد وفاة النبي ﷺ ضي عنه بأربع وعشرين سنة، حين كان الآلاف من الصحابة لا يزالون أحياء، ثم ظهرت فتنة الخوارج بعد وفاته بحوالي ٣٢ سنة.وهذه الفرق الثلاث كلها كانت تؤمن بالقرآن الكريم؛ وهكذا أصبحت بعضها رقيبة على بعض مما كان وسيلة عظيمة لحفظ القرآن الكريم حفظا ظاهراً.بالإضافة إلى ذلك جعل الشيعة يعتقدون أن جزءا من القرآن الكريم كان في حوزة عليه ، ولكنه لم يُظهره للناس، وأنه الآن مع الإمام الغائب، الذي سيأتي به عند ظهوره في العالم.أليس غريبا أن يهاجم الشيعة القرآن الكريم قائلين إن عشرة أجزاء منه موجودة عند الإمام الغائب، ومع ذلك يعترفون أنه لم يُنقص المصحف الموجود أية آية بل إن كل لفظ منه هو هو كما نزل على الرسول ﷺ من عند الله تعالى.من أما قول الشيعة إن عشرة أجزاء من القرآن الكريم مفقودة، فجوابه أن الأمر لو كان كما يظنون لما كان القرآن كتابا كاملا من حيث الأحكام الشرعية، بل لا بد أن يفتقر إلى أحكام كثيرة، فتكون بعض المسائل الدينية فيه ناقصة، وتكون بعض القضايا المدنية بدون حلّ، وتعوزه بعض الأحكام المتعلقة بالعبادات، لأن "الأجزاء

Page 562

الجزء الثامن 071 سورة الأعلى العشرة المفقودة منه لا بد أن تكون محتوية على بعض أحكام الدين؛ فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي تلك الأحكام المفقودة من القرآن الكريم؟ فإن ما نراه على صعيد الواقع أنه ما من تعليم ديني إلا وذكره الله تعالى في القرآن، وما من قضية مدنية إلا ويقدم القرآن حلا لها، وما من حُكم يتعلق بالعبادات إلا وهو مذكور فيه، مما يدل على كونه متكامل كل الكمال ولا يوجد فيه أدنى نقص من حيث تعاليمه وأحكامه وأوامره ونواهيه فثبت أن القول بفقدان عشرة من أجزائه باطل تمامًا، إذ لو كانت مفقودة لوجد فيه نقص فيما بينه من أحكام الشرع وقضايا الدين، ولكنا لا نرى فيه أي شيء كهذا، كما ليس بوسع الشيعة إثبات أي نقص فيه.وما داموا يشهدون على كمال المصحف الحالي ولا يستطيعون إثبات أي نقصان فيه، فقد بطلت دعواهم تلقائيا.28 باختصار، لقد دبّر الله لحفظ القرآن ظاهرًا أنْ جعَل المسلمين يختلفون فيما بينهم بعد وفاة الرسول ﷺ فورا ، فأصبح فريقٌ رقيبا على الآخر، ولم يستطع أي منهما التلاعب بالقرآن الكريم.والوسيلة الثانية.قد هيّأ الله للقرآن الكريم كثيرًا من الحفاظ والقراء بما لم يسبق له مثيل في تاريخ الأديان كلها.إن القرآن ليس أوّلَ كتاب سماوي نزل إلى الدنيا، إذ نزلت قبله كتب سماوية عديدة، ومع ذلك لم يُقدَّر لأي منها أن يحفظه المؤمنون به، أما القرآن الكريم فيوجد اليوم مئات الآلاف من حفظته، فيستطيعون قراءة كل حرف ولفظ منه من بدايته حتى نهايته عن ظهر قلب.خلال زيارتي لإنجلترا عام ١٩٢٤ قال لي البعض: لقد مضى على نزول القرآن ثلاثة عشر قرنًا، ثم لم يكن عند نزوله رواج للكتابة، فلا يمكن الجزم أن هذا القرآن الذي هو بين أيدينا هو نفس ما عُرض على الناس قبل ١٤ قرنا.وكان وكان عمر عمر ابني ناصر حفظ القرآن، فقلت للمعترض: لا شك أنه ختم أحمد عندها ١٥ سنة وكان قد يكن للكتابة رواج عند نزول القرآن الكريم ، ولكن كان عندها حفاظ يحفظونه عن ظهر قلب، فكان ينتقل من صدر إلى صدر جيلا بعد جيل.فقال: ومَن يقدر على حفظ هذا الكتاب الضخم؟ قلتُ: كان العرب شهيرين في الدنيا بقوة ذاكرتهم؛ إذ

Page 563

الجزء الثامن ٥٦٢ و سورة الأعلى كان أحدهم يحفظ مئات الآلاف من الأبيات، فلم يكن حفظ القرآن صعبًا عليهم.ودَعْك من العرب، فإن ابني البالغ الخامسة عشرة من عمره أيضا يحفظ القرآن كله.فاحتار الرجل وقال : كيف تمكن من حفظ هذا الكتاب الضخم؟ قلت: لدينا رواج عام لحفظ القرآن الكريم، حيث يحفظه الآباء أولادهم من فرط حبهم له مؤمنين بأن هذا مدعاة لرضى الله تعالى والأوروبيون محرومون من هذه النعمة، فليس بوسعهم أن يفهموا كيف يحفظ أحد هذا الكتاب الضخم؟ إن رواج حفظ القرآن بين المسلمين كان كبيرًا حتى استشهد في زمن النبي ل سبعون حافظًا في غزوة واحدة.وقد قال المسيح الموعود الله أنه كان في بلاط جده ميرزا كُل حافظ للقرآن الكريم مما يعني أن كثيرًا من الجنود والحرفيين عنده كانوا للقرآن الكريم.لا شك أن المسلمين في هذا العصر يمرون بفترة ضعف وانحطاط شديدين، ومع محمد خمسمئة الحفاظ.ذلك تجد في الهند وحدها مئات الآلاف من حفاظًا فالوسيلة الثانية التي اتخذها الله لحفظ القرآن هي كثرة القراء والحفاظ، وهذا ليس بمقدرة أي إنسان، بل الله تعالى وحده من جعل الناس يرغبون في حفظه، فحفظ في صدور مئات الآلاف لفظا لفظا بل حركة حركة.والوسيلة الثالثة: اعلم أن من الكلام ما يُحفَظ بسهولة، ومنها ما ليس كذلك؛ وقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم بعبارة تبدو كالشعر وهي ليست بشعر بل هي أقرب إلى النثر، وحفظها سهل جدا.خذ أيا من الأولاد وضع بيده صفحة فيها عبارة بلغة أردية، وصفحة فيها آيات من القرآن الكريم، وقل له أن يحفظهما، فستجد أنه سيحفظ القرآن بسرعة، ولكنه سيجد حفظ العبارة الأردية صعبًا جدا؛ ولو طلبت منه بعد مضي وقت قراءة ما حفظه مرة أخرى، لوجدت أنه لن يستطيع أن يعيد لك سطرًا واحدًا من العبارة الأردية، ولكنه سيقرأ عليك ما حفظه من القرآن بشكل جيد.فالله تعالى قد صاغ هذا الكلام صياغة سهل بها حفظه كثيرًا.لقد قرأتُ قبل أيام لكاتب أوروبي قوله إن الكتاب الأوروبيين يخطئون في ترجمة القرآن لأنهم لا يدركون أسلوبه وبالتالي لا يراعونه عند الترجمة.إن أسلوب عبارة القرآن رائع جدا، فلا هو شعر ولا نثر، بل هو شيء مختلف تماما؛ ولأن هؤلاء لا

Page 564

الجزء الثامن ٥٦٣ سورة الأعلى يفهمون أسلوبه ،هذا فيتعثرون في بيان ترجمة معانيه ثم يقول هذا الكاتب إن الذي يحاول فهم نص القرآن واستنباط المعاني من ترجمته ،هذه مثله كمثل شخص يحوّل جمل كتاب المزامير إلى نثر، ثم يحاول فهم معانيه من هذه الترجمة المنثورة.ذلك أن أسلوب المزامير كأسلوب شعر، فيقول هذا الكاتب لو تُرجم المزامير نثراً فلن يفهم هذه الترجمة فحوى المزامير ، كذلك فقد صيغ القرآن بعبارة رائعة بحيث لو أحد من ترجم إلى النثر البحت لم يُدرك عقل الإنسان من هذه الترجمة النثرية معانيه الدقيقة.خلاصة القول لقد صاغ الله تعالى القرآن الكريم صياغة جعلته أسهل للحفظ أي كلام آخر.إنه ليس بنثر ولا بشعر، بل شيء مختلف يساعد على حفظه خاص.من بوجه حفظًا الوسيلة الرابعة ومن الوسائل التي ساعدت على حفظ القرآن الكريم ظاهرا انتشارُ علم الكتابة والقلم بين المسلمين بكثرة بما لا مثيل له في الأمم السابقة.فبمجرد أن ظهر النبي حتى صار للقلم رواج بين المسلمين بما لا نظير له في تاريخ العالم.ولم ينصرم قرن ونصف فقط على وفاة النبي حتى انتشرت الكتب انتشارا كبيرا حتى وُجدت في بعض المدن ۲۰۰ مكتبة وفي كل واحدة منها ٦٠٠ ألف كتاب.يقول الأوروبيون اليوم إن الانتشار الحالي للكتب راجع إلى اختراع المطابع ولكن السؤال هنا: كيف راجت الكتب بين المسلمين بهذه الكثرة قبل اختراع المطابع؟ لا جرم أن ذلك كان تحقيقًا للنبوءة القرآنية الواردة في قوله تعالى (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: ٥-٦).عندما كان ﴾ المسلم يتعلم الكتابة فإن أول ما يكتبه هو القرآن الكريم تبركا به.كان الملك المغولي "أورنغزيب" يكتب شيئا من القرآن الكريم تبركا كل يوم.باختصار، قد راجت الكتابة بين المسلمين رواجًا كبيرًا حتى كُتبت كل كلمة من القرآن ملايين المرات، وهكذا نشره الله تعالى في مختلف البلاد والأمصار.رب قائل يقول : إن تدوين القرآن قد تم بعد فترة طويلة، وليس في البداية! وأود أن أوضح هنا أن هذه الشبهة باطلة، إذ كان عند المسلمين الأوائل رواج كبير لكتابة القرآن الكريم، حتى ورد في التاريخ أنه عندما نشبت الحرب بين علي

Page 565

الجزء الثامن ٥٦٤ سورة الأعلى ومعاوية - رضي الله عنهما - جاء أصحاب معاوية في أثناء القتال معلقين مصحف على رماحهم قائلين: نحن نحكّم القرآن للفصل بيننا، فتعالوا نحتكم إليه و نرضى بقراره فانخدع بعض الأغبياء من جنود عليه وتمردوا عليه قائلين: ما دام هؤلاء يحكمون القرآن الكريم فيما بيننا فلماذا نحاربهم؟ نحن لا يهمنا هنا مآل هذا الحادث، إلا أنه يكشف لنا بجلاء أن المسلمين كانوا يكتبون القرآن بكثرة منذ البداية، إذ وُجد في جيش معاوية وحده ٥٠٠ مصحف على الأقل، مع أن عدد المقاتلين في الجيشين لم يكن أكثر من عدة آلاف.مما يؤكد عدة آلاف.مما يؤكد أن آلافا من نسخ القرآن الكريم كانت موجودة يقينًا حتى ذلك الوقت على الأقل، وكان المسلمون يحتفظون بها في السفر والحضر.إذن، فكانت الكتابة إحدى الوسائل التي حفظ الله بها القرآن الكريم حفظا ظاهرا.الوسيلة الخامسة : هي انتشار الإسلام منذ البداية في شتى البلاد، وصل الإسلام في حياة الصحابة لله إلى الشام والعراق وفلسطين وأنطاكية وإيران ومصر وشتى المناطق الإفريقية، حتى وصل الصحابة إلى الصين والهند وأشاعوا فيهما الإسلام.توجد في منطقة السند – التي تقع فيها ضياعنا – قرية اسمها "ديه صابو"..أي قرية الصحابة.وفيها قبر يقال إنه قبر صحابي، ويشهد التاريخ أيضًا أن بعض صحابة الرسول ﷺ قد وصلوا ا الهند ،فعلا، مما يؤكد ما شاع عن هذا القبر أنه قبر صحابي.ورغم أننا لا نملك شواهد قطعية على هذه الروايات إلا أنها مهما ضعفت - تُروى منذ الزمن القديم، وتؤكد أن الصحابة قد خرجوا منذ أوائل الإسلام من الجزيرة إلى الأقطار الأخرى ونشروا فيها الإسلام وكانوا يحملون معهم نسخ القرآن الكريم، وهكذا نشر الله تعالى في فترة وجيزة آلاف النسخ منه في شتى أنحاء العالم، فحفظته شتى الشعوب.فهذه إحدى الوسائل التي اختارها الله تعالى لحفظ القرآن حفظًا ظاهرا.الوسيلة السادسة: لقد انتشرت اللغة العربية في مختلف البلاد والأقطار منذ صدر الإسلام، مما ساعد سكانها على فهم القرآن مباشرة بدون اللجوء إلى ترجمته.ولو فرضنا جدلاً- أن عرب الحجاز أرادوا تحريف القرآن الكريم لمصلحة ما، لما تجاسروا عليه وما استطاعوه، لأن أهل فلسطين والعراق والشام ومصر وغيرها من

Page 566

الجزء الثامن ٥٦٥ سورة الأعلى البلاد كانوا يراقبونهم إذن، فبانتشار اللغة العربية في مختلف البلاد أصبحت مختلف الشعوب مسؤولة عن حفظ القرآن الكريم، فحالوا دون تسرب أي تحريف إليه.وهذه الوسائل الست لم تتيسر لصحيفة أيّ أُمة من أمم العالم، إنما جعلها الله تعالى من نصيب القرآن الكريم فقط.إذا فقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى جَاءَ ردًّا على الذين يقولون كيف نصدّق كون القرآن هو القول الفصل؟ و لم لا نقول إنه كتاب كامل ولكن بشكل مؤقت، وسيحل محله کتاب آخر في المستقبل؟ يقول الله تعالى لا يمكن أن يأتي بعده كتاب آخر؛ فإن وعدنا بحفظه، ثم إيجادنا شتى الوسائل لحفظه لدليل قاطع أننا نريد بقاء هذا الكتاب إلى يوم القيامة.الواقع أنه لو أراد الله تعالى إلغاء هذا الكتاب كالصحف السابقة، لتركه يتعرض للعبث والتحريف والفساد ولم يهيئ لحفظه الأسباب، ولكنه تعالى لم يدعه يفسد، لأنه كتاب ذو نفع أبدي، والشيء الذي فيه منافع أبدية لا يفنى بحسب القانون الرباني المذكور في قول الله تعالى ﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (الرعد: ١٨)..أي أن الأشياء النافعة تبقى في الأرض بحسب سنة الله المستمرة.وحيث إن القرآن قد حفظ بوجه خاص، فهذا دليل أنه نزل ليبقى في الدنيا، ولن يصبح منسوخا أو غير صالح للعمل أبدًا.وبقي سؤال آخر: إذا كان هذا الكتاب سيبقى للأبد، فما الحاجة لبعثة مبعوث بعده؟ وقد أجاب الله عليه في الآيات التالية.إلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَحْفَى (٤) التفسير: قام المفسرون بتفسير هذه الآية بغير المعنى الذي ذكرته، فواجهوا مشكلة كبيرة، حيث حيّرهم قوله تعالى إلا مَا شَاءَ اللهُ ، فهل المراد منه أن بعض القرآن سوف يُنسى ويُمحى؟ وقد أتوا بأقوال لحلّ هذه المشكلة، فقال بعضهم أن قوله تعالى إلا مَا شَاءَ اللهُ إشارة إلى الآيات المنسوخة من القرآن الكريم.(البحر المحيط تفسير سورة الأعلى)

Page 567

الجزء الثامن ٥٦٦ سورة الأعلى ولكنه كلام غير سليم، لأن الآيات التي يعتبرونها منسوخة لا تزال موجودة في المصحف، أما الآيات التي يعتبرونها منسوخة التلاوة فهي موجودة في التفاسير حتى اليوم؛ بينما قال الله تعالى هنا فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللهُ..أي أن الآيات التي يريد الله لها أن تُنسى ستصبح نسيا منسيا؛ وما دامت الآيات المنسوخة في زعمهم موجودة في المصحف أو في التفاسير فكيف يقال إنها قد نُسيت؟ علما أننا لا نؤمن بنسخ أي آية من القرآن الكريم، إنما عقيدتنا أن كل لفظ من القرآن صالح للعمل به، فما قلته الآن إنما قلته بالنظر إلى عقيدة القائلين بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، مؤكدًا أن استدلالهم غير صحيح، لأن الله تعالى قال أولاً فَلا تَنْسَى، ثم أعقبه بقوله إلا مَا شَاءَ الله، والنسخ ليس هو النسيان أولاً، وثانيًا ما دامت كل "الآيات" "المنسوخة لا تزال في القرآن الكريم أو التفاسير، فكيف يقال أنها نُسيت؟ إن الواقع يكشف أن كلها موجودة كما هي، ولم ينسها أحد، فكيف يستقيم هذا المعنى؟ بينما قال البعض إن قوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللهُ يعني ستنسى القرآن على سبيل الشاذ والنادر القليل ما شذ وندر، ولكنا سنذكرك به.(البحر المحيط، تفسير سورة الأعلى) وهذا المعنى أيضًا لا يستقيم، لأن النسيان نادرًا وشاذا أيضا نوع من النسيان، وإذا كان النبي سيذكره فيما بعد فلا يُعتبر نسيانا.ثم لما كان القرآن الكريم يُقرأ على الجميع ويُكتب فور نزوله، فكيف يمكن أن يُنسى جزء منه ولو على سبيل الشاذ والنادر؟ أنك وقال البعض إن الأصل: فلا تنس فالجملة فهي لا نفي.(البحر المحيط، تفسير سورة الأعلى) ولكن هذا التأويل بعيد عن أساليب العربية.وقال البعض إن (إلا) هنا بمعنى النفي، لأن العرب تعني النفي أحيانا باستعمال لفظ القلة كقولهم إلا قليلا..أي لا، قطعا.فالمعنى أنك لا تنسى إطلاقا.(الكشاف، تفسير سورة الأعلى)

Page 568

الجزء الثامن ٥٦٧ سورة الأعلى ولكن هذا التأويل باطل، لأن (إلا) تأتي بمعنى النفي إذا كان بعدها لفظ يدل على القلة.ولكن الله تعالى قد ذكر هنا بعد إلا موضوع مشيئته، لا أي لفظ يدل على القلة.أما الزمخشري فقال إن قوله تعالى ﴿فَلا تَنْسَى ) إلا مَا شَاءَ اللهُ ليس فيه أي استثناء، وإنما هو نفي تام للنسيان، ومثاله قولك لصاحبك: "أنت سهيمي (أي مشاركي) فيما أملك إلا ما شاء الله"..إذ ليس هنا أي استثناء، كذلك ليس في قوله تعالى ﴿فَلا تَنْسَى ) إلا مَا شَاءَ اللهُ أي استثناء.(الكشاف، تفسير سورة الأعلى) عن كلمات ولكن العلامة أبا حيان صاحب "البحر المحيط" الذي هو من كبار علماء الصرف والنحو قد انتقد قول الزمخشري هذا واعتبره غلطا فقال: لا يصح أن يقال وردت في وحي الله تعالى أن لا مفهوم لها ولا معنى.فهذا لا يقال عن كلام أي من الفصحاء البلغاء، فما بالك بوحي الله تعالى؟ لو كانت جملة إلا ما شَاءَ اللهُ كلام إنسان فيمكن القول إنه يريد الإقرار بعجزه وضعفه أمام عظمة الله وقوته وغناه، أي أنه كذلك، لكنه لا يضمن لأنه لا يعرف مشيئة الله، ولكن الله تعالى نفسه يقول هنا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، فهذا وحي الله تعالى لا كلام البشر...فكيف يقال عنه أنه لا معنى له وأنه بيان لغنى الله تعالى؟ فهل الله الله أيضا يعبر عن عجزه كما يفعل البشر بمثل هذه الكلمات؟ ينوي ویری صاحب "البحر المحيط" أن الإشارة هنا إلى الآيات المنسوخة.كما قال أيضا أنه قد يراد بها النسيان الذي كان يصدر أحيانا من الرسول الحكمة ربانية لكي تظهر أسوته ل للأمة في مختلف القضايا والأحكام.باختصار، لقد حاول المفسرون تفسير هذه الآية بأقوال مختلفة، ولكنها كلها باطلة كما بينتُ، وقد رفض بعضهم قول بعض.يجب أن تفسر هذه العبارة بما ينسجم مع السياق ويتفق مع عظمة القرآن وسمو شأنه.الواقع أن النسيان ،نوعان نسيان اللفظ ونسيان المضمون، لأن نسيان شيء له مفهومان أولهما نسيان ظاهر ذلك الشيء، أي نسيان الكلمات المحفوظة، أو

Page 569

الجزء الثامن نسيته..очл سورة الأعلى الصورة التي كانت مستحضرة في الذهن؛ وثانيهما نسيان حقيقة ذلك الشيء ومضمونه.فمثلا يحفظ الإنسان بيت شعر فينساه بعد فترة فإذا سئل عنه قال: قد يعني أنه نسي كلمات ذلك الشعر، ولكن أحيانًا يكون هناك بيت شعر ذو معنى تافه ويكون محفوظا في ذاكرة المرء، ولكن إذا سألته ما إذا كان يحفظه قال: قد نسيته؛ ولا يعنى بذلك أنه قد نسي كلماته، بل يعني أن لا يعنيه مضمونه، وأنه قد تناساه.وأحيانًا يسأل المرء صاحبه عن حال صديق له، فيجيب قد نسيته؛ نسي صورته أو اسمه إذ إن صاحبه يذكر اسمه، وصورته مستحضرة ذلك أنه يعني في ذاكرته - وإنما يعني أنه لم يعد على صلة معه الآن.فثبت من هنا أن النسيان لا يعني ولا نسيان الكلمات فقط، بل يعني نسيان الحقيقة والمضمون.وهناك مثال على ذلك في القرآن حيث يقول الله تعالى عن آدم العلمية وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (طه: ١١٦)..فالتأكيد على نسيانه وعلى عدم عزيمته إنما يعني أنه لم يفعل ما فعل بقصد، وليس المراد أنه فاته حُكْم الله، إذ الثابت من آيات أخرى أنه لم يكن قد نسيه، بل كان يذكره جيدا، بل يخبر القرآن أن الشيطان نفسه قد ذكره بحكم الله هذا، حيث ورد أنه جاء إلى آدم وأغواه بقوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْن أَوْ تَكُونَا منَ الْخَالِدِينَ.وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)) (الأعراف: ۲۱-۲۲).فترى هنا أن الشيطان جاء لآدم وذكره بما أمره الله به، له أنه لا ضرر لو خالفت أمر الله تعالى من أجل أن تكون ملكًا وتنال حياة الخلود، بل هذا خير لك في نهاية المطاف.وحلف له أن كلا الأمرين في صالحك ؛ لأن الله تعالى لم يَنْهَك عن ذلك إلا ابتلاء وامتحانا، فلو صرت مقربًا إلى الله، ولو نلت حياة الخلود فهو خير لك، لأنك تزداد ذكرًا لله وقربا منه وحبًا له على الدوام.فلم ينهك الله إلا مؤقتا ليختبرك ، وليس نهيًا أبدا.كل هذا يكشف أن آدم العلا لم ينس أمر الله تعالى، وليس هذا فحسب بل عندما أراد مخالفة أمره تعالى ذكره الشيطان بذلك حالفًا مُوَسوسًا له أن لا يخاف من مخالفة أمره تعالى إذ ليس هناك نعمة أفضل من أن يكون ملكًا وينال حياة الخلود، ويحظى بقرب الله ولكنه وسوس

Page 570

الجزء الثامن 079 سورة الأعلى تعالى الذي هو غاية خلق الإنسان؟ وما دامت غاية خلق الإنسان هي الفوز بقرب الله تعالى، فثبت أن هذا النهى كان مؤقتًا وليس أبديا هذا ما قاله الشيطان لآدم، وبعد سرد هذا الحادث يقول الله تعالى فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا...مع أن كلمات الآية نفسها تؤكد أن آدم لم ينسَ أمر الله فثبت أن النسيان هنا لا يعني نسیان كلمات الحكم الإلهي، بل نسيان أهميته، حيث غض آدم الطرف عن مضمون النهي الإلهي.والاستثناء في قوله تعالى سَنُقْرتُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللهُ يشير إلى أنه النوع الثاني من النسيان.ولما لم يكن الخطاب موجهًا إلى الرسول ، بل إلى أمته كما بينتُ من قبل، فالمراد أن أمتك لا تنساه إلا ما شاء الله أن تنساه، بمعنى سيأتي على المسلمين زمان يحفظون فيه القرآن لفظًا ولكن ينسونه مضمونًا..سيحافظون على كلمات القرآن ولكن ينسون روحها مثلما فعل آدم العلة.وإلى هذا المعنى نفسه قد أشار الرسول الله بقوله : "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا يبقى من القرآن إلا رسمه" (شعب الإيمان للبيهقي)..أي سيأتي على المسلمين زمان لا يبقى بينهم من القرآن إلا كلماته، أما روح الإيمان والإسلام فلن يبقى فيهم.وهذا ما ذكره الله تعالى هنا في الاستثناء المذكور في قوله إلا مَا شَاءَ اللَّهُ، فأخبر أنكم أيها المسلمون لن تنسوا القرآن من ناحية، وستنسونه من ناحية أخرى؛ ولا يعني ذلك أن سورة الأعراف -مثلا- لن تندثر من القرآن بينما تندثر سورة المائدة منه، وأن سورة الكوثر لن تنمحي منه، بينما تنمحي سورة الناس منه، بل المراد أن كلمات القرآن لن تنمحي، ولكن مضمونه سيختفي من بين المسلمين.إذا، فهذا الاستثناء لا يتعلق بكلمات القرآن الكريم وحفظه الظاهري، إنما بحفظه المعنوي، وهكذا قد ردّ الله على اعتراض البعض أن القرآن إذا كان هو القول الفصل فما الداعي لبعثة مأمور بعده؟ فأخبر الله أن وعده بحفظ نص القرآن الكريم دائما بلا فاصل أما وعده بحفظ فحوى القرآن ومضمونه فسيتم إلى يوم القيامة ولكن بفاصل.فعندما يرى الله تعالى أن الناس صاروا غير صالحين سيرتفعُ سيتم

Page 571

الجزء الثامن و ۵۷۰ سورة الأعلى مضمون القرآن ولبه من بينهم، فتمس الحاجة إلى أن يبعث الله تعالى مأمورًا من عنده لينزل بلب القرآن ثانية.أما قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَحْفَى فقد بين الله تعالى فيه سبب اختفاء لُبِّ القرآن وروحه من الدنيا في وقت من الأوقات، فلا يبقى عند الناس إلا كلماته فقط، فأخبر أنه تعالى أعلم بحالة ظاهر الناس وبما في صدورهم، فطالما ظل المسلمون صالحين في ظاهرهم وباطنهم ظل القرآن محفوظا في ظاهره وباطنه أيضا، وإذا صاروا مسلمين في الظاهر فقط، وفسد ،باطنهم فسيحفظ الله القرآن في ظاهره فقط، وسيختفي باطنه ولبه من بينهم إن الله تعالى يعلم الظاهر والباطن، فحين تخلو قلوب المسلمين من الإيمان، فلماذا يفتح الله عليهم معارف القرآن؟ القرآن نور، والنور لا ينكشف إلا على النورانيين، فمن المحال أن يطلع على معارفه من فسدت أعمالهم وخلت قلوبهم من الإيمان.إذن فقوله تعالى إلا مَا شَاءَ اللهُ حالة المسلمين في الزمن الأخير، يرسم حيث أخبر الله تعالى أنه سيأتي عليهم زمان يحفظون فيه كلمات القرآن وينسون العمل به، وليس المراد أنهم ينسون الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مثلا، بل المراد أنهم سيقولون الحمد الله بلسانهم، بينما تكون قلوبهم خالية من حمد الله تماما.سيردّدون كلمة الرب بلسانهم، ولكن قلوبهم ستخلو من الإيمان الكامل بربوبية الله.سيكونون مسلمين في الظاهر، لذلك سيبقى القرآن محفوظا بينهم في الظاهر فقط، ويفقدون الإسلام في الباطن، لذلك يرتفع لُبُّ القرآن من بينهم.باختصار، لقد بين الله تعالى هنا أن وعده بحفظ القرآن نوعان: وعد بحفظ لفظه ووعد بحفظ فحواه.ووعده بحفظ لفظه سيتحقق بدون فاصل ولا انقطاع، فلن يأتي زمان يتطرق فيه التحريف إلى كلمات القرآن الكريم، أما وعده تعالى بحفظ فحوى القرآن فلن يتم بتواصل دون انقطاع.لا شك أنه تعالى سيحفظ مضمون القرآن إلى يوم القيامة، ولكن على فترات وليس ،بالتواصل، فكلما فسدت الأمة بعث نبيا عنده، وإذا فسدت مرة أخرى بعث نبيا آخر.من

Page 572

الجزء الثامن ۵۷۱ سورة الأعلى إذا فقد تناولت هذه الآية الرد المفصل على الاعتراض الذي أُثير من قبل وهو: ما الحاجة إلى الوحي أو بعثة مأمور بعد نزول "القول الفصل"؟ فبين الله تعالى أن شريعة القرآن ستظل محفوظة في ظاهرها إلى الأبد فلا حاجة لإنزال أي كتاب بعده، ولكن الفساد يتطرق إلى باطن هذا الكتاب فلا بد من بعثة أنبياء ومأمورين من عند الله تعالى يكشفون للناس بتأييده معاني القرآن ومعارفه، ويذكرونهم بما نسوه، ويقومون بحفظه معنويًا.لو لم يتطرق الفساد إلى المسلمين، لما كان هناك داع لبعثة أي مأمور ولكن فسادهم مقدّر بعد مرور فترة من الزمان، حيث تنمحي حقيقة الإسلام من بين الناس فلن يكونوا مسلمين إلا بالاسم وسينسبون أنفسهم إلى القرآن، ولكن يرتفع لُبُّ القرآن من بينهم، وتسوء حالتهم جدا، فتمس الحاجة إلى بعثة مأمور من عند الله تعالى، ليُحيي الإسلام ويُقيم القرآن في الدنيا مرة أخرى.فقط شرح الكلمات: وَنُيَسِرُكَ لِلْيُسْرَى ) نيسرك : يسَّر الشيء لفلان: سهله له ودفعه له، يكون في الخير والشر (الأقرب)..أي يمكن أن يقال : يسره للعُسرى ويسره لليسرى.اليُسرى السهل.(المفردات) التدابير التي اتخذناها لحفظ من التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا رسوله أن دينك أو إقامته إلى يوم القيامة أننا قد جعلنا فيه يسرًا، أي أمرنا بالأسهل من أحكام الشرع.وهذا دليل آخر قد أورده الله تعالى في سياق الموضوع السابق أعني حفظ القرآن على الدوام؛ إذ من الأسباب العديدة التي هيأها الله تعالى لحفظ القرآن ظاهرًا أنه قد راعى في تعاليمه كل طبيعة بشرية وفطرة إنسانية، فصارت صالحة ناجعة لأهل كل عصر.إذا لم يعمل الناس بالقرآن فهذا شأنهم، وإلا فليس فيه حكم أُهمل فيه جانب من جوانب الفطرة الإنسانية، أو يشق عليها العمل به

Page 573

الجزء الثامن ۵۷۲ سورة الأعلى حقيقةً.كلا بل إن جميع أحكام القرآن ملائمة لفطرة الناس أجمعين، كما قد قدمت فيه تسهيلات لصاحب كل طبيعة بحيث يسهل عليه العمل بها.فمن هذه اليسرى مثلاً أن الله تعالى أمرنا بأداء الصلاة قيامًا، ولكنه سمح لنا بأدائها جالسين تارة ومستلقين تارة أخرى، وبالإشارة أيضًا؛ ولو أمرنا بأدائها قيامًا فقط، لم يستطع المريض ولا المعاق العمل بهذا الحكم، وصار من الآثمين.فجعل الله تعالى أحكام الإسلام مرنة بالنظر إلى كل وضع وطبيعة، بحيث ليس بوسع إنسان القول إنه لا يستطيع العمل بكذا وكذا من أحكام الإسلام خُذوا مثلا الجهاد في سبيل الله، فقد حث الله عليه كثيرًا، ولكنه قال أيضا ليس على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على المعاق حرج ما داموا يكنون للإسلام حبًّا ولوعة، ويتمنون لو كانوا قادرين على الجهاد هؤلاء سيعتبرهم الله تعالى من المجاهدين في سبيله.باختصار، يقول الله تعالى سنأخذك أو نقربك إلى يسرى أي إلى التعاليم السهلة.وهذه اليسرى هي القرآن نفسه، سواء من حيث كونه سهلا للحفظ، أو من حيث کونه سهلا للعمل به.هنا ينشأ سؤال لا بد من الإجابة عليه، وهو أن الإسلام يأمر بأداء الصلاة خمس مرات يوميا، بينما أمر المسيحيون بالعبادة بعض الوقت مرة في الأسبوع؛ فأيهما أيسَرُ تعليمًا، الإسلام أم المسيحية؟ فليكن معلومًا أن من معاني اليسرى ما يسر الإنسان ويُفرحه روحانيا وإنْ كلّفه العناء المادي.فيقال عندنا مثلاً: الموت أيسر لي من ترك فلان.والحق الموت ليس أسهل من ترك صديق، لأن غمرات الموت شديدة على جسم الإنسان، ومع ذلك نردد هذه المقولة كثيرًا، مما يعني أن فلانًا أحبُّ إلي من حياتي.فمما لا شك فيه أن الإسلام قد أمرنا بأداء الصلاة خمس مرات يوميا، إلا أن فيها منفعة عظيمة لنا، فمن الأسهل جدًا على المؤمن أن يؤديها خمس مرات يوميًا بدلا من العبادة القصيرة مرة أسبوعيا، إن في الاقتصار على صلاة واحدة في الأسبوع حرمانا من قرب الله، أما الصلوات الخمس يوميا فيحظى صاحبها بمزيد من قرب الله.روحانية

Page 574

الجزء الثامن ۵۷۳ سورة الأعلى فكلمة "يسرى" لا تشير إلى السهولة المادية الظاهرية، بل إلى السهولة باعتبار المنافع الروحانية..أي حينما يرى الإنسان المنافع الروحانية يسهل عليه العمل جدا.ومن معاني قوله تعالى وَنُيَسِّرُكَ الْيُسْرَى أننا أعطيناك شريعة لا تحوي أحكامًا فحسب بل بينا حكَمَها ،أيضا، فلا يشقّ العمل بها على الناس، بل تبدو لهم جدَّ سهلة، فلا يريدون تركها.من الطبيعي أن الإنسان إذا علم حكمة حكم واتضح عليه فائدته قام به بشوق ورغبة، أما إذا لم يعلم الحكمة منه لم يعمل به رغبة منه.وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا أننا قد بينا حكمة كل حُكم في هذه الشريعة، فسَهُل على الناس العمل بها جدا.إذن، فلقوله تعالى وَنُيَسِّرُكَ الْيُسْرَى ثلاثة مفاهيم: أولها أننا قد جعلنا القرآن سهلاً للحفظ، وثانيها أننا قد بينا الحكمة من وراء أحكامه مما سهل على الناس العمل بها، وثالثها أننا قد جعلنا في أحكامه مرونة بما يتفق مع كل فطرة وطبيعة، إذ لم يقل الإسلام عن أي حكم من أحكامه إنه لا يمكن أن يتغير شكله بحسب الظروف المختلفة.فمثلا قد أوصانا الإسلام بالصلاة بكل تأكيد، ولكنه لو أُغمي على أحد فلا صلاة عليه، ولو جُنّ أحد فلا صلاة عليه وليس هذا فحسب بل سيكون في صلاة عند الله تعالى في فترة جنونه كلها، وسينال ثواب المصلي.باختصار، ليس هناك معضلة إلا وقد قدّم الإسلام حلا لها.لا شك أنه قد أمر بالحضور في المسجد للصلاة، ولكنه أوضح لنا أنه يجوز لكم أن تصلوا في البيت إذا لم يكن هناك مسجد، وأن تصلوا على قطعة من الأرض إذا لم يكن هناك مكان خاص للعبادة، وأن تتيمموا إذا لم تستطيعوا الوضوء.ثم إنه لم يضع أية شروط لإمام الصلاة غير التقوى.بينما نجد عند النصارى شروطًا عديدة من أجل العبادة القصيرة الأسبوعية، إذ لا بد لهم أن يذهبوا إلى الكنيسة ولا بد أن يؤمهم قسيس في العبادة، ولا بد أن يكون القسيس حائزًا على شهادة دينية معينة، وأن يلبس بدلة سوداء.فما علاقة البدلة السوداء بالعبادة يا ترى؟ وما علاقة الشهادة الدينية ذلك نرى فعليا أن المسيحية قد فرضت مثل هذه الشروط من أجل بالعبادة؟ ومع

Page 575

الجزء الثامن ٥٧٤ سورة الأعلى العبادة.وعلى النقيض كم سهّل الله علينا نحن المسلمين؛ إذ لم يضع علينا أي قيود ولا شروط كهذه من أجل العبادة، بل سمح لنا بعبادته في أي مكان.إذن، فرغم أن بعض أحكام القرآن الكريم تبدو صعبة في الظاهر، إلا أن الله تعالى قد جعلها سهلة للعمل بها ببيان حكمها، كما جعلها مرنة بحيث تتغير أشكالها عند الحاجة ويستطيع صاحب أي فطرة العمل بها بسهولة.وهذا أحد أسباب حفظ القرآن وإقامة الإسلام إلى يوم القيامة.شرح الكلمات: فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى ) ۱۰ الذكرى: الذكرى معناه النصيحة والنصحُ حيث ورد: الذكرى اسم للإذكار والتذكير.والذكرى هو الذكرُ باللسان أو بالقلب.(الأقرب) التفسير: أي لقد أعطيناك شرعًا كاملا أبديا محفوظا إلى يوم القيامة، فمن واجبك الآن أن تنصح الناس فإن النصح ينفعهم دومًا.هناك إشكال حول معنى هذه الآية، وهو أنَّ إن شرطية، وعليه فالآية تعني في الظاهر: عليك أن تعظ الناس إن كان الوعظ ينفعهم.وهنا يثار اعتراض: كيف يعرف الواعظ أن نصحه سيكون نافعًا، إذ لا يُعرف نفع النصح أو عدمه إلا بعد القيام به لا قبله؟ ودرءًا لهذا الإشكال قد فسر البعض هذه الآية كالآتي: عليك بون عظ الناس وإذا لم ترَ فائدة فكُفَّ عن وعظهم.(البحر المحيط، تفسير سورة الأعلى) ولا بد لنا لمعرفة مدى صحة هذا المعنى من أن ننظر إلى عمل الرسول ﷺ وسنته، فيما إذا كان يعظ الناس وينصحهم باستمرار، أم أنه كان يكف عن وعظهم إذا رأى أنه لا يجدي شيئا.هذه السورة مكية إذ نزلت في الفترة المبكرة من النبوة، ولكنا نرى أن الرسول ل لا ل بعد نزول هذه الآية يعظ أهل مكة وينصحهم ١٣ سنة على ﷺ ظل التوالي و لم يترك وعظهم يومًا واحدًا.إذا كان الله تعالى يأمر النبي هنا أن عليك

Page 576

الجزء الثامن OVO سورة الأعلى أن يا محمد أن تنصح ما دام النصح ناجعا ، ثم كفَّ عنه إذا لم تر عنه إذا لم تره نافعًا، فهذا يعني الرسول ﷺ لم يعمل بحكم الله هذا والعياذ بالله - إذ استمر في وعظهم مع أنه رأى أن نصحه لا يجدي شيئًا.ثم إننا نرى الرسول لم يدخر وسعا ليدخل اليهود في الإسلام، فظل يعظهم مرة تلو مرة وينصحهم مرة تلو أخرى، ولم يكفّ عن وعظهم بحجة أن وعظه لا يجديهم، فلا حاجة لبذل السعي في نصحهم.فثبت هنا أن قوله تعالى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى لا أبدًا أن عليك أن تعظ من يعني الإنسان مرة واحدة، ثم تكفّ عن الوعظ إذا رأيت أنه لا بنصحك، شأن ينتصح بعض العجائز عندنا إذا نصحن أحدًا ولم ينتصح قلن له: اذهب إلى الجحيم! كلا، بل كان عمل رسول الله الله على عكس ذلك، فلا مبرر لقبول هذا المعنى.لا شك أننا أُمرنا بترك مجالس المستهزئين بالدين، ولكن هذا ليس لأنهم لا يقبلون النصح، وإنما سببه أنهم يسخرون من الدين ويهتكون شعائر الله؛ أما الشرفاء فنحن مأمورون بتبليغهم باستمرار دونما انقطاع.وقد قال بعض المفسرين أن إن هنا شرطية، ولكنها جاءت توبيخا وزجرًا للمكذبين، أي لتُبين أن الكافرين متعنتون جدا، فلا يقبلون النصح إلا قليلا، مصرين على العناد.إذن، لم ترد إن هنا للمنع من النصيحة، بل لبيان تحجر من الله تعالى تُقدّم إليهم النصيحة وهذا المعنى مطابق لأساليب العربية ويزيل الإشكال أيضا.وقد قدّم بعض النحويين تأويلا آخر وهو أن إن هنا بمعنى (إذ)، كقوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران : ١٤٠)، فليس المراد هنا أنكم ستصبحون غالبين شريطة أن تكونوا مؤمنين، إذ قد سبق أن اعتبرهم مؤمنين، بل المراد : وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِذْ كنتم مؤمنين، أي حيث إنكم تؤمنون بالله ورسوله فكيف يمكن أن يغلبكم الكفار ؟ لقد أنعم الله عليكم بنعمة الإيمان، فأنتم الغالبون على الكافرين.كذلك يقول الله تعالى هنا: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَت الذِّكْرَى.أي حيث إن الذكرى تنفع حتمًا، فلا تكف يا محمد، عن تذكير الناس أبدا، بل ذكرهم ليل نهار، لأنه إذا لم تنشرح صدورهم اليوم فسوف تنشرح غدًا ويهتدون.

Page 577

الجزء الثامن ٥٧٦ سورة الأعلى إذن، فلم يَنْهَ الله تعالى هنا عن الوعظ إذا لم يُجد مرة أو مرتين، بل أمر بالاستمرار بالوعظ، لأنه يترك أثره على القلب يقينا.سَيَذْكُرُ مَنْ تَخشَى.التفسير: إن دراسة أحوال الإنسان تكشف أن حالة قلبه تتغير دائما، فتارة تستولي عليه الخشية وأخرى تتلاشى منه وحينما تكون خشية الله مستولية عليه ويكون خاضعًا لجلال الله ،وهيبته، فإن النصح العادي أيضًا يترك في قلبه وقعًا كبيرًا، وإلا فلا ينفعه أي نصح مهما كان رائعا وكل إنسان يمرّ بهذه التجربة في حياته، فأحيانًا يوعظ بأمر عشرات المرات ولكن بدون جدوى، وأحيانًا يوعظ بشيء مرة، فيتأثر به.فورا.وليس ذلك إلا لأن حالة قلب الإنسان تتغير دائما، فأحيانا تأتي عليه ساعة خشية الله، وأحيانا يخلو قلبه من خشيته.ولذلك أمر الله تعالى بالوعظ والنصح باستمرار مبينًا أنّ قلب الإنسان يمر بساعات من خشية الله، ولا يمكن أن يعلم الناصح متى تأتي على المستمع تلك الساعة، فينشرح صدره للهدى، فمن واجبه أن يواصل في نصحه ووعظه لأنه لا يعرف موعد هدايته.شرح الكلمات: وَيَتَجَنَّهَا الْأَشْقَى ) يتجنَّبها: تَجنَّبه : بَعُدَ عنه..(الأقرب) ۱۲ الأشقى: شَقِي الرجلُ يشقى شَقّى وشقاء وشقاوةً وشقاوةً وشقوةً وشقوةً: كان شقيًّا؛ ضدُّ سَعدَ، فهو شقي، جمعه أشقياء.(الأقرب) وورد في المفردات: "السعادة في الأصل ضربان سعادة أُخروية وسعادة دنيوية.ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب سعادة نفسية وبدنية، وخارجية.كذلك الشقاوة على هذه الأضرب.وفي الشقاوة الأخروية قال: فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (طه:١٢٤)...وفي الدنيوية فَلا يُخْرِ جَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (طه:۱۱۸).

Page 578

الجزء الثامن OVV سورة الأعلى قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضعَ التعب، نحو: شقيتُ في كذا.وكل شقاوة تعب، وليس كل تعب شقاوةً، فالتعب أعم من الشقاوة.(الأقرب) المراد من السعادة النفسية أن يكون في نفس الإنسان صلاح وشَرَف، أما السعادة البدنية فتعني صحة الجسم وعدم المرض.أما السعادة الخارجية فتعني أن يتمتع أقارب الإنسان وأصدقاؤه بالطمأنينة والراحة ولا يتعرضون لأي ألم، وأن تكون البلاد آمنة فهذا يضمن له الطمأنينة من الخارج؛ ذلك أنه لو كان مطمئنا في نفسه، وكان أقاربه في أذى وأصدقاؤه في مصائب وبلده في فوضى، فلن يتمتع بالراحة وسكينة القلب؛ وإذا كان أقاربه وأصدقاؤه في راحة، ولكنه يكون مريضا، بالسكينة أيضا، إنما تكتمل سعادته إذا تيسرت له السعادة النفسية والبدنية فلا ينعم والخارجية.وقد جاء قوله تعالى فَلا يُخْرِ جَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة فَتَشْقَى تحت ذكر الشقاوة الدنيوية لأن آدم الله كان نبي الله تعالى فلا يمكن أن يصاب بشقاوة روحانية، وإنما بالشقاوة البدنية فقط.أما القول: "كل شقاوة تعب وليس كل تعب شقاوة، فالتعب أعم من الشقاوة فذلك لأن الشقاوة فيها نوع من الخزي والإهانة، وهذا لا يوجد في التعب.فلو تعب الإنسان في عمل صالح فلا ذلك شقاوة، مثلا: إذا استيقظ يسمى المرء في آخر الليل وصلى التهجد ساعتين أو ثلاثا، فلا بد أن يصاب بالتعب، ولكن تعبه لا يسمى شقاوة، وإنما تطلق الشقاوة على تعب فيه شرّ.فالأشقى من هو أشد شقاوةً.التفسير : لقد بين الله تعالى من قبل أن على الإنسان مواصلة الوعظ والنصح، إذ تأتي على القلب أوقات خشية الله تعالى، فقد يكفر أحد اليوم ويؤمن غدا؛ أما هنا فقد بيّن الله تعالى أنكم إذا عملتم بما آمركم من مواصلة النصح فلن يُحرم الهدى إلا الأشقى الذي قرّر الله أن لا ينال الهدى نتيجة ذنوبه وأما الآخرون فلا بد أن يؤمنوا، عاجلا أو آجلا.

Page 579

الجزء الثامن ۵۷۸ سورة الأعلى وهنا ينشأ سؤال: لماذا استعمل الله تعالى هنا كلمة الأشقى ؟ والجواب (أولاً) أن رسول الله أفضل الأنبياء قاطبة؛ فالكافر به أشدُّ شقاوة من منكري الأنبياء الآخرين.إن منكري موسى وعيسى وإبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام- أشقياء فحسب، أما منكر محمد رسول الله له فهو الأشقى لأنه أفضل الأنبياء كلهم، وهديه أسمى كلهم.و(ثانيا) هو كما ذكرتُ من قبل بأن من هديهم الأشقى إشارة إلى أنه لا يُحرم من الهدى إلا أشد الناس شقاوة، أما الشقي العادي فينال الهدى عاجلا أو آجلا.شرح الكلمات : الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (٤) يَصْلَى: صَلِيَ النارَ يَصلَى: قاسى حَرَّها واحترق بها ودخل فيها.(الأقرب) التفسير: أي لأن هذا قد كفر بأكبر نبي، فلذلك يُدخل في أكبر نار، أو المعنى: لأنه لم يؤمن رغم الوعظ المكرر والتبليغ الكافي التام، فيُلقى في النار الكبرى.ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (3) ١٤ التفسير : قال الله تعالى إنه لا يَمُوتُ فيها لأنه حي، وقال وَلا يَحْيا لأن الحياة هي ما فيها السكينة والراحة، ولكن هذا يكون في أذى شديد، فلا تسمى حياته حياة شأنه شأن المصاب بمرض شديد فعندما تسأله كيف حالك يقول: لستُ من الأحياء ولا من الأموات..أي لم أمت لأني على قيد الحياة، ولا أحيا لأن حياتي في أذى شديد.كذلك يقول الله تعالى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيا..أي أن العذاب يكون شديدا بحيث لن يموتوا فينجوا منه، ولن يطيقوه وهم أحياء، بل تكون حياتهم أسوأ من الموت.

Page 580

الجزء الثامن ۵۷۹ سورة الأعلى هناك أمر لطيف جدير بالذكر هنا وهو أن المسيحيين يعترضون عادة أن الرسول قد قتل أعداءه، فهذه الآية ردُّ عليهم، إذ أنبأ الله تعالى فيها أن أعداء الإسلام الذين ترونهم اليوم سوف يُتركون أحياء لكي يموتوا كمدًا برؤية ازدهار الإسلام وفشلهم وشقائهم وليعلموا أنهم كانوا في ضلال، أما لو قتلهم المسلمون لما تحققت هذه النبوءة.هذه السورة من أوائل السور المكية، وهكذا فكأن الله تعالى قد أخبر فيها المسلمين في أوائل الإسلام أنكم ستلقون معارضة شديدة، ولكن لا تقتلوا من أعدائكم إلا الذي يبدأ بالهجوم عليكم لأننا سنكتب للإسلام من الغلبة والعظمة ما يجعل كل لحظة من حياة الأعداء أسوأ من الموت، فاتركوهم أحياء لكي يروا شوكة الإسلام وخيبة أملهم فيذلوا ويخزوا ويموتوا كمدًا وحسرة.الكلمات: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ) شرح أفلح: أفلح الرجلُ: فازَ وظفر بما طلب.أفلح زيد: نجح في سعيه وأصاب في عمله.(الأقرب).من الفلاح نجاح يغبط به الآخرون حيث ورد: "ليس في كلام العرب كله أجمعُ لفظة الفلاح الخيري الدُّنيا والآخرة كما قاله أئمّةُ اللسان." (تاج العروس) تزکي: صار زكيا (الأقرب) التفسير : أي لقد فاز بمطلبه من تجنّب أهواء النفس وتسربل بالقداسة والطهارة لأن الله قدوس فلا يحظى بقربه إلا الذي فيه القداسة والطهر.إن الذين يعيشون عيشة آثمة ويلقون أحكام الله وراء ظهورهم ويتبعون خطوات الشيطان وأهواء النفس، فيلقون الخزي في الدنيا وفي الآخرة، لأن أصل كل نجاح هو الطهارة.

Page 581

الجزء الثامن ۵۸۰ سورة الأعلى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) ١٦ هنا تردید التفسير : قوله تعالى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه لا يعني أن يردّد المرء اسم الله بلسانه فقط فيقول: الحمد لله، أو سبحان الله، أو الله أكبر..أو أن يقول "الله الله" كما يفعل اليوم بعض الذين هم مسلمون بالاسم ويجهلون أهمية ذكر الله وطرقه؛ بل المراد من قوله تعالى أن يتذكر الإنسان ربه في كل حين، ذلك لأن الله تعالى قال أولاً وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ثم قال فَصَلَّى، مما يؤكد أن الذكر لا يعني بعض الكلمات، بل المراد منه ذلك الذكر الذي بسببه يقوم المرء بأداء الصلاة.لو كان المراد هنا ذكر الله باللسان فقط، فمثل هذا الذكر موجود في الصلاة، فما كان هناك داع لذكره منفصلا، ولكن الله تعالى قال وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ذَكَرَ اسْمَ رَبِّه ثم قال فَصَلَّى، مما يدل على أن المراد من الذكر هنا ذلك الذي يساعد المرء على أداء الصلاة..بمعنى أن حُبِّ الله تعالى يستولي على قلبه استيلاء شديدا، فيقف أمامه قلقًا ويشتغل بعبادته، فتشتعل شعلة حبه تعالى في قلبه فيخرّ ساجدًا على عتبة حبيبه في من الوجد والهيام.إن ذكر الله يصبح غذاءه، وتتجدد ذكرياته في قلبه مرة بعد أخرى، فتدفعه لعبادته تعالى فيؤدي حق ما يجد في نفسه من مشاعر تجاهه.إذن، فليس المراد من الذكر هنا ترديد بعض الكلمات باللسان فحسب، بل هو إشارة إلى تلك الحالة العملية التي تدل على حب المرء لربه مما يدفع إلى الصلاة والعبادة.حالة بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى : شرح الكلمات ۱۷ ۱۸ تُؤْثِرُونَ آثَرَ الشيءَ: اختاره؛ فضله.(الأقرب) التفسير : لقد بيّن الله تعالى هنا سبب عداوة أعداء الإسلام أنهم لا يعارضون المسلمين بدافع خير، ذلك أن المسلمين يحبون الله تعالى ويعبدونه، أما هؤلاء فيؤثرون الحياة الآخرة على الدنيا، فيعادون المسلمين إذ يرونهم عائقا في طريقهم،

Page 582

الجزء الثامن ۵۸۱ سورة الأعلى ولا يدرون لجهلهم أن الحياة الدنيا فانية، وأن حياة الآخرة هي الباقية الخالدة.وحيث إنهم لا يؤمنون بالآخرة ويتهافتون على الحياة الدنيا، فيعارضون المسلمين.إنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الأُولَى : صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ التفسير : أي أن ما أخبرناكم ليس أمرًا مفترَضا ومفترى، بل إن خبره موجود في الصحف الأولى.وبالفعل تكشف لنا مُطالعة صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام- أن فيها أنباء عن نزول القول الفصل وبعثة نبي عظيم يأتي بشريعة كاملة.فوجود هذه الأنباء فيها لدليل على أن الدنيا كانت بحاجة إلى نزول هذا الكتاب رغم وجود الصحف الأولى، ولذلك أدلى الأنبياء السابقون بهذه النبوءة، وإلا فما الداعي أن يخبروا ببعثة نبي ونزول كتاب بعدهم؟ إن نبوءة بعثة النبي و الواردة في صحف إبراهيم العلم قد نقلها القرآن نفسه وأخبر أنه دعا ربه قائلا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ (البقرة: ١٣٠)..لو كانت صحف إبراهيم الة هي القول الفصل لما دعا بهذا الدعاء، فدعاؤه يدل دلالة واضحة على أن شريعته كانت ستنمحي وتُنسخ، سواء كان عاملاً بشريعة ال كما يثبت من قوله تعالى وَإنَّ من شيعته لإبْرَاهِيمَ (الصافات: ٨٤) ، أم كانت له شريعة خاصة تحوي صحفه التي فيها إلهاماته ووحيه.فلو لم تكن شريعته لتنسخ وتُمحى فلماذا دعا بهذا الدعاء؟ نوح وهذا هو الحال بالنسبة لموسى العلة أيضا، إذ توجد في كتابه التوراة حتى اليوم نبوءة صريحة كالآتي: "أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمه، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصيه به.وَيَكُونُ أَن الإِنسَانَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ به باسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ." (التثنية ۱۸: ۱۸-۱۹)

Page 583

الجزء الثامن كذلك ٥٨٢ سورة الأعلى ورد في مكان آخر فيها: "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سَعير، وتلألاً من جبل فاران، * وأتى مع عشرة آلاف قُدّوسي، وعن يمينه نارُ شريعة لهم" التثنية ۳۳ : ۱-۳).وهكذا أنبأ موسى ال عن مجيء نبي حامل شريعة جديدة بعده، وأخبر أنه لن يأتي من بني إسرائيل، بل من إخوانهم بني إسماعيل.العليا أيضا ينبئ إذن، إن إبراهيم الي ينبئ بمجيء في تشريعي بعده، وموسى ببعثة نبي تشريعي ،بعده مما يبين بوضوح أن الشرائع السابقة لم تكن القول الفصل، كما ظل أنبياء كثيرون ينبئون عنه واحدًا بعد آخر.وتوجد في التوراة نبوءات عديدة أخرى ،كهذه، وكلها تبين أن العالم كان يوعد بنزول القول الفصل منذ مدة طويلة، فكان لزامًا أن يتحقق هذا الوعد الإلهي الآن.غير كما قلت إن نبوءة موسى ا هذه لا تزال حتى اليوم كما هي في التوراة ولكن نبوءة إبراهيم الا لم تُذكر في التوراة بوضوح، وإنما ذكرها القرآن فقط، أن الدليل على صدق دعوى القرآن هو أن القرآن قد ذكر هذه النبوءة الإبراهيمية أمام أهل مكة وأعلن متحديًا أن نبوءة نزول القرآن موجودة في صحف إبراهيم وموسى، فلم ينكرها أحد من الكافرين، ولم يقولوا ولا مرة واحدة: إنك كاذب، إذ لا توجد هذه النبوءة في صحف إبراهيم، مما يدل أن مئات الناس كانوا على علم بأن إبراهيم ال قد أنبأ ببعثة نبي تشريعي بعده، الآلاف وهذا هو من السبب وراء صمت الكافرين عند سماع إعلان القرآن هذا، وإلا فكيف سكت هؤلاء الذين اعترضوا على كل صغيرة وكبيرة عند هذا الإعلان الهام؟ لقد سجل القرآن الكريم اعتراضات عديدة ،للكافرين ولكن لم يذكر فيه أن الكافرين حابته.علما أن فاران هي جبال مكة، التي جاء النبي لفتحها بعشرة آلاف قدوسي من ولقد حرّفوا الآن الكلمات التي تحتها الخط في بعض الطبعات الحديثة خاصة العربية منها إلى: "وأتى من ربوات القُدس"، ولكنها لا تزال كما هي في بعض الطبعات القديمة باللغتين الأرديــــة والإنجليزية.(المترجم)

Page 584

الجزء الثامن عن ٥٨٣ سورة الأعلى قالوا إن هذه النبوءة قد نُسبت إلى إبراهيم خطاً وافتراء؛ فإنه لم يُدل بأي نبوءة تخبر نزول القرآن أو بعثة نبي تشريعي.بعده فثبت أن هذه النبوءات كانت شائعة بين العرب على نطاق واسع وكانوا يأملون أن يظهر الآن حتما مبعوث بحسبها، بل قد ورد في الروايات أن بعض العرب أخذوا يسمون أولادهم باسم محمد، لأنهم كانوا يعلمون من نبوءات التوراة أن النبي القادم سيأتي باسم محمد، فلعل ابنهم هذا يُبعث نبيًا موعودا ومصداقًا لهذه الأنباء.باختصار، كانت في قلوب العرب آمال حول ظهور النبي الموعود، وكانوا ينتظرون ظهوره طبقًا لهذه الأنباء.

Page 585

الجزء الثامن оло سورة الغاشية سورة الفاشية مكية، وهي سبع وعشرون آية مع البسملة هذه السورة مكية بالاتفاق؛ فقد روي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير أنها نزلت بمكة، وحيث إنه لم يُرو خلاف ذلك، فلا شبهة في كونها مكية.(فتح البيان وقال القسيس "ويري" إن زمن نزول هذه السورة قريب من السنة الرابعة للبعثة النبوية، إذ يتضح من مضمونها أن اضطهاد الكفار للمسلمين بدأ في ذلك الوقت أو كان على وشك أن يبدأ.وهذا ما يراه نولدكه الألماني أيضًا.(تفسير "ويري") وهذا هو رأي الصحابة أيضًا.مما يعني أن هذه السورة قد نزلت في بداية البعثة بحيث لا يُتصوّر أن يقال عنها قول آخر، فلا نحتاج إلى رفض أي رأي حولها.ولما كان مضمون هذه السورة يومئ إلى أن العدو على وشك أن يبدأ بعدائه للمسلمين..أي أنه لم يكشف عن عدائه لهم عمليا، ولكنه يخطط لاضطهادهم، وأن المسلمين كانوا في حيرة من أمرهم فإن استدلال الكتاب الأوروبيين بذلك على أن هذه السورة من أوائل ما نزل ليس بخطأ، بل هو صحيح حسب الروايات الإسلامية أيضا.فقد روي عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قوله: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَة بـ سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْعَاشِيَةِ.قَالَ: وَإِذَا الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ.(مسلم: كتاب الجمعة، أحمد: مسند عبد الله بن مسعود، النسائي: كتاب الصلاة، أبو داود: كتاب الجمعة ابن ماجه كتاب إقامة الصلاة) اجْتَمَعَ

Page 586

الجزء الثامن ٥٨٦ سورة الغاشية الله تعالى الله هذه السنة النبوية تؤكد أن لهاتين السورتين صلة وثيقة بحياة المسلمين الاجتماعية.إن صلة سورة الأعلى" بالإسلام واضحة حيث أخبرت أن القرآن هو القول الفصل، كما بينت كيف يبلغ الإسلام أوج رقيه وغلبته، فقد بين فيها أن الإسلام سيجد خدامًا يحفظون القرآن، وستقع تطورات غير عادية في الدنيا تؤدي إلى حفظه.سورة "الأعلى" تشير إلى ازدهار الإسلام وانتشاره وكثرة أتباعه وغلبة المسلمين.أما سورة الغاشية فرغم أنها تناولت موضوعًا آخر إلا أنها أيضًا تنبئ أن الكافرين سيعادون الإسلام ساعين للقضاء عليه، ولكن المؤمنين سينجحون في هذا النضال.وحيث إنها نزلت في أوائل الإسلام ولم يُرد الله تعالى إثارة الكفار من دون داع، فلم يخبر فيها بكلمات صريحة عن هذه الحرب والنضال، بل استخدم كلمات لا تثير حفيظتهم.فكما أن العدو لم يكشف عداءه، كذلك لم يصرح تعالى في هذه السورة أن المسلمين سيحاربون الكفار ويغلبونهم، وإنما اكتفى هنا بذكر النتيجة فقط وهي أن أعداء الإسلام لن يضروه شيئا رغم بذلهم أقصى جهد، وسيصبح المسلمون غالبين في نهاية المطاف، وذلك حتى لا تُعتبر مثل هذه الصراحة استفزازا للكفار الذين لم يكونوا قد شنوا الهجوم على الإسلام علنًا بَعْد.إن مضمون هذه السورة أيضا يدور حول الأعمال الجماعية، حيث أنبأ الله تعالى فيها بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةً برقي الأمة وليس برقي النبي وحده، كما أنبأ بقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ عن جماعة الكافرين أنهم سيبوءون بالفشل في حربهم ضد المسلمين.الواقع أن سورتي الأعلى والغاشية كلتيهما تتحدثان عن زمن النبي الله والزمن الأخير للإسلام، ومن أجل ذلك كان النبي يتلوهما في الجمعة والعيدين دائما.والجمعة والعيدان مناسبات جماعية، ففي تلاوته للهاتين السورتين في هذه المناسبات إشارة إلى أن معارفهما ستنكشف كلما توجه المسلمون إلى اكتساب القوة الجماعية وكلما أراد الله تعالى إزالة ضعفهم.لقد بين الله تعالى من قبل في سورة الأعلى أن المسلمين لن يحرزوا الرقي إلا إذا ظهر فيهم مأمور من الله تعالى يكشف لهم معارف القرآن وعلومه، بتعبير آخر لن ود

Page 587

الجزء الثامن ۵۸۷ سورة الغاشية يتم رقيهم بوسائل مادية أبدا، وإنما بإيمانهم بالمأمورين من الله تعالى واهتدائهم بهديهم، كما دل عليه قوله تعالى سَنُقْرتُكَ فَلَا تَنْسَى، حيث بين الله تعالى أن المسلمين سيستردون مجدهم الغابر بواسطة خدام الإسلام الذين سيعودون بالقرآن المنسي المهجور ثانية.فالذين يريدون اليوم رقي المسلمين بوسائل سياسية عليهم أن يفكروا في مضامين سورة الأعلى.أما سورة الغاشية فقد بيّن فيها أن الإسلام لن يحرز هذا الرقي في الزمن الأخير إلا تحت المعارضة الشديدة، أي لن يأتي إلى الدنيا أي مأمور رباني يستقبله الناس على بساط من الورود وهتافات الحفاوة والترحيب بل عندما يأتي أي مأمور تكون هناك وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ، عاملة نَاصِبَة ، ولا بد له من المعارضة، لأن رقي أي جماعة سماوية من دون معارضة محال.يظن غيرنا المسلمين أنه 28 من من حين ود ينزل المسيح الناصري العلي السماء فلن يكون هناك وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ، بل سيقف الناس لاستقباله بكل وقار واحترام، ويدخلون في خدامه، لأنه سينزل مع الملائكة ولن يجسر أحد على إنكاره! ولكن سنة الله المستمرة تبين لنا أن هذا لن يحدث أبدا، بل لا بد لكل جماعة ربانية من المعارضة ثم بعدها يُكتب لها الغلبة والازدهار.باختصار، يتضح من هاتين السورتين كلتيهما أن الإسلام يزدهر الإسلام يزدهر دائما بعد أن تواجه المعارضة.فثبت من هنا أن بين السورتين صلة وثيقة من حيث الموضوع.وقد ذكر صاحب "البحر المحيط" صلة قريبة بين السورتين، وهي أن الله تعالى الجنة قد أمر في الأولى بإنذار الناس من النار والآخرة، بينما تتحدث الثانية عن والنار.ولكن الواقع أن الصلة الحقيقية بين السورتين هي ما ذكرته بأن الله تعالى قد ذكر فيهما مبدأين لازدهار الإسلام، حيث بين في سورة الأعلى أنه لن يتردّى المسلمون إلا لهجرانهم القرآن الكريم ونسيانه وأنهم لن يزدهروا إلا عن طريق شخص يعود بالقرآن من السماء..أي سيُبعث إليهم المأمورون الربانيون الذين يُذكرونهم بالقرآن الذي اتخذوه مهجورا، ومع ذلك لن يأتيهم أي مأمور بشريعة جديدة.وأما سورة الغاشية فبيّن الله تعالى فيها أن ازدهار المسلمين، سواء في الزمن

Page 588

الجزء الثامن ۵۸۸ سورة الغاشية الأول أو في الزمن الأخير، لن يتم إلا على أيدي المأمورين الذين سيلقون معارضة شديدة، ولكنهم سينتصرون في النهاية، كما هو بين من قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَاشِعَةٌ ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ.لذا فعلى المسلمين أن يتذكروا دائما أنهم لن يزدهروا إلا بالإيمان بالمأمورين الربانيين وبمعارضة العالم كله لهم، ولن يأتيهم أحد يصدقه الناس بسهولة، ففكرة نزول مأمور من السماء لا يلقى المعارضة تخالف القرآن تماما.شرح الكلمات: حِمِ اللهِ الرَّحمن الرّ الرحيم هَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ ) هل تأتي بمعنى (قد)، ولكن على العموم هي حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابي (مغني اللبيب)..أي لسؤال طلب فيه التصديق..إلا أن يأتي بعده (إلا)، فيفيد النفي، فالمراد من الآية أأتى حديث الغاشية أم لا..أي قد أتى.أو المعنى: قد أتى فعلا.حديث: الحديث: الخبر.(الأقرب) الغاشية: مؤنث الغاشي، والغاشية: الغطاء؛ القيامة لأنها تغشى بأفزاعها (الأقرب).وسُمّيت القيامة بالغاشية لأن المحنة الشديدة تُنسي المرء همومه الأخرى؛ ولما كانت القيامة حادثة كبيرة شديدة تستولي على كل أفكار الإنسان وهمومه حتى ورد في القرآن أن كل إنسان ينسى الآخر حتى تنسى الأم ولدها، فلذلك سُميت غاشية.ومن معاني الغاشية نار جهنّم (الأقرب).وقد سُمِّيت بذلك لأن عذابها شديد محيط حيث يجد الإنسان مهربًا من العذاب الدنيوي، وإذا عُذب ناحية، نال من من ناحية أخرى؛ فمثلا : إذا مات له ابن فإن ابنه الثاني موجود يلعب أمامه، وإذا مات والد شخص، فإن أُمّه موجودة، أو أقاربه الآخرون موجودون، السكينة

Page 589

الجزء الثامن ۵۸۹ سورة الغاشية فيجد عندهم السلوان.أو إذا تعرض لخسارة مال جلب ربحا آخر من ناحية أخرى.فثبت أنّ هناك مهربًا للإنسان من كل أنواع العذاب الدنيوي، حيث يُعذَّب من ناحية أخرى.أما عذاب جهنم فيكون متكاملا لا ناحية، وينال الراحة من سبيل للراحة إزاءه، ولذلك سمي غاشية.والغاشية: الداهية ومنه: "تأتيه غاشية من عذاب الله"..أي نائبة تغشاه.والغاشية: قميص القلب؛ داء في الجوف ؛ السُؤَالُ يأتونك؛ الخدم يغشونك؛ والزُوّار والأصدقاء ينتابونك.(الأقرب) من يستحق أن التفسير: يتضح من القرآن الكريم أن عذاب الله عذابًا خاصا يُطلق عليه "الغاشية"، وقد نزل في زمن الرسول ﷺ وسينزل أيضًا في زمن المسيح الموعود الا بحسب الأنباء.قال الله تعالى فَارْتَقبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانَ مُبين يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الدخان: ۱۱-۱۲)..ولما آذى أهل مكة النبيَّ إيذاء شديدا دعا عليهم بحسب هذه النبوءة القرآنية قائلا: "اللَّهُمَّ أَعنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعِ كَسَبْعِ يُوسُفَ." (البخاري: كتاب التفسير)..أي رب، قد آذاني هؤلاء إيذاء شديدا، فأعنّي عليهم بسبع سنوات من القحط والمجاعة كما أعنت يوسف العليا شداد فحل قحط شديد وانقطع المطر وهلك الناس، حتى جاء أبو سفيان إلى النبي وقال : قد هلك قومك جوعًا فادع الله أن يكشف عنهم.بسبع فكما بعث فرعون سفراءه إلى موسى ال ليدعو لهم ربَّه ليكشف عنهم العذاب، كذلك أرسل أهل مكة سفيرهم إلى النبي ليدعو لهم حتى يكشف الله القحط.فدعا النبي ﷺ ورفع الله هذا العذاب.عنهم إذن، فمن معانى الغاشية عذاب دخان ذكر في سورة الدخان.سه سران ورد في الحديث : عَنْ مَسْرُوق قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا وَقَالَ: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ.فَإِنَّ رَسُولَ اللهَ لا لَمَّا رَأَى قُرَيْضًا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْع كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأَخَذَتْهُمْ السَّنَةُ حَتَّى حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ.فَقَالَ أَحَدُهُمْ حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيِّتَةَ وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ كَهَيْئَةَ الدُّحَانِ.فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَيْ مُحَمَّدُ إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا.(البخاري: كتاب التفسير) (المترجم)

Page 590

الجزء الثامن عن ۵۹۰ سورة الغاشية وهناك نبوءة عن نزول عذاب دخان مبين في زمن المسيح الموعود اللة أيضا، فقد جاء في الوحي النازل عليه: "يوم تأتي السماء بدخان مبين، وترى الأرض يومئذ خامدة مصفرة." (التذكرة ص (٥٠٤ بالإضافة إلى أنواع العذاب المشار إليها في إلهامات المسيح الموعود الله هناك نبأ عذاب قحط أيضا، حيث أخبره الله تعالى أنه سيأتي على الناس سنوات من الضيق الشديد والمصائب العظمى.وقد وقع القحط في عصره العلة نتيجة الحروب علاوة على أنواع القحط والمجاعة التي وقعت في زمنه، وقد بلغ من الشدة بحيث لم يوجد له نظير في الأزمنة الخالية.إذا استمر القحط سنة واحدة نشر دمارًا كبيرًا عادةً، أما هذا القحط فكان شديدًا حتى عجزت شعوب كثيرة عن ملء بطولها لست سنوات.لقد بدأ في أوائل ١٩٤٢ فأدى إلى نقص شديد في الغلال.كنتُ عندها في السند، فبلغني من قاديان أن الناس لا يجدون القمح، وإذا وجدوه كان رديئا وخبزه أسود اللون.لقد رأيت ذلك القمح فوجدته كحبوب "الكمون"، ولونه كلون السكر الأسود، ولا يصلح خبزه للحيوانات، ومع هذا كان يأكله الناس مضطرين.لقد ساءت الحال في البنغال جدًا لدرجة أن بعض الناس أكلوا عظام الموتى كما أخبرتني بنت يتيمة قام أحد الأحمديين بتربيتها حيث قالت إنها قد نسيت معظم الأحداث، لكنها تتذكر هذا الأمر جيدا.ومن الثابت أن بعض النساء هناك أكلن أطفالهن يا له من قحط مدمر ! لقد مات فيه مليون شخص جوعًا في بضعة أشهر بحسب التقديرات الحكومية، وأما بحسب تقديرات الناس فقد فتك بمليونين من البشر في البنغال وحدها.وهذا العدد الهائل لم يُقتل خلال السنوات الست للحرب العالمية هذه.في هذا العصر توجد قطارات وسيارات وباصات ثم هناك أنهار..وكلها تُسهّل نقل المواد الغذائية من مكان لآخر، ومع توافر وسائل النقل هذه فقد مات مليونان من الناس في البنغال وحدها في سنة واحدة جوعًا نتيجة هذا القحط.ولو وقع هذا القحط في قطر لا يمكن نقل المواد الغذائية إليه فقد لا يبقى على قيد الحياة من سكانه أحد.هناك آلاف الناس الذين هاجروا من البنغال إلى مناطق البنجاب وسَرْحَدٌ، خوفًا من عدم انقطاع القحط.وقد قال

Page 591

الجزء الثامن ۰۹۱ سورة الغاشية بعضهم إنه لم يبق من عائلته على قيد الحياة أحد، فهاجر ذعرا وتساءل: لماذا أعود إلى تلك المنطقة المنكوبة ثانية؟! بمعنى من الله عن هناك أحداث عبة كثيرة، فقد جيء بطفل مضطرب جوعا، فقُدِّم له الحليب، وبمجرد أن نزل الحليب من حلقه هلك؛ ذلك أن الفاقة الطويلة تسمم المعدة، وإذا دخلها الغذاء من حليب أو غيره هلك الإنسان.فقوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشية ) يعني: هل علمتم أن المصيبة التي اسمها الغاشية، قادمة؟ لقد ذكرتُ من قبل أن (هل) تفيد التصديق الإيجابي عادة، وعليه فقوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة) يعني: قد أتاك حديثها، ولكن إذا دخلت (هل) على فعل فهي بمعنى (قد) ، وعليه فالمراد من الآية قد أتاك حديث الغاشية، أن المعارضة ستشتد الآن، لذلك قد بدأت الأخبار الإلهية تصلك عذاب الكافرين.أو المعنى لقد أرسلنا إليك حديث الغاشية، أي أن العدو سيزداد شرا، ولذلك نخبرك بعذابه.ومن معاني الغاشية مَن يزوره الناس بكثرة، وعليه فالمراد من حديث الغاشية الفتوحات..أي ستأتيك الوفود من كل طرف وصوب.وكأن الله تعالى قد ترك الحديث عن الفترة المتوسطة من عهد الرسول الا الله وأخبره عن أحداث الفترة الأخيرة من عهده التي تظهر فيها النتائج وفي هذه الحالة يكون حديث الغاشية إشارة إلى عام الوفود، حيث أخبر الله تعالى أنه ستقع حرب بينك وبين الكافرين، وستخرج منها منتصرا وستأتيك الوفود من كل مكان ويحترق العدو برؤيتهم كمدًا، وينال المؤمن تقدما هائلا.وو وُجُوهٌ يَوْمَبِذٍ خَشِعَةٌ : عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ : شرح الكلمات: ود وجوه: جمع وجه، ومن معانيه سيّد القوم؛ ويقال رجل وجه: ذو جاه.(الأقرب).والمراد من الوجه هنا سادة القوم وأعيانهم.

Page 592

الجزء الثامن ۵۹۲ سورة الغاشية خاشعة: خشع له: ذَلَّ وتَطَأَمَنَ.وخشع ببصره : غضه.وخشع بصره: انكسر.وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ للرَّحْمَن أي: سكنت وذلّت وخضعت.(الأقرب) ناصبة : نَصَبَهُ الهمُّ : أَتعبه.ونَصَب فلان الشيء: وضعه وضعًا ثابتا كنصب الرمح والبناء والحجر، ورَفَعَه، ضد.(أي أن هذه الكلمة الأضداد، من فتعني الوضع والرفع أيضا).ونَصَبَ السَّيْرَ: رَفَعَه، أو أن هو يسير طول يومه سيرًا لينا.ونصب لفلان عاداه.ونصب له الحرب وضعها (أي حاربه.ونصب العَلَمَ: رفعه وأقامه مستقبلا به ونصب الشجرة: غرسها في الأرض.ونصب السلطان فلانا ولاه منصبًا.ونصب الشرِّ بفلان أظهره له ونصبت له رأيًا : أشرت عليه برأي لا يعدل عنه.(الأقرب).• لما كان من معاني (الغاشية) المصاعب والشدائد بما فيها الحروب التي سيوقدها أن أعداء الإسلام سيتآمرون عليكم الآن، ود الكفار، فقوله تعالى عاملة نَاصِبَةٌ يعني ويكشفون عن أحقادهم وضغائنهم التي يخفونها في صدورهم حتى اليوم.التفسير: لقد بينتُ من قبل أن سورة الغاشية نزلت في حوالي السنة الرابعة من البعثة النبوية، وهي التي بدأ فيها كفار مكة إيذاءه بشكل منظم.في البداية عندما كانوا يسمعون دعوى النبي الله ينفثون غضبهم قائلين: لقد أصيب المسكين بالجنون - والعياذ بالله- ولكن حين آمن به عدد من القوم لا سيما شباب الأسر العريقة وأصحاب النفوذ مثل عثمان وطلحة والزبير..اشتد الكفار في معارضة الإسلام.كان وراء هياجهم ضد الإسلام أمران : إسلام العبيد، وإيمان الشباب من الرؤساء.فلما آمن هؤلاء الفتيان بدأ الناس يقولون للذين كانوا يتهمون النبي ﷺ بالجنون: لقد انتزع هذا الفتيان من بيوتكم وأنتم فرحون باتهامه بالجنون وبأنه لا يقدر على أن يضركم شيئا!! وعندما أسلم العبيد وأخذوا يعيبون آلهتهم قائلين: إن عبادة الأصنام عمل سخيف، فإنها لا تنفع ولا تضرّ، استشاط الكافرون غضبًا وقالوا كيف يعيب هؤلاء ،آلهتنا وهم عبيد لنا !! هذه الأحداث أخذت تقع في السنة الثالثة من البعثة.لما رأوا رقي الإسلام أخذوا يقولون على الملأ: لقد بلغ

Page 593

الجزء الثامن ۵۹۳ سورة الغاشية السيل الزبى ولن نطيق أكثر من ذلك، وبدءوا ينفثون حقدهم وشرهم علنًا.عن (الطبري: ذكر الخبر عما كان من أمر النبي.وكان الله تعالى أنبأ سلفا تصرُّف الكافرين هذا في قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ..لأن من معاني الناصبة قوم ينصبون الأمير ، والقائد، فأخبر الله الله المسلمين أنه قد قرب الوقت الذي سوف يعيّن أهل مكة أمراء وأسيادًا لمعارضة محمد، وسيبذلون جهدهم لمنع انتشار الإسلام.وطبقا لهذه النبوءة القرآنية نصب المعارضون رايات المعارضة ونزلوا في الساحة.كما اختار الله تعالى للإخبار عن المعارضة كلمات تفصل معالمها ومصيرها النهائي..حيث قال تعالى عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ، حيث أشار بقوله عاملة إلى المعارضة الفردية، وبقوله (ناصبَةٌ إلى المعارضة الجماعية من قبلهم؛ فأخبر تعالى أن أهل مكة لن يكتفوا الآن بالمعارضة الفردية بل ستأخذ معارضتهم طابعا جماعيا، وسوف يعينون بعضهم أمراء لتنظيم اء لتنظيم حركة مضايقة المسلمين ومحاربتهم.ومن معاني (الناصبة) الجماعةُ ،المرهقة، وهكذا أشار الله تعالى إلى مصير معارضتهم للنبي ﷺ مبينًا أن أهل مكة لن يدّخروا وُسعًا في هذا السبيل، ولكن لن تسرّهم النتيجة؛ لأن جهودهم المستميتة ستؤدي بهم إلى التعب والإرهاق والأرق.شرح الكلمات: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً : حامية: حميت الشمس وحميت النارُ : اشتد حرهما.(الأقرب) فقوله تعالى تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً يعني أن هذه الجماعات المخالفة ستدخل نارا شديدة اللظى؛ ذلك أن ليس كل نار شديدة الحرارة بل بعضها شديدة الحر وبعضها قليلة الحرارة، حتى إن بعض الناس يدخلونها بأقدام ملطخة بالوحل ويمرون

Page 594

الجزء الثامن ٥٩٤ سورة الغاشية عليها من دون أن يشعروا بحرّها.ولكن الله تعالى يخبر هنا أن النار التي سيدخلها معارضو الإسلام تكون حامية شديدة الحرّ.: :التفسير أي أن هذه المعارضة الفردية أو الجماعية ستؤدي إلى دمار المعارضين فلن ينعموا بالأمن والراحة ولن يجنوا بها عزا ولن يفلحوا فيما يريدون، بل يدخلون نارا مضطرمة شديدة الحرارة، بمعنى أن المسلمين ينتصرون ويزدهرون، وأن معارضيهم سيبوءون بالفشل في مساعيهم ويحترقون كمدا.شرح الكلمات: تُسْقَى مِنْ عَيْنِ عَانِيَةٍ ) عين لها معان كثيرة منها : ينبوع الماء، والسحاب.(الأقرب والمنجد) آنية: أنى يأني أنيا وإنِّى وأناء دنا وقرب وحضر.وأَنى الحميم: انتهى حرُّه.(الأقرب) التفسير : يشرب الإنسان الماء إزالة لعطشه وشفاء لغليله، ولا يزيل العطش إلا الماء البارد، ولكن الله تعالى يخبر هنا أنهم سيسقون ماء ساخنا جدا..والماء الساخن جدا لا يشربه الإنسان إلا في حالتين؛ في حالة المرض للعلاج، أو في حالة عدم تيسر الماء البارد لا شك أن الناس يشربون الماء الساخن على شكل شاي، حيث صار له رواج في هذه الأيام، ويطفئون به العطش أيضا، ولكن الشاي غذاء في الحقيقة ولا ينوب عن الماء فالواقع أن قول الله تعالى هذا إشارة إلى أنهم سيُحرمون من كل راحة، أو أنهم سيُلقون في اختبارات ليعالجوا من أمراضهم الروحانية، ويُسقون ماء شديد السخونة..أي أنهم لن ينعموا بالانتعاش والطراوة؛ الهدف من شرب الماء؛ ذلك أن الأشياء في الدنيا نوعان: نوع يُنعش إذ هذا هو ويُطرِّي، ونوع يُسمن ويُنمّي، والماء يحقق أحد هذين الهدفين، حيث يجلب الطراوة والانتعاش، والغذاء يحقق الهدف الآخر حيث يسدّ الجوع ويسمن الجسم؛ والله

Page 595

الجزء الثامن ألا ٥٩٥ سورة الغاشية تعالى يخبر هنا أن الكافرين سيظلون محرومين من الاثنين، فلن يجدوا طراوة ولا انتعاشًا، ولن تسمن أجسامهم، أي أن قلوبهم ستذبل كما تذبل أجسامهم أيضًا.لا شك أن الكافرين سيشربون من عين الماء المغلي في الآخرة، ولكن شربهم من العين الآنية في الدنيا إشارة إلى احتراق قلوبهم بالنار، أي تعرضهم للمصاعب والشدائد التي تحرق قلوبهم ومثال شربهم من العين الآنية في الدنيا إسلام أولادهم، ودخولهم في الدين الذي أراد آباؤهم محوه.لا شك أن قلوبهم كانت تحترق حزنًا وأسى عندما يرون أولادهم يدخلون في الإسلام، إذ يرون عكس ما أرادوا الهموم تشبه بالمشروب في العربية، وفي الأردية أيضًا يقال ما معناه: إني أتجرع الهم، ولذلك قال الله تعالى هنا أنهم يُجَرَّعون ماء مغليا..أي سيصابون بصدمة كبيرة حين يرون أولادهم وعبيدهم يدخلون في الإسلام.وقد بين الله تعالى هذا الواقع بكلمات أخرى إذ قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ (الرعد: ٤٢)..أي يرى هؤلاء العميان الذين يظنون أنهم سينتصرون على محمد ويمحون دينه ويهزمون أتباعه..أننا نُضيق عليهم الأرض من أطرافها حيث يدخل في الإسلام عبيدهم ويعتنقه فتيالهم ولن يبقى بعدهم إلا الشيوخ العجزة الذين يفنون في بضع سنين، فتدخل أجيالهم في الإسلام.الحق أن هؤلاء هم مصدر قوة الأمم، إذ العبيد بمثابة الأيدي، والأبناء بمثابة الأصل، وإذا قُطعت الأيدي والأصل فلم يبق إلا الجذع الذي يصبح بلا حول ولا قوة.باختصار، ينبئ الله تعالى هنا عن ازدهار الإسلام ويقول سيُجرَّع الكافرون من آنية ويسمعون أخبارًا تشوي أكبادهم.وبالفعل نرى أنه لو انحرف أولاد امرئ عن دينه الذي يؤمن به بصدق القلب لأصابته صدمة شديدة.لا ترك الأولاد دين ،آبائهم إذ لا إكراه في الدين فما دام ابن نوح العلا کفر به وخالفه، فيمكن لأولاد الآخرين أن يتركوا دين آبائهم.ومع ذلك إذا انحرف أولاد المرء عن دينه -وهم معقد آماله - صاروا له جرعة مريرة جدًّا لا يستطيع تحمُّلها.كان سهيل بن عمرو يمثل الكافرين في التفاوض مع النبي اي من أجل وضع شروط صلح الحديبية، وبينما هو في ذلك إذ جاء ابنه أبو جندل يَرْسُفُ في قيوده، فقال: يا عين حرج عقليًا من

Page 596

الجزء الثامن ٥٩٦ سورة الغاشية عن رسول الله، لقد آمنت بك.كان أبوه يصب جام غضبه عليه في البيت ضربًا، ويمكنك تصور حالته حين جاءه هذا الابن يَرْسُفُ في قيده، ويقول للرسول : لقد آمنتُ بك (سيرة ابن هشام على يكتب شروط الصلح).أرى أنه لم يقدر على الوقوف، وتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعه.فترى كم كانت مريرة تلك الجرعة التي تجرعها عند براءة ابنه من دينه علنًا في ذلك الموطن الحرج! وقد حكيتُ لكم مرارًا قصة أبي جهل أنه لما ضربه صبيان أنصاريان بسيوفهما غزوة بدر قال في آخر لحظاته ليس عندي أسف غير أني قتلت بيد صبيين أنصاريين.(البخاري: كتاب المغازي باختصار، لقد بين الله تعالى هنا أن الكفار سيمرون بأحوال صعبة بحيث يتجرعون جُرَعًا مرة جدًّا.لقد قلتُ في البداية أن هذه السورة تتحدث عن فترتي الإسلام؛ عن صدر الإسلام، وعن هذا العصر.والنبأ المذكور في قوله تعالى تُسْقَى مِنْ عَيْنِ آنِيَة الكفار قد تحقق في هذا العصر أيضا بكل جلاء.كان المولوي محمد حسين البطالوي من أشد المعارضين للمسيح الموعود الل، وقد أنفد كل عمره في معارضته، وقال مرة بكل زهو: أنا الذي رفعتُ الميرزا، وأنا الذي سأسقطه.(إشاعة السنة، مجلد ١٣ ص (٣،٤ وأنى له أن يسقط حضرته العلي؟! إنما أصبح بنفسه ذليلا مهانا حتى هرب اثنان من أولاده إلي في قاديان، وقالا إنهما لا يريدان البقاء عند أبيهما لأنه عديم الغيرة، فهو لا يطعمهما بل يضغط عليهما ليدخلا في دار ،اليتامى كما يضربهما ويسخّرهما في أعمال مهينة.فأجريتُ لهما مرتبا وعلمتهما في مدرستنا في قاديان وعندما علم البطالوي بذلك أرسل إلي قائلا: أرجوك أن تطردهما من قاديان لأن في ذلك إهانة كبيرة لي.فقلت له: كيف أطردهما وقد جاءا يطلبان المساعدة مني.ثم دخل الاثنان في جماعتنا، وفي الأخير ضغط عليهما البطالوي ورجع بهما، ذلك لم يحسن معاملتهما، فمات أحدهما، ومع وارتدّ الآخر وتنصر ، وهو لا يزال حيًّا يمارس التجارة في ولاية "ميسوري"، ويقول إنه مسلم أحمدي في قلبه ولكنه غيّر الدين في الظاهر من أجل الرزق.

Page 597

الجزء الثامن ۵۹۷ فانظر كم كانت مُرَّةً هذه الجرعة التي تَجرَّعَها البطالوي.كان سورة الغاشية يزعم أنه هو الذي رفع مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، وأنه هو الذي سيُسقطه، ولكن ما حدث هو أن اثنين من أبنائه قد أتيانا يطلبان المساعدة ويشتكيان أنه يضربهما ولا يطعمهما ويضعط عليهما ليدخلا في دار لليتامى لأنه لا يملك شيئا، فساعدناهما وعلّمناهما في مدرستنا.وذات مرة رُفعت في المحكمة قضية ضد ابن أحد كبار معارضينا، وصادف أن كان القاضي أحمديا، فجاءني مرة وذكر خلال الحديث أن قضية ابن فلان من المعارضين الألداء مرفوعةٌ في محكمتي، وهو يبعث إلي أناسًا مرموقين يشفعون عندي بإطلاق سراح ابنه، فماذا أفعل؟ قلت له: إذا كنت تستطيع إطلاق سراح ابنه بحسب القانون فلا بد من ذلك، لأنه سيتفكر في أنّ قاضيًا أحمديًا قد أمر بإطلاق سراح ابنه رغم معارضته للأحمدية.وهكذا تمن عليه منة عظيمة يخجل بسببها.فإذا استطعت إطلاق سراحه بموجب القانون فافعل حتمًا.- غرضهم من كذلك حينما ذهبت للحج فإن أحد أخوالي من سكان "هوبال" الذي كان ابن أخت جدّي لأمي - أحدث في مكة ضجة كبيرة ضدنا بالتواطؤ مع شخص آخر اسمه خالد الذي كان من بلدته وكان حفيدًا لنَوَّاب جمال الدين خان.فقالوا للناس في مكة إن هؤلاء ينشرون الكفر هنا، وطلبوا من المولوي إبراهيم السيالكوتي وكان يسمى "شيخ أهل الحديث وجاء أيضًا للحج - أن يناظرنا.وكان هذه المناظرة أن يشيع خبرنا على نطاق واسع، حتى يقتل الناس هذه الأحمديين خلال المناظرة.كما أبلغوا الحكومة لتتخذ إجراءات فورية حتى لا تتفاقم هذه الفتنة ولم نكن نعرف عن مؤامرتهم شيئا.وذات يوم ذهبت لتبليغ الشيخ عبد الستار الكببتي وهو أحد العلماء العرب ومعلّم أولاد شريف مكة، وكان إنسانًا.نبيلا كان وهابي العقيدة ولكنه كان يتظاهر أنه حنبلي، وقد أخبرني ذات يوم عن سبب ذلك وقال: الناس هنا يكرهون أهل الحديث الوهابيين جدا، فلا أُظهر لهم مذهبي.وكان يعلم أولاد شريف مكة بجانا ابتغاء مناصرته له، فلم يكن أحد يجرؤ على إيذائه بسبب مكانته عند شريف مكة.وقمتُ بدعوته إلى الحفنة ضدنا من

Page 598

الجزء الثامن ۵۹۸ سورة الغاشية الأحمدية وقتا طويلا.كان مولعًا بالكتب، فذكرتُ له أثناء الحديث اسم كتاب كان الخليفة الأول الله أمرني قبل خروجي للحج بالبحث عنه في البلاد العربية.فقال لي الشيخ ليس في حوزتي هذا الكتاب ولكنه موجود في مكتبة بحلب.ولما فرغت من تبليغه قال: لقد قمت بتبليغي وكلامك معقول، ولكن خُذ حذرك لأن الناس في هياج شديد، وأخاف أن يهاجموك ويقتلوك أو تلقيك الحكومة في السجن إذا بلغت أحدا.فاستغربت من قوله، فقال: ألا تعلم أن البعض أشاع إعلانًا ضدكم فهاج الناس؟ قلت: ومن نشر هذا الإعلان؟ فقال فلان من المشايخ.قلتُ: هذا خالي، ومن غيره ؟ قال : أحد الرؤساء من بهو بال اسمه خالد؛ وقد قالا في الإعلان أن هؤلاء الأحمديين إذا كانوا على يقين بصدق دعواهم فليناظروا الشيخ إبراهيم هذه المعضلة! السيالكوتي.كان خالي هذا يظن أنه ليس هناك حكومة رسمية في مكة، فلو تمكن من عقد المناظرة فإن الناس سيقتلون هذه الحفنة من الأحمديين وتنتهي ثم أخبرني الشيخ عبد الستار الكبتي أنه نصح المولوي إبراهيم السيالكوتي أن لا يتحمس فيرتكب خطأ الخوض في المناظرة، لأن الناس لا يعارضون الأحمديين هنا كما يعارضون الوهابيين ولا ندري أيثور الناس ضد الأحمديين أم لا، ولكن المؤكد أنهم سيثورون ضدك لأنك من الوهابيين فظني أن الشيخ السيالكوتي لن يخوض المناظرة خوفا من الناس، أما أنت فأنصحك بعدم تبليغ أحد بالأحمدية كيلا أحد.فقلتُ للشيخ الكبي: مَن تخاف علي منه أكثر؟ فذكر اسم شيخ وقال لا تبلغه أبدًا.فقلتُ: لقد بلغته بالأحمدية منذ حوالي ساعة وقد جئتُ من عنده للتو.فقال في حيرة: فماذا حصل؟ قلتُ: كان يقول لي مرارا في حالة من الغضب : لو كان عندي سيف لقطعت عنقك.يلحقك ضرر من باختصار، ظل خالي وذلك الرئيس البهوبالي يثيران الناس ضدنا ولم يحصل شيء.ولكن ما إن انتهى الحج حتى تفشى مرض الهيضة الشديدة في مكة، حتى أخذ الناس يلقون موتاهم في الشوارع، إذ لم يجدوا فرصة لدفنهم.فخاف جدي الذي كان يرافقني وقال: يجب أن نرجع من هنا بسرعة فبدأنا نُعدّ عُدتنا للعودة.

Page 599

الجزء الثامن ۵۹۹ سورة الغاشية وذهب جدي للقاء أخته وابنها في بيتهم، وكنتُ معه، فلما وصلنا هناك رأينا جنازة وأُناسا يُعدّون العدة لدفن الميت، فسأل :جدي من هذا؟ فذكروا اسم خالي الذي كان يثير الناس ضدنا، وقالوا كان راجعًا من منى حين هاجمته الهيضة، فمات بعدها بقليل.ثم وصلنا إلى جدة، وكان أحد أقاربنا من جهة أُمي يعمل مسؤولا في القنصلية الإنجليزية هنالك علما أن خالي الذي كان من بهو بال ومات بالهيضة كان من أقارب جدي لأمي، أما هذا المسؤول فكان من أقارب جدتي لأمي، فالغريب أن أقاربي من جهة جدي لأمي كانوا معارضين للأحمدية على العموم، أما أقاربنا من جهة جدتي لأمي فكانوا متعاطفين على العموم، وإن لم يعد الأمر الآن كما كان في الماضي، وربما كان هذا المسؤول ابن خالة جدتي، فكان يحبنا كثيرا كانت السفن قليلة والناس يريدون العودة بسرعة، فكان الحصول على التذاكر صعبًا جدًا.المسؤول في القنصلية - أن يدبر لنا التذاكر لنرجع في أول جميع - فقلنا لقريبنا هذا سفينة.فذهب بي إلى مكتب شركة السفن وطلب مني الجلوس هناك، وذهب ليدبّر التذاكر.فجلست في هذا المكتب قريبا من شباك مرتفع جدا بحيث لا تكاد تصله اليد.وبينما أنا في هذه الحالة إذ اقترب من النافذة شاب نحيف طويل أبيض اللون، فظنّ أنني أعمل في الشركة وقال : لماذا أنت جالس هنا؟ قلت: ماذا تعني؟ قال: أعني، أتعمل في هذه الشركة؟ قلت: لا.قال: هل لك صلة بهذه الشركة؟ قلت: لا.قال : فلماذا أنت جالس في مكتبها؟ قلت : قد طلب مني أحد أقاربي الجلوس هنا ريثما يدبر التذاكر.قال : تضمّ قافلتنا حوالي ثلاثين رجلا وامرأة ونحن نواجه مصيبة كبيرة، ونحن أشدّ قلقًا على النساء، لأنهن أصبحن كالمجانين خوفا من وباء الهيضة؛ فلو دبرت لنا ١١ تذكرة، فيمكن أن نخرج النساء من هنا على الأقل، أما الرجال فنرى ماذا يفعل القدر بهم قلت وكيف تذهب النساء وحدهن؟ قال: لو دبرت لنا ٤ تذاكر أخرى، فيمكن أن نبعث معهن بعض الرجال، ونكون لك من الشاكرين.قلتُ: ليس لي أي علاقة بشراء التذاكر، ومع ذلك سأحاول.فذهب ورجع بسرعة، وناولني كيسا مليئا بالنقود.وعندما رجع قريبي بتذاكرنا قلتُ له:

Page 600

الجزء الثامن ٦٠ سورة الغاشية خالي، إن هؤلاء في حالة تستحق الرحمة، فدَبِّر لهم التذاكر أيضًا.وكان خالي في تلك اللحظة غاضبا من شيء، فقال: لستُ وكيل الشركة حتى أبحث عن التذاكر لهم.قلت: الأمر يتعلق بالرحمة بهم، فأرجوك أن تحاول.وإذا كنت لا تريد أن تعمل من أجلهم، فأرجوك أن تعمل من أجلي.فخرج من عندي متبرما متمتمًا، وظننت أنه لن يستطيع أن يفعل لهم شيئا، ولكنه عاد بعد قليل بحوالي ١٧ تذكرة ووضعها في يدي.فوضعت التذاكر والنقود الباقية في يد ذلك الرجل الذي كان واقفا بجانب النافذة، فأخذها وذهب.وفي اليوم التالي على ما أذكر - ذهبتُ لركوب السفينة، وكنت قد تأخرتُ قليلا وكانت السفينة على وشك الإبحار.فلقيني ذلك الشاب النحيف الهزيل على باب السفينة وقال: لقد تأخرت جدا، إن السفينة على وشك التحرك، ثم حث العمّال على مساعدتي وأوصل أمتعتي إلى داخل السفينة.ثم قال لي بكل امتنان قد أحسنت إلينا كثيرا إذ دبّرت لنا التذاكر، وإلا كان المحال أن نركب هذه السفينة.فسألته عن اسمه، فقال: اسمي خالد وأنا حفيد النواب جمال الدين خان.فعلمت أنه هو الشخص الذي أراد قتلى بدفعي إلى المناظرة في مكة.ويمكنك تصور مدى ندمه حين علم من أنا، وكيف عاملته وكيف هو عاملني.إنه لم يعارضني بعد ذلك أثناء سفرنا في السفينة، بل ظل يبدي لي الشكر ويصرّ علي مرارًا بتناول الطعام وشرب الشاي معه.بل لقد أخبرني بعض أفراد جماعتنا في بهو بال أنه صار على صلة بإخواننا هناك.إلى مثل هذه المواقف قد أشار الله تعالى في هذه الآيات، فقال سترون مواطن كثيرة يتجرع فيها الكافرون ماء حميمًا جدا.فيمكنك أن تتصور مرارة الجرعة التي تجرّعَها الكفار حين طلبوا من الرسول ﷺ أن يدعو لهم لانتهاء القحط الذي ضرهم، أو حين دخل النبي مكة فاتحا وقال لهم: أخبروني ما أنا فاعل بكم؟ فقالوا: افعل بنا ما فعل يوسف بإخوته السيرة الحلبية: ذكر فتح مكة، سيرة ابن هشام: دخول رسولُ الله الحرم).لا بد أن ألسنتهم عندها قد جفت والتصقت بسقف من دو حلوقهم من شدة الذلة والإهانة واعترافا بغلبة الإسلام.

Page 601

الجزء الثامن 7.1 سورة الغاشية ضَرِيحٍ لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن لَيْسَ لَهُمْ طَعَامُ إِلَّا مِن ضَرِيعِ جُوع.شرح الكلمات: الضريع: نبات رطبه يُسمّى شبرقًا، ويابسه ضريعًا، لا تقربه دابةٌ لحيته.والضريع أيضًا: نبات منتن يرمي به البحر والضريع أيضًا: يُبْسُ كل شجر.والضريع أيضًا: نبات في الماء الأجن له عروق لا تصل إلى الأرض.(الأقرب) التفسير : يقول الزمخشري: المراد من الآية أنهم لن يُعطوا أي طعام، لأن الضريع ليس طعاما.(الكشاف) وقد علق عليه صاحب البحر المحيط" تعليقا جميلا فقال: هذا ليس صحيحا، لأن القرآن يقول لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيع..فسواء كان الضريع طعاما أم لا، إلا أن الذي لا يجد شيئًا للأكل سيأكله لملء بطنه، وإن لم يكن يصلح للأكل في الظروف الطبيعية.فما دام الله تعالى قد قال صراحة بعد ذلك لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ فلماذا يقال أنهم لن يُعطوا أي طعام.إن أسلوب القرآن وكلماته تبين أنهم يُعطون الضريع للأكل..أي أنهم يلقون من الخزي والذلة حتى أنهم يضطرون لأكل ما لا تأكله الحيوانات أيضا بمعنى أنهم يتعرضون للذلة التي لا يتحملها أحقر إنسان أيضا.وبالفعل فإن عديدا من الكافرين فروا عند فتح مكة إلى البراري وماتوا هناك، وبعضهم عادوا إلى مكة بعد معاناة كبيرة طالبين العفو من الرسول و فعفا عنهم.أسد الغابة عكرمة بن أبي جهل).ولما رأى هؤلاء - الذين كانوا يتباهون بأنهم سيدمرون المسلمين ويسحقونهم ويمحون أثرهم- كيف صار العبيد المسلمون يوم الفتح حكاما ورؤساء عليهم، فلا شك أن الطعام اللذيذ الشهي أيضا صار لهم أسوأ من الضريع ولم ينفع أجسادهم.إذا فليس ضروريا أن يكون الضريع هنا بمعنى كلأ الشبرق حقيقة، بل هو استعارة، لأن قوله تعالى بعد ذلك: لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ يشير إلى

Page 602

الجزء الثامن ٦٠٢ سورة الغاشية تعاسة حالهم وفقدان حواسهم كانوا يرون كل يوم أن المسلمين ينتصرون، وهم من ينهزمون، ويسمعون بعد كل حرب حرب أن فلانًا من قادتهم قد قتل، وأن فلانا أسيادهم قد هلك، وكانوا يسمعون كل يوم أن كذا من القبائل قد أسلمت، وأن قومًا كذا قد آمنوا لا شك أن هذه الأخبار كانت جد مزعجة ومؤلمة ومؤذية لهم بحيث إن أفضل الأطعمة ما كانت لتُسمن أجسادهم.28- باختصار، إن قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيع ( لا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وقوله تعالى تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنية يتضمنان نبوءات عظيمة عن ازدهار الإسلام.لقد اعترف الكتاب المسيحيون أيضا أن هذه السورة نزلت في أوائل الإسلام حين لم يمرّ على دعوى النبي سوى ثلاثة أو أربعة أعوام.أفليس إذن آيةً بينة عظيمة أن يخبر الله تعالى في تلك الأيام الأولى من البعثة النبوية أن الكفار سيحاربون المسلمين ساعين لمحو الإسلام على الصعيد الفردي والجماعي، وأنه سيحيق بهم عذاب القحط والمجاعة.فالحق أن قوله تعالى عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ كان بمنزلة التحدي من قبل الإسلام إلى معارضيه وهو يماثل قول نوح العليا لأعدائه: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذكيري بآيات الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرَكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةَ ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تنظرُون (يونس: (۷۲)..فكأن الله تعالى أعلن هنا أنه مهما جمع كفار مكة قواهم ومهما عيّنوا أمراء لمعارضة الإسلام ومهما أعلنوا الحرب ضد المسلمين، إلا أن قادتهم لن يغنوا عنهم شيئا، وجيوشهم لن تنتصر لهم ، وأمراءهم لن يرجعوا بالفتح، وخططهم لن تضر بالمسلمين وبالفعل هذا ما حصل فمع أنهم كانوا يختارون قادة محنكين في فن القتال إلا أنهم كانوا يرجعون منهزمين من أمام المسلمين في كل مرة.فكروا في الظروف الحرجة التي أدلى الله تعالى فيها بهذه النبوءة عن ازدهار الإسلام متحديًا أن قادتهم المحنكين أيضا لن يستطيعوا محاربة المسلمين، بَلْه عامتهم.في الظروف السائدة عندها ما كان بوسع أحد أن يتصور أن المسلمين سيصلّون خارج بيوتهم بله أن ينالوا الفتح والغلبة ومع ذلك أنبأ الله تعالى أن المسلمين سينتصرون وأن أعداءهم سيُهزمون ويتجرعون ماء حميما مرة بعد أخرى.وما أدل على ضعف

Page 603

الجزء الثامن ٦٠٣ سورة الغاشية المسلمين وهوالهم من أن المنافقين كانوا يعيرونهم -حتى زمن غزوة الأحزاب - أنهم يحلمون بالانتصار عليهم وهم لا يجدون مكانًا ،للتغوط كما هو مذكور في الحديث وفي القرآن الكريم علمًا أن نبوءة غلبة المسلمين هذه قد أُدلي بها في السنة الرابعة للبعثة النبوية، واستمر ضعف المسلمين حتى السنة الخامسة من الهجرة كما أشرنا أعلاه، فلا شك أن التنبؤ عن غلبة الإسلام وانتصار المسلمين في ذلك الوقت ليس من عمل إنسان.باختصار، قد أنبأ الله بقوله لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيع ) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أن طعام الكافرين وشرابهم سيصبح عذابًا لهم وستحل بهم من الهموم والمصائب ما يكدر عليهم صفو الحياة.وكأن هذا الكلام من قبيل الاستعارة كما قال الشاعر باللغة الأردية: خون دل سینے کو اور لخت جگر کھانے کو یه غذا ملتی هے لیلی تیرے دیوانے کو أي دم القلب للشرب وفلذة الكبد للأكل..هذا هو الطعام الذي يجده مجنونك يا ليلي.فأخبر الله تعالى أن الكافرين سيشربون الماء البارد ولكنه سيبدو لهم نارا، فلن يستسيغوه، بل سيحرق ،حلقومهم مثل الإنسان المصاب بغم شديد، الذي يغصه الماء الزلال ولا ينزل من حلقومه، ومهما أطعمته من غذاء جيد شهي طيب، إلا أنه لا ينفعه فيزداد هزالا من شدة الغمّ.فالله تعالى يعلن هنا أنه ستحل بأعداء الإسلام أنواع المحن والبلايا وستتعرض كرامتهم وعائلاتهم وحكومتهم لصنوف الهجمات، فيتجرعون المرارة ويأكلون أفلاذ أكبادهم..سيشربون الماء البارد ولكنه سيحرق أفواههم، وسيأكلون أشهى الأطعمة وألذها، ولكنها لن تنفعهم ولن تسمنهم بقدر ما تنفع البعير هشيم الورق وكلأ الشبرق.ورد في بعض الروايات أنه عند نزول هذه الآية قال الكافرون ولكن إبلنا تسمن بأكل الضريع.وقال بعض المفسرين تعليقا على ذلك: يبدو أن الضريع كان

Page 604

الجزء الثامن ٦٠٤ سورة الغاشية طعام الإبل وكان يسمنها.وقال الآخرون إما أن الكافرين قد كذبوا فيما قالوا، أو أن الله تعالى قد تحدث عن نوع خاص من الضريع مبينًا أنهم سيعطون من الضريع الذي لا يسمنهم ولا يغنيهم من جوع وكان هذا الضريع يسمن الإبل، ولكن لن يسمن الكفار.(الكشاف، وفتح البيان أتعجب من المفسرين كيف خاضوا في هذا النقاش لو أن الله تعالى قال هنا ليس لإبلهم إلا ضريع الجاز لهم أن يقولوا هل الضريع يسمن الإبل أم لا؟ ولكن الله تعالى يتحدث هنا عن الناس لا عن الإبل.فمثلاً لو أن ملكا جبّارًا أراد عقاب مجرم فأمر بإطعامه التبن، فهل يفرح المجرم وأصدقاؤه قائلين: لا بأس لو أُطعم صديقنا التبن لأنه يُسمن البقر.الكل يعرف أن التبن يسمن الثور لا الإنسان، ولو قيل عن إنسان أطعموه التبن فليس فيه أي إعزاز له، بل فيه إهانته، ولن يقول أحد أنه أُعطي طعاما يسمنه.عندما زحف السلطان شهاب الدين الغوري بجيشه على الهند فرّ بعض جنوده من أمام الملك الهندي "برتهوي راج"، فأمر الغوري بوضع أكياس مليئة بالحمص وغيره في أعناق الهاربين ليأكلوه.فوضعت الأكياس على أفواههم إشارة إلى أنهم يُشبهون الدواب.تاريخ) فرشته / ترجمة أردية / ج ١ ص ٢٢٠) فهل من عاقل يقول إن هؤلاء الجنود قد فرحوا كثيرا وقالوا فيما بينهم أن الحصان الأصيل والحمار الجيد هو الذي يأكل حبوب الحمص وغيره، فلا بأس لو أطعمنا الملك إياها ؟ فلا أدري لماذا خاض المفسرون في هذا البحث عن الضريع.إن نقاشهم فيما إذا كان الضريع ينفع الإبل أم لا عبث.فقد قال أهل اللغة إن الضريع نبات خبيث تعافه الدواب ولا تقرب منه ثم حتى ولو افترضنا أن الدابة تأكله وافترضنا أن أهل مكة قالوا هذا فعلا فإن هذا دليل على أنهم كالدواب.إذ لو قيل لإنسان لن تعطى إلا طعام الدواب فلن يفرح بذلك قائلا: لا بأس أعطوني إياه لأنه يسمن الدواب! فخوض المفسرين في البحث فيما إذا كان الضريع يسمن الإبل أم لا عبث.لقد قال القرآن الكريم إن الكفار كأمثال أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم سيعطون الضريع،

Page 605

الجزء الثامن 7.0 سورة الغاشية ولم يقل إن الإبل ستعطى الضريع حتى يخوض المفسرون فيما إذا كان الضريع يسمن الإبل أم لا.لو حلّ أحد كناسي المراحيض مثلاً على أحد ضيفًا، فقدّم له التبن أو الكلأ الطازج الذي يسمن الثور والبقر ، فلن يفرح بذلك أبدًا، بل يعتبره إساءة شديدة ،له والله تعالى يتحدث هنا عن الناس، فما معنى الخوض في البحث فيما إذا كان الضريع يسمن الإبل أم لا ؟ إني أقول لهؤلاء المفسرين بكل احترام إن الحديث هنا عن الناس لا عن الدواب، وإذا كان أهل مكة قد قالوا مثل هذا الكلام فعلاً، فلا شك أنهم أكدوا أنهم دواب، ولا حاجة للرد على قولهم هذا.وُجُوهٌ يَوْمَبِذٍ نَاعِمَةٌ ، لِسَعْهَا رَاضِيَةٌ.شرح الكلمات: ناعمة: نَعمَ الرجلُ: رَفهَ.ونَعمَ عيشه : طاب ولان واتسعَ.(الأقرب) الله وقال صاحب البحر المحيط": "ناعمة: الحُسنها ونضارتها، أو متنعمةٌ." التفسير : تحدثت الآيات السابقة عن وجوه صفتها عاملة ناصبة..بمعنى أن سه الذين عارضوا المصطفى ، أو الذين كانوا سيعارضون المأمورين فيما بعد، سيعملون كثيرا على الصعيدين الفردي والجماعي ويرهقون أنفسهم بجهود مضنية، أما هذه الآية فبيّنت أن رسول الله الا الله لن يخضع ولن يظل وحيدا بسبب معارضتهم الفردية والجماعية، لأن جماعته ستزداد وتنتشر وتفوز بالعز والنجاح، كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعَمَةٌ.سیر رسید لقد سُمي رؤساء الكفار وجوهًا إذ كانوا بالفعل وجوه القوم في البداية، أما كلمة (خاشعة) فتشير إلى مصيرهم، لأن الذين يذلّون في أعين الناس ويفقدون نفوذهم وتأثيرهم وتحرقهم نيران الهم والألم..لا يعودون وجوها.أما المسلمون فسُمِّوا (وجوها) نظرًا إلى عاقبتهم.وكأن الله تعالى قد نبه هنا: إنما العمل الحسن ما يكون مآله حسنًا.لقد هب الكافرون وهم وجوه، ثم عادوا وجوها خاشعة، أما

Page 606

الجزء الثامن ٦٠٦ سورة الغاشية المؤمنون فنهضوا من الحضيض وأصبحوا وجوها، حيث نالوا كل نوع من العز والشرف والدرجة.ويمكن أن ترى مآل الكفار وعاقبة المؤمنين من أمثال أبي جهل وأبي بكر فكان الأول ذا جاه وعز ولكن انظر إلى مصيره التعيس حيث قتله يوم بدر صبيان أنصاريان لم يتجاوزا الخامسة عشرة من عمرهما.(البخاري: كتاب المغازي).أما أبو بكر فكان تاجراً بسيطا من مكة، ولما توفي النبي بايعه المسلمون خليفة له واختاروه سيدًا عليهم فبلغ خبر ذلك مكة في مجلس ضمّ والد أبي بكر أيضا.فقال قائل: لقد بلغنا من المدينة أن النبي الله لقد توفي.فقيل له فماذا حدث بعد ذلك؟ قال: قد اختار المسلمون خليفة منهم وبايعوا على يده قالوا: من الذي بايعوه؟ قال أبو بكر.فلما سمع والد أبي بكر هذا الكلام سأل: من يكون أبو بكر هذا؟ وهذا يعني أنه لم يخطر بباله أن الناس يمكن أن يختاروا ابنه سيدًا عليهم.فقيل له: ابن أبي قحافة أي ابنك أنت فبدأ والد أبي بكر يسمي القبائل والأسر واحدة بعد أخرى ويسأل هل بايع هؤلاء على يده؟ فقيل له: نعم.فلم يتمالك نفسه حتى قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (الطبقات لابن سعد، ذكر بيعة أبي بكر.الواقع أنه كان قد أسلم من قبل و لم ينطق بالشهادتين في هذه المناسبة إلا لإيمانه بأن حادث خلافة ابنه أيضا دليل على صدق الإسلام، وإلا فما كانت قبائل العرب لتبايع على يد ابنه.فتری أن شخصًا يبلغ الذروة نتيجة إسلامه حتى لا يصدق أبوه ما حققه من الرقي، مع أن تقديرات الآباء عن أبنائهم كبيرة عادةً، فكثير من الناس يقولون: إن ولدي ذكي جدا، وإذا سألته عن دليل ذلك، قال إنه يقرأ الكتاب بطلاقة.فقراءة كتاب بسيط دليل على العلم والذكاء في رأيه، وإن كان الكتاب مجموعة شعر بسيط، أو إن لم يكن يقرأه بطلاقة.كان المفروض بحسب هذا المبدأ أن يكون أبو بكر عظيمًا في عين أبيه، ولكن أباه لم يصدق أن المسلمين قد بايعوه خليفة للرسول

Page 607

الجزء الثامن ٦٠٧ سورة الغاشية إذن، لقد أصبح أبو جهل صغيرا بعد أن كان كبيرا، وصار أبو بكر كبيرا بعد أن كان صغيرا.وبهذا المعنى نفسه قد أوحي إلى المسيح الموعود الله: "كم من صغير سيجعل كبيرا وكم من كبير سيجعل صغيرا" (التذكرة ص٤٥٣).فأحد الرجُلين اعتُبر من الوجوه، نظرًا إلى بدايته، والآخر نظرا إلى نهايته، وإلا فلا يمكن أن يكونا سيدين لبلد واحد؛ لأن بينهما عداء.فالله تعالى يقول هنا للذين يعادون محمدا ، لا شك أنكم وجوه اليوم، ولكنكم ستصبحون وجوها خاشعة غدًا، ولا شك أن المسلمين ضعفاء اليوم، ولكنهم سيصبحون وجوها غدًا.ثم ذكر الله تعالى من صفات هذه الوجوه أنها ناعمة، أي أن المسلمين يصبحون وجوهًا ناعمة وللناعمة مفهومان: الأول ذات حسن ونضارة، والثاني: المتنعمة..أي المترفلة بالنعم..والمراد أن المسلمين يحوزون الكمال في أنفسهم وفيما حولهم..أي ينعمون بالنعم الداخلية والخارجية.المفهوم الظاهري أنهم ذوو جمال وأموال، والمفهوم الروحاني أنهم ذوو تقوى وعلوم روحانية بتعبير آخر: إنهم يتحلون بعرفان وغنّى كاملين كما يملكون معارف وأموالا يوزّعونها على الآخرين أيضا، ذلك أن الحسن شيء ذاتي يخص ذات الإنسان فقط، أما المال فيتمتع به، كما يعطيه للآخرين.كذلك التقوى تخص ذات الإنسان ولا يمكن أن يوزعها للآخرين، أما العلم فيمكن توزيعه على الآخرين أيضا.فالله تعالى يخبر أن المسلمين سيحوزون الجمال والمال ظاهرًا، ويتحلون بالتقوى والعلم باطنًا.اعلم أن المفهوم الظاهري لقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعَمَةٌ هو أنهم في ذلك اليوم سيبدون ذوي حسن وجمال وفهم هذا التعبير صعب، إذ كيف يبدو الإنسان جميلا في وقت خاص إذا لم يكن جميلا في الواقع؟ ولكن الحقيقة أن الذي تحبّه يبدو لك جميلا جدا.وهذا ما تشير إليه الآية، أنهم بسبب تقواهم وإحسانهم يصبحون محبوبين عند الناس، ومهما كانت صورتهم فيجدهم الناس ذوي حسن وجمال، كما يرى كل أب ابنه جميلا، وكل ابن يرى أباه جميلا.كان عمرو بن العاص له قبل إسلامه عدوا شديدا للإسلام، فأصيب بقلق شديد قبيل وفاته وكان يقول : بأي وجه ألقى ربي؟ فقال له ابنه: ما هذا الذي

Page 608

الجزء الثامن 7+1 سورة الغاشية تقوله يا أبي ؟ فقد قدّمت خدمات جليلة في عهد الرسول ﷺ فقال: نعم، لا شك أن الله تعالى قد وفقنا لخدمات عظيمة في عهده الله ، ولكني أخاف بسبب ما مرّ بنا بعده من أحوال فلا أدري كيف يعاملنا الله تعالى ثم قال: ولو سئلت أن أصفه ما أطقتُ.فقد أتى على فترتان فترة أعلن فيها النبي ﷺ دعواه، فكرهت دعواه كراهية شديدة، فلم أكن أملأ عيني منه لم يكن لي به معرفة كبيرة من قبل حتى أعرف صورته جيدا..أما بعد الدعوى فكنتُ أغض الطرف عنه إذا ما رأيته قادما، حتى لا أرى وجهه، وفترة أخرى حين أنعم الله عليّ بنعمة الإيمان، فرأيت في وجهه وجمالا ونورا وجلالا لم أجرؤ معها على النظر إلى وجهه ، ولذلك لو سألني أحد أن أصفه لم أستطع؛ إذ لم أطق النظر إليه في حالة الكفر لكونه أبغض الناس عندي، ولا في حالة الإيمان لكونه أجمل الناس وأجلّهم في نظري.(مسلم، كتاب الإيمان) حسنًا فالحقيقة أن المرء يرى الشيء جميلا في حين ويراه دميما في حين آخر.وتتغير الصور بناء على نظرة الحب أو البغض.لقد شاهدنا في عشرات الخلافات الزوجية أن كلا من الزوجين ينظر إلى الآخر كالعاشق الولهان في بداية الأمر، فيظن الزوج أن الله تعالى قد أعطاه أجمل امرأة في الدنيا أما بعد النزاع فيقول: إنها كريهة الشكل بحيث لا أطيق النظر إلى وجهها.سر رسید إذًا، فبناء على المعنى الظاهري لكلمة ناعمة فالمراد من قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعمة أنهم سيصبحون يومئذ مقبولين في العالم، وذوي جمال في أعين الناس.ليس ضروريا أن تكون وجوههم جميلة ، بل تراهم الدنيا أجمل الناس لكونهم محسنين خادمين للإنسانية، مشفقين على اليتامى ومساعدين للفقراء، ناهضين بالمنكوبين.فالمعنى الظاهري أيضا مستقيم، ولكن هذا لا يعني أن تكون صورهم جميلة حسنة فعلاً، بل هذا أسلوب للكلام كقولنا: الميزاب يجري، مع أن المراد أن الماء يجري في الميزاب.كذلك المراد هنا أنهم يبدون للناس أهل حسن وجمال لإحسانهم إليهم؛ فيحبهم الناس حبًّا جما لما يتمتعون به من خصال حميدة كالإحسان والصلاح والعفة وحسن المعاملة.

Page 609

الجزء الثامن 7.9 سورة الغاشية ود إذًا، فقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ إشارة إلى حُسن أخلاق الصحابة أو المؤمنين..أي أن الله تعالى سيوفقهم للتحلي بأسمى الأخلاق والإحسان إلى الخلق، فيبدون في أعين الدنيا أجمل الناس في العالم.أما إذا أخذنا بالمعنى الروحاني..أي التقوى والعلم فالمفهوم واضح ولا حاجة لشرحه.لِسَعيهَا رَاضِيَةٌ.بينما يدمى التفسير : في بعض الأحيان يحسن المرء إلى الآخرين وهو مستاء.ومثاله المرائي، فإنه يتبرع بالملايين في مشروع خيري أحيانًا، ويثني عليه الناس ويشيدون بتضحيته، قلبه بما فعل؛ أو أنه يتصدق على الفقراء فيثني عليه القوم، ولكنه في باطنه يكون قلقًا جدا لضياع ماله فلا يكفي الإنسان أن يكون جميلا ومحمودًا في أعين الناس، بل لا بد أن يكون حسينا ومحمودا في عينه هو أيضا، لأن المرائي أيضا حَسينًا في أعين الناس ولكن قلبه يحترق لإدراكه أنه قد هلك بريائه.ولذلك يصبح يقول الله تعالى أن هؤلاء سيكونون كاملي الصلاح دون نقص ولا عيب.والمفهوم الروحاني لقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعَمَةٌ لسَعيهَا رَاضِيَةً أنه سيأتي يوم يصبح يوم يصبح فيه بعض الناس ذوي جمال في أعين العالم وفي أعينهم أيضا..أي أنهم سيفرحون بما صنعوا، ولن يكون عندهم أدنى إحساس أنهم قد ظلموا أنفسهم بتقديم التضحيات من أجل بني ،قومهم بل كلما ازدادوا خدمة وتضحية وإحسانًا إلى الناس ازدادت قلوبهم اطمئنانا وسرورا؛ وبتعبير آخر: تكون قلوبهم عامرة بالإيمان والإخلاص وحب الله بحيث لن يفرح الناس برؤيتهم فحسب، بل إنهم أنفسهم يفرحون بما فعلوا.وهذا يماثل قولنا : لو وجدتُ الفرصة فلأفعلنَّ ما فعلتُ مرة أخرى، أو لأُعيدن العمل نفسه.ذلك أن المرء يقوم أحيانًا بعمل يندم عليه ويحزن فلا يزال ضميره يخزه فلو قيل له هل أنت مطمئن بما فعلت؟ فكثيرًا ما يجيب: كلا، بل إني نادم على ما فعلت وإني أعترف أنني لم أحسن صنعًا.أما إذا

Page 610

الجزء الثامن 71.سورة الغاشية كان مطمئنا بفعله وصادقا فيما يقول بعد ذلك فهو يقول : لو أتيحت لي الفرصة فسأعمل ما عملتُ ثانية، أي أنه مطمئن جدا بما فعل ويريد أن يعيد العمل نفسه لو أتيحت له الظروف.إن كل عمل في الدنيا يُرى من منظورين: يُنظَر إليه من منظور الماضي إلى الاستقبال حينًا، ومن منظور الحال إلى الماضي حينا آخر.فبعض الأعمال تبدو لنا جميلة إذا نظرنا إليها من الماضي إلى المستقبل، وعندما نقوم بها ويصبح المستقبل ماضيا، ثم ننظر إليها نعدّها سيئة بسبب نتائجها.ولكن هناك أعمال إذا نظرنا إليها من منظور الماضي إلى المستقبل تبدو لنا جميلة، وعندما تصبح تلك الأعمال قصة من الماضي وتنكشف نتائجها فتبدو لنا جميلة من حيث نتائجها أيضًا.علامة العمل أنه الحسن السامي يبدو جميلا سواء نظرت إليه من الماضي إلى المستقبل أو الحال من إلى الماضي، وإلى ذلك يشير الله تعالى بقوله السَعيهَا رَاضِيَةٌ..أي أن المسلمين عندما ينظرون إلى أعمالهم التي يريدون القيام بها من منظور الماضي إلى المستقبل فيستحسنونها، وعندما ينجزونها وينظرون إليها من منظور الحال إلى الماضى فسيعتبرونها جميلة أيضا، وكأنما يرون الحسن من أمامهم ومن ورائهم أيضا.إن المشتري الذكي إذا أراد شراء فرس، نظر إليه من أمامه ومن ورائه أيضا، لأن بعض الدواب تبدو جميلة من الأمام، وهي ليست كذلك من الوراء، وبعضها تبدو جميلة من الوراء ودميمة من الأمام، وأفضلها ما يبدو جميلا من أمامه ومن ورائه أيضا.وهذا هو حال أعمال الإنسان أيضا؛ فبعض الأعمال تبدو جميلة قبل القيام بها ،وبعده، وبعضها تبدو جميلة قبل القيام بها، وبغيضة فيما بعد، وبعض الأعمال تبدو سيئةً قبل القيام بها، ولكنها تبدو جميلة فيما بعد.والعمل الذي يبدو جميلا قبل أن وبعد أن تعمله هو الأحق بالإشادة والتقدير كما ورد في الحديث أن صحابيا استشهد في غزوة، فقال الله له مسرورًا: سَلْ ما بدا لك، فإني أعطيك كل ما تسألني.ولو أن هذا الصحابي لم يُضَح بنفسه في سبيل الله على وجه البصيرة لأجاب: ربِّ، قد اشتركتُ في القتال جهلاً مني وقُتلتُ، فأريد أن تحييني ثانية لأعود إلى أهلي.ولكنه لم يقل هكذا، لأنه عندما كان ينظر إلى الشهادة من منظور تعمله

Page 611

الجزء الثامن ٦١١ سورة الغاشية المستقبل كان يستحسنها، وعندما استشهد فعلا ونظر إلى الماضي وإلى نتائج الشهادة استحسن عمله، ولذلك قال لربه ربِّ، أريد أن تحييني لأقتل في سبيلك ثانية (الترمذي، أبواب التفسير.فثبت أن الحسن الحقيقي لأي عمل لا يظهر إلا بالنظر إليه قبل القيام به وبعد إنجازه، وإلى ذلك يشير الله بقوله تعالى السَعيهَا رَاضِيَةٌ..أي أن الناس سيجدون فيهم حسنًا وجمالاً، كما أنهم يجدون في أنفسهم حسنًا وجمالا، ولا يستنكرون أعمالهم بعد القيام بها كلا بل يستحسنون أعمالهم قبل القيام بها، ويجدونها جميلة بعد القيام بها أيضا.وليس المراد من اعتبارهم أنفسهم من ذوي الجمال أنهم يصابون بالكبر والزهو كما هو حال بعض الجهلاء الذين يزعمون أنه ليس لهم مثيل في الدنيا كلها، فإنها فكرة سيئة جدا تدل على مرض قلوب أصحابها، إنما المراد من هذا التعبير أنهم سيستحسنون أعمالهم بعد التدبر فيها وبعد رؤية نتائجها.وهذا المقام مقام الكمال في الإيمان.فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ.التفسير : أي أنهم حين يصبحون ذوي جمال في أعين القوم وفي أعين أنفسهم أيضا، ويستحسنون أعمالهم ويطمئنون بها، سواء بالنظر إليها من الماضي إلى الاستقبال أو بالعكس، فلا بد أن يصيروا مرضيّين عند الناس وعند أنفسهم، بل يصح القول إنهم يكونون مرضيين عند الله وعند الناس وعند أنفسهم أيضا، حيث إن كل حمد إنما يأتي من عند الله في الواقع.وهذه هي الجوانب الثلاثة لأعمال الإنسان، أي معاملته نفسه ومع الله تعالى، فهؤلاء سيكونون مع ومع بني جنسه مرضيين في أعينهم، وعند الناس وعند الله أيضا.وإذا تيسر للمرء الرضا من الجهات الثلاث كلها، فأي شك في أنه يكون في جَنَّة عالية، حيث يُكرمه الناس ويضعونه على الرأس والعين وإنْ كان مفلسا لا يملك قرشًا ويعيش في أسمال؟ إنه

Page 612

الجزء الثامن ٦١٢ سورة الغاشية يعتبر نفسه عاليًا غير دنيء، مُدركًا أن الله تعالى قد وهب له مكانة عالية من حيث الأخلاق و لم يجعله من زمرة الأداني، كما ألقى في قلوب الناس حبه وتكريمه.لعل مفهوم جَنَّة عَالية لم يكن واضحًا في الماضي، ولكنه أصبح سهل الفهم في هذه الأيام لوجود البساتين المعلقة في الدنيا.حيث توجد في مومباي عدة بساتين معلقة.زرتُ مومباي مرة في مقتبل عمري، فأُخبرتُ بوجود البساتين المعلقة هناك، فظننت أنهم ربما زرعوا الأشجار في سلال وعلّقوها على أعمدة عالية أو صخور ناتئة، فتتدلى منها الأشجار وتبدو معلقة في الهواء.ولما ذهبت لزيارتها لم أجد هناك أي بستان معلق هكذا، فقلتُ للبعض : لقد قيل لي إن هنا بساتين معلقة، ولكني لم أرَ منها شيئا، فقيل لي قد رأيتها قبل قليل.فعرفتُ أنهم لا يعنون بها أية بساتين معلقة، وإنما يعنون بها البساتين المزروعة على قمم عالية..ولأن الناس يمرون من تحتها فتبدو بساتين معلقة من فوقهم.كذلك يقول الله تعالى هنا إن المؤمنين سيكونون في بساتين مرتفعة حيث جنة تعني بستانا ذا ظل، وعالية مرتفعة.وحيث إن الشيء المظل لا يُرى ما تحته من أشياء، بينما يكون الشيء الموجود على القمة معرضا للشمس، فلذلك قد أوضح الله تعالى هنا أن البساتين التي نتحدث عنها هنا ذات ميزتين؛ ففيما يتعلق بالصيت والمكانة فهي عالية، وفيما يتعلق بالمحاسن فهي ذات ظلال، أي أن الناس سوف يرفعون أبصارهم إلى هؤلاء المؤمنين، كما أنهم لن يتعرضوا للشمس وحرارتها، بل سيعيشون تحت ظل رحمة الله تعالى، مع أن أكثر الناس حينما ينالون مرتبة عالية يصيبهم الغرور فيُفْتَضحون، وبدلاً من أن تنفعهم شمس الأفضال الإلهية يحترقون بحرارتها.شرح الكلمات لا تَسْمَعُ فِيهَا لَبِغِيَةً ) ود تعني لاغية: اللاغية اللغو؛ كلمة لاغية: أي فاحشة، ومنه لا تَسْمَعُ فِيهَا لَاعْيَةً) أي: كلمةٌ ذاتُ لغو.(الأقرب)

Page 613

الجزء الثامن ٦١٣ سورة الغاشية التفسير : يسمع الإنسانُ اللغو في الدنيا في حالتين: إما أن يكون ذا خلق سيّئ، فيخاصم الناس فيسمع كلمةً لاغيةً بكل تأكيد؛ فمثلاً إذ سب الآخر ووصفه بالخبث وقعت في أذنه كلمته اللاغية حيث سمع قوله بنفسه أيضا، والحالة الثانية أن يخاصمه الناس، فيسمع منهم لاغية.والمرء يسمع لغوه عندما لا يكون راضيا بالآخرين، ويُسمعه الآخرون لغوا حين لا يكونون راضين عنه.ولكن الله تعالى يصف هؤلاء القوم أنهم لن يسمعوا فيها لاغية..أي أنهم سيكونون راضين عن الناس ويكون الناس راضين عنهم سيتحلون بالرحمة والمواساة والستر وحسن المعاملة والمحبة والإخلاص، فلن يخاصموا الآخرين ولن يسبّوهم؛ وذلك كما ورد في الحديث عن النبي لو أنه لم يكن سبابًا ولا فحاشا ولا لقانًا (البخاري: كتاب الأدب).إذا كان المرء سيئ الخُلق عصبيًّا أو بخيلاً أو عنيدا، خاصم الناس وسبهم.وبالفعل نجد أناسًا لو ذهب إليهم أحد لبعض حاجاته صرخوا في وجهه قائلين: لم يُلاحقنا هؤلاء الأشقياء دوماً ولا يتركوننا في أي وقت؟ أما السخي الكريم المحسن المحب للناس، فلا يسمع اللغو من لسانه هو، وإذا صار كاملا في إحسانه ونال القوة والغلبة أيضا فلا لاغية من الآخرين أيضا.يسمع الحقيقة أن قوله تعالى لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغيةً إشارة إلى غلبة المؤمنين وقوتهم؛ ذلك لأن في الدنيا لثاما لا يكفون عن سبّك مهما أحسنت إليهم.انظُروا إلى جماعتنا مثلاً ، فكم نحسن إلى الناس، ونسعى لخيرهم، ومع ذلك نسمع منهم أي أحد.فبعض الناس خبثاء لا يتورعون عن الإيذاء كالعقرب التي تلدغ الس أكثر من دائما يبلغ بهم السوء نتيجة إغواء الشيطان بحيث لا يميزون بين ما هو خير لهم وما هو شر لهم، ويبذلون جهدهم لمعارضة الرسالة الإلهية مهما أحبّهم صاحب الرسالة وواساهم، ولكن حين تنال جماعة الله الحكم والغلبة، فإن هؤلاء يتذللون أمام المؤمنين.

Page 614

الجزء الثامن ٦١٤ سورة الغاشية باختصار، إن قوله تعالى لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغية إشارة إلى حكم المسلمين، حيث بين الله تعالى أنهم سينالون الغلبة فلن يجرؤ أحد على أن يقول لهم كلمة لاغية.كما أن قوله تعالى لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغيةً إشارة إلى سمو أخلاق المسلمين.لقد بينت من قبل أن قوله تعالى السعيها راضية كان إشارة إلى ثلاثة أمور: معاملتهم مع أنفسهم، ومعاملتهم مع بني جنسهم، ومعاملتهم مع الله تعالى، حيث أخبر الله تعالى أنهم سيكونون كاملين من هذه النواحي الثلاث، أما الآن فأشار بقوله تعالى لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغيَةً إلى حسن أخلاقهم، وأنهم لن يكونوا بخلاء طماعين بحيث يسبون الناس إذا جاءوهم طالبين منهم ،معروفا أو أنهم لن يكونوا عصبيين، بل يكونون محسنين منعمين معلمين بحيث يمدحهم الناس.أما اللئيم الذي يخاصمك سواء أحسنت إليه أم لم تُحسن فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْب إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَتْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَتْ (الأعراف: ۱۷۷)..فهو يضايق الشريف كالكلب الذي يلهث دائما، ولا يتوقف عن فحش الكلام إلا إذا نال خصمه الحكم والغلبة، لذلك يقول الله هنا إن المسلمين سينالون الغلبة فلن يقدر أحد أن يُسمعهم لاغيةً، وهكذا سيثني عليهم هؤلاء الأعداء الذين ينكرون الجميل بسبب غلبتهم، أما الشرفاء فيثنون عليهم لإحسانهم.أما هؤلاء المؤمنون فلكونهم صالحين فلا يسبّون أحدا، وبالتالي لن يسمعوا اللغو إطلاقا.فِيهَا عَيْن جَارِيَةٌ : التفسير : أي ستكون في الجنّة التي يسكنها المؤمنون عين جارية.لا شك أن هذه العيون ستكون في الآخرة، ولا داعي للخوض في تفاصيلها، إذ لم أرها ولم يرها غيري، وإنما هي قضية إيمانية وستعني هذه الآية نظرًا إلى حياة الدنيا أنهم سيتركون وراءهم علومًا، ويعاملون بني جنسهم بأخلاق يبقى تأثيرها لمدة طويلة.إن إحسان بعض الناس يكون مؤقتا، ولكن إحسان البعض الآخر صدقة يصبح

Page 615

الجزء الثامن ٦١٥ الله سورة الغاشية جارية.فمثلا تعطي الفقير بعض المال، وبمجرد أن يشتري به خبزا أو طعاما ويأكله ينتهي إحسانك، ولكنك لو علمت الناس الدين أو الخُلق العالي، أو علمت أحدًا حرفة، وساعدته بالمال ليمارس حرفته، أو اشتريت له أدوات صنعته، فهذا إحسان ذو نطاق واسع، لأن إطعام طعام صدقة تنتهي بسرعة، ولكن الإحسان ذا النفع الطويل المدى صدقة جارية.فالمراد من قوله تعالى فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ أن صدقاتهم تكون صدقات جارية، وأن معروفهم ببني جنسهم لا يكون محدودًا أو بسيطا، بل يكون واسع النطاق وطويل المدى.فمثلاً تعلّم الصحابة العلم من النبي ، فنشروه في الدنيا حتى وصل عن فلان وعن فلان وفلان إلى الأجيال القادمة، ثم نقله الذين يلونهم ثم الذين يلونهم إلى من بعدهم حتى وصلت هذه العلوم كلها إلينا.لقد جعل الله تعالى هذه الميزة في الصحابة على خير وجه فكانوا لا يحتفظون بكنوز العلم لأنفسهم، بل كانوا يبلغونها الآخرين كعين جارية.لو كان عند البعض علم أخفوه لأنفسهم، أما الصحابة فقد فعلوا عكس ذلك، حتى روي أن شخصا سأل أحد الصحابة عن حديث لرسول الله ﷺ فقال : لا علم لي به، ولو كنتُ أعلمه والسيف موضوع على عنقي، لسارعتُ إلى تبليغه قبل قتلي، وقلتُ: هذا ما سمعتُ من رسول الله الله البخاري: كتاب العلم).إذا فكان الصحابة عينًا جارية لا يعرفون التوقف، بل كانوا يركضون بعلومهم في العالم.28 كما أخبر الله تعالى بقوله فيهَا عَيْنٌ جَاريَةٌ أن الصحابة وتلاميذهم يخرجون إلى مناطق نائية، ولن يظلوا متقوقعين في الجزيرة.وبالفعل ترى أن العرب المسلمين خرجوا من وطنهم وانتشروا في أقطار بعيدة في العالم حتى بلغوا الصين ونشروا فيها الإسلام، ووصلوا إلى أنطاكية وأشاعوا فيها الإسلام، ودخلوا في إسبانيا وبشروا أهلها بالإسلام.لقد خرجوا إلى شتى أنحاء الدنيا وأجروا فيها العلم أنهارا وعيونًا.فكما أن ماء العين يروي أراضي بعيدة، كذلك لم يتوقف المسلمون في مكان واحد، بل كانوا يصلون إلى شتى أنحاء العالم لينفعوا أهلها بعلومهم.هذه هي ميزات الأمم التي يكتب لها الغلبة على جماعتنا أن تفكر فيما إذا كنا متحلين بهذه الميزات أم لا.دَعُوا الحكم جانبا فإن الله سيكتبه لنا في وقته، ولكن

Page 616

الجزء الثامن ٦١٦ سورة الغاشية من أنواع قبلها حاسبوا أنفسكم لتروا ما إذا كنا متحلين بهذه المحاسن، وهل تخلصنا النقائص في أعيننا وأعين الناس وعند الله أيضا؟ هل نتحلى بأخلاق فاضلة بحيث لا نسمع لاغيةً لا من لساننا ولا من جارية، حتى إذا سمعنا لسان الآخرين؟ وهل نسعى دومًا لنكون كعين من أحد شيئًا حسنًا بلغناه الآخرين بدلاً من أن نكتفي بسماعه ونكيل لقائله المدائح كان الصحابة يتعلمون ليل نهار، ثم لا يحتفظون بما تعلموه في صدورهم، بل كانوا يبلغونه غيرهم كعين جارية تروي العالم.انظروا كم كان ذلك الصحابي تواقا لتعليم الآخرين حيث قال: لو وضع السيف على عنقي، فتكون آخر أمنيتي أن أروي قبل قتلي ما سمعته من قول رسول الله.ينبغي أن تتحلى جماعتنا بهذه الميزة، ويُثبتوا بعملهم أنهم عين جارية فيما يتعلق بالعلوم والمعارف.و فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ : ١٤ شرح الكلمات سُور: جمع سرير، ويُجمع أيضًا أسرة.وهو التخت ويغلب على تخت الملك.يقال: زالَ عن سريره: أي ذهَب عزه ونعمته، سُمّي به لأن من جلس عليه من أهل الرفعة والجاه يكون مسرورا.(الأقرب) مرفوعة : رَفَعَه ضدُّ وَضَعَه.(الأقرب) التفسير: من معاني فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أنها تكون عظيمة، لأن كلمة مرفوعة تشير إلى علوّ الشأن ،والعظمة، كما تعني أيضا أنها تكون في مكان مرتفع.ففيها میزتان ميزة العظمة وميزة الارتفاع.وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين سوف يتقدمون في فعل الخيرات ويسعون ليكونوا أطول قامة من غيرهم في مجال الحسنات، كما أنهم يكونون مرفوعين من حيث إن الله تعالى سوف يرفع درجاتهم.وكأنه تعالى يقول فيما يتعلق بعلاقتهم مع الناس فإنهم يكونون أطول قامة من

Page 617

الجزء الثامن ٦١٧ سورة الغاشية غيرهم في الصلاح والتقوى بحيث لا مجال للمقارنة بينهم وبين غيرهم، وفيما يتعلق بعلاقتهم مع الله تعالى فإنه سيعاملهم معاملة خاصة دون غيرهم، ويجعلهم من المقربين.أما قوله تعالى فيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ فإشارة إلى أن الملك الذي سيعطاه المؤمنون لن يكون كملك أهل الدنيا، بل سيكون فريدا من نوعه، حيث يكون لهم سُرر مَرْفُوعَةٌ..أي تكون أسرتهم في السماء.وبالفعل نرى أن المسلمين أصبحوا ملوك العالم ولكن لم يجلبوا من ملكهم من منفعة شخصية.كان أبو بكر ملكا للعالم الإسلامي كله، ولكن ماذا أخذ ملكه؟ كان محافظًا على بيت المال، ولكنه لم يتصرّف فيه لنفسه قط.لا شك أنه كان تاجراً كبيرا قبل خلافته، ولكن كلما أتاه مال أنفقه في سبيل الله تعالى، فلم يكن عنده مال حين صار خليفة بعد وفاة النبي ، فخرج في اليوم الثاني من خلافته حاملا رزمة من القماش ليبيعها للناس، فلقيه عمر في الطريق وقال: ما هذا الذي تفعله؟ قال: من أين اكل إذا لم أتاجر ؟ فقال عمر: فمن ذا الذي يقوم بمهامّ الخلافة إذا اشتغلت بالتجارة؟ قال : فمن أين أعيش ؟ قال عمر : يجب أن تأخذ مرتبًا من بيت المال.قال : لن أفعل هذا أبدًا، إذ لا حق لي في بيت المال.فقال عمر: ما دام القرآن قد أجاز الإنفاق من بيت المال على خدام الدين، فلماذا لا تأخذ منه؟ فعين لأبي بكر الراتب قليل جدًا من بيت المال لا يكفي إلا للأكل واللباس (الطبقات لابن سعد: ذكر بيعة أبي بكر.ثم لما انتخب عمر له خليفة عاش عيشة بسيطة جدًّا.أما عثمان الله فهو الوحيد الذي كان ثريا بين الخلفاء الراشدين، ولكنه كان جوادًا، فكان ينفق كل ما عنده عادة وكان الناس يقولون له: لماذا المال على الناس هكذا، فكان يجيب مالكم ولهذا المال؟ إنه مالي وأنفقه كيفما أشاء، ولا حق لأحد بالاعتراض.فلم ينتفع أي الخلفاء من بيت المال مطلقا، بل تولّوا الإشراف على إنفاقه على مصالح الناس ومرافقهم فقط.إذن، فكانت سُرُرُ المؤمنين أرفع من سرر الآخرين.إن ملوك الدنيا يعتبرون خزينة الدولة ملكا لهم، ويتصرفون فيها كما يحلو لهم، وهذا هو سبب توزع من النزاعات

Page 618

الجزء الثامن ٦١٨ سورة الغاشية الجارية اليوم بين الجماهير والملوك؛ إذ يقولون لملوكهم: يجب أن تنفقوا هذه الأموال على الرعايا، فيقولون هذه ثروتنا، وسوف ننفقها كيفما نشاء.فالله تعالى يرسم الخزينة ملكا من هنا معالم الحكومة الإسلامية مبينًا أن سرر المسلمين تكون مرفوعة، وحكمهم يكون لمصلحة الناس، وكأنه تعالى يقول: إنهم يكونون ملوكًا بالاسم فقط في الظاهر، وأما في الحقيقة فيكونون أرفع من ملوك الدنيا، فلن يعتبروا لهم، بل ملكا للبلاد والشعب.وهذا هو مفهوم الحكومة الإسلامية، إذ لا تكون الخزينة فيها ملكًا لفرد ، بل تكون ملكًا للشعب كله.إن بعض غير الأحمديين الذين يظنون أن جماعتنا كجماعات المتصوفين والدراويش المزعومين الآخرين، يكتبون لى أن عندك أموالاً كثيرة، فأعطنا فضلك كذا من الآلاف.فأقول لهم في الجواب إن المال الذي يأتيني ليس ملكا لي، بل هو ملك الجماعة، ولا يحق لي توزيعه على الناس كيفما أشاء! فهؤلاء القوم لا يدركون أنني أيضا خاضع لقانون، ولا يحق لي الإنفاق من بيت المال خلاف هذا القانون فأشرح لهم حقيقة الأمر كثيرا وأقول: إني لا أملك التصرف التام في هذه الخزينة، بل إن الله تعالى قد جعلني خاضعا لبعض القوانين، ولكن هؤلاء لا يفهمون شيئا، ويظنون أنني لا أساعدهم بخلا مما يدل مني، على أن المسلمين قد ضلّوا عن تعاليم الإسلام اليومَ ضلالاً بعيدا، فأصبح ملوكهم وأثرياؤهم من المغضوب عليهم، بينما كان ملوك المسلمين في الماضي محبوبين عندهم وعند غيرهم أيضا، إذ كانوا ينفقون أموال الدولة على مصلحة البلاد ولا سيما على النهوض بالفقراء، كما كان أمراؤهم يعتبرون أموالهم أمانةً ربانية عندهم، فلم يكونوا ينفقونها إشباعًا لأهواء النفس، بل على مرافق العامة ومصالحهم.شرح الكلمات: وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ : ۱۵ أكواب مفردها كوب، وهو كوز مستدير الرأس؛ ويقال : قَدْحُ لا عُروةَ لـ (الأقرب)

Page 619

الجزء الثامن فالحطّ يعني ٦١٩ سورة الغاشية موضوعة: وضع الشيء: أثبته (الأقرب).علما أن هناك فرقا بين الحطّ والوضع، الوضع المجرّد، أما الوضع فهو إثبات الشيء بطريق مناسب، قال الله تعالى والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ) (الرحمن: (۱۱)..أي أن الله تعالى قد هيأ الأرض لتكون نافعة للمخلوق.كذلك قال الله تعالى يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مواضعه (النساء: ٤٧)..أي يغيّرونها عن أماكنها المناسبة.التفسير : يمكن تفسير قوله تعالى (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ بثلاثة مفاهيم: أولها أن الأكواب ستكون موضوعة بالقرب من المؤمنين، وحيث إن الكوب يوضع قريبا من المرء ليشرب به فيُستنبط من ذلك أن هذه الأكواب ستكون مليئة.وثانيها: أن الأكواب ستوضع قريبا منهم غير بعيد.ثالثها أن الأكواب توضع قريبا من عيون المياه.هذه الآية تتحدث عما ينعم به المسلمون من قرب الله تعالى وما يتحلون به من سخاء وكرم.فجملة "أن الأكواب ستكون موضوعة بالقرب من المؤمنين" إشارة إلى امتلائها، والمراد أن الله تعالى سيسقي المؤمنين كؤوس نعمه مترعة ويسقيهم إياها كل حين.والمعنى الثاني أن المؤمنين سيملأون كؤوس فضل الله ومنته ويضعونها بالقرب منهم ليسقوها كل من يزورهم..أي أنهم يملأون كؤوس المعارف السماوية ويقدمونها للناس قائلين تعالوا اشربوها.أما الجملة الثانية " أن الأكواب ستوضع قريبا منهم غير بعيد" فهي تشير إلى أن نيل العلوم السماوية سيُجعَل سهلاً لهم، فيشفون غليل روحهم بجهد بسيط.أما الجملة الثالثة وهي: "أن الأكواب ستوضع قريبا من عيون الماء"..فالمراد منها أنهم سيعلنون أنها دعوة عامة، فليشربها من يشاء.وكأن الله تعالى يقول: أولاً : أن صدورهم ستُملأ بعلوم السماء.

Page 620

الجزء الثامن ٦٢٠ سورة الغاشية الثاني: أن معارفهم ستكون واسعة من أجل الجميع، بحيث لن يحتاج أحد للسؤال عنها.الثالث: أنهم يملأون الأكواب ويضعونها بالقرب منهم قائلين للناس: تعالوا اشربوها.الرابع: أن تحصيل علوم السماء سيجعل سهلا لهم.الخامس: أن أبواب فيوضهم ستكون مفتوحة للجميع، فمن شاء انتفع بها.شرح الكلمات: وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ 17 نمارق جمعُ نُمْرُقِ ونَمْرُق ونمرق ونُمْرُقة وهي: الوسادة الصغيرة يُتّكأ عليها.(الأقرب) هناك مسند خاص يسمى عندنا (گاؤتكيه يوضع لرئيس القوم فقط في البلاد المتمدنة، أما النمارق فهي مساند صغيرة توضع عند جدار المجلس يستند إليها أهله.التفسير : هذه الآية إشارة إلى أن المسلمين كلهم سيكونون معزّزين، إذ لن يستند بعضهم إلى مساند، بينما يظل الباقون من دونها، بل الجميع يكون لهم مساند..أي أن الله تعالى سيعزّ هؤلاء القوم كلهم ويشرفهم.الحق أن هذه الميزة لم تتوفر كاملة إلا في أصحاب رسول الله ﷺ.من المؤسف جدًا أنه لا يزال بيننا كثيرون لا يرغبون في تحصيل علوم الدين، ويجهلون معارف القرآن إلى حد كبير، بل ليس عندهم رغبة بتعلم معارفه.هناك آلاف من قاديان لا يواظبون على حضور هذا الدرس القرآني الذي أقوم به، وإذا جاءوا فلا يسعون لأن يعوا ويحفظوا ما يسمعون، وإذا حفظوه لم يُسمعوه الآخرين.كان محمد رسول الله ﷺ هو وحده الذي أعطي تلك الجماعة من الكُمّل الذين إذا سمعوا له قولاً وعوه وحفظوه ثم بلّغوه الآخرين.لا شك أن في جماعتنا قوما يسعون ليسمعوا كل أمور الدين كالصحابة ويعملوا بها ويبلغوها الآخرين، ولكن أصحاب سكان

Page 621

الجزء الثامن ٦٢١ سورة الغاشية الرسول و كلهم كانوا يتحلون بهذه الميزة التي يجب أن نغبطهم كلنا عليها ونسعى للتأسي بها.هذه هي الميزة التي أشار الله تعالى إليها هنا، حيث بين أن المسلمين ليسوا قوما يجلس شخص واحد منهم فقط مستندا إلى مسند كبير، بينما يقف الباقون أمامه باحترام بل كلهم ينالون العز والجاه والعظمة، مستندين إلى نمارق مصفوفة.شرح الكلمات: وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ۱۷ زرابي: هي النمارق والبُسُط مفردها: زِرْبِيَّ وزَرْبيّة (الأقرب) مبثوثة: أصل البث التفريق وإثارة الشيء.(المفردات) كان المراد من قوله تعالى (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ أن كل فرد من المسلمين يكون معززا، وكل القوم يكونون محترمين، وكل منهم يستند إلى مسند وليس أن فردًا منهم و واحدًا المسلمين سيحظون بهذا التكريم في كل قطر من العالم، ففي كل مكان تكون لهم زرابي مبثوثة وأهل كل بلد يُعزونهم متأثرين من جاههم ومكانتهم؛ ولذلك قال الله تعالى أولاً وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ثم قال وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، حيث تشير مصفوفة إلى أنهم حين يحضرون مجلسًا يلقى كلهم التكريم ولن يصير فيه أحدهم ذليلا، أما مبثوثة فليس الحديث فيها عن المجالس، بل تشير إلى أنهم حيثما ذهبوا استقبلهم الناس بفرش السجاجيد، أي رحبوا بهم بحفاوة وأعزّوهم وأكرموهم وتمنوا أن يزوروا بيوتهم من أجل البركة إن الناس عادة يهتمون بالمظهر فقط، فيظنون أن الاستقبال إنما يكون بمظاهر الفرح والابتهاج من فرش سجاجيد وصنع بوابات جميلة وتعليق رايات ملونة وما إلى ذلك والواقع أن الاستقبال الحقيقي لا يكون بفرش السجاجيد، بل بفرش العيون، كما قال الشاعر: يعزّ والبقية لن ينالوا الإعزاز ؛ أما الآن فقال وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ..أي أن

Page 622

الجزء الثامن ٦٢٢ سورة الغاشية خير حضرت واعظ جو آئیں دیدہ و دل فرش راه أي لو جاءني حضرة الواعظ فسوف أفرش له عيني وقلبي.ففَرْشُ العيون والقلوب للزائر هو علامة تكريمه وإعزازه في الحقيقة، وإليه يشير قوله تعالى ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، إذ ليس المراد هنا الزرابي المادية، لأن الصحابة لم يكونوا يبالون بها مطلقا؛ فعندما دخل الصحابة على ملك الفُرس مروا في بلاطه وهم يثقبون برماحهم سجاجيد كبيرة ،وغالية فقال الفرس: ما هؤلاء الهمج الذين يُفسدون سجاجيدنا الغالية برماحهم؟ ولكن الصحابة لم يأبهوا لهم، فقال لهم الملك: ما لكم وللسياسة؟ فلا تُهلكوا أنفسكم بلا داعٍ، بل خُذوا المال وارجعوا، فهذا لكم.وكان يظنّ أن العرب سيفرحون بالمال وينفضون فكرة الحرب من رؤوسهم.والواقع أن الثمن الذي جعله الملك لهم يكشف لنا مدى احتقار الشعوب الأخرى للعرب - ويبدو أن العرب عندها كانوا طماعين وإلا فكيف فكر الملك أنهم سيرضون بالمال - فأمر أن يعطى كل جندي من الصحابة درهما وكل قائد منهم در همين ولكن الصحابة ردوا على الملك: أمامنا سبيلان لا ثالث لهما، إما موتك أو موتنا؛ إذ لا يمكن أن يتصالح الإسلام مع الكفر بعد نشوب الحرب.فاستشاط الملك غضبًا وأمر بإحضار كيس كبير مليء بالتراب، وأمر قائد المؤمنين أن يتقدّم ، وأمر بوضع الكيس على ظهره وقال له أما الآن فلا أعطيك إلا هذا الكيس من التراب.وكان الصحابة يظنون أن القائد المسلم سيرفض حمل هذا الكيس باعتباره إهانة له ولكنه تقدّمَ وحمل الكيس على ظهره، فاستاء أصحابه من تصرفه، ولكنه أخذ الكيس وصاح بأصحابه تعالوا نذهب، فإن ملك الفرس بنفسه قد وضع أرضه في أيدينا والمشرك يكون كثير الوهم، فلما سمع الملك قول القائد المسلم امتقع لونه وسُقط في يده فقال لحاشيته : أسرعوا، وائتوا بهم إلي، ولكن المسلمين كانوا قد خرجوا بعيدًا ممتطين جيادهم، فرجع رجال الملك خائبين.البداية والنهاية فصل في غزوة القادسية)

Page 623

الجزء الثامن ٦٢٣ سورة الغاشية فترى كم كانت لطيفة ورائعة فكرة القائد المسلم التي لم تخطر ببال الصحابة الآخرين، إذ ظنوا أنه قد أخطأ إذ حمل كيس التراب، ولكن انكشفت عليهم الحقيقة حين هتف بهم.ثم إن الصحابة لا أجمعين حيثما ذهبوا استقبلهم الناس بحفاوة وتكريم.هناك حادثة تاريخية شهيرة وقعت عند فتح حمص، فإن المسلمين فتحوها أول الأمر، ثم اضطروا لإخلائها لأن العدو أعاد الكرة عليهم بجيش أكبر.فلما أرادوا الانسحاب منها خرج النصارى يودّعونهم قائلين: أعادكم الله إلينا مرة أخرى.فترى أن البلد كان للمسيحيين، وكان المسيحيون في حرب مع إخوانهم؛ إذ كان الملك المسيحي نفسه يحاول الاستيلاء على حمص ،ثانية، إلا أنهم آثروا المسلمين على ملكهم المسيحي، داعين الله تعالى أن يعود بالمسلمين إليهم ثانية.(فتوح البلدان للبلاذري: أمرُ حمص ويوم اليرموك ص ١٣٦ - ١٣٧ و ١٤٣) باختصار، قد أخبر الله تعالى هنا أنه حيثما يذهب المسلمون سيفرش لهم الناس عيونهم ويرحبون بهم بحفاوة يا تُرى ما الذي كتب الفتح للإسلام وجعل المسلمين ينتشرون في كل مكان؟ إنما سببه أنهم كانوا منصفين عادلين، لا يهضمون حقوق الناس.المرء يحارب الأجانب غَضَبًا حين يرى أنهم سيلحقون به ضرراً، ولكن الناس لما أدركوا أن ملكهم الذي هو من أهل دينهم ظالم وأن المسلمين منصفون وأنهم لو جاء وهم حكموهم حكمًا ،عادلاً، فإنهم لم يحاربوهم، بل بحفاوة وتكريم.فالله تعالى ينبئ هنا أن المسلمين حيثما ذهبوا فسيفرش لهم عاملوهم الناس عيونهم، يقدّم لهم الناس المساند ويفرشون لهم المفارش والسجاجيد، كما يحصل عند استقبال الحكام والملوك، حيث يدعونهم لأن يقيموا عندهم لا عند غيرهم.

Page 624

الجزء الثامن ٦٢٤ سورة الغاشية أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (3) وَإِلَى السَّمَاءِ ۱۹ كَيْفَ رُفِعَتْ : شرح الكلمات: الإبل : لفظ الإبل يقع على البعران الكثيرة ؛ وقيل أريد بها السحاب، فإن لم يكن ذلك صحيحًا فعلى تشبيه السحاب بالإبل وأحواله بأحوالها.(المفرادت) مع أن بعض أئمة اللغة ومنهم الكسائي قال : إن الإبل هنا بمعنى السحاب، فقد قال صاحب المحيط ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة.وكنت في البداية أفسّر الإبل بمعنى السحاب بدلاً من الجمال؛ إذ لم أكن أفهم العلاقة بين الإبل والسماء المذكورة ،بعدها ولكن التدبر كشف لي فيما بعد أن الإبل هنا بمعنى الجمال.ذلك أنني كنتُ أتدبر هذه الآية غاضًا الطرف عن باقي الآيات، ولكني لما تدبرتها على ضوء سياق الآيات الأخرى وترتيبها تبين لي أن هناك علاقة بين الجمال والسماء، ولكن لا علاقة للسحاب بالسماء هنا.فقد أصاب صاحب المفردات وصاحب الكشاف حين قالا إن الذين فسروا الإبل هنا السحاب فعلى تشبيه السحاب، لأن الجمال أيضا تمشي مرتفعة ومنخفضة كالسحاب.فلوجود الشبه بين مشية الجمال والسحب قد استعملت كلمة (الإبل)، وإلا فالإبل لا تعني السحاب لغة.بمعنى التفسير : في قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ..ذكر الموضوع بدءًا من تحت إلى فوق، أما في قوله تعالى وإلى الجبال كَيْفَ نُصبَتْ وَإِلَى الأَرض كَيْفَ سُطِحَت فمن فوق إلى تحت؛ مما يبين بوضوح أن الحديث في هذه الآيات هو عن موضوعين منفصلين؛ حيث ذكر الأول من تحت إلى فوق والثاني من فوق إلى تحت وإلا فلا نجد أي رابط ولا ترتيب في ذكر الإبل والسماء والجبال والأرض بهذا الشكل.المعروف أن الدرجات

Page 625

الجزء الثامن ٦٢٥ سورة الغاشية تذكر عادة بترتيبين: من فوق إلى تحت، أو من تحت إلى فوق.ونرى أن الله تعالى قد ذكر هنا الإبل أولاً ثم السماء، والترتيب هنا ،مفهوم، حيث نرى أن الموضوع بدأ من أسفل إلى أعلى؛ ثم ذكر الجبال، وهي ليست أرفع من السماء بل ليست بارتفاعها، ثم ذكر الأرض التي ليست أرفع من الجبال والترتيب الثاني لبيان الدرجات أن يُبدأ بذكر الأعلى ثم الأدنى، ولكن هذا الترتيب أيضًا لا يستقيم هنا، إذ ذُكرت الإبل أولاً، ثم السماء، مع أن الإبل ليست أرفع من السماء، فلا يمكن القول إن الإبل في الأسفل، ثم فوقها السماء، ثم فوقها الجبال، ثم فوقها الأرض.كما لا يستقيم القول إن الإبل أرفع هذه الأشياء، ثم دونها السماء، ثم الجبال، ثم الأرض.ولكن الترتيب يُذكر أحيانًا بأسلوب آخر أيضا، حيث يُذكر الشيء المتوسط، ثم ما يليه يمينا وشمالا، ولكن الله تعالى قد ذكر هنا الإبل، ثم السماء، ثم الجبال، ثم الأرض.لو أنه تعالى ذكر أرفع هذه الأشياء أولاً ثم ذكر ما يليه لاستقام الترتيب، ولكن الأمر ليس كذلك أيضا.إذا لا يستقيم الترتيب فيما يظهر، ولذلك لم يبق أمامنا إلا أن نعتبر هذه الآيات من دون ترتيب وهذا خلاف عظمة القرآن أو نقول إنها تذكر هنا مثالين منفصلين، أُشير في أولهما إلى الموضوع من الأسفل إلى الأعلى، وفي الثاني من الأعلى إلى الأسفل ففي المثال الأول قد أشير إلى أمر مشترك بين الإبل والسماء، وفي المثال الثاني الأمر مشترك بين الجبال والأرض وعندي أن هذا هو الصحيح.والإبل هنا الجمال، ولكن السماء ليس بمعناها المعروف، بل أريد بها السحاب كما في قوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْع، إذ تعني هنا السحب أيضا.بمعنى كان كفار مكة متكبرين مغرورين بما يتمتعون به من جاه ومكانة ويقولون دائما متباهين: كيف يمكن أن ينتصر علينا المسلمون؟ لقد أشار الله تعالى هنا إلى عادتهم هذه وقال تتباهون بمكانتكم وعزتكم ولكن الواقع أن مَثَلكم كمَثَل الإبل.لا شك أنها طويلة القامة، ولكنكم تعلمون أنها تُسخَّر لركوب الآخرين دائما.إنها مع سنامها العالي وقامتها المرتفعة وجسمها الكبير وأرجلها الضخمة، تظل دائمًا

Page 626

الجزء الثامن القامة، ٦٢٦ سورة الغاشية تحت الآخرين.فمهما تباهيتم بعزتكم ومكانتكم إلا أنكم لن تُعطوا كفاءات الحكم على الآخرين، بل سيركب الآخرون أعناقكم، شأن البعير الذي يكون عالي ومع ذلك يركب الإنسان ظهره.وإن السماء..أي السحب..هي التي ترتفع وتصعد دومًا لا الجمال، فستظلون كالجمال مطايا للآخرين، ولن تستطيعوا الحكم على الآخرين.أما أصحاب محمد الله الذين هم كالسماء..أي كالسحاب الذي يغطي الجو..فهم الذين سيستولون على العالم كالسحب.فشتان بينكم وبينهم ! وبالفعل نرى أن العرب منذ قرون طويلة قبل النبي لم يكونوا حاكمين على الآخرين، فتاريخهم المحفوظ منذ زمن إبراهيم اللي يكشف أنهم ظلوا محكومين دائما، ولم تكتب لهم الغلبة على الآخرين أبدا.ولكن نفس الشعب الذي ظلّ ذليلا منذ ٢٥٠٠ سنة ولم تكتب له الغلبة في أي قطر من العالم، ولم يكن عندهم عقلية الحاكم..عندما دخل في طاعة الرسول ﷺ وتمسك بأهدابه، صعد من الثرى إلى الثريا في لمح البصر، وأصبح فاتحا للعالم واستولى على الدنيا كالسحب.ولذلك شبّه الله تعالى هنا الكافرين بالإبل مبينًا لهم أنهم رغم كونهم طوالاً سيظلون مطايا للآخرين، أما المسلمون فهم كالسحاب الذي يتكون من ذرات غير مرئية للعين، ثم يرتفع ويغطي العالم ويروي الناس.وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ( وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (3) ۲۱ التفسير: وهذا مثال آخر لبيان الموضوع من الأعلى إلى الأسفل، حيث يقول الله تعالى انظروا إلى الجبال كيف هي راسيات في الأرض.وقد ذكر الله تعالى فوائد الجبال في موضوع آخر وقال وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ (الأنبياء: (۳۲)..أي جعلنا في الأرض جبالاً كي تصبح ثابتة مستقرة، ولا يهلك أهلها الواقع أن الجبال هي التي منعت الأرض من حركة غير طبيعية، وإلا لصار عيش الإنسان عليها محالاً.لقد نبه الله هنا الكافرين تكملة للموضوع السابق إلى

Page 627

الجزء الثامن ٦٢٧ سورة الغاشية أنكم تظنون أن غلبة المسلمين عليكم مستحيلة لأنكم ذوو قوة ومنعة وعزّة، وأن إخوانكم في الدين والدم لن يتركوكم ولن يتبعوا المسلمين، فاعلموا أنه خيال فاسد.لا شك أن فيكم أيضا خيرا، ولكن شتان بينكم وبين المسلمين، والدليل عليه أننا جعلنا المسلمين بمشيئتنا جبالاً، وجعلناكم أرضًا، ولا قرار للأرض بدون الجبال، إذ لولاها لم تبق الأرض على حالتها.نحن لا ننكر ما فيكم من محاسن، كما لا يمكن لأحد إنكار مزايا الأرض، ولكن لا تنسوا أن الأرض لا يمكن أن تستغني عن الجبال أو تستقر ،بدونها كلا بل إن بقاءها بدون الجبال مستحيل، كذلك ما دام الله تعالى قد جعل المسلمين جبالاً، فخير لكم أن تفترشوا أمامهم افتراش الأرض للسماء.إن الأرض إنما تنتفع من السماء ما دامت خاضعة لها، مصلحتكم أن تذعنوا للمسلمين ولا تهبوا لمقاومتهم.أما لو طبقنا هذا المثال نظرًا إلى رفعة الجبال، فالمعنى أن مثلكم ومثل المسلمين كمثل الأرض والجبال، ولن تزول المفاسد من الدنيا الآن إلا بواسطة المسلمين.لا شك أن الأرض تصبح مخضرة نضرة وتخرج أنواع النبات، ولكنها لا تفعل ذلك إلا التي تتسبب في نزول الأمطار وجريان الأنهار.فرقيكم كذلك من بمساعدة الجبال، لأنها هي منوط الآن ،بالمسلمين ولن تنعموا بالراحة بالانفصال عنهم.فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِرٌ ) ۲۲ التفسير: أي أن كل الترقيات والفوائد منوطة بالمسلمين الآن، ولا يمكن للإنسان أن ينال أنواع البركات إلا بالانضمام إلى أمة محمد ﷺ، التي جعلها الله تعالى كالسحاب الذي يسيطر على الأرض، وكالجبال التي تزيل ما في الأرض من فساد، وتمدّ الناس بمنافع شتى، فمن واجبكم الآن أيها المسلمون، أن تدعوا أعداء الإسلام لاعتناقه؛ فماذا ينفعهم لو عاشوا كالجمال؟ عليهم أن يكونوا كالسحاب أو كالجبال التي تنفع العالم حتى لا يُداسوا كالأرض تحت الأمم الأخرى.

Page 628

الجزء الثامن ٦٢٨ سورة الغاشية لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (3) شرح الكلمات: ٢٤ المصيطر : يُكتب بالسين والصاد ويقال المصيطر والمتصيطر، ومعناه: الرقيب الحافظ؛ المتسلط على الشيء ليُشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله.(الأقرب) إلا مَن تولى وكفر الاستثناء هنا منقطع وليس متصلا.والمراد: أما من تولى وكفر رغم النصح فالمسؤولية ليست عليك، سوف يصدقك ذوو النفوس الطيبة، ولكنا لم نجعلك مسيطرًا لا على المؤمنين ولا على الكافرين.التفسير : لم يجعل الله تعالى رسوله مسيطرا على المؤمنين ولا على الكافرين.إنه ليس مسيطرا على الكافرين، لأنه لو أجبر الكافر على الإسلام فلا ينفع الكافر إيمانه ولا ينفع المؤمنين أيضا، لأنه سيُسلم خوفًا من السيف، فيؤمن بهذا الدين ظاهرًا ويبقى منافقا في قلبه والمنافق أسوأ من الكافر؛ ولذلك قد نهى الله تعالى نبيه عن إكراه الناس على الإسلام فقال : لست عليهم بمسيطر من ولن ينتفع المؤمنون بإيمان مَن يُكره على الإسلام، لأن المنافق سيتسبب في ضعف قوتهم، بدلاً من أن يزيدها.قبلنا، ولم يجعل الله تعالى رسوله مسيطرا على المؤمنين لأن المرء يفوز برضا الله تعالى بأعمال يقوم بها عن رغبة وشوق.أما الذي ليس في قلبه رغبة للفوز بحب الله تعالى، ولا حماس للعمل بأحكامه تعالى، فإنه يظل بعيدا عن سبل المعرفة والإخلاص، ولو أُجبر على القيام بعمل حسن، فلن تتيسر لروحه الطهارة المنشودة، ولن تحظى أعماله بالقبول عند الله تعالى، فلذلك قال الله لرسوله الكريم لم نبعثك مسيطرا على الناس؛ فإن من يكفر ولا يرتدع عن سيئاته رغم النصح فاترك أمره لنا، لأن جبرك لن ينفعه شيئا.أما المؤمن فعليك أن تزيده رغبة وشوقا في أعمال الخير لينتفع بإيمانه.هنا أيضا قد تنبأ القرآن بوضوح عن غلبة الإسلام والرسول ؛ ذلك أن الله تعالى قد أوضح لرسوله أنه ليس عليهم بمسيطر في أوائل البعثة النبوية في مكة، حين

Page 629

الجزء الثامن ٦٢٩ سورة الغاشية لم يكن لأحد أن يتصور أن الإسلام سينال قوة عظيمة حتى تصبح أعناق الكافرين في قبضة المسلمين، فيفعلوا بهم ما يشاءون الواضح أن الرسول ﷺ لم يكن يملك أية قوة في مكة حتى يقال له لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطر، فثبت أنها نبوءة تتعلق بالمستقبل، وإلا أصبح هذا القول مضحكة؛ إذ لم يكن المسلمون عندها يستطيعون أداء الصلاة علنًا، فكيف يقال لهم هذا في تلك الحالة؟ فثبت من هنا أن هذه الآية كانت نبوءة واضحة أن المسلمين سينالون من القوة بحيث لو أرادوا إكراه الناس على الإسلام لفعلوا، ولكن الله تعالى نهاهم عن وقد خطرت هذه النبوءة ببال الكتاب المسيحيين أيضا، حيث يقول "ويري" في تفسير هذه الآية أن أفكار الحكم كانت مسيطرة على قلب محمد منذ البداية، فقراءتُه مثل هذه الآيات على أهل مكة في الفترة البدائية دليل على أن خطة الحكم كانت مرسومة في ذهنه منذ البداية وأن مثل هذه الأفكار قد نشأت في قلبه منذ ذلك الحين.(تفسير (ويري ذلك.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إن فكرة الحكم تنشأ في قلب المرء لأسباب، فما هي تلك الأسباب؟ فكيف يمكن أن تتولد فكرة الحكم في قلب شخص هو هدف للضرب والاضطهاد ولا يستطيع أن يعبد ربه علنًا وبحرية؟ ثم كيف يمكن أن تتحقق هذه الأفكار أيضا؟ الواقع أن هذه نبوءة عظيمة حيث أخبر الله نبيه أنكم لستم بشيء الآن، ولكن سيأتي زمن تصبحون فيه غالبين بحيث تفعلون ما تشاءون، ولكن لا تكرهوا أحدا على الإسلام حين تكتب لكم الغلبة، بل اتركوا الناس أحرارًا في أمر الدين.فمن آمن فرحبوا به إلى جماعتكم ومن تولى وكفر فلا تبالوا به.فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (20 التفسير : أي أن الذي يتولى ويكفر سيعذب عذابا أكبر، لأنه قد كفر بهدي أكبر.العقوبة تكون بحسب الجريمة دائمًا ، فإذا كانت الجريمة بسيطة كانت العقوبة

Page 630

٦٣٠ سورة الغاشية الجزء الثامن بسيطة، وإذا كانت الجريمة شديدة كانت العقوبة قاسية؛ وجريمتهم ليست بسيطة، لذا لن تكون عقوبتهم بسيطة، لأنهم قد كفروا بالذي هو أفضل الرسل قاطبة، وشريعته أفضل الشرائع كلها.بين إِنَّ إِلَيْنَا إِيَّاهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم © شرح الكلمات: إياهم آب إيابا : رجع.(المنجد) ٢٦ ۲۷ من بداية سورة الأعلى، حيث التفسير : لقد خُتم بهذه الآية الموضوع الذي بدأ الله تعالى أن كلا من المؤمن والكافر سيحضر عند الله تعالى بعد إنجاز عمله؛ الله تعالى والكافر بنشر الكفر ، ليروا نتائج أعمالهم الأخروية بعد أن المؤمن بتسبيح شاهدوا عاقبة أعمالهم في الدنيا.لقد بينتُ من قبل أن هناك صلة وثيقة بين سورة الأعلى وسورة الغاشية، ومن الأدلة على ذلك ما ورد في الحديث أن النبي ﷺ كان إذا قرأ قوله تعالى في سورة الأعلى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) قال : سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ قول الله تعالى في سورة الغاشية إنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ قال: اللهم حاسبني حسابا يسيرا.(مسند أحمد: مسند ابن عباس ومسند عائشة)؛ وهذا يبين بكل وضوح أن السورتين وثيقتا الصلة من حيث الموضوع عند رسول الله ﷺ، فترديده: سبحان ربي الأعلى" عند بداية السورة الأولى ، واللهم حاسبني حسابا يسيرا" عند نهاية السورة الأخرى، يبين أن الموضوع الذي بدأ عند سورة الأعلى قد انتهى عند " سورة الغاشية.

Page 631

الجزء الثامن ٦٣١ سورة الفجر سورة الفجر مكية، وهي إحدى وثلاثون آية مع البسملة، وهي ركوع واحد هذه السورة مكية.قال صاحب "فتح البيان": مكية بلا خلاف في قول الجمهور.وهذا ما روي عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أجمعين.كان النبي يحب قراءة سور الأعلى والغاشية والفجر وأمثالها في فرائض الصلوات.فعن جابر أن معاذ بن جبل صلى بالناس، فجاء شخص وبدأ يصلي وراءه وأطال معاذ الصلاة، وفي رواية أنه قرأ سورة آل عمران والنساء، فلما طالت صلاته ترك الرجل الصلاة خلف معاذ وصلى وحده في زاوية من وذهب.فذكر ذلك لمعاذ، فقال: هو منافق، ثم شكاه إلى النبي ، فلما علم الرجل المسجد بذلك جاء النبي وقال: يا رسول الله، كان معاذ يصلي بالناس وكنت أصلي خلفه، ونحن أصحاب أعمال، وكانت ناقتي واقفة بدون علف، فتركت الصلاة وراءه وصليت وحدي وخرجت وعلفت ناقتي.فغضب النبي على معاذ وقال مُعَاذُ أَفَتَانُ أَنْتَ؟ ما الحرج لو قرأت في الصلاة سبح اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْس وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؟ ولماذا تقرأ السور الطوال * ؟ نص ما ورد في الحديث هو: أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْن وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذَا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذ، فَقَرَأَ بِسُورَة الْبَقَرَة أَو النِّسَاءِ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذَا نَالَ منْهُ، فَأَتَى النَّبِيِّ ﷺ فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : يَا مُعَاذُ أَفَتَانٌ أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ، ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَلَوْلا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفَ وَذُو الْحَاجَة.(البخاري: كتاب الأذان)

Page 632

الجزء الثامن هذا هو ٦٣٢ سورة الفجر لقد تبين من ذلك أن الرسول قد اعتبر هذه السور من المتوسطة طولاً، ويمكن للإنسان أن يقرأ السور الطوال في أوقات خاصة، أو يقرأ القصار في مرضه ولكن هذه هي السور المتوسطة التي تنبغي قراءتها عادة في الصلوات جهراً.يرى المستشرقون أن هذه السورة نزلت في السنوات الأولى للبعثة.وهذا هو الصواب عندي.يقول المستشرق الألماني نولدكه : إنها نزلت بعد سورة الغاشية مباشرة (تفسير "ويري").وقد سبق أن ذكرتُ أن سورة الغاشية نزلت في أواخر السنة الثالثة أو أوائل الرابعة عند هؤلاء الأوروبيين، أي أن سورة "الفجر" نزلت عندهم في النصف الثاني من السنة الثالثة أو النصف الأول من السنة الرابعة.ويبدو أن الرأي الصحيح، لأن هذه السور لا تتحدث عن المعارضة المنظمة، بل تشير إلى أن المعارضة قادمة، وهذا يوافق آخر السنة الثالثة وبداية الرابعة؛ أما تفاصيل المعارضة فقد وردت في السور التي نزلت بعد المعارضة، فلا علاقة لها بهذه السورة.والأمر الثاني هو أن هذه السورة تتحدث عن عيوب الكافرين الخُلقية والشرعية والدينية كإهمالهم رعاية اليتامى وإطعام المساكين وعدم تفقدهم أحوال الأرامل وتركهم العبادة.علما أن هذه العيوب تُذكر عن الكفار في أي فترة عادة، ولكنهم حين يكفرون بالمأمور الرباني ويعارضونه معارضة علنية وشديدة، فلا يكون التركيز على ذكر عيوبهم التفصيلية هذه، بل ينصب التركيز عندها على جريمة إنكارهم للنبي، لأنها أكبر جرائمهم وأساسها، كما أن الإيمان بالرسالة أساس جميع الأعمال الصالحة، لأن الناس إذا آمنوا بالنبي صلحت أخلاقهم تلقائيا.الحقيقة أن الكافرين حين يبدأون معارضة النبي بشدّة، فإن جريمتهم هذه تفوق جرائمهم الأخرى، لأن الصالحات كلها تبدأ بالإيمان بالنبي.وجريمة إنكار النبي تؤدي إلى إنكار الحسنات كلها، ولذلك يتم التركيز عندها على ذكر جريمة إنكار النبي؛ لأنّ إصلاح هذا العيب يصلح العيوب كلها بينما ينصب التركيز على بيان عيوبهم التفصيلية في بداية الدعوة وقبل بداية المعارضة الشديدة.لا شك أن هذه العيوب التفصيلية تذكر بعد المعارضة أيضًا، ولكن لا يتم التركيز عليها لأن أهميتها تنقص بسبب ارتباط إصلاحها بإصلاح العيب الأهم.•

Page 633

الجزء الثامن الإنسان عن ٦٣٣ سورة الفجر طالما رأينا الناس يعترضون على المسيح الموعود الله بقولهم لماذا يركز دائما على أنه قد تلقى هذا الوحي وذلك الإلهام ولا يركز على غيرها من الأمور والعيوب، فكان لا يردّ عليهم أن كل العيوب والنقائص تكون نتيجة بعد الله تعالى، إذ لو كان موقنا بالله تعالى يقينًا كاملاً لما صدرت منه المعاصي، لذا فإنني أكثر لذا فإنني أكثر من ذكر ما نزل علي من وحي متجدد وآيات ومعجزات لكي يتولد بها في قلوب الناس اليقين بالله تعالى، إذ لو تولّدَ في قلبهم اليقين الصادق وآمنوا بي لزالت عيوبهم الأخرى تلقائيا.باختصار، قبل أن يعارض الناسُ النبي علنا ينصب التركيز على ذكر نقائصهم الجزئية، فيقال لهم: فيكم كذا وكذا من العيوب، وحين يبدأون معارضته العلنية مدعين أنهم سيسحقونه مع أتباعه سحقا، فينصب التركيز على عيبهم الأساسي..أي ضعف إيمانهم بكلام الله تعالى، لأنه إذا زال هذا العيب زالت العيوب الجزئية كلها تلقائيا.عندهم وسورة الفجر هذه أيضا تركز على المعاصي التفصيلية أكثر، حيث قال الله فيها إن الكافرين لا يهتمون برعاية اليتامى وإطعام المساكين ويريدون أن يجمعوا المال جمعًا، مما يدل على ضعف إيمانهم فعليهم أن يصلحوا هذا العيب.وذكر العيوب التفصيلية في هذه السورة يوضح أنها نزلت قبل أن تبدأ معارضة النبي ﷺ على الصعيد الجماعي المنظم، ولذلك لم تركّز على جريمة إنكارهم للنبي ﷺ بقدر ما ركزت على سيئاتهم الأخرى، ولا سيما تلك التي ستسفر عن غلبة الإسلام و هلاكهم عند المواجهة.إذن، فهذه السورة مما نزل في أوائل البعثة وحيث إنها تخبر أن المعارضة المنظمة قريبة، فزمن نزولها هو أواخر السنة الثالثة أو أوائل السنة الرابعة للبعثة النبوية.ترتيبها : قال أبو حيان في "البحر المحيط" لقد تحدثت سورة الغاشية عن قوم سيلقون الذل والهوان حيث قال الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ..أما هذه

Page 634

سورة الفجر الجزء الثامن ٦٣٤ السورة فقد أخبر الله تعالى فيها أن هذه الوجوه هم قوم لا يتفقدون أحوال اليتامى ولا يُطعمون المساكين، بل هم طماعون يجمعون المال جمعًا.كما كانت السورة السابقة قد أشارت بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعمَةٌ إلى قوم ينالون العزة عند الله تعالى، بينما تتحدث هذه السورة عنهم بقول الله تعالى ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةٌ.(البحر المحيط) لا شك أن سورة الفجر تتحدث عن هذين الأمرين كما لا شك أن أحدهما ذو صلة بقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ حَاشَعَةٌ ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ..والآخر بقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعَمَةٌ..ولكن هذه الصلة قريبة تربط بين السورتين في بعض مضامينهما، ولكن أبا حيان لم يستطع بيان الصلة التي تربط السورتين في جميع مضامينها كحلقات سلسلة واحدة.لا شك أنه فيما يتعلق ببيان الصلة القريبة بين سورة وأخرى فإن أبا حيان قد قام بسعي مشكور وله نظر ثاقب في هذا المجال، مكانة فريدة بين جميع المفسرين بهذا الخصوص، ولكن يجب أن نعلم أنه إضافة إلى الصلة القريبة بين سورة وأخرى، فتوجد بين سور القرآن وآياته روابط أخرى تجعلها مرتبة مترابطة كسلسلة طويلة من مواضيع واسعة، بحيث تجعل القرآن الكريم في الأخير كعقد منظوم.لقد شبّه النبي ﷺ الوحي كصلصلة الجرس (البخاري: بدء الوحي)، وفي هذا إشارة إلى أن الوحي كلام مترابط متسلسل كتسلسل رنّة الجرس.وحيث إن القرآن الكريم أفضلُ من أي وحي آخر، فقد نبهنا هذا التشبيه إلى أن لا نعتبر القرآن الكريم كلاما بلا ترتيب كلا، بل هو ويتبوء النبي أن الله تعالى، وكل جزء منه مرتب ومنظوم بآخر.والعلامة أبو حيان لم يستطع ينتبه إلى هذا التسلسل الطويل بين سور القرآن الكريم كما قلتُ، ومع ذلك فإن خدماته بصدد بيان ترتيب القرآن الكريم لخدمات مشكورة جديرة بالتقدير والإشادة، فجزاه الله أحسن الجزاء.ذکرت آنفا أن هناك نوعين من الصلة بين السور هما صلة قريبة تربط موضوع الآية الأخيرة من سورة بموضوع الآية الأولى من السورة التالية، ومثاله أننا نسأل الله تعالى الهدى في آخر سورة الفاتحة قائلين اهدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فبدأت

Page 635

الجزء الثامن ٦٣٥ سورة الفجر سورة البقرة بقوله تعالى الم ذَلكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وكأن الله تعالى قال في مستهل سورة البقرة: ها هو الهدى الذي طلبتموه في الفاتحة.ومثل هذه الصلة بين السورتين تسمى الصلة القريبة ولكن السور ترتبط بعضها ببعض في موضوع متكامل متسلسل في عدة سور.والتدبر في السور من هذه الزاوية يكشف أن هناك مجموعات تضم خمسا بل عشر سور تتحدث عن موضوع واحد،.ومضمونها متسلسل كحلقات السلسلة.ولقد سبق أن ذكرتُ الموضوع الذي يجعل هذه السورة حلقة في سلسلة السور العديدة السابقة، إذ أخبرتُ أن السور السابقة تتحدث عن صدق النبي الله من حيث العهد الأول والعهد الأخير للإسلام، وقد بدأ هذا الموضوع من سورة التكوير، حيث أخبر الله تعالى أن الأدلة على صدق النبي لن تتيسر في هذا العصر فقط، بل كلما ضعف الإسلام أتى الله بأدلة صدقه من عنده؛ وفي هذا السياق أخبر الله في سورة البروج عن ولادة بدر عند فساد العالم في الزمن الأخير، إلا أن ولادة هذا البدر كانت تنطوي على شبهة أيضا، وهي أن نور محمد قد يختفي عن الأنظار رغم إضاءته للدنيا، فأزال الله هذه الشبهة في سورة الطارق مبينًا أن هذا الموعود سيأتي باسمين، البدر والطارق، بمعنى أنه في ظهور جلال النبي ظهورا مباشرا لا أن يكتفي الناس بالإيمان بالنبي ﷺ صلى الله يتسبب بمجرد السماع كلا بل إن هذا الموعود سينشئ جماعة تحظى بوصال الله تعالى وصالاً مباشرًا، وتشاهد أنوار الرسول وبر كاته بنفسها.وكأن سورة البروج وبركاته تشير إلى المسيح الموعود، وسورة الطارق تشير إلى المهدي المبشر به لهذه الأمة.ثم بينتُ الصلة الموجودة بين سورتي الأعلى والغاشية بأن النبي كان يقرأهما دائما في الجمعة والعيدين وهاتان السورتان تتحدثان عن غلبة النبي و غلبة ذلك الموعود معًا، أو يمكن القول إن جزءا من السورتين يتحدث عن الرسول ﷺ وجزءا منهما يتحدث عن هذا الموعود، وبتعبير آخر قد الله هنا مثالاً واحدا إلا أنه ينطبق على النبي ﷺ وعلى هذا الموعود أيضا، إذن فهذا المثال كسيف ذي حدين حيث يقيم الحجة على أعداء الإسلام في زمن النبي ﷺ وفي زمن هذا الموعود أيضا.وقد بينتُ في هذا ضرب

Page 636

الجزء الثامن ٦٣٦ سورة الفجر الصدد أن قوله تعالى إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (الأعلى :(۸) يؤكد ضرورة بعثة هذا الموعود أيضا، حيث أخبر الله تعالى فيه أن القرآن في ذلك الزمن سيكون محفوظا بظاهره، ولكنه سيختفي من حيث فحواه ولُبّه، فيحيي الله تعالى معارفه بواسطة ذلك الموعود ثانية، فيعود بلبه إلى الدنيا مرة أخرى.كما أن قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يشير إلى معارضة الإسلام ورقيه في العهدين الأول والأخير، حيث بين الله تعالى أنه كلما أتى على الإسلام فترة ضعف هيأ الله الأسباب لإزالته.ستتم غلبة الإسلام والمسلمين بهذا الطريق، ولا سبيل لرقيهم سواه.هذا الموضوع يُعاد ويُذكر منذ عدة سور باستمرار، وهكذا تبدو كل سورة مرتبطة بالأخرى.والصلة العميقة التي تربط هذه السورة بالتي قبلها هي أن الله تعالى قد بين في السورة السابقة أن كفار مكة سيعارضون الإسلام ويحاربونه ويكيدون ضده كل كيد، ولكنهم لن ينجحوا بل سينتصر المسلمون عليهم كما بين فيها أيضا أنه كلما جاء على الإسلام وقت عصيب نصره الله تعالى وهزم أعداءه.أما هذه السورة فهي تزيد هذا الموضوع إيضاحا حيث تذكر تفاصيل الأعمال التي يقوم بها أصحاب الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة.ثم تخبر كيف يأتي الله تعالى بذوي الوجوه الناعمة التي لسعيها راضية.والظاهر أن هذه الوجوه الناعمة أو الوجوه العاملة الناصبة لم تكن قد ظهرت حتى السنة الثالثة من البعثة؛ لأن المعارضة المنظمة لم تكن قد بدأت بعد من قبل كفار مكة كما لم يكن أصحاب الوجوه الناعمة الراضية لسعيها معروفين للناس، إذ كان عدد المؤمنين قليلا جدا يُعدّ على الأصابع؛ ومع ذلك يخبر الله تعالى في هذه السورة عن شدة معارضة الكفار ورقي المؤمنين ورفعتهم كما يخبر كيف أن المسلمين أنفسهم سيفسدون وينحرفون عن الإسلام، وكيف يأتي الله بنصره عندئذ ثانية.وهنا أجد نفسي مضطرًا لبيان حادث تأييد الله ونصرته الذي وقع معي مؤخرا.هناك مئات بل آلاف من مفاهيم القرآن الكريم التي قد كشفها الله علي بفضله الخاص بالإلهام، ومهما شكرته لالالالالالاله على هذه النعمة فلن أؤدي حق شكرها.كانت

Page 637

الجزء الثامن أخبرني ٦٣٧ سورة الفجر هناك آيات عديدة غير واضحة بالنسبة إلي، فأنزل الله معانيها على قلبي بوحيه وإلقائه، وهكذا متعني بعلومه الخاصة.خذوا مثلاً ما علمني الله تعالى في موضوع ترتيب سورة البقرة.فذات مرة كنت جالسا إذ ألقى الله في قلبي فجأة أن الآية الفلانية هي مفتاح هذه السورة ولما تدبرتُ فيها انكشف علي ترتيبها كله.كما الله تعالى ذات يوم بمفاهيم سورة الفاتحة إلقاء وإلهاما في الرؤيا، فامتلأ صدري بعدها بحقائق سورة الفاتحة.لقد فهمني الله تعالى بإلهامه ترتيب عشرات الآيات والسور القرآنية؛ فمن المفاهيم التي كانت خافية عن أعين الناس فكشفها الله علي ما بينته من صلة سورة البروج بسورة الطارق؛ حيث تشير إحداهما إلى المنصب المسيحي والأخرى إلى المنصب المهدوي، فقد ألهمني الله تعالى من الأدلة ما أستطيع به إثبات استدلالي هذا بحيث لن يسع أي منصف بعدها إنكار ما أقول، ولن يكون له بد عقليا - من التصديق أن دعواي مبنية على الأدلة، وإن كان من الممكن أن يقول إنه لا يقبل هذه الأدلة.باختصار، قد كشف الله عليّ بالإلهام معاني آيات عديدة صعبة الفهم، وهناك أمثلة كثيرة كهذه في حياتي، ومن هذه المواقف الصعبة هذه السورة أيضا، فكلما أمعنت النظر فيها لم أطمئن إلى ما ذكر المفسرون الآخرون من معان.لا شك أن المفسرين قد ذكروا لها معاني كثيرة تحل كل ما في هذه السورة من معضلات في رأي الناس ولكنها لم تكن شافية في رأيي.كنت دائم القلق والتفكير بشأنها، وكلما خطر ببالي معنى رفضته بنفسي بعد التدبر والفحص باعتباره غير مستقيم.وأخيرًا وبعد مدة طويلة عندما بدأت إلقاء درس آخر جزء من القرآن الكريم أمام النساء انكشف علي جزء من هذه السورة ، ولكن لم ينكشف موضوعها كله.كان المعنى الذي انكشف علي عندها يرفع نصف سقف مفاهيم السورة لا كله.واستمر الحال هكذا وظللتُ غير مطمئن بمعانيها كليا.ولما بدأت الآن درس القرآن واجهتني هذه السورة مرة أخرى، فأخذتُ أتدبر فيها ثانية.لقد بدأت إلقاء درس الجزء الأخير من القرآن الكريم في تموز / يوليو ١٩٤٤ في مدينة دلهوزي، وقد تدبرت في هذه السورة مرارا في هذه الفترة قلقا من اقتراب الدرس وعدم انكشاف المعاني بي

Page 638

الجزء الثامن ٦٣٨ سورة الفجر علي بحسب ترتيب السور.كنت أقرأ هذه السورة مرارا وأُجيل النظر في مطالبها، وكلما خطر ببالي مفهوم اعتبرته بعد التدبر غير شاف ولا كاف.باختصار، أجلتُ فيها النظر عشرات المرات بدون جدوى، إلى أن جاء وقت درس سورة الغاشية، وبدأت تدوين ملاحظاتي التفسيرية لها..ولكن تفكيري كان يتجاوز سورة الغاشية إلى سورة الفجر مرة بعد أخرى كنتُ أرى أن سورة الغاشية مفهومة لي، وإذا جاءت آية صعبة فيها فسوف تنحل تلقائيا على ضوء ترتيب السور؛ ذلك أن رامي الكرة يعرف المسافة التي تصلها قبل رميها، كذلك فإن الذي يفسر القرآن الكريم آخذا في الحسبان ترتيب الآيات والسور تنكشف عليه معانيها تلقائيا على ضوء هذا الترتيب، ولكن هذا لا يتيسر إلا لمن أنفد عمره في هذا الفن، إذ يعرف مجرى نهر معاني السورة وجهة انحدار هذا الماء.أما من لم يتيسر له التدبر في القرآن الكريم على هذا النحو فلا يمكن أن يدرك هذه الأمور.فمثلا عندما كنت أكتب تفسير سورة الكهف لم أستطع فهم قوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ) إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ ﴾ (الكهف : ٢٤-٢٥ على ضوء السياق، فقلت في نفسي أثناء : كتابة تفسيرها سأتبع الترتيب الطبيعي للآيات، وعندما أصل إلى هذه الآية فسأفكر في مفهومها على ضوء هذا السياق والترتيب؛ فظللت أكتب تفسيرها بحسب السياق والترتيب إلى أن وصلت الى هذه الآية فانكشف عندها مفهومها عليّ بحيث أدركتُ أنه لا يمكن تفسيرها بأي معنى آخر لأن سياق الآيات السابقة تضطرك للأخذ به والطريف في الأمر أن المولوي شير علي المحترم الذي كان يُعدّ ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنجليزية - بعث إلي بملحوظاته حول هذه الآية لأقوم بتوثيقها، فوجدتُ أنه كتب نفس المعنى الذي ذكرتُه لها.علما أنه لم يكن قد كتب هذه الملحوظات التفسيرية في قاديان بل في إنجلترا فسألتُ "ملك غلام فريد" المحترم ما إذا كان المولوي "شير علي" قد أعدَّ هذه الملحوظة في الماضي أم عدلها الآن.فقال: قد أعدّها في إنجلترا.فقلتُ: إذا كان قد أعدها في إنجلترا، فكيف وصل إليه هناك معنی هذه الآية؟ إذ تدبّرتُها كثيرًا و لم أعرف تفسيرها إلا عند كتابة تفسير الجزء الخامس عشر من القرآن الكريم ! فقال لي : لقد سبق أن ذكرت هذا

Page 639

الجزء الثامن ٦٣٩ سورة الفجر المعنى نفسه في دروسك عام ۱۹۲۲، وقد أخذه المولوي شير علي المحترم من ملاحظاتك التفسيرية عندها.تماما يبدو أنني لما وصلتُ إلى هذه الآية أثناء درسي في عام ١٩٢٢ انكشف علي ۱۹۲۲ معناها تلقائيا، وحيث إنه انكشف علي تلقائيا يومها، فلم أسجله على هامش مصحفي، ونسيته بعد فترة ولما وصلت الآن إلى هذه الآية أثناء تدبري الآيات بحسب ترتيبها انكشف عليّ معناها نفسه فجأة مرة أخرى.فثبت أن من يعتاد تفسير الآيات حسب ترتيبها وسياقها لا ينحرف عن المعنى الصحيح، بل يجري مع هذا التيار وفي نفس الجدول الذي يشير إليه الموضوع بلسان حاله.باختصار، كلما اقترب موعد درس سورة الفجر ازددت قلقًا، وقلت في نفسي: كيف يمكن أن أُطمئن الآخرين بتفسير هذه الآية، وأنا غير مطمئن به؟ كان بوسعي أن أذكر المعاني التي ذكرها المفسرون، ولكن تفسير هذه الآية كان لا يستقيم بحسب الترتيب الذي كنت أراعيه لدى تفسير السور السابقة.ففكرتُ أن أذكر للناس المعاني التي ذكرها الآخرون، لأن هذا الدرس كان سيطبع على شكل كتاب عن قريب؛ فحتّامَ أنتظر انكشاف المعاني التي تنسجم مع السياق؟ فلعل الله يكشفها عليّ يوما ما.لقد قام المفسرون السابقون مثل الرازي وصاحب البحر المحيط والخليفة الأول بتفسير هذه الآيات، لو ذكرتُ كل ما ذكروه من معانيها أصبح الأمر مقبولا ولكن كان قلبي يقول أن تلك المفاهيم لا تنطبق هنا تمام الانطباق بالنظر إلى سياق الآيات وترتيبها فلم أطمئن بذكرها إلى أن جئتُ إلى "المسجد المبارك" لإلقاء درس سورة الغاشية يوم الأربعاء وهو ١٧ من شهر الصلح ١٣٢٤ من التقوم الهجري الشمسي الموافق ۱۷ كانون الثاني/يناير عام ١٩٤٥..• ۱۷ التقويم الهجري الشمسي هو تقويم ابتكره حضرة المفسر له في عام ١٩٤٠، وهو تقويم شمسي يبدأ من هجرة الرسول بدل أن يبدأ بميلاد المسيح الا وقد بني حضرته له أسماء الأشهر على أحداث بارزة في سيرة النبي ، فجعل كل حدث مميز في سيرته اسما للشهر الذي وقع فيه الحدث.وهذه الأشهر هي: الصلح إشارة إلى صلح الحديبية)، التبليغ (إشارة إلى رسائل النبي إلى ملوك العالم الأمان إشارة إلى خطبة حجة الوداع)، الشهادة (إشارة إلى

Page 640

الجزء الثامن ٦٤٠ سورة الفجر الميلادي.لقد جئت لإلقاء درس سورة الغاشية، وبالي مشغول في سورة الفجر.وفيما أنا في هذا التفكير العميق بدأتُ أصلّي بالناس صلاة العصر، وقلبي مثقل بهذا التفكير.ومن عجائب قدرة الله تعالى أنه فيما أنا أرفع رأسي من السجود الأخير بحيث لم يكن رأسي قد ارتفع عن الأرض أكثر من شبر إلا وانحلت علي سورة الفجر في لمح البصر.والغريب أنني قد مررت بمثل هذه التجرية مرارا من قبل أيضا حيث كشف الله على معاني بعض الآيات الصعبة وقت السجود، خاصة في السجود الأخير الصلاة.ولكن التفهيم الذي تلقيته هذه المرة كان رائعا جدا، إذ كان حول موضوع صعب وواسع جدا.فلما سلّمتُ وواسع جدا.فلما سلّمتُ من الصلاة، قلتُ عفوية وبصوت عال: الحمد الله.يسرا من الله الرحمن الرحيم ) بصورة وَال جَرِ (٢) وَلَيَالٍ عَشْرِ وَالشَّعَ وَالْوَتْرِ (1) وَالَّيْلِ إِذَا شرح الكلمات : يَسْر : أَصلُه يسري.سرى يسري سار عامة الليل.(الأقرب) استشهاد ۷۷ صحابيا غدرًا في الرجيع وبئر معونة)، الهجرة (إشارة إلى الهجرة النبوية)، الإحسان (إشارة إلى إطلاق سراح قبيلة طيء تقديرا لذكرى كرم حاتم الطائي الذي اشتهر بالكرم)، الوفاء إشارة إلى وفاء الصحابة للنبي عليه في ذات الرقاع، الظهور إشارة إلى معركة ركة مؤتة التي كانت علامة أولى على بدء ظهور الإسلام، تبوك إشارة إلى غزوة تبوك الإخاء (إشارة إلى المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار النبوة إشارة إلى البعثة النبوية الفتح (إشارة إلى فتح مكة).ندعو تعالى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه هذه الأشهر رائجة في العالم، وأن تظل أحداث السيرة النبوية نبراسًا لكل مؤمن.(المترجم) الله

Page 641

الجزء الثامن ٦٤١ سورة الفجر التفسير : قبل ذكر المعاني التي فهمي الله تعالى إياها بإلهام منه أود ذكر المعاني التي ذكرها الآخرون، ليعرف الإخوة المشاكل التي واجهتني، وأنها كانت مشاكل بالفعل.لو أني بينتُ معاني هذه السورة بدون انشراح الصدر الذي هو متيسر لي الآن لم تطمئن نفسي بها.وما أبينه الآن يتعلق بالآيات الأربع التالية: ﴿وَالْفَجْرِ وليال عشر ٥ وَالشَّفْع وَالْوَثر O وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ.لقد أقسم الله تعالى هنا بأربعة أنواع من الأقسام والقسم معناه الشهادة، وقد بينتُ هذا الموضوع من قبل مفصلا ولا داعي لإعادته.يقول الله تعالى هنا: أقدّم کشهادة الفجر ، والليالي العشر ، والشفع والوتر، وأخيرًا الليل حين يسري.السؤال هنا: ما الذي أقسم الله به كشهادة وعلام؟ فما هو الفجر، وعلامَ قُدّم كشهادة؟ وما هي الليالي العشر وعلامَ قُدّمت كشهادة؟ وما هو الشفع والوتر وعلام قدّم كدليل؟ وما هو الليل الذي سيسري ويذهب، وعلام قدّم كشهادة؟ الفجر: أما الفجر فمعروف، وهو الصبح الذي يأتي بعد الليل.قاله علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي.أن وعن مسروق ومجاهد، ومحمد بن كعب المراد به فجرُ يوم النحر خاصة.(ابن كثير..أي أنهم أيضًا يعنون بالفجر الصبح، ولكن ليس كل صبح، بل صبح العاشر من ذي الحجة.وقيل: المراد بذلك الصلاة التي تُفعَل عنده كما قاله عكرمة..وهذا يعني عكرمة أيضا فسّر الفجر كما فسّره مسروق ومحمد بن كعب ومجاهد، والفرق أنهم يعتبرون الفجر موعد فجر العاشر من ذي الحجة أما عكرمة فيرى أن المراد منه صلاة الفجر نفسها في ذلك اليوم، أو يرى أن المراد من الفجر هو صلاة التهجد في ذلك اليوم.وقيل : المراد بالفجر جميع النهار ، وهي رواية عن ابن عباس؛ وهذا يعني أن المراد من الفجر هنا العاشر من ذي الحجة كله..أي يوم العيد كله.(ابن كثير)

Page 642

الجزء الثامن وليال عشر: ٦٤٢ سورة الفجر والسؤال هو ما المراد من الليالي العشر؟ قال ابن عباس: المراد بها عشر ذي الحجة..أي الليالي العشر التي قبل العيد من هذا الشهر.وهذا ما قاله أيضا ابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه "الأيام" (يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء." (ابن كثير والبخاري والترمذي وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم، حكاه أبو جعفر ابن جرير.(ابن كثير) وعن ابن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس : وَلَيَالِ عَشْرِ قال: هو العشر الأول من رمضان ابن كثير فهناك ثلاثة آراء عن الليالي العشر : الأول: إنها الليالي العشر قبل العيد من ذي الحجة.الثاني إنها الليالي العشر الأوائل من محرم.الثالث: إنها الليالي العشر الأوائل من رمضان.11 وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ قال: "إن العشر عَشْرُ الأضحى (أي أنه ينسب إلى النبي أنه قال إن الليالي العشر هي العشر الأوائل من ذي الحجة قبل عيد الأضحى)، والوَثر يوم عرفة لأنه في اليوم التاسع من ذي الحجة)، والشفع يوم النحر (أي يوم العيد.(نقله ابن كثير عن الإمام أحمد).ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله كل منهما عن زيد بن الحباب به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به.وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم".(ابن كثير) أن هذا الحديث قد روي في أربعة من كتب الحديث عن زيد بن ،الحباب وإن كان هناك اختلاف في الرواة الآخرين دونه، وهذا يُعتبر من روايات الآحاد.ويقول ابن كثير وهو عالم كبير في الحديث بعد نقل هذه الرواية أنه يشك وهذا يعني

Page 643

الجزء الثامن ٦٤٣ سورة الفجر هذا الحديث إلى الرسول الله، أي أن رفع هذا الحديث إلى الرسول ﷺ ليس في رفع بالأمر اليقين.والشفع والوثر: الوتر يوم عرفة، لكونه التاسع، والشفع يوم النحر لكونه العاشر.وقاله ابن عباس، وعكرمة، والضحاك أيضا.(ابن كثير)."وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد، عن واصل ابن السائب قال: سألت عطاء عن قوله تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قلتُ: صلاتنا وترنا هذا؟ قال: لا ولكن الشفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى.(ابن كثير) يبدو يوم عرفة أن الراوي قد أخطأ هنا، أو أن ابن كثير قد أخطأ عند النقل لأن ليس شفعًا، بل هو وتر، لأنه اليوم التاسع ؛ وليلة الأضحى ليست وترا، لأنها الليلة العاشرة.عن 11 النعمان وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثني أبي، يعني ابن عبد السلام- عن أبي سعيد بن عوف، حدثني بمكة قال: سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين، أخبرني عن الشفع والوتر.فقال: الشفعُ قولُ الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْه، والوتر قوله تعالى: (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ).(ابن كثير) المراد من قوله ( يخطب (الناس)..أي يخطب في الناس في مكة أيام خلافته.والمعروف أن عبد الله بن الزبير قد رفض بيعة يزيد وأعلن خلافته في مكة.كان عبد الله حفيدا لأبي بكر له وابنا للزبير بن العوام، وكان صحابيا جليلا عابدا، وقد اعتبره كثير من الناس مجدد القرن الأول، والبعض الآخر مهديا.أما قولُ الزبير: "الشفع قولُ الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ والوتر قوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ" فيعني به أن الله تعالى قد بين في القرآن الكريم أنكم إذا ذهبتم إلى الحج فلكم أن تقيموا بعد ذلك ليومين أو تتأخروا فتقيموا ثلاثة؛ فالشفع والوتر إشارة ليومين أو ثلاثة يقيم فيها الحاج في الحرم.

Page 644

الجزء الثامن ٦٤٤ سورة الفجر وقد نقل ابن جرير أيضا هذا القول لابن الزبير.وعن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ: "إِنَّ لله تسْعَةً وَتَسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلا واحدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَزَادَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّهُ وَثَرٌ يُحِبُّ الْوِثر".(مسلم: كتاب الذكر والدعاء) والمفهوم الحقيقي لهذا الحديث أن مطالعة الإنسان صفات الله تعالى بتدبر وعمق تجعله تقيًّا حقا، لأن التقوى إنما تعني انعكاس صفات الله في الإنسان، والذي يضع صفات الله جميع في حسبانه فلا يمكن أن يُهمل أي صفة حميدة، ومن لم يغض خير الطرف عن أي صفة حسنة وعمل بكل فلا يبقى شك في دخوله الجنة."قال الحسن البصري وزيد بن أسلم الخلق كلهم شفع، ووتر؛ أقسم تعالى بخلقه.وهو رواية عن مجاهد." (ابن كثير) وقال العوفي عن ابن عباس : وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: الله وتر واحد، وأنتم شفع.ويقال : الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب ابن كثير) قال ابن أبي حاتم عن مجاهد: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال : الشفعُ الزوج، والوتر الله عز وجل (ابن كثير)..أي أن الشفع إشارة إلى قوله تعالى أنه خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَة إِذَا تُمْنَى)."وقال أبو عبد الله عن مجاهد: الله الوتر، وخلقه الشفع: الذكر والأنثى".(ابن كثير) خلقه الله وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ : كل شيء شفع (ابن كثير)..ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) أي : لتعلموا أن خالق الأزواج واحد.(ابن كثير) العدد، منه شفع ومنه وتر (ابن "قال قتادة عن الحسن: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر هو 28 كثير)..يعني الواحد وتر والاثنان شفع والثلاثة وتر والأربعة شفع وهكذا."قال ابن جرير: عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: "الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث" (ابن كثير)..أي أن الشفع والوتر إشارة الى قوله تعالى ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.ثم يقول إن رواية عبد يومين الله بن الزبير

Page 645

الجزء الثامن ٦٤٥ سورة الفجر تتعارض مع روايته الأخرى التي قال فيها إن النبي الله قال : الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة."قال أبو العالية والربيع بن أنس: هي الصلاة، منها شفع كالرباعية والثنائية، ومنها وثرٌ كالمغرب فإنها ثلاث وهي وثر النهار ؛ وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل.(ابن كثير) وقد نقل رواية عمران بن الحصين الإمام أحمد: الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قَالَ: هِيَ الصَّلَاةُ بَعْضُهَا شَفْعٌ وَبَعْضُهَا وَثر.(مسند أحمد) هذه ثالث رواية نُسبت إلى الرسول ، ولكنها خلاف الروايتين الأوليين.وقد وردت هذه الرواية في الترمذي وابن جرير عن رجال آخرين كما رواها أبو داود ابن كثير) والليل إذا يسر: قال ابن عباس: وقوله وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ..أي إذا ذهب.ويقول ابن كثير: يمكن أن يراد به والليل إذا أتى).وكأنه قسم بإقبال النهار وإدبار الليل.وهذا يعني أن ابن كثير يرى أن الآية تتحدث عن ذكر إقبال الليل، لأن إدبار الليل مذكور في قوله تعالى والفجر، إذ يأتي الفجر بعد إدبار الليل دائما، وإلا فيصبح هذا تكرارا عبثا لا يليق بالقرآن الكريم.وقد ذُكر إقبال الليل أيضا في قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس، فثبت من ذلك أن القسم بالليل والصبح جائز.وقال الضحاك: والليل إذا يسر: أي يجري.ملحوظة : هذه الأقوال كلها منقولة من تفسير ابن كثير.هذه أقوال وآراء مختلفة نجدها في التفاسير حول هذه الآيات، وثلاثة منها منسوبة إلى الرسول : أولها : الشفع يوم النحر، والوثر يوم عرفة.وثانيها: "الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث"..أي أن الشفع والوتر إشارة إلى قوله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.

Page 646

الجزء الثامن ។ ។ سورة الفجر وثالثها: الصَّلَاةُ بَعْضُهَا شَفْعٌ وَبَعْضُهَا وَثَرٌ.إن اختلاف هذه الروايات فيما بينها يدل أن رَفْعَها إلى النبي ﷺ خطأ تماما، إذ كيف يمكن أن يقول الرسول ﷺ هذه الأقوال المتباينة في شرح الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ.يبدو أن هذه آراء الرواة أنفسهم الذين ظنوا بسبب بعض الأحاديث ذات الوجوه المختلفة أن الرسول الله وربما أراد بالشفع كذا وبالوتر كذا، فاختلفوا فيما استنبطوا، فلا يمكن نسبة أي من هذه المفاهيم إلى الرسول له بصورة قطعية والدليل ما يلي: الله أنه دخل هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن على ابن عمر؛ فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة، فقال أبو سلمة أليس هذه الليالي العشر التي طلحة عن ذكرها الله بن عبيد في القرآن؟ فقال ابن عمر وما يدريك؟ قال: ما أشك، قال: بلى، فاشكُك.(مسند أحمد والنسائي، والحاكم، وفتح القدير، والدر المنثور) لقد تبين من بوضوح أن الصحابة كانوا يعتبرون تفسيرهم للآيات رأيا ذلك شخصيا، وتصديق الآراء الشخصية ليس صحيحا.فلو أن الرسول قد قال قولا كهذا لما قال عبد الله لطلحة وهو يشير إلى قول الرسول : بلى؛ فاشكك.الواقع أن هناك أحاديث عديدة عن فضل الليالي العشر من ذي الحجة، فنحن لا ننكر أنها ذات بركة وأهمية بحسب قول الرسول الله الله ، ولكن لم يرد في أي حديث أن المراد من ليال عشر هي هذه الليالي من ذي الحجة.أما أقوال الناس عن الليالي العشر فهي كالآتي: أولا: الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة.ثانيا: الليالي العشر الأوائل من محرم.ثالثا: الليالي العشر الأوائل من رمضان.رابعا : الليالي العشر الأواخر من رمضان.ثم هناك اختلاف كبير حول تحديد معنى الشفع والوتر أيضا، فبعضهم يقول هي الصلاة، وبعضهم هي العدد.ولو أخذناها بمعنى الصلاة أو الأعداد فلا خصوصية لليالي العشر بذلك، مع أن هذه الليالي مذكورة قبل الشفع والوتر ورواية ابن عباس التي ذكرتها في الأخير هي أنها الليالي العشر من رمضان، قد بنا عليه أحد

Page 647

الجزء الثامن ٦٤٧ سورة الفجر المفسرين المعاصرين قائلا: أن الشفع والوتر هي ليلة القدر والليالي التسعة الأخرى، أو الوتر هو أول ليلة من هذه الليالي والشفع بقية الليالي.(بيان القرآن) ودراسة هذه الآراء تكشف أنه ليس هناك بهذا الشأن قول ثابت من الرسول • الكريم لله الذي جاء بالشرع وثانيا هناك اختلاف كبير بين آراء الصحابة أيضا، مما يدل بوضوح أنهم يفسرونها باجتهادهم فحسب واجتهاد الصحابة ليس بأمر يقين، إذ قد فسر صحابي واحد الآية بقولين متعارضين أو ثلاثة.لا شك أنه لا ضير لو فسر المرء الآية حتى بأربعة معان متجانسة غير متعارضة، ولكنه لو فسّرها بمعان متعارضة، فلا بد من رفضها كلها، إذ فيه دليل على أنه لم يكن مطمئنا بها ومنشرحا لما قال بل مال مرة إلى معنى وأخرى إلى آخر وظن تارة أن هذا المعنى صحيح، وتارة اعتبر الآخر صحيحا.فاجتهاد الصحابة بهذا الشأن ليس قطعيا كما قلت والدليل على ذلك قول ابن عمر لطلحة كما أشرت إليه من قبل.لا شك أن ابن عمر كان يفسر هذه الآية بمعنى فلما سمع طلحة يجزم أن المراد من ليال عشر هو الليالي العشر من ذي الحجة أخذته الحيرة فسأله عن الدليل الذي جعله يجزم بهذا المعنى.لا شك أن البعض يدعي أن أكثر السلف فسروا (ليال عشر) بمعنى الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة فقط، ولكن قول ابن عمر لطلحة المذكور آنفا يدل على أن ما قالوه بهذا الشأن هو مجرد اجتهاد فقط؛ ذلك أن ابن عمر لم يكن منكرا للدين حتى يُفهم من قوله هذا أنه يريد تشكيك طلحة في صدق الإسلام، وإنما المراد من قوله لطلحة كيف تجزم أن قوله تعالى وَلَيَال عشر إشارة إلى الليالي العشر من ذي الحجة يقينا، إنه طريق غير صحيح؛ تعال أحول يقينك هذا إلى الشكّ بقوة أدلتي فقول ابن عمر هذا دليل على أن السلف قد فسروا هذه الآيات بناء على اجتهاداتهم فقط، والاختلاف الشديد بين آراء الصحابة وأقوال التابعين يشهد على هذه الحقيقة.وقد يقول قائل هنا: صحيح أن هناك اختلافات شديدة بين هذه الأقوال، ولكن لماذا لا نرجح بعضها لحسم القضية؟ ما دمنا سنفسر الآية بالاجتهاد فقط، فلماذا لا

Page 648

الجزء الثامن نعتبر ٦٤٨ سورة الفجر أحدها صحيحا؟ لماذا نرفضها كلها؟ إن الطريق لدفع هذا الاختلاف أن نرجح أحد الأقوال.معه ليال هو هذا الحل كان ممكنا لو حُلّت به دلالات هذه الآيات، ولكن الأمر ليس كذلك.فنحن نرى أن أكثرهم مالوا إلى أن ليال) عشر هي الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة، ولكنهم لم يذكروا - لدى هذا التفسير – تأويلا معقولا لقوله تعالى والفجر.لو أن الله تعالى ذكر هنا ليال) عشر فقط، لقلنا مثلهم- إنها الليالي العشر الأوائل من ذي الحجة، ولكنه تعالى قال معها وقَبْلَها والفجر حيث قال وَالْفَجْر ) وَلَيَال عَشر..أي نقدم الفجر كشهادة ونقدّم عشر كشهادة.فلو كان المراد هنا الليالي العشر من ذي الحجة، فالسؤال: ما المراد من الفجر هنا؟ لو كان المراد آخر فجر الليالي العشر، فالسؤال: ما هو الأمر الذي استُشهد بالفجر عليه؟ وما هو الحكم الشرعي الهام الخاص بصبح الليلة العاشرة من ذي الحجة، حتى يشكل شهادة على قدرة الله أو على صدق دينه؟ ثم ما الحكمة من مجيء الفجر بعد الليالي العشر وقد ذُكر قبلها؟ لو ذكرت هنا ليال فقط اعترفنا بدون تردد أن الله تعالى قد ذكر هذه الليالي لأنها تشير إلى واقعة تضحية إبراهيم ال حيث وعده الله وعدًا ،فوقاه، ووهب لابنه حياة وأقام بذلك آية أبدية للدنيا.هذا الحادث كان عظيم الشأن، وقد أثبت الله به للعالم أنه يفي ما يعد به عبادَه رغم الظروف غير المواتية، فيكتب لهم العزة والفلاح في الدنيا.لقد أسكن إبراهيم ال ابنه بأمر الله تعالى في واد غير ذي زرع، حيث كانت حياته مهددة بالخطر في كل لحظة، متوكلاً على ربه الذي أخبره سلفًا أن تضحيته هذه لن تضيع هدرا، بل سيجعل الله مكة موئلا للخلائق ويجعل هذه الآية دائمة أبدية إلى يوم القيامة.لو احتفلنا بهذه الواقعة فلا شك أنه ابتهاج بالدليل القوي على قدرة الله تعالى، ولو قدمنا هذا الحادث أمام العالم، فالأحمق وحده الذي ينكره ويقول إنه ليس دليلا على جلال الله وعظمته.لو كان هنا ذكر (ليال عشر) فقط سهل الأمر جدا، وقبلتُ بدون تردد أن المراد هنا الليالي العشر من ذي الحجة لأنها عشر

Page 649

الجزء الثامن ٦٤٩ سورة الفجر تشير إلى تضحية إبراهيم العظيمة التي قدّمها بإذن الله تعالى.ولكن القضية أن الله تعالى قد ذكر هنا الفجر أيضًا مع الليالي العشر.من ولو قيل إن المراد من الفجر فجر آخر، فيجب أن يخبرونا أي فجر هو! ولو قالوا إنها فجرُ آخر ليلة من الليالي العشر، فالسؤال ما هي الخصوصية في هذا الفجر حتى يذكره الله على حدة؟ ثم لماذا ذكر الفجر قبل الليالي العشر؟ إن فضل الليالي العشر أمر مفهوم، إذ ينوي فيها المرء تقديم هذه التضحيات، ثم يهيئ الأسباب حسب نيته، ثم يحين وقت هذه التضحية، وعليه فلو اعتبرنا كل هذه الأيام مباركة بدلاً يوم النحر فلا حرج في ذلك، ولكن السؤال: ما هي الميزة التي توجد في فجر آخر هذه الليالي العشر حتى نقدّمه أمام الكفار ونقنعهم أن هذا الفجر آية عظيمة على قدرة الله؟ هذا أمر لم يذكره أي من المفسرين و لم أفهمه أنا أيضا.لا شك أن في الليالي العشر آية يمكن تقديمها أمام الكفار بالأدلة ونقنعهم بها بقدرة الله، ولكن لا نرى في هذه الحالة أي صلة بين (ليال) عشر) و(الفجر).ومع أن المفسرين يفسرون وليال) عشر، لكنهم لا يبينون معه يبينون معه المراد من (الشفع والوتر اللذين اعتبرهما الله آية وقدّمهما هنا كشهادة.يجب أن يكون في (الشفع والوتر ما يُقدَّم كدليل على وجود البارئ تعالى، أو ما يمكن تقديمه للناس کشهادة على آية من آيات الله.أما قولهم إن الشفع والوتر) إشارة إلى قول الله تعالى بأنه يمكنكم أن ترجعوا من منى بعد يومين أو ثلاثة، فيجب أن نتذكر أن هذا حكم رباني وليس آية ومعجزة، أو دليلا على قدرة الله؛ فكيف يكون في الحكم المجرد حجة على الكافرين؟ وعندي لو عُرض هذا الأمر على أشد الناس سفاهةً لضحك وقال: أي دليل في هذا على وجود الله وعلى قدرته؟ وما هو الشيء الخاص في الإقامة هنا ليومين أو ثلاثة أيام حتى يستشهد الله به مقسما ؟ أن لا ننسى أن الله تعالى لم يذكر هنا الشَّفْع والوتر ذكرًا عاديا، بل قال إننا نقسم بالشفع والوتر، مما يدل أن هناك شفعًا يكون حجة على الكفار، وأن هناك وترا يكون حجة عليهم، أو أن الشفع والوتر معًا سيكونان حجة على الكفار.ولكن هذه يجب الأمور الثلاثة لا توجد في أي شفع ولا وتر من العشر الأواخر من ذي الحجة.

Page 650

الجزء الثامن ثم ٦٥٠ سورة الفجر هناك اعتراض آخر يرد على المعنى الذي ذكره المفسرون ونسبوه إلى الرسول حيث يذكرون فيه الوتر قبل الشفع، مع أن القرآن ذكر هنا الشفع قبل الوتر إذ قال والشفع والوثر.ثم إنهم فسّروا الشفّع بمعنى العاشر من ذي الحجة، والوتر بمعنى التاسع منه، والجميع يعرف أن عدد التاسع قبل العاشر..أي أنهم يعكسون الترتيب القرآني حيث ورد الشفع أولاً ثم الوتر لكنهم يذكرون الوتر أولاً والشفع بعده.كما أنهم لم يذكروا أي سبب لهذا التقديم والتأخير.وقد يقول قائل إن هذا التقديم والتأخير من أجل الوزن، ولكنا لسنا لنقبل أن القرآن يقدم ويؤخر من أجل الوزن والسجع فقط.فما داموا قد قدموا الوتر على الشفع فيجب أن يأتوا بدليل، ولكنهم لم يأتوا به.ثم هناك سؤال آخر: ما المراد من قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ..إذا كان المراد من الليالي العشر..العشر من ذي الحجة، فما هو هذا الليل الذي قيل عنه إنه يسري؟ الليل يكون ما بين المساء والصبح وما دامت هذه الليالي مذكورة في قوله تعالى وَلَيال عَش فما هو هذا الليل الجديد الذي قيل عنه أنه يسري أو أنه يأتي؟ أو أي ليل هو من بين هذه الليالي العشر حتى أُشير إليه خاصةً؟ وإذا كان هذا الليل واحدًا من الليالي العشر، فلماذا ذكر منفصلاً بعد ذكر الشفع والوتر؟ لماذا فصل خاصة عن الليالي العشر بإيراد الشفع والوتر بينهما ؟ ثم ما دام الله تعالى قد ذكر وليال عشر من قبل، فهذا تضمن ذكر انقطاع تلك الليالي العشر بل قد ذُكرت من قبل كلمة الفجر أيضا التي تشير إلى انقضاء هذه الليالي، فلماذا قال الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر ؟ ولو قيل في الجواب المراد منه والليل إذا أتى، فيصبح الأمر أكثر طرافة، لأن الليالي العشر أتت وذهبت، فلماذا بدأ الله الحديث مرة أخرى عن الليلة الأولى منها بعد الانتهاء من ذكرها، بل وبعد الحديث عن أيام منى بقوله تعالى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ؟ لو كان مجيء هذه الليلة الأولى آيةً فقد جاء ذكر هذه الآية ضمن الليالي العشر وإذا كانت في الليالي العشر آية فقد انتهى ذكرها إذ بدأ بعدها الحديث عن الشفع والوتر؛ فلماذا ذكرت الليلة الأولى منها مرة أخرى؟ ولو قيل أنها مع ذلك:

Page 651

الجزء الثامن ٦٥١ سورة الفجر ذكرت لإعادة موضوع الفجر فالسؤال: ما هو الأمر الذي لم يُذكر في قوله تعالى (وَالْفَحْر حتى أشير إليه بقوله تعالى (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ؟ ثم السؤال : إذا كان المراد من هذا الليل أول ليلة من الليالي العشر من ذي الخصوصية في فجر أول ليلة منها ؟ قال البعض إن المراد هنا هو الحجة، فما هي فجر آخر ليلة منها.ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئًا، إذ لا قيمة أن يكون الفجر هو فجر الليلة الأولى أو الأخيرة منها إنما السؤال هنا ما هي خصوصية تلك الليلة حتى تُذكر ذكرًا منفصلا؟ وما هو الأمر الخاص في فجر أول ليلة وآخر ليلة من ذي الحجة الذي يمكن أن تقام به الحجة على الكافرين؟ أو يكون دليلا على قدرة الله تعالى؟ ما دام القسم لتقديم الشهادة على شيء فما هو الأمر الخاص الذي استشهد عليه بفجر أول ليلة وآخر ليلة من هذه الليالي؟ وما هو الأمر الخاص الذي تشهد هذه الليالي عليه؟ لقد قلتُ من قبل إننا لو اعتبرنا هذه الليالي دليلا على صدق إبراهيم ال بسبب أيام الحج فيها، لكان ذلك معقولا، ولكن يبقى السؤال في مكانه علامَ يشهد فجر الليلة الأولى أو الأخيرة منها؟ أو ما هو الموضوع الذي تكمله هذه الشهادة؟ نحن نسلّم أنه إذا استُشهد بكل الشيء على أمر فليس ضروريا أن يقدَّم كل جزء منه كشهادة منفصلة، ولكن إذا استشهد بالكل أولاً، واستُشهد ببعض أجزائه قبله وبعده منفصلا، فلا بد أن المقصود الاستشهاد على شيء زائد ولكن المفسرين لا يذكرون أي أمر خاص زائد استشهد عليه بقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر منفصلا ولو قيل إن هذه الأجزاء الأربعة لا تُقدّم شهادات منفصلة، بل تُقدّم معًا شهادة واحدة، فنحن مستعدون لقبول ذلك أيضا، ولكن السؤال ما هي الشهادة التي يقدمها الفجر والشفع والوتر والليل إذا يسري مع ذكر الحج؟ إذا لم نربط الفجر مع ليال عشر، فما هو النقص الذي يبقى في الوفاء بعهود مع إبراهيم ال؟ ولو لم يُذكر (الشفع والوتر هنا فأي أمر ظل خفيًّا ؟ ولو لم يذكر (والليل إذا يسر، فأي نقصان حصل في شهادة الليالي الله تعالى العشر ومعجزتها؟

Page 652

الجزء الثامن ٦٥٢ سورة الفجر عشر) نحن نعترف ونقرّ أن الدليل يُقدَّم مجزاً أحيانا ليؤكد كل جزء منه على أجزائه الأخرى، ليصبح الدليل أقوى وأوضح وأبرز، ولكن لا يجزأ الدليل إلى أجزاء بدون سبب.فلو تضمن الفجر والشفع والوتر والليل إذا يسري بعض خصوصيات (ليال لقبلنا هذا بلا ،تردد وقلنا إن هذه الأشياء الأربعة - رغم كونها جزءا من الليالي العشر - قد ذُكرت منفصلة عنها لإبراز أهميتها والتأكيد عليها.ولكن المؤسف أن المعنى أو التأويل الذي يذكره المفسرون لليال عشر لا يبقى الفجر فيه جزءا من الدليل ولا يعطي الشفع والوتر فيه أي معنى، كما لا يبدو هناك أي مفهوم لقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ، بتعبير آخر إنهم يفسرون هذه الآيات بما لا يتفق مع السياق.والتأويل الثاني لقوله تعالى وليال عشر هو الليالي العشر من محرم.هنا أيضا لو اكتفى الله تعالى بقوله وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرِ لا نطبق هذا التأويل هنا وسلَّمنا بصحته إذ ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ أنه في يوم عاشوراء قد انتصر موسى العمل على فرعون، ونجاه الله من البحر..وأن حادثا مماثلا سيقع في أمتي أيضا في المستقبل.إذن، فكما أن واقعة تضحية إبراهيم الة تنطبق على الليالي العشر، كذلك يمكن اعتبار قوله تعالى وَالْفَجْر ) وَلَيَالَ عَشْر إشارةً إلى الواقعة العظيمة التي ال، ولا يمكن الاعتراض على ذلك، وفي هذه الحالة يراد حصلت مع موسى بالفجر صبح الليلة العاشرة من محرم حين خرج موسى العلية ببني إسرائيل من مصر سر سید ما ورد في الحديث هو: "عَن ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَدمَ النَّبِيُّ ال الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فَرْعَوْنَ فَقَالَ النَّبِيُّ الله الأَصْحَابَه : أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ، فَصُومُوا (البخاري: كتاب الصيام.وفي رواية: "عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَدمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صُيَّامًا ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ أَنْجَى اللَّهُ فيه مُوسَى وَأَغْرَقَ فِيهِ فَرْعَوْنَ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا.فَقَالَ رَسُولُ الله : نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ.فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصَيَّامَه" (ابن ماجه: الله كتاب الصيام).فلعل حضرة المفسر له يشير إلى عموم حديث الترمذي: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.(الترمذي، أبواب الإيمان) (المترجم)

Page 653

الجزء الثامن ٦٥٣ سورة الفجر قضاها وغرق فرعون في البحر، بينما يراد بالليالي العشر العشر الأوائل من محرم، حيث ال في النقاش مع فرعون وفي أخذ الأهبة للسفر، ونجا فيها بنو إسرائيل من ظلم فرعون تحت قيادته الليل.وهكذا تصبح هذه الليالي كلها آية موسی ربانية عظيمة.ومع ذلك يبقى السؤال التالي بدون جواب ما علاقة الشفع والوتر بهذا الحادث؟ ثم لو كانت الليالي العشر إشارة إلى واقعة موسى العليا، فما وَاللَّيْل معنى إِذَا يَسْر في هذا السياق؟ ثم ما علاقة هذا الليل الذي يسري بالليالي العشر من محرم وبواقعة موسى هذه؟ لو ذُكر هنا الفجر والليالي العشر فقط ما كان هناك مبرر معقول لرفض هذا التفسير، لأن واقعة موسى ال يمكن أن تنطبق عقلاً على قوله تعالى وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشر، كما أن تضحية إبراهيم ال يمكن أن أحدًا تنطبق عقلا على الليالي العشر من ذي الحجة وعلى يوم النحر؛ وما وسع إنكار أهمية هذا الحادث، بل لاعتبره كل شخص شهادة هامة، ولاعتبر هذا القَسَمُ قَسَماً هاماً يزيد المعرفة.ولكن المشكلة أن الأمر ليس كذلك، لأن الآيتين التاليتين (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) لمنعان من قبول هذا التفسير.والتأويل الثالث الذي ذكروه هو أن قوله تعالى ﴿وَلَيَالِ عَشْرِ يعني الليالي العشر من رمضان.فأولاً هناك اختلاف في الروايات، فبعضها تقول إن المراد من (ليال عشر) العشرُ الأوائل من رمضان وبعضها تقول إنها العشر الأواخر منه؛ ذلك فَسَواء أكان ومع المراد منه العشر الأوائل أم الأواخر من رمضان، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي تشهد عليه هذه الليالي من رمضان؟ يجب أن لا ننسى أن هذه السورة من أوائل السور نزولا بلا خلاف عند أصحاب الرأي، بينما فُرض صيام رمضان في المدينة في السنة الثانية الهجرية تاريخ الطبري فهل من عاقل يقبل هذا التأويل بعد ذلك؟ هل يمكن أن يخبرني أي مفسر كيف يُعتبر القول إننا سنقول لأتباعنا بعد اثني عشر عاما أن يصوموا شهر رمضان دليلاً على وجود الله وعلى قدرته؟ إن الأمر بالصيام يمكن أن يصدره أحد البشر أيضا، فبوسع أي من المفترين أن يأمر

Page 654

الجزء الثامن ٦٥٤ سورة الفجر أتباعه بالصوم، وكان بوسع مسيلمة الكذاب أن يضع شريعة مزورة من عنده.علينا أن نرى ما إذا كان مثل هذا الكلام حجة على الكافرين؟ ألا يبدو غريبًا - في حالة قبول هذا التأويل - أن يقدّم الله تعالى ليالي رمضان حجة على الكفار، مع أن صيامه لم يكن قد فُرض بعد؟ فقد كان الرسول ﷺ يصوم العشر الأوائل من محرم اقتداء باليهود الذين كانوا يصومونها لأن الله تعالى العلمية لا نجى فيها موسى من فرعون وعندما نزل الحكم بصوم رمضان ترك صيام العشر من محرم فالسؤال هنا: ماذا فهم المسلمون والكفار من القسم بصيام لم يكن قد فُرض بعد، ولم يعرفه المسلمون ولا الكافرون؟ وما قيمة تقديمه كشهادة؟ وكيف يكون حجة على الكافرين؟ قد يقول قائل هنا: لا شك أن صوم رمضان فُرض في المدينة بعد نزول سورة الفجر باثني عشر عاما، ولكن ذكر ليالي هذا الصيام أو القسم بليالي رمضان قبل هذا الموعد ليس محل اعتراض، إذ إن القرآن نفسه قد أقسم بأحداث كثيرة قبل وقوعها، كقوله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (التكوير : ٢)..أي سيأتي يوم تكوّر فيه الشمس، بمعنى أن الناس سيتركون طاعة النبي ، أو أن الأنوار المحمدية سوف تُحجب أشعتها، أو أن الشمس والقمر تنكسفان فمتى وقعت هذه الأحداث في حياته الجميع يعرف أن هذه الأنباء إنما وقعت بعد مدة مديدة، ومع أقسم الله بها.كذلك قال الله تعالى ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَت (التكوير: ۸)، وهي نبوءة عن اختراع القطار والتلغراف والمذياع وغيرها مما سيقرب الناس كأنهم في مكان واحد، وقد تحققت هذه الأنباء بعد زمن طويل، ومع ذلك أقسم الله بها.فما الغرابة في أن يقسم الله بليالي رمضان، وإن لم يكن صيامه قد فُرض إلا بعد اثني صل اللهم عشر عاما؟ • ذلك والجواب أنه مما لا شك فيه أن القرآن قد أقسم بأحداث مستقبلية، ولكنها كلها تتعلق بالغيبيات، إذ هي أنباء تتعلق بالمستقبل والنبوءة لا تكون في خيار العباد وقدرتهم، أما صيام رمضان فهو أمر وليس نباً، وكما قلتُ فإن إمام أي فرقة أو طائفة يمكن أن يأمر أتباعه بأي شيء، ولا علاقة لهذا بعلم الغيب.فمثلاً كنتُ

Page 655

الجزء الثامن مني 700 سورة الفجر قد قدمت لجماعتنا مشروعًا باسم "تحريك "جديد" عام ١٩٣٤، فلو قلتُ قبلها بسنتين أنني سأقدّم لكم مشروعًا باسم تحريك جديد ، ثم أنشأته فعلاً بعد عامين، ثم قلتُ للناس انظروا إلى هذه الآية العظيمة، إذ تحقق ما قلت قبل سنتين، لضحك الجميع، وقالوا: أي آية في هذا؟ لقد خططت لشيء من عند نفسك، ثم أمرتَ به أتباعك حين شئت أو مثلا أقول لكم من حين لآخر سأدعوكم لصيام ٧ أيام تطوعًا في موعد كذا، وعندما حان هذا الموعد دعوتكم إلى الصيام تطوعًا فصمتم؛ فهل في هذا أي آية ربانية؟ وهل أستطيع القول إنها معجزة عظيمة ظهرت على يدي؟ أو أنه حادث يدل على وجود البارئ تعالى؟ كلا، أبدًا.كذلك إذا كان صيام رمضان قد أُخبر عنه على هذا النحو كما يزعمون- فأي حجة فيه على الكافرين؟ نحن المسلمين نؤمن أن كل ما في القرآن قد نزل من عند الله تعالى، ولكن الكافر لا يصدق ذلك، بل يقول إنه من افتراء محمد (ع) الذي عرضه على الناس كأنه وحي من تعالى؛ فكيف يمكن والحال هذه - أن يكون حجة على الكافرين القول إن صيام رمضان سيفرض عليكم بعد ١٢ سنة، وأن لياليها العشر ستكون ذات أهمية كبرى؟ فإن الخصم سيقول إن محمدا ( نفسه قد أعد هذه من عنده، ثم نفذها في حينها، ثم قال للناس انظروا إلى هذه الآية الإلهية العظيمة على صدقي، مع أنه ليس في ذلك أي آية إذ يمكن أن يفعل ذلك أي الخطة إنسان.الله فمن الخطأ القول إن الله تعالى قد أقسم هنا بالليالي العشر من رمضان كما أقسم بأحداث مستقبلية في آيات أخرى.إن أمر صيام رمضان من خيار البشر، لأن إعلان المرء عن خطته قبل تنفيذها ببضع سنين لا يشكل أي آية، أما الإخبار عن أحداث مستقبلية ليست بوسع الإنسان وخياره فليس فيه أي افتراء من الإنسان.وحيثما أقسم القرآن إنما أقسم بالأحداث التي كانت ستقع في المستقبل، والتي لم يقدر عليها محمد الله ولا أمته، والتي كانت آيات عظيمة على وجود البارئ تعالى وقدرته وعلمه فمثلاً قال الله تعالى إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ..أي أن الشمس والقمر سينكسفان.فمتى كان انكسافهما في قدرة محمد ؟ أو قال الله تعالى

Page 656

الجزء الثامن ٦٥٦ سورة الفجر وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ..حيث أخبر عن اختراع القطار والتلغراف والبريد وما إلى ذلك، فمتى كان اختراعها في قدرة محمد ؟ كل إنسان يفهم أن تحقيق هذه الأنباء ليس بوسع إنسان، بل الله وحده القادر على تحقيقها، ولذلك قدمت هذه الواقعات كشهادة على وجود البارئ تعالى باختصار، إن الأقسام القرآنية التي أقسم الله بها تتعلق بأمور تُظهر قدرة الله وقوته سواء أكانت هذه الأمور تتعلق بالمستقبل أم بالماضي.لقد قال أحد المفسرين المعاصرين أن الله قد استشهد بالليالي العشر الأواخر من رمضان، لأن الصوم في هذه الأيام يزيد تقوى المرء وروحانيته بوجه خاص.(بيان القرآن) ولكن السؤال : هل يصدّق الكافر أيضا أن الصوم يزيد تقوى المرء وروحانيته؟ كلا، إنه لن يصدق ذلك، ولو صام أحد هذه الأيام العشر أو رمضان كله، بل حتى لو صام خمسين سنة على التوالي.فالأمر الذي لا يصدّقه الكافر كيف يُعرض عليه كشهادة؟ لأنه سيقول هذا كذب ،مبين لأن الصيام لا يزيد في روحانية أحد.إذن، يقسم الله تعالى بأحداث المستقبل التي تشهد على قدرته تعالى بحيث تكون عود الله حجة على أعداء الدين، أو يقسم بأحداث من الماضي شكلت الآية على وجود تعالى وعلى قدرته ومثال الأحداث الماضية حادث تضحية إبراهيم العلة ووفاء الله لوعوده، وحيث إنها ثابتة تاريخيا، فلا يسع الخصم إنكارها، فلذلك تُقدَّم أمامه لإقامة الحجة عليه.أما ارتقاء المرء روحانيًا فهو أمر لا يراه حتى الصديق، ناهيك أن يُقدَّم أمام الخصم كحجة.فليس صحيحًا مطلقًا أن الله قد أقسم بليالي رمضان هنا كما أقسم بأحداث مستقبلية، إذ شتّان بين الأمرين إن القرآن قد أقسم بأحداث تدل على علم الغيب، مثل كسوف الشمس ونهضة الجماهير ودمار الملوك وغيرها، والإنباء عنها قبل موعدها دليل عظيم على قدرة الله يقينا، أما الإعلان عن فرضية صیام رمضان فليس فيه أي علم بالغيب؛ إذ يمكن لكل إنسان أن يأمر جماعته بأمر قبل موعده، وليس في ذلك أي دليل على صدقه كان الأمر بالصيام فعل محمد رسول الله الله ومجرد عبادة في نظر الكافرين والإخبار عن فرضيته قبل موعده لا

Page 657

الجزء الثامن ٦٥٧ سورة الفجر يشكل أي فائدة للكافرين.فثبت أنه لا يُقدَّم أمام الكفار كدليل على قدرة الله وآية عظيمة منه إلا ما فيه علم الغيب فمثلا أنبأ المسيح الموعود الا عن زلزلة ٤٥٠)، وهو خبر لا يقدر إنسان على تحقيقه، وتقديمه دليلا الساعة التذكرة ص على وجود الله وقدرته أمر سليم.ومثال آخر هو قوله تعالى (والتين والزيتون (( وَطُور سينين (التين: ٢-٣) حيث أقسم الله تعالى بدلاً من أحداث مستقبلية- بأحداث أحداث مستقبلية بأحداث من الماضي تضمنت علم الغيب بحيث لا يمكن لخصم إنكاره، أو مثاله قوله تعالى ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) (التكوير : ٢-٤)، وهي أيضا أنباء مستقبلية كلّها تتضمن علم الغيب وتقدّم دليلا على قدرة الله تعالى.ولكن ليس في القَسَم بحكم من الأحكام أي إظهار لقدرة الله تعالى.وحيث إن القسم بليالي رمضان لا يتضمن أي علم بالغيب، ولا أي إظهار لقدرة الله تعالى، فهو عبث، والقرآن منزه عنه.نجاة موسى باختصار، لو اعتبرنا لَيَالِ عَشْرِ إشارةً إلى واقعة إبراهيم ال أو إلى حادث العلا، لكان معقولا، ولكن لا حكمة في اعتبارها إشارة إلى العشر الأواخر أو الأوائل من رمضان.لا شك أن أخبار الغيب -سواء التي تحققت في الماضي أو التي ستقع في المستقبل - تزيد الإيمان، فمثلا وعد الله موسى ال بغلبته وقومه على فرعون خروج :: (۷۱) فأنجز وعده وأغرق فرعون ونجى بني إسرائيل من ظلمه، وهذا حادث من الماضي، ولكنه محفوظ في التاريخ، ويمكن تقديمه على العدو كحجة؛ لو قدّمته اليوم أمام أحد لوجد فيه دليلا حيا على وجود الله تعالى.لا شك أن العلم قد توفي، وأن فلسطين قد خرجت من أيدي موسی ذلك فحينما تعرض هذه الأحداث اليوم على أي من السيخ أو اليهود، ومع كان الهندوس مثلاً، يتأثر بها حتما، ويعترف أن من الحقائق الثابتة تاريخيا أن موسى عبدا ضعيفا عديم الحيلة ولم يكن قومه بنو إسرائيل يملكون حيلة إزاء فرعون، فكان يعاملهم كيفما شاء، إلا أن الله تعالى وعد عبده الضعيف موسى أن ثم أنجز وعده معه وعده معه بالفعل رغم الظروف غير المواتية، ففشل فرعون في هدفه رغم ينصره

Page 658

الجزء الثامن чол سورة الفجر قوته وجنوده وعتاده ومات خائبا خاسرا، ونجح موسى مع أتباعه كما وعد الله.هذا حادث من الماضي ولا شك، ولكن شهادة التاريخ تجعله حادثا رائعا بحيث تتراءى قدرة الله تعالى أمام من يقرؤه ويطلع عليه.وبالمثل قد لحق إبراهيم ال بالأموات، ونبوءاته صارت قصة من الماضي، إلا أن التاريخ قد حفظها.عندما نرجع إلى زمن إبراهيم وننظر من هناك إلى المستقبل..أي حين ننظر إلى بعثة الرسول من منظور زمن إبراهيم، لا من منظور الزمن الحاضر، ونفكر فيما إذا كان الإدلاء بمثل هذه النبوءة بوسع إبراهيم، يغمرنا اليقين أن هذه آية إلهية عظيمة قاهرة ظهرت بواسطة إبراهيم الا.هدف إذن، فبعض أحداث الماضي تكون دليلا على قدرة الله تعالى، لأننا حين ننظر إليها من منظور ماضيها نجد فيها آية عظيمة، أما الأنباء المستقبلية فهي آية عظيمة بلا شك، لأن تحقق نبوءة يشكل آية حية على وجود البارئ وقدرته وجلاله وعظمته.أما صيام رمضان فلم يكن الحكم به قد نزل بعد، فليس في القسم به أي من الأهداف التي نراها في الأقسام الإلهية القرآنية.ولو غضضنا الطرف عن هذا السؤال الأساسي، فلا تزال هناك أسئلة أخرى كما ذكرتُ من قبل، منها: أي شهادة في فجر بعض الليالي الأوائل من رمضان حتى يُذكر هنا منفصلا فيقال والفجر؟ ثم ما علاقة الشفع والوتر في هذا السياق؟ ثم أي ليل من هذه الليالي الذي قيل عنه وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ؟ وما هي الشهادة الموجودة في هذا الليل؟ أما إذا كان المراد من ليال) عشر) العشر الأواخر من رمضان، فما هو المراد من (الفجر) في هذا السياق؟ أهو فجر إحدى الليالي العشر الأوائل من رمضان أم فجر إحدى الأواخر منه؟ لا شك أن هناك معقولية في أن يراد بـ ليال عش العشر الأوائل أو العشر الأواخر لكونها ذات سمة خاصة، لأن العشر الأوائل عظيمة من حيث إن رمضان يبدأ بها، والليالي العشر الأواخر عظيمة لأن رمضان ينتهي بها، ومع ذلك يبقى السؤال هنا: أي فجر من هذه الليالي يحمل خصوصية بحيث أقسم الله به، ويمكن أن تقام به الحجة على الخصم وإقناعه بقدرة الله تعالى؟

Page 659

الجزء الثامن ٦٥٩ سورة الفجر ويقول البعض إن المراد من الفجر هنا فجر ليلة القدر التي قال الله تعالى عنها هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر : ٦)..أي أن ليلة القدر تستمر حتى مطلع الفجر (بيان) (القرآن).ولكن المشكلة أن ليلة القدر هي المباركة وليس فجرها، إذ تنتهي بركاتها عند الفجر.فلماذا أقسم الله بفجرها إذن؟ أليس غريبا أن لا يُقسم الله تعالى بليلة القدر التي هي مباركة ويُقسم بالفجر مع أنه ليس فيه شيء هام وليس فيه بركة خاصة؟ من ثم إذا سئلوا: ما علاقة الشفع والوتر بالعشر الأواخر من رمضان، قالوا: المراد الوتر ليلة القدر، لأنها تكون ليلة وتراً.ولكنا نقول: لم يستشهد الله تعالى بالوتر فقط، بل بالشفع والوتر معا، فإذا كان الوتر هنا يعني الليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، والشفع يعني الليالي الشفع من العشر الأواخر، فمعنى ذلك أن خمسا منها وثر وخمسا منها شَفْع، أو إذا لم تكن هذه الليالي عشرًا - لأن شهر رمضان يكون أحيانا ٢٩ ليلة – فتكون الليالي الشفع خمسا والليالي الوتر أربعًا.إذن، فإما أن يراد هنا بالشفع والوتر كل ليالي الوتر أو كل ليالي الشفع فإذا قالوا إن المراد من الوتر هنا ليلة القدر بالتحديد فيجب أن تكون ليلة الشفع ليلة محددة من بينها، ولكنهم يقولون إن ليلة الوتر هي ليلة القدر فقط، وهذا غير مقبول لأن في العشر الأواخر ليالي أخرى هي وتر.ثم هناك سؤال آخر: لماذا أقسم الله تعالى بالليالي العشر كلها، مع أن ليلة القدر هي واحدة منها؟ وإذا كانت ليلة القدر ليلة واحدة فقط فبأي قرينة حدّدوها من بين الليالي الوتر الأخرى؟ وسؤال آخر: لماذا أقسم الله بالشفع أيضا؟ ما دامت ليالي الوتر والشفع كلها مباركة، فلماذا ذكر الله تعالى الوتر منها منفصلةً عن الشفع؟ ذكر ثم إن هذه الليالي - الشفع والوتر - كلها متضمنة في ليال عشر، فلماذا بعد الليالي العشر ليالي الشفع والوتر منها منفصلة عنها؟ أي فائدة في الله ذلك؟

Page 660

الجزء الثامن ٦٦٠ سورة الفجر وأخيرا سؤال آخر: ما هو المراد من قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر في هذا السياق؟ لقد تضمن قول الله تعالى وليال عشر الليالي العشر الأواخر كلها، فلماذا ذكر الله تعالى بعدها الليلة الحادية عشرة بقوله وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر لو قيل إن المراد من مجموع الليالي المذكورة في قوله تعالى وليال عشر وفي قوله وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ ليالي الاعتكاف فلا يستقيم المعنى أيضًا، لأنها إما أن تكون عشرًا أو تسعًا، لا إحدى عشرة ليلة وإن كان عدد النهار يبلغ أحد عشر نهارًا في بعض الأحيان.مي إذن، فلا ينطبق أي من هذه المعاني على هذه الآيات القرآنية على ضوء السياق، إذ يرد على كل واحد منها اعتراضات كبيرة شتى.والآن أذكر المعاني التي فهمني الله تعالى عندما رفعتُ رأسي من السجود الأخير من صلاة العصر يوم الأربعاء كما ذكرتُ.لقد ذكر الله هنا أربعة أشياء: أولا: (وَالْفَحْر وثانيا: وليال عشر وثالثا: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ورابعا: واللَّيْلِ إِذَا يَس وهذه الأقسام الأربعة يمكن أن تكون بثلاثة طرق: فإما أنها أربعة أجزاء مهمة من واقعة واحدة..أعني أن تكون هذه الآيات عن واقعة واحدة، حيث تذكر كلا من أجزائها الأربعة منفصلا، وهذا تتحدث جائز تماما.لقد قلتُ من قبل إن بإمكاننا قبول المعاني التي ذكرها المفسرون شريطة أن تكون الأمور الأربعة منسجمة بعضها مع بعض ولكن المعاني التي ذكروها لا تنطبق على الآيات كلها معًا، لذا لا نقبلها.وإما أنها أربع واقعات منفصلة.فلو ثبت أن قوله تعالى وَالْفَجْرِ يشير إلى حادث، ووَلَيَال عشر يشير إلى حادث ثان، و وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يشير إلى حادث ثالث، وواللَّيْلَ إِذَا يَسْ يشير إلى حادث رابع، فيكون هذا تأويلا معقولا

Page 661

الجزء الثامن 771 مقبولاً شريطة أن تكون هذه الأمور الأربعة ذات صلة بأحداث هامة رابط يجعلها منسجمة.سورة الفجر ويوجد بينها وهناك صورة أخرى أن تُعتبر هذه الأمور مجموعتين أو ثلاثة..حيث يشكل أمران منها مجموعة منفصلة وأمران آخران مجموعة أخرى منفصلة.أو يُعتبر قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالِ عَشر واقعة والوَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ واقعة أخرى، و واللَّيْلِ إِذَا يَسْر واقعة ثالثة.وهذا التقسيم أيضًا لا بأس به.فهناك صور أنها ثلاث: فإما واقعة واحدة ذات جوانب أربعة مهمة، أو أنها أربع واقعات منفصلة، أو أنها مجموعتان أو ثلاثة عتان أو ثلاثة من الوقائع.لقد مال المفسرون باتفاق إلى اعتبار هذه الأمور جوانب مختلفة من واقعة واحدة، فراحوا يطبقون عليها (ليال) عشر) و(الشفع والوتر) أيضا..كقولهم المراد منها الليالي العشر من محرم وفجره وصلواته؛ أو الأيام العشر من ذي الحجة ولياليه وفجره؛ أو الليالي العشر من رمضان وفجر واحد منها وليلة منها.ولكن قد سبق أن بينتُ أن تفاسيرهم هذه لا تغطي كل الجوانب من هذه الآيات، ولا تدل على حقيقة ثابتة واضحة.أما الأمر عندي فهو كالآتي: من قد ذكر الله تعالى هنا فجرًا واحدًا وليالي عشرًا ، مع أن في الليالي العشر عشرة الفجر.ثم ذكر الليالي هنا ،مرتين مرة عشر ،ليال، ومرةً ليلا واحدا يسري، وذكر بينهما الشفع والوتر فلكي نصل إلى المعنى الصحيح لهذه الآيات علينا التدبر هذا الأمر، أعني أن نفكر لماذا ذكر هنا فجر ،واحد ثم ليال عشر، ثم الشفع والوتر، وفي الأخير الليل الذي يسري.فكأن الله تعالى قد ذكر هنا فجرين؛ الفجر الذي له علاقة بليال عشر ثم واقعة الشفع والوتر ثم الفجر المشار إليه في قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر حيث ذكر أن هذا الليل يسري ويذهب، فكأنما أشار بذلك إلى طلوع فجر آخر.علما أن التركيز في قوله تعالى ﴿وَلَيَالٍ عَشْرِ هو على بيان أهمية تلك الليالي، أما في قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ فالتركيز فيه على زوال ذلك الليل وطلوع النهار.

Page 662

٦٦٢ سورة الفجر الجزء الثامن وحيث إنه لا توجد في الدنيا ليال عشر لها فجر ،واحد كما ليست هناك ليال 6 عشر تقع بعدها واقعة الشفع والوتر وليس هناك حادث شفع ووتر يليه ليل يسري حتما..فلا بد لنا من الإقرار أن لا علاقة لليالي المذكورة هنا بطلوع الشمس المادية ولا بغروبها، كما لا علاقة لليل الواحد الذي يسري ويزول إلى الأبد بالشمس التي تطلع من ناحية وتغيب من أخرى؛ وبالتالي لا بد لنا من القول إن كلمات الليل والفجر قد وردت هنا على سبيل الاستعارة لا الحقيقة.باختصار، إن تقدير هذه الآيات كالآتي: 6 هناك عشر ،ليال ثم ،فجر ثم بعدها واقعة الشفع والوتر، ثم ليل وبعدها فجر طويل.والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : الفجر يكون بعد الليل، فلماذا ذكر الفجر هنا قبل الليالي العشر ؟ الجواب أن الله تعالى قدّم الفجر هنا لأن فيه بشرى، فإنك حين تذكر لصديقك حادثا مؤسفًا عاقبته محدودة، فإنك من أجل تخفيف صدمته- تذكر له العاقبة المحمودة أولاً، ثم تحكي له باقي القصة المحزنة.فمثلا علمت أن صديقًا لك مصاب بمرض شديد فذهبت لزيارته ووجدته في تحسن ملحوظ، فلما رجعت من عنده لقيك صديق آخر وأردت أن تخبره عن مرض صديقكما، فلن تبدأ بالحديث عن تفاصيل مرضه المؤلم، بل تقول: الحمد لله هو بخير الآن وقد زال الخطر، ثم بعد ذلك تذكر له تفاصيل المرض.لما وصلت شائعة استشهاد النبي في غزوة أحد إلى المدينة سارعت مجموعة من الأطفال والنساء إلى ساحة القتال، فلقوا في الطريق المقاتلين المسلمين وهم ،راجعون، فتقدمت سيدة إلى أحدهم وسألته في قلق شديد عن الرسول الرسول ، فبدلا فبدلا من أن يخبرها أنه أن يخبرها أنه الا الله بخير والحمد لله، قال لها: إن زوجك قد استشهد في القتال، فقالت: إني لا أسالك عن زوجي..أخبرني كيف رسول الله فلما أخبرها أنه الا الله بخير، لم تتمالك نفسها من فرط السرور وقالت: إذا كان رسول الله ﷺ بخير فكل مصيبة بعده جَلَلٌ..أي لا أبالي بها (سيرة ابن هشام: غزوة أحد).فترى أن هذه السيدة أرادت أن تسمع الخبر السار أولاً، ثم الخبر المحزن.كانت تعلم أن رسول الله الله ولو كان بخير ، لتحمل قلبها أي صدمة أخرى بسبب

Page 663

الجزء الثامن ٦٦٣ سورة الفجر هذه الفرحة، أما إذا كان قد استُشهد فلن يطيق قلبها أي صدمة.إذا القاعدة أن الخبر إذا كان مزيجًا من الفرحة والغم، يُبلغ المرء الجانب السار منه أولاً لكي لا يشق عليه الخبر المحزن.فلما كان تبليغ الخبر السار أولاً أنسب من أجل البشرى، قدّم الله هنا ذكر الفجر على الليالي العشر لو ذكر الله تعالى الليالي العشر أولا، لارتجفت قلوب المسلمين بسماع هذا الخبر وأصابهم غم شديد وقالوا: لا ندري ماذا سيحدث الآن، فلذلك ذكر الله الفجر أولا ثم الليالي العشر، ثم واقعة الشفع والوتر، ثم الليل الذي يسري ويذهب..أي يأتي الصبح الطويل.هكذا نقل القرآن الكريم الخبر بحيث تطمئن قلوب المؤمنين بدون أن تصاب بقلق كبير حول عاقبتهم؛ فقال تعالى وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرِ فكأنه طمأن المسلمين أن لا داعي للقلق بسماع الخبر الذي يُخبرون به، ولا يخافوا على عاقبتهم لأنها محمودة حتما، ولذلك ذكرنا الفجر قبل ذكر الليالي العشر.علينا أن نرى ما هي تلك الأحداث التي أشير إليها في هذه الآيات؟ لو حاولنا معرفتها قياسًا وجزافًا معتمدين على عقولنا فقط، فلن نصل إلى نتيجة صائبة، بل سنخطئ كما أخطأ المفسرون القدامى.لذلك لا بد لنا من أن نؤكد هذه الأمور الأربعة على ضوء القرآن و تاريخ الإسلام والوقائع المهمة حتى نستطيع القول على الأحداث هي مي وجه البصيرة أن القرآن الكريم قد أشار في هذه الآيات إلى هذه الأحداث، التي وثيقة الصلة بصدق الإسلام، وتنسجم مع ترتيب القرآن، ويمكن تقديمها أمام الكافرين كدليل على صدق النبي وتتم بها الحجة عليهم.لو وجدنا هذه من هذه المصادر، كما وجدناها منسجمة مع ترتيب هذه الآيات ودالة على صدق الإسلام والرسول ، فلا شك أنها المقصودة في هذه الآيات.وكما قلتُ من قبل قد تدبرت في هذه السورة كثيرًا وأمعنت النظر فيها طويلاً ولكن بدون جدوى، ثم إن الله تعالى نفسه ألقى في قلبي فجأة ما حلّت الآيات تماما وانكشف مضمونها بكل جلاء.لقد ذكرتُ من قبل أن الليالي العشر وإن كانت مذكورة هنا بعد الفجر لفظًا، ولكنها مذكورة قبل الفجر محلاً.كما أخبرت أيضا أنها ليست الليالي المعروفة، بل به هذه

Page 664

الجزء الثامن ٦٦٤ سورة الفجر سميت ليالي على سبيل الاستعارة.وقلتُ أيضًا أن هذه السورة نزلت في أواخر السنة الثالثة من البعثة، حين لم تكن المعارضة المنظمة للإسلام قد بدأت بعد، ولم يكن الكفار قد وضعوا خطة جماعية لسحق المسلمين وإبادتهم.كانوا يؤذونهم على الصعيد الفردي، وكان معظمهم يسخرون من الإسلام والمسلمين قائلين إنهم مجانين وسيعودون إلى صوابهم بعد قليل، وماذا يمكن أن يضرنا هؤلاء الذين فقدوا صوابهم؟ إنهم سيسقطون بأنفسهم عما قريب.أما المعارضة المنظمة العملية التي تعرض فيها المسلمون لتعذيب شديد، فلم تكن قد بدأت بعد.لقد أنزل الله تعالى هذه السورة بعد حوالي ثلاث سنوات من بعثة النبي ، حيث أخبر المسلمين وقال إنكم ستلقون الآن معارضة شديدة، وستخيم عليكم ليالي حالكة من المصاعب والآلام ليلة تلو ليلة لن تروا فيها بارقة أمل وتمتد هذه الليالي طويلاً، فتظلون عرضةً للتعذيب عشر سنوات متتالية كاملة.والآن انظر كيف تحققت هذه النبوءة بشكل محير ! لقد نزلت هذه السورة في السنة الثالثة للبعثة، وأقام النبي ﷺ في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، ولم تكن هناك معارضة علنية في السنوات الثلاث الأولى، أما بعدها فقد بدأ أهل مكة يعارضونه معارضة شديدة.لو طرحنا ثلاث سنوات من الثلاث عشرة الخالية من المعارضة بقيت عندنا عشر سنوات بالضبط، وهي التي ظل فيها المسلمون هدفًا لفظائع الكافرين، وهي التي أخبر عنها في قوله تعالى وَلَيَالَ عَشْر..فسُمِّيت السنوات العشر هذه ليالي على سبيل الاستعارة لكثرة وشدة المصائب التي حصلت فيها.فكأن الله تعالى يقول فيها: يا محمد كنا أخبرناك من قبل بقولنا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ أن هؤلاء القوم سيبدءون معارضة منظمة، وها قد جاء أوانها.فتأتي الآن عليك وعلى أصحابك فترة من المصاعب.ستخيم عليكم الآن ليال عشر حالكة مُخيفة ترتعد لها الأبدان وترتجف لها القلوب.إنها ليست ليلة واحدة، ولا اثنتان ولا ثلاث بل هي عشر ليال على التوالي.سترى أنت وأمتك أياما عصيبة.ولكنا نبشرك يا محمد قبل حلول هذه الليالي بفجر يطلع بعدها.لا شك أن هذه المعارضة ستكون شديدة، ولكن عاقبتها ستكون محمودة لكم في كل

Page 665

الجزء الثامن ٦٦٥ سورة الفجر حال، وسينتشر الإسلام وينتصر المسلمون وتنقشع سحب المحن بعد انقضاء عشر سنوا ات، ويطلع الفجر.وفي السنة الرابعة بالضبط بدأ أهل مكة معارضة الإسلام والمسلمين بشكل منظم وخيمت على المسلمين هذه الليالي الحالكة.لقد قلتُ من قبل إن من الحقائق الثابتة أن هذه السورة نزلت في أواخر السنة الثالثة أو أوائل السنة الرابعة للبعثة النبوية، وبدأت المعارضة المنظمة في السنة الرابعة هذا ما يؤكد تاريخ الإسلام بلا خلاف، كما يشهد عليه الكتاب الأوروبيون بناء على أحداث التاريخ رغم عدائهم للإسلام، فيقول السير وليام موير: "It was not, however, till three or four years of his ministry had elapsed that any general opposition to Mahomet was organized.' " "لقد ظهرت معارضة محمد (ﷺ) بشكل منظم بعد دعواه بثلاث أو أربع سنوات".وكما بينا في تفسير قوله تعالى ناصبة أن المراد من المعارضة المنظمة تعيين مسؤولين وزعماء يقودون هذه الحملة الهادفة إلى محو الإسلام والتي تطلب من الجميع صغارا وكبارا الانضمام إليها.ومثل هذه المعارضة لم تبدأ إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات من البعثة في رأي موير.قائلا: ويضيف موير Even after he had begun publicly to summon his fallow citizen to the faith, and his followers had multiplied the people did not gainsay his doctrine.أي: مع أنه (أي محمد كان قد بدأ بدعوة المواطنين إلى الإسلام علنًا، ورغم كان ﷺ أن المؤمنين به أخذوا يزدادون إلا أن القوم لم يروا حاجة إلى تفنيد أفكاره.من الممكن أن يظن البعض أن عددًا من الناس كانوا قد آمنوا بدعواه مما هيج الناس ضده حتما، خاصة وقد بدأ يعظ الناس ويدعوهم إلى دينه، إلا أن ويليام موير يقول: إن هذه الفكرة ليست صحيحة، لأن الكفار رغم هذه الظروف لم يقولوا عندها إنهم سيسحقون المؤمنين أو يمحون أثر هذا الدين.

Page 666

الجزء الثامن قائلا: ويضيف موير ។ ។ ។ سورة الفجر They would only point at him slightingly as he passed and say there goeth the fellow from among the children of Abd al Muttalib, to speak unto the people about the heavens.(life of Mahomet p:68) أي..كان الكفار ينظرون إليه باحتقار وكراهية قائلين: هذا أولاد عبد المطلب الذي يخبر الناس بأخبار السماء.هو الشخص من أما في أواخر السنة الثالثة أو بداية الرابعة فقد قرر الكافرون معارضة الإسلام بشكل منظم حيث قال القسيس ريفراند ويري: This would be as Noeldeke has it about the fourth year of his ministry at Mekkah.(A comprehensive Commentary on Quran; by Wherry; vol: IV Page 239) أي أن المعارضة العلنية والمنظمة التي واجهها محمد (ﷺ) في مكة بدأت في آخر السنة الثالثة وبداية الرابعة في رأي نولدكه.ثم انظروا كيف يعلن نولدکه عن زمن نزول سورة الفجر قائلا: He (Noeldeke) however regards it as early Mekkan and in his chronological table place it immediately after chapter LXXX VIII.(A comprehensive Commentary on Quran; by Wherry; vol: IV Page 242) أي..أن نولدكه يعتبر هذه السورة من أوائل السور المكية، ويرى أنها نزلت بعد الغاشية مباشرة.وقد سبق أن أخبرت أن سورة الغاشية نزلت في السنة الرابعة تقريبا حين كانت شدائد أهل مكة ستنصب على المسلمين.

Page 667

الجزء الثامن ٦٦٧ سورة الفجر إذن، فإن المؤرخين الأوروبيين والمسلمين متفقون على أن نزول هذه السورة في السنة الرابعة تقريبا.وهي نفس السنة التي بدأت فيها المعارضة من قبل كفار مكة لم بشكل منظم..فصبّوا على المسلمين فظائعهم، حيث يعترف وليام موير أيضا أنه يتعرض المسلمون في السنوات الثلاث الأول لأي معارضة تُذكر، بل كان الكفار يمرون بالمسلمين مستهزئين ،ساخرين وعندما كانوا يرون الرسول يدعو الناس للإسلام يقولون باحتقار : مجنون يخبر الناس بأخبار السماء.أما في بداية السنة الرابعة فبدءوا المعارضة العلنية المنظمة كما أُنبئ في قول الله تعالى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ भी ،۲۸۹-۲۸۷ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ..وأتحد الجميع صغارا وكبارا لمحو الإسلام وسحق المسلمين.فالشهادات التاريخية متفقة على أن اضطهاد المسلمين بشكل منظم بدأ في السنة الرابعة أي قبل الهجرة بعشر سنوات (تاريخ الخميس ج ١ ص والطبقات لابن سعد: ذكر دعاء رسول الله له الناس إلى الإسلام).وقد نزلت هذه السورة في السنة الرابعة نفسها.فالحق أن قوله تعالى وليال عشر نبأ عن تلك السنوات العشر من الظلم والعدوان التي نسي فيها المكيون حتى أدنى مبادئ الإنسانية والنبل.لقد أخبر الله المسلمين سلفا عن هذا الاضطهاد المنظم من قبل أهل مكة، وأنهم سيصبحون عاملة (ناصبة في نهاية المطاف إنهم سيصبون عليكم أنواع الظلم والجور، باذلين كل ما في وسعهم للقضاء على الإسلام على الصعيد الفردي والجماعي.وستستمر هذه الفظائع عشر سنوات متتالية..كل سنة منها بمثابة ليلة حالكة حيث لن تروا فيها بارقة أمل، ولكن بعد السنوات العشر الشداد والعجاف سيطلع الفجر وتزول المحن وتنتهي النوائب، وتبدأ فترة جديدة من رقي المسلمين.وقد طلع هذا الفجر ببلوغ خبر بعثة النبي إلى المدينة.كان يهود المدينة يقولون للمشركين: في كتبنا نبوءة عن بعثة نبي يقيم ملكوت الله في الأرض، وتدلّ الأمارات أن ظهوره قريب ولما كان اليهود لا يعرفون المشيئة الإلهية فكانوا يظنون أن هذا النبي سيقيم الدولة اليهودية، وأنهم ينالون الملك؛ فكانوا يهددون المشركين أننا سننتقم منكم عند بعثته (سيرة ابن هشام إنذار يهود برسول الله.وكان

Page 668

الجزء الثامن чул سورة الفجر اليهود في المدينة أقل من المشركين عددًا ولكن أكثر منهم علمًا ومالا، فلما تناهى إلى أسماع المشركين خبر ظهور شخص في مكة يدعي أن الله إليه قالوا فيما يوحي بينهم: ربما يكون هذا المدعي صادقًا وهو نفس الموعود الذي يتحدث عنه اليهود ولعلهم يسبقوننا بتصديقه فينالون الملك..فذهب بعضهم إلى مكة للحج، ولاقوا فلما سمعوا كلامه أيقنوا بصدقه وبايعوه على الإسلام.ثم جاء وفد آخر النبي منهم ثم وفد ثالث حتى دخل عدد لا بأس به من أهل المدينة في الإسلام.ثم اقترحوا بعد تشاور أن يعرضوا على النبي الله أن يهاجر إليهم طالما أن أهل مكة أن يؤذونه، فأرسلوا وفدًا إلى النبي ، والتمسوا منه الهجرة إليهم، لأن قومهم كلهم يريدون الدخول في الإسلام فقال النبي سوف أهاجر إليكم إذا أذن الله.فقال بعضهم: فلعلك ترجع إلى بلدك بعد أن يكتب الله لك الغلبة.فقال : كلا (سيرة ابن هشام أمرُ العقبة الثانية.وأخيرا هاجر الرسول الله الله إلى المدينة بعد أن أذن الله له بذلك.هذه الهجرة هي الفجر المذكور في قوله تعالى والفجر، والتي طلعت عندها شمس الإسلام والتي بدأ بها التقويم الإسلامي حتى اليوم وسيظل إلى يوم القيامة.وقد أشار الله إلى هذه الهجرة نفسها في موضع آخر بقوله تعالى رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصيراً (الإسراء: (۸۱) هنا أيضًا نرى أن الله تعالى ذكر أولاً البشرى أي دخوله مكة فاتحا ، ثم ذكر هجرته منها مع أن الهجرة كانت قبل الفتح، مثلما ذكر الفجر - وهو الهجرة التي هي نعمة وبشرى - قبل الحديث عن كيال عشر التي هي إشارة إلى الاضطهاد الذي صُب على المسلمين عشر سنوات، مع أن هذه الليالي العشر أسبق زمنا من الفجر.لقد ذكر الله تعالى هذه الهجرة في القرآن الكريم مرارا، لأنها ذات أهمية قصوى في تاريخ الإسلام كأهمية تلك السنوات العشر الشداد.يقول الله تعالى في القرآن (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضَلِ الْعَظيم ( وَإِذْ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُنْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: ٣٠ -

Page 669

الجزء الثامن 779 سورة الفجر (۳)..أي أيها المؤمنون اتقوا الله، لأنكم إن تتقوه يفتح لكم سبل النجاح على مصارعها، ويُزل عنكم تقصيراتكم ويستر ضعفكم والله ذو الفضل العظيم.ثم ضرب الله تعالى مثالاً على ما قال لكي لا يظنوا أن قوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْل الْعَظِيمِ مجرد وعد.فقال لرسوله : تَذكَّر أنت - واذكر لقومك أيضا - هذا الحادث، ليعرفوا أن إلههم وفي يملك كل قدرة وقوة.تذكر حين تآمر الكفار لكي يسجنوك أو يقتلوك أو يطردوك من بيتك وبلدك.من ليس المراد من ذلك أنهم كانوا يريدون تنفيذ كل هذه المكائد الثلاث مرة واحدة، بل المعنى أنهم لما تشاوروا فيما بينهم قال بعضهم إن أمر محمد قد تجاوز الحدود، فقد آمن به أهل المدينة، ولو ظل يتقدّم على هذا النحو فسيشكل علينا خطرا كبيرا فالأفضل أن نسجنه حتى لا يلقى الناس ولا ينشر دعوته.فقال الآخرون: لا فائدة ذلك، لأننا لو سجناه ثار أقاربه وأتباعه غضبا وخرجوا لحربنا، مما يؤدي إلى فتنة بين القوم، فالأفضل أن نقتله مجتمعين لتنتهي القضية للأبد، أما أقاربه فلن يفكروا في حرب قبائلنا مجتمعة فيصيبهم اليأس منه ويصبرون على موته، إذ لن يعود إليهم ولو حاربوا قاتليه فقال البعض الآخر: القتل ليس برأي، لأن هذا سيهيج أقاربه بني هاشم وليس بمستبعد بني هاشم وليس بمستبعد أن يحاربونا أخذا لثأره، ولا يصبرون على موته كما يتصور البعض، فالأفضل أن نطرده من مكة.فقال الذين خالفوا طرده من بينهم هذا ليس برأي إننا نريد القضاء على دعوته، ولو ظلّ ينشرها بين الناس فإن العرب كلهم سيصبحون أعداء لكم.(سيرة ابن هشام: هجرة الرسول باختصار كانت هناك اقتراحات شتى، فاتفقوا بعد تداول الرأي أن يقتلوه..فلأنهم قدموا ثلاثة اقتراحات الإثبات أو القتل أو الإخراج، فقد ذكرها الله هنا في القرآن الكريم.ونرى هنا أيضًا أن القتل أخطرُ هذه المكائد، فمع ذلك ذكره الله تعالى بين السجن والطرد اللذين هما أقل خطورة، وهو نفس الترتيب الذي أشرت إليه لدى تفسير قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، حيث :

Page 670

الجزء الثامن ٦٧٠ سورة الفجر ذكر الشيء الأهم في الوسط والأمور الأخرى على يمينه وشماله.وكأنه كلام مثلث، جعل الله الأهم في الوسط، ثم ذكر على يمينه وشماله ما دونه أهمية.باختصار، قرّر هؤلاء القوم أخيرًا قتله ، و لم يعتبروا سجنه أو طرده قرارًا أمثل، بل رأوا فيهما خطورة انتشار الفتنة في القوم، فقالوا الأفضل اغتياله بهجمة واحدة! لا شك أنهم قرروا أخيرًا قتله ل ا ل ل ل ول ولكن القرآن ذكر اقتراحاتهم الثلاثة، وسوف أبين حكمة أخرى وراء ذكرها.وبعد ذكر اقتراحاتهم هذه قال الله تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكرينَ.وكأن الله تعالى لما سمع أقوالهم قال لهم: لقد اتفقتم على قتله أخيرا، ولكنكم قد نسجتم خططًا ثلاثا، ولذلك سأتخذ إزاءها تدابير ولذلك سأتخذ إزاءها تدابير ثلاثة.سوف أدَعُكم لتجربوا هذه الخطط واحدة بعد أخرى لأخيّبكم في كل مرة.سوف تكيدون لقتله فترجعون خائبين، وسوف تحاولون سجنه فتلقون الخزي والهوان في النهاية، وسوف تحاولون طرده من مكة فتفشلون في ذلك أيضًا فشلا ذريعا.لا شك أن ما كان ليقتل لأنه نبي تشريعي، وقد وعده الله تعالى بالعصمة، النبي ومع ذلك لو فرضنا جدلا أنهم نجحوا في قتله صناديد الكافرين، لفرح عندئذ من اقترحوا سجنه أو طرده من الوطن، وقالوا: ألم نقل لكم لا تقتلوه فرفضتم اقتراحنا وتضررتم؟ قتله ، وخرجت بنو هاشم لأخذ ثأره، وقتل أما لو أخرجوا النبي له من مكة ، فنجح في إدخال العرب جميعا في الإسلام، لفرح الذين عارضوا اقتراح طرده من بينهم ولقالوا : ألم نقل لكم لا تخرجوه من بينكم وإلا فسوف يؤثر في الناس ببيانه الساحر، فرفضتم اقتراحنا وتضررتم؟ ولو ألقوه في السجن، وحاول أقاربه وأتباعه لله وإطلاق سراحه وبدأت الحرب الأهلية فتمكنوا من إطلاق سراحه بطريق آخر لفرح الذين خالفوا اقتراح السجن وقالوا : ألم نقل لكم لا تسجنوه ، فرفضتم اقتراحنا وتضررتم؟ ولما كان كل واحد من أصحاب الآراء الثلاثة يمكن أن يفرح برجاحة رأيه فيما بعد، فلذلك ذكر الله تعالى اقتراحاتهم الثلاثة وقال: لقد منحناكم الفرصة لتنفيذ

Page 671

سورة الفجر الجزء الثامن ٦٧١ الاقتراحات الثلاثة حتى لا يزعم أحدكم فيما بعد أن اقتراحه كان صائبا، وهكذا ورجع ليلا النبي أثبتنا لكم عمليًا أنكم كنتم كاذبين فيما زعمتم وفشلتم في تنفيذ ما اقترحتم.أما فشلهم في قتله له له فبيانه أنهم قرروا أن يشترك في قتله فتى من قتلهفتي كل قبيلة من قبائل قريش لكي يتفرق دمه على القبائل كلها، فلا يجرؤ بنو هاشم على محاربتها.فحاصر هؤلاء الفتيان بيته وجلسوا على بابه، ولكن الله تعالى هيأ من الأسباب ما جعل رسوله يخرج من بينهم وهم ينظرون دون أن يدروا ذلك.لقد أمر النبي قبل خروجه من البيت عليا أن يستلقي في فراشه لقد ورد في بعض الروايات خطاً أن النبي أمره بالنوم في سريره مع أن الأسرة لم يكن لها رواج في تلك الأيام، بل ليس لها رواج عام في مكة حتى اليوم- فعندما مر من بينهم ليلا رآه بعض المحاصرين، ولكنهم ظنوه شخصًا آخر جاء للقائه الآن.إنهم لم يعرفوا النبي الله لأنه خرج من بينهم غير خائف ولا وجل، فما كانوا يتصورون أن يجرؤ على الخروج من بينهم.ثم إنهم أطلّوا من نافذة ليطمئنوا أنه لا يزال في البيت، فوجدوا فيه شخصا نائما، فظنوا أنه رسول الله ، فظلوا محاصرين بيته.ثم اقتحموا البيت لاحقًا.ولعلهم انتابتهم شبهة أن جسد الشخص المستلقي على الفراش ليس جسد محمد، فأزالوا الغطاء عن وجهه، أو لعل كان مكشوفا، فوجدوا أنه علي، فعلموا أنه قد خرج بسلام من بينهم، فرجعوا خائبين خاسرين بمعجزة من الله تعالى ولا شك أن الذين اقترحوا سجنه ا قالوا للقوم ألم نقل لكم لا تقتلوه، بل ألقوه في السجن بناء على قرار يصدره مجلس شيوخنا، ولكنكم لم ترضوا برأينا، ورأيتم الآن ما حصل! يبدو أن أحدا من أقارب محمد لم يرض بخطة قتله فأبلغه بما تنوون، فانفلت من أيديكم.ولا بد أن يكون هناك قوم آخرون قالوا عند نجاة النبي من أيديهم: ألم نقل لكم أن تطردوه من الوطن ولا تحاولوا قتله أيضًا، ولكنكم رفضتم اقتراحنا، فرأيتم اليوم الخزي والفشل؛ ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ..أي أنهم كانوا يمكرون بك، ولكنا لم نكن غافلين عما وجهه

Page 672

الجزء الثامن ٦٧٢ سورة الفجر كانوا يفعلون؛ حيث قررنا إفشالهم في كل خطة.لقد حاولوا قتله وفشلوا، كما بطلت خططهم الأخرى أيضا، ليكون أمر الله غالبا.هذا الله هو الفجر الذي طلع بعد ليال عشر حالكة.لقد أذن الله لرسوله بالهجرة، فخرج في رعاية من بين الكافرين المحاصرين بيته البنية قتله، وهاجر إلى المدينة، فأصبحت مكيدتهم لقتله معجزة عظيمة له بدلا من أن تضره.هذا كان أول خبر أفرح قلوب المسلمين الذين كان الألم يعتصر قلوبهم دائما بسبب فظائع الكافرين، فكانوا في بعض الأحيان يقولون الرسول الله الله هلا هاجرت إلى مكان آخر؟ فكان يجيبهم لا أستطيع فعل شيء إلا بإذن الله (البخاري: كتاب المناقب).وبسبب شدائد هذه الليالي العشر كان كثير منهم هاجروا من مكة إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة.لا شك أنهم قد نعموا هناك بالراحة ونجوا من عذاب الكافرين، ولكن قلوبهم كانت تتألم دائما قلقًا على النبي الله فكانوا يقولون في أنفسهم لا ندري كيف حال ،سيدنا وماذا يفعل به العدو.فلما سمعوا خبر هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة، ذاقوا طعم النوم الهادئ لأول مرة، واطمأنت قلوبهم لأن سيدهم قد نجا هجمات الأعداء.هذه الهجرة كانت بمثابة شعاع منبثق من الشمس الطالعة، من ولذلك قد سماه القرآن الفجر الذي ينبئ عن انقلاب سماوي وشيك.والآن نرى هل وقعت بعد فجر الليالي العشر واقعة يمكن أن نسميها واقعة الشفع والوتر ؟ عندما نتدبر القرآن نجد أنه يذكر واقعة الشفع والوتر أيضا وذلك في قول الله تعالى للمسلمين الضعفاء في المدينة إلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْن إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلمَهُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : ٤٠)..أي إن لم تنصروا رسولنا فلن تضروا إلا أنفسكم، لأن رسولنا في حمايتنا، وقد أيدناه بنصرنا في كل موطن.ألم تعلموا حين اضطره الكفار للهجرة من مكة وفي رفقته شخص آخر، فاختفى في الغار، ولما رأى صاحبه في قلق - ليس على نفسه بل على نبيه - طمأنه رسولنا قائلا لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..أي لا تقلق، فإننا لسنا اثنين، بل معنى آخر هو

Page 673

الجزء الثامن ٦٧٣ سورة الفجر وتر.وقد شرح النبي لها بنفسه هذا الوتر فقال: إنَّ اللَّهَ وِثَرٌ يُحِبُّ الْوِثْرَ (أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم).فالشفع هنا هو محمد وأبو بكر، والوتر هو الله الذي كان معهما.الله إذن، فكان الله تعالى قد أخبر سلفًا أنه سيأتي على الإسلام والمسلمين ليال عشر حالكة الظلام، وبعد انقضائها يطلع الفجر، ثم تلي هذا الفجر فورًا معجزة الشفع والوتر، وقد ظهرت هذه المعجزة في غار ثور، فظهر صدق قول الله تعالى وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) ظهور الشمس في كبد السماء.لقد سبق أن بينت أن من المكائد التي اقترحها الكافرون أن يسجنوا النبي ، ولا بد أن من اقترحوا سجنه فرحوا عند فشل مكيدة القتل، وقالوا لإخوانهم لو أنهم سجنوه لما فشلوا اليوم، ولذلك يقول الله تعالى لهم هنا: حسنًا، يمكنكم أن تمكروا لسجنه أيضا، فترون كيف نجعلكم خائبين فيه.وبالفعل لما خرج النبي وأبو بكر من مكة تحت جنح الظلام، وعلم الكافرون بذلك، خرجوا متتبعين آثارهما، حتى وصلوا إلى مدخل غار ثور، وتوقفوا هناك، فقال لهم الدليل: هنا تنتهي آثار أقدامهما، فإما أن محمدا مختف في هذا الغار، أو أنه صعد إلى السماء.كان العرب يثقون بالدليل كثيرا.في بلادنا أيضا أناس يقومون بهذه العمل ولكن معظمهم فاشلون أما الدليل العربي فهو ماهر في فنّه بسبب الظروف الخاصة هناك.باختصار، قال لهم الدليل يبدو أن محمدا في هذا الغار.فقالوا له: كيف يدخل الإنسان فيه؟ فقال: إذن، قد صعد هو إلى السماء.فضحكوا من قوله قائلين : فَقَدَ دليلنا صوابه وأخذ يهذي.هل يمكن لإنسان أن يختفي في هذا الغار؟ هناك شجرة على مدخل الغار، وقد نسجت العنكبوت على أغصانها بيتًا، ولو دخله إنسان لتمزّق بيت العنكبوت هذا والواقع أنها كانت آية أخرى أراها الله عندها، فإن العنكبوت ينسج بيته في دقائق.لقد رأيت ذات مرة أن عنكبوتا نسج بيتا كبيرا له في دقيقتين أو ثلاث.إذن أمر الله تعالى العنكبوت أن ينسج بيته على الشجرة، ولم يخطر ببال هؤلاء الكافرين أن هذا البيت يمكن أن يُنسج في وقت قصير جدا.خلاصة القول، بينما كان الكافرون يتناقشون أصاب القلق أبا بكر

Page 674

٦٧٤.(٢٣٦ الجزء الثامن سورة الفجر وهو على مسافة بضعة أمتار منهم في الغار، ولكن قلقه لم يكن على حياته، بل على حياة النبي ، فقد ورد أنه قال: يا رسول الله، لو قُتلتُ فيُقتل شخص واحد، لا أكثر، أما إذا قُتلت فيُقتل الإسلام.فلما رأى النبي الهلال ما به من قلق قال: لا تحزن إن الله معنا الزرقاني على المواهب اللدنية ج ١ ص ٣٦ وهنا أيضًا ترى أن الرسول ﷺ لم يقل لأبي بكر له إن الله معي، ولم يكتف بقوله لا تحزن، بل ضمّ إلى نفسه أبا بكر وقال لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.فالحق أن قوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إشارة إلى واقعة الشفع والوتر المذكورة في سورة الفجر، حيث بين الله تعالى أننا كنا أخبرناكم عن وقوع واقعة سيكون فيها شفع معه وتر، وقد تحقق هذا حين كان رسولنا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لصاحبه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ معنا.ولولا هذا المعنى الذي أؤكد عليه لما كانت هناك حاجة لقوله تعالى ثاني اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار، إذ كان الموضوع واضحا بدون هذه الجملة أيضا؛ إذ قال الله تعالى : إلا تنصروه فقد نصرناه من قبل؛ ألم تروا كيف نصرناه في غار ثور؟ ولكن الله تعالى أضاف هنا قوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ليخبر العالم أننا قد حققنا من خلال هذا الحادث تلك النبوءة التي أدلينا بها بقولنا وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ مؤكدين أن واقعة الشفع والوتر ستظهر بعد طلوع الفجر، أي بعد هجرة نبينا من مكة.ثم يقول الله تعالى في سورة التوبة فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا..أي عندما تحوّلا من اثنين إلى ثلاثة - أي أدرك أبو بكر أنهما ليسا اثنين بل معهما ثالث هو وتر - أنزل الله سكينته عليه.أما قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا فبين فيه أن الملك لا يكون وحيدا بل يكون معه جيش، ومحمد رسول الله ﷺ ملك العالم الروحاني، فأرسل الله له جنودا ما كان لأهل الدنيا أن يروها.ثم يقول الله تعالى (وَجَعَلَ كَلمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السفلى)..أي كان الكافرون يقولون لو حاولنا سجن محمد لما رأينا الخزي والفشل فها قد أفشلناهم في محاولة

Page 675

الجزء الثامن ٦٧٥ سورة الفجر ومع ذلك السجن أيضا، حيث حاصروه في غار ثور، فوصلوا إلى مدخله، جعلنا كلمتهم السفلى وكلمة محمد لوله لوله هي العليا، فرجعوا خائبين خاسرين.عظيمة هذه المعجزة التي أظهرها الله تعالى وما أروع هذه الآية التي كم هي أراها ! لقد أراد الكافرون أن يسجنوا محمدا للكبت صوته وجعل كلمته هي السفلى، ولكن الله تعالى رفع صوته أكثر نتيجة هذا القيد والسجن، حيث أرى في واقعة قيده في الغار معجزة أخرى ستظل كمعجزة فشلهم في قتله - دليلا ساطعا على صدق الإسلام وصدق دعواه إلى يوم القيامة.فإن قيد النبي في الغار لم يتسبب في ذلته وهوا انه أبدًا، بل أصبح عاملاً آخر على إعلاء كلمته على الدوام.كان الكفار ، حتى حادث غار ثور قد فشلوا في خطتين من خططهم الثلاث، وبقي أن ينفذوا خطتهم الثالثة.ولما كان بوسع من اقترحوا منهم بطرد النبي ﷺ أن يقولوا: لم يعمل القوم باقتراحنا، وإلا لقضي على الإسلام، فأراد الله أن يُخرجوا كل ما في جعبتهم، فذهب بنبيه إلى المدينة سالما معافى، وهكذا تحقق - في الظاهر - ما أرادته هذه الفئة الثالثة منهم من نفي محمد ال من بينهم.لقد اطمأن المسلمون بعد قدومهم إلى المدينة على أمن النبي له الا الله من الكافرين، ولكنهم لم ينتهوا عن المضايقة والعدوان، فحينًا حرّضوا عليه القبائل المجاورة، وحينًا أغاروا على المسلمين (أبو داود، باب في خبر النضير).وهذا يعني أنه كان لا يزال هناك ليل باق للمسلمين، والى ذلك أشار الله تعالى بقوله وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر...أي لا شك أن بارقة أمل ظهرت بعد انقضاء الليالي العشر وتمت الهجرة ووقعت واقعة الشفع والوتر، ولكن لا تزال أمامكم سَنةٌ أخرى من المحن وبعد انقضائها سيطلع عليكم فجر آخر قد أشار الله تعالى إليه بقوله إن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّه وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَان يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) إِذْ أَلتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ بينة وإن اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله في منامك قليلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثيراً ار

Page 676

الجزء الثامن ٦٧٦ سورة الفجر لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذا الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيْنِكُمْ قَلِيلا ويُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيْنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وإلى الله تُرْجَعُ الأُمُورُ) (الأنفال : ٤٢ - ٤٥ ).وَإِلَى -.فقد تحدث الله تعالى هنا بالتفصيل عن غزوة بدر الذي سماه يوم الفرقان، وأخبر أننا قد أنهينا مشاكل المسلمين بهذه الحرب، وبدّدنا عنهم الليل الأخير، وطلع عليهم الصبح المنير.كما اللافت للنظر أن الله تعالى بشر في قوله وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ بذهاب الليل، أي طلوع الفجر من جهة، ومن جهة أخرى سمى غزوة بدر يوم الفرقان؛ ومن معاني الفرقان : الصبح والسَحَر (الأقرب).فأخيرًا حقق الله للمسلمين الفتح يوم بدر كان وعدهم به في قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر في سورة الفجر، إذ أخبر فيه أنه طلوع الفجر سيأتي عليكم ليلة هي الحادية عشرة من الليالي، وسوف ننهيها أيضا، وهكذا كسر الله شوكة الكفار للأبد.بعد فما كان أحد بوسع من الكافرين أن يقول بعد ذلك لو أن القوم عملوا برأيي لقضوا على الإسلام؛ ذلك لأن المكائد الثلاث التي لجأوا إليها لسحق الإسلام تسببت في ازدهاره ورقي المسلمين.هذا الفجر الذي طلع على المسلمين كان فجرا رائعا.لقد طلع عليهم الفجر فقط، الأول بعد ليال عشر، حيث رأوا فيه شعاع النور ، ولكنه كان بداية الشعاع إذ كان هناك ليل باق، ولما ذهب هذا الليل وانتهت الليالي الإحدى عشرة أظهر الله يوم الفرقان الذي كسر شوكة العرب الكافرين كلّيّة.لا شك أن المسلمين تعرضوا للظلم بعدها أيضا، وخاضوا حروبا عديدة ضد الكافرين، ولكن غزوة بدر كسرت قوة الكافرين بلا شك، وظهرت عليهم قوة المسلمين.وغزوة بدر التي قد سماها القرآن الكريم الفرقان قد وردت عنها نبوءة في التوراة أيضا كالآتي: "وَحْيُ مِنْ جَهَة بلاد الْعَرَب فِي الْوَعْرِ فِي بلاد الْعَرَبِ تَبِيتِينَ، يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ.هَاتُوا مَاءً لَمُلَاقَاة الْعَطْشَانَ، يَا سُكَانَ أَرْضَ تَيْمَاءَ.وَافُوا الْهَارِبَ بِحُبَرِهِ، فَإِنَّهُمْ مِنْ أَمَامِ السُّيوفِ قَدْ هَرَبُوا مِنْ أَمَامِ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَمِنْ أَمَامِ

Page 677

الجزء الثامن ٦٧٧ سورة الفجر الْقَوْسِ الْمَشْدُودَةِ، وَمِنْ أَمَام شدَّة الْحَرْب.فَإِنَّهُ هكَذَا قَالَ لِي السَّيِّدُ: «فِي مُــدَّة سَنَة كَسَنَة الأجير يَفْنَى كُلُّ مَجْدَ قِيدَارَ، وَبَقِيَّةُ عَدَدِ قِسِي أَبْطَالِ بَنِي قِيدَارَ تَقِلُّ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ»." (إشعياء ۲۱: ۱۳-۱۷) لقد تنبأ النبي إشعياء هنا أنه بعد سنة واحدة تماما من الهجرة ستنشب حرب بين العرب يفني فيها مجد قيدار (قريش) كلية والذين يتهمون محمدا بالهروب سيولون الدبر مع جنودهم، بحيث يتركون وراءهم في ساحة القتال جثث زعمائهم وقادتهم.وأخيرًا سيفقد وادي مكة مجده كلية بفقدان قادتها.وهذا بالضبط ما أنبا به القرآن الكريم عن الليلة الحادية عشرة أنه بعد انقضاء سنة واحدة كاملة بعد الهجرة ستكسر شوكة الكفار ويطلع صبح فتح المسلمين وانتصارهم.والمعروف أن غزوة بدر قد وقعت بعد سنة كاملة من الهجرة، وسقط فيها كبار صناديد الكافرين صرعى، وانتصر عليهم المسلمون انتصاراً ساحقاً.علمًا أن الرسول خرج من مكة مهاجرًا في ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة من البعثة النبوية.سيرة ابن هشام تاريخ الهجرة، والقاعدة المعروفة أن بقية السنة تُحسب في السنوات السابقة لا في السنة التالية..وهكذا فالستة الأشهر الباقية من السنة الثالثة عشرة تُحسب في الفترة المكية، وتبدأ السنة الجديدة برمضان، لأن رسالة النبي ﷺ بدأت بشهر رمضان، وبعد مجيئه إلى المدينة اكتملت عشر سنوات تمامًا على النبوءة الواردة في قوله تعالى وليال عشر ، وبدأت السنة الحادية عشرة من رمضان وبعد انقضاء سنة أخرى وقعت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان الكامل لابن أثير : ذكر غزوة بدر، حيث قتل صناديد الكافرين وانتهت فظائعهم.وكأن الليلة الحادية عشرة التي جاءت على المسلمين انتهت بعد سنة تماما، وطلع فجر فتحهم وانتصارهم بفضل الله وتأييده ونصرته.هذا هو مفهوم مفهوم هذه الآيات الذي انكشف علي بإلقاء من الله تعالى، والذي كل جزء منه ثابت على ضوء تاريخ الإسلام وآيات القرآن فلا يمكن لأحد أن ينكر أنه قد أتت على المسلمين ليال عشر ،مظلمة وبعد انقضائها انبلج لهم شعاع الفجر في صورة الهجرة، ثم وقعت واقعة الشفع والوتر وأخيرا جاءت الليلة الحادية

Page 678

الجزء الثامن ٦٧٨ سورة الفجر عشرة التي انقضت بعد سنة كاملة بحسب وعد الله تعالى، فقُضي على مجد قيدار كليا.لا شك أن حروبًا وقعت بعد غزوة بدر أيضا ولكن هذه الغزوة أزالت الكفار، فلم يعودوا يعتبرون المسلمين لقمة سائغة، بل اعترفوا علنًا أن رعب مقاومتهم صعبة.إذن، فهذه الآيات نبوءة عن الأحداث الآتية في حياة الرسول ﷺ، وقد ذكر القرآن كل واحدة منها باسمها في مواضع أخرى، بل قد ذكر ثلاثة منها وَالشَّفْع وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ معًا في مكان واحد في قوله تعالى ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُنبتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).لقد ذكرتُ من قبل أن الترتيب يتم بثلاث طرق أوّلها يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، وثانيها من الأعلى إلى الأسفل، وثالثها ترتيب مثلث يذكر الأعلى في الوسط ويذكر ما دونه على يمينه وشماله وقد بينت أن في قوله تعالى ليُثْبُتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرجُوكَ ترتيبا ،مثلنا، حيث ذكر الله تعالى القتل – الذي هو أخطر المكائد في الوسط، وذكر على يمينه وشماله الإثبات والإخراج اللذين هما أقل من القتل.نکات غير أن هناك ترتيبا آخر يجري مستقيما دونما خلل، وهو أن الله تعالى لم يذكر هنا الإثبات والقتل والإخراج بحسب ما اقترحه الكافرون، أعني ليس المراد أنهم اقترحوا القيد أولاً ثم القتل ثم الإخراج، والدليل على ذلك أنهم اتفقوا على القتل أخيرا وليس على الإخراج، إنما جاء هذا الترتيب نظرا إلى الواقع.لقد حاصروا النبي ليلا وحبسوه في بيته حسب ظنهم، فذكر الله الإثبات أولاً.ثم خرج النبي ﷺ من بيته مهاجرًا ومرّ بالمحاصرين فكانت عندهم فرصة سانحة لقتله، إذ لم يحاصروه إلا لهذا الغرض، لذلك ذكر الله تعالى القتل بعد الإثبات ليبين أنهم رغم نية قتله فشلوا في قتله.وفي الأخير وقع حادث الإخراج، ورغم أن اضطهادهم دفع النبي ل إلى الخروج من مكة إلا أن الله تعالى قد نسب الإخراج إلى نفسه في قوله كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ منْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ)) (الأنفال: (٦) ، ذلك لأنه لو لم يُخرجه الله في ذلك الوقت لقتل عندما داهموا بيته، فخرج بأمر الله تعالى واختفى في

Page 679

٦٧٩ الجزء الثامن سورة الفجر غار ثور، ولما وصل الكافرون إلى مدخل الغار باحثين عنه، نجا وخرج بنفسه.عصر سلاحه وهكذا أفشلهم الله تعالى في مكائدهم الثلاث: الإثبات والقتل والإخراج.بيد أن هذا المعنى الثاني هو في المقام الثاني عندي، لأني أفضل المعنى الأول.وقبل أن أبين الظهور الثاني لهذه النبوءة أودّ الإجابة على شبهة قد تنتاب البعض وهي: لماذا لم ينكشف هذا المعنى على الصحابة في زمن الرسول ﷺ لتقام الحجة على الكافرين عندها؟ والجواب: فيما يتعلق بإقامة الحجة فهو ممكن اليوم أيضا إذ نستطيع إقامتها على منكري الإسلام وإقناعهم بصدق الإسلام والقرآن بتقديم هذا المعنى.القرآن ليس لزمن واحد، بل هو لكل العصور، ولو قدّمنا اليوم هذه النبوءات أمام أعداء الإسلام الذين لا يؤمنون بهذه النبوءات وينكرون صدق الإسلام وصدق نبيه ، فلا بد أن يؤمنوا بصدق الإسلام لو كان عندهم عدل وأمانة.أما السؤال: لماذا لم تنكشف هذه المعاني من قبل، فجوابه أن لكل وليس ضروريا أن يكون السلاح الماضي اليوم ماضيًا في كل عصر.كان نجاح النبي بحد ذاته آية عظيمة في عصره بحيث ما كان الصحابة بحاجة إلى دليل آخر، والتاريخ شاهد على ما أقول.فمثلاً أمر النبي هل لدى فتح مكة بقتل هند زوجة أبي سفيان حيثما وُجدت، ولكنها حضرت مجلس النبي ﷺ متنقبة بين النسوة الأخريات اللواتي جئن للبيعة (السيرة النبوية لأحمد بن زيني: غزوة الفتح الأعظم، والسيرة الحلبية : ذكرُ فتح مكة)، فلما قال لهن النبي الله أثناء البيعة أن يعاهدنه على عدم الشرك، لم تتمالك هند نفسها إذ كانت حماسية الطبع، فقالت من فورها: يا رسول الله أنشرك بالله تعالى بعد كل ذلك؟ كنت وحيدًا وحاربناك أجمعين، فلو كانت أصنامنا تملك نفعًا أو ضرًا لم تنتصر علينا ولم نر هذا الخزي والهوان.فكيف يمكن أن يشرك أحد بعد رؤية نجاحك؟ فما الحاجة الآن لأن تأخذ منا هذا الإقرار بعدم الشرك بالله؟ صلى الله فترى أن آية انتصار النبي لو كانت تبلغ من التأثير بحيث لم يكن الناس عندها يبحثون عن أدلة أخرى.ولما كان القرآن لكل ،عصر، فلا بد أن تنكشف معارفه

Page 680

الجزء الثامن ٦٨٠ سورة الفجر الجديدة في كل عصر.ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أن المفسرين المتأخرين قد استخرجوا من التوراة الأنباء التي تتحدث عن بعثة الرسول ﷺ وذكروها لدى تفسير قوله تعالى (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مثله) (الأحقاف: ۱۱)، ولكن الصحابة لم يفطنوا إليها.(الفرقان) في تفسير القرآن، وبيان القرآن).ذلك لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى الأنباء السابقة لمعرفة صدق الرسول ، وإنما كان يكفيهم دليلا على صدقه لأنه كان وحيدا عديم الحيلة وقام في ظروف غير مواتية، ومع ذلك انتصر.ولكن هذه الآيات التي كانت تشفي غليل الأولين لم تعد كافية بمرور الأيام، فمست الحاجة إلى البحث عن آيات جديدة من القرآن الكريم فبحث عنها المفسرون وارتكز اهتمامهم عليها أكثر.فلم يكن الصحابة بحاجة إلى مثل هذه الأدلة، وإن كانت مذكورة في القرآن الكريم، بينما كنا بحاجة للبحث عنها لسد حاجات أهل هذا العصر، فلما تدبرنا القرآن الكريم انكشفت علينا وهي معارفه الجديدة.باختصار كان عند الأولين آيات بيّنة جليّة على صدق النبي أن القوم أرادوا قتله فلم يقدروا، وأرادوا سحقه فلم يقدروا، وأرادوا الغلبة عليه فعجزوا؛ وبعد رؤية هذه الآيات العظيمة ما كان الأولون بحاجة إلى دليل آخر على صدقه.كما كانت أحكام الإسلام حول العدل والإنصاف والمحبة وترك السيئات وغيرها واضحة ورائعة إزاء الشرائع اليهودية والمسيحية والمجوسية وغيرها بحيث أيقن الصحابة على وجه البصيرة أن لا مثيل لتعاليم الإسلام لدى الأديان الأخرى، وبالتالي ما كانوا ليتوجهوا إلى أدلة أخرى على صدق الإسلام أو يبحثوا في كتب الديانات الأخرى عن النبوءات الواردة في حقه.لا شك أن المفسرين ذكروا هذه النبوءات الواردة في كتب الأولين ولكنهم لم يذكروها إلا بعد أن وصل الإسلام إلى البلاد المسيحية، ذلك لأن الأدلة التي قدمت للمشركين في البداية لم تكن كافية للمسيحيين، فأخذ المفسرون يبحثون عن النبوءات الواردة في الصحف السابقة، كما تدبروا في القرآن وأتوا بأدلة جديدة.وكل ما ورد في التفاسير فيما بعد من أدلة جديدة إنما كان نتيجة هذه الحاجات المستجدة.لا شك أن هذه الأمور كلها كانت موجودة في معادنها ولكن كل شيء منها ظل دفينا

Page 681

الجزء الثامن ٦٨١ سورة الفجر بحكمة ربانية، ثم انكشف حين احتاج الزمان إليه والقاعدة أن التقدم العلمي يتمّ دائمًا خطوة بعد خطوة، وكل خطوة تكون إلى الأمام لا إلى الوراء.فمثلاً لو مشت الأم حاملة ابنها على كتفها عشرة ،أميال ثم مشى الابن بعد ذلك، فلا بد أن يمشى إلى الأمام لا إلى الخلف، مع أنها أقوى منه وأن الندب والقروح ظهرت على أقدامها لطول المشي، لكن لا يمكن القول أنه قد سبق أمه.كذلك يأتي المرء بأدلة جديدة أحيانا رغم كونه أقل علمًا من الأولين، ذلك لأن العلم يزداد دائما، وأن معارف القرآن الجديدة تنكشف في كل زمن حسب الضرورة.فلا يصح الاعتراض على انكشاف هذه المعارف على المسيح الموعود العليا وعدم انكشافها على الأولين.وقد يقول البعض هنا: لماذا ذكرت الليالي في قوله تعالى ﴿وَلَيَالٍ عَشْرِ نكرةً؟ هذا السؤال قد أثاره المفسرون القدامى أيضا وأجابوا عليه بإجابة صحيحة تماما أنها ذُكرت نكرةً على سبيل التعظيم والتفخيم؛ لأن التنوين في اللغة العربية يفيد عدة أغراض منها التنكيرُ حينًا والتعظيم حينًا ،آخر ولا يعني التعظيم هنا كون الشيء جيدًا، بل يعني تفخيمه فقط بغض النظر عن جودته أو رداءته.فمثلا: لو كان الظلم كبيرا أو الإنعام كبيرا، فكلاهما يُذكر بالتنوين إذا أريد تفخيمهما (فتح البيان، والجامع لأحكام القرآن والكشاف).ولم يفسر المفسرون قوله تعالى وَلَيَال عَشر بمعنى الليالي العشر من رمضان أو من ذي الحجة، إلا لكونها ذات عظمة وشأن ولكن كما أثبتُ من قبل أنه ليس تفسيرًا صحيحا، بل المراد من ليال عشر) تلك السنوات العشر الشداد التي تعرض فيها المسلمون لاضطهاد شديد في مكة، كما مكة، كما ورد في كتب الحديث والتاريخ حتى اضطر الصحابة للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة مرة.فهناك هجرتان نظرا إلى المناطق، وثلاث هجرات نظراً إلى المرات.باختصار، قد جاءت ليال عشر نكرة للإشارة إلى ما سيتعرض له المسلمون من فظائع مروعة بيد كفار مكة.

Page 682

الجزء الثامن ٦٨٢ سورة الفجر نبوءة عن العصر الحاضر: من لقد ذكرتُ من قبل أن السور العديدة السابقة تتضمن نبوءات ذات صلة ببعثتي الرسول الله الأولى والثانية، وأن سورة الفجر حلقة هامة من سلسلة تلك السور.فكما أن سورة الغاشية وغيرها من السور تتنبأ عن بعثتين للنبي ، كذلك تتحدث سورة الفجر عنهما.فهذه النبوءة التي ذكرتها آنفا بالتفصيل لا تتعلق بالبعثة الأولى فقط، بل بالبعثتين.ونعرف أحوال زمن البعثة النبوية الثانية مما ذكره الرسول ﷺ أخبار مستقبلية، وكذلك نجد الإشارة إليها في قول الله تعالى المر تلْكَ آيَاتُ الكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الرعد: ٢).فقد ذكر ابن إسحاق والبخاري في تاريخهما وروى ابن جرير عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله قال: "مرَّ أبو ياسر بن أخطب أحد كبار أحبار اليهود في رجال من يهود برسول الله ﷺ وهو يتلو فاتحة سورة البقرة..فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون والله، لقد سمعتُ محمدا يتلو فيما أُنزل عليه الم ذَلكَ الْكِتَابُ.فقال: أنت سمعت؟ فقال: نعم.فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله ، فقالوا: يا محمد، ألم يُذكر أنك تتلو فيما أُنزل عليك الم ذَلكَ الْكِتَابُ ؟ قال: بلى.قال: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم.فقال حيي بن أخطب وأقبل على من كان معه: الألف ،واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة؛ أفتدخلون دين نبي مدَّةُ مُلكه وأَجَلُ أُمّته إحدى وسبعون سنة؟ لا بأس لو بقينا تحت حكمه في دين و صبرنا على الأذى لواحد وسبعين سنة، لأن غلبته ستنتهي بعدها.فقال النبي عندي غيره.قال : وما ذاك؟ قال : المص.فقال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ،ثلاثون والميم ،أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وستون ومئة سنة؛ ولا بأس أيضا.فقال النبي : عندي غيره.قال: وما ذاك؟ قال: الر.قال: هذا أثقل وأطول : الألف ،واحدة واللام ثلاثون والراء ،مئتان فهذه إحدى وثلاثون سنة ومئتان وليست بمدة طويلة.فقال النبي : عندي غيره أيضا وهو: المر.قال:

Page 683

الجزء الثامن ٦٨٣ سورة الفجر فهذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ،ثلاثون والميم أربعون، والراء مئتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومئتان ؛ ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد.ثم قاموا وذهبوا.فتح البيان) لقد تبين من هذه الرواية أن الرسول الله لم يفنّد رأي هذا الحبر اليهودي بل صدقه مما يؤكد أن المقطعات القرآنية تتضمن فيما تتضمن نبوءة عن أحداث تقع في الإسلام، سواء كانت هذه الأحداث صغيرة أو خطيرة.وعندما ننظر في سورة الرعد التي تشتمل على أخبار خطيرة جدًّا نجدها تبدأ بقول الله تعالى المر، مما زمن غلبة الإسلام سيستمر إلى ٢٧١ عاما، وفي تلك السنة ستقع واقعة هامة تؤدي إلى اضمحلال الإسلام..ذلك لأنه في حساب الجمل (المر)= ۲۷۱ حيث أ= ١، ل=٣٠، م=٤٠، ر=٢٠٠، والمجموع=٢٧١.يعني أن بعد قراءة هذا الحديث والتدبر في سورة الرعد والإمعان فيها بدأتُ البحث عما أو إذا كان هناك حادث هام ذو صلة بضعف الإسلام قد وقع في عام ٢٧١ قريبا منها - لقد قلت: "أو قريبا منها لأن بعض الأحداث تقع في سنة معينة، ولكن أساسها يوضع قبلها بسنة أو سنتين فبناء على ذلك بدأتُ أُجيلُ النظر في تاريخ الإسلام لأرى ما إذا كانت واقعة هامة يمكن اعتبارها أساسًا لضعف الإسلام قد وقعت ما بين ٢٧٠ هـ إلى ۲۸۰.وأذهلني هذا البحث، إذ وجدت أنه في عام ۲۷۱ بالتحديد وليس في عام ٢٧٠ أو ۲۷۲ أو ٢٧٣ أو ٢٧٤- عقد مَلكُ إسبانيا المسلم اتفاقية مع البابا لينصره على تدمير الدولة العباسية في بغداد.وهذا أن ملكًا مسلمًا عقد معاهدة ملك مسيحي لمحاربة ملك مسلم آخر وتدمير مُلكه.ثم حين طالعت تاريخ الدولة العباسية الإسلامية في بغداد، وجدتُ أنها أيضًا مع قيصر القسطنطينية معاهدة لتدمير حكومة الأندلس الإسلامية في عام يعني عقدت ٢٧٢ أو ٢٧٣ هـ.مع وهاتان الواقعتان الخطيرتان قد أدتا إلى إضعاف الإسلام للأبد فلم يعد رقيه على ما كان عليه من قبل.أما قبل ذلك فكان المسلمون متحدين ضد عدوهم؛ فمثلاً حين كان علي الله ومعاوية يتحاربان أراد قيصر القسطنطينية الهجوم على

Page 684

الجزء الثامن ٦٨٤ سورة الفجر المسلمين، وكانت دولة معاوية تقع بينه وبين دولة عليّ، فلما علم معاوية بنوايا قيصر بعث إليه قائلا: لا تغتر بما بيني وبين علي من حرب، فلو جئت بجيشك لمحاربة عليّ فسأكون أول قائد يخرج لحربك من قبل علي البداية والنهاية: ج ۸ ص ١٢٥-١٢٦).وهذا يعني أن معاوية لن يحارب قيصر فقط، بل سيتصالح مع عليّ ويحارب قيصر تحت إمرته.فلما تلقى قيصر رسالته خاف وانثنى عن عزمه حرب المسلمين.فترى أن المسلمين كانوا في البداية متحدين ضد عدوهم رغم من من البابا، حربهم فيما بينهم ، ولكن في عام ٢٧١ هـ عقدت دولة إسلامية اتفاقية مع بينما عقدت دولة إسلامية أخرى اتفاقية مع قيصر القسطنطينية للقضاء على الأولى بمساندة المسيحيين.إنا لله وإنا إليه راجعون.إذ وضع الأساس لضعف الإسلام في عام ٢٧١ هـ.عندها فهمتُ أن الرأي الذي قدّمه اليهود عن المقطعات والذي لم يرفضه الرسول هو حقيقة ثابتة.وقال الله تعالى في مكان آخر يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِليه فِي يَوْمِ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة: ٦)..أي أن سنة الله المستمرة أنه ينزل للناس الهدى السماء، ويقيم جماعة من المؤمنين..وسيفعل الآن أيضا ويقيم الإسلام على يد رسوله في الدنيا، ولكن هذا الدين سيبدأ في الصعود إلى السماء في يوم مقداره ألف سنة مما تعدون.لقد أنبأ الله تعالى هنا عن فترة ضعف الإسلام التي ستمتد إلى ألف سنة، حيث يرتفع الإيمان والإسلام إلى السماء ويبتعد الناس عن الدين ونظرا إلى المعنى الذي بينته من قبل لقوله تعالى ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يس فيما يتعلق بعصر الرسول ، كان الليل يساوي سنة، ولكن نظرًا إلى هذا المعنى الثاني المتعلق بضعف الإسلام، فالليل يساوي قرنا، حيث بين الله تعالى أنه سيأتي على الإسلام ليال عَشر مظلمة، وكل ليلة منها ستساوي قرنا من الزمان، أي أن هذه الفترة ستمتد إلى ألف سنة.فيا لها من مشابهة لطيفة فكما جاءت في زمن النبي له عشر سنوات من الظلم والجور بعد انقضاء ثلاث سنوات من البعثة كذلك قد أخبر الله هنا أن الإسلام

Page 685

الجزء الثامن чло سورة الفجر سيضعف بعد القرون الثلاثة الأولى وأن فترة ضعفه هذه ستمتد لعشرة قرون..أي ألف سنة.وقد بدأت هذه الفترة من السنة ۲۷۱ هـ كما بينت آنفا، فلو أضفنا إليها ألف سنة التي هي فترة ضعف الإسلام صارت عندنا ١٢٧١ عاما، أي قرابة ۱۳ قرنا.فثبت أن القرآن الكريم يتحدث عن ۱۳ قرنا للإسلام؛ كانت حوالي ثلاثة قرون منها أو ۲۷۱ (سنة) فترة رقيه وعشرة قرون منها تشبه الليل، وكما طلع الفجر بعد ليال عشر في بداية الإسلام، كذلك سيطلع الفجر بعد (ليال عشر مظلمة)..كل واحدة منها تساوي قرنًا من الزمان..وقد أشير إلى الموضوع نفسه في قول الله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) الله منع قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمَ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةٌ وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (سبأ: ٢٩-٣١) ) قبل شرح هذه الآية يجب أن نفهم أن الله تعالى أعلن في الآية ٤١ من سورة الأحزاب أن محمدا لله خاتم النبيين، أي أنه من الآن فصاعدا لن ينال الناس قرب وغيره من البركات والفيوض الإلهية مباشرة، بل بواسطته واتباعه.وسورة سبأ أيضًا تتحدث عن هذا الموضوع نفسه، حيث أكد الله تعالى أنه سيقيم في الدنيا نظاما جديدا أبديا على يد رسوله.وهنا ينشأ سؤال : هل يعني هذا أن محمدا الناس من الوصول إلى الدرجات العلا في هذا النظام الروحاني الجديد؟ فأجاب الله على ذلك في سورة سبأ وبين أن محمدا لم يمنع الناس من الوصول إلى المقامات الروحانية العالية، والدليل على ذلك أنه سيأتي على الدوام من بين أتباعه أنبياء خادمون له، فقال الله تعالى لنبيه : يا محمد، ما كانت نبوّتك لتنتهي، مستمرة إلى يوم القيامة، والدليل على ذلك وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا..أي لقد أرسلناك بشيرا ونذيرًا للناس جميعا سواء كانوا عربا من الجزيرة العربية أو سوريين أو فلسطينيين أو من أي شعب آخر ومن أي قرن و زمان لا شك أن الإيمان بكل نبي صادق ضروري؛ إذ لا بد لأتباع النبي ﷺ من الإيمان بموسى العليا مع أنه لم يكن مبعوثا إلى العالم كله، أما محمد ﷺ فيقول الله له لم نبعثك ليؤمن بك الناس فحسب، بل لتكون بشيرا ونذيرا لأهل كل عصر إلى بل هي

Page 686

الجزء الثامن يوم القيامة.لا شك أن موسی члу سورة الفجر العلم كان نبيًا صادقًا، ولكنه لا يقوم اليوم بأي من تبشير ولا إنذار، وليست أحكامه جارية اليوم بحيث إذا كفر بها الناس تعرضوا للعذاب وإذا عملوا بها تمتعوا بفضل الله ونعمه؛ وإن الفضل أو العذاب لا ينزل على الإنسان إلا نتيجة إيمانه أو كفره بني نبوته جارية وسارية، لذلك يقول الله تعالى لنبيه لقد بعثناك لجميع الناس في كل العصور إلى يوم القيامة فلا بد لهم من الإيمان الله بنبوتك، وليس هذا فحسب بل ستظل بشيرا ونذيرا لهم أيضا، فالذين يؤمنون بك سنشملهم بفضلنا، والذين يكفرون بك سننزل عليهم العذاب عندنا.ثم قال الله تعالى وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ..وليس المراد من قول الله هذا أن الناس لا يؤمنون بك، فهذا الأمر مفهوم ومعروف لا فائدة في إعادته، إنما المراد منه أن ما قلناه لك الآن لم يعرفه الناس من قبل، لأنهم كلهم كانوا يعرفون ويؤمنون بأنبياء مختصين بشعبهم وبعصرهم ،فقط إلا المسيحيين الذين كانوا يؤمنون روحاني أبدي وللعالم كله، أما غيرهم فكلهم لم يؤمنوا بهذه العقيدة، لأن الأنبياء ظلوا يُبعثون وتُنسَخ شرائعهم على مر العصور ؛ فلذلك يقول الله تعالى إن الدعوى التي أعلناها عن منصبك لا يعلمها أكثر الناس إذ يعتقدون أنه كلما جاء نسخ نبوة النبي السابق وبالفعل لم يحدث في الدنيا قبل النبي قط أن بعث كله وإلى العصور كلها.إن الهندوس يرون أن كتابهم الفيدا شريعة أبدية، ولكنهم لا يعتبرونها للعالم كله، إذ يؤمنون أنه لو سمع أحد الشودر كلمة الفيدا فيجب أن يوضع في أذنه رصاص مغلي.أما الزرادشتيون فهم صامتون في بملك نبي للعالم - - من تقسم الديانة الهندوسية أتباعها على أربع طبقات - البراهمة: وهم الذين خلقهم الإله "براهما" من فمه حسب زعمهم منهم المعلم والكاهن والقاضي، وإليهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.-۲ الكاشتر (أو "كهتري"): وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدّمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع.٣- الويش وهم الذين خلقهم الإله من فخذه يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال وينفقون على المعاهد الدينية.٤ - الشودر وهم الذين خلقهم الإله من رجليه وهم يشكلون طبقة المنبوذين، وعَمَلُهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة الشريفة ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة كتنظيف الشوارع والمراحيض.(المترجم) :

Page 687

سورة الفجر الجزء الثامن ٦٨٧ هذه القضية، ولكن الواضح تماما أن دينهم ليس للعالم كله.أما اليهود فبدأوا يقولون الآن إن شريعتهم أبدية.والحق أن هذه الفكرة قد تبلورت في أذهانهم مؤخرا، أما قبل ذلك فكانوا يعتقدون بنزول شريعة أخرى كما هو ظاهر من التثنية ١٨ ٨ والتثنية ٣٣ ٢.ثم جاء عيسى ال و لم يكن للعالم كله، ولكنه بعث في زمن قريب من عصر بعثة نبي كان المقدر أن يكون للعالم كله، وكانت من الظروف تتغير بسرعة، ولذلك ظنّ المسيحيون خطأ أن المسيح مبعوث للعالم كله، إلا أنهم ليسوا أكثر الناس، بينما يقول الله تعالى هنا وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ..أي أن الغالبية العظمى من الناس لا يحملون هذه العقيدة أصلا، بل المحال أن تكون هناك شريعة للعالم كله ثم تكون أبدية.هذان الفرقان لا يرون من يزالان قائمين حتى اليوم وأتباع أكثر الأديان لا يؤمنون بذلك، إلا المسيحيون.ثم يقول الله تعالى بعد هذه الآية من سورة سبأ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ صادقين..أي يقول الناس إذا كان محمد بشيرا ونذيرا لكل زمان فهذا يعني أن الفساد سيظل ينتشر في الدنيا وسيظهر محمد بشيرا ونذيرا للعالم لإزالة هذا وسؤالنا : متى يأتي هذا الزمان؟ ومتى يظهر محمد بشيرا ونذيرا للعالم مرة الفساد أخرى؟ صلى الله صل الله سيعود من الواضح أن كون الرسول بشيرا ونذيرا إلى يوم القيامة لا يعني أنه إلى الدنيا بجسده المادي ليبشر الناس وينذرهم بل المراد أن أظلاله سيأتون إلى الدنيا، فكلما وقع فساد في الأرض قام ظل من أظلاله بشيرا ونذيرا..وهذا يُعتبر بعثةً ثانية للنبي في العالم.وهذا ما أجاب الله به على سؤالهم في الآية التي تلتها فقال: قُلْ لَكُمْ ميعَادُ يَوْمَ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ..أي سبق حددنا ميعاد يوم لهذا الوقت - وذلك في سورة السجدة - بمعنى أن محمدا لله أن سيُبعث بشيرًا ونذيرا للعالم ثانية بعد انقضاء فترة الفساد في الإسلام الممتدة ألف سنة.فقوله تعالى قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةٌ وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ..هو في الواقع إشارة إلى تلك الليالي العشر المظلمة التي أتت على المسلمين بعد فترة رقي الإسلام الممتدة حوالي ثلاثة قرون وقد ظلت مخيمة عليهم لألف سنة مي

Page 688

الجزء الثامن ٦٨٨ سورة الفجر المذكورة في سورة السجدة في قوله تعالى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِليه فِي يَوْمِ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ممَّا تَعُدُّونَ.إذن، تحدث القرآن الكريم عن ثلاثة عشر قرنا وبيّن أن عشرة قرون منها تشبه عشر ليال مظلمة تتوالى على المسلمين وكل ليلة منها تساوي ١٠٠ عام.كذلك قال الله تعالى في موضع آخر فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا أَتَسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق (الانشقاق:١٧-٢٠)..أي ليس الأمر - كما تقولون، فإني أقدم كشهادة الشفق، ثم الليل وما جمع في نفسه، ثم القمر حين يدخل في ليلته الثالثة عشرة.فقوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ يعني أن الأمر ليس كما تظنون فإني أقدّم شهادة الشفق..أي حين تغيب الشمس وتبقى حُمرتها.فكأنه تعالى يقول للكافرين إن جهودهم للقضاء على الإسلام ستذهب سدى، لأن الإسلام سينتصر حتما ولن يهزموه مهما فعلوا.غير أن هذا لا يعني أن الإسلام سيظل قويا على الدوام، بل كما أن الشمس تغيب بعد فترة معينة وتظل حمرة في الأفق، كذلك سيأتي على الإسلام زمان تظهر فيه آثار الاضمحلال مع بقاء الشفق، بمعنى أنه زمان لا يكون فيه ضوؤه ضوء النهار، كما لن يكون الظلام شديدًا كظلمة الليل، بل يكون الأمر خليطا حيث تكون فيه الغلبة للمسلمين ولكن يظهر فيهم الضعف والاضمحلال أيضا.ثم يقول الله تعالى وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ..أي ثم أقدم لكم كشهادة الليل وكل ما يحتويه من شرّ...أي ليلة مخيفة تجتمع فيها أنواع الشدائد والظلمات.ثم يقول الله تعالى وَالْقَمَر إِذَا اتَّسَقَ...أي ثم أقدّم كشهادة القمر حين يدخل ليلته الثالثة عشرة.واتساق القمر يكشف بجلاء أن الليل هنا ليس ليلا ماديا، بل هو ليل مجازي، إذ المعروف أن الليلة الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة في الشهر القمري لا تكون حالكة الظلام بل الليالي الحالكة تأتي في آخر الشهر.فلو كان المراد هنا الليل المادي لم يقل الله تعالى بعده ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ..فهذه القرينة دليل أن الحديث هنا ليس عن ليل مادي.وقد سبق أن بينتُ في تفسير سورة الانشقاق أن اتساق القمر يعني استواءه في الليلة الثالثة عشرة حتى السادسة عشرة من الشهر

Page 689

الجزء الثامن ٦٨٩ سورة الفجر القمري.فكأن الله تعالى قد أخبر هنا أن شمس الإسلام تغيب كما يغيب النهار، ولكن اضمحلال الإسلام هذا لن يحدث مرة واحدة بل سيكون تدريجيا إلى أن أعين الناس، ويبقى شفقها في الأفق، ثم يغيب الشفق أيضا ليخيم ليل تغیب شمسه عن مظلم على المسلمين.ثم يطلع القمر في الليلة الثالثة عشرة حتى الليلة السادسة عشرة لينهي مصائب الإسلام كلها، وسوف يستمر هذا الرقي ليكتمل حتى القرن السادس عشر.لقد اختار الله تعالى لبيان هذه الحقيقة كلمة رائعة: (اتسق)، وقد ورد في المعاجم كما ذكرنا بالتفصيل لدى شرح الكلمات أن اتساق القمر هو استواؤه الليلة الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة من الشهر.ولو اعتبرنا الليلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة بداية طلوع هذا القمر، فإن الليلة الخامسة عشرة أو السادسة عشرة ستُعتبران ذروة إنارة القمر.باختصار، لقد بين الله تعالى هنا أن الإسلام سيؤول إلى الضعف، ولكن سيطلع القمر في القرن الثالث عشر لينتهي زمن الآلام.وقد أكد الله هذه الحقيقة بقوله تعالى طَبَق..أي لا بد أن تمروا بهذه المراحل كلها درجة لَتَرْكَبُنَّ طَبَقَا عَنْ درجة، فستأتي على الإسلام فترات الظلام ثم فترات النور، وستأتي أيام القوة وأيام الاضمحلال ستُشبهون الشفق في البداية ثم يخيم عليكم الليل المخيف بكل ظلماته.ثم يطلع عليكم القمر الذي سيبدد هذه الظلمات كلها لتنتهي مصائب الإسلام.هذا كله يكشف أن الليالى هنا ليست مادية كما قلتُ، بل هي ليال مجازية، حيث رسمت هذه الآيات انحطاط المسلمين ثم ازدهارهم ثانية.وكذلك قال الله تعالى في سورة البروج وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود * وَشَاهِد وَمَشْهُود (البروج : ٢-٤)..أي نقدّم كشهادة السماء ذات البروج.وحيث إن البروج عند علماء الفلك اثنا عشر برجًا لاثني عشر نجما، وعليه فالآية تعني أننا نقدّم كشهادة السماء ذات البروج الاثني عشر، ثم نقدّم كشهادة اليوم الموعود..أي القرن الثالث عشر، إذ كان من المقدر أن يُبعث في هذا القرن لإحياء الإسلام موعود رباني وُصف في الآية التالية وَشَاهد وَمَشْهُود، هي

Page 690

الجزء الثامن بمعنى 79° سورة الفجر أنه سيأتي شاهدا على صدق إنسان آخر هو مشهود..والمراد أن الله تعالى سيبعث عندها المسيح الموعود كشاهد على صدق الرسول والقرآن المجيد..فيبدل ضعف الإسلام إلى رقيه.كذلك إذًا، فهذه الآية أيضا تدل على ظهور مبعوث من عند الله في القرن الثالث عشر.ورد في الحديث عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.....ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَحُونُونَ وَلَا يُؤتَمَنُونَ، وَيَنْدُرُونَ وَلا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فيهِمُ السِّمَنُ (البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا).والمراد من قوله : "وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" الثلاثة أنهم يصابون بالسمنة من كثرة الأكل، ولن يرغبوا في الدين والتضحية في سبيله.هي فترة يتضح بالجمع بين كل هذه الآيات والنبوءات أن القرون الثلاثة الأولى ازدهار الإسلام، ثم تأتي عليه عشرة قرون طويلة من الضعف والاضمحلال.وقد قبل أنه ليس بضروري أن تكون هذه الفترة متكاملة ۱۰۰% إلا أن من بينت من تكون هناك قرينة، بل يُعتبر معظم السنة سنة كاملة، ومعظم اليوم يوما كاملا، ومعظم القرن قرنا كاملا.فلا تناقض أصلاً بين ما ورد في الحديث أن فترة رقي الإسلام ثلاثة قرون يظهر بعدها الفتن وبين ما تبين من مقطعة سورة الرعد: المر أن الفساد يظهر بعد ٢٧١ سنة، بل الواقع أن هذه الفترة قد حددت تحديدا في مكان، بينما استخدمت في مكان آخر كلمات تقريبية بحسب العرف.باختصار، قال الله تعالى وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرِ..أي تقسم بالفجر والليالي العشر التي تسبقه والمراد من الليالي العشر هو فترة الألف سنة من الضعف الذي أتى على الإسلام بعد ثلاثة قرون من ازدهاره والذي قد اشتد كل شدة حتى جمعت هذه الليالي كل الظلمات وكما أن الليل في نبوءة الليالي العشر كان يماثل سنة واحدة فيما يتعلق بصدر الإسلام، فإن الليل كان يماثل قرنا فيما يتعلق بالزمن الأخير، فأخبر الله تعالى أنه بعد هذه الليالي المظلمة سيطلع الفجر، وستنقشع غيوم عن سماء الإسلام؛ ومن أجل ذلك كان من أسماء المسيح الموعود اللة الظلمة الطارق، حيث نجد أول وحي تلقاه الا هو : " والسماء والطارق" (التذكرة ص

Page 691

الجزء الثامن ٦٩١ سورة الفجر ١٩).لقد تلقاه عند وفاة أبيه، وفَهم منه دنو أجل أبيه، إذ توفي في نفس اليوم ليلاً.ولكن من معاني الطارق أيضا كوكب الصبح، فكأن الله طمأنه اللي بنفس هذا الإلهام وقال لا داعي للقلق فأنت الطارق..حيث تكشف نور أبيك محمد ، فلماذا تحزن على وفاة أبيك المادي؟ واللافت للنظر أيضًا أننا إذا جمعنا حساب المر ألف سنة التي هي زمن الفيج الأعوج (أي الفساد، ثم حوّلنا هذه السنوات الهجرية إلى ميلادية بإضافة ٦٢١ سنة -وهي فترة ما بين بداية التقويم الميلادي حتى هجرة الرسول - كانت عندنا نفس السنة الميلادية التي طلع فيها هذا الفجر، أعني السنة التي قدّم فيها المسيح الموعود ال دعواه أمام العالم.فمقطعة المراة تساوي٢٧١، ونضيف إليها ألف سنة هي زمن الفيج الأعوج، فتصبح ،۱۲۷۱ ثم نضيف إليه ٦٢١ فيصبح المجموع ،۱۸۹۲، والآن نطرح منه سنتين أو ثلاثا، لأن مقطعة المر قد وردت في فاتحة سورة الرعد المكية التي نزلت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، فلو طرحنا سنتين من ۱۸۹۲ صارت عندنا ١٨٩٠، وهي نفس السنة التي أعلن فيها المسيح الموعود الليلة دعواه.ولو طرحنا منها ٣ سنوات، صارت عندنا ١٨٨٩ وهي السنة التي أخذ فيها المسيح الموعود الله البيعة من الناس.أما إذا قمنا بالحساب طبقًا للتقويم الهجري، فنجمع الثلاثة القرون الأولى مع ليال عشر (عشرة قرون، فتصبح ۱۳۰۰ ، وقد أعلن المسيح الموعود الا دعواه قريبا من ۱۳۰۸هـ، وعدد ٧ أو ۸ ضئيل جدا في فترة ۱۳ قرنا، بحيث لا قيمة له.If لو نظرنا من زاوية أخرى وجدنا أن هذا العدد يمثل نبوءة عن براهين" أحمدية".لقد قام المسيح الموعود اللي بتأليف كتابه "براهين أحمدية" في عام نفس السنة التي كان من المقدر فيها ١٣٠٠ هـ، وطبعه في عام ١٣٠٢هـ، ، وه طلوع الفجر بحسب هذه النبوءة القرآنية.وهي إذن، فهذه النبوءة قد تحققت شمسيًا وقمريًا، وطلع الطارق في أفق السماء لتبديد ظلمات الليل.فما أعظمها من نبوءة! فأولاً حدّد الله تعالى تواريخ طلوع هذا الفجر في القرآن الكريم والحديث، ثم بعد مضي مئات السنوات أقام لهداية

Page 692

الجزء الثامن ٦٩٢ سورة الفجر الناس ذلكم الشخص الذي كان مصداقا لهذه الأنباء تماما في التواريخ التي حددها لظهوره إنها آية ربانية عظيمة إذا تدبّرَها الإنسان امتلأ قلبه يقينا بوجود الله وقدرته و لم يملك غير المتعصب إلا الإقرار بأن الإسلام دين الله الحق.والآن نتوجه إلى الجزء الثالث من هذه النبوءة أعني قول الله تعالى وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر.هذه الآية يمكن تفسيرها بمفهومين: أولهما أننا نقدم كشهادة واقعة الشفع والوتر -علما أن الواو هنا للعطف..والمعنى أننا نقسم بالشفع ونقسم بالوتر، بينما الواو في قوله تعالى والفجر للقسم، إذ ليس قبله أي كلام حتى نعتبرها للعطف - فكما أن النبي ﷺ قال لأبي بكر له حين كان معه في غار ثور: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا، كذلك أخبر الله تعالى هنا أن وقت اجتماع الشاهد والمشهود، أي وقت ظهور الرسول ثانية وظهور خادمه وظلّه معه، يكون عصيبا على الإسلام حيث يُحصر رسول الله ﷺ مع تلميذه، وعندها يُري الله الذي هو وتر للعالم أنه معهما.وهناك إلهام للمسيح الموعود العلمية: رسول الله ﷺ پناہ گزیں ھوئے قلعۂ ھند میں" ا (التذكرة ص ٤٠٤ أي لجأ رسول الله إلى قلعة الهند.بمعنى كما أن الرسول ﷺ لجأ بصحبة أبي بكر إلى غار ثور فرارًا من هجوم الكافرين الأوائل، كذلك ستلجأ روحانيته روحانيته في أن الزمن الأخير إلى قلعة الهند فراراً من الكفر.فنرى أن هذا الإلهام الرباني يصرح غار ثور الثاني سيكون في الهند، وأن رسول الله ﷺ سيلجأ إلى غار ثور الثاني مرة أخرى ويكون معه صاحبه مرة أخرى فيقول الله لصاحبه مرة أخرى: لا تحزن إن الله معنا..أي لا تحزن لأن هذا القيد نفسه سيصبح سبب النجاح بفضل الله ونصرته.إذًا، قد بين الله تعالى بقوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أنه كما لاذ النبي ﷺ مع أبي بكر بغار ثور في المرة الأولى، كذلك سيلوذ النبي مع المسيح الموعود في الزمن الأخير للإسلام، ولكن لن يلوذ هذه المرة بغار ثور، بل بقلعة الهند، فينزل الله وعمل مع جيش من ملائكته ليكون معهما كما نزل في غار ثور من قبل.

Page 693

٦٩٣ سورة الفجر الجزء الثامن هي والمفهوم الثاني لقوله تعالى (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هو أن لا نعتبر الواو في (والوتر) عطفا على الفجر، بل عطفا على الشفع، وعندها لا يكون المعنى أننا نقسم بالشفع ونقسم بالوتر، بل المعنى نُقسم بالشفع والوتر الذي معه وكأن الله تعالى قد أقسم بالشفع والوتر معًا وليس بالشفع على حدة وبالوتر على حدة، والمراد أننا نقدم كشهادة شخصية شفع من جهة ووتر من جهة..أي أن الفجر الذي يطلع بعد ليال عشر سيطلع بواسطة شخص لا يمكن فصله عن الرسول ﷺ، وإن كان شخصا آخر في الظاهر.فمع أنه سيكون شخصا آخر في الظاهر، ويكون شفعًا مع ا الرسول ل لا لا لا لا اله إلا أنه لن يكون هناك نبيان ولا إمامان، بل إن هذا الموعود سيتفانى في الرسول ﷺ بحيث سيبقى الرسول ﷺ هو الرسول الحقيقي رغم بعثة هذا الموعود فكأن المعنى ما بينه المسيح الموعود الله في شطر بيت له بالأردية: "وہ ھے میں چیز کیا ھوں بس فیصلہ یہی ھے" قادیان کے آریا اور هم الخزائن الروحانية ج ٢٠ ص ٤٥٦) بمعنى: إنه أي) النبي كل شيء..أنا لست بشيء.هذا هو قراري.ويقول: "من فرق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى." (الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية ج ١٦ ص ٢٥٩ وهذا الموضوع قد انكشف علي مرة في المنام؛ في طريقنا إلى مقبرة الجنة كان هناك ميدان بين المدرسة الأحمدية ومكتبة بيع الكتب، وقد بنيت هناك غرف الآن..لقد رأيت في هذا الميدان كرسيا، وقيل إن رسول الله قادم.ثم رأيت أنه قادم من جهة، وحينما نظرت إلى الجهة الثانية رأيت المسيح الموعود الله قادمًا أيضا، وكان كلاهما يقترب من الكرسي، فقلقتُ قلقا شديدا وقلت ما هذا الخطأ الفادح الذي ارتكب؟ فالرسول ﷺ والمسيح الموعود القادمان، ولكن الكرسي واحد هذه إساءة كبيرة.إلا أني لم أستطع إحضار الكرس بسرعة كما لم يخطر مي هذا ببال أحد آخر فكان قلبي يرتجف خوفا، وكلما اقتربا ازددت اضطرابًا حتى الكرسي، فقلت في نفسي: لعل المسيح الموعود اللي يتأخر، ولكنه لم اقتربا من

Page 694

الجزء الثامن ٦٩٤ سورة الفجر يتأخر، وتقدم الرسول الله ، أيضا، فظننت أن قلبي سيتوقف عن الحركة، ولكني رأيتُ بعد قليل أن كليهما يحاولان الجلوس على الكرس معا بإمالة أجسامهما ليَسَعَهما..ثم أخذ جسداهما يتداخلان بعضهما ببعض، فلما جلسا على الكرسي لم يكونا ،اثنين بل صارا شخصا واحدا.هذه هي الحقيقة التي بينها الله تعالى بقوله وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ..أي أننا نقدّم كشهادة ذلك الشفع الذي يكون وترًا أيضا، بمعنى أنه سيكون هناك اثنان في الظاهر، أما في الحقيقة فليس هناك اثنان بل واحد فحسب.ومن معاني قوله وَالشَّفْع وَالْوَتْرِ أنه سيظهر موعود واحد بينما يظن الناس أنه يجب أن يأتي اثنان المهدي وعيسى ولكنه سيكون وترا، أي سيكون شخصا واحدا ذا لقبين.كان الناس يظنونه شفعا، ولكن تبين عند ظهوره أنه وتر.وأرى أنه لم يسبق لهذا الواقع مثيل في التاريخ؛ أي أن يكون الناس ينتظرون مدعيين، ولكن يتبين في الأخير أنهما شخصية واحدة.إن هذا الزمن هو الزمن الوحيد الذي كان الناس ينتظرون فيه ظهور مسيح ومهدي، ولكنه لما ظهر تبين لهم أنه وتر..بمعنى أن النبوءات كانت بظاهرها تنبئ عن شخصيتين، ولكن لم تكن هناك شخصيتان في الحقيقة وإنما كان هناك شخص واحد له اسمان.وهذا ما بينه الله تعالى هنا أن هذين اسمان لشخص واحد سيظن الناس أن هناك شفعًا، ولكن سيتبين عند ظهوره أنه وتر.باختصار، إن لقوله تعالى وَالشَّفْع وَالْوَتْرِ مفهومين: أولهما أن هذا الموعود له حقيقتان؛ حقيقة الشفع وحقيقة الوتر.فلأنه يكون شخصا منفصلا عن النبي ، فيبدو في الظاهر أن هناك نبيين في الإسلام، ولكنه سيكون متفانيا في الرسول ، تابعًا للإسلام، داعيًا إلى العمل بتعاليمه ناطقا بشهادة محمد رسول الله ، ومعلما هذه الشهادة للناس، فلن يكون ثمة اثنان في الواقع، بل يكون في الإسلام نبي واحد في الحقيقة، لأن الاختلاف يؤدي إلى اثنين بينما الاتحاد يجعل الاثنين واحدا.والمفهوم الثاني أنه موعود واحد ولكنه سيعطى لقبين نظرا إلى منصبين له.

Page 695

الجزء الثامن ٦٩٥ سورة الفجر يقول الله تعالى بعدها وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْ.هذه الآية تشير إلى قرن آخر يكون بعد الليالي العشر المظلمة، وكأن الله تعالى يقول لن يزدهر الإسلام مباشرة بعد انتهاء الليالي العشر المظلمة.سيطلع الفجر بعدها ولا شك، وسيسطع شعاع نور، ويرى الناس بارقة أمل ولكن الليل لن ينقضي، بل سيكون هناك فترة قرن قبل انقضاء هذا الليل.والآن لو اعتبرنا ۱۸۹۰ عامَ بزوغ هذا الفجر فيكتمل هذا الليل (أي القرن) في ۱۹۹۰.نحن اليوم في عام ١٩٤٥، وهذا يعني أنه لا يزال هنا ٤٦ سنة قبل انقضاء هذا الليل.أما إذا قمنا بالحساب بالتقويم الهجري، واعتبرنا عام ١٢٧١ الهجري عام انتهاء هذه الليالي العشر المظلمة، فيكتمل هذا الليل الباقي أي القرن الباقي في ۱۳۷۱، أي قد بقي ٨ سنوات فقط على انتهاء هذا الليل.وأما إذا بدأنا الحساب من رأس القرن الهجري وظننا أن هذا الليل سينتهي في عام ١٤٠٠، فلا يزال هناك ٤٧ عاما لانتهائه.هذه ثلاثة أزمنة بثلاثة اعتبارات مختلفة، والله أعلم أي منها صحيح وأيها غير صحيح.وقد تكون كل هذه الاعتبارات الثلاثة صحيحة، مثلما بينت بصدد نبوءة الليالي العشر أن هذه النبوءة تحققت في العام الذي أعلن فيه المسيح الموعود الله دعواه من جهة، ومن جهة أخرى تحققت في العام الذي أخذ فيه البيعة، ومن جهة ثالثة تحققت في العام الذي نُشر فيه كتابه "براهين أحمدية"، فليس بمستبعد أن ينتهي هذا الليل الباقي بعد ثمان سنوات أي في عام ١٩٥٢ باعتبار أو بعد ٣٧ عاما أي في عام ۱۹۸۱ باعتبار آخر، أو بعد ٤٦ عاما أي في عام ۱۹۹۰ باعتبار ثالث وبحسب التقويم القمري تنقص ثلاث سنوات في القرن الميلادي فلذلك لو طرحنا ٣ سنوات من ٣٧ سنة صارت ٣٤ سنة، وبهذا الاعتبار وهكذا صارت عندنا أربعة اعتبارات لا ثلاثة، وحيث هذا الليل ١٣٩٧هـ.إن هذه النبوءة لم تتحقق بعد، لذا يجب أن نضع في الحسبان هذه الاعتبارات كلها، بمعنى قد بقي لانتهاء هذا الليل ٨ سنوات من منظور ، و ٣٤ سنة من منظور آخر، و ٣٧ سنة من منظور ثالث و ٤٦ سنة من منظور رابع.فسوف يتجلى الفرقان يقينا في هذه الفترة ثانية وسينصر الأحمدية بآية عظيمة غير عادية.لا شك ينتهي بيوم

Page 696

الجزء الثامن ٦٩٦ سورة الفجر أن الحرب بيننا وبين معارضينا ستظل مستمرة بعدها كما استمرت الحروب بعد غزوة بدر في صدر الإسلام، بيد أن الله تعالى سيكتب الغلبة للأحمدية حتى يعترف بها العدو أيضا.أما الفتح الكامل المبين للإسلام والأحمدية فسيتم بعد حوالي ثلاثة قرون كما أنبأ المسيح الموعود ال تذكرة الشهادتين، الخزائن الروحانية ج٢٠ ص ٦٧.والشعوب التي لا تدخل بعدها في الأحمدية سيكون حالها كحال اليهود في هذه الأيام.وبرغم أن هذا الفتح الأخير سيأتي بعد فترة طويلة، إلا أن الأحمدية ستحرز فتحًا ما بعد ٨ سنوات من اليوم، أو ٣٤ عاما، أو ٣٧ عاما، أو ٤٦ عاما أو قريبا من هذه السنين؛ لأن النبوءات لا تُحدد بالأيام، بل بشكل تقريبي؛ وقد تظهر أربعة فتوحات مختلفة في هذه المواعيد كلها.فكونوا على يقين أن الأحمدية ستنال فتحا ما في كل هذه السنوات أو قريبا منها بإذن الله تعالى.ومن فوائد ظهور آيات الفتح والنصر في فترات متقاربة أنها تزيد إيمان المؤمنين مرة بعد أخرى.فالنبي حين خرج من بيته بسلام فرح المسلمون، ولما نجا من هجوم الأعداء في غار ثور نالوا فرحة أخرى، ولما وصل المدينة نالوا فرحة ثالثة، ولما هزم الكفار في غزوة فرحوا فرحة رابعة فقد يُري الله تعالى شعاعًا من الفجر عند انتهاء كل فترة من هذه الفترات الأربعة وهكذا يزداد المؤمنون إيمانا.لقد قال المسيح الموعود الليلة مشيرا إلى هذا الليل نفسه في بيت شعر له بالأردية: دن چڑھا هے دشمنان دین کا ہم پر رات ھے اے مرے سورج نکل با هر که میں هوں بے قرار براهين أحمدية، الجزء الخامس، الخزائن الروحانية ج ٢١ ص ١٢٩) أي أن شمس أعداء الدين ساطعة، أما نحن فقد خيم علينا الليل، فاطلعي يا شمسي فإني في اضطراب شديد.

Page 697

الجزء الثامن شرح الكلمات: ٦٩٧ هَل فِي ذَالِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ حجر: الحجر: العقلُ.(الأقرب) 0-0 سورة الفجر التفسير: قوله تعالى ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذي حجر لا يعني: هل يوجد في ذلك قسمٌ لعاقل أم لا يوجد، بل إن (هل) تفيد التصديق الإيجابي (مغني اللبيب)، مثلما يقال في لغتنا الأردية أيضًا أخبر الآن هل هذا صحيح؟ والمراد أنه صحيح يقينا.فقوله تعالى هَلْ فِي ذَلكَ قَسَمٌ لذي (حجر) يعني: هل يمكن أن تنكروا وجود قَسَمِ لذي عقل؟ أي أن كل عاقل سيجد في هذه الشهادة دليلا على صدق الإسلام وصدق محمد.مؤسس وقوله تعالى : الذي حجر يدل بوضوح على أن الله تعالى يعلن هنا أن الآيات العظيمة المذكورة أعلاه يجب أن تجعل كل عاقل يدرك أن هناك دلائل بينة وبراهين قاطعة على صدق ما نعلن، فعندما تقع تلك الآيات العظيمة فلا بد للمرء أن يقرّ أن هذه الأنباء الغيبية العظيمة كانت فعلاً من عند الله تعالى فلا قيمة لقول البعض إن الأحمدية قد ادعى بدون دليل، إذ لا بد أن يفكر العاقل: كيف خطر ببال هذا المدعي أن يعلن دعواه في عام ۱۸۹۰م بالتحديد ؟ أو لماذا لم يفكر أحدٌ قبله أن يعلن مثل هذه الدعوى في ذلك العام؟ المعروف أن هذه الأعداد والسنوات كانت خفية عن الجميع إلى حد كبير، فلماذا لم تخطر هذه الأعداد والسنوات ببال الأولين؟ وكيف خطر ببال مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الا أن يعلن دعواه في وقت كان يجب أن يظهر فيه المدعي بحسب النبوءات؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لم يُكتب النجاح لمن ادعى المهدوية من قبل، بينما كتب لحضرته ال؟ هناك مئات الناس الذين ادعوا المهدوية قبل بعثته العليا، فلماذا قضي على هؤلاء حتى اندثرت ،آثارهم أما هذا الشخص الذي أعلن دعواه في ۱۸۹۰م فكتب الله له النجاح والقوة؟ أليس هذا دليلا أنه اللي قد أعلن دعواه بناء على أمر الله تعالى ولم يكن هذا الإعلان صدفة؟ لو كان صدفة ولو كان

Page 698

الجزء الثامن المطاف ٦٩٨ سورة الفجر نجاحه نتيجة جهود مادية، فقد كانت عند بعض مدعي المهدوية السابقين فُرص أكثر للازدهار إذ فتحوا الأمصار ونالوا الحكم أيضًا، ومع ذلك منوا بالهزيمة في نهاية بعد نجاح مؤقت، وانمحى أثرهم للأبد.وعلى النقيض كتب الفتح للمسيح الموعود الا مع أنه لم تُواته أية فرصة مادية للنجاح.العليا ثم هناك فرق آخر وهو أن المسيح الموعود ال قد أعلن دعواه في المواعيد التي أخبر عنها القرآن والحديث أما الآخرون فبعضهم أعلن دعواه قبل هذه المواعيد وبعضهم.بعدها فكأن سهامهم كلهم طاشت ولم يصيبوا الهدف، أما حضرته العلا فكان الوحيد الذي عرض دعواه على الناس في الوقت الصحيح.فقد ادعى "الباب" بالمهدوية، ولكنه أعلن دعواه قبل هذا الموعد بوقت طويل.ثم ادعى بعده "بهاء الله" ولكن دعواه أيضا سبقت هذه الأوان، ورغم أنه عاش بعد دعواه في هذه ،المواعيد إلا أنه مات قبيل ظهور علامة الخسوف والكسوف الخاصة بالمهدي الموعود.وهذا يعني أن كل المدعين إما قد خلوا قبل المواعيد المذكورة في هذه الشهادة أو ولدوا بعدها، أما المسيح الموعود ال فقد أعلن دعواه في الوقت الذي كانت تقتضي فيه أنباء القرآن والحديث أن يظهر فيه المدعي من عند الله تعالى ويقوم بمهمة إصلاح الناس.يقول البعض ما هو الرقي الذي أحرزه مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حتى نصدق دعواه؟ فالجواب: أولا : ليس هناك أي موعود رباني توجد جماعته في كل قطر من العالم، أما جماعتنا فهي موجودة اليوم في بلاد لم يوجد فيها أحمدي واحد قبل ١٥ سنة، بل لم يصل إليها اسم الإسلام أيضًا.وثانيا: لقد وفق الله الأحمديين للعمل في سبيل خدمة الإسلام في بلاد لم يصل إليها أي فرد من أتباع المدعين الآخرين.خذوا مثلا بلاد غرب إفريقية، فأهلها كانوا يعيشون عراة ولا يعرفون ما العلم وما التهذيب وما التمدن، وعندما وصل إليها الدعاة الأحمديون دخل آلاف الآلاف من أهلها في نطاق "الناس" وأخذوا يعيشون حياة متمدنة.والحق أن مثل هذه الإنجازات العملية هي التي تدل على حياة

Page 699

الجزء الثامن ٦٩٩ سورة الفجر الأمم..أما توزيع المنشورات وحدها فلا قيمة له.وكما قلت لقد وفق الله تعالى جماعتنا لإنجاز أعمال لم تُوفَّق لها جماعاتُ أي من المدعين الآخرين.ومن علامات الازدهار التي ذكرها القرآن الكريم والتي نتميز بها بفضل الله تعالى دون جماعات المدعين الآخرين هو اجتماعنا في مركز واحد لكي لا يتشتت شملنا، ولكي نواصل مهمة التبليغ في العالم بجهود مكثفة موحدة.ليس للبهائيين -مثلاً- مركز حتى اليوم، ولكن يوجد لجماعتنا الإسلامية الأحمدية مركز وهو قاديان، حيث يزوره الآلاف كل سنة، ثم يرجعون إلى ديارهم بعد شفاء غليلهم العلمي والروحاني.إنه ذلك المركز الذي أوحي إلى المسيح الموعود اللي بشأنه: "يأتيك من كل فج عميق، يأتون من كل فج عميق" (التذكرة ص ٣٩)..أي سيأتيك الناس من أماكن بعيدة بكثرة حتى تصير حُفْرٌ في الطرق التي يأتون منها؟ وقد رأى المسيح الموعود الله في الرؤيا ازدهار قاديان، فقال: رأيت في الكشف أن قاديان قد أصبحت مدينة عظيمة جدا، وهناك أسواق تراها على مدى النظر.وهناك محلات رائعة عالية ذات طابقين أو أربعة أو أكثر من ذلك، ولها شرفات مرتفعة يجلس فيها تجار ذوو بطون كبيرة يزينون السوق، وأمامهم أكوام من الجواهر واللآلئ والألماس والروبيات والدراهم والدنانير بحيث تتلألأ هذه المحلات المتنوعة ببضائع جميلة وهناك عربات حصان واحد وعربات حصانين وعربات من قبيل Tomtom و Fitton ، وأناس كثيرون يمشون في السوق حتى تصطدم الأكتاف بالأكتاف بحيث لا يقدر المرء على المشي إلا بصعوبة.(التذكرة ص ٣٤٣).كذلك أخبر الله المسيح الموعود الله أن الناس سيتركون أهل وطنهم ويهاجرون إلى قاديان (التذكرة ص ٤٠-٤١).وطبقًا لهذه النبوءات قد هاجر الآلاف إلى قاديان وهي لا تزال في ازدهار متواصل.وإن ترك الوطن والمال والعقار والهجرة إلى بلد آخر لوجه الله تعالى فقط دليل على تضحية كبيرة.والأمة التي تتحلى بهذه التضحية لا تموت أبدا.وعلى النقيض لو ذهبت إلى عكا والبهجة وجدت البهائيين هناك يصيدون الذُّبان، ولا يزورهم من الخارج أحد.في طريقنا

Page 700

الجزء الثامن ۷۰ سورة الفجر إلى أوروبا ذهب بعض أصحابنا إلى عكا، فأخذ البهائيون هناك يطاردونهم ويقولون لهم بإلحاح: خذوا عنب قَبْرِ بهاء الله، فهي مباركة.وهذا يعني أن هؤلاء أصبحوا كمجاوري القبور عندنا في الهند، ويأتون بأعمال وثنية مثلهم.أما رقيهم فيمكن أن تقدّره مما حدث معنا هناك.فلما ذهبنا إلى عكا سألنا الناس عن مركز البهائيين، فأجاب كل واحد منهم لا أعلم فأخذتنا حيرة وقلنا: لقد وصلنا عكا ولا نستطيع العثور على مركز البهائيين! وأخيرا وبعد جهد جهيد أخبرنا شخص أنكم تسألون الناس سؤالاً خاطئا؛ إن البهائيين ليسوا معروفين هنا باسم البهائية، بل يُعرفون هنا باسم العجمية، حيث يسميهم الناس عجميين، فلو سألتم الناس عن مركز العجميين لفهموا قولكم.ثم أخبرنا أن هؤلاء العجميين ليسوا في عكا، بل مركزهم في البهجة التي تقع على مسافة ٣ أو ٤ أميال خارج عكا.فوصلنا إلى البهجة بالسيارة ورأينا حال البهائيين.وعندها علمنا أنهم قد بدءوا الآن يكتبون أن مركزهم عكا لورود هذا الاسم في بعض الأنباء القديمة.والحق أن مركزهم ليس في عكا، بل خارجها بأربعة أميال تقريبا.أما كلمة عجمي فرغم أن الباب والبهاء قد أعلنا دعواهما منذ سنوات وسنوات إلا أن الناس لا يعرفون أتباعهما على بعد أربعة أو خمسة أميال من مركزهم أيضا.أما نحن فببركة المسيح الموعود الله لو ذكر الأحمدي للناس اسمه العلمية لفهموا على الفور أن هذا من أتباع هذا الشخص.بل قد جعل الناس يسمّون المسلمين الأحمديين "ميرزائيين" نسبة إلى اسمه ال: ميرزا غلام أحمد، أو يسموننا المولويين..أي أصحاب العلم.فيستعملها العربي احتقاراً، ومعناها بالعربية الأمي الجاهل.فهؤلاء البهائيون يسمَّوْن في منطقتهم عجميين أي (جاهلين وأما نحن فنُسمّى مولويين أي علماء.لا شك أن جماعتنا لم تحرز الرقي المطلوب بعد، ولا نستطيع القول إننا قد فتحنا العالم ولكن يقال في المثل: الديك الفصيح من البيضة يصيح"، فإن وجود مركز لنا وانتشار جماعتنا في مختلف أقطار العالم وهجرة الآلاف من أوطانهم إلى قاديان وتقدُّمنا المتواصل عددًا وعلما..كل هذه دلائل على أننا سنفتح العالم كله في يوم من الأيام بإذن الله لو فحصنا أحياء قاديان المختلفة لمعرفة عدد سكانها.

Page 701

الجزء الثامن V.1 سورة الفجر القدامى والجدد لوجدنا أن سكانها الأصليين لا يتجاوزون ثلاثمئة شخص، وهم عائلتنا، أو سكان الحي المسمى بمحلة (أرائين)، أما باقي سكان قاديان فكلهم قد هاجروا إليها من الخارج، وأرى أن 1.5% فقط من أهلها هم من سكانها الأصليين.ثم يوجد بين هؤلاء المهاجرين من جاء من أفغانستان ومَن جاء من بورما، ومن هاجر من مالابار، ومن أتى من سريلانكا، وبعضهم جاء من السند، وبعضهم من البنغال، وغيرها من عشرات الأماكن والبلاد.وأرى أننا لو فحصنا جنسيات المهاجرين لوجدنا أن جنسيات أهل قاديان أكثر من جنسيات الذين جاءوا إلى لاهور من مناطق مختلفة.وهذا ليس بأمر عادي، بل إنه لأمر عظيم يشكل دليلاً قويًا على صدق الوحي الذي تلقاه المسيح الموعود ال: "يأتيك من كل فج عميق، يأتون من كل فج عميق".(التذكرة ص ٣٩) ثم إن الله تعالى قد نشر جماعتنا في شرائح مختلفة من المجتمع؛ فعندنا فلاحون بكثرة، وتجار بكثرة، وعلماء العربية بكثرة، وعلماء الإنجليزية بكثرة.فجماعتنا تنتشر في كل طبقة من المجتمع وكل شعبة من الحياة، ويتيسر لنا العاملون من كل مجال.ولكن هذا غير ميسر للبهائيين، إذ يوجد فيهم أناس من طبقة معينة، ولا يوجد عندهم أناس من كل الشرائح، وهذا دليل على أن طائفتهم لا تنتشر في شرائح المجتمع المختلفة، أي أنها تفتقر إلى ميزة الجماعات التي تتغلب على العالم.إن وجود بعض المثقفين الذين يجيدون النقاش في طائفة لا يكفى لحياة الجماعات الإلهية، بل لا بد لأتباعها من التحلي بروح التضحية والإيثار إلى أقصى حد ممكن والارتباط بمركزهم الديني وتكبدهم أنواع المشاق لنشر تعاليمهم، وأن يكونوا مصممين على تفضيل الموت على التخلي عن مبادئهم وتعاليمهم التي خرجوا يحملونها للعالم، وإن جماعتنا تتحلى بروح التضحية والإيثار والثبات بحمد الله تعالى، وليس عند البهائية مثال لذلك.ثم إن هؤلاء القوم لم يوفقوا لنشر مبادئهم كما وفّق دعاتنا لنشر الإسلام والأحمدية.لقد خرج دعاتنا إلى كل أنحاء العالم يدعون الناس إلى الإسلام

Page 702

الجزء الثامن ۷۰۲ سورة الفجر والأحمدية، أما البهائيون فلا نظام عندهم للتبليغ كما لا يخرج دعاتهم إلى البلاد الأخرى، ولا يتحلون بروح الدعوة والتبليغ.كما لا يوجد عند البهائيين مثال للأعمال التي تنجزها جماعتنا.لقد عملت جماعتنا على النهوض بالشعوب الضعيفة ورفع مستوى الشعوب المتدنية ونشر التعليم والتهذيب والتمدن بينها، أما البهائيون فلا يوجد عندهم عُشر معشار ذلك.ثم من الناحية العددية فلا مقارنة بيننا وبينهم فمع أنهم قد بدءوا العمل قبل جماعتنا بأربعين سنة إلا أنه لم ينضم إلى البهائية إلا بعض الأثرياء الذين سببوا في شهرتها.أما أكثرية الناس فلم تُقبل عليها و لم تتوجه إليها.ثم إن هؤلاء القلائل أيضًا لم يميلوا إلى البهائية بروح التضحية في سبيل الله تعالى، وإنما سببه أن الأثرياء يتضايقون من القيود الدينية ويريدون أن يجدوا مخرجًا يضمنون به الانتماء إلى الدين مع التحرر من قيوده أيضا منغمسين في أنواع الملذات، ولذلك فلو وجدوا سهولة في أي دين انضموا إليه برغبة وشوق والبهائية لا توجد عندها أية قيود دينية، إذ يقال لأتباعها: يجوز لكم أن تصلوا وراء من شئتم، وتعملوا ما بدا لكم، فلن تسألوا عن ذلك أبدا؛ والنتيجة أن من يريد الجمع بين الدين والحرية المطلقة ينضم إليهم.فعندما سافرت إلى إنجلترا جاءت للقائي سيدة بهائية إنجليزية، وقالت: لماذا لا تؤمن ببهاء الله؟ قلت: دُلّيني على شيء ينقص القرآن الكريم، لأنه ما لم تثبتي أي نقص فيه، فلماذا أتوجه إلى غيره؟ قالت : أليس من النقص الكبير في القرآن أنه يجيز الزواج بأكثر من واحدة؟ قلت: لقد أجازه البهاء نفسه قالت: هذا كذب، إنه لم يُجز ذلك أبدا.و كانت معها سيدة بهائية إيرانية وكانت قد رجعت بعد أن مكثت فترة من الزمن عند ميرزا عباس علي فقلت: اسألي صاحبتك الإيرانية هذه أصحيح ما أقول أم لا ،فسألتها، فأجابتها إجابة ملتوية فقالت: أن البهاء قد قال في صحیح كتبه بجواز التعدد ولكنه قال أيضًا إن الشرح الصحيح لكلامه هو ما يقدمه ميرزا عباس علي، وقد شرح عباس كلام البهاء هذا أنه ينبغي الزواج بواحدة فقط.:فقلت: أمن المعقول أن يجيز البهاء الزواج باثنتين ثم يقال إن المراد بالاثنتين واحدة؟ هذا فقالت الإنجليزية: نعم، ما دام ميرزا عباس قال في الشرح أنه يجب صحيح،

Page 703

الجزء الثامن ۷۰۳ سورة الفجر الزواج بواحدة فقد قُضي الأمر.فقلتُ: حسنا، ألم يقل البهاء لعباس أن يتزوج امرأة أخرى من أجل الولد الذكر ؟ قالت: هذا محال.قلت: اسألي صاحبتك الإيرانية فسألتها فأجابت لكن عباس علي لم يرضَ بذلك.قلتُ: إذا كان لم يرض بقول البهاء فهو عاص، إذ لم يطع أباه الذي هو مظهر الله.فقالت السيدة الإنجليزية: ما دام قد رفض فقد قُضي الأمر، ومهما كان قول البهاء في كتبه، فالزواج بالثانية حرام ما دام عباس رفض قوله قلتُ: حسنا، ألم يكن للبهاء زوجتان؟ قالت كلا :قلت اسألي صاحبتك الإيرانية.فلما سألتها قالت لي: لماذا أسأل أنا؟ فقلتُ لها : لقد مكثت عند عباس علي، ولكن صاحبتك الإنجليزية تجهل هذه الأمور، فما الحرج في أن تخبريها بذلك؟ فقالت: الواقع أنه كانت عند البهاء امرأتان قبل الدعوى، ولكنه اعتبر إحداهما أختا له بعد الدعوى.فقفزت السيدة الإنجليزية بسماع قولها وقالت لي : أسمعت الجواب؟ قلتُ: أنت تؤمنين أن البهاء كان مظهر الله وكان يعلم الغيب منذ طفولته، وإذا كان يعلم سلفًا أنه سيضطر لاعتبار إحدى زوجتيه أخنًا له فلماذا تزوّجَها أصلاً؟ فقالت : ما دام البهاء اعتبر إحداهما أختا فهذا يكفي.قلت: حسنًا، اسألي زميلتك الإيرانية: أيجوز إنجاب الأولاد من الأخت في البهائية، وإذا لم يكن جائزا فلماذا أنجبت أخت البهاء هذه منه بعد دعواه ؟ فقالت السيدة الإنجليزية في حماس: لقد بدأت تسبّنا.قلتُ: هذا ليس سبا، بل هو بيان للحقيقة فاسألي صديقتك أأنجبت زوجة البهاء الثانية أولادا منه بعد دعواه أم لا؟ هذه المرة ظلت الإيرانية صامتة بعض الوقت، ولكنها أقرّت في الأخير أن الزوجة الثانية أنجبت الأولاد من البهاء بعد الدعوى أيضا.فقلتُ للسيدة الإنجليزية: الآن يمكنك أن تعرفي لماذا نؤمن بالقرآن الكريم ولا نصدق البهاء في دعواه لا يمكن أن نصدّق البهاء إلا إذا كان القرآن لا يسد حاجاتنا الدينية والبهاء يسدّها.وما دام البهاء غير قادر على سدّها، وطالما ليست هناك ضرورة دينية لا يسدها الشرع الإسلامي، فلماذا نترك شرع القرآن ونقبل ما قاله البهاء؟ باختصار، يعتبر البهائيون شرع الإسلام منسوحًا ويقدمون أمام العالم شرعًا منحولاً جديدا، أما المسيح الموعود اللي فقد بعث ليحيي الإسلام ويقيم شريعته أولادًا

Page 704

الجزء الثامن ٧٠٤ سورة الفجر في العالم.فلقد أوحى الله إلى المسيح الموعود ال: "يُحيي الدين ويقيم الشريعة" (التذكرة ص (٥٥)..أي قد جاء المسيح الموعود لإحياء الإسلام وإقامة شريعته في العالم ثانية.وقد قام بهذا الهدف وجمع حوله مئات الآلاف.أما البهاء فكل ما فعله أنه أعلن نسخ كثير من أحكام الإسلام، أو حلل كثيرا من الأمور ليسهل على ذلك لم يؤمنوا به.ينطبق على البهائيين المثل الشائع عندنا بالأردية: الناس، ومع (الشافعي من كل شيء معفي)..أي كن شافعيًا ستعفى من كل شي.هذه هي ديانة البهائيين.إن إدارة حركة كهذه في الدنيا سهل، أما تبديل حياة الناس كليةً بحيث يتغير صباحهم ومساؤهم ونهارهم ،وليلهم ولباسهم وفراشهم وطعامهم وشرابهم، وظاهرهم وباطنهم ودينهم وسياستهم وتعليمهم وحضارتهم، في ظل معارضة العالم كله، فهذا هو العمل الحقيقي.وهذه المهمة لم ينجزها في الألفي سنة الماضية إلا محمد رسول الله ، والآن تلميذه المسيح الموعود الل.إذًا، لا توجد أمارات الرقي والازدهار إلا في جماعة المسيح الموعود ال.إنه هو المسيح والمهدي للعالم، وهو المخلص المنقذ للدنيا، وهو المبعوث الموعود الذي ظهر في التواريخ التي بينها محمد رسول الله وذكرها القرآن الكريم.أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (3) التفسير: لا يراد بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد رؤية العين، بل یراد به رؤية القلب أو رؤية العلم.هذا تعبير قرآني خاص، ومثاله الآخر قوله تعالى لرسوله : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأَصْحَاب الْفيْل، مع أن حادث أصحاب الفيل قد وقع قبل مولده ، وهو لم ير من أحوالهم شيئا، والمعنى: أعلمت ما فعل الله تعالى بأصحاب الفيل ؟ كذلك قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد ألم تعلم ما فعل الله بعاد؟ أو المعنى ألا تتعظ بأحوالهم؟ علما أن الخطاب أحيانا يكون بصيغة الواحد ويُراد به الجماعة، كذلك لا يراد هنا الرسول ، بل كل المسلمين وكل العالم.يعني

Page 705

الجزء الثامن V.O سورة الفجر أما عاد فهو اسم قبيلة قد مَرَّ ذكرها بالتفصيل عند تفسير الآية ٥١ من سورة :هود: وَإِلَى عَادِ أَخَاهُمْ هُودًا في المجلد الثالث التفسير الكبير.من يقول الأوروبيون إنه لا أثر لهذه القبيلة في الآثار القديمة بين الحفريات التي تمت في البلاد العربية، ولكن لا يمكن الأخذ بقولهم هذا كدليل، للأسباب التالية: أولا: لا يعني نجاحهم في العثور على بعض المواقع الأثرية أنهم قد اكتشفوا كل المواقع الأثرية في الجزيرة العربية، إذ لا يسمح للأوروبيين بدخول هذه المنطقة.أما المناطق التي استولوا عليها، فلا شك أنهم قد نقبوا فيها عن بعض الآثار الموجودة هناك، ولكن عدم عثورهم على أثر "عاد" فيها لا يعني أنهم قد بحثوا في كل المواقع وغيرها، سے الأثرية ولم يتركوا واحدا منها بدون فحص.إن الإنجليز مثلاً يحكمون الهند منذ ثلاثة قرون، ومع ذلك لم يستطيعوا العثور على كل الآثار الدفينة هناك.لقد عثروا قبل ۳۰ ٣٠ أو ٤٠ سنة على مدينة (تيكسلا) عاصمة الملك الهندي الكبير (أشوكا).قبل حوالي ٤٠ سنة بدأوا الحفر في مكان يسمّى "شاه دي دهيري"..أي تل الملك، فخرجت من تحته مدينة "أشوكا وقصوره مع أنهم قبل هذا الانكشاف كانوا يدعون أن عاصمته في "البنغال" أو في البهار".وهذا يعني أن أحواله كانت خفية عنهم ولم يعرفوا عاصمته أيضا، وبالصدفة حفروا مكانًا فعثروا على قصوره مع أنه ملك كبير حكم الهند كلها في زمنه كما اكتشفت آثار قديمة في منطقة في السند تسمى باللغة السندية (مَوهَنْجَودَيرو) - وبالأردية (مَنْجَو دَهاروا) - وهذه الآثار تدل على حضارة قديمة جدا يقال إنها أقدم من حضارة (أشوكا).يكن أهل السند يعرفون عن هذه الآثار شيئا، بل حفروا المكان صدفة، فخرجت من تحتها آثار هذه الحضارة التي يقال إنها تعود إلى ۱۲ ألف عام.والقاعدة أنهم كلما عثروا على آثار قالوا إنها آثار أقدم حضارة في العالم.وقبل أيام عثروا على مكان بالقرب من جيكب آباد"، فقالوا إنها أقدم هذه الآثار كلها.فترى أن الإنجليز يحكمون هذه البلاد منذ قرون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يكملوا الحفريات هنا، فكيف يقولون إنهم قد أكملوا الحفريات في الجزيرة العربية كلها؟ فادعاؤهم أنهم لم يعثروا على قوم باسم "عاد" في الحفريات باطل كل ما يمكن قوله هو أن

Page 706

الجزء الثامن ٧٠٦ سورة الفجر الحفريات التي قام بها هؤلاء الأوروبيون لم يُعثر فيها على قوم باسم عاد، ولا يمكن القول إنه لا وجود لهم مطلقا.لو قال شخص جالس في الصين ليس هناك منطقة في العالم اسمها إفريقيا، فلا يفهم من قوله أن لا وجود لأفريقيا، وإنما يقال إنه لم يزرها.وثانيا: قد ذكر القرآن في الآية التالية قوم عاد باسم (إرَمَ)، مما يعني أن عادًا ليس اسم قبيلة واحدة، بل هو اسم عدة ،قبائل وبالتالي كانت كل قبيلة منها في فترة حكمها لهذه البلاد تكتب اسمها الخاص وليس اسم مجموعة هذه القبائل كلها.ولذلك فقولهم بعدم العثور على اسم (عاد إرم) في الآثار باطل.الحق أننا إذا وجدنا اسم قبيلة عربية قديمة سنعتبرها من قبائل عاد لأن العرب يرون أن فضل حضارتهم القديمة يعود لعاد.ثالثا: ومن الدلائل القاطعة على وجود عاد أن الجغرافيين اليونانيين قد كتبوا أن قبيلة باسم ايدراميتاي كانت حاكمة على اليمن قبل الميلاد.والواضح تماما أنه اسم محرف من عاد إرم).لقد زعم المستشرقون أن ايدراميتاي) ليس اسم عاد، بل اسم حضرموت ولكنه زعم باطل للأسباب التالية: فأولا : ايدراميتاي اسم قبيلة وأما حضرموت فاسم مدينة.وثانيا : هناك اسم آخر لحضرموت عند الجغرافيين اليونانيين، حيث إن الكتب اليونانية التي وردت فيها كلمة ايدراميتاي) يوجد فيها اسم مدينة حضرموت أيضًا :هكذا ايدراموتي تاي (ADRAMOTITAL) واسم حضرموت هذا موجود في الكتب اليونانية واللاتينية كلتيهما فلا ندري كيف اعتبر المستشرقون هذين الاسمين اسما واحدا مع أن أحدهما اسم مدينة والآخر اسم قبيلة، وهجاؤهما مختلف.وكلمة (ايدراميتاي) الواردة عن (عاد إرم) أصلها (ايدرامي)..أما لفظ (تاي) الوارد في الأخير فهو علامة للاسم اليوناني والظاهر أن (إيد) هو عاد و (رامي) هو إرم ولا يوجد أية قبيلة عربية مشابهة لهذا الاسم إلا عاد إرم.ويقول جرجي زيدان المؤرخ المسيحي المعروف في تاريخه "العرب قبل الإسلام": لم تقدر مئات الصفحات من كتب المؤرخين أن تُمدّ الناس بمعلومات أكثر مما قدمه القرآن الكريم عن قوم عاد في كلمات وجيزة.

Page 707

الجزء الثامن ۷۰۷ سورة الفجر من معلومات عن عاد إرم هو لغو وبقراءة كل الروايات القديمة التي تروى بهذا الصدد لا يسع الإنسان إلا أن يقول إن كل ما ورد في الكتب التاريخية القديمة وعبث إلا الذي بينه القرآن الكريم.العرب قبل الإسلام، لجرجي زيدان) هذا المؤرخ المسيحي عدو لدود للإسلام ومع ذلك اضطر للإقرار بفضل القرآن الكريم فيما يتعلق بتاريخ عاد إرم.يبدو من القرآن الكريم أن هذه القبيلة كانت قوية جدا، إذ قال الله تعالى بعد آيتين: الَّتِي لَمْ يُخلَقْ مِثْلُهَا في البلاد) ويظهر من القرآن الكريم أيضا أن عادًا كانوا مقيمين في الأحقاف.والأحقاف من منطقتان في الجزيرة العربية؛ إحداهما تسمى "الأحقاف الجنوبية"، وهي تبدأ اليمن حيث تمرّ من تحت صنعاء إلى عدن ثم إلى الشرق مائلا إلى الشمال.والثانية تسمى "الأحقاف الشمالية" التي تبدأ من تحت بصرى وتصل إلى برية العراق.إذن، فالأحقاف كانت قد أحاطت بالجزيرة العربية كانت إحداهما في الجنوب، والثانية في الشمال حيث تقع نجد والحجاز.والأحقاف تطلق على تلك التلال الرملية الممتدة ارتفاعا وانخفاضا.ويتضح من القرآن الكريم أن عادا كانوا يسكنون في المناطق التي فيها الأحقاف الآن، حيث قال الله تعالى ﴿وَاذْكُرْ أَحَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بالأَحْقَاف (الأحقاف: ٢٢).ويتضح من ذلك أنهم كانوا ذوي نفوذ وقوة في شمال الجزيرة وجنوبها، أو في المناطق التي تسمى الأحقاف الجنوبية والأحقاف الشمالية.ويتضح من الروايات الواردة في التاريخ هؤلاء انتشروا من الجنوب إلى الشمال والدليل على ذلك أن ثمود -وهم قبيلة من عاد كانت تحكم في آخر زمنها شمالي الجزيرة العربية وجنوب فلسطين، وهناك توجد آثارهم أيضا، فمن مدنهم الحجر الواقعة بين المدينة المنورة وتبوك.هؤلاء القوم كانوا بعد نوح المباشرة، إذ نقل القرآن الكريم قول نبيهم لهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمٍ نُوحٍ (الأعراف: ۷۰).يبدو من ذلك أن الأمة التي كانت على صلة مباشرة بنوح اللة والتي صارت غالبة على عادًا هي الجزيرة العربية بعد قومه.

Page 708

الجزء الثامن يبدو التوراة - ۷۰۸ سورة الفجر أنه كان بين الأمم التي خرجت من بابل وانتشرت بعد دمارها المذكور في وهو دمار قوم نوح - قبيلة اسمها عاد ازدهرت كثيرا بعدها.وقد كانت هذه القبيلة قوية خلقةً وتناسلاً كما يبدو من قول نبيهم هود ال لهم: وَزَادَكُمْ ال الْخَلْق بَسْطَةً (الأعراف: ۷۰ ، والمراد من الخلق هنا البنية الجسدية والنسل؛ في وعليه فيمكن القول إن أجيال العمالقة المقيمين في شمال الجزيرة كانوا من بقايا عاد.كما يبدو أن مرض الشرك كان متفشيا فيهم على نطاق واسع، إذ قال لهم هود يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهِ غَيْرُهُ ﴾ (الأعراف:٦٦)..ولما كان قوم نوح العليا منغمسين في الشرك أيضا، فيبدو أنهم وقعوا في الوثنية متأثرين من قومه الله.وكانوا يبنون مباني شاهقة، ولذلك سُمّوا ذات العماد في الآية التالية من هذه السورة.كما يخبرنا القرآن الكريم أنهم أهلكوا بريح هبت عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتالية.وأخبر أيضا أن الدمار شملهم بحيث لم يبق لهم أثر كقوم؛ قال الله تعالى فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ (الأحقاف: (٢٦)..أي اندثر أثرهم كليًّا، ولم يبق منهم إلا بناياتهم الضخمة.كم هي عظيمة هذه النبوءة القرآنية التي تحققت أيضا.يزعم المؤرخون الأوروبيون أنهم لا يجدون اسم عاد في الآثار، ولكنهم لا يفكرون أن القرآن نفسه يقول: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ..أي لم تبق منهم إلا بناياتهم فلن تروا اسمهم في الآثار، لأننا محوناه تماما.فإذا كان هؤلاء يقولون في بحوثهم أنهم لا يجدون اسم عاد في الآثار القديمة، فنقول لهم إن هذا دليل على صدق القرآن الكريم الذي أخبر سلفًا أنكم يمكن أن تجدوا أنقاض مبانيهم بعد فحص الآثار القديمة، ولكن لن تعثروا على اسمهم فيها.فقولهم هذا لا يقدح في صدق القرآن، بل يدعمه ويؤيده.رسولا إلى عاد.وقد ذكروا في القرآن الكريم في سبع سورة الأعراف، التوبة، هود (٤ مرات)، إبراهيم، الحج، الفرقان، الشعراء، العنكبوت ص ،غافر فصلت (مرتان الأحقاف ق الذاريات، النجم القمر، كان هود الفجر.العلية لا عشرة

Page 709

الجزء الثامن ۷۰۹ سورة الفجر وهكذا فقد ذكرهم القرآن الكريم ٢١ ۲۱ مرة.وقد سبق أن ذكرت رأي أحد المؤرخين المسيحيين أن من المحال أن نجد ذكر هؤلاء القوم في أي تاريخ من الدنيا بصورة أصح وأكمل مما ذكره القرآن الكريم.شرح الكلمات: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (3) العماد الأبنية الرفيعة الواحدة عمادة (الأقرب) فالمراد من ذات العماد..القبيلة ذات الأبنية الرفيعة.التفسير: لفظ (إرم) عطف بيان على عاد.وهناك ثلاثة آراء عن إرم، فقال بعضهم: إرم اسم قبيلة والحديث هنا يتعلق فقط بقبيلة إرم من قوم عاد وقال بعضهم: إرم اسم مدينتهم فيقرأون بعاد إرم، بدلاً من عاد إرم في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادِ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ.ومرادهم: ألم تر كيف فعل.ربك بعاد الذين كانوا مقيمين في إرم وقال بعضهم: إن إرم اسم مدينة بلا شك، والمراد إرم ذات العماد..أي مدينة إرم التي كانت فيها أبنية شاهقة.(البحر المحيط) يبدو من القرآن الكريم أن هؤلاء كانوا يبنون بنايات شاهقة ضخمة، حيث قال ريع لهم هود أَتَبْنُونَ بِكُلِّ آيةٌ تَعْبُثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ (الشعراء: ۱۲۹ - ۱۳۰)..أي تبنون على كل جبل مباني رائعة وتنشئون مصانع ضخمة ظانين أنها ستحفظكم من حوادث الدهر، ولن تتعرضوا للفناء.،إذن، فالبنايات الضخمة خصوصية مميزة لهذه القبيلة.الَّتى لَمْ تُخَلَقَ مِثْلُهَا فِي الْبِلَيدِ (3) التفسير أي لم يكن قبلهم قوم في مثل قولهم.يبدو أن سهواً حصل هنا، حيث ذكر عاد في سورة الأعراف مرتين لا مرة واحدة، كما فات هنا أنهم ذكروا في سورة الحاقة أيضا مرتين، وهكذا يصبح المجموع ٢٤ مرة.(المترجم)

Page 710

الجزء الثامن ۷۱۰ سورة الفجر قد وردت في القرآن الكريم كلمات مماثلة عن مختلف الشعوب، ويعترض عليها البعض : كيف يقال عن كل هذه الأقوام والشعوب أنهم لم يوجد لهم مثيل من قبل؟ يمكن أن يقال عن شعب واحد أنه لم يوجد له مثيل، ولكن لا يقال هذا الشعوب.عن كل يوجد وليكن معلوما أن قوة قوم تُقارن أحيانا بقوة أهل بلد أو بقوة شعب، وأحيانا تقارن بشعوب العالم كله ولو كان هذا الحديث عن عصر بدائي جدا فيكون المراد من قول الله تعالى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد))..أنه لم يتمتع أي قوم قبلهم بمثل قوتهم.أما إذا كان الحديث عن عصر كانت فيه شتى الشعوب منتشرة في الدنيا وقامت حكومات شتى في بلاد شتى لأقوام مختلفة، فستعني هذه الكلمات: لا في هذا البلد قوم يتمتعون بمثل قوتهم.وهذا يعني أن مثل هذه التعابير تشير إلى فضل نسبيّ لا فضل كلي، وعلى المرء أن يُعمل عقله لتحديد المراد الحقيقي.نعم، إذا كان الأمر يتعلق بالإيمانيات فالأمر مختلف؛ إذ يستخدم الله عندها مثل هذه التعابير مع قرائن تساعد على التوصل إلى النتيجة الصحيحة فيما إذا كان الفضل جزئيا أو كليا.فمثلا كان الرسول ﷺ مبعوثًا إلى العصور كلها، وهو نبي مطاع للناس أجمعين إلى يوم القيامة وهذا الأمر يتعلق بالإيمان فكل من لم يؤمن بفضله كان محرما وآثما عند الله تعالى، ولذلك حيثما قال الله تعالى إنه بي عالمي، ذكر معها قرائن تؤكد أنه مبعوث لكل العصور ولكل البلاد وأن نبوته ليست مختصة بعصره كنبوة الأنبياء السابقين.أما إذا قال الله تعالى بفضل مادي لقوم، فمن واجب الإنسان أن يُعمل عقله ليعلم ما إذا كان هذا التعبير يدل على فضل نسبي أم كلى؛ ومثاله أن القرآن يستخدم دائما كلمات ذات معان متنوعة، والعاقل يدرك أي المعاني تنطبق في مكان وأيها لا تنطبق فأحيانا يكون للكلمة أربعة معان وينطبق في السياق منها اثنان فقط، ويعرف الإنسان بعقله أيهما ينطبق.والقرآن لا يذكر قرائن ترجح معنى على آخر إلا حين يؤدي الخطأ البسيط في تعيين المعنى إلى فساد الإيمان.ومثاله قول الله تعالى في بداية سورة الطارق وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ..ولما كان الطارق له معنيان: القادم ليلا، أو نجم الصباح، ومن الممكن أن يؤدي

Page 711

الجزء الثامن ۷۱۱ سورة الفجر لفظ الطارق إلى شبهة ، فأزالها الله تعالى بقوله وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارق، وبيانه أن السور السابقة تتنبأ عن مجيء نبي، فكان لزاما إلقاء الضوء على مكانته فيما إذا كان كطارق الليل أم كنجم الصباح، فلذا قال الله تعالى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ، مبينًا أن الطارق لا يعني هنا إلا النجم الثاقب.فمن أسلوب القرآن الكريم أنه إذا أراد تحديد معنى كلمة أردفَها بقوله وَمَا أَدْرَاكَ..أما إذ سمح باختيار أي معنى مناسب مفوضا الأمر إلى عقل الإنسان فلا يحدد معنى كلمة ما دام اختيار أي معنى لها لا يؤدي إلى خلل، أما إذا كانت هناك إمكانية لأي خلل أخبر الله بالمعنى المقصود هناك.ومثاله قول الله تعالى في مستهل سورة القارعة : الْقَارعَةُ مَا الْقَارِعَةُ ) وما أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ..حيث بين تعالى أن للقارعة معاني عديدة، ولكنا نخبركم أننا نعني هنا المعنى الفلاني دون غيره.أما إذا لم يكن هناك مجال شبهة، أو لم يكن الأمر يؤدي إلى نقص في الإيمان، فيترك الله تعالى الأمر في يد الإنسان ليختار المعاني المناسبة بحسب أساليب اللغة وعقله.وهذا هو حال قوله تعالى الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد..إذ لا يتعلق الأمر هنا بالإيمان أو بنبأ غيبي يُخشى أن يخطئ فيه الإنسان، ولذلك قال القرآن بشكل عام لم يُخلَق لهؤلاء القوم نظير في القوة والشوكة.ومن واجبنا الآن أن نرى..بناء على العقل وشهادة التاريخ..ما إذا كان هذا القول يخص عصرهم أو الدنيا كلها.ولما كانت عاد من الشعوب القديمة جدا، فنستطيع القول أن الله تعالى لم يذكر فضلهم هذا إزاء شعوب العالم كله، بل إزاء أهل عصرهم أو إزاء باقي العرب، فقال : لم يُخلَق قوم مثلهم في عصرهم أو بين العرب.إن من محاسن القرآن الكريم أنه يترك كثيرا من الشروح والتفاسير للعقل الإنساني كيلا يصدأ ويضعف.إنه لا يجعل الناس جهالا، بل إذا كانت هناك إمكانية شبهة ،أزالها، وإذا كان هناك إمكانية خلل في الإيمانيات كشف الأمر تماما منعًا للناس من العثار وحفظا لإيمانهم.

Page 712

الجزء الثامن شرح ۷۱۲ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّحْرَ بِالْوَادِ (3) الكلمات : سورة الفجر جابوا : جابَ الثوب يجوبه جَوبًا قطعه.وجابَ الصخرة: خرقها، ومنه في القرآن: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّحْرَ الْوَاد..أي قطعوه واتخذوه منازل.(الأقرب) الصخر : جمعُ الصخرة، وهي الحجر العظيم الصلب.(الأقرب) فالمراد من قوله تعالى وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّحْرَ بِالْوَادِ..أنهم قطعوا الجبال وجمعوا الصخور وبنوا بها بيوتهم في الوادي، أو أنهم خرقوا الجبال في الوادي الجبلي وبنوا في تلك الجبال مبانيهم.التفسير : من خصائص قوم عاد أنهم كانوا يقطعون الجبال ويبنون المساكن.كانت عاصمتهم الحجر الواقعة بين المدينة المنورة وتبوك.لما خرج النبي في غزوة تبوك كان معه آلاف الصحابة، فمروا في موقع مدينة (الحجر) ونزلوا هناك بعض الوقت، وأخذوا يعجنون دقيقهم بمائها، وفيما هم في ذلك إذ أعلن الرسول أن هذا المكان قد نزل عليه عذاب الله في الماضي فلا تشربوا من مائه ولا تستعملوه.فقد ورد في الحديث عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله الله لَمَّا نزلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَهُمْ أَنْ لا يَشْرَبُوا مِنْ بَثْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا.فَقَالُوا قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ.(البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء) انظروا كم يخاف أنبياء الله غضبه، فمع أن هؤلاء القوم الذين نزل عليهم الله هلكوا منذ قرون، وصارت مدينتهم أنقاضا، إلا أننا نجد النبي وكأنه يرى غضب الله نازلاً هنالك في ذلك اليوم، ويرى ملائكة الله تلعن حتى اليوم، فلا يرضى أن يستعمل صحابته العجين الذي عجنوه بماء ذلك المكان، فأمرهم أن يطرحوا عجينهم ويركبوا مطاياهم ويخرجوا من هناك فورا، لأنه مقام قد حلّ به غضب الله تعالى.أما الأماكن التي تنزل بها آية رحمة الله تعالى فإن غضب ذلك

Page 713

الجزء الثامن ۷۱۳ سورة الفجر أما أنبياء الله يعظمونها جدا، وكلما مروا بها استولت عليهم خشية الله، فلا ينظرون إلا إلى ذات الباري الله بينما نجد قلوب الناس لا تُلينها آيات غضب الله، ولا تولّد آيات رحمته فيها حبه.فمثلا تسمى المساجد بيوت الله، وهي أماكن مخصوصة لعبادة الله ولكن الناس حين يحضرونها ينهمكون في الكلام الفارغ، ويتخاصمون في أمور الدنيا، ويسب بعضهم بعضا من فورة الغضب ويغتاب بعضهم بعضا، دون أن يشعروا أنهم يرتكبون هذه المنكرات جالسين في بيوت الله.كان ينبغي عليهم وهم جالسون في المساجد أن تكون ألسنتهم تلهج بذكر الله تعالى، ولكنهم يضيعون أوقاتهم في ذكر الدنيا بدل ذكر الله، وهكذا يثيرون سخط الله عليهم.الرسول ل فتراه قد كره المكان الذي حلّ فيه غضب الله وفرَّ منه، وأمر أصحابه بإلقاء العجين الذي عجنوه بماء ذلك المكان ولم يرضَ أن تدخل لقمة واحدة منه في بطن أي منهم، وذلك برغم أن تلك الأيام كانت أيام ضيق شديد وكان الصحابة يمرون بوضع مالي صعب جدا، حيث ذكروا أنهم كانوا يعيشون على تناول نوى التمر أحيانا (مسلم: الصيد والذبائح.ومع ذلك أمر الرسول ﷺ بطرح مئات الكيلوغرامات من العجين غير مكترث لما سيتعرض له الجيش المسلم.وقد رافقه في تلك الغزوة ۳۰۰۰ ،صحابي، ولو قدرنا أن كل صحابي كان يأكل ربع صل الله كيلوغرام، فيصبح مقدار العجين حولي ۸۰۰ كيلوغرام.ومع ذلك أمر الرسول ﷺ بطرحه في وقت لم يتيسر لهم فيه الزاد الوفير.(زاد المعاد الجهاد والمغازي هذه هي خشية الله التي يجب أن تكون القلوب عامرة بها، والتي يأمر الإسلام كل مؤمن بالتحلي بها.ولكنني أقول بكل أسف أن بعضا من جماعتنا يذهبون إلى (بهشتي مقبرة) للدعاء على قبر المسيح الموعود ال، فيبدءون في قطف الثمار معناها مقبرة أهل الجنة، أسسها المسيح الموعود والإمام المهدي اللة بناء على رؤيا رآى فيها مقبرة وقيل له إنها مقبرة أهل الجنة فسماها بهذا الاسم.ثم وضع شروطا لمن يدفن فيها: أبرزها - بعد تحليه بالتقوى وتجنبه المحرمات وأعمال الوثنية والبدعة - أن يقدم من عُشر إلى ثلث دخله من أجل نشر الإسلام وتبليغ أحكام القرآن أثناء حياته، ويوصي بأن يُدفَع بعد موته عشر تركته على الأقل للجماعة للغرض نفسه.(المترجم)

Page 714

الجزء الثامن من ٧١٤ سورة الفجر الأشجار وأكلها.وهذا يعني أنهم بدلا من أن تستولي خشية الله على قلوبهم هناك ويركزوا على الدعاء يشغلهم الأكل والشرب.كذلك يتكلم بعضهم في المساجد ويثيرون فيها ضجة عالية حتى يستغرب المرء ويتساءل: لماذا لم يفهموا بعد أنَّ عليهم احترام المساجد وذكر الله تعالى بدلاً من الحديث الفارغ؟ إن العلامة الحقيقية لإيمان المؤمن أنه حين يمرّ بمكان يذكر بعذاب الله فلا تظهر من أعضائه وجوارحه أية جسارة، بل تكون خشية الله مستولية على قلبه، ويرى بعينه عذاب الله كما رأى النبي عذاب الله الذي حل بالحجر.وكذلك حين يحضر إلى المسجد أو إلى أي مكان ظهرت فيه آية من آيات الله فلا يتكلم بلغو الكلام، بل يذكر الله تعالى، ويصلي ويشتغل بالدعاء، ساعيًا لاجتذاب فضل الله تعالى أكثر وأكثر ، وإذا لم يكن له بد من الكلام فيتكلم في أمور الدين فقط؛ كما نجلس في مساجدنا ونتكلم في أمور الدين دائما أو نتكلم في أمور دنيوية ذات صلة بالدين، ولكن ينبغي ألا نتكلم في المساجد عن البيع والشراء أو الخصومات العائلية، أو أن يغتاب أحدنا الآخر، فهذا عيب شديد يجعل الإنسان آئما عند الله تعالى.ضعوا في الحسبان دائما أسوة الرسول ﷺ هذه، فإنه حين نزل بالحجر قام مذعورا بعد قليل وأمر أصحابه بالرحيل، إذ نزل هناك غضب الله في الماضي.كان صالح ال نبيًّا لثمود.وكلمة صالح عربية، مما يدل على أنه ال كان العرب.كما يتضح من القرآن الكريم أن ثمود كانوا بعد عاد، فقد قال الله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادِ (الأعراف:٧٥)، ويُستنتج من ذلك نبيا من لقد عثر أن عادا كانوا عربا أيضا.العلماء الأوروبيون أثناء بحثهم عن الآثار على ألواح كتابية أثرية، وقد أقروا أنهم قد عثروا عليها في شمال الجزيرة العربية وهذا يؤيد رأي الجغرافيين العرب أن ثمود هاجروا من جنوب الجزيرة إلى شمالها.يتضح من هذه الآثار أن هؤلاء القوم تقدموا إلى مصر أيضا.باختصار، إن ثمود كانوا بعد عاد، وحيث إن

Page 715

الجزء الثامن ۷۱۵ سورة الفجر كان عربي عادًا قد اعتُبروا خلفاء قوم نوح، فثبت من ذلك أن نوحا قد بعث في منطقة من المناطق العربية وبالتالي فقد وجدنا دليلا آخر على أن العربية أم اللغات.يعلن القرآن الكريم أن اللغة الأولى للبشر هي العربية، وهي أم اللغات كلها.وبغض النظر عن إنكار الخصم لهذا، إلا أن القرآن يعلن هذا.ومما يؤكد هذه النظرية أن القرآن الكريم قد اعتبر نوحًا بُعث بعد آدم مباشرة، ولو ثبت بعد ذلك أن نوحا الأصل، فقد ثبت أن العربية أم الألسن.لقد بينا من قبل أن ثمود كانوا خلفاء ،عاد، وكان عاد خلفاء قوم نوح، وحيث إن ثمود وعادا كلتيهما أمتان عربيتان، فثبت أن نوحا الا بعث في المنطقة العربية، والثابت تاريخيا أن نوحا بعث في العراق.وحيث إن اللغة العربية قد ثبتت صلتها بنوح، فقول الله تعالى أن نوحا بعث بعد آدم مباشرة يدل أن لغة الناس في البداية كانت عربية، لأننا إذا اعتبرنا بداية النسل الإنساني من الجزيرة العربية، فلا بد من اعتبار لغة هذه البلاد أم اللغات.باختصار، يُستنبط من هذه الآيات بداية الحضارة بالجزيرة العربية والمناطق المجاورة لها، والأحداث التاريخية تؤيد هذا.قد ورد ذكر ثمود في القرآن الكريم في ٢١ سورة، وهي: الأعراف، التوبة، هود، إبراهيم، الإسراء، الحج، الفرقان، الشعراء، النمل، العنكبوت، ص، غافر فصلت ق الذاريات، النجم، القمر، الحاقة، البروج، الفجر الشمس.ولمعرفة أحوال ثمود وصالح الله وأخبارهم المفصلة يُراجع تفسير الآيات ٦٢ إلى ٦٩ من سورة هود في المجلد الثالث من التفسير الكبير.وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَدِ : شرح الكلمات: ۱۲ الأوتاد: جمع الوتد، وهو ما رُزَّ في الأرض أو الحائط من خشب.أوتاد الأرض جبالها، وأوتاد البلاد رؤساؤها، وأوتاد الفم: أسنانه.(الأقرب)

Page 716

الجزء الثامن ٧١٦ سورة الفجر له طغَوْا طغى فلانٌ: أسرف في المعاصي والظلم.(الأقرب) التفسير: ترسم من لنا هذه الآيات حضارة فرعون وقومه حيث بين الله تعالى إحدى خصائصهم أنهم كانوا يبنون مباني ضخمة شاهقة جدا.والمبنى الشاهق لا بد أساس عميق يصل إلى الأرض كالوتد وبالفعل فإن المباني المصرية القديمة عالية جدا، وأهرام مصر لا مثيل لها في الارتفاع والعظمة.ومن معاني ذي (الأوتاد أن فرعون كان صاحب خيام، أي أن بلاده كانت في عصره متمدنة جدا، فكانت عندهم مرافق كثيرة ومبان شاهقة، كما كانت فيها طرق طويلة وسفن للسفر لمسافات شاسعة، فكان الملك يجوب البلاد دائما لتفقد.أحوالها علمًا أنه إذا قيل عن ملك بلد لا يكون فيه مبان كبيرة أنه ذو الأوتاد، فمعنى ذلك أن قومه كانوا بدوًا ذوي قوة وإذا استخدم هذا التعبير عن شعب من الحضر، فالمراد أنهم كانوا متمدنين جدا، وكانت عندهم طرق واسعة كبيرة، وأنهار..وكان الملك والمسؤولون يجوبون البلاد عبر هذه الطرق وعبر السفن.ومن معاني الأوتاد الرؤساء، وعليه فقوله تعالى ﴿وَفِرْعَونَ ذِي الأَوتَاد) يعني أنه لم يكن ملكًا فحسب، بل كان إمبراطورا يخضع له كبار الملوك والنواب الذين كانوا يحكمون شتى أقطار بلاده.ومن معاني الأوتاد الجبال، فالمراد من قوله تعالى وَفَرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَاد أنه كان يحكم مناطق جبلية أيضا..أي كانت مصر في عصره مملكة مترامية الأطراف حيث كانت مناطق الخرطوم والحبشة خاضعة له أيضا.والآثار القديمة تؤيد أن بلاد مصر كانت واسعة جدا وكانت تضم بعض المناطق الجبلية.فَأَكْثَرُوا فِيهَا السَادَ ) ۱۳ التفسير: لا شك أن كل سيئة شنيعة، ولكنها تصبح أشد شناعة لسببين: لكثرتها، ولاحتوائها على جرائم كبيرة.إذا كثرت الجرائم في قوم ثم كانت كبيرة فاعلموا أن ساعة دمارهم قد اقتربت جدا.

Page 717

الجزء الثامن ۷۱۷ سورة الفجر والضمير في قوله تعالى فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ يمكن أن يعود إلى قوم فرعون، أو إلى عاد وثمود وقوم فرعون جميعا.والاحتمال الثاني هو الأولى.الفساد يُطلق على الجرائم الكبيرة.فقد أخبر الله بقوله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ أن هؤلاء قد ارتكبوا جرائم كبيرة وبكثرة.ومن المعلوم أن هذه الشعوب كانت مصابة بمرض الشرك على نطاق واسع جدًّا، فالمراد من قوله تعالى (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ أنهم بلغوا منتهى الفساد بسبب طغيانهم إذ كانوا منغمسين في مساوئ بشعة كثيرة كالظلم وهضم حقوق الآخرين، بالإضافة إلى الشرك.لقد ذكر الله هنا ثلاثة شعوب : عاد وثمود وقوم فرعون كانت عاد وثمود من الشعوب العربية.أما قوم فرعون فكانوا من مصر، ولم يذكر الله تعالى هنا هذه الأمم الثلاث معًا بلا سبب، بل ذكرها لأن فيها نبأ عن فترتين: الفترة التي كان المسلمون الأوائل سيمرون فيها في عشر ليال مظلمة من اضطهاد أهل مكة، والفترة زمن المسيح الموعود ال ولما كان العرب وراء هذه الليالي العشر في المرة الأولى، فذكر الله مثال عاد وثمود الذين كانوا من العرب، ونبههم أنه قد خلت في بلادكم أمتان ذات مملكتين كبيرتين إحداهما: في جنوبكم والأخرى في شمالكم، فعليكم أن تفكروا في أحوال هؤلاء القوم، فإنهم لما عارضوا أنبياء الله تعالى وأكثروا الفساد، قضى الله عليهم ومحا ،أثرهم و لم تنفعهم قوتهم شيئا.أما أنتم فلا تساوون إزاء هذه الشعوب القوية شيئا، فلماذا لا تأخذون العبرة من مصيرهم؟ ولماذا تصرّون على معارضة محمد الا الله فإن لم ترتدعوا عن سيرتكم فسوف نعاقبكم كما عاقبنا عادا وثمود لا تظنوا أنكم ستنجحون بما تفعلون، ولا تغتروا بقوتكم حيث تصبون على المسلمين أنواع الظلم وتجعلون نهارهم ليلا، فقد ارتكب عاد وثمود أيضا فظائع شنيعة وأكثروا الفساد، ثم خابوا وخسروا.الثانية هي

Page 718

الجزء الثامن ۷۱۸ سورة الفجر روي عن النبي أنه قال: إن أكبر الكبائر قتل أنه قال: إن أكبر الكبائر قتل نبي من الأنبياء.وأهل مكة أيضا سعوا لقتل النبيل كما قال الله تعالى ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبُتُوكَ 6 في أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخرجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكَرينَ (الأنفال): ۳۱)..ثم إنهم كانوا منغمسين في الشرك الذي هو ظلم عظيم لقول الله تعالى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان:١٤).ثم إنهم لم يرتكبوا فظائع شنيعة فحسب، بل بلغوا المنتهى في ظلمهم؛ فآذوا كل من آمن بالنبي ، بل كانوا يبحثون عن المؤمنين ويذيقونهم ألوان العذاب بوحشية، حتى فرّ كثير من المسلمين إلى الحبشة، ومع ذلك لم تهدأ ثورة الكافرين فطاردوهم حتى الحبشة ليرجعوا بهم ويصبّوا عليهم الظلم مرة أخرى سيرة ابن هشام: إرسال قريش إلى الْحَبَشَة طَلَب المهاجرين إليها، ولذلك يقول الله تعالى في الآية قيد التفسير أيها المكيون، أمامكم مثال أحوال هذه الشعوب من الماضي، التي كانت من بلادكم، والتي بلغت في فسادها المنتهى فلا تظنوا أن عصيانكم وظلمكم سيكون خيرا لكم.لقد غرَّ تلك الشعوب أيضا ظلمُهم، ولكنها دُمّرت في النهاية، كذلك سوف تصبحون هدفًا لغضب الله تعالى، وسينمحي أثركم من الدنيا كعاد وثمود.وبعد ذلك يضرب الله تعالى مثال فرعون وعندي أن في ذلك خبرًا عن زمن المسيح الموعود ال.إنني لا أستطيع أن أبين لكم كيف ولماذا يحصل هذا، ولكنني أستطيع أن أبين لكم أمرين يكشفان لكم أن مثال فرعون هنا ذو صلة بزمن المسيح الموعود ال.أول هذين الأمرين أن رسول الله ﷺ قال إن الليلة العاشرة من شهر محرم ذات أهمية كبيرة؛ لأن الله تعالى نجى موسى من فرعون في ذلك اليوم، وأن حادثا مماثلا سيقع في أمتي حيث ينجي الله أمتي يومئذ من العذاب.فمع أن كلمات الآية تشير في الظاهر إلى فرعون والنجاة من ظلمه، إلا أنها نبأ عن حادث مماثل يقع في المستقبل.ورد في الحديث عَنِ ابْنِ مَسْعُود، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ.(المعجم الكبير للطبراني ج ٩ ص (٦١) (المترجم

Page 719

الجزء الثامن ۷۱۹ سورة الفجر والأمر الثاني هو قول للمسيح الموعود ال حيث قال: "رأيتُ أني واقف على شاطئ نهر النيل، ومعي كثير من بني إسرائيل، وأظن أني موسى.ويبدو أننا هاربون دون توقف، وعندما نظرتُ ورائي بدا لي وكأن فرعون يلاحقنا مع جيش كبير وعتاد كثير من جياد وعربات وغيرها، وقد اقترب منا جدا، وأصحابي بنو إسرائيل خائفون جدا، حتى يئس كثير منهم وأخذوا يصرخون بصوت عال: يا موسى إنا لمدركون فقلت بصوت عال: كلا إن معي ربي سيهدين.ثم استيقظتُ وهذه الكلمات على لساني".(التذكرة، ص ۳۷۳) وهناك إلهام للمسيح الموعود الله: "يأتي عليك زمن كمثل زمن "موسى".(التذكرة ص ٤٠٨ إذن هناك إشارة في حديث الرسول الله إلى أن واقعة كواقعة موسى ستقع مع أمه الله أيضا.وتاريخ الأمة شاهد على أن واقعة كهذه لم تقع بعد، بينما نجد المأمور الرباني الذي بعث في هذا العصر قد أخبر أنه يصير كموسى ال وأن فرعون سيطارده، حتى يقول أصحابه خائفين يا موسى إنا لمدركون، فيقول بصوت عال: كلا إن معي ربي سيهدين.أي هذا محال، لأن معي ربي الذي سيدلّني على طريق الخلاص.العلية وهناك رؤيا لي قد نشرتها في جريدة "الفضل"، رأيت فيها أني مقيم في بيت خطر ببالي أن العلم أيضا كان قد أوى إليه.جريدة "الفضل"، مجلد ۳۲ عدد موسی ١٤٢، ص ۱، ۲۰ حزيران / يونيو (١٩٤٤) حزيران/يونيو فإذا جمعنا رؤياي هذه مع هذين الإلهاميين للمسيح الموعود اللي تبين لنا بجلاء أن الآية قيد التفسير تشكل نبوءة ستتحقق في الليلة الحادية عشرة عند الظهور الثاني لنبوءة ليال عشر ، أي ستتحقق في القرن التاسع عشر على يد المسيح الموعود ال، حيث تتعرض جماعته لحادث كحادث نجاة موسى ال من مصر.ولما كان الحديث في هذه الآيات عن المسيح الموعود العلي، فقد ضرب الله تعالى مثال واقعة فرعون لأعدائه اللي كما ضرب مثال عاد وثمود لأعداء النبي

Page 720

الجزء الثامن ۷۲۰ سورة الفجر شرح الكلمات: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (٤) ١٤ صب: صب الماء ونحوه صبًّا فَصَبَّ هو سكبه فانسكبَ، لازم ومتعد.(الأقرب) سوط السوط ما يُضرب به من جلد مضفور؛ النصيب؛ والشدة.والسوط من الغدير : فَضلتُه ، تقول : وردنا على سوط الغدير: أي فضلته.(الأقرب) التفسير: لو كان السوط هنا بمعناه المعروف، فستعني الآية أن الله تعالى سينزل عليهم عذابا بعد عذاب كما ينزل القطر بعد القطر عند صب الماء، فلن يشعروا بما يحصل بهم إلى أن يهلكوا ويبادوا.ولو كان السوط بمعنى النصيب فالمراد أنه سيقال لهؤلاء القوم: خذوا نصيبكم المقدر من عذاب الله..أي لقد آذيتم أنبياءنا، فأخذوا نصيبهم من الإيذاء، والآن خذوا نصيبكم من العذاب.ولو كان السوط بمعنى الغدير ، فالمراد أنه سيُفرغ عليهم غدير العذاب كله؛ ذلك لأن الغدير هي تلك الأرض المنخفضة التي يجتمع فيها الماء، فصب سوط العذاب إشارة إلى أن العذاب سيُدَّخر لهم عند كل شرّ صادر منهم، ولن ينـــزل عليهم في كل مرة إلى أن يصبح هذا العذاب كغدير ماء، فيُفرغ عليهم كله إِنَّ رَبِّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (٤) التفسير: أي أن ربك يتربص بهؤلاء المجرمين ولن يبطش بهم إلا مرة واحدة.يقال عندنا أيضًا ضربة واحدة من الحداد تساوي ألف ضربة من الصائغ، كذلك سنة الله تعالى أنه يمنح المجرم مهلة تلو الأخرى حتى يظن أنه لن يعاقب على جرائمه، وفي الأخير يأتي يوم يبطش به الله فيه ويهلكه.يقول الله تعالى هذا ما من

Page 721

الجزء الثامن ۷۲۱ سورة الفجر فيه سنفعله بأعداء محمد ، فنمهلهم إحدى عشر سنة، إلى أن يأتي يوم نقضي على كل مجد قيدار أي قريش ونبدّل أذى المؤمنين فرحة.أما نظرا إلى الظهور الثاني لهذه النبوءة في القرن التاسع عشر فالمعنى: أن فرعون ذلك العصر سيظلم جماعة المسيح الموعود ظلما شديدا، حتى يقولوا يا موسى إنا لمدركون، فيقول إمام الجماعة في ذلك الوقت كما قال لأصحابه: كلا، إن موسی معي ربي سيهدين.أي ما تقولونه خطأ، فلن يقدر العدو على إهلاككم، بل إن معي ربي وسوف يهديني طريق الخلاص.لقد ذكرت عند تفسير الآية وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ أنه لما وصل الكافرون إلى مدخل غار ثور وأبدى أبو بكر له قلقا، هداه الرسول ﷺ قائلا: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ (التوبة: ٤٠ )..أي لا تقلق فإن الوتر معنا..كذلك عندما ستتألم جماعتنا غاية الألم نتيجة اضطهاد فرعون..يقول المسيح الموعود اللي لجماعته روحانيا - أعني من خلال خليفته عندها، إذ ليسا شخصين بل هما شخص واحد وهو واقف على شاطئ بحر الغم والهم، وربما على ضفة النيل فعلاً، أو أي نهر آخر وذلك لو حصلت هذه الأحداث في مصر أو أي بلد آخر..يقول العلة لهم بكل جلال: كَلا إِنَّ مَعيَ رَبِّي سَيَهْدين...أي لا تحزنوا، لأن ربي معي، أي معنا الوتر الذي سوف يخرجنا من هذا الليل.فَأَمَّا الْإِنسَنُ إِذَا مَا ابْتَلَلَهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَمَهُ فَيَقُولُ رَيْت أَكْرَمَن (٣) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَنَن ۱۷ ) شرح الكلمات: ابتلاه ابتلى الأمرَ: عرفه.أصلُه بَلِي يبلى وبلاه يبلوه بَلْوا، وبَلِي الثوب يبلى: خلَق ورَتْ فهو بال.وبلاه يبلوه بلوا: حربه واختبره.(الأقرب)

Page 722

الجزء الثامن ۷۲۲ سورة الفجر وورد في "المفردات": "بلوتُه : اختبرته، كأني أخلقتُهُ من كثرة اختباري له".النساء عندنا حين يشترين قطعة قماش يقمن بحكه بأيديهن مرارا ليعرفن ما إذا كان القماش جيدا واللون ،قويا، فكأنهن يخلقنه، كذلك إذا فحصت الشيء مرة بعد أخرى كي يستقيم رأيك فيه، فكأنك أخلقته.ثم ورد في المفردات: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ..أي تعرف حقيقة ما عملت.وسُمّي الغم بلاء مِن حيث إنه يُبْلي الجسم.وسُمي التكليف بلاءً من أوجه: أحدها أن التكاليف كلها مشاق على الأبدان والثاني أنها اختبارات".(المفردات) الواقع أن حقيقة المرء تُعرف حين يُثْقَل بأعباء، فمثلا لا تعرف شجاعة امرئ لم يشترك في الحرب؟ وكيف تعرف ثبات إنسان لم يتحمل العبء مرة بعد أخرى؟ إن الجميع يدعي أنه خبير وماهر، ولكن تُعرف مهارته حين تلقى عليه مسؤولية كبيرة، ولذلك قال الله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابرين.(محمد: ۳۲) ثم يقول صاحب المفردات: والثالث" أن اختبار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارةً بالمضارّ ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعا بلاء.فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر".(المفردات) أي إذا حلّت بالمرء مصيبة تحمّلها قائلا: قد حلّ ما حلَّ فلأصبر الآن، ولكن الابتلاء المتعلق بالشكر خطير جدا، لأن الإنسان يقول في نفسه: فلأتمتع بالنعمة ما دامت في قبضتي وينسى ربّه إن الصبر يتعلق بالماضي الذي ينساه الإنسان، أما النعمة فتتعلق بالمستقبل، ونسيان المستقبل صعب جدا، ولذلك يقول صاحب المفردات إن الابتلاء الحقيقي يأتي في صورة النعمة.مثلا: يُعطي الله البعض الثراء،

Page 723

الجزء الثامن ۷۲۳ سورة الفجر يتمتع والبعض الصحة، والبعض العزة، والبعض القوة، والبعض الحكم..وهي كلها نعم ربانية، ولكن الإنسان في كثير من الأحيان إذ نال المال والعزة نسي ربَّه، وإذا نال القوة تكبر ، وإذا ازدهرت تجارته وصناعته وحرفته وزراعته أساء التصرف في أمواله أو أهلكها في رفع القضايا ضد الآخرين، أو هضم حقوق الفقراء، وإذا كان بصحة جيدة أساء استعمال العيون والآذان وغيرها من الجوارح.لذا فالنجاح في اختبار نعمة الشكر صعب جدا، أما اختبار المحنة فسهل مثلا: إذا مات صاحبك قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ولكن إذا نلت مالا فمن الصعب أن تمنع نفسك الانغماس في الملذات والإسراف في الأكل والشرب.لذلك يقول صاحب المفردات: الابتلاء الحقيقي يأتي في صورة النعمة، وقليل من يفوز فيه.ثم قال صاحب المفردات وهناك قول لعمر الله بهذا المعنى: "بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر." (المفردات) من فتری مثلا أنه لم ينحرف أحد من الصحابة عن الإسلام زمن الشدائد والمحن، صلى الله ولكن في زمن النعم ارتد العرب فور وفاة الرسول ، بسبب النزاع على الملك والخلافة إلا أهل مكة والمدينة الذين تربوا في صحبة النبي.لا شك أن هؤلاء المرتدين لم يكونوا من الصحابة ولكنهم كانوا قريبي عهد برسول الله ، وقد رأوا كثيرا من آيات نصر الله وتأييده، ذلك ارتدوا جميعا.ورد في الحديث أنه ومع بعد وفاة الرسول لم يكن الناس يصلّون بالجماعة إلا في مكة أو المدينة، لأن وباء الارتداد قد تفشى في كل مكان (البداية والنهاية ص ٣٠٠).لذلك يقول E است سيدنا عمر : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر..أي قد صُبَّت علينا المصائب ولكنا بقينا صامدين لها ولم نفزع منها ولم نخف، ولكن حين أنعم الله علينا بنعمة تلو نعمة وفتح بعد فتح ونصر بعد نصر ومالا بعد مال لم نستطع أن نفوز في اختبار النّعم هذا مئة بالمئة كما فزنا من قبل.ثم يقول الراغب: "ولهذا قال أمير المؤمنين : مَن وُسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به، فهو مخدوع عن عقله.وقال الله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ ".

Page 724

الجزء الثامن والمراد من رضوان ٧٢٤ سورة الفجر الخلفاء أمير المؤمنين عادةً عليه.لا شك أن كل واحد من الله عليهم أجمعين كان أمير المؤمنين، ولكن بعض الكتاب المسلمين الذين المفردات يعني هذه كانوا يفضّلون عليًّا على الخلفاء الآخرين قد خصوه بهذه الكلمة.ولعل صاحب عليا له هنا.إذا فسيدنا على ه أيضا قد استنتج أيضًا قد استنتج هذا المعنى من الآية القرآنية نفسها، لأن الابتلاء في القرآن لا يعني العذاب فقط مثل موت قريب أو خسارة ،مال، بل إن اقتناءك المال أيضًا ابتلاء، وهو أيضا خطير مثل ابتلاء الشدائد والمشاق.فيجب أن يخاف الإنسان عند تيسر الرخاء والعزة، كما يخاف زوال العز والمال.فمثلا لو مات جاموس امرئ اليوم وسُرق ماله غدًا، وهلك كلبه بعد غد، ثم مات ،حصانه ثم مات قريبه لأصيب بالذعر والهلع، وكثير من الناس يقولون في هذه الحالة إن الله تعالى يعاقبهم على ذنوبهم.ولكن لو نال أحدهم مئة روبية، وغدا مئتي روبية وبعد غد ثلاث مئة، وفي اليوم الرابع أنعم عليه بضياع وأراض، وفي اليوم الخامس أنعم عليه بحصان، وفي السادس نال لقبا مرموقا، فلن يخطر بباله أنه هالك بسبب هذه النعم، أو أنها قد تؤدي إلى دماره، مع الواقع أن هناك إمكانية سقوطه وهلاكه بنيل هذه النعم تماما كما توجد هذه الإمكانية عند هجوم المصائب عليه، فكما أن الشدائد المتتالية تُري المرء عذاب الله قريبا كذلك في بعض الأحيان يُعطى النعم على سبيل الاختبار لتعرف مدى علاقته بالله تعالى.اليوم أن من الدولة الواقع أن كسب المال ليس ممنوعا شريطة ألا يضر بدين المرء، إنما الممنوع حبّ المال واستعماله الخاطئ.لقد كان صحابة الرسول الله ويملكون من الثروات ما يملكه كبار الأثرياء اليوم.ورد في التاريخ عن الصحابي عبد الرحمن بن عوف له أنه ترك عند وفاته ثروة قدرت في ذلك الوقت بحوالي ٢٥ مليون روبية (أسد الغابة: عبد الرحمن بن عوف وهي تساوي اليوم حوالي ٤٠٠ مليون روبية.ومع ذلك كان أكله وشربه ولبسه كالمسلمين العاديين، إذ كان حريصًا على إنفاق ماله في سبيل الله تعالى بلا تردد أفَعَل أولاده بعده مثله أم لا؟ الله أعلم.

Page 725

الجزء الثامن ۷۲۵ سورة الفجر باختصار إن حصول المرء على نعمة من الله تعالى ابتلاء أيضا.ثم يضيف صاحب المفردات: "وإذا قيل ابتلى فلان كذا ،وأبلاه، فذلك يتضمن أمرين، أحدهما تعرُّفُ حاله والوقوف على ما يُجهَل من أمره.والثاني ظهور جودته ورداءته.وربما قصد به الأمران وربما يُقصد به أحدهما فإذا قيل في الله تعالى: بلى كذا أو أبلاه فليس المراد منه إلا ظهور جودته ورداءته دون التعرف لحاله والوقوف على ما يُجهَل من أمره إذ كان الله علام الغيوب." • أي الابتلاء قسمان: معرفة حقيقة الشيء، والثاني إظهار حقيقته.ونظرًا إلى المعنى الثاني فإن قوله تعالى فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَمَهُ فَيَقُولُ أَكْرَمَنِ دِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ أن الله ريد ربي يعني تعالى عندما أراد أن يكشف جودة أو رداءة أخلاق المرء وأفكاره وطاقاته فينعم عليه، فيقول الإنسان إن ربي أكرمني.سنة الله تعالى أنه إذا أراد إظهار حقيقة إيمان العبد وإخلاصه ليعرفها العبد من بنفسه أو ليعرفها الآخرون، فيُكرمه وينعم عليه باستمرار على سبيل الاختبار، فينال مالا، ويربح في التجارة، وتنتج دوابه بكثرة، وتدرّ عليه أرضه، وتخلع الدولة عليه لقبًا أو تمنحه منصبا، فيقول إن ربي أكرمني وأعزّني؛ ولكن قوله هذا فارغ، إذ يقول بلسانه أنعم الله عليّ كثيرا، بينما يخلو كلامه من أي حقيقة، إذ لو كان صادقا في قوله لظهر صدق قوله هذا في كل موطن ومكان، فإن الإنسان طويل القامة مثلا إذا ساح في إيران بدا طويلا، وإذا مشى في بلد آخر بدا كذلك أيضا، ولكنه بدا طويلا في مكان وقصيرا في آخر، فلا بد من أحد أمرين؛ فإما أنهما شخصان ليس شخصا واحدا، أو أنه يخادع فيلبس حذاء عالي الكعب في بلد، وحذاء عاديا في بلد آخر.الحق أن حالة المرء الثابتة هي حقيقته الأصلية، وإلا فهو يتصنع تكلف هذا الإنسان في شكره قوله تعالى ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ..أي أن الله تعالى حين يلقي هذا الإنسان في اختبار آخر ويقدر عليه رزقه - يقال: قدر على عياله : ضيق - أو يصيبه بخسارة لكشف حقيقة باطنه يقول إن ربي أهانني وأخزاني، بدلاً من أن يتحلى ويتكلف.ومن الأدلة على

Page 726

٧٢٦ الجزء الثامن سورة الفجر عندها بالتقوى فينسب الخير إلى الله تعالى والشر إلى نفسه.وهذا دليل أكيد على أن ما قاله وقت النعمة كان مجرد ثرثرة لسان.ولذلك استخدم القرآن عندها كلمة يقول.اعلموا أن التفوه بكلمة كفر جريمة، ولكن خروج كلمة الخير من القلب ليست جريمة على الإطلاق.ومع ذلك لو تفوه المرء بكلمة خير نفاقًا ورياء، أصبحت كلمة الخير هذه جريمة.أما خروج كلمة كفر من قلبه فهي جريمة بالطبع.التفسير: أي أن الله تعالى لو ابتلى العبد بإنزال نعمه عليه كنزول المطر، لقال لقد أعزّني ربي ،وأكرمني، وإذا ضيق عليه حياته وضيق عليه سبل معيشته لحكمة قال قد أذلني ربي وأهانني..أي أنه ينسب الخير والشر كليهما إلى الله تعالى، ويقول: الله هو الذي أحسن إلي وهو الذي أساء إلي.فاعتبر الله تعالى تصرفهم هذا خطأ كبيرا، وقال لا تقولوا إن العز يأتي من الله والذل كذلك من الله، أو أنه تعالى يأتي بالنتائج الحسنة للأعمال، وهو نفسه يأتي بالنتائج السيئة أيضًا.وهنا نجد إشكالاً، لأن المنافقين حين قالوا عكس ما زجرهم الله تعالى بسببه هنا فقد نهرهم مرة أخرى حيث قال: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذه من عند الله وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (النساء: ٧٩).ريف بي فكيف زجرهم الله تعالى على قولهم إن العزّ والذل كليهما من الله تعالى، مع أنه تعالى أكد ذلك أيضًا في قوله: ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَمَهُ فَيَقُولُ أَكْرَمَن وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رَزَقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن..فلماذا يعلّم الله تعالى شيئًا هنا، ثم يزجر المنافقين على قولهم الشيء نفسه في موضع آخر ويقول لهم: لقد قلتم شيئا خطيرا فهنا قال: لا تنسبوا الخير والشر إلى الله تعالى، وفي مكان آخر نسب الخير والشر كليهما إلى نفسه فهناك تناقض ظاهري بين الآيتين.وليس هذا فقط، بل قال الله تعالى في موضع آخر مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ منْ سَيِّئَة فَمَنْ نَفْسِكَ (النساء: ۸۰)..مع أنه يظهر أن هذا هو

Page 727

الجزء الثامن ۷۲۷ سورة الفجر نفس ما قاله المنافقون في سورة النساء، بأن الخير من الله والشرّ من محمد، ومع ذلك زجرهم.ثم يقول الله تعالى في مكان آخر مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلَنَفْسه وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بظَلام للعبيد (فصلت: ٤٧)..أي أن الخير يصدر من الإنسان، والشر أيضا يصدر منه فيعاقب عليه، وربك ليس ظالما ،لعباده، وإنما العباد هم الذين يفعلون ما يفعلون فيُجزون عليه.فنرى هنا أن الله تعالى نسب الخير والشر كليهما إلى العبد.كذلك ورد في القرآن عن قارون الذي كان معاصرا لموسى العلم أنه قال إِنَّمَا وتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) (القصص: ۷۹)..أي فعلتُ ما فعلتُ بناء على العلم فنلتُ جزاءه.إذًا كل هذه الآيات تبدو متناقضة في الظاهر ، فعندما قال العبد شيئا قال الله: لا.وعندما قال العبد ما علّمه الله قال الله أيضًا لا فهذه أربع أقوال متناقضة في ظاهرها.والسؤال: ما هو الحق إذن؟ الله تعالى هناك أربع احتمالات لا خامس لها: ١ - إما أن الخير والشر كليهما من ۲ - أو أن الخير والشر كليهما من الإنسان ٣- أو أن الخير من الله والشر من الإنسان ٤ - أو أن الشر من الله والخير من الإنسان والغريب أن الله تعالى يرفض كل هذه الاحتمالات ظاهرا.من والسبيل إلى حل هذا التناقض الظاهري هو أن نعلم أن كل هذه الأقوال جاءت في سياق معيّن، والتناقض الذي نراه يعود إلى عدم فهم السياق والمنظور فقط.فحيثما ذكر الله تعالى أمرًا ثم أبطله فكان من منظور معين، وحيثما صدق الله الأمر نفسه، فكان منظور آخر.وأي شك في أن اختلاف زوايا النظر يؤدي إلى تغير كبير؟ فمثلا إذا قال أحدنا لن أفعل إلا ما يأمر به النبي أو خليفة الوقت أو أمير جماعتنا أو رئيس جماعتنا، فهذا قول معقول جدا، وكل من يسمعه يعتبره صحيحا.ولكن إذا قدّم له الطعام وهو جالس في بيته فقال: لن أتناوله ما لم يأت النبي أو الخليفة أو الأمير أو الرئيس، ويسمح لي بأكله، فسوف نعتبر تصرفه هذا خطأ رغم

Page 728

الجزء الثامن ۷۲۸ سورة الفجر يسمح من أن كلامه جيد.فترى أن الشيء الواحد كان صحيحًا في سياق، وصار خطأ في سياق آخر.أو لو أن شخصاً من جماعتنا دعا الإخوة للتبرع لضرورة طارئة للجماعة لقيل له: ما لم لنا أميرنا أو المركز بشكل رسمي بدفع التبرعات لهذه الحاجة فلن نتبرع بشيء، فقولهم صحيح ۱۰۰%، لأننا لو سمحنا لكل واحد بجمع مثل هذه التبرعات فلن يستطيع الإخوة دفع التبرعات الرسمية المطالب بها قبل المركز، أما لو ذهب سكرتير المال أو غيره من مسؤولي الجماعة لجمع التبرعات، فقال له :أحد ما لم تأتني برسالة من الخليفة باسمي أو ما لم يكتب لي بيت المال في المركز بدفع التبرعات فلن أعطيك شيئا، فكل إنسان سيعتبر قوله هذا خطأ، مع أن قوله مماثل للقول السابق في الحالة السابقة.ذلك أن القول الأول قيل في سياق وهذا في سياق آخر، وبسبب تغير السياق نعتبر هذا القول في الحالة الأولى صحيحا ونعتبره خطأ في الحالة الثانية.إذا ، فاختلاف المنظور والسياق يؤدي إلى فرق كبير.وأضرب مثالا آخر ضربُ الابن والده جريمة شنيعة، ولكن لو كان الوالد جالسا في مكان وابنه جالس وراءه، ورأى أن حيّة قد صعدت على ظهر أبيه عنقه واقتربت من وهي على وشك أن تلدغه ففكّر الابن أنه لو حاول إزالتها بيده عن ظهر أبيه فقد تتنبه وتلدغ أباه، فليس أمامه إلا أن يدفعها بصدمة مفاجئة، فينظر يمنة ويسرة، فلا يجد إلا حذاء، فيضرب الحية بالحذاء، ولن يفكر في أن ضرب الوالد غير جائز.ولن يلومه أحد قائلا أنت ابن خبيث، فكيف تضرب أباك بالحذاء؟ بل سيثني عليه وعلى ذكائه الجميع؛ إذ أنقذ أباه من الموت المحقق.إذن، فعمل واحد يكون مذموما في سياق، ومحمودا في سياق آخر.أو هناك حريق مثلاً، والناس يستنجدون لإطفائه، وأنت بدلاً من أن تذهب لنجدتهم تبدأ في الصلاة أو تأخذ المسبحة وتذكر الله تعالى، فلا يقال أبدًا إنك رجل صالح محب للصلاة ولذكر الله، بل سيذمّك الجميع ويلومونك، مع أن الصلاة عمل حسن جدا.باختصار، إن اختلاف زاوية النظر واختلاف السياق والمحل يغيّر قيمة أقوال الإنسان وأفعاله.

Page 729

۷۲۹ الجزء الثامن سورة الفجر وفيما يتعلق بالاحتمال الرابع "أن الشر من الله والخير من الإنسان"، فإن القرآن يرفضه رفضا بانا.إنه قول مذموم ومكروه من كل النواحي، ولا يمكن أن يكون له أي تفسير مقبول أبدًا.أما الاحتمال الثالث "أن الخير من الله والشر من الإنسان"، فلا يرفضه القرآن كريم في الحقيقة بل يؤيده كما قال الله تعالى مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء: ٨٠)..ولم يرفضه و لم يرفضه الله تعالى في أي مكان آخر.وإذا وجدنا آية ترفض هذا المفهوم ظاهرا، فهي لا ترفضه في الحقيقة، وإنما تؤيده، كقول الله المذكور من قبل وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) (النساء: ۷۹)..إذ لا تعني هذه الآية ما يعنيه قول الله تعالى مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمَنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمَنْ نَفْسِكَ (النساء: ۸۰)..وإنما لها مفهوم آخر تماما، إذ تفنّد خبث المنافقين الذين إذا ظهرت نتيجة حسنة لجهود النبي ، قالوا: هذه مجرد صدفة، وليس فيها ما يدل على نصر الله أو حنكة النبي ، وإن عبّروا عن ذلك بقولهم هَذه من عند الله.وهذا في الواقع تعبير اخترعه ضعفاء الإيمان لعزو الأمور إلى الصدف؛ إذ لا يعنون به أنهم موقنون بذات الله تعالى وأن هذا الأمر كان نتيجة للتأييد الرباني، بل يتكلمون بهذا الكلام من باب العادة والتقليد الفارغ من أي دلالة على إيمانهم.وفي بلادنا أيضًا ات مماثلة لبيان أن الأمر كان ،صدفة فمثلا لو نالوا خيرا قالوا: هذا أن قلوبهم تكون خالية تماما من خشية الله أو الإيمان أنه تعالى هو الذي قد تعبير الله، كتب مع من فضل لهم هذا النجاح فضلا منه إذن، فمثل هذه الكلمات لا تدل على إيمان أصحابها، بل هي تعابير تجري على ألسنتهم في مناسبات شتى.الفرق أن المؤمن حين يتفوه بها فإنه يعني أن الله تعالى قد تفضّل عليه فعلاً، أما الكافر أو المنافق فيتفوه بها وهو يقصد أن الأمر كان مجرد صدفة فحسب.وهذا ما يبينه الله تعالى هنا..أي أن المنافقين إذا أصابهم خير قالوا على سبيل التقليد لا على سبيل الإيمان: الله..أي ما هذا إلا صدفة والدليل على عدم إيمانهم أنهم ينسبون هذه من عند

Page 730

الجزء الثامن ۷۳۰ سورة الفجر الشر إلى النبي ﷺ لو نسبوا الشرّ إلى أنفسهم لكان الأمر غير ذلك، ولكنهم ينسبونه إلى النبي ، مما يدل بوضوح أن لا إيمان عندهم.دام ولو قيل إنهم ينسبون كل فعل إلى الله نظراً إلى نتائج الأعمال، فالجواب أنه ما من الله الله تعالى هو الذي يأتي بالنتائج كلها؛ فلماذا يقولون إن النتائج الحسنة والسيئة من محمد؟ فلو كان كلامهم هذا باعتبار النتائج، فأيضا قد أخطأوا فيما ،قالوا لأن القرآن الكريم يعلن أن الكل عند الله، النتائج الحسنة من الله والنتائج السيئة أيضًا من الله، فلو كانوا صادقين لنسبوا النتائج الحسنة والسيئة كلها إلى الله من تعالى، ولكنهم ينسبون الحسنة منها إلى الله والسيئة منها إلى الرسول.ولو أنهم أرادوا أن ينسبوا النتائج كلها إلى أعمال العباد..أي أن العبد إذا قام بعمل حسن جاءت النتيجة حسنة، وإذا قام بعمل سيئ جاءت النتيجة سيئة..فكان عليهم أن ينسبوا النتائج كلها الحسنة منها والسيئة إلى الرسول.إذا كان كثير من المسلمين قد استشهدوا في غزوة أحد نتيجة خطأ، فإن محمدا قد انتصر أيضا مع حفنة من أصحابه على جيش كبير للكافرين.فإذا كان قولهم هذا نظرا إلى فعل العباد فكان عليهم أن ينسبوا العمل الحسن والعمل السيئ كليهما إلى محمد وإذا قالوا هذا نظرا إلى النتائج فكان عليهم أن يقولوا إن الحسنة والسيئة الله تعالى.ولكنهم قالوا الحسنة من الله والسيئة من محمد، مما لا يستقيم كلتيهما من من أي منظور.الواقع أن المحال أن ينسب المنافقون الخير والشر كليهما إلى الله تعالى أو إلى من رسوله ، لأن هدفهم النيل من الرسول ﷺ فلو قالوا إن النتائج الطيبة والسيئة كلتيهما تظهران بسبب محمد ﷺ لما استطاعوا إبعاد الناس عنه ، لأن النتائج الطيبة كانت أكثر بكثير من النتائج السيئة؛ إذ بلغت نسبتها ٩٨% فعزو النتائج كلها إلى الرسول ﷺ ما كان ليحقق هدفهم، بل لرفع مكانة الرسول ﷺ في أعين القوم وجعلهم يثنون عليه قائلين إنه زعيم موهوب؛ إذ انتصر على الأعداء وأسرهم وجلب الغنائم في معظم الحروب.لقد مُني المسلمون بخسائر أكثر من الكفار في

Page 731

الجزء الثامن ۷۳۱ سورة الفجر حربين فقط، أما في حوالي أربعين أو خمسين غزوة فكانت نسبة قتلى المسلمين إلى قتلى العدو هي واحد من عشرة.أما لو نسب المنافقون النتائج كلها إلى الله تعالى قائلين إن الخير منه والشر منه، لفشلت أيضًا خطّة إغواء الناس وتضليلهم.كان غرضهم إبعاد الناس عن الإيمان، فما كانوا ينسبون الخير والشر لا من الناحية المادية ولا الروحانية بطريق سليم، بل إذا أصابهم الخير اعتبروه صدفة، وإذا أصابهم الشر نسبوه إلى الرسول ﷺ قائلين: أن تضررنا في موطن كذا وكذا، ومع ذلك لم يغير محمد موقفه، فدفع القوم اليوم إلى الضرر مرة أخرى.لقد سبق فاعتراضهم ليس مبنيا على أي منطق، بل أساسه الشر والفتنة والفساد، لذلك رفض الله قولهم هذا، وإلا فالواقع أن النعمة من الله تعالى، والشر نتيجة لخطأ العبد، ولكن العبد المقصود هنا ليس محمد ا ل بل عامة المسلمين.فحيثما أصيب المسلمون بنكسة ما كان مردّه خطأ من الرسول ، بل سببه خطأ اجتهاد المسلمين حينًا كما في غزوة أحد، أو جبن ضعفاء المسلمين والكافرين الذين انضموا إليهم حينًا آخر كما حصل في غزوة حنين.أما المنافقون فليس قولهم سليمًا من الناحية الروحانية ولا المادية.وإنما قالوا ما قالوا بنية الفساد والنيل من الرسول ، ولذلك رفض الله تعالى قولهم.ولو قيل إنهم نسبوا الخير إلى الله والشر إلى العبد تعظيما الله تعالى، فالجواب لو كان في قلوبهم تعظيم الله تعالى لنسبوا الشر إلى أنفسهم أو إلى الصدفة قائلين: لقد تضررنا لأننا أخطأنا، ولم ينسبوا الشر إلى الرسول ﷺ إنما التعظيم أن الإنسان الخطأ إلى نفسه، والخير إلى سيده، ولكنهم ينسبون الخير إلى الله تعالى والشر إلى الرسول الا الله، مما يعني أنهم لم يقولوا هذا تعظيما لله تعالى، بل بقصد الفتنة لا والفساد.ينسب أما نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد فأساسها أن الله تعالى قد خلق كل شيء لخير الإنسان، ولكنه يصبح شرًّا له جرّاء فعله أو فعل عدوه.فمثلا: قد خلق الله الزرنيخ ليتناوله الإنسان ليشفى من الحمّى، أو من الإسهال الدموي لأن تناول

Page 732

الجزء الثامن ۷۳۲ سورة الفجر جرعة من الزرنيخ بحسب العلاج بالمثل (الهوميوباثي) يشفيه منه ويمنع النزيف، أو أن المصاب بفقر الدم والضعف أو بضعف الأعصاب خاصة لو تناول مقدارا معينا من الزرنيخ شفي من مرضه فهناك عشرات الفوائد للزرنيخ، ولكن بعض الناس يتناول الزرنيخ عمدا لينتحر، أو أحيانا يتناول أشياء مكونة من الزرنيخ بدون حاجة وبدون مشورة طبيب، أو يُطعمه العدو إياه خداعًا فيهلك.فمع أن الله تعالى قد خلق الزرنيخ لخير الإنسان، إلا أن هذا الخير يصبح شرا له نتيجة سوء استعماله أو لخطأ طبيب أو كيد عدو.أو خذوا مثلاً الحديد، فقد خلقه الله تعالى لفائدة الإنسان ليصنع قطاعات منه وسكاكين ومعاول ومناشير وغيرها من الأدوات التي تساعده في ذبح الحيوان وحراثة الأرض وحفرها وكسر الصخور وقطع الخشب وما إلى ذلك، ولكنه لو أخذ قضيبا من حديد وضرب به رأسه فمات فهذا ذنبه هو لا فعل الله الذي خلق الحديد لنفع الإنسان وليس للإضرار به أو قتله.فحيث إن الله تعالى قد خلق كل شيء لمنفعة الإنسان، وإذا تضرر به فإنما يتضرر بنفسه، لذا يُنسب كل خير إلى الله وكل شر إلى الإنسان.الواقع أنه فيما يتعلق بالنتائج فهي من الله تعالى، لأنه هو الذي يرتب نتائج الأعمال سيئة أو حسنة، ولكنه تعالى لا يُتهم بظهور نتيجة سيئة لعمل لأنه تعالى لم يفعله وإنما فعله الإنسان فمثلا لو قفز شخص من منارة ومات، فهو من ألقى بنفسه منها، ولم يسقطه الله، مع أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان من لحم ودم بحيث لو سقط مكان عال مات وهو الذي جعل له رئة تتضرر نتيجة سقوطه.ففيما يتعلق بالنتيجة فهي تُنسب إلى الله تعالى حتمًا، وسيقال إن الإنسان من عند مخلوق من الله تعالى بلحم ودم بحيث لو قفز من مكان عال ترضّض جسده ومات، ومع ذلك لا يقال إن الله أسقطه من المنارة، أو جعله من لحم ودم ليقفز من المنارة، كلا، بل قد خُلق لحمه ودمه لهدف آخر.فثبت أنه فيما يتعلق بالنتائج فإنها بخيرها وشرها ستنسب إلى الله تعالى، ولكن فيما يتعلق بالشر الناتج فيتهم الإنسان بتسببه، وإليه يُنسَب الفعل خيرا أو شرا.

Page 733

الجزء الثامن ۷۳۳ سورة الفجر فنقول: الخير يأتي من الله والشر كذلك، ولكن إذا قيل من يرتكب الفعل الحسن أو السيئ، فنقول: العبد، لأنه هو الذي يسرق وهو الذي يصلي.فيما يتعلق بكفاءات الإنسان فلو سئلنا من خلقها فيه قلنا: الله تعالى، وإذا سئلنا من أظهرها بالفعل؟ قلنا: العبد.ذلك أن قوى الإنسان وكفاءاته كلها ،خير، فنقول إنها من عند الله تعالى، وفيما يتعلق باستعمالها وظهورها فخيرها يُنسب إلى الله تعالى لكونه خالقًا لها، وشرُّها يُنسب إلى العبد ؛ لأن العباد هم الذين يرتكبون أفعالا شريرة.إذن، ينسب الخير والشر كلاهما إلى الله تعالى من حيث النتائج، وينسب الخير والشر كلاهما إلى العبد من حيث العمل.ومن حيث تزوّد الإنسان بشتى القوى، فيُنسب خيرُها إلى الله تعالى، ولكن لا يُنسب شرها إلى الله تعالى، لأنه لم يخلق أي شيء لاستعمال سيئ.ومن حيث ظهور هذه القوى في الإنسان بالفعل، فخيرها ينسب إلى الله تعالى وشرها إلى العبد.لأن الله تعالى لم يخلق هذه القوى لأي شر.باختصار، فكلا الأمرين يفعلهما الله، ويفعلهما الإنسان أيضًا، يُنسب الشر إلى الإنسان والخير إلى الله تعالى.وقد رُفض قول الإنسان من عند الله تعالى في الآية قيد التفسير لأنه نسب الشر إلى الله تعالى حيث أخبر الله تعالى فَأَمَّا الإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَلَعَمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن...أي أن الله تعالى حين يمطر على عبده مطر نعمه لكشف حقيقته عليه، ينسى الهدف الحقيقي وراء ذلك ويقول: لقد أكرمني الله..أي أن الله قد عاملني هكذا لأني أهل لذلك، ولا يفكّر أن الله قد أعطاه هذه النعم لكشف خيره أو شره على الدنيا، أو أعطاه هذه الثروة ليُري الناس قوة إيمانه أو ضعفه، وأن ثروته أصابته بالكبرياء أم لا، وأنه أدى ريد ومع ذلك اء إنعام الله حقوق العباد بكل أمانة أم لا.فبدلاً أن يدرك العبد هذا الهدف وراء إنعام من عليه يستنتج منه نتيجة خاطئة، فيظن أن الله تعالى قد أحبه إذ ينعم عليه هذا الإنعام الكثير.رد ثم يقول الله تعالى وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)..أَي إذا اختبره الله تعالى بضيق الرزق فلا يدرك أن الله تعالى يريد بهذا الابتلاء أن يكشف معدنه له أو للدنيا أيصبر على الشدائد، ويكون جنديًا شجاعا في سبيل

Page 734

الجزء الثامن ٧٣٤ سورة الفجر تلبية حاجات الأمة أم لا.إنه لا يفهم أيا من هذه الحكم، فيصرخ عند الضيق أن الله قد أهانني.ويعني أنه يتخذ في كلتا الحالتين موقفا خاطئا، ويكون كلامه في المرتين خاطئا، وإن كان كلامه صحيحًا من حيث المبدأ أن الله تعالى يختبر العبد بالإنعام والإكراه حينًا وبإلقائه في المحن وضيق الرزق حينا آخر.= من فالمؤمن يظل في الحالتين ثابتا قائما، أما الكافر فيقول عند الإنعام والإكرام ربي أكرمني، مع أن الله تعالى يريد اختباره بهذا الإكرام، وعندما يضيق عليه رزقه يقول ربي أهانني مع أن الله تعالى يريد كشف باطنه بهذا الاختبار.وكأن كلا المقامين مقام ابتلاء لا مقام جزاء.عندما يُمطر الله على العبد نعمه فهو في ابتلاء، وعندما يضيق عليه رزقه فهو في ابتلاء أيضا، بمعنى أن الله تعالى لا يُنزل عليه نعمه جزاءً على عمل عظيم، ولا يضيق عليه رزقه عقوبة على جريمة، بل هما حالتان الاختبار كي يكشف الله حقيقته عليه وعلى الآخرين.يجب ألا يغيبنَّ عن البال أن نعم الله وبلاياه نوعان ما يكون ابتلاء، وما يكون جزاء.بمعنى أنه ينزل عليك النعم ابتلاء حينًا، وجزاء حينا آخر، وكذلك ينـــزل عليك المصائب ابتلاء حينًا، وعقوبة حينا آخر.والحديث هنا عن الابتلاء لا عن الجزاء، ولذلك يدين الله الإنسان ويقول : لقد أنعمنا عليه اختبارًا، فقال: لقد الله، وكأنما يقول: كان حقا على الله أن ينعم عليه، وكان واجبا على الله أكرمني أن يكرمه.إنه لم يفكر أنه لم يعمل أي خير وإنما نزلت عليه هذه النعم لاختباره.وعلى النقيض إذا أصابته مصائب على سبيل الاختبار قال: ربي أهانني، وقد أذلني غاضا النظر عن مكانتي.لو أن الإنسان قال في هذه الحالة قد نزل علي هذا العقاب بسبب جرائمي، أو قد عذبني ربي نتيجة ذنوبي، لما عُدَّ محرما ومدانا - وإن كان قوله هذا أيضًا خطأً، إذ هو في مقام الابتلاء لا في مقام الجزاء ولكنه يقول ربي أهانن..أي كنت أستحق الإعزاز ولكن ربي أهانني وأخزاني.الواقع أن للابتلاء صوره وللجزاء صوره.فمثلا يُعزّ الله تعالى كل نبي ويكتب له النجاح في أهدافه، فهناك عديد من الأنبياء الذين أعطوا الملك المادي الملك مع الروحاني مثل موسى و داود وسليمان عليهم السلام) :(النمل: ۱۷-۲۰، ص: ۱۸-

Page 735

الجزء الثامن ۲۱ ۷۳۵ سورة الفجر ٣١-٣٦، التثنية: ٣١/٢-٣٣، الملوك الأول ١١/٢ و ١٢/٢)، ولكنهم لم وس = يُعطوا الملك المادي ابتلاء، بل إنعامًا وجزاء، لتقويتهم؛ فمثلا لو لم يؤت الله الرسول ملكًا ماديًا، فكيف كان سينفّذ شريعة القرآن عمليا؟ فثبت أن الملك الذي وهب للنبي وغيره من الأنبياء كان أمرًا ضمنيا وبمنزلة وسيلة لتكميل مهمته و لم يكن ابتلاء.إنما يأتي الابتلاء دائما لكشف أخلاق المرء، أما الرسول فكانت أخلاقه قد تجلّت من قبل بشكل كامل، وقد فاز برضى الله تعالى في السراء، وسار على سبل رضاه في الضراء أيضا.لقد جاءته الثروة فأنفقها لمنفعة الناس بلا هوادة، و لم ينتفع منها.وقد صُبّت عليه أنواع المصائب والأذى، فلزم الصبر دائما.ذات مرة مرّ النبي بالمقابر، فوجد امرأة تبكي على قبر، فقال لها: اصبري يا امرأة، فقالت: لو مات ولدك لرأيت كيف تصبر! إنك تنصحني إذ لم يمت لك ولد.فقال لقد مات لي سبعة، وصبرت في كل مرة.ثم ذهب النبي ، فقيل لها: ويلك ألم تعلمي من هو ؟ قالت: كلا.قالوا: هو رسول الله.فأسرعت تجري وراءه أتت بيته وقالت: يا رسول الله إني أصبر.فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى أما بعد ذلك فلا بد للمرء إلا أن يصبر شاء أم أبى.(البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور).حتى إذن، قد مرّ النبي بمواقف يجزع فيها الإنسان ويفزع، ولكنه صبر فيها راضيا بمشيئة الله.كان النبي ﷺ عند ابنه إبراهيم اللي حينما جاد بأنفاسه الأخيرة، فسالت الدموع من عينيه لله من شدة الكرب، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي؟ فقال: نعم، العين تدمع ولكن لا اعتراض عندنا على قضاء الله، فالخير فيما فعل (المستدرك للحاكم كتاب الجنائز).فالابتلاء غير الجزاء، لأن من النعم ما يكون جزاء على وصول المرء المقامات الروحانية العليا.لقد قال السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله : إني لا أكل طعامًا حتى يقول الله لي: يا عبد القادر، أنشدك باسمي أن تأكله ولا ألبس لباسا حتى يقول الله لي : يقول الله لي: يا عبد القادر، أنشدك أن تلبسه فهذا المقام ليس مقام ابتلاء، بل هو مقام إنعام يناله المرء بسبب بلوغه المقام العالي والله تعالى يمرّر هؤلاء الأخيار بالسراء والضراء ويكشف باسمي

Page 736

الجزء الثامن ٧٣٦ سورة الفجر أخلاقهم وباطنهم للعالم جيدا، فلا يكونوا بعدها بحاجة إلى أي ابتلاء، أما عامة الناس فتصدأ قلوبهم بالذنوب بحيث لا يتأثرون إذا مستهم السراء الآتية من عند الله تعالى ولا يتغيرون إذا مستهم الضراء من عنده تعالى إنهم يعيشون عميانا، ويفارقون الدنيا عميانا، وعن مثل هؤلاء العميان روحانيًا تحدث الله في هذه الآية، وأخبر أنه أحيانا يصيبهم بالسراء على سبيل الابتلاء، ولكنهم يفرحون قائلين: لقد أكرمنا الله، مع أن أعمالهم ليست مما يستحقون به الإنعام والإكرام من الله تعالى، إذ تؤدي بهم ثروتهم وعزتهم إلى الجحيم في كثير من الأحيان، وأحيانا يُضيق الله عليهم رزقهم فيقولون لقد أهاننا الله وكأنهم في الحالتين يغمضون أعينهم عن حكم الله، فيموتون روحانيا.وقد رسم الله تعالى واقعهم هذا في آية أخرى فقال وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعَمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنَّ أَنْتُمْ إِلا الله في ضلال مبين ) (يس: (٤٨) فهذه الآية شرح للآية قيد التفسير، حيث بين تعالى فيها أن الكفار يرون أن الله أعطاهم هذه النعم لأنهم يستحقونها، ولم يعطها غيرهم لأنهم لا يستحقونها، وحيث إن الله قد أكد بفعله أنهم لا يستحقونها، فمن واجبنا أن لا نعطيهم منها شيئا والظاهر أن من عنده هذا التفكير لن يشكر الله تعالى على نعمه وإذا أصابته مصيبة فلا بد أن يشتكي بأنه تعالى لم يكرمه إكراما يليق به، و لم يعامله بحسب مكانته.صل كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (٣) وَلَا تَحْتَضُونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ) شرح الكلمات: ۱۹ ۱۸ تَحاضُون حاضه عليه حثّ كلُّ واحد منهما صاحبَه تَحاضَ القومُ: تَحالُّوا.(الأقرب)

Page 737

الجزء الثامن ۷۳۷ سورة الفجر التفسير : أي ليس الأمر كما تحسبون.تظنون أنكم أعطيتم هذه الأموال لأنكم كنتم أحق بها دون الآخرين، أو ابتليتم بهذا البلاء لأن الله تعالى لم ينصفكم، والحقيقة أنكم إنما أُوتيتموها لتنفقوها على الفقراء فيرسى الأساس لمجتمع صالح في الدنيا، فاستكبرتم، فلم تهملوا الفقراء واليتامى ولم تكرموهم فحسب، بل أسأتم معاملتهم وقلتم لهم لستم أهلاً عند الله لنيل هذه النعم، ولذلك أخزاكم الله وأهانكم.هلا أدركتم أيها المغرورون أن الله تعالى قد أعطاكم هذه الأموال لينظر أتتفقدون اليتامى، ويحث بعضكم بعضا على رعايتهم قائلا: لقد أعطانا الله المال فتعالوا نعتن بالفقراء ونطعم الجياع ونَكْسُ العراة في البرد وننفق على المحتاجين لإزالة معاناتهم، ولكنكم قلتم : لنا حظوة عند ربنا فلذلك أكرمنا دون غيرنا، وظننتم أنكم أحبّاء الله المقربون فلذلك أنعم عليكم بهذه النعم وحرم الآخرين.لقد نسيتم أنكم أُعطيتموها لتكفلوا اليتامى وتساعدوا المساكين، وظننتم أنها حق لكم، فأهملتم الفقراء واليتامى ولم تسدوا حاجاتهم، فكم من يتيم صغير مات جوعا أمام أعينكم! وكم من مسكين ظلّ يتكفف الناس مطرودا من باب إلى آخر، ولكنكم لم تعتنوا بهم، نشوانين في كبريائكم.وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمَّا شرح الكلمات: 071 التراث ما يُخلفه الرجل لوَرَثَته.(الأقرب) لَمَّا : ا: "قال الفراء: أي شديدا..وفي الصحاح: أي نصيبه ونصيب صاحبه." وكأن المعنى أنكم لا تكتفون بأكل نصيبكم، بل تأكلون نصيب إخوانكم الآخرين من يتامى ومساكين وغيرهم.التفسير : أي انظروا كيف تتراءى عاقبة أعمالكم في أشكال شتّى.فبدلاً التحلي بالخُلق الطيب وتفقد اليتامى والفقراء، أسرفتم أموالكم وأهلكتموها، وعوضا عن أن تدركوا أن أن تدركوا أن سوء أعمالكم سوء أعمالكم هو السبب وراء إفلاسكم، وتفهموا أن هذا تحذير رباني لتأخذوا الحذر في المستقبل، فلا تسرفوا وتحافظوا على أموالكم، من

Page 738

الجزء الثامن من ۷۳۸ سورة الفجر بدأتم تقولون ربي أهانن..أي كان على الله أن يكرمنا، ولكنه أخزانا، مع أن الواقع أن الله تعالى أراد بذلك أن يلقنكم درسا؛ وإلا فمتى كانت أعمالكم حسنة حتى يكرمكم.لقد منّ الله عليكم إذ آتاكم هذه النعم، وقد آتاكم إياها لتنفقوها على الفقراء، ولكنكم ملأتم بالأموال ،جُرُبَكم، ثم أهلكتموها في الخمر والرقص والغناء مهملين اليتامى والفقراء، ولما أفلستم أخذتم في الصراخ أن الله أهانكم وأخزاكم، وبدلاً أن تدرسوا أحوالكم دراسة عميقة صحيحة لتعرفوا أسباب إفلاسكم، بدأتم تفسرونها تفسيرا خاطئا.ألم تفكروا في مدى انحطاطكم ولؤمكم وخستكم؟ حيث تأكلون أموال اليتامى كأنها حق لكم وترثون أموالاً وعقارات وأراضي ومساكن ثم تملكونها كلها في البذخ والانغماس في الملذات! لقد كسب آباؤكم الأموال بإرهاق وتعب فتهلكونها كلها متكبرين بأنكم أولاد الأثرياء، ثم تشكون: لا يُكرمنا الناس! ولم يكرمكم الناس وهم يعرفون سوء حالكم؟ لا تزيدون أموالكم وعقاراتكم ، ولا تتفقدون بها أحوال الفقراء واليتامى، بل تملكون أموالكم وتضيعون أعماركم، في الأكل الشهي، أو اللباس البهي، أو الرقص والغناء، أو شرب الخمور، أو الفسق والفجور ، ثم تشتكون: لا ندري ما حل بالناس؛ فإنهم لا يكرموننا مع أننا نحن الكرام وأبناء الكرام.وهكذا تأخذهم الحيرة والعجب، فيقولون بأنفسهم: يبدو أنه قد ضربت علينا الله تعالى لسوء أعمالنا، وإلا أي شك في عزنا وشرفنا؟ اللعنة من فكأن الله تعالى يردّ عليهم: إذا كان آباؤكم أثرياء، فكان المفروض أن تكونوا أكثر منهم ثراء، فإذا كان والد أحدكم يكسب ألفًا فكان على ابنه أن يكسب عشرة آلاف وينفق للنهوض بالناس لا أن يدمر ماله منغمسا في الملذات، ثم يتسول من الناس.لقد أهنتم أنفسكم بأنفسكم، وأسقطتم أنفسكم من أعين الناس، فسقطتم في عين الله وأعين الناس أيضا.لقد حلّت بهم ساعات الضيق لتأخذوا من الحذر وتتداركوا الخطأ، ولكنكم تردّيتم أكثر.

Page 739

الجزء الثامن ۷۳۹ سورة الفجر ومن معاني لما النصيب، فعليه ستعتبر هذه الآية إشارةً إلى أن الأموال التي يقتنيها المرء ليست له وحده، بل فيها نصيب لآخرين من بني جنسه، ولكن أصحابها ينفقونها على أنفسهم فقط، وهكذا يهضمون حق الآخرين.شرح الكلمات: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُنَّا جَما ج ۲۱ جَمَّا : الجَمُّ: الكثير من كل شيء.جاءوا جما غفيرا: أي جاءوا بجماعتهم، الشريف والوضيع ولم يتخلف أحد وكانت فيهم كثرة.(الأقرب) التفسير : أي أنكم تدخرون الأموال وتحتكرونها.لقد آتاكم الله المال لتستثمروه بالتجارة، وتروجوا به شتى الصناعات والحرف أو تنفقوه على الفقراء، ولكنكم تغلقون جرابكم.ومن معاني هذه الآية: ليس همكم إلا المال دونما تمييز بين حلال وحرام.إذا جاءكم الحرام أخذتموه، وإذا جاءكم الحلال أخذتموه.إذا وجدتم شيئا عاديًا اقتنيتموه وإذا رأيتم شيئا غاليًا جلبتموه.ليس هدفكم إلا جمع المال، بغض النظر عن مورده لقد بين الله تعالى في الآيات الأربع السابقة أربعة أمور تُهلك الأمم، أوّلها: عدم رعاية اليتامى، حيث يقول الله تعالى إن هؤلاء القوم إذا أنعم الله عليهم بنعمة قالوا: نحن ذوو حظوة عند الله تعالى، وإذا ابتلوا بضيق قالوا: لقد أهاننا الله.وكأنهم في الحالتين ينسبون العزّة إلى أنفسهم إذا أكرموا قالوا: كان إكرامنا واجبا، وإذا أهينوا قالوا: لقد أخطأ الله إذ كان إكرامنا واجبًا.فيفند الله تعالى زعمهم، ويخبرهم: الواقع أن أسباب دماركم موجودة في أنفسكم، وبسببها يُصب عليكم سوط عذاب؛ أي هناك أسباب في الإنسان تدفعه إلى الدمار وهي مو موجودة فيكم، فإذا لم تملكوا فمن يهلك؟

Page 740

الجزء الثامن ٧٤٠ سورة الفجر فأول الأسباب وأهمها لهلاك الأمم عدم رعاية اليتامى.إنه حكم ديني وروحاني في ظاهره ولكنه في الحقيقة وثيق الصلة برقي الأمم وزوالها.من المحال أن تزدهر أمةٌ لا تهتم برعاية اليتامى وتهمل تربيتهم بحيث يضطرون لأن يتكففوا على الأبواب.إن الأعمال الكبيرة تتطلب تضحيات كبيرة وبدون التضحيات الكبيرة لا يمكن إنجاز الأعمال الكبيرة والتضحيات الكبيرة نوعان؛ التضحية بالمال، والتضحية بالنفس.ونرى أن الإنسان لا يبالي بتحمل المشاق، ولكنه حين يفكر في مصير أولاده من بعده جبانًا، وينسحب من ميدان التضحية.فلو تمت رعاية يصبح اليتامى في أمة كما ينبغي، فمن المحال أن يتردد أحد أفرادها عن التضحية بالمال أو النفس، كلا بل سيتقدم للتضحية ضاحكا مسرورا، ويرضى بكل نوع من يرى القوم بأعينهم يوميًا أن فلانا مات فتكفّل فلانٌ من الشدائد أثريائنا عندما بكل سرور.بأيتامه، وأسكنهم في بيته وصار يدرسهم ويكسوهم ويطعمهم أفضل الطعام ويكسوهم أفضل اللباس دون تمييز بينهم وبين أولاده، فالجميع منهم يستعد للتضحية قائلا إن فلانا ،تُوفي ،منا فكفل فلان من إخواننا تربية أيتامه كأبنائه، وأن فلانا مات فأخذ فلان من الأثرياء أولاده وتولى الإنفاق عليهم، فلا ضير لو ضحيت بحياتي ولا بأس لو مت في سبيل الأمة؛ لأن إخواني سيتولون تربية أولادي أفضل مني.فلو تولّد هذا الإحساس عند كل فرد من الأمة، فتولى القوم كفالة اليتامى بينهم على صعيد الأمة فمن المستحيل القضاء عليها، ولن يتردد أفرادها عن أي تضحية مهما كبرت وكما قلتُ إن الناس لا يتلكأون عن التضحيات إلا لأنهم يفكرون أننا لو قُتلنا، لضاع أولادنا إذ لن يتكفلهم أحد ولن يتفقد حالهم أحد، بل سينهرهم الناس ويسخرونهم كالخدم ويركلونهم بأرجلهم، ويطعمونهم كسرات موائدهم، ويكسونهم البالي من ثيابهم، ولن يمسحوا رؤوسهم بيد الشفقة، ولن ينظروا إليهم بالمحبة، بل يزجرونهم وينهرونهم، وإذا بكوا فلن يدللهم أحد ليسكتوا، وإذا احتاجوا لشيء فلن يسده أحد عندما تسيطر هذه الأفكار على قلب أحد وعقله، يرتعد جسمه وينخلع قلبه فيتردد في التضحية بالنفس، ويفرّ من الميدان.كما يمنعه هذا التفكير من التضحية بالمال بلا تردد في سبيل الأمة.إنه يقول في

Page 741

الجزء الثامن ٧٤١ سورة الفجر نفسه سأقوم بتربية أولادي كيفما استطعتُ ما دمتُ حيَّا، ولكن لو ضحيت بمالي ومت بعده، لم يجد أولادي ،مالا فماذا يكون مصيرهم بعدي؟ وهكذا يصبح جبانًا، ويتردد عن التضحية بالمال.الواقع أن الإنسان لا يخاف موته أكثر مما يخاف على مصير أولاده بعد موته.وهذه العاطفة تُحدث في نفسه اضطرابا وقلقا..فتضعف عزيمته وتخور قواه.إنه يفكر أن في القوم أيتاما يسألون الخبز على أبواب الناس فيقول في نفسه: لو مت اضطر ابني للتسول مثلهم.ثم يتضاعف خوفه برؤية مجموعة أيتام يطرقون بابا ويسألون أهل البيت الطعام، فيخرج صاحب البيت بسماع صوتهم متذمرا قائلا: لقد ضيق هؤلاء الأولاد العيش علينا، إذ يزعجوننا يوميًا بقولهم: هل من طعام، هل من طعام وبرؤية هذا المشهد يزداد المرء جبنًا ويقول : لو مت سيضطر ابني للتسوّل حتمًا، فسيقول له الناس لا تزعجنا بصوتك الكريه.ثم إنه يرى مشهدًا ثالثا حيث يجد أولاد شخص متوفى يغسلون الأواني في بيت بعض القوم ليكسبوا لقمة للعيش، فيزداد جبنًا ويقول: لو أنا مت فسوف يسخّر أولادي في هذه الأعمال الحقيرة.أما الذي يظلم بنفسه اليتيم فيكون أكثر الناس جبنًا إذ يقول لو أنا مت فسيعامل الناس أولادي كما أعامل هذا اليتيم.فاعلموا أن رعاية اليتيم ليست حسنةً وتقوى فحسب، بل إنها تصنع شخصية الأمة وتشجع أفرادها على التضحية أكثر فأكثر.أما الأمة التي لا تحسن معاملة اليتامى فلا تزدهر أبدا.ذات مرة أردت كفالة بعض اليتامى في بيتنا، فقلت لأهلي أعطيكم نفقتهم، ولكن عاملوهم كما تعامل أولادنا تماما، إذ من المحال بدون ذلك القول إننا قمنا بكفالة اليتيم.ومع ذلك رأيت أن زوجاتي يستعملن هؤلاء اليتامي كأنهم خدم.أنا لا أقول ألا يستعين بهم المرء في العمل مطلقا، لأنهم إذا لم يعملوا أصبحوا كسالى عاطلين، وإنما أقول يجب أن تكلّفوهم بأعمال تكلفون بها أولادكم.وإذا كنتم لا تحبون تكليف أولادكم بعمل فلا تستعملوا اليتيم فيه بالمرة.المهم أنني قلت لأهلي إني أعطيكم نفقات هؤلاء الأيتام ومسؤولية تكليفهم بالعمل المناسب تقع عليكم.

Page 742

الجزء الثامن ٧٤٢ سورة الفجر - الله فلا تعاملوهم معاملة الخدم.فلم تعمل بنصيحتي إلا زوجتي أُمّ طاهر – رضي عنها - إذ قامت بتربية طفل يتيم كتربيتها لأولادها دونما تمييز بينه وبينهم، وإن ثبت فيما بعد أن حالة هذا اليتيم لم تكن جيدة.الواقع أن ابن أخي ميرزا مظفر أحمد هو وحده الذي قد قدّم هذا الصدد نموذجًا رائعا جدا، حيث تكفل طفلةً يتيمة ممن تركهم مئات الآلاف من الآباء الذين ماتوا في البنغال نتيجة القحط والمجاعة.فقام بتربيتها بأسلوب رائع جدا، ولم يفرق بينها وبنته، ورعاهما رعاية واحدة، فكان يكسوها ما يكسو بنته، ويعلمها ما يعلم بنته، تضربها، وكانت بنته تناديها بأختي، وتحترمها.وهذا وكانت تضرب بنته كما هي.تربية اليتيم.ليس المراد من تربية اليتيم أن تضعوه في بيتكم كالخادم وتسخروه في شتى الأعمال طوال اليوم، ثم تطعموه كسرات من الطعام، وتلبسوه أسمالا ،بالية وإذا أخطأ قليلا قمتم بسبّه أو لطمه ومع ذلك ظننتم أنكم قمتم برعاية يتيم.هذه ليست رعاية اليتيم في اصطلاح الإسلام إطلاقا، إنما المراد من تربية اليتيم أن يربيه المرء كما يربي ،أولاده، ولا يفرق في معاملته شيئا.إن إطعام اليتيم شيء، أما رعايته فشيء آخر تماما، لأن الله تعالى قال في القرآن الكريم كلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ، و لم يقل: تطعمون اليتيم.لو كان المقصود إطعامه فحسب لما قال القرآن لا تُكْرِمُونَ ، بل قال "لا تطعمون"، فهذا يبين بوضوح أن الله ما يسمى يريد أن تتم تربية اليتيم مع احترام ،وإكرام وليس أن يعطى الطعام كصدقة.كنتُ أنشأت دارا لليتامى في قاديان، ولكني عرفت بعد أيام أنهم يسخرون في الأعمال طوال اليوم.لا بأس في الاستعانة بهم في العمل، ولكن يجب أن لا نستعين بهم إلا بقدر ما نستعين بأولادنا، لا أن يكون أولادنا جالسين براحة ونثقل اليتيم بالعمل لأنه صار تحت رحمة الآخرين بوفاة والديه يجب أن تربي اليتيم كما تربي أولادك، وتستعين به في العمل بقدر ما تستعين بأولادك، ثم إذا تخاصم مع أولادك فيجب أن يكون له الحق أن يضربهم كما يضربونه، ولا تقول له أم أولادك: حذارِ أن تضرب أولادي، وإلا سأضربك ضربا مبرحا لو ربّيت اليتيم على هذا النحو، فيحق لك ضربه على الخطأ لإصلاحه لأنك تضرب أولادك أيضًا على الخطأ.

Page 743

الجزء الثامن المهم ٧٤٣ سورة الفجر أن لا تمس كرامته.فكما قلتُ إن القرآن الكريم لم يحث على إطعام اليتامى فقط، بل حثّ على إكرامهم، إذ لا بد من ذلك لرقي الأمة.إذا لم يُكرم اليتيم في المجتمع فلن يستجيب الناس لكم مهما أمر تموهم بالتضحية بأرواحهم، بل سيخشون أن من يعاني أولادهم بعدهم كما يعاني اليتامى الآخرون.أما إذا وجدوا المجتمع مهتما باليتيم كما ينبغي فيقولون إن حياتنا وموتنا سيان فيما يتعلق بتربية أولادنا، لأنهم سيعيشون بعد موتنا باحترام كما يعيشون في حياتنا، بل تكون حياتهم أفضل بكثير، وعندها لن يولوا الدبر من ساحة القتال مهما استشهد منهم، بل سوف يقدمون كل تضحية مسرورين.باختصار هذه مسألة هامة جدا، وما لم يستوعبها أفراد قوم جيدا، فمن المحال أن يحرزوا الرقي.والأمر الثاني من هذه الأمور الأربعة التي تهلك الأمم هو قوله تعالى ولا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ..أي لم يكن بعضكم يرغب بعضا في إطعام الفقراء.والحق أن الانتصار في الحروب القومية محال بدون رعاية الفقراء، إذ لن من يتيسر عدد كاف من الجنود؛ لأن الفقراء في المجتمع أكثر عددًا الأغنياء دائما.فلو علم الجنود أن أُمّتهم تحسن إليهم دائمًا وتسدّ كل حاجاتهم، فتقوم بعلاجهم حينما يمرضون، وتطعمهم حين يجوعون، وتكسوهم عند حاجتهم إلى الثياب، وهي تستنجد بهم الآن في هذا الوقت العصيب فسينهضون للتضحية ملبين دعوتها.لا شك أن في كل مجتمع لثامًا ،وأراذل ولكن عدد الشرفاء فيه أكثر دائما، وسيقول هؤلاء الشرفاء في الوقت العصيب : إن أمتنا بحاجة إلينا اليوم، فلم نتردد في التضحية في سبيلها؟ فيضحون بأرواحهم دفاعا عنها بلا هوادة.أما إذا أهملهم المجتمع فيقولون: كنا جياعًا فلم يطعمنا أحد، وكنا عراة فلم يَكْسُنا أحد، وكنا مرضى فلم يداونا ،أحد، وكنا محتاجين فلم يساعدنا أحد؛ فلماذا نُضحي من أجلهم اليوم؟ ماذا فعلوا من أجلنا حتى نزهق أرواحنا من أجلهم؟ لقد أهملونا، فاليوم هملهم.إذن، فعدم رعاية الفقراء يؤدي حتما إلى ضعف عاطفة التضحية عند أفراد الأمة، فيستحيل أن تنتصر في حروبها.

Page 744

الطبية، هم ٧٤٤ الجزء الثامن سورة الفجر إننا في قاديان نسعى جهدنا بحسب نظام رعاية الفقراء للتخفيف من معاناتهم بشتى الطرق، فنهيئ لهم الكسوة، ونمدّهم بالمال والغلال، ونقدم لهم الخدمات ذلك يوجد بينهم من يعترض على الجماعة إذ يظنون أن من واجب ومع المجتمع أن ينفق عليهم، أما فلا مسؤولية عليهم.ولكن معظم هؤلاء الفقراء يشعرون أن الجماعة تضحي من أجلهم كثيرًا، ومن واجبهم أن يكونوا أكثر تضحية من الآخرين عند ضرورات الجماعة.فكلما نوجه دعوة للتبرع يسعى هؤلاء الفقراء لأن يساهموا فيها أكبر مساهمة ممكنة بطريق أو آخر، ولو جاعوا مع أن تلك الدعوة ليست موجهة لهم، ولا مسؤولية عليهم.إلا أنهم يشعرون أن القوم يضحون من أجلهم ويسدّون حاجاتهم، فلذلك يقوم هؤلاء أيضًا بالتضحية للأمة ويساهمون في شتى التبرعات.بعدها.إذن، فمن أكبر فوائد رعاية الفقراء أن الأمة تجد مقاتلين كثيرين عند اندلاع الحرب، إذ إن الفقراء يشكلون الأكثرية فيها.إن سيف المليونير لن يعمل في الحرب إلا عمل سيف واحد، بينما تحتاج الأمة إلى ملايين السيوف، ولا تتهيأ هذه السيوف بدون الاعتناء بالفقراء وأداء حقوقهم حتى يطمئنوا.إذا قامت الأُمّة بسد حاجات الفقراء والمساكين فلا بد أن يقول الشرفاء منهم في أنفسهم عند حلول محنة بالأمة إن القوم قد أحسنوا إلينا، فمن واجبنا الآن أن نساعدهم في ساعة العسرة هذه ومثاله ما قد حصل في إنجلترا وروسيا وأمريكا وألمانيا وغيرها من البلاد حيث ضحى مئات الآلاف بأرواحهم في سبيل أمتهم خلال الحرب العالمية.وليس ذلك إلا أن هذه الشعوب تهتم برعاية فقرائها إن الناس في الهند ينخرطون في الجيش إما تقليدًا لآبائهم الذين عملوا فيه أو طمعًا في ضيعات وأراض أما الإحساس بحاجات الأمة فهو ضعيف جدا عند أهل الهند.ثم لو قام المجتمع برعاية الفقراء فيقولون في أنفسهم إن الذين سدوا حاجاتنا بأموالهم لا بد أن يخصصوا لنا نصيبا من الفتوحات والغنائم، وهذا أيضا سبب هام آخر لرقي الأمة سيقول الفقراء إن أموال الأمة لن تنفع الأثرياء وحدهم، بل تنفعنا أيضا.أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أنه جعل للفقراء حقوقا في الأموال العامة

Page 745

الجزء الثامن ٧٤٥ سورة الفجر فقال: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنَيَاء مِنْكُمْ) (الحشر:۸)..أي كي لا يظل المال دائرا بين الأغنياء دون الفقراء، بل يجب أن يصل المال إلى الفقراء أيضا.إذًا، من أكبر فوائد رعاية الفقراء أنهم يشعرون أنه كلما ازدهر قومهم زاد نصيبهم في أموال الأمة.ولكن إذا لم يُعطوا نصيبهم من أموال الأمة، قالوا لم نُعطّ • شيئا منها، وإنما ينتفع بها الأثرياء فقط، فلماذا نزهق أرواحنا من أجلهم؟ والأمر الثالث هو قوله تعالى ﴿وَتَأْكُلُونَ التَّرَاثَ أَكْلًّا لَمَّا.ويؤكل التراث لَمَّا بالإسراف فكأن الله تعالى يقول للكافرين: لقد ورثتم المال من آبائكم، فبدأتم تهلكونه بدل استثماره والإسراف إذا وُجد في قوم دمّرهم حتما.إنه علامة كبيرة لزوال الأمم.في الإسراف ضرران كبيران أولهما أن المرء يكسل ويجلس عاطلا.لو أنه عمل كآبائه بجد واجتهاد لما جلس ،عاطلا، ولكنه يظن أن الجد والاجتهاد إنما هو سبيل لكسب لقمة العيش وما دام يجد الطعام بسهولة لما عنده من أموال آبائه، فيظل عاطلا ولا يعمل شيئا.إن هؤلاء العاطلين كالعلق الذي يمتص دم الإنسان، وإنهم جديرون بالمذمة واللوم الشديدين لو كان في الأمة آلاف من أصحاب المليارات العاملين فلن تموت هذه الأمة، أما إذا كان بين هؤلاء ملياردير واحد أخذ ثروات آبائه في ،قبضته وظن أنه لا حاجة له للعمل أو الاجتهاد، باعتبار أن المرء يجد ويجتهد لكسب لقمة العيش، ولديه الكثير منه فلا داعي لأن يجتهد، فاعلموا أن حجر أساس دمار الأمة قد وُضع بيد هذا لا خطر على القوم من وجود الملياردير بينهم، إن لم يكن عاطلا رغم ثرائه بل يعمل ويجتهد، ولكن هناك ألف خطر على القوم من وجود عاطل بينهم، لأنه يظن أن لا حاجة به للعمل والاجتهاد إذ يكفيه أن تظل ثروة أبيه في قبضته ويتصرف فيها كما يشاء.هناك كثير من من أن أصحاب المليارات في إنجلترا، ولكنهم يجتهدون رغم ثرائهم، وبدلاً يُهلكوا أموالهم يستثمرونها في إنشاء المصانع وغيرها مما يهيئ العمل للآلاف.فثروتهم تعمل على الرقي القومي.لا شك أن بينهم من يدخرون أموالهم في البنوك، ولكن معظمهم يستثمرونها بإنشاء المصانع وغيرها، أو إذا وضع بعضهم أمواله في البنك فلا يجلس ،عاطلا، بل يعمل كسكرتير أو رئيس لبعض الجمعيات، وهكذا

Page 746

٧٤٦ الجزء الثامن سورة الفجر يقدم خدمات تطوعية للمجتمع، فلا يتسبب في هلاك قومه.وهذه الآية لا تتحدث عن مثل هؤلاء الأثرياء، وإنما عن الأثرياء العاطلين، فتندّد بهم: تأكلون أموال آبائكم وتعيشون عاطلين والأمة التي يوجد فيها أشخاص منحوسون كمثلكم لا يمكن أن تحرز الرقي والازدهار.ثم إن من الحقائق الثابتة سواء اعتبرتموها سيئة أو جيدة- أن المجتهدين ينالون العزّ في المجتمع فينال أولادهم أيضا بعدهم شيئا من العز.مهما مال الناس إلى البلشفية الفوضوية، إلا أن أولاد الكبراء أيضًا ينالون شيئا من العزة مثل الآباء.هذا أمر فطري لا يقدر أحد على تغييره.فمن قام بإنجاز بارز حظي أولاده أيضًا بشيء من العز، سواء استحقوه أم لم يستحقوه.ولو ركن أولاد الكبار إلى الكسل فلا بد أن يؤثر كسلهم على الأمة تأثيرًا سلبيًا ويؤدي إلى تشتت شملها، لأن زعماء القوم يكونون عادةً من الأسر الكبيرة.فما دام هؤلاء الأولاد العاطلون المبذرون لثروة آبائهم يتمتعون بالعز والاحترام بين القوم وتوضع القيادة في أيديهم، فمن الطبيعي أن يفتقر القوم إلى زعماء حقيقيين.لا شك أن زعماء جددًا أيضًا يخرجون بين الأمة، ولكن هؤلاء الذين اختيروا زعماء بسبب عراقة أسرهم وعظمة آبائهم لو مالوا إلى الكسل، فلا يبقى في الأمة إلا زعماء عديمي الكفاءة، وهكذا ستفتقر الأمة إلى القيادة الحقيقية.والأمر الرابع المذكور هنا هو قوله تعالى وتُحبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمَّا.إن حب المال الشديد أيضًا يجعل المرء لا يفرّق بين الحلال والحرام، ويدفعه إلى ظلم الآخر.والأمة التي ينتشر فيها الظلم لا مناص لها من التشتت والهلاك، والأمة التي يجد أفرادها متعة في سلب الآخرين لا يُكتب لها الازدهار أبدًا.إشارة إلى الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا عام ۱۹۱۷م، التي خلقت الكثير من الفوضى وقتلت القيصر وعائلته من نساء وأطفال، ونكلت بالنبلاء وسعت إلى القضاء على ترائهم وتناسي أي فضل لهم.والروس الآن يبدون الندم على ما اقترفته هذه الثورة من جرائم بحق الأمة وتراثها، ويسعون إلى إعادة الاعتبار إلى التراث الذي تمت الإساءة إليه.(المترجم)

Page 747

الجزء الثامن ٧٤٧ سورة الفجر والنتيجة الثانية لحب المال حبًّا جَمَّا أن مثل هذه الأمة تظل محرومة من التقدم الصناعي أيضًا.ذلك أن الذي يحب المال حبًّا جَمَّا لا يستثمره في التجارة أو الصناعة خوفًا من الخسارة، فيكنزه بدلاً من استثماره، وبالتالي لا يزداد ماله، كما تُهضم حقوق الفقراء التي هي في ماله.فمثلاً له أنشأ مصنعا بإنفاق ۱۰ آلاف روبية وعمل فيه ٢٥ عاملا فسيعيش حوالي ۲٥ عائلة بسبب مصنعه.ولو كان في كل أسرة ٥ أشخاص، فهذا يعني أنه قد هيّأ الطعام لحوالي ١٢٥ شخصا باستثمار هذا المبلغ.أما إذا احتفظ بماله بدل استثماره، فهذا يعني أنه حرم ١٢٥ شخصا الطعام.ولو كان في القوم ١٠ آلاف ثري واحتفظ كل منهم بماله ولم يستثمره، فلن يجد مئات الآلاف العمل وستتضرر صناعات البلاد ضررا كبيرا.فالضرر الثاني لحب المال الشديد أن الأمة لا تتقدم صناعيًا.والضرر الثالث لحب المال حبًّا جما قلةُ التبرعات التي تنفع الأمة؛ لأنه كلما دعي الناس للإنفاق غلب عليهم حب المال وترددوا في دفع التبرعات.والضرر الرابع لحب المال حبًّا جما أنه عندما يتطلب حبُّ الوطن الإيثار من أصحابه يصبحون خونةً للأمة خوفا من العدو.قال الله تعالى في القرآن الكريم وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاولُهَا بَيْنَ النَّاسِ )) (آل عمرا : ١٤١)..أي أن الحرب سجال، فقد ترجح فيها كفة العدو، وعندها يتآمر من يحب المال حبًّا جما مع العدو إذا علم أنه على وشك الانتصار، ويخون أمته حفاظًا على ماله.أخذا كان الخليفة الأول لله يقول إن الإنجليز يسلبون الناس بالتعامل بالربا وعطاء، وكان يحكي بهذا الخصوص واقعةً مفادها أن حكومة ولاية "أوده" الإسلامية بالهند قد دمرت بسبب حب المال حبًّا جما.ذلك أن الإنجليز أعلنوا بين الناس أن من يضع نقوده في بنوكهم في مدينة "كولكتا" فسوف يعطونه ربح ٢,٥%، وكان هذا الربح مغريا، فجمع الناس أموالهم في البنك الإنجليزي في كولكتا، حتى إن النساء بعنَ حليهن ووضعن أموالهن في البنك.لقد قطعوا لهم وعودا معسولة، وقالوا لهم لو وضعتم مليونا فسوف تربحون ٢٥ ألفا، بالإضافة إلى رأس مالكم الذي سيظل محفوظا، مع إمكانية سحبه متى شئتم.فوصلت أموال

Page 748

الجزء الثامن ٧٤٨ سورة الفجر لم المسلمين كلها إلى البنك الإنجليزي في كولكتا.ثم أغار الإنجليز على ولاية "أوده"، وهددوا الرؤساء الموجودين في العاصمة "لكهناو" أنهم إذا أخبروا الملك بهجومهم فسوف يجمّدون أموالهم المودعة في بنكهم.وهذا ما فعل هؤلاء الخونة.فبينما كان الملك يشاهد مصارعة الديوك ورقص المومسات وغناءهن قال شخص: جلالة الملك، بلغنا أن الجيش الإنجليزي زاحف إليك.فزجره حاشيته المتآمرون مع الإنجليز سرًّا، وقالوا للملك من المحال أن يتجاسر الإنجليز على ملكنا العظيم هكذا؟ إن هذا الجاهل قد كدر صفو ملكنا المعظم بكلامه الوقيح.إن الإنجليز لا يستطيعون أن يضروا ملكنا شيئا.فظل الملك منهمكا في مشاهدة مصارعة الديوك والرقص والغناء، وداهمت الجيوش الإنجليزية عاصمته (لكنهاو).إذن، حب المال بشدة يجعل القوم خونةً، لذلك لا يمكن أن تزدهر الأمة ما يُمْحَ حب المال من قلوبهم..أما بدون ذلك فلا يمكن أن تزدهر ازدهارا حقيقيا ثابتا.والحديث هنا عن الكفار حيث يحذرهم الله تعالى من هلاكهم، وعليه فإن الله تعالى قد أخبرهم أن دمارهم لن يأتي من الخارج بل إن أسبابه موجودة في أنفسهم.فإن كل فرد من جماعة محمد ( ) يعلم أنه لو قتل في الحرب فأولاده سيجدون أبًا أشدّ شفقة منه، ويدرك كل مسكين أن محمد لا اله الا الله ولو نال القوة فسوف يضمن له الطعام والثياب والعلاج ونصيبا متساويا من الغنائم ومن يرث من جماعة محمد أموالا من أبيه فيعرف أن عليه ألا يضيعها بالإسراف بل عليه أن يستثمرها وينفقها في المشاريع العامة لكي تتقدم أمته باستمرار بدلاً من التردّي.وإذا كان أحدهم ذا مال فلا يحبّه حبًّا جما، بل ينفق أمواله في التبرعات، كما يأخذ الحذر كله كي لا يختلط بماله قرش من الحرام وحيث إن كل علامات الازدهار متوافرة في محمد الله وأصحابه، وكل علامات الانحطاط موجودة في الكفار، فكيف يظنون أنهم سيغلبون المسلمين؟ أيها الكفار، لا شك أنكم أكثر عددا، ولكن العصافير الكثيرة لا تغلب الصقر.إن كل واحد منكم يقصر في رعاية اليتامى، ويجبن جبنا شديدا، ولا يساعد الفقراء والمساكين، فأنى لكم أن تنتصروا في حربكم القومية؟ كل واحد منكم لو نال مال الإرث دمره بالبذخ والإسراف، وكل منكم يحب هو

Page 749

الجزء الثامن ٧٤٩ سورة الفجر المال حبًا جمًا ويتردد في إنفاقه حين تكون أمته بحاجة إلى المال..فلا بد - والحال هذه - أن ينتصر المسلمون وتُغلبون.هذا هو الأمر الذي يجب أن يجعله أفراد جماعتنا نصب أعينهم على الدوام.إذا كانت جماعتنا تريد الازدهار فلا بد لها من أن تتحلى بهذه المزايا الأربع، وتعض من عليها بالنواجد على دعاتنا ومعلمينا ورؤساء فروع جماعتنا أن يتذكروا أن واجبهم رعاية اليتامى وأن عليهم أن لا يطعموهم فقط، بل يكرموهم.عليهم أن يدركوا أن من واجبهم حماية المساكين من المعاناة في أكلهم وشربهم وما إلى ذلك.عليهم أن يدركوا أن عليهم تعويد أفراد الجماعة كلهم على العمل.يجب أن لا يوجد بيننا من يرث الأموال من آبائه ثم يجلس عاطلا.إذا صار أحد مليارديرا بثروة آبائه ولا يعمل بنفسه، فيجب على الأمة أن لا تكرمه إطلاقا، فيجب أن لا يقال إنه رئيس كبير، بل ينبغي اعتباره أرذل من كناسي المراحيض.كذلك إذا كان بيننا شخص قد أسَره حُبُّ المال، فلندرك أنه سيخوننا في أي وقت حرصا على ماله، وينضم إلى العدو كلما وجد فرصة.لو تحلينا بهذه الصفات الأربع، فمهما بلغ عدد العدو - سواء ١٠٠ ١ ألف أو مليونا أو ١٠ ملايين أو ۱۰ ملايين أو ۱۰۰ مليون - فإنما مثله ومثلنا ۱۰۰ مليون عصفور إزاء صقر واحد.كمثل كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضِ دَكَّا دَكَّا (٣) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَا صَاتِ شرح الكلمات: دُكّت : دَلكَ الأَرضَ : سوَّى صعودَها وهبوطها، وكسَر حُفْرتها بالتراب وسواها.(الأقرب) التفسير: أي أنتم تفتقرون إلى هذه الصفات ولكنها متوفرة كلها في محمد وجماعته.فاعلموا أنه حينما تُدَكّ الأرض دكا كما أخبرنا في قولنا إذَا زُلْزِلَ

Page 750

الجزء الثامن ٧٥٠ سورة الفجر الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴾ (الزلزلة: (٢)..وينزل قضاء الله تعالى، فيأتي الله ة مع ملائكته المصطفين صفا صفا، أو يأتي الله والملائكة قائمين صفا صفا.وَجِأَيْءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَبِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَنُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) ٢٤ التفسير : الإنسان المذكور هو من لا يهتم برعاية اليتامى ولا إطعام المساكين، ويدمر أموال آبائه ويحب المال حبا جما..فإنه سيحاول إصلاح نفسه وتنظيم قومه وتوحيد شملهم وحمايتهم من الدمار ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى.ذلك أن شخصية الأمم تُبنى بجهود سنوات وسنوات؛ إذ من المحال أن تغيّر شخصية أمتك بمجرد أن فكرت في ذلك.إن الأمة لا تعتاد على إكرام الضيف في ليلة وضحاها، بل بعد جهود نصف ،قرن بل قرن من الزمان حتى يتصف كل فرد من الجماعة بهذه الميزة.كذلك لا يشعر القوم بواجب رعاية اليتامى وإطعام المساكين إلا بعد جهود سنوات طوال.والحال نفسه بالنسبة لمحو حبّ المال من القلوب، فهو لا يتيسر إلا ببذل الجهود لفترات طويلة.ولذلك قال الله تعالى هنا وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى..أي قد فات الأوان لهذا الإصلاح بالنسبة للكافرين.إن هذه الأخلاق لا تتيسر إلا في مدة طويلة، أما أنتم أيها الكافرون، فقد ضاعت هذه الفرصة منكم؛ فإنكم واقفون الآن على هوة الهلاك، فلا مجال للإصلاح وتصحيح الأخطاء.يَقُولُ يَنلَيتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) ۲۵ التفسير : أي سيتأسف هذا الإنسان في ذلك اليوم قائلا: ليتني عملت على تقوية جماعتي بخلق هذه الأخلاق فيهم ولكن لن تنفعه الأماني يومئذ، بل سيحيط به الدمار عندها.

Page 751

الجزء الثامن ٧٥١ سورة الفجر فَيَوْمَبِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ وَ شرح الكلمات: لا يوثق :وثاقَه: أوثقه في الوثاق: شدَّه به.(الأقرب) التفسير : أي أنكم عذبتم جماعتنا تعذيبًا لا مثيل له؛ فنعذبكم يومئذ عذابًا لا مثيل له لقد ألقيتم المؤمنين في أنواع القيد – والقيد هنا ليس بمعناه المعروف، بل يعني طردهم المؤمنين من العمل وغير ذلك من أنواع القيود والإيذاء – فاليوم سنؤذيكم بقيد لا مثيل له كما آذيتم جماعة نبينا من قبل.يَتَأَيّها النَّسُ الْمُطْمَبِنَّةُ : ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً رضِيَّةً (E) ۲۹ التفسير : النفس المطمئنة المتصفة بهذه الصفات الأربع، حيث يخبر هي الله تعالى أن الأمة التي تتحلى بهذه المزايا الأربع تأمن من كل زوال وإدبار.إذا أحب كل فرد رعاية اليتيم فكيف يخاف الموت؟ وإذا كان كل فرد يتفقد المساكين وكان كلَّ منهم يحث الآخر على الاعتناء بالفقراء، فأي خطر يواجهون في الحروب؟ لأن المساكين سيتقدمون في الحرب ويتحملون كل أذى فرحين قائلين: ما دام إخواننا يهتمون بنا ويضمنون لنا المأكل والملبس ويسدّون كل حاجاتنا، فمن واجبنا اليوم أن نساعدهم في هذا الوقت العصيب، فلن نتردد اليوم في أي تضحية دفاعا عن شرفهم.أو إذا كان كل فرد من الأمة ينأى عن البذخ والإسراف فكيف يمكن أن يعيشوا كسالى أو عاطلين؟ لو كان عندهم مال وعقار يقدر بمئات الآلاف فلن يجدوا في الكد والاجتهاد عارا والذين لا يجدون في العمل عارا ويأكلون بعرق جبينهم رغم امتلاكهم الملايين، أو ينفقون أموالهم في حاجات الأمة، فإنهم

Page 752

الجزء الثامن ٧٥٢ سورة الفجر سيعملون على رقي الأمة ولن يتسببوا في انحطاطها.أو إذا لم يكن في قلوبهم حب للمال، فكيف يمكن أن يوجد بينهم حَوَنة؟ وكيف يخافون على أنفسهم؟ كلا، جم بل إنهم سيعيشون مطمئنين يقينا.وإذا تطلب الأمر التضحية بالنفس يقولون: لماذا نخاف الموت؟ فإن أمتنا سوف تتكفل أولادنا من بعدنا وإذا تطلب الأمر التضحية بالمال يقولون: لماذا نبالي بأموالنا فإن قومنا يرعون المساكين؟ فيقفزون في النيران مطمئنين غير آبهين بأي خطر.لقد بين الله تعالى في قوله يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ..سرَّ رقي الأمم هذا..أي أن الإنسان المذكور من قبل كان يفتقر إلى هذه الخصال الأربع، ولكنك يا صاحب النفس المطمئنة تتحلى بها، ولذلك تنعم بالنفس المطمئنة.فالآن ارجع إلى ربك راضيًا مرضيًا.أي يا عبدي، قد أنجزت في الدنيا المهمة التي خلقتك من أجلها، فرضيت بعملك ورضينا أيضا.: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ) ۳۰ التفسير وكما أن الإنسان يحافظ على ممتلكاته كذلك سنعتبر الهجوم عليك هجوما علينا، وإيذاؤك سيثير غيرتنا.لقد دخلت في عبيدي فلا مجال لأحد الآن أن يصول عليك.ولو حاول أن يستعبدك أحد بعد ذلك فسأحاربه بنفسي، وأعاقبه على إساءته.وَادْخُلِي جَنَّتي (5) ۳۱ التفسير : الناس في الدنيا يسخرون عبيدهم لخدمات جسيمة، ويعذبونهم أنواع العذاب، ولكن الله تعالى يقول من دخل في عبيدي أدخلته جنتي.وحيث إنك قد دخلت في عبيدي فتعال يا عبدي وادخل جنتي.

Page 753

الجزء الثامن ٧٥٣ سورة البلد سورة البلد مكية، وهي إحدى عشرون آية مع البسملة، وفيها ركوع واحد يقول ابن عباس وابن الزبير إنها مكية.والعجيب أنه حتى (ويري) من بين الكتاب المسيحيين يقول إننا نستطيع القول بكل اطمئنان ويقين دون أي خطأ أو تناقض مع الشواهد التاريخية أنها نزلت في السنة الأولى.إذن، فهو لا يعتبرها من السور المكية فحسب، بل من السنة الأولى من البعثة.مما يزيد موضوعها إعجازا.أن موضوعها عندي- ذو صلة بمواضيع السور السابقة الثلاث، والتي نزلت في السنة الثالثة أو الرابعة من البعثة.وعليه فإن هذه السورة أيضا نزلت بید في أواخر السنة الثالثة أو بداية الرابعة ومتزامنة في نزولها مع السور السابقة.وأول ما يربطها بالسور السابقة أن تلك تخبر عن قرب بداية الاضطهاد، حيث نبه الله فيها المسلمين أن معارضة منظمة من قبل الكافرين وشيكة، وأنها ستكون شديدة الأذى وطويلة المدى حيث تمتد عشر سنوات ثم بعد ذلك ستتهيأ الأسباب لإزالتها.ثم يليها أذًى بسيط يبقى لبعض الوقت، ثم يطلع الفجر.أما في هذه السورة فقد حدد الله تعالى مكان هذا الاضطهاد كما ذكر تفاصيل أخرى، فأخبر أن هذا الاضطهاد يبدأ مكة نفسها؛ ذلك أن المسلمين لم يكونوا قد تعرّضوا للظلم بعد، وكان أقارب النبي وأقارب أصحابه لا يزالون بمكة، فكان الممكن أن يفكر المسلمون أن نبوءة الليالي العشر ربما تظهر بطريق آخر..أي أن الإسلام سينتشر في مناطق أخرى وهناك يُضطهدون.كان الناس يعتنقون الإسلام خارج مكة هنا وهناك فلذا كان من الممكن أن تتبادر إلى الأذهان أن بداية اضطهاد المسلمين ستكون في منطقة أخرى من الجزيرة، وربما يواجه أُناس آخرون هذه الآلام والمحن فأبطل الله هذه الشبهات هنا، وأخبر أن هذا ظن خاطئ، من من

Page 754

الجزء الثامن ٧٥٤ سورة البلد فسوف تتعرضون للفظائع على أيدي أهل مكة نفسها، وستصوب إليكم سهام الجور من هذا البلد الذي تعيشون فيه ويعيش فيه أقاربكم ومعارفكم، والذي لا تتصورون أن أهله الكافرين يمكن أن يصبوا عليكم هذا الاضطهاد.مِ اللهِ الرَّحمن الرّحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) سران هي التفسير : يقول النحويون عن حرف (لا) ما يلي: "في (لا) وجهان: أحدهما زائدة كما زيدت في قوله تعالى لئلا يعلم " إملاء ما من به الرحمن: تفسير.سورة القيامة، وفتح القدير).وليكن معلوما أن قولهم عن (لا): "هي" "زائدة لا يعني ما تعنيه كلمة (الزائد) في الأردية، بل المراد من "هي "زائدة عند النحويين أنه جيء بها للتأكيد فقط (المرجع السابق).فمن خصائص اللغة العربية أنها تحتوي على حكم فلسفية عديدة، وهذه القاعدة العربية أيضا لها أساس فلسفي، وهو: أن من فطرة الإنسان أنه إذا سمع شيئا خلاف المعتاد والمعروف ازداد إليه.انتباها فمثلاً يقولون للولد أحيانًا يا شرير، والجميع يعرف أنهم لا يقصدون سبه أو الإشارة إلى ما يتنافى مع الأخلاق السامية والذوق السليم، بل يشيرون به إلى حدّة في أفعاله وذكائه أو مثلا يمشي الولد إلى أمه أحيانا مشية تدرك بها أنه سيسألها الآن شيئا حتما، فتقول له مبتسمة: شریر! ولا تعني أنه شرير فعلا، بل تعني أنها تعلم أنه يحاول بذلك استثارة حبها وحنانها لكي تعطيه شيئا.وهذا ليس أمرا سيئا، بل هو الفطرة عينها.ثم إن المرء يدعو ويتوسل إلى الله تعالى في أدعيته اليومية الكثيرة بأساليب متنوعة عجيبة استدرارًا لفضله ورحمته فتارة يقول: ربِّ قد قمتُ بعمل كذا وكذا ابتغاء وجهك، فإن كنت تعلم أني لم أعمله إلا ابتغاء مرضاتك، وإذا كان قد نال رضاك..فحقق لي حاجتي بسببه.وأحيانا يفكر أنه لو عرض على الله تعالى

Page 755

٧٥٥ الجزء الثامن سورة البلد مسكنته وفقره وعجزه وقلة حيلته لجاشت رحمته تعالى ونزل فضله تعالى لإنقاذه، فيقول : ربّ ليس لي ولي ولا نصير سواك..إنما أنا وحيد لا حيلة لي ولا معين غيرك، فإني لا أنظر إلا إليك، فمن يرحمني إن لم ترحمني؟ فانصرني وادفع كربي.وهذا الأسلوب ليس فيه خداع ولا شر ولا خيانة، بل يعرف الجميع أنه طريق لاستثارة رحمة الله وحبه.والأم أيضًا حين تسمي ولدها شريرا؛ فلا تفعل ذلك غضبًا عليه إنما تعبيرًا عن المتعة التي تجدها في تصرُّف ابنها، فتريد أن تحتضنه وتضمه إلى صدرها فرحًا بذكائه؛ إذ عرض عليها مطلبه بأسلوب رائع.إذن، من فطرة الإنسان أن يستخدم أحيانا كلمة خلاف المعروف المعتاد ليلفت انتباه الآخرين.وفي لغتنا البنجابية أيضا تُستخدم أحيانا كلمات خلاف ظاهر مفهومها؛ فمثلا تقول للشخص أثناء الكلام: اتركني، مع أنه لم يكن آخذا بيدك حتى يتركك، بل هذا أسلوب لمنع الآخر من شيء بشدة.كذلك يقول النحويون: إنه إذا أريد التنبيه إلى أمر وتأكيده تُستخدم الكلمة استعمالاً غير مألوف شأن الأم التي تسمي ولدها شريرا في بعض الأحيان حبا لا سخطًا، لأنها تعلم أن كلمة الشرير أشدُّ تعبيرا عن حبها من كلمة الحب نفسها.إنها تسميه شريرا، وقسمات وجهها وحركة شفاهها ولمعان عيونها تدل أنها تذوب حنانًا عليه.باختصار يقول النحويون أن (لا) هنا زائدة إذ لم ترد بمعناها المعروف، بل : جاءت تأكيدًا للكلام.يقول الله تعالى (لا)، وبسماعها يصاب الإنسان بحيرة ويتنبه للأمر المنفي انتباها خاصا ! فلو أن الله تعالى بدأ الكلام هنا بدون (لا) وقال: أُقْسِمُ بهَذَا الْبَلَدِ، انتبه الناس إلى الكلام بعد سماع القسم وفكروا فيه، ولكنه تعالى قال قبل ذلك : لا ، وكأنه قال: اتركوا الأمور الأخرى جانبًا واستمعوا إلى ما نقول، وهكذا انتبه كل إنسان إلى ما يقال بعد ذلك.باختصار : قد جاءت (لا) هنا لِلَفت الانتباه وكشف الحقيقة، ليكون الناس جاهزين لسماع الكلام الذي يلي القسم.

Page 756

الجزء الثامن V07 سورة البلد وقال بعض النحويين إن (لا) ليست زائدة، بل لها معنيان أحدهما: هي للقسم بها، أي لا أقسم بهذا البلد.(فتح القدير) قدروه هنا رسود لنا هو ود نفي ويثار هنا سؤال: لماذا نُفي القسم هنا؟ قالوا: لأن الله تعالى يعني أن ما نقوله واضح جلي بحيث لا حاجة للقسم به ثم قالوا وثانيهما: أن (لا) ردُّ لكلام مقدّر للكافرين (فتح القدير)..أي هناك اعتراض قد رُدَّ عليه بقوله تعالى (لا).ويُعرف هذا الكلام المقدر بطريقين: إما بمفهوم هذه الآية أو بالنظر إلى مضمون السورة السابقة.وقد قدروا هذا الكلام من مضمون السورة السابقة وقالوا: المراد أن ما قلتم في السورة السابقة باطل.أو المراد أن الذين يعترضون على ما قلنا من قبل هم على الباطل، أي ليس الأمر كما تحسبون بل قولهم باطل.وكلام الكفار الذي "أنت مفتر"، فردّ الله عليهم بقوله : "لا ، أنت لست بمفتر"، بل أنت الصادق ونقدّم كشهادة على ذلك مدينة مكة.(فتح القدير) وعندي أن (لا) هنا لم تأت ردًّا على قول الكفار "أنت مفتر"، بل هي ردّ على خططهم المذكورة في الآيات السابقة، أعني أن الكافرين كانوا قد بدأوا يخططون سرًا للقضاء على النبي و أصحابه، فلأن خططهم كانت لا تزال خفية في قلوبهم، فتحدث القرآن عنها أيضا بأسلوب غير مباشر.وكأن الله تعالى لمّح للكفار وقال إننا على علم بمكائدكم، ولكن اعلموا أنكم لن تنجحوا فيها أبدا.وهذا الأسلوب قد اتبعه الله تعالى في سورة الغاشية أيضا، حيث أخبر أن وجوها ستصبح عاملة ناصبة.ثم أخبر في سورة الفجر أنه ستأتي على المسلمين ليال عشر مظلمة.وهنا في سورة البلد أيضًا لم يذكر نوايا الكافرين علنًا، وإنما لمح إليها فحسب.وذلك لأن الكافرين أيضًا لم يجاهروا بالمعارضة وإنما كانوا يخططون سرًا للقضاء على الإسلام، ولو كشف الله تعالى هذه الأمور للناس لقيل إن المسلمين هم البادئون؛ إذ أثاروا الكافرين أولاً.إذن، لأن الكافرين لم يجهروا بمكائدهم، فقال الله لهم: (لا)..أي إني لا أخبر الناس، ولكني أؤكد لكم أن ما في قلوبكم لن يتحقق، وأتحداكم أن خططكم السرية هذه ستبوء بالفشل.ومع ذلك قد لمح الله تعالى عن الأمر الواقع أيضا ولكن بحيث لا يفهمه الجميع، حتى لا يُعدّ هذا الكلام إثارة

Page 757

الجزء الثامن VOV سورة البلد للكافرين، كما لا يقول أحد فيما بعد إن القرآن الكريم قد كذب في ادعائه أنه قد فهم نوايا الكافرين ذلك أن الإنسان يدعي أحيانًا أنه قد فهم الأمر مع أنه لم يفهم شيئا في الحقيقة، ولذلك قد شرح الله تعالى الأمر بعدها مبينًا ما فُهم من أمر الكافرين، ولكنه ذكره بأسلوب يحقق الهدف وبحيث لا يُتيح الفرصة لأحد للقول إن القرآن أثار الكافرين أولاً بقوله إنهم يضمرون نوايا سيئة ضد المسلمين.أما الدليل الذي ذكره الله على علمه بنوايا الكافرين فجاء في الجزء الثاني من الآيات، وسوف نشرحه في مكانه.لقد تكرر قوله تعالى لا أُقسم في القرآن الكريم في ثمانية مواضع: في سورة القيامة (مرتين)، البلد، الواقعة، الحاقة المعارج، التكوير الانشقاق، وكلها سور مكية.لقد حلف الله تعالى بالمخلوقات في القرآن الكريم بطريقين: فحيثما أقسم بها بحرف الواو لم يذكر قبلها (لا)، كقوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوج و وَالسَّمَاءِ وَالطَّارق، وحيثما ذكر (لا) عند القسم أردفه بقسم ظاهر بقوله (أقسم)، وقد مضت الأمثلة على ذلك في السور السابقة.هناك موضع واحد فقط لم يستخدم الله تعالى (أُقسم) بعد (لا)، بل أتى بواو القسم، وهو قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: ٦٦)..وذلك لأن الله تعالى قد أقسم هنا بنفسه لا بغيره من المخلوقات.ويتضح من هنا أن كلمة (أقسم) تأتي للتأكيد ولكشف معنى ( لا)، لأنه تعالى عندما أقسَمَ بنفسه بعد (لا) اكتفى بواو القسم، ولكنه إذا لم يذكر اسم الجلالة بعد (لا) أضاف كلمة (أُقسم) دائما؛ إذ يعرف الجميع أن القَسم بالله أمر شائع ،معروف، ولكنهم لا يعرفون أن القسم بغير الله أيضا ممكن.فحيث إن (لا) تفيد النفي، فأتى الله بعدها بكلمة (أُقسم) كي لا يُعتبر نفيًا للقسم نفسه.

Page 758

الجزء الثامن VOA سورة البلد شرح الكلمات : وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٤) حِلٌ: "الحلّ ما جاوز الحرم من أرض مكة، ويقابله الحرم؛ والحِل: ضد الحرام".تسمى مكة المكرمة حَرَمًا لعدم جواز الصيد وقطع الشجر والقتال فيها، ولكن بعد بضعة أميال تنتهي حدود الحرم وتحل هذه الأمور؛ ولذلك يسمى ما هو خارج الحرم حلاً."والحل: الغرض الذي يُرمى إليه.والحِلُّ: الاسم من تحليل اليمين، ومنه في الحديث : قال الامرأة حلفت أن لا تعتق مولاتها حلا أُمَّ فلان..(أي تَحلّلي في يمينك).والحل النازل بالمكان قال الحريري: "ما دمت حلا بهذا البلد"..أي نازلا.(الأقرب) إذن، فهناك خمسة معان للحلّ: ۱- مكان خارج الحرم ٢- الحلال ٣- الهدف ٤ - تحليل اليمين -٥ - النزول في المكان.التفسير : قال الزمخشري إن قوله تعالى وَأَنْتَ حِلَّ بِهَذَا الْبَلَد جملة اعتراضية، بينما اعتبرها صاحب "البحر المحيط" حالية.(البحر المحيط) وعندي أنها حالية نظرًا إلى المعنى المتبادر إلى الذهن، ولكن ذلك لا أن مكة تمثل شهادةً حال كونه مقيما فيها، أما بدونها فليس فيها أي دلالة على أي أمر روحاني.الحقيقة أن من يعني يعني صل الله الحال ما ليس فيه أي شهادة إضافية، ولكن من الحال ما يقدم مع صاحب الحال شهادة مزدوجة.فقوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أننا نقدم مكة كشهادة في حال كونك مقيمًا، ولكن هذا لا يعني أنها في حد ذاتها لا تشهد على أي شيء.فمَن يسعه أن ينكر أن مكة هي البلدة التي وضع فيها إبراهيم الا أسس الكعبة ورفع قواعدها، وبسبب هذه الآية العظيمة جعل الله تعالى مكة مرجعا للعرب كلهم؟ ثم إن مكة المعظمة هي البلدة التي أرى الله تعالى فيها آية عظيمة قبل مولد النبي..أعني أن الله تعالى دمر أبرهة وجنوده – أصحاب الفيل – لما جاء بنية غزوها.ثم إن بئر زمزم في مكة أيضا آية من آيات الله العظيمة.ثم إن الصفا والمروة

Page 759

الجزء الثامن 20 ٧٥٩ - سورة البلد تذكاران خالدان لآية ربانية عظيمة يتجدد برؤيتهما إيمان المرء حيث يرى وعود د الله التي قطعها مع إبراهيم اللي في حق أولاده متحققةً أمام عينيه.إذن، فمكة كانت في حد ذاتها آية عظيمة من الله تعالى قبل واقعة وَأَنْتَ حِلَّ بِهَذَا الْبَلَدِ، ولا يسع أحدا إنكار هذه الحقيقة.فكل من عنده ذرة من الإيمان وعيون بريئة من العمى الروحاني قادرة على رؤية قدرة الله..يمكن أن يدرك أن مكة كانت قبل بعثة الرسول ﷺ أيضا - مقاما شهيرًا في العالم نتيجة آيات إبراهيم الله، وكانت بحد ذاتها شاهدا خالدا على وجود الله تعالى.فثبت أن قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ لا يعني أن مكة لم تكن قبل ذلك آية كونية عظيمة، أو لم تكن تنطوي على شهادة على وجود البارئ تعالى، إنما المراد هذه الجملة الحالية أن الآيات التي توجد في هذا المكان المقدس أنك حل به، وأن مكة لم تكن من قبل آية هامة بقدر ما صارت الآن بسبب وجودك فيها، لأنها شهدت من قبل على أشياء أخرى، أما الآن فتشهد على شيء آخر كانت مكة من قبل دليلا على أن إبراهيم أو إسماعيل كانا نبيين صادقين، أما الآن فصارت دليلا على أن محمدا لله نبي الله.كان هذا البلد شهادة على الآيات المرتبطة بإبراهيم فقط، أما الآن وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ فأصبح شاهدا على الآيات الدالة على صدق محمد ، أيضا، وعلى أنه لن تقدر قوة في الدنيا على أن تفشله في هدفه.وهكذا قد أضفت هذه الجملة الحالية على مكة طابعا جديدا، حيث يعني قوله تعالى ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أننا نقدم مكة الآن دليلاً على صدقك يا محمد.من • من أما باعتبار أن الآيات والأنباء التي تحققت على يد إبراهيم ال إنما تحققت بتأييد الله ونصرته وبالتالي كانت مكة دليلا على وجوده تعالى، أي صارت دليلا مزدوجًا إذ تشهد على صدق إسماعيل وإبراهيم وعلى وجود البارئ أيضا؛ فسيعني قوله تعالى ﴿وَأَنْتَ حِلَّ بهَذَا الْبَلَدِ أن مكة كانت دليلا على وجود البارئ تعالى من قبل، إلا أن هذا الدليل سيتجلى بشكل أروع بعد بعثتك فيها، لأن قدرات الله

Page 760

الجزء الثامن ٧٦٠ سورة البلد ستتجلى على يدك في العالم تجليا غير عادي وتظهر بواسطتك آيات لم ترها الدنيا من قبل.ونظرًا إلى معاني (حِلّ) المذكورة آنفا ستفسَّر هذه الآية بالمعاني التالية: أولاً: من معاني الحل الحلال وعليه سيعني قوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أننا نقدّم هذه البلدة شهادةً على صدق ما ذكرناه سابقا حال كونك حلا فيها..أي مع أن مكة حرمٌ لا يجوز فيها ما يجوز خارجها، بل ما هو حرام خارجها حرمة فيها، إلا أنه ستأتي عليك ليال) عشر ) كما أخبرناك من قبل، وها يصبح أشد نحن نخبرك الآن بمزيد من الإيضاح أنها قادمة عليكم في مكة المحرمة نفسها.يبدو أن الصحابة كانوا يظنون أن مشركي مكة لن يؤذوهم في مكة مهما عارضوا الإسلام وكرهوا التوحيد لأنه إذا كان القتل وسفك الدماء والفساد والقتال حراما خارج مكة، فهو أشدُّ حرمة فيها بحسب عقيدتهم لأنها حرم؛ فصحح الله تعالى أفكار المسلمين وأخبر رسوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ..أي برغم عقيدتهم هذه فإن حرمة مكة لن تحميك ولا أتباعك من إيذائهم، بل ستعتبرون حِلا في هذا الحرم.لا شك أنه لا يجوز قتل أي شيء فيها، ولا يجوز صيد أي حيوان هنا، إلا أنك تتعرض فيها للأذى أنت وأتباعك بيد أهلها المؤمنين بحرمتها وقداستها.والمعنى الثاني للحل هو الهدف والغرض الذي يُرمى إليه، وعليه فقوله تعالى وَأَنْتَ حِلَّ بِهَذَا الْبَلَدِ يعني أنك ستصبح عرضة لكل سهم..أي أنهم لن يتعرضوا لشرفك ومالك فحسب، بل سيصبون عليك كل أنواع الظلم.هناك فرق بين الظلم وبين كل أنواع الظلم.لا شك أن الظلم أمر شنيع في حد ذاته، ولكن الذي يرتكب كل أنواع الظلم ويقع في كل أنواع السيئات يصبح أظلم الظالمين.والله تعالى يخبر هنا أن مشركي مكة لن يضطهدوا المسلمين فحسب، بل يصبّون عليهم كل صنوف العذاب، ويطلقون إلى صدورهم كل سهم بأيديهم.ومثاله ما نراه اليوم فإن العلماء كانوا مغرمين بفتاوى التكفير قبل تأسيس جماعتنا أيضا، وظلوا يصدرونها على مرّ العصور، فتارة كفّر أهل السنة الوهابيين، وأخرى كفّر

Page 761

الجزء الثامن كلّ ٧٦١ سورة البلد الوهابيون أهل السنة وتارة أفتى أهل الحديث بكفر الديوبنديين، وأخرى أفتى الديوبنديون بكفر باقي فرق المسلمين وارتدادهم؛ ولكن منذ أن أقام الله الأحمدية فإن كل سهم يطلقه غيرنا من المسلمين إنما يُصوّبونه إلينا نحن الأحمديين، فالآن لا يكفر السنة الشيعة ولا يعتبر الشيعة السنة ملحدين زنادقة، وإنما اتحد الجميع وانبروا لمعارضة الأحمدية متخذين جماعتنا هدفًا لكل سهم.الواقع أنه إذا شعر القوم أن شخصا سينال القوة ويقضي على قوتهم في يوم من الأيام، فكلهم ينسون خلافاتهم ويتحدون بعزيمة رجل واحد للقضاء عليه.وهذا ما قد بينه الله تعالى في قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بهَذَا الْبَلَدِ..أي أن كل أنواع الاضطهاد التي لم يرتكبها أهل مكة من قبل ولم يروها سوف تُصَبّ عليك وعلى جماعتك الآن من قبلهم.لا شك أن أهل مكة مختلفون فيما بينهم أحزابا وفرقا ولكنهم سينسون اختلافاتهم من أجل معارضتك ويتحد الجميع على هدف واحد أن يرموا إليك وإلى أصحابك سهم من سهام الظلم والجور..ويصبّوا عليكم كل أنواع التعذيب.ما أروع هذه النبوءة حيث لم يخبر الله تعالى أن الكافرين سيضطهدون المسلمين فحسب، بل أشار أيضًا إلى أن ظلمهم سيكون بمختلف الأشكال.والمعنى الثالث للحِلّ: النازلُ بالمكان، وعليه فقوله تعالى ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ.يعني أنك ستتعرض لظلم أهل مكة بحسب نبوءة الليالي العشر، فتضطر للهجرة من هذه البلدة، ثم تنزل بها فاتحا في نهاية المطاف، ولكن لن تنزل فيها لتقيم فيها، بل سيكون نزولك فيها مؤقتا.وكأن الله تعالى قد قام هنا بشرح الليالي العشر والفجر كليهما، ثم أشار إلى الفجر الذي يأتي بعد الليلة الحادية عشرة.ما أدلّ هذه الآية على الإيجاز القرآني المعجز! ففي جملة قصيرة تنبأ القرآن بنبوءتين؛ نبوءة الهجرة ونبوءة فتح مكة.فقوله تعالى وَأَنْتَ حِلَّ لا يشرح الليالي العشر فحسب، بل يشير أيضًا إلى الفجر الذي يطلع بعد الليلة الحادية عشرة، حيث أخبر أن سنذهب بك من مكة بسبب هذه المحن، ثم نعود بك إليها فاتحاً.والمعنى الرابع للحِلّ: الاسم من تحليل اليمين أي القسم، وعليــــه فقوله تعالى * نسبة إلى "ديوبند " مركز الثقافة الدينية والعلمية بالهند.(المترجم)

Page 762

الجزء الثامن سنسمح ٧٦٢ سورة البلد وَأَنْتَ حِلٌّ بهَذَا الْبَلَدِ يعني أننا سوف نُحِلَّ لك هذا الحرم بعض الوقت..بمعنى أن مكة كانت حرمًا كحُرمة الفعل الذي يحلف المرء أنه لن يفعله، ولكنا سنحل لك هذا الأمر الحرام الممنوع مثلما يجوز للحالف تحليل يمينه بأداء الكفارة، وذلك لأن أهل مكة سيستوجبون العذاب بشرورهم، فنأذن لك بالهجوم على مكة لعقابهم.وكأن الله تعالى يقول هنا : لأن أهل مكة قد اعتبروكم حِلا في حَرَمِها، لذا لك بالهجوم عليهم فيها لو أن هؤلاء لم يضطهدوك فلربما أدخلناك في هذه البلدة سلما، ولكنهم ما داموا قد أحلّوا بلد الله الحرام لأنفسهم، فسوف نحله لك أيضا بعض الوقت لنذلّهم ونخزيهم فيه، وسيكونون هم المسؤولين عن كل ذلك.وكأنّ الآية تتضمن نبوءتين: حيث أنبأ الله تعالى رسوله أنك لن تدخل هذا البلد فاتحا فحسب، بل سنُحلّه لك بعض الوقت، ليذوق أهله الخزي والهوان عقابا على فظائعهم.والمعنى الخامس هو أن نعتبر الغرض من الحلّ هنا: استعارة، وعليه ستعنى الآية أنك أنت الغاية من هذه البلدة..أي كنت محط آمال عند أهلها.ذلك أن الرمي يعني إطلاق السهم، كما يُستعار للإشارة إلى النبوءات التي تتم قبل ظهور مأمور من عند الله تعالى؛ فالمراد من الآية أن الأمور التي أدت إلى حرمة هذه البلدة إنما كانت توطئة لظهورك، كمجيء إسماعيل الله إلى وادي مكة، وانجذاب العرب إليها بشكل خارق، وتحولها إلى مدينة عامرة، ثم تطهيرها من الفتن، وحمايتها من صول الأعداء، ووقايتها من تأثير الأديان الأخرى.فكل هذه المزايا توفرت في هذه البلدة من أجل ظهورك فيها، ولكن الغريب أن أهل مكة مع اعترافهم بحرمتها وعظمتها لا يفهمون الغاية التي من أجلها كتبنا لمكة هذا التعظيم الخارق.لا شك أنها بلدة مقدسة، ولكنك حِلَّ هَذَا الْبَلَدِ..أي نشهد بهذه البلدة أنك الغاية منها؛ فإن البنان الذي لم يزل يشير إلى أحد منذ زمن إبراهيم الا – إنما كان يشير إليك أنت وكل واقعة وقعت في هذه الفترة إنما كانت تومئ إليك أنت، وكل آية نزلت فيها كانت تهدي الناس إليك أنت ولكن حين ظهرت من هذه البلدة خالفك أهلها، مع أنك كنت الغاية منها، ومن أجلك كنا فعلنا كل هذا.

Page 763

الجزء الثامن الواقع أن ٧٦٣ سورة البلد فالمفهوم المفصّل لهذه الآية: أننا نقدّم كشهادة مكة التي سيتعرض فيها المسلمون لأنواع الاضطهاد..أي أن المؤامرات المنظمة التي أشرنا إليها من قبل سوف تشهدها مكة نفسها، فمع أن أهلها يؤمنون بأنه حرام فيها صيد حيوان أو قتل إنسان وإثارة فتنة وفساد وقتال، إلا أنهم سوف يؤذونك فيها وأتباعك بأنواع الأذى غير مكترثين بحرمة هذه البلدة المقدسة.وكان هذا شيئا محيرا للصحابة.ضرب الكفار وأذاهم لم يحير الصحابة بقدر ما حيرهم الخبر أنهم سيُضربون في حرم مكة.ومن فطرة الإنسان أن يتألم بشكل غير عادي بسبب الأذى الذي يصيبه ممن لا يتوقع.ومن القصص الشهيرة أن الملك أمر برجم الحسين بن منصور الحلاج، فأخذ الناس في رجمه، فظل الحلاج صامتا ولم يتأفف على إيذائهم الشديد.فمرّ الشبلي من هناك، ووجد الناس يرجمونه، فرماه بوردة مضطرًا.فلما لمست الوردة بدن الحلاج صرخ صرخة عالية.فقيل له: لم تصرخ برشق الحجارة، وصرخت بضرب وردة فأجاب الحجارة قد بدت لي ورودا، ولكن وردة الشبلي بدت لي حجرا، إذ لم أكن أتوقع ذلك منه.لا شك أنه ضربني بوردة، ولكني لم أتوقع منه أن يضربني، لذلك كان وقع وردته أشدَّ من الحجر.لقد كان أهل مكة يؤمنون أن إيذاء أحد أو ضربه أو قتاله فيها ظلم عظيم ومعصية كبرى، لأنها مقام مقدَّس وقداستها تقتضي ألا ترتكب هذه الأعمال الوحشية فيها مطلقا.وبالفعل ظلوا عاملين بحسب عقيدتهم هذه قرنًا بعد قرن، محافظين على حرمتها وتعظيمها كل المراعاة وكانوا يحرمون القتال والقتل وسفك الدماء في حدود الحرم تحريما قطعيا.فكانت القبائل تتقاتل خارج الحرم ضاربة عنق بعضها البعض ومتعطشةً لدماء بعضها البعض، ولكنها إذا دخلت حدود الحرم القتال، فكانوا يطوفون بالكعبة جنبًا إلى جنب وكتفا إلى كتف وهم يردّدون: لبيك اللهم لبيك، ثم يمشون في شوارعها معًا، دون أن يجرؤ أحدهم على أن ينظر إلى الآخر بغضب داخل الحرم.ولكن هؤلاء المؤمنين بحرمة مكة استشاطوا غضبًا بسبب الإسلام، واستلوا السيوف على رسول الله ﷺ والمسلمين في مكة وفي حَرَمِها ضاربين بعقائدهم عرض الحائط، وقرروا بالإجماع تضييق الخناق على انتهت من

Page 764

الجزء الثامن ٧٦٤ سورة البلد المسلمين وتعذيبهم وقتلهم ليردّوهم عن دينهم متناسين ما إذا كان هذا المكان حَرَمًا أم غير حَرَم! هذا القرار الجماعي من قبل أهل مكة وداخل حدود الحرم قد أذهل المسلمين، شأن وردة الشبلي التي أذهلت الحلاج كان الحلاج يتوقع الحجارة من الآخرين، ولكنه لم يتصور قط أن الشبلي سيجرؤ على رميه ولو بوردة، فلما ضربه الشبلي بها كان وقعها عليه أشد إيلاما من الحجارة لو أن المسلمين ضُربوا وعُذبوا في الطائف وغيرها من المدن لم يتعجبوا، لِعِلمهم أن جماعات الأنبياء تتعرض للاضطهاد دائما، ولكنهم كانوا يظنون أن أهل مكة لن يفعلوا بهم هذا بسبب عقيدتهم بحرمة مكة، فدهشوا حين اتخذهم أهلُها الكافرون هدفًا لظلمهم.كان أهل مكة مؤمنين بحرمتها وقداستها منذ عصر إبراهيم العلم علما أن الفترة ما بين النبي وعيسى الل ٦ قرون وبين عيسى وموسى ۱۳ ،قرنا وبين موسى وإبراهيم ٦ قرون، وهذا أن أهل مكة كان يؤمنون بحرمتها منذ ٢٥٠٠ عام، ويقولون إن ضرب أحد أو قتله أو ظلمه في هذا المكان معصية كبرى فكيف يُتوقع منهم بعد هذه العقيدة الطويلة المدى أنهم سينقضون على المسلمين فجأة، ويتخذون نساءهم وأطفالهم وعبيدهم وأحرارهم هدفًا لفظائعهم، مشحّذين أسنانهم عليهم.هذا لم يتوقعه أحد، ولكن هذا ما وقع بالفعل؛ حيث استهدف أهل مكة المسلمين في تلك البلدة المحرمة بظلمهم، ضاربين بعقيدتهم هذه عرض الحائط.مي یعنی ومن حيث المعنى الثاني للحلّ: أنك ستجعل في هذه البلدة هدفًا لكل سهم، أي ستصب عليك وعلى جماعتك كل صنوف الظلم.نجد في الدنيا أن ذوي القلوب الرحيمة أيضا يعاقبون في ثورة الغضب أحيانا، أو يرتكب المرء عملاً وحشيًا من فورة غضبه العابرة ولكن تعذيب أهل مكة للمسلمين بأنواع الظلم طويلاً كان أشدّ إيلاما من القتل، وكان ذلك مستبعدا جدا منهم إذ كانوا يؤمنون بحرمة تلك البلدة منذ ٢٥ قرنا.ولكن الله تعالى قال لرسوله سلفا لا تظنوا أن القوم سيؤذونكم إيذاء عابرا، بل سيصبون عليكم كل ظلم ويرمون إليكم كل سهم،

Page 765

الجزء الثامن ٧٦٥ سورة البلد وسيتخذ كل منهم نحوركم غرضا لسهامه، سيوقع بكم كل فظيعة.وبالفعل قد أكد كفار مكة صدق هذه النبوءة القرآنية بفظائعهم البشعة.لا شك أن المرء يتعرض للظلم، ولكن من قبل الأعداء.المعارضة الدينية إنما تكون من قبل العلماء عادة، ولا يعارض الآباء والأمهات والإخوان كثيرا نتيجة الاختلاف في الدين، بل لو غيّر ابنهم دينه قالوا كل امرئ حر في رأيه ودينه، ولا ندري ما هو الحق، أو قالوا لقد أخطأ ابننا في اعتناق هذا الدين، ومن ذا الذي لا يخطئ؟ فالناس عند الاختلاف الديني يقفون عادةً بجانب أولادهم أو إخوانهم مبررين موقفهم بشتى الأعذار والحيل بدلاً من صبّ الظلم عليهم.ولكن الله تعالى يخبر المسلمين هنا أنه لن تعود أمهاتكم أمهات لكم، ولن يبقى آباؤكم آباء لكم، بل سيجعلونكم هدفا لكل ظلم، ويطلقون إليكم كل سهم.وبالفعل نرى أن المسلمين في زمن الرسول ﷺ لم يتعرضوا للظلم من العلماء والكهان وعبدة الأصنام فحسب، بل ظلمهم الجميع حتى الآباء والأمهات.آمن بالنبي ﷺ فتى لم يبلغ أشده بعد، فغضبت أمه وفصلت أواني أكله وشربه، ثم ظلت تنتظر أن يرتدع ابنها عن الإسلام، ولكنه لم يتأثر من معاملتها القاسية هذه.فنصحه أبواه كثيرا، ولكنه لم يرتد عن الإسلام فضربوه، فرفض ترك الإسلام بشدة.فقالا له يوما اخرج من البيت، فخرج وهاجر إلى الحبشة بعد تعرضه لأنواع الأذى في مكة.(أسد الغابة: خالد بن سعيد بن العاص) وعندما بلغ خبر واقعة سورة النجم أو بحسب بحثي: حين بلغ أهل مكة خبر القصة الملفقة * حول سورة النجم إلى الحبشة- رجع عديد من وكان من بينهم ذلك الصحابي.فذهب إلى أهله ظنا منه أن غضبهم قد هدأ، فاستقبله أبواه بحفاوة واحتضنوه وقبلوه ظانين أنه رجع إلى البيت وارتد عن الإسلام بعد أن عاد إلى صوابه بينما ظنّ الفتى أن فراقه عدة شهور لا بد أن أثر في والديه ! المسلمين من أي حادثة الغرانيق المكذوبة.لمعرفة تفاصيلها يراجع تفسير الآية ٥٣ من سورة التفسير (المترجم) هناك، هذا

Page 766

٧٦٦ الجزء الثامن سورة البلد ولين قلبيهما وملأهما بمشاعر الرحمة.فما إن جلس حتى قالت أمه: نحمد الله أنك عُدت إلى الصواب، وأدركت أنك كنت قد أخطأت بالانضمام إلى جماعة هذا الصابئ معاذ الله - فأرجوك أن لا ترجع إليه ثانية فقام الفتى من فوره وقال لأبويه : لا شك أنكما والدَيَّ، ولكنني سأضحي بكل عزيز من أجل محمد رسول الله لو غير آبه بأية مصيبة مهما اشتدت ولو تفوّه أحدكما الآن بمثل هذا الكلام حول محمد رسول الله له فلن أعتبركما والدَي.فقالا: إذن، لم تعد ابنا لنا أيضًا.فخرج الفتى من بيته ولم ير وجه أبويه بعد ذلك قط.فترى من أين انطلقت هذه السهام؟ لقد انطلقت من حيث لا يتوقعها المرء أي حال.لقد انطلقت من أيدٍ تتلقى السهام بصدورها عادةً دفاعًا عن أولادها.هذا مثال لمعاملة أبوين مع ابنهما، والآن أقدم مثالاً على معاملة الأعمام: كان لرسول الله الا الله ع ع ل ة ،أعمام ، ولكنهم لم يؤذوه مباشرة، بل حرّضوا عليه الآخرين، إلا عمه أبو لهب، فكان يؤذي النبي الله و أشدّ الأذى.فكان السهم الذي رمى به النبي و الله أشدَّ إيلاما من أي سهم آخر كانت ابنتا الرسول رقية وأم كلثوم متزوجتين من ابنين لأبي لهب، فلما أعلن الا الله دعواه عارضه أبو لهب وقال لابنيه: فطلقا محمد إذا أردتما البقاء معي بنتيه الإصابة: باب أم كلثوم) وهذا يعني أن أقارب النبي أيضًا لم يتورعوا عن جرح مشاعره تجاه بناته التي تعتبر أشدّ مشاعر المرء حساسية.لقد كان هناك عم ربّى النبي ﷺ في صغره، وكان هذا العم "أبو لهب" قد عارضه وعذبه أشد العذاب فلم يرض إلا بتطليق بنتيه طلقا بنتي صلى الله أما الأصدقاء فتكون بينهم صداقة حميمة، ولكن من كان يُسلم بين أهل مكة كان يفقد أصدقاءه إذ كانوا يتخلّون عنه.كان العرب أصدقاء أوفياء جدا، فكانوا يضحون بأنفسهم من أجل الصديق عند الحاجة، ولكن أهل مكة أبغضوا النبي بغضًا شديدًا حتى لم يبالوا بصداقاتهم وتخلوا عن أصدقائهم الحميمين الأوفياء.كان عثمان بن مظعون له ابن أحد رؤساء مكة وقد تعرّض لأنواع الأذى نتيجة إسلامه، وفي الأخير خرج من مكة مهاجرًا، فلقيه في الطريق أحد أصدقاء أبيه

Page 767

الجزء الثامن ٧٦٧ سورة البلد الحميمين، وقال له : أين تذهب؟ قال: أهاجر من مكة لأن أهلها ظالمون.فاغرورقت عين السيد وعانقه وقال: كيف يمكن أن يتركها ابن صديقي هكذا؟ كلا، أنت في جواري منذ اليوم.ثم أتى به إلى الكعبة وأعلن عن حمايته له.وكان أهل مكة يراعون حق الجوار جدًّا، فلم يتعرضوا لعثمان بسوء بعدها.ثم جاء موسم الحج واجتمع الناس في منى كالعادة وجمعهم مجلس كان لبيد الشاعر الفحل الشهير ينشد فيه الشعر.فقال فيما قال: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"، قال عثمان: قد صدقت.فلما سمع لبيد شابًا يؤيده فيما قال استشاط غضبًا وقال لأهل المجلس: هل أنا بحاجة إلى تصديق شعري من أولادكم؟ ماذا حلّ بكم يا أهل مكة؟ فنظر القوم إلى عثمان شزراً وزجروه زجراً.ثم استأنف لبيد وقال: "وكل نعيم لا محالة زائل".فلم يلبث عثمان أن قال كذبت والله فإن نعيم الجنة لا يزول.فكاد لبيد يتميز غيظا وقال : لن أنشدكم الشعر بعد ذلك.فمال الناس إلى عثمان وأوسعوه ضربًا ولَكْمًا فقأوا إحدى عينيه.فقال له السيد الذي منحه الجوار: أيها السفيه ما دفعك إلى هذا الحمق حتى ضيَّعت عينك؟ فقال له عثمان: أنا لست بحاجة إلى جوارك منذ الآن.إنك تبكي على ضياع إحدى عيني! والله إن عيني الأخرى أيضا لتضطرب لِتُفقاً في سبيل الله.(أسد الغابة: عثمان فترى أن المسلمين لم تنفعهم صداقاتهم في مكة شيئًا، ولم ينصرهم صديق بعد "جريمة اعتناق الإسلام" بل صُوّبت إليهم السهام من قبل الأقارب والأصدقاء والمعارف الذين يرجو المرء منهم الحب والوفاء والأنس والوئام وحسن والمواساة في ساعات المصائب والآلام حتى ترك الأزواج زوجاتهم وانفصلت الزوجات عن أزواجهن، وقطع الآباء صلاتهم عن أولادهم، وقطع الأولاد علاقاتهم عن حتى من مظعون) ورس المعاملة آبائهم.ثم إن تعذيب المسلمين لم يكن من نوع واحد، بل صبت عليهم الفظائع من كل نوع وشكل؛ لقد ألقوا في الشمس في الرمال الحارقة، وربطت أرجلهم ثمّ سُحبوا في شوارع مكة على الحجارة والحصى كما يُسحب حيوان ميت، فكانت أبدانهم تُجرح وتنزف دما.لقد ضربهم الكافرون ضربا مبرحا، ووضعوا على صدورهم حجارة ثقيلة لينكروا وحدانية الله تعالى.وقد قتلوا كثيرًا

Page 768

الجزء الثامن ٧٦٨ سورة البلد منهم بالحراب، حتى لم يرتدع هؤلاء الظالمون عن قتل المسلمات بضربهن في فروجهن بالرماح.لقد صفدوهم بالأصفاد، وسبّوهم سبا فاحشا وطردوهم من الأوطان، واتخذوا كل طريق وحشي بشع لقتلهم.ففي بعض الأحيان ربطوا إحدى رجلي المسلم ببعير والأخرى ببعير آخر، ثم ساقوا البعيرين في اتجاهين مخالفين، وشقوه قطعتين بين هتاف الفرح والابتهاج (الإصابة في تمييز الصحابة: سمية بنت خباط، وتفسير الرازي فما من نبيه من إيذاء إلا وصُبَّ على المسلمين من قبل أهل هذه البلدة المحرمة، وإليه أشار الله تعالى بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ..أي يا محمد، ستجعل هدفًا لكل أنواع السهام في هذه البلدة المحرّمة نفسها.سوف تُرفع عليك كل يد، سواء كانت يد أم أو عم أو أي الأقارب الآخرين.وسوف يصوب إليك كل سهم.ثم انظروا كيف تضمن هذا القول الرباني الوجيز : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ نبوءة رائعة أخرى، وتفسيرًا لطيفًا لقوله تعالى ﴿لَيَالٍ عَشْرٍ..حيث أخبر النبي ﷺ أنك ستنزل في هذه البلدة في يوم من الأيام والواضح أنه ما كان للنبي ﷺ أن ينزل في مكة إلا إذا تركها أولاً ، إذا فبكلمة حل الوجيزة أخبر الله بالهجرة، مبينًا أنك ستتعرض للأذى في مكة حتى تضطر للهجرة منها.وهذا الأمر كان محيرا جدا في ظل تلك الظروف؛ إذ لم يكن مورد دخل أهل مكة عندها إلا الحجيج الوافدين كانوا يعيشون هناك كمجاورين لبيت الله فحسب، وكان واجبهم أن يدعوا الناس إليه لا أن يطردوهم منه.فمن ذا الذي كان بوسعه يومها أن يقول إن هؤلاء المجاورين سيطردون النبي وأصحابه من مكة في يوم من الأيام؟ هذا كان محالا حسب القياسات الإنسانية.فكما قلت: كان أهل مكة مجاورين للبيت، وكان عيشهم متوقفا على أن يفد الحجيج إلى مكة، فلم يكن ليخطر ببال أحد أن عداء الإسلام سيعميهم لدرجة أنهم يضطرون النبي وأصحابه إلى الهجرة من هناك.ولكن الله تعالى أخبر المسلمين سلفا أن هذا المستحيل سيقع حتمًا.تظنون أن أهل مكة لن يخرجوكم منها، ولكن كونوا على يقين أن ذلك اليوم قادم حين تضطرون للهجرة من مكة.وليس هذا فحسب بل صل الله

Page 769

الجزء الثامن ٧٦٩ سورة البلد سترجع يا محمد إلى هذه البلدة ثانية، بل هو خبر آخر وهو أن هذه البلدة التي ستخرج منها مع صديقك ستعود إليها مع ۱۰ آلاف من أصحابك فاتحا منتصرا.وكل هذه المعاني متضمنة في قول الله تعالى وَأَنْتَ حِلَّ بِهَذَا الْبَلَدِ.إذن، فبجملة واحدة أنبأ الله تعالى عن الهجرة، وعن فتح مكة أيضا.لقد أخبر بها عن طلوع الفجر الذي يلي الليالي العشر، وكذلك عن الفجر الثاني الذي يطلع بعد الليلة الحادية عشرة، والذي كان سيبدأ بغزوة بدر ليكتمل بفتح مكة.كما أخبر الله تعالى بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بهَذَا الْبَلَدِ أن عاقبة ظلمهم لن تكون خيرًا لهم.لو لم يرتكبوا هذه الفظائع فربما جئنا برسولنا في هذا البلد سلما، ولكنهم ظلموا وأحلوا بلد الله الحرام، ولذلك سنسمح لنبينا أيضا بأن يدخله بقوة السيف بعض الوقت، وستقع مسؤولية ذلهم وخزيهم على أنفسهم.ثم أخبر الله تعالى نبيه لله أنك الغاية وراء إنشاء هذه البلدة؛ بمعنى أن الأنباء منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قواعد الكعبة تشير إليك أنت، حيث أخبرنا منذ ذلك الوقت ببعثة نبي عظيم سيتلو على الناس آيات الله ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة..إذ دعانا إبراهيم اللي عندها قائلا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ (البقرة : ۱۳۰).إذا كانت هذه النبوءة تخص النبي ، وكان هو نفسه الغاية وراء إنشاء هذه البلدة، ولذلك يقول الله تعالى هنا كيف يمكن ألا تتحقق الغاية التي من أجلها تمت هذه الأمور كلها؟ كان تحقيق هذه الغاية ضروريا جدا، لأن قدوم إسماعيل ال إلى موقع مكة، وتوجه العرب إليها، وبقاءها محفوظة من أنواع الفتن ومن تأثير الأديان الأخرى..كل هذه كانت دلائل على أنك الغاية من هذه البلدة، وأن الله كان يريد أن يبعثك في الدنيا.كانت مكة واديا غير ذي زرع، ولم تكن الأمة الساكنة حولها متحضرة مهذبة، بل كانوا لصوصًا ظالمين لا يخضعون لقانون إنما كان شغلهم الشاغل القتال وسفك الدماء، ولكن عندما يقترب هؤلاء الظالمون اللصوص السفاكون من مكة كانوا يغمدون سيوفهم معلنين: هذا مكان لا يجوز فيه الحرب.ثم إن العرب كانوا فقراء يعيشون على الكفاف، كانوا محرومين من

Page 770

الجزء الثامن فأخذ ۷۷۰ سورة البلد تسهيلات كثيرة في الأكل والشرب.ولكن كلما طلع عليهم شهر ذي الحجة قصدوا مكة راكضين إبلهم خلال الفيافي والبراري الخالية من عشب أو ماء ليحجوا بيت الله الحرام.ثم إن الله تعالى قد حفظ مكة من كل الآفات والبلايا، وخيب كل عدو أراد الهجوم عليها.لقد زحف إليها أبرهة لهدم الكعبة، فأنزل الله عليه وعلى جنوده عذابا من السماء وخيبه في نواياه.فما أروعها من آية أظهرها الله تعالى لحماية مكة، مؤكدًا أن للبيت ربًّا يحميه! كان اليمن هو القطر الخصب العامر الوحيد في الجزيرة؛ فزراعته جيدة ومحاصيله وفيرة، وكان أبرهة حاكما عليه من قبل ملِكِ الحبشة، وكان عنده جيش كبير، فخرج بعشرة آلاف جندي ليدك مكة دكا، ولكن تفشى - بأمر الله تعالى - مرض الجدري في جيشه، جنوده الأفارقة يموتون واحدا بعد الآخر، لأن الجدري يفتك بالأفارقة فتكا شديدًا، فمن أصيب به منهم مات حتما.علمًا أن ثمة أمراضا تفتك ببعض الشعوب خاصة، فالجدري مثلاً فتاك بالأفارقة، والإسهال مهلك للأوروبيين.في بلدنا يخرج الفلاح الحراثة الأرض، فيلقاه صاحبه ويسأله عن حاله فيقول: الحمد لله أنا بخير فقط عندي إسهال.فهو لا يبالي بالإسهال مطلقا.أما الأوروبي فلو أصابه الإسهال طارت نفسه فزعا وأيقن أن أجله قد أتى.وأما الجدري فهو مدمّر للأفارقة، وإذا سمع أحدهم اسمه طار صوابه.وقد هيّأ الله تعالى من الأسباب ما جعل الجدري يتفشى في جيش أبرهة، فبث فيهم ذعرًا شديدًا.الواقع أن اقتحام مكة لم يكن صعبًا عليهم إذ جاءوا بالعُدّة والعتاد ولم يكن هناك جيش عَرَمْرَم يواجهونه؛ إذ كان أهل مكة عُزّلاً، ولكن ما إن تفشى الجدري بين هؤلاء الأفارقة ألقوا السلاح يائسين وعندما مات بعضهم، وقعت الفوضى في الجيش، فلاذ الجميع بالفرار مذعورين، وهلك معظم الجيش في طريقهم إلى اليمن، وهكذا خيب الله تعالى أبرهة في مسعاه، فلم يستطع مهاجمة مكة.لقد أشار الله تعالى إلى كل هذه الأحداث بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ...فقال عليهم أن يفكروا لماذا فعلنا كل هذا إنما فعلناه لتحقيق الدعاء الذي دعا به إبراهيم قائلا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ کر حتى

Page 771

الجزء الثامن وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۷۷۱ سورة البلد إذ كيف يمكن أن يظهر ذلك الموعود الذي كان الغاية من تأسيس هذه البلدة منذ ٢٥٠٠ سنة، فيخذله الله ولا ينصره؟ ولذلك قال لا أُقْسِمُ بهَذَا الْبَلَدِ « وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد..أي نقدّم كشهادة هذا البلد، وأنت غايته، لأن هذا البلد صار أعظم شأنا بوجودك فيه؛ إذ قد تجلت عظمته وجلاله على يدك في الحقيقة.إذن، فمفهوم هذه الآية كالآتي: مدعٍ يلقى أولا: نقدم كشهادة مكة التي سيتعرض فيها المسلمون لأنواع التعذيب..أي أن هذه البلدة نفسها ستكون دليلا ساطعًا على المؤامرات التي يدبرها معارضو الإسلام سرا، للمعارضة المنظمة المشار إليها في السور السابقة.قد يقال هنا إن الإنباء عن المعارضة أمرُ اجتهادي، لأن كلّ مد المعارضة، إذ لا يؤمن به الناس فور سماع كلامه بلا معارضة..إذ لا بد أن يخالف عقائد الناس، وبالتالي لا بد أن يلقى منهم المعارضة فكيف يقال إن الإنباء عن معارضة المكيين للنبي الله والمسلمين نبوءة عظيمة؟ ما دام محمد عرض عليهم أمرا جديدا فلا بد أن يعارضوه والجواب: ليس صحيحا أن كل مدّع يلقى المعارضة.لا شك أن من يدعي امتلاك متاع مادي ليس له في الواقع، فلا بد أن يعارضه صاحب المتاع، ولكن ادعاء المرء تلقى الوحي من الله تعالى لا يثير معارضة الناس بالضرورة.فمثلا لو ادعى المرء امتلاك بيت شخص اخر وحاول الاستيلاء عليه فلا شك أن صاحب البيت سيقاتله، ولكنه لو قال لغيره إني أتلقى الوحي من الله تعالى فلن يغضب هذا، وغاية ما يقول إنه فقد العقل ويهذي فمن الخطأ تماما الزعم أن كل من يدعي الوحي يلقى المعارضة حتمًا.فذات مرة كتب لي ظهير" الدين أروبي" الذي كان 11 11 يدعي بأنه المصداق لنبوءة "المصلح الموعود الشهيرة وقال لي ثائراً: إني أنشر الإعلانات والمنشورات ضدك منذ فترة طويلة، ولكنك لا ترد عليها بشيء! أنا لا أقول أن تصدّقني، ولكن لماذا التزمت الصمت؟ إذا كنت لا تستطيع فعل شيء فعارضني على الأقل.فكتبتُ له في الجواب أن المعارضة أيضا هبة ربانية، وهي من

Page 772

الجزء الثامن ۷۷۲ سورة البلد علامات الصادق.والله تعالى لا يريد أن يهبك هذه الميزة، فمهما تمنيت فلن يهبّ الناس لمعارضتك.فالواقع أن من الخطأ الزعم أن كل مدع يلقى المعارضة! إنها لا تتيسر بسهولة، لأنها هبة وفضل من الله تعالى.فالأحمدية مثلاً تلقى المعارضة في كل بلد في العالم، ولكن البهائية لا تواجه هذه المعارضة مع أن أهلها يؤمنون بنسخ القرآن الكريم، ويدعون الناس إلى شريعة البهاء.إن البابيين منهم فقط تلقوا في البداية المعارضة في إيران، ولكن سببها أنهم تدخلوا في الأمور السياسية.إن غيرنا المسلمين يرون ويعلمون كل هذا من قبل البهائيين ومع ذلك لا يعارضونهم، بل يعانقونهم، أما الأحمدية فحيثما ذكرتها قام الناس لمعارضتها.فثبت خطأ زعم المعترضين أن الإنباء عن المعارضة كان أمرًا قياسيا اجتهاديا من محمد بحجة أن إيذاء الناس له الا الله ولو لأصحابه كان حتميا.من ثم لو كان هذا الأمر مجرد اجتهاد فحسب، فلماذا لم يتنبأ النبي عن المعارضة خلال السنوات الثلاث بعد الدعوى؟ لماذا لم يخمّن في بداية الدعوة أن أهل مكة سيعارضونه بشدة؟ ران ثم إن المعارضة نوعان معارضة بدون إثارة ومعارضة بإثارة.ومثال النوع الثاني أن يخطط شخص لسرقة بقرة صاحبه أو الاستيلاء على بيته في يوم محدد، ثم بعد التخطيط ينبئ الناس أن فلانا سيقاتلني في يوم كذا، فقوله ليس من النبوءة في شيء، لأنه هو مَن سَبَّبَ هذا الفساد والقتال؛ لأنه خطط أولاً لإلحاق الضرر بالآخر، ثم أخبر الناس أن ذلك سيقاتله.ولكن أحدا إذا كان يعمل على الصلح بين الناس، ويعلمهم الحب والوئام فلا تُتَصوَّر معارضته.فقيام المرء بعمل يحرّض الناس على معارضته شيء، أما معارضة الناس لشخص مسالم فشيء مختلف تماماً.فإنك إذا حاولت الاستيلاء على بيت أحد فلا بد أن يقاتلك وبوسعك أن تخبر الناس عن وقوع هذا الفساد قبل موعده ولكنك لو كنت جالسا في بيتك بهدوء، وجاء الآخر وحاول الاستيلاء على بيتك، فكيف تعلم ذلك سلفًا وكيف تخبر الناس عن ذلك مسبقا؟ هكذا كان حال النبي ﷺ ومعارضيه.كان الرسول ﷺ يدعو إلى الصلح والوئام ومع ذلك قد شمر معارضوه عن سواعدهم وانبروا لمعارضته.ما هو

Page 773

الجزء الثامن ۷۷۳ سورة البلد الجديد الذي ظهر في المسلمين بعد ٣ سنوات من دعوى النبي حتى يهبوا للمعارضة؟ كانوا يصلون من قبل، ويدعون القوم إلى الصلاح والتقوى، ويعلنون أن الله ، أحد، وأنه المعين ،الحقيقي، وأن على الإنسان أن يتوكل عليه وحده ويسأله تعالى حاجاته، وأن الكفر باطل والإسلام حق.لقد قاموا بكل ذلك منذ البداية، هو الشيء الجديد الذي أتوه بعد هذه السنوات الثلاث حتى ثار المكيون؟ كلا، إنهم لم يُضيفوا عند السنة الثالثة إلى عقائدهم شيئا جديدًا أغضب الكفار ودفعهم إلى معارضتهم وإيذائهم.فثبت أن الله تعالى لم يخبر المسلمين في السنة الثالثة أنكم ستعارضون الآن، لأن الكافرين كانوا لا يعلمون عن دينكم واعتقاداتكم جيدا من قبل، وإنما سببه أن المسلمين كانوا يزدهرون باستمرار فأدرك الكفار أن مستقبلهم مهدد، وأن عليهم الآن فعل شيء.فما ولكن السؤال هنا: مَن ذا الذي منح المسلمين القوة بحيث شعر الكفار أن مستقبلهم مهدد؟ الجواب الوحيد الله تعالى، إذ ليس هذا بوسع البشر.فثبت أن نبوءة معارضة الكفار للمسلمين لم تكن أمرًا اجتهاديا أو قياسيا، بل كانت خبرًا من السماء أكده الكافرون بتصرفاتهم.غسا ثانيا: والشهادة الثانية في قوله تعالى (وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أنك ستصبح غرضا لكل سهم.وهذا ليس قولاً مبالغا فيه، بل كما بينت لقد تعرض النبي 鹦 (۳) بالفعل لكل أنواع الظلم فعلى سبيل المثال: (۱) مُنع من العبادة (۲) ضُرب شتم (٤) تعرّض للمقاطعة الاجتماعية (٥) مُنع من الطعام والشراب (٦) منع من التبليغ (۷) سُحب صحابته على الحجارة (۸) مُنع من الهجرة – إن الناس عندما يضربون أحدًا يقولون له اخرج من هنا، أما الكافرون فكانوا يضربون المسلمين ولا يسمحون لهم بالخروج من بينهم.فلما هاجر بعض الصحابة إلى الحبشة فرارًا من فظائع أهل مكة ذهب بعض رؤسائها إلى النجاشي وقالوا له : هؤلاء القوم عبيدنا الآبقون، فرُدَّهم إلينا.فأرادوا أن لا يَدَعوهم ينعمون بالراحة لا داخل مكة ولا خارجها - (۹) قتلوا المسلمات بطرق بشعة (۱۰) اتهموه بتهم باطلة، فسموه مجنونا حينًا، ومُغرضا حينا آخر وكذابًا تارة، وطامعا في الشهرة مرة أخرى،

Page 774

الجزء الثامن ٧٧٤ سورة البلد وكاهنًا مرةً، وسارقًا لتعاليم الصحف السابقة تارة أخرى.باختصار، ليس هناك إلا أطلقوه نحوه.سهم ثالثا: والمعنى الثالث لقوله تعالى وَأَنْتَ حِلَّ بهَذَا الْبَلَدِ أنك ستنزل في هذا البلد مرة أخرى.أي أن هذه البلدة ستقدّم شهادتين قويتين على صدق الإسلام: هجرة محمد الله، ثم عودته إليها منتصرًا.كان الأمران مستحيلين في الظاهر عندها، لأن أهل مكة عند نزول هذه السورة - إما أنهم كانوا لا يعتبرون النبي جديرًا بالالتفات إليه، أو أنهم كانوا يحترمونه، وفي الحالتين ما كانوا ليفكّروا في طرده من بينهم وليس هذا فحسب، بل إن النبي نفسه كان يعتبر طردهم له مستحيلا؛ ذلك أنه لما تلقى أول وحي رجع قلقًا إلى بيته وأخبر زوجته بما حصل، فأخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان عالما كبيرا بالتوراة، وذكرت له القصة.ثم إن ورقة نفسه سأل النبي عما حصل، فأخبره النبي بالتفصيل بما حصل معه في غار حراء، فقال ورقة: إنه نفس الملاك الذي نزل العلية 11 عیسی قد على موسى لا بأس لو ذكرنا هنا -ضمنيا- أن ورقة بن نوفل كان مسيحيا، وكان يدرس الصحف المقدسة بكثرة، فلو كان عيسى ال حامل شريعة كما كان موسى ا لما قال ورقة: إنه نفس الملك الذي نزل على موسى، بل لقال إنه نفس الملك الذي نزل على عيسى، أو قال لم ينزل عليك أي ملك، لأن جاء وهو المخلص الأخير للعالم ولا نبي بعده ولكنه ما إن سمع قول النبي ﷺ حتى قال: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نزلَ عَلَى مُوسَى..أي هو نفس الملك الذي نـزل السماء على موسى.ثم قال: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيَّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَأَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.فاستغرب النبي ﷺ من قوله، فمع أنه كان قد تلقى هذا الوحي إلا أنه قال له في حيرة: أومـ إلا أنه قال له في حيرة: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ (البخاري: كتاب بدء الوحي)..أي كيف يمكن أن يخرجوني منها وأنا مسالم أدعو إلى الصلح وأؤدي حقوق الجميع، وليس بيني وبينهم عداء، ولا أبغي لأحد شراً؟ إن أقاربي وأصحابي بوحي لا يزالون في مكة، فكيف يخرجني أهلها منها؟ ثم بأي جريمة يخرجونني منها؟

Page 775

الجزء الثامن VVO سورة البلد 110 x قول فما أوجزها من كلمات وما أكثر معانيها ! إن قوله : "أَوَمُحْر.هم وجيز جدا، ولكنه زاخر بما في قلب النبي من مشاعر وأحاسيس.إنه يعبر عما في قلبه من صلح وسلام وحب من جهة ومن جهة أخرى يبين مدى حب أهل مكة للنبي ، بحيث كان من المحال في بادئ الأمر أن يُخرجوا من بينهم إنسانا مثله.ولكن هذا ما حصل في نهاية المطاف، إذ أخرجوه رغم حبه للصلح والسلام وتحقق ما أنبأ الله تعالى به.تلك يقول المعترض إن الناس يبدون رأيهم قبل الأوان نظرا إلى الظروف ثم يسمونه نبأ وأنا أسأله أن يفكر في هذه النبوءة ويرى ما إذا كان بوسع أحد في الله الظروف - سوى عالم الغيب - أن يقول إن محمدا سيضطر للهجرة من مكة يوما ما.فما كان الرسول نفسه - ناهيك عن غيره - يتصور أن هذا ممكن.لقد ذهل بسماع هذا القول وقال: كيف يمكن أن أطرد من مكة؟ وما دام النبي نفسه لم يستوعب هذا الأمر فكيف يستوعبه غيره؟ ومع أن هذا الأمر كان محالاً في نظر النبي ، كما كان محالا بالنظر إلى أحوال أهل مكة في ذلك الوقت، إلا أن قول الله هذا قد تحقق بصدق وعدل واضطر النبي للهجرة من مكة نتيجة فظائع أهلها المروعة الطويلة.من كما كانت عودة النبي الله إلى مكة أيضًا مستحيلة بادئ الأمر؛ فمن ذا الذي كان يمكن أن يتصور عند خروجه مكة أن هذين الهاربين تحت جنح الليل سوف يدخلانها في يوم منتصرين مع جيش قوامه ۱۰ آلاف جندي، حتى يصبح كبار أسيادها تحت رحمة المسلمين ليعاملوهم كيفما شاءوا؟ كلا، ما كان هذا ليخطر ببال أحد ثم مَن ذا الذي كان يمكن أن يتصور يوم هجرته أن هذا الشخص المطرود من مكة سيعود إليها مع ۱۰ آلاف قدوسي أمام أعين هؤلاء الكافرين الذين يفرحون الآن أنهم قد نجحوا في محو الإسلام بطرده من بينهم، وسيقول لهم في هيبة وجلال: أخبروني كيف أعاملكم الآن، فيقولون: افعل بنا ما فعل يوسف بإخوته.غاية ما كان يمكن أن يقول بعضهم عند هجرته : للأسف لم نتمكن من قتله، ويقول بعضهم: نِعْمَ ما حصل، إذ تخلصنا هذا البلاء، لقد من

Page 776

الجزء الثامن ٧٧٦ سورة البلد من اختفى عن أنظارنا الآن، ولا يهمنا أحي يُرزق هو أم قد مات! لقد طردناه بلدتنا وانتهت القضية.ثم مَن كان منهم يتصور عندها أن هذا الشخص نفسه سيرجع إليهم كقائد منتصر؟ ثم من ذا الذي كان يمكن أن أنه السرعة؟ الواقع أن المرء إذا تدبر الأمر وجد أنها آية عظيمة حقا ترسم حياتهما من يتصور سيرجع لنا هذه وجود النبي البارئ وقدرته وجبروته.لقد هاجر من مكة مهاجران تحت جنح الليل خائفين على الكفار المصممين على قتلهما، ولم تمض ثماني سنوات حتى رجـ إلى مكة كقائد منتصر.لا يستطيع حتى الصعلوك أن يُعد عدته في ثماني سنوات، ولكن الله أخبر هنا أن محمدا الذي يهاجر من الذي يهاجر من مكة مع صاحبه تحت جنح الظلام - والذي قد جعل الكافرون جائزة كبيرة لمن يأتي به حيا أو ميتا – سيرجع إليها بعد ثماني سنوات كقائد فاتح بحيث يُدمَّر مجد قيدار (قريش) كله.وهذا ما حصل بالفعل؛ إذ دخل النبي مكة مرفرفا لواء فتح الإسلام عاليًا بتأييد الله ونصرته، وتحققت النبوءة الواردة في قوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ بكل عظمة وعلو شأن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.فترى كيف أن الله تعالى بنفسه وفي الأيام الأوائل للإسلام- فسّر الفجر الأول الذي بدأ بالهجرة والفجر الثاني الكامل الذي بدأ بغزوة بدر واكتمل بفتح مكة، مبينًا أن مكة ستقدّم شهادة أخرى على صحة أنبائنا حيث تنزل فيها مرة أخرى لتظهر على يدك آية عظيمة دالة على جلال الله وقدرته.رابعا: ثم يبين الله تعالى بقوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أن مكة ظلت محفوظة منذ زمن طويل، حيث كان أهلها وثنيين غافلين عن عن الدين ومع ذلك حفظهم الله أبرهة، ولكنها ستفتح بيد محمد ﷺ قسرا، فلا يكون دخوله فيها دليلا على صدقه فحسب، بل إن دخوله فيها قسرًا سيكون دليلا آخر على صدقه، إذ لو لم يكن محمد له الا الله ، صادقا ، فكيف أذِنَ الله له بدخول مكة قسرا؟ إن دخوله فيها بهذا الشكل كان تحقيقا للنبوءة المذكورة آنفا، كما كان دليلاً إضافيًا على صدقه إذ أجاز الله له ما لم يُجز لأبرهة.فعندما جاء هذا إلى مكة بجيشه العرمرم من

Page 777

الجزء الثامن الله دمره قوامه كما VVV سورة البلد مع جيشه، ولم يسمح له بدخول مكة، وحين جاءها محمد بجيش ۱۰ آلاف جندي..أذن الله له ولجيشه بدخولها.علما أن دخول النبي ﷺ في مكة إذا كان تحقيقا لنبأ، فإن دخوله فيها بحد السيف كان تحقيقا لنبأ آخر فلو أن أهل مكة قالوا للنبي ارجع إلى مدينتنا، فدخلها سلما لتحققت بذلك نبوءة واحدة فقط، ولكن دخوله يوم الفتح على ذلك النحو قد حقق نبوءتين؛ إذ لم يدخلها فحسب، بل دخلها مستحلاً حُرمتها ورد في النبأ.لم يسبق في تاريخ مكة الممتد إلى ٢٥٠٠ قبل النبي مثال واحد أن نجح شخص في فتحها عنوةً؛ لقد جاء أبرهة ليدخلها بالقوة، فدمره الله، أما محمد الله فقال الله له وَأَنْتَ حِلَّ هَذَا الْبَلَدِ..أي ستستبيح حرمة هذا البلد، وسوف تفتحه بحد السيف.لا شك أن أهل مكة يؤمنون أن لا أحد يقدر على فتحها عنوة، ولكنا نعدك أنا لن نرجع بك إليها فحسب، بل نرجع بك بحد السيف لكي نبطل عقيدتهم هذه، ولكن ليس لأن مكة ليست محمية من عندنا، بل ليعلم الناس أنني أنا الذي قمت بحمايتها من قبل، وأنا الذي جئت بمحمد إليها بقوة السيف الآن.خامسًا: والمعنى الخامس لقوله تعالى (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ أننا نقدّم هذا البلد شهادة على ما سبق من أمور حال كونك الغاية من تأسيس هذه البلدة..بمعنى أننا نخبر العالم أنه ما دام الظهور المحمدي غاية تأسيس هذه البلدة من أول فكيف يوم، ظن الناس أن الله تعالى ينسى هذه الغاية التي لم يزل يُعِدُّ الناس لها منذ قرون، ولا يحققها؟ إذا كان الله تعالى قد جعل مكة مثابة للناس في وقت لم يتم تتويجها بتاجها بعد، وإذا كان الله تعالى يهيئ الرزق لأهلها..وإذا كان الله تعالى قد جعلها بلدة كبيرة، وإذا كان الله تعالى قد حماها من غارات الأمم، فكيف يمكن أن تنقطع هذه الآيات حين جئت وأنت تاجُها وغايتها؟ كلا، بل ستظهر الآيات الآن أكثر من ذي قبل، وستتحقق الآن النبوءات التي لن تكون آية حية على صدقك فحسب، بل ستزيد مكةَ عزا وشرفًا، وستهيئ للعالم شهادةً قوية على صدق كلام الله تعالى،

Page 778

الجزء الثامن VVɅ سورة البلد لأنك غاية مكة وتاجها وموعودها الذي لم تزل تشير إليه أحداث التاريخ بالبنان منذ آلاف السنين.فالآن بعد ظهورك ستتجلى آيات الله تجليا غير مسبوق.باختصار: قد شرح الله تعالى بكلمة وجيزة وَأَنْتَ حِلَّ بِهَذَا الْبَلَدِ الليالي العشر، ثم الفجر الأول الذي يليها، ثم الفجر الثاني الذي طلع عند انتهاء الليلة الحادية عشرة بيوم بدر وانتهت بفتح مكة.يمكن تقدير مدى استغراب الكافرين من دخول النبي مع أصحابه في مكة منتصرا من حيث إنهم كانوا يأملون أن يرجع إليهم أبو سفيان بعد قليل بعد عقد معاهدة جديدة مع محمد.لقد ناموا هادئين بأمل أن أبا سفيان آتِ إليهم برسالة أمن، وبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم في منتصف الليل يحث حصانه وهو يعلن بصوت عال: إن محمدا زاحف إلى عشرة آلاف من صحابته، ولكني أبشركم أني قد أخذتُ لكم عهدًا بالأمان، فمن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن لم يخرج لمقاومة المسلمين فهو آمن أيضا، أما من خرج من بيته وحاول مقاومتهم بالسيف فهو مسؤول عن (سيرة ابن هشام قصة إسلام أبي سفيان على يد العباس.فشتان بين الحالتين! لقد ذهب أبو سفيان من قبل مكة كسفير من أجل الصلح ورجع ليقوم بهذا الإعلان مكة مع بين القوم.نفسه.ثم دخل خالد مكة بفرقته من جانب، ودخل الزبير وسعد بن عبادة بفرقتيهما من جانب آخر، وأما النبي ﷺ فدخلها بدون أي جيش ولا أُبهة من جانب ثالث.لم يكن دخوله مكة منفردًا أمرًا عاديا، إذ كان أهل مكة يدركون أن دخوله مكة وحيدًا بدون جيش أعظمُ وأروعُ من دخوله مع الجيش آلاف المرات.ذلك لأنها رغم كونه وحيدا كان يقول بلسان حاله لأهل مكة: ها إني أدخلها بدون جيش، ولكن حذار أن ينظر إلي اليوم أحد نظرة سوء، لأن ملائكة الله يحفظوني عن يميني وعن شمالي، وقد جئتكم برسالة توبة فإن شئتم فاقبلوها وانضموا إلى الله تعالى وإن شئتم فكونوا فريسة لسيوف هؤلاء الملائكة الذين يدخلون جنود مكة عن يمينها وعن شمالها.

Page 779

الجزء الثامن ۷۷۹ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) سورة البلد الصلحاء التفسير : قال ابن عباس : المراد من قوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ كُلٌّ ذي حياة.وقال مجاهد : المراد آدم وكل أولاده.وقال البعض: المراد منه جميع وأولادهم.وقال آخرون: المراد منه نوح نوح اللة وأولاده.وقال أبو عمران الحوفي: المراد منه إبراهيم الله وكل أولاده.وقال الطبري والماوردي: الوالد هو رسول الله، وما ولد هو أُمتُه، لأن رسول الله أمته، لأن رسول الله الله قال : أنا لكم بمنزلة الوالد، وقال الله تعالى في القرآن الكريم وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (الأحزاب :۷)؛ فما دامت أزواجه ومن برسوله أمهات المؤمنين، فهو أبوهم.وقال صاحب البحر المحيط: لقد أقسم الله هنا وبأمته تشريفا لهم (البحر المحيط).لقد بينتُ مرارًا أن المراد من القسم: الشهادة..حيث يقدم الله تعالى تلك الأشياء في حالتها العامة أو في حالتها الخاصة شهادة على صحة بعض الأمور..أي أنه تعالى يقدّم ما في أحوال تلك الأشياء من دروس شهادةً على صحة ما يقول، الأمثلة على تقديم شهادة هذه الأشياء في حالتها الخصوصية أن الله تعالى قال هنا: أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ..أي نقسم بهذا البلد في حالته الخاصة أي حين تكون حلاً فيه.فالقول إن الله تعالى قد أقسم هنا تعظيما لأمة الرسول قول عبث، إذ لا يقسم أحد بشيء تكريمًا له هل يقول أحد لغيره: إني أقسم بك لأني أكرمك؟ هذا ليس أسلوب العربية ولا أي لغة أخرى.الواقع أن المفسرين لم يدركوا حقيقة القسم، ولذلك قالوا إن القسم هنا للتكريم.لا شك أن ذكر في القرآن سواءً من أجل الشهادة على شيء أو تخليدا لحسناته، فقد حظي بالتكريم ولكنه أمر ضمني لأن القسم ليس هدفه التكريم.نعم حين يُقسم بشيء فقد تم تكريمه لو كان جيدا، ولكن ليس الغرض من القسم التكريم، إنما التكريم من نتيجة طبيعية.وعندي أن المراد من قوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ هما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام نعلم من القرآن الكريم أن للكعبة المشرفة ومكة المكرمة علاقة خاصة

Page 780

الجزء الثامن ۷۸۰ سورة البلد بإبراهيم وابنه إسماعيل، وإذا ذكر شيء من غير تحديد، فالأولى نسبته إلى ما هو مذكور في السياق.وحيث إن الموضوع قبل هذه الآية عن مكة، فيجب أن نبحث عن والد ومولود لهما علاقة خاصة بمكة.ويخبرنا القرآن الكريم نفسه أن إبراهيم ال وضع أساس الكعبة وأسكن إسماعيل العلة في مكة داعيًا أن ربه يجعل هذا المكان بلدا عامرا وآمنا وأن يجعل أفئدة الناس تهوي إليه، وأن يرزقهم من الثمرات، وأن يوجد فيه أناس يذكرون الله وينذرون حياتهم في سبيله.هذا ما دعا به إبراهيم مع إسماعيل عليهما السلام.ثم إنه كان قد جاء بإسماعيل وهو طفل صغير إلى مكة، حين لم يكن بها شيء للأكل والشرب بل كان واديا غير ذي زرع، وقد تركه هنالك متوكلاً على الله تعالى وموقنا بوعوده.وإننا لا نجد قبل بعثة النبي ﷺ والدا له علاقة بمكة إلا إبراهيم العل، ولا نجد قبل بعثته ولدًا يمكن أن يخطر بالبال إلا إسماعيل الا هذا أمر واضح جلي بحيث لا يمكن أن ينكره حتى من ينكر القرآن.وما دام هذا الأمر واضحا كل هذا الوضوح فأي مشكلة في تحديد الوالد والولد المذكور في هذه الآية؟ عندما يُستخدم لفظ نكرة بغير تحديد فإنما يراد به أحد معنيين: إما أنه يكون لفظا عاما يشمل كل فرد من جنسه، أو يكون معروفًا بحيث يعرفه الناس على الفور بحيث لا يحتاج إلى أي تحديد فمثلا إذا قلنا كلمة (يوم)، فإما المراد منه كل يوم، أو المراد منه يوم ذو تأثير كبير في حياتنا بحيث يتبادر إلى ذهننا فورا، ولا يراد به أي معنى آخر.وهذا الأسلوب رائج في كل لغة فصيحة.لذا فأرى أن تفسير قوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ بالصلحاء وأولادهم، أو نوح وأولاده..خلاف العقل.ومن أما القول إن المراد منه هو إبراهيم الله وأولاده، فهو قول معقول، غير أني أرى أن المراد من وَمَا وَلَدَ هو إسماعيل الله فقط لا كل أولاد إبراهيم ال.الحقائق التي لا يسع العلمية أحدا إنكارها أن إبراهيم اللي هو مؤسس مكة ورافع أساس الكعبة.فإذا ذكرنا والدًا وولدًا في سياق مكة من دون أي تحديد، فلن يتبادر إلى ذهن أي عاقل إلا إبراهيم وإسماعيل اللذين أسسا الكعبة.فمثلا يقول الناس في بلدنا يا مَدَني..ومع أن هذه الكلمة في حد ذاتها لا تحدد شخصا واحدا من بين

Page 781

الجزء الثامن ۷۸۱ سورة البلد ملايين الناس الذين عاشوا في المدينة المنورة، إلا أنه كلما استخدمها أحدنا تبادر إلى الذهن فورا أنه لا يعني بها كل من يقيم أو أقام في المدينة، بل يعني بها ذلك الإنسان المقدس الذي عاش في المدينة والتي عظمت المدينة بسببه.إن كلمة "مَدَني" يستخدمها الناس في بلدنا يوميا ولا سيما الشعراء البنجابيين الذين كلما قرضوا شعرا في مدح النبي خاطبوه بها، ولا تنتاب أحد شبهة في ذلك، ولا يقول إنها كلمة نكرة وقد يراد بها كل من يقيم في المدينة، بل يعرف الجميع أنها رغم كونها نكرة تشير إلى ذلك الإنسان المعروف الذي لا يمكن أن يُنسب أحد إلى المدينة أكثر منه.فكما أن كلمة "مَدَني" تعني الرسول..فكذلك كلما ذكر مع مكة والد ومولود فيراد بهما إبراهيم وإسماعيل العليا فقط لا غير.والجدير بالتدبر هنا أن الله تعالى قد ذكر هنا الوالد والمولود معا.فما الحكمة في ذلك؟ لماذا لم يذكر الله تعالى الوالد فقط، أو المولود فقط؟ ذلك أن هنالك والدا ومولودا أسسا الكعبة، ثم تسببا في هداية الناس.لم يقم بهذا العمل الوالد وحده ولا الولد ،وحده بل اشتركا فيه معًا، ولذلك ذكرهما القرآن معًا و لم يذكر أحدهما فقط.فأرى أن الواقعة التي تنطبق على هذه الآية بكل جزئياتها هي الأولى بالأخذ عند التفسير، وعليه فستعني هذه الآية والتي قبلها إننا نقدم هذه البلدة كشهادة وأنت حلّ بها، وكذلك نقدم كشهادة إبراهيم وإسماعيل اللذين أسسا هذه المدينة.أما جواب القسم أو الأمرُ المشهود عليه فقد قال المفسرون أنه مذكور في قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (البحر المحيط).وعندي أنه رأي سليم، وأن قوله تعالى بعدها لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ جواب قطعي ويقيني لهذا القسم.ولكن فيما يتعلق بالآيات كلها، فأرى أن هذا جواب ثانوي، لأن الجواب الحقيقي للقسم هنا هو نفس ما ذُكر في السور السابقة، والدليل على ذلك أن الله تعالى قد استخدم هنا قبل القسم لفظ (لا)، وفي هذه الحالة لا بد من قرينة لتحديد المعنى.لا شك أن الله تعالى لم يذكر الأمر المنفي بعد كلمة (لا)، ولكن لا بد من قرينة في الكلام الفصيح لتحديد المنفي بـ (لا).

Page 782

الجزء الثامن ۷۸۲ سورة البلد • والقرينة القريبة هنا هي الإشارة إلى ما سبق فما أشير إليه في (لا) هو المشار إليه بالقسم أيضا.وأرى أن هناك جوابا للقسم محذوفا هنا، وهو الجواب الأصلي.وقد ذُكر من قبل، ولذلك حذفه الله هنا وعليه فالمعنى: أننا نحن نقدم هذه البلدة في حالة كونك حلاً بها، ونقدم إبراهيم وإسماعيل كشهادة على أن ما ذُكر في الآيات السابقة لواقع حتما..أي أن محمدا لله سيتعرض لمعارضة شديدة حتى يضطر للهجرة، ولكنه سينتصر في نهاية المطاف، إذ سيأتي به الله إلى هذه البلدة منتصرا.وكل هذا سيحدث حتما؛ وكذلك نقول أيضا: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ.وهكذا يُعتبر هذا القول الرباني جوابًا ثانيًا للقسم يأتي تفصيله في وقته، ويقال إن الله قد قدم هنا دليلا عقليا إضافيا يؤيد الشهادة السابقة.أما إذا اعتبرنا أن قوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ هو نفسه جواب القسم فلا بد لنا من القول أيضا إن حرف (لا) في قوله تعالى لا أُقسم بهذا الْبَلَدِ جاء دحضًا لأفكار البعض التي أبطلها الله بقوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ في كبد..حيث يظن بعض الناس أنهم سينالون الرقي بسهولة ويسر بدون أن يقدموا أية تضحية وبدون أن يحرّكوا ساكنا، فلا يهتمون بإكرام الضيف وإطعام المسكين وغيرهما وغيرهما من الأمور.فيقول الله تعالى إنها فكرة باطلة أيها الناس، إذ ليس صحيحا أنكم ستنالون الرقي على مستوى الأمة بسهولة ويسر وبدون أن تحركوا ساكنا كلا بل الحق أن التقدم محال بالإعراض عن المسؤوليات سواء كانت أخلاقية أو دينية أو سياسية، إذ قد خلقنا الإنسان بحيث يحرز التقدم بالجهد والمشقة، ونقدّم مكة..وأنت حِلّ بها..وكذلك إبراهيم وإسماعيل دليلا على صحة هذا المبدأ.لقد سبق أن فسّرتُ جزءًا من هذه الآيات وقلتُ إن لفظ (الحِلّ) له عدة معان في العربية، وبحسب هذه المعاني كلها تمثل مكة دليلاً قطعيًا على أن محمدا رسول الله له قد بعث الإصلاح أهل هذا الزمان.كذلك بينتُ لدى تفسير (ليال عشر) نوعية الإيذاء الذي صبّه المشركون على المسلمين في مكة.كما بينت كيف يطلع الفجر من عند الله تعالى وكيف تُكسر شوكة الكافرين.وهذه الأحداث كلها

Page 783

الجزء الثامن بني ۷۸۳ سورة البلد تشكل جوابًا للقسم هنا، وكأن الله تعالى يقول: إن فظائع المكيين تقتضي أن يخرج الله محمد الله من مكة ،أولاً، ثم يعود به إليها منتصرا، ليؤكد أنه تعالى هو من قد بعثه لهداية الناس، وأنه لا نبي حق وسينتصر حتما والآن بعد ذلك يقول الله تعالى هنا وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ..أي نقدّم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام- أيضا كشهادة، وبيانها أن إبراهيم عندما رفع مع إسماعيل قواعد البيت بمكة دعا الله تعالى قائلا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: ١٣٠).لا شك أن شهادة الولد لم تذكر هنا، ولكن ما دام الاثنان قد رفعا قواعد الكعبة معا، فيعتبر إسماعيل شریکا مع إبراهيم في الدعاء، كما هو واضح من صيغة الجمع ربنا.والدليل الآخر على أن إسماعيل كان شريكا في هذه الشهادة تلك الأدعية الطويلة التي دعا بها إبراهيم العليا لما الكعبة ومعه إسماعيل عليهما السلام والظاهر أنه قد دعا بها لإسماعيل وأولاده، إذ يقول رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (إبراهيم: ۳۸).فأولاً : كان إسماعيل شريكا مع إبراهيم - عليهما السلام في دعائه لبعثة نبي في مكة لأنه قام بهذا الدعاء عندما مستعينًا بإسماعيل.وثانيا: كان إسماعيل شريكا في تلك الأدعية من حيث إن إبراهيم قد دعا لتتحقق هذه الوعود في نسل إسماعيل، ولذلك ذُكرت شهادة الوالد والولد معًا هنا، فقال الله تعالى إننا نقدم والدا ومولودا كشهادة على صدق محمد رسول الله.تعلمون أن إبراهيم دعا ربَّه لبعثة رسول في نسل إسماعيل، وإذا كانت تلك الأدعية لم تتحقق بعد في رأيكم، أفلا يدل ذلك على كذب إبراهيم؟ ثم انظروا إلى إسماعيل فإنه قدم تضحية كبيرة، فقال إني مستعد للتضحية بحياتي في سبيل الله، فأقيم في واد غير ذي زرع حسب أمر الله تعالى.لقد استعد للموت المحقق والمريع في سبيل الله تعالى، وقد فعل ذلك لتتحقق وعود الله تعالى المتعلقة بهذا المكان المبارك عن طريق نسله.أفلا يكون العلا كاذبا لو لم يولد هذا الشخص الذي كان غاية مكة وهدفها؟ لا شك أن التضحية الزائفة هي التي لا تأتي بنتيجة، أما التضحية بنى الكعبة

Page 784

الجزء الثامن ٧٨٤ سورة البلد الصادقة فلا بد أن تأتي بثمارها، وإذا كانت تضحية إسماعيل صادقة ولا يمكنكم إنكار ذلك فلا بد لكم من الاعتراف أنه لا بد من أن يُبعث إنسان كامل، كثمرة لهذه التضحيات.وإذا كنتم تنكرون ظهور إنسان كامل في نسل إسماعيل كثمرة دعاء إبراهيم فمعنى ذلك أن تضحيتهما لم تكن مقبولة عند الله في رأيكم! لو كانا قد قدما تضحيتهما بتقوى الله فكيف يمكن أن يضيّع الله تقواهما ولا يأتي بثمار تضحيتهما.باختصار لا بد لكم من الاعتراف بأحد الأمرين؛ إما أن تعترفوا أن أدعية إبراهيم قد ضاعت سدى وأن تضحية إسماعيل أيضا لم تأت بثمر، أو تقرّوا أن تضحيتهما كانت صادقة وأن الثمر الذي تقتضيه قد ظهر فعلا في الدنيا، وهو محمد لأنه الوحيد الذي ادعى بهذا المنصب بعد انقضاء هذه الفترة الطويلة كلها.فإذا قبلتم الأمر الأول فلا بد لكم من تكذيب إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام - وإذا قبلتم الأمر الثاني فلكم أن تعلنوا صدقهما.ولكنكم تصدقونهما ومع ذلك تكذبون محمدا رسول الله الذي هو ثمرة دعاء إبراهيم، وثمرة تضحية إسماعيل.إذا كنتم تكذبونه فلا بد لكم من تكذيب إبراهيم وإسماعيل، وإذا كنتم تصدقونهما فلا بد لكم من تصديق محمد ، لأن الأمرين متلازمان.إذا ثبت صدق محمد ال ثبت صدق إبراهيم ال، وإذا لم يثبت صدق محمد لم يثبت صدق إبراهيم ولا إسماعيل.عندما قدم إسماعيل الله نفسه للتضحية وعده الله تعالى أن يرزقه أولادا روحانيين يحيون العالم كله وأن يهب أسرته كلها حياة أبدية نظير الإقدام على هذا الموت الواحد فإذا لم يقدم إسماعيل نفسه بصدق نية من القربان الظاهري أولاً ومن خلال الإقامة في واد غير ذي زرع (مكة) ثانيا، فلا يمكن أن يولد في نسله ذلك الولد الخاص.أما إذا كان صادقا في تضحيته فلا بد أن يكون في نسله من يهبون الحياة الروحانية للعالم.فالحق أن صدق إبراهيم وإسماعيل صل خلال متوقف على صدق محمد رسول الله ، وهذه هي الحقيقة التي ذكرها الله تعالى أمام كفار مكة بقوله وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ..أي أنكم تصدقون إسماعيل وإبراهيم، والغريب أنكم تكذبون ذلك الشخص الذي يتوقف عليه صدقهما.تعترفون أن إبراهيم دعا لبعثة ،رسول وعندما بُعث ذلك الرسول نتيجة دعائه كذبتموه..

Page 785

الجزء الثامن ۷۸۵ سورة البلد وتقرون أن إسماعيل حين قدّم التضحية قطع الله مع إبراهيم وعودا في حق أولاد إسماعيل وقال إنه تعالى سيُخرج من نسله إنسانًا يزكي العالم كله، فلما ظهر هذا الابن الروحاني كفرتم به.لقد كفرتم بمحمد ﷺ في الظاهر، ولكنكم في الواقع قد كفرتم بإبراهيم وإسماعيل، لأنه الا الله هو الموعود الذي يشهد على صدقه النبيان.إن إبراهيم يشهد أن محمدا لله ، صادق ، وإن إسماعيل أيضًا يشهد أن محمدا صادق، ولكنكم تسلكون مسلكًا معارضًا تماما للغاية التي دعا لها إبراهيم وقدم من أجلها إسماعيل تضحيته.قد يقول قائل هنا : إن معارضة أهل مكة لمحمد لها لم تكن تهدف إلى عدم تحقق ما أراده إبراهيم وإسماعيل، وإنما عارضوه لأنهم كانوا على يقين أن دعاء إبراهيم سبق أن تحقق من خلالهم أنفسهم..ولم يدعوا تضحية إسماعيل بلا ثمر، إذ يعبدون اللات ومناة ،والعزى وهذا ما كان إبراهيم وإسماعيل يدعوان إليه !! إذا كانوا يعارضون محمد الهلال الاول و فذلك لأنهم رأوا أن كل ما دعا إبراهيم من أجله قد تحقق من خلالهم، فلا حاجة الآن أن يأتي أحد ويقول إنه نتيجة دعاء إبراهيم وثمرة تضحية إسماعيل.إن أدعية إبراهيم قد تحققت من قبل في أنفسهم وإن غاية تضحية إسماعيل أيضا قد تحققت من خلالهم.لقد حققوا الغاية التي كان يصبو إليها إبراهيم وإسماعيل وهم يؤمنون بعقائدهم ذاتها، فإذا كان محمد يستاء منها، ويستاء من عبادتهم للات ومناة والعزى فهذا شأنه ما دام هذا هو تعليم إبراهيم وإسماعيل كليهما وهذا هو هدف بعثتهما فلا يضرهم شيئا إذا اتهمهم محمد أنهم اعتبروا دعاء إبراهيم عبئًا أو أغمضوا النظر عن هدف تضحية إسماعيل.ولهذا الاعتراض جوابان :أولا لا شك أن أهل مكة كانوا يعبدون اللات ومناة والعزى وغيرها، ولكن لم يوجد بينهم فرد واحد يدّعي أن إبراهيم أو إسماعيل أيضًا كان يعبد الأصنام.وهذا دليل رائع هيأه الله على صدق الرسول ﷺ لم يجرؤ أي من أهل مكة أن يزعم أن إبراهيم أو إسماعيل قد تورط في الشرك.وحيث إنهم لم يكونوا ينسبون الشرك إليهما حسب عقيدتهم، فما كان بوسعهم أن يدعوا أنهم قائمون بالتعاليم التي تحقق هدف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

Page 786

الجزء الثامن جدا من ٧٨٦ سورة البلد وثانيا: لا شك أن أمر الدين مطروح للنقاش دائما، وتكون بهذا الصدد اختلافات كثيرة.وبغض النظر عن الاختلافات الدينية الكثيرة بينهم وبين الرسول فلا يمكن لأحد إنكار حقيقة أن أهل مكة كانوا يؤمنون أن الدعاء الذي دعاه إبراهيم عند تأسيس الكعبة كان لا بد أن يتحقق، ولكن ما كان بوسعهم - نظرًا إلى حالة مكة عندها - الادعاء أن مكة مصداق لدعاء إبراهيم؛ ذلك لأنه كان قد دعا الله تعالى أن يجعلها مثابة للعالم كله كان بوسعهم أن يدعوا أنهم على الحق، أو أنهم إذا كانوا يشركون باللات ومناة والعزى فلا بأس في ذلك، لكن هل كان أن يدعوا أن الجزيرة العربية صارت مركزا للعالم كله تحقيقا لدعاء بوسعهم إبراهيم؟ كانوا يرون بأم أعينهم أن هذا الأمر لم يتحقق بعد، وأن مكة لم تحظ بعد بذلك التكريم الذي دعا إبراهيم من أجله عند بناء الكعبة.كان أهل مكة بسطاء الناحية المادية ولم تكن مكانتهم بين العرب مرموقة جدا، ناهيك أن يحظوا بإكرام خاص في العالم الخارجي! كلا ما كان بوسعهم أن يدعوا أنهم يتمتعون بنفوذ وهيبة على باقي العرب، دعك من القول أنهم كانوا بالفعل مصداقا لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فكانوا مضطرين للاعتراف أن مكة ستكتسب المزيد من العظمة والشأن من الناحية الروحانية، إذ لا يزال هناك شوط كبير حتى تصبح مكة مركزا للعالم ويفد الناس إليها من أطراف الدنيا كلها.يا تتمتع بالعظمة الحالية قبل الإسلام؟ لا شك أن العرب كانوا يأتون إلى مكة للحج، ولكن لم يكن أهل كل بلد وقطر من العالم يقصدونها للحج.يمكن أن تسمّى مكة عندها مركزا لبلد ،واحد ولكنها لم تكن مركزا للعالم أجمع، بينما كان إبراهيم ال قد دعا الله تعالى أن يجعلها مركزا للعالم كله، وأن يجذب الناس إليها من كل أنحاء المعمورة.فشتان بين حالة مكة عندها وبين ما دعا به إبراهيم من أجلها كان واضحًا أنها لم تحز بعد على مكانتها اللائقة، وأن دعاء إبراهيم الا لم يتحقق بعد، وأن تضحية إسماعيل اللة لم تثمر بعد، وأن مكة لم ترى متى كانت مكة تتمتع بعد بتلك المكانة المرموقة التي ستتمتع بها عندما تصبح مركزا للعالم كله.

Page 787

الجزء الثامن VAV سورة البلد فثبت أنه ما كان بوسع أهل مكة أن يدعوا أن دعاء إبراهيم اللي قد تحقق.كانوا يعرفون أنها لا تتمتع من قبل العالم الخارجي بمكانتها اللائقة، وإن كان العرب يأتونها للحج.كتب النبي لحاشيته : يبدو وهناك شواهد تاريخية تدل على مدى احتقار الشعوب الأخرى للعرب.فلما النبي رسالته إلى قيصر يدعوه فيها إلى الإسلام، تأثر منها كثيرا وقال أن صاحب هذه الرسالة إنسان شجاع جدا، يجب أن نعلم من الناس أحواله هويّته ودعواه ومصيره بعد الدعوة؛ فابحثوا عن أي أناس من أي أناس من مكة وأُتوني بهم لأسألهم عنه.ولأن الله تعالى كان يريد إقامة الحجة على أهل مكة فقد وُجد أبو سفيان بالصدفة هنالك مع قافلته التجارية، فأتوا به إلى قيصر.ومع أن أبا سفيان كان قائد أهل مكة وسيدهم، إلا أنه لم يُعرض على قيصر بصفة ملك، ولا حاكم ولاية ولا قائد عسكري لحكومة أخرى، بل عُرض عليه كأنه محرم، إذ قال قيصر لأصحاب أبي سفيان: سأسأل صاحبكم أسئلة، فإن صدق فيها فاصمتوا، وإنْ كذب فكذبوه فورا (البخاري: كتاب بدء الوحي) كم كان كبيرًا هذا الخزي الذي تعرض له أبو سفيان في بلاط قيصر! كان ملكًا على مكة، وزعيما لقومه، وكان يقابل النبي كسيد قومه، ولكنه لما عُرض على قيصر لم يعامله كملِكِ دولةٍ ولا حاكم ولاية ولا كقائد عسكري للشعب العربي؛ ذلك لأن قيصر لم يكن يعتبر بلاد العرب دولة ولا ولاية إزاء إمبراطوريته، ولا العرب شعبًا ذا نظام ولا أبا سفيان قائدهم؛ فلم يستقبله استقبال الملوك، بل لم يقدم له كرسيا للجلوس، بل لم يسمح له بالجلوس على الأرض، وإنما أمره أن يقف أمامه معتبرا إياه تاجرا عاديا.هذا كان قرار قيصر بشأن أبي سفيان وبشأن البلدة التي كان يمثلها.أما أبو سفيان فكان قراره أكثر غرابة؛ فعندما تلقى معاملة المجرم في بلاط قيصر لم يحتج على ذلك بكلمة واحدة لو كان يعتبر مكة دولة ويعتبر نفسه رئيسها حقا، فلا بد يحتج ويقول لقيصر : أنا رئيس دولة فيجب أن أعطى مكانة مماثلة لك، ولكنه أن رضي هذا الضيم بصمت.

Page 788

الجزء الثامن ۷۸۸ سورة البلد ثم إننا نرى أنه لما عُرضت رسالة النبي على قيصر قال لحاشيته: إن محمدا يدعوني للإيمان به، فما رأيكم؟ فارتعب أبو سفيان برؤية ذلك المشهد وقال كيف يبعث محمد رسالة إلى قيصر ، ثم قال لأصحابه : لقد أَمِرَ أَمرُ ابن أبي كَبْشَةَ! (البخاري: بدء الوحي)..أي لقد استفحل أمر محمد يراسل قيصر، برسالته.كان أبو سفيان مَلِكَ قومه في الظاهر، ومع ذلك تأخذه أن محمدا يبعث رسالة إلى قيصر.فلو كان أبو سفيان ملكًا حقيقيا لم فيهتم هو الحيرة من يتعجب من أيضا ذلك.ولو قيل إنه لم يتعجب من أن يراسل محمد الله الله ، قیصر ، بل تعجب من تأثر قيصر برسالتها ، فهذا يدل أيضا على حقارة شأن المكيين عند أنفسهم.لو كان عجب أبي سفيان من مراسلة الرسول الله الله القيصر فهذا يدل على حقارة شأنه أيضا، وإذا كان يفكر أننا أمة بسيطة ولا عزة لنا بين شعوب العالم، وقد ولد بيننا الآن محمد الذي يرتعب منه قيصر، فهذا دليل على اعتراف أهل مكة بأن دعاء إبراهيم العلي لم يتحقق بعد لو كان دعاؤه اللي قد تحقق ولو كان العرب يرون أن مكة قد تبوءت مكانة غير عادية في العالم، فما هو دليلهم على ذلك؟ فهل دليلهم أن مَلِكَهم أبا سفيان حضر في بلاد قيصر فعامله بهذا الاحتقار؟ أم هل كان بيد رؤساء مكة الآخرين مثل عتبة وشيبة أي دليل على عظمتهم وسلطتهم القومية؟ أما احتقار الشعوب الأخرى للعرب فهو واضح مما قاله كسرى الفرس للمسلمين، حيث عرض عليهم حين زحفوا إلى مُلكه أن يأخذ كل منهم ويرجع؛ فترى أنه كان يعتبر العرب شعبًا حقيرًا بحيث ظن أن قيمة المقاتل العربي • و درهما الواحد درهم واحد هذا كان رأي ملك الفرس في العرب بناء على ما رأى من أخلاق أهل مكة.أما رأي قيصر في العرب فهو كما قلتُ واضح من واقعة أبي سفيان في بلاطه؛ فإنه لما عُرض عليه لم يعتبره أكثر من تاجر عادي لن يتورع عن الكذب عند الحاجة.بل الحق أن مكانة أبي سفيان لم تكن كمكانة المولوي محمد حسين البطالوي أيضًا، فإنه لما حضر محكمة القاضي (دوغلاس) قال له: يجب أن

Page 789

الجزء الثامن ۷۸۹ سورة البلد أعطى كرسيا، أما أبو سفيان فلم ينبس ببنت شفة أمام قيصر، ولم يطالبه بكرسي، لعلمه أنه لو طالب به لضرب بالنعال وأُخرج من البلاط.تحقق فيا ترى هل كان بإمكان العرب أن يقدموا هذه الأحداث دليلا على دعاء إبراهيم وإسماعيل من خلالهم؟ كلا، بل كانوا يدركون أن هذا الدعاء لم يتحقق بعد، وأن مكة لم تنل ذلك التعظيم المذكور في دعاء إبراهيم العلا، ولذلك يقول الله تعالى لأهل مكة إننا نقدم أمامكم إبراهيم وإسماعيل كشهادة، إذ تعترفون أن هناك دعاء في حق مكة، فأين ذهب هذا الدعاء؟ لقد قام بينكم شخص مدعيًا أنه بعث مصداقا لهذا الدعاء، فترمونه بالكذب! إذا كان كذابًا فمنذا الذي يأتي تحقيقا لذلك الدعاء؟ ومنذا الذي يكون مصداقًا لوالد وما ولد؟ من المحال أن عند من الله تعالى.- تقدّموا أي مدع آخر ظهر كثمرة لتلك الأدعية إذن فأدعية إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام - دليل عظيم أن محمدا رسول صادق ويمكن أن يفسر قوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( بمفهوم آخر أيضًا، وهو أننا نقدم حادث إبراهيم وابنه من الماضي كشهادة على ما نقول فعليكم أن تتدبروه وتروا كيف طُرح هذا الولد بأمر الله تعالى بعيدًا عن وطنه في واد غير ذي زرع، فحفظه الله تعالى، فشب وترعرع وصار أبًا لنسل عظيم.كذلك لو أن أقارب محمد ﷺ طردوه من مكة، فإن الله تعالى سينصره كما نصر إسماعيل من قبل.يعلم الذين يطالعون التوراة أنه قد ورد فيها أن هاجر كانت أم إسماعيل العلا، فحصل بينها وبين سارة خصام فطالبت سارة إبراهيم العليا بطرد هاجر وابنها إسماعيل من البيت فوجد أن الإشارات الربانية أيضًا تتفق مع ما يطالب به؛ فأخذ إسماعيل وأمه من البيت وتركهما في وادي مكة التي لا أثر فيها للمأكل أو المشرب أو المسكن أو السكان.كانت برية جرداء ليس بها قطرة ماء ولا حبة الله غذاء.ولكنه العلم ترك هذين الضعيفين في العراء تحت السماء متوكلا على وطاعة لأمره الله فتقبلت في السماء تضحيته هذه التي قدمها لوجه الله تعالى.فصار ذلك الوادي القفر بفضله تعالى مدينة عامرة بمرور الأيام.ثم كتب الله لهذا

Page 790

الجزء الثامن المكان ۷۹۰ سورة البلد من العزّ بأن صار مرجع الخلائق، فبني هناك بيت الله.وقد نال هذا البيت من الشرف عن طريق إبراهيم الا بأن جعل مركزا للسلام والأمن في العالم.والله تعالى يعرض على الكفار هذه الواقعة ويقول: ستخرجون محمدًا من بلدتكم هذه في يوم من الأيام، كما أخرجت هاجر وإسماعيل من بيتهما، ولكنا تقسم بإبراهيم وابنه إسماعيل أننا سنجعل القرية التي سيهاجر إليها محمد بلدة و سنكتب لها عزة حتى نجعلها بلدا حراما كما حولنا مكة من برية جرداء إلى بلدة عامرة عظيمة حتى جعلناها البلد الحرام.إننا نحلف بذلك الوالد الذي أخرج ولده البيت بمطالبة زوجته، وهو ولد ضعيف لا يملك حيلة ولا يهتدي سبيلا، وليس له أنيس هنالك ولا معين ولكن الله تعالى قد كتب له قوة عظيمة، فنقسم بذلك المولود أنكم ستخرجون محمدا من بلدتكم حتمًا، ولكن اعلموا أن مكة لن تعود بعدها البلدة المنفردة بالإعزاز، بل سوف نجعل إزاءها بلدة عظيمة أخرى.وبالفعل ترى أن النبي الله أخرج من مكة، ولكن الله تعالى قد كتب للمدينة من كما المنورة من العز بحيث جمع النبي الله الناس يوما وقال: أيها الناس، إن إبراهيم أكرم مكة بإعزاز خاص، فإني أمنح المدينة أيضا تكريما خاصا، فيجب أن تُحرّم فيها النفس كما هي محرمة في مكة، ويجب ألا يُقطع شجرها، كما لا يقطع في مكة، وألا يتم فيها قتل ولا فساد وسفك دماء كما هو محرم في مكة.إذن، فإن النبي ﷺ قد خلع على المدينة المواصفات التي كانت تتميز بها مكة.ثم يجب أن نفكر منذا الذي سمح للنبي بتحريم المدينة؟ يعترض البعض أن هذا التحريم بيد الله تعالى وليس بيد محمد الا الله، فما كان له أن يفعل ذلك.ولكن هؤلاء الجهلة لا يعرفون أن محمدا الله قد أعطي من المعرفة العميقة للقرآن ما لم يُعطَ غيره من البشر.الواقع أن أساس تحريمه للمدينة هو قول الله تعالى لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ..أي أُقسم بهذا البلد وبالوالد الذي أسسها وبالولد الذي جاء وسكن فيها، أنكم ستخرجون محمدًا منها حتما، ولكن

Page 791

الجزء الثامن ۷۹۱ سورة البلد اعلموا أن المدينة التي سيهاجر إليها ستجعل مثيلة لمكة، وتحظى من العزة والحرمة بحيث لن تعود مكة منفردة بذلك التكريم.خروج والمفهوم الثالث لقوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ هو أنه إشارة إلى الرسول ﷺ وأمته، حيث بين الله تعالى أن هذا الرسول وجماعته يشكلون شهادة على أن الله تعالى سوف يكتب الازدهار للإسلام وكأنه تعالى يقول للكافرين كما أن الرسول من هذا البلد الحرام ثم عودته إليه في شوكة وجلال سيكون شهادةً على أن ما قلنا لكم حق تماما، كذلك يمثل هذا الرسول وأمته في حد ذاتهم دليلا على أنه لن يستطيع أحد القضاء عليهم.علما أن هناك نوعين من الشهادة في الدنيا : الداخلية والخارجية، ثم إن الخارجية نوعان المادية والروحانية.ومثال الشهادة الخارجية المادية أنه إذا كان عند إنسان آلاف من الجنود بعدتهم وعتادهم وجماعة مطيعة كل الطاعة، فالجميع يدرك أنه حتما، إذ تتوافر عنده أسباب الانتصار كلها أما الشهادة الخارجية الروحانية فمثالها أن يقيم الله تعالى عبدا من عباده فيدلي هذا العبد بأنباء انتصاره الله تعالى فيدرك المؤمنون أن هذا الشخص غالب حتما، لأن سينتصر بناء على وحي الوعود الإلهية معه.أما الشهادة الداخلية فهي ما يسمى بالإنجليزية ( INTRINSIC VALUE)، ويماثله المثل العربي الشهير : الديك الفصيح من البيضة يصيح"..أي أن القوم يكونون ضعفاء عديمي الحيلة في بادئ الأمر، ولكنهم يتحلون بكفاءات وخصال وأخلاق بحيث يعترف الناس أنه لن يقف في وجههم أحد.وهنا أيضا قد تحدث الله تعالى عن النبوءات المتعلقة برقي الإسلام أولا، فقال للكفار : مهما قلتم فإننا ننبئكم بهذه الأمور التي ستتحقق حتمًا، أو أن إبراهيم سبق أن تنبأ بها وسوف تتحقق يقينًا.ثم قال لهم إننا لا نكتفي بتقديم هذه النبوءات التي ستؤكد صدق محمد بتحققها خلال الليالي العشر وبعد انقضائها أيضا، بل نقدم أمامكم شهادة داخلية أيضا على صدقه وسداده وغلبته في نهاية المطاف، وهي أنكم ترون صفات وأخلاق محمد وأتباعه..ألا تجدون أنها صفات المنتصرين لا المغلوبين؟ فكأن قول الله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ إشارة إلى أخلاق النبي وجماعته حيث قدمها

Page 792

الجزء الثامن ۷۹۲ سورة البلد دليلا على صدقه ودعا الكافرين إلى المقارنة بين الفريقين من حيث الأخلاق، فقال تعالى إنكم المصداق القولنا كَلَّا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴿ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ( وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمَّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمَّا (الفجر : ۱۸ - (۲۱)، والواضح أن أصحاب مثل هذه الأخلاق والأعمال لا ينتصرون أبدا.ثم أخبرهم الله تعالى بقوله (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ أن أخلاق محمد وجماعته ليست أخلاق المغلوبين بل هي أخلاق المنتصرين.إنكم لا تكرمون اليتيم ولا تطعمون المسكين وتتلفون الأموال وتملكون العقار وتحبون المال إلى حدّ الجشع فتبخلون ولا تنفقونها عند الضرورة الحقيقية..أي أن بعضكم مائلون إلى البذخ والإسراف فيهلكون ثروات الآباء وعقاراتهم وبعضكم بخلاء يكنزون ،أموالهم، أي أن بعضكم يهدر الأموال في غير محلها، وبعضكم لا ينفقها في محلها إنفاقا هادفا؛ وأنى للأمة المصابة بهذه العيوب أن تنتصر؟! وعلى النقيض انظروا إلى هذا الأب الروحاني وأولاده فهم على النقيض منكم تمامًا.علما أن الله تعالى لم يقارن بين الفريقين صفة صفة، بل ذكر من محاسن المؤمنين ما يعاكس هذه العيوب الأربعة للكافرين.لقد وصمهم الله تعالى بعدم الاهتمام برعاية اليتامى وإطعام المساكين، وأنهم يسرفون أو يبخلون فلا ينفقون عند الحاجة الحقيقية، فذكر إزاء عيوبهم الأربعة ما يتحلى به هذا الأب وأولاده من محاسن وأخلاق، فقال إنهم يكرمون اليتيم ويطعمون المسكين ولا يسرفون ولا يترددون عند الحاجة عن الإنفاق في سبيل الله تعالى.لما نزل أول وحي على النبي على النبي خاف أن يكون هذا اختبارا وابتلاء، فرجع إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها- وحكى لها القصة، وقال: لقد خشيت على نفسي.فقالت بكل ثقة ودونما تردد: كَلا" وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلِّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْري الصيف، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِب الْحَقِّ".(البخاري، كتاب بدء الوحي فقولها رضي الله عنها- يتضمن كل الأخلاق الحميدة التي كان الكافرون يفتقرون إليها، فقالت أولاً: تقري الضيف..أي تكرم الضيف، وقد تضمن ذلك أن النبي الله لا يحب المال ولا يكنزه، بل

Page 793

الجزء الثامن ۷۹۳ سورة البلد ينفقه في كل حاجة ضرورية حقيقية.ثم قالت: وتحمل الكل..أي تحمل أعباء الناس، وقد تضمن ذلك رعاية الفقراء والمساكين، لأن مَن لا يصلح لشيء يصبح ينهض بأعبائهم.ثم الواضح أن اليتيم لا يصلح من كلا على الآخرين بدلاً أن لشيء لصغر سنه والمسكين لا يصلح لشيء لافتقاره للمال، فقولها "تحمل الكلِّ" تضمن إكرام اليتيم وإطعام المسكين علاوة على المعاني الأخرى.وما دام النبيل ينفق على سد حاجات الآخرين، فلا يمكن أن يكون بخيلا، وهكذا تم نفي البخل عنه أيضا.أما قولها وتكسب المعدوم فمعناه أنك تتحلى بالأخلاق التي صارت معدومة بين القوم، وهذا تأكيد على أنه لم يكن مسرفا.فشهادة خديجة - الله عنها - دليل قطعي على أن النبي كان متحليا بالصفات والكفاءات التي لا بد منها لمن يريد التقدم والانتصار.رضي ثم ذكر الله الولد بعد الوالد، وعندما ننظر إلى أخلاق هؤلاء الأولاد، فنصاب بالذهول.فبعد الإيمان بالرسول و قد أكد هؤلاء بعملهم أنهم يتحلون في أروع شكل بخلق رعاية اليتامى وإطعام المساكين والإنفاق على الحاجات الدينية والتخلي الوطن تماما، عن ومن الدليل الخالد على ذلك أنهم ضحوا بأوطانهم وقاطعوا أقاربهم وخاضوا غمار الموت بكل أنواعه فرحين مسرورين.باختصار، قد قدم الله تعالى هنا شهادة الوالد وولده كليهما، وتحدى الكافرين قائلا: كيف تظنون أن أصحاب هذه الأخلاق والكفاءات لن ينتصروا؟ بالنسبة إلى النبوءات بوسعكم أن تقولوا إنها تتعلق بالمستقبل وسنرى عندما تتحقق، ولكن كيف تنكرون هذا الدليل الماثل أمام أعينكم؟ إذ تعرفون أخلاق المسلمين وأخلاقكم جيدا، ولا يسعكم إنكار أن أخلاقكم تؤكد أنكم المهزومون وأن أخلاق محمد وجماعته تؤكد أنهم المنتصرون.وهناك احتمال - وإن كان ضعيفا أن يراد بقوله تعالى ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ آدم وأولاده جميعا..أعني كل الآباء وكل الأولاد، وعليه ستعني هذه الآية أيها الكافرون نقدم أمامكم كل البشر كشهادة على صدق محمد.ترون بعض الناس يعزون وبعضهم يذلون، وتعرفون أن محمدا لله وأصحابه يتحلون بكل المحاسن التي

Page 794

الجزء الثامن ٧٩٤ سورة البلد توجد في الذين يعزون، وأنكم موصومون بكل العيوب التي توجد في الذين يذلّون، فليس صعبًا عليكم أن تعلموا أي الفريقين سينال العز والانتصار، وأيهما يلقى الخزي والهوان.وكأن الله تعالى يقول للكافرين فكروا في أحوال الناس جميعًا، وادرسوا أسباب رقيهم وزوالهم وستعرفون أن بعض العيوب تتسرب إلى الآباء وبعضها إلى الأولاد، ولكن هذا الأب الروحاني له وأولاده بريئون من هذين العيبين؛ فلا توجد في محمد الله العيوب التي توجد في الآباء والتي تدمر أولادهم، كما أن صحابته مبرءون من عيوب الأولاد التي تشوه سمعة الآباء.إذا قمنا بمطالعة أحوال رقي الأمم وزوالها وجدنا أربعة أسباب وراء ذلك، فإما أن يكون الأب ذا كفاءة، وابنه غير كفء، أو أن الأب غير كفء، والابن ذو كفاءة، أو أن كليهما يفتقر إلى الكفاءة، أو أن كليهما ذوا كفاءة.لو كان الابن ذا كفاءة والأب ،بدونها، فإن الابن يتأثر من أبيه أحيانا ويهلك بسبب عيوب أبيه، وأحيانا لا يتأثر بعيوب أبيه ويكون أفضل أما منه.في حالة كفاءة الأب وعدم كفاءة الابن، فيفشل الأب حينا ولكنه يصلح ابنه بالتربية الجيدة.وفي حالة كون الأب والابن كليهما من عديمي الكفاءة، فلا ينفتح أمامهما سبيل للرقي.وأما في حالة كون الأب والابن من ذوي الكفاءة فمن المحال أن يمنعهما مانع من الترقي والازدهار.ولذلك قال الله تعالى هنا انظروا أيها الكافرون إلى أحوال محمد وأصحابه، فإن هذا الأب يتحلى بكل المحاسن والكفاءات وأولاده مطيعون له كل الطاعة، فكلما تلقوا أمرًا منه هبوا لتنفيذه، وتكبّدوا المشاق واجتازوا الشدائد، ولم يرضوا أن تخرج كلمة من فم محمد من فم محمد الله فيظلوا محرومين من سماعها والعمل بها.وإن قصة أبي هريرة الله أروع مثال على ذلك كان إسلامه متأخرا، إذ أسلم في السنة العشرين من البعثة، وتوفي رسول الله ﷺ بعد ٣ سنوات من إسلامه.ولما كان أبو هريرة يعلم أنه أسلم متأخرا جدا، فقرر في نفسه عند البيعة أن يظل ملازما باب الرسول الهلال الهلال على الدوام ، لأن الآخرين قد ملأوا جرابهم وهو لا يزال خالي الوفاض، ولو أضاع الأيام الباقية فلن يجد شيئًا.فعكف على باب رسول الله ﷺ بحيث كان لا يحتمل مفارقته في أي وقت حتى لا يفوته من كلامه شيء، إلا أن يدخل

Page 795

الجزء الثامن ۷۹۵ سورة البلد إلى بيته حيث كان الحجاب.ونتيجة عكوفه على باب النبي ﷺ كل الوقت، كان في بعض الأحيان يصاب بالفاقة والجوع لعدة أيام حتى كان يسقط على الأرض مغشيا عليه من شدة الضعف، حتى يظن الناس أن قد أصابته نوبة من الصرع، فكانوا يضربونه بالنعال علاجًا له بحسب اعتقاد العرب عندها.وحين هزم المسلمون جيوش كسرى، وجيء بالغنائم، وجد بينها منديل خاص كان كسرى يأخذه في يده عند جلوسه على العرش.فلما وُزّعت الغنائم أُعطي أبو هريرة هذا المنديل.وذات مرة كان يحمل هذا المنديل، وأصابته نوبة من السعال، وخرج البلغم السعال، فبصق في هذا المنديل، وقال: بخ بخ أبا هريرة وكان يعني ما أعظم شأنك أبا هريرة، حيث تبصق في منديل !کسری فسئل ماذا تعني من قولك بخ بخ ؟ فقص قصة إسلامه والتزامه صحبة النبي وجوعه وفاقته وضرب الناس إياه بالنعال عند إغمائه من شدة الضعف، أما اليوم فهو يحمل في يده منديل كسرى ويبصق فيه! تفكروا في هذا الحادث وانظروا كيف أعطى الله النبى أولادًا ذوي تربية عالية وأخلاق سامية وذكاء وتضحية وحب للتعلم! إذن، فالله تعالى يقول للكافرين إن كل مبادئ النجاح وكفاءاته متوفرة في هذا الوالد وأولاده؛ فكيف تشكوّن في هزيمتكم وانتصاره؟ مع شرح الكلمات: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) كَبَد: الكَبَدُ : الشدّة والمشقة؛ وَسَطُ الرمل؛ وَسَطُ السماء.وكَبَد الرجلُ كَبَدًا: أَلِمَ مِن وجع كبده.التفسير: لقوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ مفهومان: أولهما لقد خلقنا الإنسان بحيث لا بد له من الجد والاجتهاد على الدوام، وثانيهما: لقد جعلناه وسط السماء.

Page 796

الجزء الثامن ٧٩٦ سورة البلد له من ونظرا إلى المفهوم الأول فستعني الآية أنا خلقنا الإنسان بحيث لا مهرب الجد والكد، بل هو مُجبر عليه.إن نواميس الكون، أو ما أعطينا الإنسان من قوى وكفاءات، تكشف حتمًا أنه خُلق لتحمل المشاق والشدائد.وعندي أن هذا جواب ثانٍ للقسم المذكور سابقا، حيث يخبر الله تعالى أن صدق محمد وسداده ليس ثابتا من الدليل الذي ذكرناه من قبل فحسب، بل إن من أدلة صدقه أننا خَلَقْنَا الإنسان بحيث لا بد من تحمل المشاق وبذل الجهد؛ فإما أن يكون كله الله تعالى أو للدنيا وليس هناك خيار ثالث لا يمكنه أن حال كونه معلقًا وذلك، إنما يُنال النجاح والعزّ بطريقين: إما أن يصبح الإنسان كله للدنيا وينسى الله تعالى كلية، ويجتهد في الدنيا ويكد ويتعلم ويضحي لينال العز الدنيوي، أو كله الله تعالى ويمحو حب الدنيا من قلبه ويجتهد في سبيل الدين بجد ونشاط، إذ ليس وسطهما سبيل لنجاحه.يصبح ينجح بين هذا والواقع أن من المحال أن ينال الإنسان العزّ بدون جدّ في الدنيا وجد في الدين.كان المسيح الموعود الله يذكر أن الله تعالى قد جعل العزَّ في عصرنا هذا منوطا بنا بالطريقين كليهما السلبي والإيجابي، فلن ينال العزَّ الآن إلا أتباعنا أو معارضونا.انظر مثلاً إلى المولوي ثناء الله الأمر تسري، فإنه ليس بشيخ كبير، بل يوجد الآلاف أمثاله في البنجاب ،والهند ولكنه نال العزّ والشهرة بسبب معارضته لجماعتنا.فسواء أقرّ معارضونا بذلك أم لا، إلا أن الواقع أن العز إما في معارضتنا أو في من تأييدنا وكأننا اليوم مركز الحدث حقيقة، فلن ينال المعارضون العز إلا بسببنا.إذن، يقول الله تعالى هنا إن الأشياء التي قدمناها أمامكم كشهادة هي دليل بين على أننا خلقنا الإنسان بحيث لا بد له من تحمل الشدائد والمشاق في سبيل النجاح.فإن مكة التي تعيش فيها والتي ستعتبر حِلا فيها والتي ستتخذ هدفًا لكل سهم فيها، والتي ستتعرض لكل نوع من العذاب فيها والتي لن تساوي شيئا عند أهلها..نقول إن هذه البلدة نفسها دليل على صدق دعوانا، لأن الذين يريدون قتلك وتدميرك سيخيبون في مكائدهم مهما كثرت واشتدت، فيعترفون في النهاية أن مكائدهم وإنجازاتهم لم تُجْدِهم شيئا؛ وفشلُهم هذا سيكون دليلا أننا جعلنا الإنسان

Page 797

الجزء الثامن ۷۹۷ سورة البلد بحيث لا مناص له من الجد والاجتهاد للنجاح.إن معارضتهم سطحية ومكائدهم عبثية؛ إذ لا يقدمون التضحية الحقيقية.يقولون هلموا نقتل الشخص الذي هو أهل للنجاح والمكانة المرموقة والحق أن المرء لا يصبح كبيرًا بقتل غيره، وإنما يصبح كبيرا بالتضحية وتحمُّل المشاق.فكأن الله تعالى يقول لهم: إنكم لا تكرمون اليتيم، ولا تطعمون المسكين، ولا تضحون بالأموال في مصالح الأمة والمجتمع، وتدمرون أموال التراث، أي لا تقومون بأي من الأعمال الأساسية الضامنة للنجاح، والتي فيها مشقة ،وتضحية، بل تسارعون إلى قتل من يقوم بهذه الأعمال!! فما ينفعكم هذا؟ فمهما حاولتم القضاء على محمد ﷺ فلن تنجحوا في ذلك، وإنما سيقضى عليكم أنتم ، مما يكون دليلا على أن العزّ كله في تقديم التضحية.يكتب الله العز لمن يُدمي كبده بالجد والكد، أما الذين يهربون من التضحية ويريدون طريقا مفروشا بالورود، فلا يُكتب لهم النجاح أبدا.فكيف تظنون أن مستقبلكم مشرق، ولستم في حالة كبد.إن حالة الكبد تقتضي من الإنسان أن يكون كله لله أو كله للدنيا، ولكنكم لستم لله ولا للدنيا، ليس عندكم الدين ولا الأخلاق التي تبني الأمم، فكيف تظنون أن مستقبلكم مشرق؟ ومن معاني هذه الآية أننا خلقنا الإنسان في وسط السماء، علما أن المراد من السماء هنا الأخلاق السامية التي لا بد منها للارتقاء الروحاني، وعليه فقوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ يعني أن الإنسان الكامل الخلوق هو من يتحلى بالاعتدال والوسطية في أخلاقه..أي عليه أن يكون على صلة بالسماء أولاً، ثم عليه أن تظهر أخلاقه باتزان ،واعتدال فلا يتطرف في سلوكه مائلا إلى جهة واحدة فقط والمراد من خلق الإنسان في وسط السماء أيضا أنه ما لم يكن ذا صلة بقواعد الشرع ونواميس الطبيعة..أي عاملا بها..فلا نجاح له.لا بد له من العمل بالاثنين.أي لا بد له من الاعتدال ليكون ناجحا.

Page 798

الجزء الثامن ۷۹۸ سورة البلد أَحْسَبُ أَن لَّن يَقدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (3) التفسير: ليس المراد من الإنسان هنا مَن خُلق في حالة كبد، بل المراد منه فيه نقص وعيب، فيقول الله تعالى أيحسب هذا الذي هو إنسان في الظاهر ولكنه بعيد عن حقيقة الإنسانية كل البعد والذي يعارض محمدا..أنه لن يُلقى في الضيق ولن يرى الفشل مع تركه مقامَ الكبد وعدم التزامه بقوانين الشريعة ونواميس الطبيعة؟ هذا ظن باطل، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ.إن هذا قد تعرى من الأخلاق أولاً، وثانيا إنه يميل إلى الغلو فيما يوجد عنده من الأخلاق القليلة، مما يجعله سيئ الخلق.فمن الأخلاق السامية مثلاً الإنفاق عند الضرورة الحقة وإكرام اليتامى وإطعام المساكين، ولكن هذا غير معتدل في إنفاقه، فكلما أتاه مال أهلكه بإسرافه ،وبذخه فكيف يظن إذن أن الله تعالى لن يلقيه في الضيق، وأنه سينجو من الدمار؟ كيف ينجو من بطش الله تعالى من يقف موقف خطأ المقام الذي خُلق من أجله؟ كلا، بل لا بد أن يقع في البلاء لعدم اعتداله، وسيحل به عذاب الله بدل فضله.شرح الكلمات : يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً تُبَدًا * وينسى لُبَدًا : اللُّبَدُ : الكثيرُ لا يخاف فناؤه كأنه الْتَبَدَ بعضُه على بعض.(لسان العرب) التفسير: أي أنه يقول لقد أنفقتُ أكوامًا من المال كما يعرف الناس، فكيف يقال لي إنك لم تنفق مالا؟ أَتَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدُ (3) التفسير: أي أيحسب هذا الإنسان أن الله تعالى لا يرى أفعاله من فوق ولا يراها العباد على الأرض، ويحسب أن كلّ ما يقوله سيُصدَّق؟ كلا، إن الله ينظر إلى قلب

Page 799

الجزء الثامن ۷۹۹ سورة البلد المرء، لأن صلاح قلبه ضروري لرقيه أيضا.يقول إنه أنفق أكواما من الأموال، ولكن ألا يعلم الله لماذا أنفق هذا المال؟ ثم إن الناس أيضا يدركون غرضه من إهداره لماله.لا شك أنه قد أنفق ماله ولكن السؤال لأي هدف أنفقه؟ فكأن الله تعالى يقول له : لا شك أنك أهلكت مالاً ،لُبَدًا، ولكنك كنت من الذين قيل فيهم - وَتَأْكُلُونَ التَّرَاثَ أَكلَّا لَمَّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمَّا..فكيف تنال بهذا الإنفاق درجة عند الله، أو مكانة في أعين الناس؟ كلا، لن تنال درجة عند الله كما لن يحترمك الناس، لأن الله يعلم والعباد كذلك أنك أهدرت مالك رياء للناس وطلبا للسمعة والجاه.تحمَّت بعض الأحيان فذبحت مئة جمل في يوم واحد، ولكن ذبحها ما دمت لم تطعم الأيتام الذين كانوا يموتون جوعا، ولم تَكْسُ المساكين الذين كانوا بلا ثياب ولم تسدّ حاجاتِ الفقراء الذين كانوا في ضيق؟ لو كان في قلبك حب لبني جنسك، ولو كان في قلبك أثر لما أصابهم من فقر وفاقة، لَما ذبحت مئة جَمل في يوم واحد بل ذبحت جَملاً مرة وأطعمتهم، وجملا مرة ثانية وأطعمتهم، وهكذا ، ولو فعلت ذلك لأغثتهم من ثلاثة إلى ستة أشهر متتالية.ولكنك أردت السمعة بين الناس.لقد أردت أن يأتوك على مطاياهم من أماكن بعيدة ليأكلوا على مائدتك، وإذا سئلوا في الطريق إلى أين يذهبون، قالوا: إن فلانا الأثرياء قد أقام مأدبة كبيرة ذبح فيها مئة جمل، ونحن ذاهبون لنأكل عنده.فما ما الفائدة من من دمت تبغي الجاه والعزّ وتكون شهيرًا بين الناس على أوسع نطاق، فلماذا يرفع الله من قدرك؟ ولماذا يحترمك الناس؟ إن الناس ليسوا بعميان حتى لا يخفى عليهم هذا الأمر الجلي أنك لم تفعل ما فعلت من أجلهم، بل من أجل نفسك.ثم أليس الله بأعلم بما في الصدور؟ ألم يعلم غرضك من هذا كله؟ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ..أي أيظن أن الله تعالى لا يراه، وأن عباده لا يراقبونه.إنه ينفق ماله طلبا للعز، ويُهلك تراثه طمعا في الشهرة، ومع ذلك يتوقع يعتبره ه الناس محسنًا إليهم ! لماذا يعتبرونه محسنًا لهم وهم يرون بأم أعينهم أن ما يفعله إنما يفعله رياء للناس؟ ما دام لا ينفق ماله بحيث ينتفع به أكبر عدد ممكن من ذوي الحاجة، فكيف ينال العز عند الله وعند العباد؟ أن

Page 800

الجزء الثامن سورة البلد أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْن ب) وَلِسَانًا وَشَعَيْن (٤) التفسير : أي اعلموا جيدًا أن معاملتكم مع الله تعالى الذي يقبل العذر الحقيقي ولا يرفضه أبدًا.لو كان عذركم حقيقيا لأنقذكم الله من الدمار.الدمار.ومن الأمثلة على العذر الحقيقي الحرمان من البصر، فلو مر كفيف بحفرة وسقط فيها فلن يلومه أحد، لأن الجميع سيقول: معذور لأنه كفيف.أو إذا ضل الطريق أبكم ولم يستطع أن يسأل الناس فلن يلومه أحد، ويعذره الجميع؛ إذ لم يكن قادرا على أن يسأل أحدا عن الطريق.أو إذا كان عند المرء عينان ولسان أيضا، فضل الطريق، ولكنه لم يجد من يدله على الطريق الصحيح فواصل سفره حتى وصل إلى عرين الأسود أو ، وادي الفيلة فافترسته الأسود أو داسته الفيلة فإنه أيضا سيُعتبر معذورا، إذ سيقول يسأل بید الناس لم يجد من يدله على الطريق الصحيح، وإن كان عنده عينان ولسان.باختصار، يُعتبر المرء معذورا إذا كان كفيفا لا يرى، أو أبكم لا يمكنه أن عن الطريق، أو لا يجد هاديا يدله على الطريق الصحيح.أن القانون الطبيعي لا يحمي الإنسان من عواقب خطئه رغم كونه معذورًا حقا.فمثلاً إن الكفيف معذور ولكنه لو مر بحفرة ليلاً أو نهارا، فإن القانون الطبيعي لن يحميه من السقوط فيها.وإن الأبكم معذور كلية لو ضل عن الطريق إذ لا يستطيع السؤال عن الطريق، ومع ذلك لا ينقذه القانون الطبيعي من عقوبة انحرافه عن الطريق.ولو ضل الطريق من يقدر على الإبصار والتكلم فوصل إلى عرين الأسد، لأنه الأسد، لأنه لم يجد من يدله على الطريق السليم، فلا شك أنه معذور، ولكن القانون الطبيعي لن يدفعه عن العرين بعيدا، أو لن يدعه عن وادي الفيلة دعا، لينجيه من براثن الموت.أما الله تعالى فيعلن أننا نعامل العباد في مجال الروحانية من وقوانين الشريعة بطريق آخر، فنقبل من الإنسان عذره الحقيقي كما ننقذه العقوبة أيضا.فإذا لم يكن للعباد عيون روحانية اعتبرناهم معذورين ولم نعذبهم وإذا كانوا بُكْما في الأمور الروحانية قبلنا عذرهم ولم نعذبهم، وإذا لم يُبعث هادٍ

Page 801

الجزء الثامن 1.1 سورة البلد إلى قوم اعتبرناهم معذورين ولم نعذبهم أيضا فيا أهل مكة البلدِ الحرام لو لم ننزل لكم بواسطة محمد قانونًا روحانيا يدلكم على الصراط المستقيم ووجدناكم تائهين كما كنتم من قبل لقلنا إنهم معذورون إذ لم يأتهم هدى، فيجب أن لا يعاقبوا.ولكنا جعلنا لكم عيونا وآتيناكم لسانا، وجعلنا لكم طريقا للرقي، ثم بعثنا لكم من يدلكم على هذا الطريق، ومع ذلك تؤثرون الضلال على الهدى، فكيف يمكن أن تنجوا من عذاب النار؟ لقد ذكر الله هنا ثلاث وسائل للنجاة من الهلاك الأولى عيون للرؤية، والثانية : لسان وشفتان للسؤال، والثالثة طريق الرقي.أي لا بد للنجاح من أن تكون الغاية صحيحة تؤدي إلى الرقي وأن يعمل المرء وهو مفتّح العين، وأن يسأل الآخرين إذا لم يعرف شيئا.يقول الله تعالى ما دمنا قد هيأنا لهم الوسائل فما الذي يمنعهم من الرقي ؟ لقد أعطيناهم العيون للرؤية واللسان مع الشفتين للسؤال، وكان الطريق الصحيح غائبًا فبعثنا محمدًا ليدلهم على الطريق الذي يصعد بهم.فأي عذر بقي عندهم بعد ذلك؟ الآن لقد ذكر الله تعالى هنا الشفتين مع اللسان، لأن الشفة تحبس الهواء، فيرتفع الصوت.إن من تسقط أسنانه لا يستطيع أن يتكلم بصوت عال.لقد سقطت لي سنّ ،واحدة وعندما أخطب أشعر أحيانًا أن الهواء يخرج من مكان هذه السن الفارغ، ولا أنطق بعض الكلمات بشكل سليم.وكان الخليفة الأول له يقول إن الناس لا يحبّون الشفاه الكبيرة، ولكن الله تعالى قد جعلها رحمة كبيرة لي، لأن أسناني كلها قد سقطت ومع ذلك فصوتي رفيع بسبب شفاهي الكبيرة.فالله تعالى يقول نحن آتينا الإنسان لسانًا للكلام وأعطيناه شفتين لكي يرفع صوته إذا كان سامعه بعيدًا.

Page 802

الجزء الثامن ۸۰۲ سورة البلد وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَينِ (*) التفسير : النجد هو الطريق المرتفع في الجبل، ولكن المفسرين قالوا إن النجدين هما طريق الخير والشر، كما قال ابن عباس وابن مسعود ومفهوم الآية أننا أخبرنا الإنسان بطريق الخير والشر، ولكنه لم يتبع طريق الخير.وعندي أن (النجدين) لا تعني طريق الخير والشر، وإنما تعني طريق الرقي الديني والمادي..ذلك لأن طريق الشر لا يسمى مرتفعًا، إذ لا يجد الإنسان صعوبة في سلوكه ولا ينال أي عزّ أيضا، والطريق يوصف بالارتفاع لهذين السببين، أعني أن الإنسان يعاني في الصعود فيه وينال العز بالسير فيه.إذن، فقوله تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَين أننا قد فتحنا أمام الإنسان طريق الرقي المادي وطريق الرقي الروحاني بواسطة محمد ال فالذين يؤمنون به بصدق عاملين بأحكام الإسلام كلها بخلوص نية، فلن يرتقوا في الروحانية ولن يفوزوا برضى الله لحسن أخلاقهم فحسب، بل سوف يُنعم الله عليهم بنعم الدنيا أيضا.يعني وبالفعل نرى أن أصحاب الرسول الله لم ينالوا الدين فقط، بل الدنيا أيضا، حتى وضع الله في أيديهم زمام الحكم أيضًا.وهذا ما ينبه الله تعالى الكافرين إليه، إذ يقول تحتقرون اليوم من يؤمن بمحمد وتضحكون عليهم بأنهم فتية جَهلة مهانين، ولكنكم لا تعرفون أن هؤلاء الذين تزدرونهم اليوم سيصبحون ملوك الدنيا ببركة إيمانهم بمحمد ، وستفتح عليهم أبواب الرقي المادي والديني.وبالفعل قد حقق الله هذا الوعد، وأعطى الصحابة الملك ، وهكذا قد هدوا إلى النجدين.ينبه الله تعالى الكافرين أنه كان بوسعكم أن تحرزوا الرقي الديني والروحاني باتباع الإسلام إن الفوز برضى الله تعالى بالتخلق بأخلاق حميدة، وجَمْعَ شمل الأمة وتقوية البلاد سياسيًا بخدمتها كانت كلها يقينية.لقد أعطيناكم العيون واللسان ومهدنا أمامكم مجالا واسعا للرقي الديني والمادي من خلال الإسلام، إلا أنكم لم تتبعوا هذا الطريق الذي يؤدي إلى فلاحكم، بل ظللتم تائهين في طريق الهلاك والدمار.

Page 803

الجزء الثامن ٨٠٣ سورة البلد شرح الكلمات: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ۱۲ اقتحم من معاني الاقتحام الانهماك في عمل بإغماض النظر عن عواقبه، فقد ورد في المعاجم اقتحم العقبة: رمى نفسه فيها بشدة ومشقة.وقَحَمَ في الأمر: رمى بنفسه فيه فجأةً بلا روية.(الأقرب) العقبة : مَرْقَى صعب من الجبال والطريقُ في أعلاها.(الأقرب) برضی ذلك التفسير : أي أننا كنا قد هيّأنا أسباب رقي العرب ببعثة محمد ، فكان بإمكانهم أن يصلوا إلى الله تعالى وينالوا الدنيا أيضا.كان بإمكانهم أن يفوزوا الله ويبلغوا ذروة المدارج الروحانية، كما كان بوسعهم أن ينالوا الحكم يجمع شملهم وتقوية سياسة بلادهم.فكان ينبغي لهم أن يضحوا بأرواحهم كالفراش حول الشمعة المحمدية، ويخرّوا ساجدين على عتبة الله شكرًا على أنه قد من عليهم منة عظيمة، حيث رفعهم من الثرى إلى الثريا.ولو أنهم فكروا حقًا لظلّت ألسنتهم تلهج بذكر الله تعالى بسبب مِنَنه، فرحين بحظهم السعيد، إذ ظهر بينهم الموعود الذي كانوا ينتظرونه منذ ٢٥٠٠ سنة والذي كان الغاية من تأسيس مكة وثمرة أدعية إبراهيم وإسماعيل كان واجبهم أن يقفوا إلى جانبه غير آبهين بالعواقب كالمجانين ويريقوا دماءهم بدل قطرة من عرقه ولو أنهم فعلوا ذلك لنالوا الدين والدنيا معًا، وكان لهم نصيب في الملك الروحاني، كما سقطت الدول المادية في أحضانهم.ولكنهم للأسف خافوا اقتحام العقبة كما يخاف الضعيف النحيف صعود قمة الجبل، فيظل واقفًا أسفل الجبل خوفا من الإرهاق وانقطاع الأنفاس.لقد فَقَدَ هؤلاء الهمة ولم يتطلعوا إلى الرقي الذي سيرفع مكانتهم.لقد خافوا من الصعود وتجنبوا المشقة والتعب ورأوا طريق الدعة سهلاً، فاتبعوه.وفي الآية التالية قد بين الله تعالى المراد من قوله إنه هدى الإنسان طريقا مرتفعا، فخاف الصعود إلى الذروة.

Page 804

الجزء الثامن ٨٠٤ وَمَا أَدْرَنكَ مَا الْعَقَبَةُ : فَكُ رَقَبَةٍ ) شرح الكلمات فَكُ رقبة: أي تحرير العبيد.الدنيا و لم ١٤ سورة البلد جدا التفسير: لهذه الآية مفهومان أوّلهما أنه كان من واجبهم أن يسعوا لتحرير الأرقاء، ولو أنهم عملوا على تحريرهم لنالوا الحرية على صعيد الأمة، ولكنهم بدلا من أن يعملوا على تحرير الأرقاء روّجوا للرق وصبّوا الظلم على العبيد المسلمين.الواقع أن الإسلام قد أمر بتحرير العبيد منذ البداية، لأن تحريرهم ضروري لرقي الأمة.لا يمكن أن تزدهر أمة في الدنيا من دون إقامة المساواة في المجتمع ومحو التمييز الطبقي.والرقي الحقيقي والسلام الدائم محال في الدنيا ما بقي التمييز بين الصغير والكبير.ستفشل كل التدابير للرقي والازدهار طالما ظلت هذه الفتن في تتحد الجهود للقضاء عليها.إن هذا التمييز نفسه يؤدي إلى الرق الذي يهدف الإسلام إلى محوه، والذي قد رفع صوته ضدّه منذ أول يوم.لو بقي هذا التمييز كما هو فإن كبار القوم سيظلون يريدون لأنفسهم المزيد من العز ثم المزيد ثم المزيد حتى يأتي يوم يظنون فيه أنه ليس في الدنيا من هو أكبر منهم.عندنا في الهند زعيم كبير يظن أنه ليس هناك زعيم أكبر منه.وهذه العقدة تظل راكبة رأسه دائمًا، فيظل مهتما بإظهار كبريائه وإعزازه على الدوام ذات مرة عُقدت جلسة في مدينة شمله لكبار زعماء الهند، ودعيتُ أنا أيضا ببرقية.كان السيد غاندي مُضربًا عن الطعام عندها قائلا إنه سيموت جوعا إذا لم يتم الهندوس والمسلمين ولما كانت هذه قضية هامة فقد اجتمع هناك زعماء مختلف الطوائف والأقوام من كل أنحاء الهند من مومباي، مدراس، سي بي، البنغال، البهار، أوريسا، وسرحد وغيرها من الولايات الهندية الأخرى، وكان عددهم قريبا من ١٥٠ زعيما على ما أظن ولما رأى هذا الزعيم كل هؤلاء القادة الكبار، أخذته عقدة الكبرياء، فلما جاء دوره لإلقاء كلمته وجدته يكرر جملة مفادها أن هذه القضايا الهامة لن تفصلها هذه الجموع المحتشدة وإنما يفصلها قادة القادة أمثالنا.اتحاد

Page 805

الجزء الثامن 1.0 فكان يشق عليه أن يسمي الناس هؤلاء القوم قادة مع مع سورة البلد أنه لم يحضر في ذلك المؤتمر قادة طائفة ،واحدة بل حضره ممثلون عن الهندوس والسيخ والمسلمين كلهم.فكما أن عقل الفرد يصاب بالغرور، كذلك تصاب عقول الشعوب أيضا بهذه من العقدة أحيانًا فتأبى إلا أن تعتبر الشعوب الأخرى كلها كالعبيد وأسوأ المنبوذين فقبل أيام كانت هناك ضجة في الجرائد أن الناس أخذوا يطلقون لقب "العلامة" على كل من هب ودب ومَن لا يقدر على فك الخط أيضًا، أن هذا مع اللقب كان لا يُطلق مِن قبل إلا على رجال بمكانة الشاعر "إقبال" مثلا؛ ففي اجتماع عقد في مدينة "لدهيانه" دعوا كل من خطب فيه "العلامة"، مع أنه لم يكن يتقن قراءة الأوردو من هؤلاء الخطباء أحد.هذا ما ورد في الجرائد.ونتيجة هذا المرض، أن الذي يكون علامةً حقا يناديه هؤلاء المغرورون بلقب آخر ليسقطوه من أعين الآخرين، وهكذا لا شقة تتسع الكراهية بين صغار القوم وكبارهم فحسب، بل يظن البعض أنهم كبار القوم والآخرون عبيدهم.أتذكر طريفة حصلت معي عندما كنت طفلاً، وكنتُ أنا و "مير محمد إسحاق" بدأنا نتعلم على يدي حضرة المولوي نور الدين الله.لا شك أن كل أستاذ كان يتمتع يُحترم عادة، ولكن حضرة المولوي له كان 11 بمكانة مرموقة مرموقة في الجماعة، وفي تلك الأيام إذا قال البعض: هذا ما قال حضرة المولوي"، فكان يعني به حضرة المولوي نور الدين أو المولوي عبد الكريم السيالكوتي رضي الله عنهما.فكان الأمر يسبب لمير محمد إسحاق إشكالا ومضايقة.فصبر فترة ثم قال في يوم غاضبًا: ما هذا؟ عندما نسأل الناس من قال هذا الكلام يقولون دائمًا: حضرة المولوي، مع أنهم يقصدون تارةً المولوي عبد الكريم، وتارةً المولوي نور الدين.هذا الأسلوب ليس سليما.في المستقبل إذا قال المولوي عبد الكريم شيئًا فأقول قاله: حضرة المولوي، وإذا قال المولوي نور الدين شيئا أقول : قاله حضرة الجولوي، وهكذا أميز بين الاثنين.لا شك أن هذه كانت سذاجة الطفولة، ولكن الواقع أن البعض إذا نالوا عزا احتقروا الآخرين باستمرار حتى اعتبروهم عبيدا.

Page 806

الجزء الثامن 1.7 سورة البلد فالحق أن تحرير الرقيق هو تحرير القوم كلهم.هذه ليست قضية عشرة أشخاص أو عشرين شخصًا، بل الواقع أن شخصية الأمة لا تتطور إلا بالقضاء على هذه الامتيازات القائمة على أسس خاطئة.وكذلك لا يمكن الفوز برضى الله تعالى إلا بتحرير العبيد أو بالسعي الحثيث لتحريرهم.والمفهوم الثاني لقوله تعالى فَكُ رَقَبَةٍ هو إصلاح العقائد الخاطئة وكسر قيود الطقوس والعادات الفارغة، لقول الله تعالى عن الكافرين أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا برَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ (الرعد: (٦)..حيث أطلق الله تعالى لفظ ﴾ الأغلال على الوثنية والكفر وبين أنها بمنزلة أطواق تثقل أعناق القوم.وكذلك قال الله تعالى عن اليهود وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (الأعراف: ۱٥۸)..أي أن رسولنا هذا جاء ليضع عنهم ثقلهم ويفك أغلالهم.فهاتان ١٥٨)..الآيتان توضحان أن كلمة فَكُ رَقَبَةٍ تعني تحرير الرقيق، كما تعني إبطال العقائد الخاطئة وإزالة أعباء الطقوس الفارغة والنظم الزائفة التى يُثقل بها القومُ مِن قِبل كبار الظالمين كالأحبار والرهبان والجبابرة فلا يقدر القوم على رفع رؤوسهم.W إذن قوله تعالى فَكُ رَقَبَةٍ يعني أننا أردنا تحريرهم من رقهم، ولكنهم لم يجرؤوا على كسر أغلالهم، ولا على تحرير رقيقهم ولا على النهوض بالطبقة الدنيا من مجتمعهم ولا التحرر من الطقوس والرسوم ولا التخلي عن العقائد الباطلة..فكانت النتيجة أنهم ظلوا في الحضيض.شرح الكلمات: أَوْ إِطْعَامُ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (3) مَسْغَبَة : سَغَبَ الرجلُ سَغْبًا وسُغوبًا وسَغَبًا وسَغابةً ومَسْغَبَة : جاعَ (الأقرب).فالمسغبة: الجوع.التفسير أي لو كان عند هذا الإنسان حب صادق لليتامى والمساكين وإحساس سليم بإزالة معاناتهم لأطعمهم يوم الجوع ، أي رعاهم في أيام القحط والمجاعة والفقر

Page 807

الجزء الثامن سورة البلد وهيأ لهم الطعام والغلال.صحيح أنه كان يذبح ١٠٠ جمل في يوم واحد، ولكن عمله هذا كان في غير محله، إذ كان عليه أن يذبحها من أجل اليتامى والمساكين، فيقيم لهم مأدبة ويطعمهم ويزيل جوعهم.ولهذه الحكمة نفسها قال الله تعالى هنا يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ..أي أننا قلنا من قبل أن هذا الإنسان كان ينفق ماله رياءً للناس طلبًا للجاه، فكان لقائل أن يقول: ربما كان يطعم اليتامى والمساكين أيضا، ودرءًا لهذه الشبهة قال الله هنا إن هذا الإنسان كان ينفق ماله وينحر إبله بلا شك، ولكن ليس في يوم الجوع..أي ليس حين يكون الجياع بحاجة إلى طعام، بل كان ينحر ١٠٠ من الإبل في يوم واحد كلما ركب رأسه جنون السمعة والرياء، مع أنه لو فعل ذلك طبقًا للضرورة الحقة لنحر لإطعام أصدقائه جملا واستبقى ٩٩ جملا لإطعام اليتامى والمساكين لكيلا يعانوا من الجوع والفاقة.فحيث إنه لم يهتم بضرورات المجتمع، وأضاع ماله في غير محله فلا يستحق المدح عندنا ولا يحظى باحترام الناس.يَتِيمًا ذَا مَقرَبَةٍ ) 17 عليه أن التفسير: لقد أضاف الله تعالى هنا كلمة ذَا مَقْرَبَةِ، لأن الإنسان يكون مضطرًا لأن يُسكن اليتيم ذا القرابة في بيته، وينفق على أكله وشربه ولباسه وتعليمه وغير ذلك؛ بغض النظر أيقوم بذلك طوعا أو كرها، إلا أن مسؤولية القرابة تفرض يرعى يتيما ذا قرابة.ولكن الله تعالى يقول هنا إنكم لا تطعمون يتيما ذا قرابة أيضًا، مما يدل على سوء حالكم إلى حد خطير.إذ لا تعني هذه الآية أن على المرء أن يطعم اليتيم القريب ولا حاجة له أن يطعم اليتيم الذي لا قرابة له به، بل المراد أن هؤلاء لا يُرجى منهم أن يرعوا اليتامى الأقارب ويسدوا حاجاتهم، فكيف يرجى منهم أن يهتموا بأداء واجبهم نحو اليتامى الآخرين؟

Page 808

الجزء الثامن ۸۰۸ سورة البلد أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ) ۱۷ التفسير أي مسكينا ذا لصوق بالتراب لفقره.وله مفهومان: أولهما المسكين الذي قد ساءت حالته المادية جدا، إذ يقال في الأردية أيضا فلان قد صار ترابا..أي أصبحت حالته يرثى لها جدا.والمفهوم الثاني أنه مسكين جمع بين الضعف المادي والبدني معًا، فهو فقير مدقع كما هو مريض ضعيف لا يقدر على المشي حتى يذهب إلى أبواب الأغنياء للسؤال.لقد ازداد ضعفه وهزاله بحيث أصبح ملقى على الأرض، فلا يقدر على الحراك والسؤال، كما لا يلوي عليه أحد.فكيف يسأل الله تعالى مِن فضله من لم يترحم على هؤلاء المساكين المرضى الضعفاء غير القادرين على السؤال؟ وكيف يحترمه الناس ؟ لا شك أن الفقراء الذين لا يعملون عادة لكونهم ،معذورين، يرجى منهم أيضًا وقت الشدائد أن يعملوا ليأكلوا، إلا أن من الفقراء مَن لا بد للإنسان أن يحمل أعباءهم كاليتيم القريب أو الفقير المدقع الضعيف غير القادر على العمل.ولكن هذا الكافر لا يعتني بمثل هؤلاء الفقراء الضعفاء أيضا عند الشدة، مع أن أخلاق الإنسان إنما تختبر وقت الشدائد.۱۸ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ () التفسير : لقد بيّن الله تعالى هنا أن العمل الحسن وحده لا يكفي، بل لا بد معه من الإيمان، وكذلك لا بد من الحماس لنشر الخير بين القوم.والإيمان ليس هنا بمعناه المعروف، بل المراد الإيمان بأهمية أعمال الخير المذكورة سابقا..أي بالإضافة إلى القيام بتلك الأعمال لا بد للمرء أن يكون موقنا بأهميتها أيضًا ولا يقوم بها نفاقا، لأن العمل المصحوب بالنفاق لا يولد في صاحبه تلك البشاشة التي تساعده على القيام به على ما يرام إنما يقوم المرء بالعمل بحماس وبشاشة إذا كان مؤمنًا بضرورته وصحته.

Page 809

الجزء الثامن 1.9 سورة البلد والمعنى الثاني هو أن هؤلاء لو أخلصوا في أعمالهم لتيسرت لهم التقوى، وبالتالي 11 وُفِّقوا للإيمان.وهذا يعني أن ثُمَّ في قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا...جاء بمعنيين، أحدهما : "بالإضافة إلى ذلك"، والثاني بعد ذلك".وكلاهما ثابت لغة.فنظرًا إلى المعنى الأول ستعني الآية ما ذكرته من قبل أي أن يقوموا بهذه الأعمال مؤمنين بأهميتها..أي أن العمل لا يكتمل إلا بالإيمان بأهميته، لأن النفاق ينخر جذر العمل.أما نظرا إلى المعنى الثاني فستعني الآية أنهم لو قاموا بهذه الحسنات لصاروا مؤمنين..أي لآمنوا بالرسول ل نتيجة حسناتهم هذه، لأن العمل الذي يتم بصدق نية يؤدي إلى الإيمان.كان حكيم بن حزام صديقًا للنبي ، حتى قبل دعواه، فلما أسلم قال للنبي : أينفعني ما تصدقت به في زمن كفري أم ضاع كله؟ فقال : "أَسلمت على ما أسلفت من خير البخاري: كتاب الأدب، باب من وصل رحمه في الشرك)..أي كيف يضيع ولماذا؟ لقد نلت نعمة الإيمان نتيجة تلك الخيرات.11 ثم قال الله تعالى وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ..ونظرًا إلى المعنى الأول لـ ( ثم) سيكون المراد من قول الله هذا أنهم لو آمنوا بأهمية هذه الأعمال إلى جانب القيام بها، ولو أنهم لم يكتفوا بالقيام بها، بل دعوا الآخرين أيضا لأدائها بصبر وثبات، وحتّوهم على الرحمة بالناس لكان مباركا لهم.علما أن التواصي الوصية مرة تلو مرة، والصبر يعني الثبات والدوام، والمرحمة يعني الرحمة.أما بحسب المعنى الثاني لـ ( ثم)، فالمراد أنهم بعد القيام بهذه الأعمال لا بد أن يوفقوا للإيمان بمحمد الله وأن تقوى فيهم عاطفة الخير لدرجة أنهم بدلاً الآخرين يتحملون الظلم بكل شوق بعد الإيمان بمحمد ، ويحثون الآخرين على الصبر على اضطهاد القوم، ثم مع صبرهم على الظلم يعاملون أعداءهم برحمة، يعني من ظلم وينصحون أصدقاءهم أيضا بألا يغضبوا على أعدائهم، بل يرحموهم رغم ظلمهم.

Page 810

الجزء الثامن سورة البلد شرح الكلمات أُوْلَئِبِكَ أَصْحَبُ الْمَيْمَنَةِ (3) الميمنة: البركة؛ جهة اليمين.(الأقرب) ۱۹ التفسير: يقول الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم إن الذين يُؤتون سجل أعمالهم في يمينهم يوم القيامة سينالون العزة ويدخلون الجنة، وعليه فيكون لقوله تعالى أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مفهومان: أولهما أن الذين صفتهم ما قد ذكرنا من قبل والذين يعملون بأحكام الله تعالى سيكونون ممن يؤتون سجل أعمالهم في يمينهم؛ أما المفهوم الثاني فهو : أن الذين يتبعون أحكام الله تعالى عن طيب نفس سيرثون بركات الله تعالى.وَالَّذِينَ كَرُواْ بِنَايَتِنَا هُمْ أَصْحَبُ الْمَشْمَةِ (3) شرح الكلمات : المشامة : الشمال؛ النحس.(الأقرب) ۲۰ التفسير: لهذه الآية أيضا مفهومان: أولهما أن الذين يكفرون بأحكام الله تعالى سيكونون من الذين يُؤتون سجل أعمالهم في شمالهم، والثاني أن هؤلاء سيكونون نحسًا لأنفسهم ،ولقومهم، وسيكون مآلهم الفشل.شرح الكلمات: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ) ۲۱ الموصدة: المؤصَدُ: المطبق والمغلق.(الأقرب)

Page 811

الجزء الثامن ۸۱۱ سورة البلد التفسير: ربما لم يدرك الأولون حقيقة النار المؤصدة كما ينبغي، ولكن هذا الأمر لم يعد صعبًا على الفهم في العصر الحاضر ، لأن العلوم الحديثة قد كشفت أن أشد النار حرقةً ما يكون مغلقا من كل جانب.تكون نار الكير شديدة لكونها من كل جهة، حيث تخرج من ثقب صغير فقط، فتكون شديدة الحرارة مغلقة وتحول الشيء رمادا.لقد بين الله تعالى هنا مصير الكافرين وأخبر أن هؤلاء يعارضون الإسلام اليوم ويؤذون المسلمين أشد الأذى، فليتذكروا أنهم سيُلقون في نار مغلقة من كل جهة فتحرقهم وتحوّلهم رمادا بمعنى أن كفار مكة سيُدمَّرون في حربهم ضد الإسلام والمسلمين بحيث لن يبقى لهم أثر وبالفعل نرى أنهم هلكوا وبادوا بحيث لا تجد اليوم في العالم كله أحدًا مِن عَبَدة اللات ومناة والعزى.لقد سحقهم الله برحى عذابه وصب عليهم غضبه بحيث لم يبق لهم أثر في الدنيا.

Page 812

ملحقات وَضَعَ الأصل الأردو: الأستاذ سيد عبد الحي شاه ناظر التصنيف بالجماعة

Page 813

(1) فهرس المواضيع

Page 814

ملحقات ٦٤٤ ٤٠٨ ٤٠٨ ٥٢٠ ٥٢٠ ٥٢٢ الجزء الثامن الله خلالة إِن اللَّهَ وِثَرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ (الحديث) ٦٤٤ تعلم صفات الله بتعمق يجعل الإنسان تقيا معرفة صفات الله يزيد المرء عملاً علم صفات الله الأخلاق السامية يبني مشاركة الإنسان في صفات الله ظاهرية فقط نظام الكون دليل على وجود البارئ تعالى ١٧٠،١٦٧ صفات الله على مغايرة لصفات غيره مكة المكرمة دليل على وجود د الله وعل حقيقة رؤية الله وعل وسيلتان لرؤية الله وعل {10 (21.ظهور صفات الله على الرسول مباشرة هو رب العالمين اشتراك غير الله في صفة الرب هو الرحيم وسعت رحمته كل شيء ۳۷۸،۳۷۷ ٥١٦ Yo ΕΛ ٧٤ Vo إن الله رحيم ويجزي الإنسان أكثر من عمله جزاء الأعمال يتعلق بالصفة الرحيمية المسيحية تجمع بين رحمة الله وعجزه عن المغفرة غفران الله لا يجرى على الذنوب ٣٤٥،٣٤٤ ٣٤٣ Vo ۰۲۳ ٥٢٦ ۵۲۷ ٥١٦ ٤٨٧ ٤٨٨ ١٦٢ ١٦٣،١٦٢ ١٦٢ ١٦٢ ٢٣٥ ٣٤٢،٣٤١ ٤٤٤ ٤٤٣ الرحمن الرزاق المقارنة بين النبي الهلال وبين موسى حول رؤية الله ١٥٦ ضرورة كلام الله وعل الفرق بين كلام الله علل وغيره لا يقدر الإنسان أن يكلم الله كل مشافهة يُثبت الله صدق كلامه بنفسه الأسباب والأقدار بيد الله وعل تدبير الأمر في قبضته علل هل يأتي الخير والشر من الله عل؟ غيرة الله ولا على أنبيائه ۱۷ ٢٥٨ VV ۹۹ ۱۸۹ 110 ۷۳۰،٧٢٦ ٢١٤ العناية الخاصة بالرسول ٥٢٢ ظهور ملكوت الله و في الأرض من خلال الأنبياء ٤٨٨ من سنة الله أنه لا ينصر دينه بالكبار المشاهير فلسفة قسم الله في القرآن حقيقة خلق الإنسان على صورته حالة عاقبة خدامه وعل لا بد من الجهد لوصال الله تعالى كل العيوب هي نتيجة الابتعاد عن معنى "المحجوب الله عل" عن الله وعل التدريج في التجليات الإلهية على الإنسان شُبِّهَ حُبِّ الله بالخمر صفاته تعالى الله تسعة وتسعين اسما (الحديث) ١٩٤ ‹9.٣٤٩ ٧٥٢ ٤٤٣ ٦٣٣ ٤١٠ ٤١٦ ۷۲ ٦٤٤ ٤٠٨ الحيي الشافي الأعلى الغفور والودود ذو العرش المجيد الفرق بين علم الله وعلم مخلوقه علم الله التام دليل على القيامة صفة الخلق شبيهة بالقيامة التشابه بين الخلق والإحياء الروحي إظهاره لغناه سعة غفران الله وعل لقاء الله ذريعتان للقاء الله تعالى ضرورة الجهد الشديد لأجل لقاء الله لا إيمان بدون معرفة صفات الله

Page 815

الجزء الثامن ملحقات ضرورة عبور نهر آلام الجحيم لقاء الله ٤١-٤٤٤ يحظى القوم بلقاء الله حين يتفانى كل فرد منهم الآخرة: ثبوت وجود الدار الآخرة إن الدار الآخرة لهي الحيوان علماء الهيئة يؤمنون بالقيامة هل حياة الآخرة تكون بجسد مادي الآداب (انظر في الأخلاق) آريا سماج (انظر في الهندوسية) الآية / الآيات العصا أكبر آيات موسى ال التسع ٤٤٥ ۲۲ ۲۱ ۲۷ VA Vol تفسير "وإذا الشمس كورت" عند الجماعة الأحمدية ٢٦٥٠٢٦٤ "وإذا الرسل أقتت" تشير إلى بعثة المسيح الموعود الم ٢٢٤ تفسير عمر الله للآية: إذا النفوس زوجت" الابتلاء الاختبار الابتلاء ضروري للرقي (المسيح الموعود ٤٨٠ الابتلاءات الآتية بحسب الإنباء الإلهي تقوي المؤمنين كثيرا نوعان للابتلاء عند المسيح الموعود اللي طريقان للابتلاء هدفان من الابتلاء مقام الابتلاء ومقام الجزاء الإحسان ٢٦٠ ٤٤٧ ٧٢٥ ۷۲۰ ،۷۲۲ ٧٣٤ تخلقوا بأخلاق الله" (الحديث) الخُلق هو اعتدال القوى الإنسانية (المسيح الموعود اعتدال الأخلاق يؤدي إلى النجاح ٣٤٩ ۵۳۳ ٥٢ تتطور الأخلاق الفاضلة نتيجة العلم بصفات الله ٤٠٨ أساس الإسلام الأخلاق والعواطف الإنسانية ١٢٦ ۲۱۹ ،۲۰۹ ،۲۰۲ أخلاق النبي ﷺ الفاضلة أخلاق الرسول في السراء والضراء الله يثني على أخلاق النبي المقارنة بين أخلاق الأنبياء والفلاسفة أخلاق الصحابة العالية تطوير أخلاق الصحابة بالمحن غنى النفس عند الصحابة أخلاق الحاكم المثالي حكم الخلفاء أخلاقي لا كحكم الناس لا ينال الحكم إلا ذوو الأخلاق العالية أخلاق المسلم المثالي الفرق بين أخلاق الكفار والمسلمين ۷۳۵ ٢١٤ ٤٠٩٠٤٠ ٤١٩ ١٤٨ ٤٢٠ ٣١٥،٣١٤ لمحة عن أخلاق الكفار تتطور الأخلاق بإحياء التقاليد البطولية للأمة سبب انحطاط الأخلاق هي النبي ١٢٦ ۱۳۳ ٦١٣ أخلاق الأمم تتطور بجهود سنوات طويلة ٢، ٦٣٢۱۳ ٢٦٧ ٧٥٠ ٤٠٦٠٤.O النبي اله وصحابته من التفاخر بالانتصار يوم الفتح ١٨٥ ضرورة الاهتمام باليتامى والمساكين حث الإسلام على الوفاء بالعهود آداب الاستماع إلى النبي آداب مجلس الدعوة والتبليغ ۷۳۷ ۱۷۵ ۲۱۰ الإحسان الواسع النطاق الإحياء الروحاني (انظر الحياة) الأخلاق / الخلق ٦١٥ النهي عن مقاطعة الحديث آداب المسجد آداب القبور ضرورة استئذان صاحب البيت قبل الدخول ٢٠٤ ۷۱۳ ٧١٤،٧١٣ ٣٤٤

Page 816

الجزء الثامن إذا وُسدَ الأَمْرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة (الحديث) ٢٥٥ هو حركة خالية من التعصب القومي والقبلي الأرض (راجع أيضًا الخلق والجيولوجيا) خلق الأرض قيام الأرض مستحيل دون النظام الشمسي منافع الأرض أهمية الجبال في الأرض دور الشمس في خصوبة الأرض دور الكواكب في تحضير الأرض لبقاء الإنسان ۱۷۸ ۱۷۸ ۳۱ ٣٤ ۱۷۲ الإسراف (انظر في المال) الإسلام الإسلام شكلاً ومضمونًا ضرورة المجددين لإحياء الإسلام نيل مقام النبوة محال إلا بالفناء في الرسول ﷺ إحداثه انقلابا جذريا إحسان الإسلام إلى العرب إسلام بعض الأمراء والعائلات الشريفة ٢٦٤ ٦٩٣ ۲۲۰ صحابة من فقراء مكة وأغنيائها وفقوا لخدمة الإسلام ثورة إحيائية بالإسلام الرقي الديني والدنيوي يُنال باتباع الإسلام صدقه ۲۳۳ ۱۹۵ ۸۰۲ الإسلام دين عالمي تعاليمه المتوازنة والمتكاملة لمحة عن الحكم الإسلامي الإسلام والرق حثه على احترام العهود التطور الذي يريده الإسلام للنساء الرحمة غالبة في تعاليم الإسلام عنايته بالحيوانات والمواشى ملحقات ۱۲۷ ۱۲۷ ۵۳۹ ٦١٧ ٨٠٤ ٣٨ 77 ۰۷۲ ،۳۷ ۱۸۰،۱۷۹ ٣٥٣ أعمال الإنسان تسجل بحسب الإسلام حقيقة تيسير العبادات الإسلامية ۵۷۳ ١٤٢ لا تصوّر للسنة النبوية في الديانات الأخرى "الأعلى" و"الغاشية" قويتا الصلة بالحياة الاجتماعية ٥٧٦ أنباء غلبته نباً غلبة الإسلام وعظمته ۱۸۹،۳۶،۳۵ أنباء غلبة الإسلام في بداية الفترة المكية ۶۲۹ ،۵۷۵ ،۱۲۸ ٦٨٣ في "المقطعات" أنباء مهمة عن غلبة الإسلام غلبة الإسلام والقيامة إحداهما دليل على صدق الأخرى هجرة المدينة إشراق الفجر بعد الليالي الحالكة آثار الفتح ظهرت بعيد صلح الحديبية يقين كفار العرب بغلبة الإسلام آية عظيمة على صدق الإسلام ٦٠٢ الأحداث المهمة في صدر الإسلام لم تكن صدفة ١٥٥ غلبة الإسلام في الفترة الأولى تعاليمه ميزات تعاليم الإسلام الاهتمام بالفطرة الإنسانية في تعاليمه الأخلاق والمشاعر أسس الإسلام ۱۲۸،۱۲۷ ۵۷۳ ١٢٦ انتشاره في البلاد النائية في وقت مبكر غلبة الإسلام أعظم من غلبة الأنبياء كلهم شوكة الإسلام وحسرة الكفر طريق نيل العزة في عصر غلبة الإسلام سعة تعاليم الإسلام نظرا إلى طبائع مختلفة ۱۲۸،۱۲۷ مدة غلبته تعاليمه المحايدة لكل شريحة وطبقة ۱۲۷ مدة غلبة الإسلام 10.617.٦٦٨ ۳۹ 1 ٨٦ ١٢٣، ٥٦٤ V ٨٤٤٤٦ ۸۲ ٤٦،٤٢ خير قرون الإسلام القرون الثلاثة الأولى ٤٥٦، ٦٩٠

Page 817

ملحقات ۷۷۳،۷۷۲ ،۰۸۰ ٢٦٧ ٢٤٦،٢٤٥ ٦٢٨ ٦٢٨ ۷۱٥ العبادة في الإسلام والمسيحية الفرق بين أخلاق الإسلام والكفر معارضته سبب معارضتهم الإسلام مؤرخو أوروبا شوهوا تاريخ الإسلام ٤ ٢٥٦ الجزء الثامن عصران مقدران لغلبة الإسلام نشأة الإسلام الثانية نبأ عن رقي الإسلام ثانية بعد تدهوره ٣٦٠،٣٥، ٥٠٧۹ ،۳۰۷،۳۰٢٥٦،٢٥٤، ٦ ٢٥٩ نباً نشأة الإسلام الثانية نبأ ظهور مبعوث من جهة الشرق لرقي الإسلام ۳۱۷ زعم البهائيين بنسخ شريعة الإسلام فتح الإسلام وغلبته مقدر على يد المهدي نبأ عن إحياء الإسلام بعد عام ١٢٧١هـ أعطي المسيح الموعود لواء فتح الإسلام في ١٨٨٦م ٤٩٨ ٦٨٥ ٢٥٧ يوقن المرء بغلبة الإسلام ثانية بالإيمان بالمسيح الموعود ۳۰۸ وصية المسيح الموعود الليلة جماعته بالتضحية لإحياء الإسلام معارضة من بعث لإحياء الإسلام نبأ بعثة الموعود لإحياء الإسلام في القرن ۱۳ ٤٧٩ ٥٨٦ для فترة التمييز الجلي بين الإسلام والكفر الافتراء (انظر الوحي والنبوة) الإكراه لا إكراه في الدين الإكراه في الدين يولّد النفاق لا يجدي الإكراه في الدين نفعا الإلهام ( انظر الوحي النبوة) الدليل على أن العربية أم اللغات الأمانة (انظر أيضًا الأخلاق) عصر إحياء الإسلام من القرن ۱۳ إلى ١٦ ٦٨٩،٦٨٨ أُمُّ اللغات بعد الحرب العالمية الثالثة تدمر الأمم الغربية والمسيحية ويزدهر الإسلام تدهوره ٤١٣،٤٠٧ نبأ قرآني عن امتداد عصر تدهوره لعشرة قرون ٦٨٤ إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة (الحديث) ٢٥٥ لن يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن..٤٦٣ ٥٦٩ إذا وُسدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (الحديث) ٢٥٥ بدأ تدهور الإسلام بمعاهدة عقدها ملك الأندلس المسلم مع البابا في عام ٢٧١هـ معاهدة حكومة بغداد المسلمة مع قيصر ضد أسبانيا المسلمة في عام ٢٧٢هـ تدهور الإسلام بسبب تدهور المسلمين في تدهوره أيضا دليل على صدقه مقارنته بالأديان الأخرى فضله على الأديان الأخرى من حيث التعاليم لا توجد مثل تعاليمه المعتدلة في أي دين المقارنة بين تعاليم الإسلام واليهودية والمسيحية المقارنة بين رقي الإسلام والمسيحية ٦٨٤ ٦٨٤ ٤٥٥ ٢٥٩ ٦٨٠ ۰۱ ۳۳۱ تفويض الحكم إلى غير أهله ضياع ضياع للأمانة كان الأغنياء منهم يعتبرون أموالهم أمانة إلهية أهمية الشعور بالمسؤولية الأمة المحمدية كون النبي والدا لأمته ٢٥٥ ٦١٨ ۱۲۰ ۷۷۹ ٥٤٤ على الجماعة حماية الأجيال القادمة من الشيطان ٢٤٠ نزول تعاليم متكاملة على الأمة المحمدية نبأ بلوغهم الكمال في الروحانية لن تنسى الأمة المحمدية القرآن الكريم احترام الأمة المحمدية للقرآن الكريم ١٥٦،١٤٠ ٥٥٦ ۲۳۰

Page 818

الجزء الثامن حماسهم للعمل بتعاليم القرآن رغم تدهورهم عملهم بكل تعاليم النبيل اختلاف الأمة ذو نفع الخير في اختلافهم في قضية الخلافة ركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم تطورهم وتدهورهم خير (الحديث) زمن "الشفق" و"اتساق القمر" ٢٢٦ ٤٢٢ 009 009 ٤٥٦ ٤٥٦ القرن الحادي عشر والثاني عشر فترة مظلمة حقا ٤٥٦ رواج الكتابة عند الأمة بكثرة لن يبقى من الإسلام إلا اسمه (الحديث) تدهور الإسلام دليل على صدقه النبوة في الأمة ستبقى النبوة جارية في خدام النبي بعثة نبي لحفظ معاني القرآن لن يأتي أي مبعوث بشرع جديد نياً وجود المفسرين المشرفين المكانة الروحية للنبي التابع بعثة المسيح والمهدى في الأمة الله بوحي إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها (الحديث) نبأ بعثة المجددين في ١٢ قرنا ثم المسيح الموعود أنباء القرآن عن المبعوث الموعود ٥٦٣ ٢٥٩ ٦٨٥ ۰۷۱ ٥٨٧ ٤٢٨ ٤٩٦ ٤٧١ ٤٧١ ٦٩٠،٦٨٩ ملحقات حكموا الهند ثلاثة قرون الإنجليز وقضية استقلال الهند ٣٦٩ طرد الإنجليز الأفارقة من أرضهم ۲۷۹،۲۷۸ الإنجيل دون الإنجيل بعد المسيح الله بقرنين عند المسيحيين ثلاثمئة إنجيل اختلافات في الأناجيل الأربعة المختارة عندهم ٥٥٠ ،۲۲۸ ٥٤٩ ٥٤٩ انتهت تعاليم الإنجيل عمليا لا يحفظ المسيحيون من الإنجيل إلا مقاطع معروفة ٣٢٩ ٢٢٥ نسب يسوع في الإنجيل الإنسان ٣٥١ خلق الكون أكثر أهمية وتعقيدا من خلق الإنسان ١٦٩ خلق الإنسان منزهًا عن العيوب للرفعة والوصال بالله ۱۷۲ ذروة الرقي منوطة بمبعوث موعود للأديان كلها ٢٤١ حقيقة إصابة الخير والشر للإنسان هل ستكون حياة الآخرة بالجسد العنصري؟ خلقه لم يخلق الإنسان دون حكمة أربع درجات لخلق الإنسان اسمان لموعود الأمة: "البدر" و"الطارق" ٤٩٦، ٦٣٥ نبأ بعثة المسيح الموعود في الأمة ٤٥٧ التطور في ولادة الإنسان جسدا وروحا الفرق بين التعديل والتسوية في ولادة الإنسان حكمة خلق البشر ذكورا وإناثا لا يوجد شيء في جسد الإنسان دون حاجة قواه وفطرته تأكيد الأحاديث ظهور المسيح والمهدي من الأمة ٢٥١ ضرورة المسيح والمهدي الإنجليز ينحازون إلى المسيحية رغم كونهم ملحدين ٣٢٦ ٣٦،٥٥ ٣٦٥ VA ۲۳۹ ٣٤٥ ٥١٤ ٣٤٨ 0 ۰۳۱ وهب معنى خلق الله وعجل الإنسان على صورته الله الإنسان قوى تامة ليجعله خليفة في الأرض ٣٤٩ ٣٤٨ خلق الله الإنسان بمواهب ضرورية ۰۳۱ احتيال الإنجليز للسيطرة على "أوده" ٣٦٧، ٧٤٧ الإنسان أشرف المخلوقات بسبب تطوره العقلي ١٦٩

Page 819

الجزء الثامن قدرته على تلقي الإلهام قوى الإنسان الكامنة تبقى قوى الإنسان خفية حتى بعثة نبي طلب الهدف العالي في فطرة الإنسان احترام الموتى من فطرة الإنسان قدرة "الدفق" في فطرة الإنسان الاعتدال والتطور في فطرته تزويده بكفاءة الرقي والاعتدال معنى تسوية الإنسان: خلقه بلا عيب التنوع في ميول الإنسان حالة الإنسان عند الفشل ۲۳۵ 17 ۲۳۸ ٥٠٢ ۰۳۱ ۰۳۱ ۰۳۱ ١٦ ۱۸۲ للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب" (الحديث) ٤٨ طرق تلجأ إليها طبيعة الإنسان تجنبا للعقاب لا يقدر أحد أن يكلم الله مشافهة أهل الحديث تصرفهم الخاطئ تجاه القرآن الكريم أهل القرآن ٣٤١ ٢٦٤ تصرفهم الخاطئ تجاه حديث الرسول ﷺ الإيمان لا يحصل الإيمان دون معرفة صفات الله الإيمان بالرسالة أساس كل عمل صالح ٢٦٤ ٤٠٨ ٦٣٢ مَثَلُ الإيمان قصة استقامة صحابي شاب علامة الإيمان الصادق أخلاق المؤمن المثالي يعمل المؤمن بأوامر القرآن ونواهيه كلها يميز بين الحلال والحرام ويراقب أعماله يبدأ عمله بالحزن وينهيه بالفرح على المؤمن أن يتوجه إلى الله كل حين ٧٦٥ ٧١٤ ٦١٣ ۲۳۲ ٦٤ ٤٤٧ ۸۲ الابتلاء الذي ينزل بحسب خبر الله يقوي المؤمن ٢٦٠ ។ دعاء الملائكة للمؤمنين يُرَى المؤمن في الجنة وهو في هذه الدنيا حساب المؤمن يسير ارتفاع الإيمان إلى الثريا ملحقات ۲۹۳ ٣٦٥ ٢٥٣ ٤٦١ الفرق بين الأحمديين وغيرهم في الإيمان بالله ال ٤٨٣ البابية أسباب سياسية أدت إلى معارضتها في إيران البحر نبأ جمع البحار بحفر القنوات البرج معنى والسماء ذات البروج هناك اثنا عشر برجا طبق علم الهيئة البرزخ عالم البرزخ عقيدة مكوث الأطفال في عالم البرزخ البعث بعد الموت (راجع أيضا الحياة) الدليل عليه نظام السماء دليل على البعث بعد الموت البعث بعد الموت مشابه للبعث الروحى الحاصل في ۷۷۲ ۳۳۵ ٤٦٩ ٤٦٩ ۲۳۷ ۲۸۷ الدنيا التلازم بين الإحياء الروحي والبعث بعد الموت الآراء المختلفة عنه عند العرب قبل الإسلام ។ १ البهائية زعمهم بنسخ القرآن الكريم ۵۱۲ ،۵۱۰ يعتبر البهائيون شرع الإسلام منسوحًا ٧٠٣ التضارب بين عقيدتهم وسلوكهم في تعدد الزواج ٧٠٢ يحاولون إخفاء عقيدتهم رد على البهائية ۳۲۰ ۷۰۳،۷۰۲

Page 820

ملحقات ٥٧٣،٥٤٠،٥۳۹ التعاليم الكاملة تناسب الظروف لا تنزل التعاليم الروحانية إلا بحسب المواهب ٥٤٢ التفسير (راجع أيضًا القرآن) ضرورة مراعاة السياق والقرائن لتحديد معنى كلمة ۱۱۳ ۳۷۹ ۲۰۰ ٤٩٤ ٦٤٤ ។ ឬ ٢٥٤ خطأ اعتبار بعض كلمات القرآن غير عربية آراء المفسرين في "عبس وتولى" إبطال تفسيرهم لهذه الآية التقوى حقيقة التقوى التقوى الحقيقية مثال التقوى التمثل تمثلُ جبريل في صورة إنسان التواضع والانكسار (راجع أيضا الأخلاق) نصح الرسول الصحابة عند فتح مكة بالتواضع ١٨٥ ٣٤٢ ٤٨٥ ٣٥٠ ٣٩٦ 001600.001 ٣٥٣ ٣٦٤ ۵۸۱ ۲۲۵ التوبة التوبة العملية باب التوبة مفتوح المعارضي الأحمدية التوراة ۵۱۲ ٦٩٩ الجزء الثامن رد القرآن على المعتقدات البهائية لا مركز للبهائيين فقدان هوية البهائيين في مراكزهم المزعومة "عكا V..6799 ۷۰۲ ۷۷۲،۷۷۱ ۷۰۲ ٧٠٤،٧٠٣ ۷۰۲ ۱۲۳ ٥٧٥ ۲۱٥ ۳۱۲ ۲۱۳ ۷۰۲،۷۰۱ ۲۰۷ والبهجة" سبب انضمام الناس إليهم سبب عدم تعرض البهائية للمعارضة نقاش المفسر مع امرأة بهائية مقارنة بين مؤسسي الأحمدية والبهائية مقارنة البهائية بالجماعة الأحمدية البيعة حقيقة البيعة ووجوبها التبليغ والدعوة الأمر بالتبليغ المستمر دعوة النبي ﷺ زعماء قريش رسائل النبي إلى الملوك والولاة للدعوة دعوة النبي العبيد آداب مجالس التبليغ نظام الأحمدية التبليغي وحماسه سيرة بعض الأحمديين المتحمسين في التبليغ التجارة شعوب الغرب أمينة في التجارة الفردية، ولكنها خداعة نزول التوراة عند ضرورتها في التجارة مع الأمم تحديد النسل (راجع الزواج) التسبيح علاقة المسيح الموعود اللي بالتسبيح التطور تطور خلق الإنسان ماديًا وروحانيا التعاليم (راجع الإسلام والقرآن أيضًا) ٣٧٤ ٥١٥ ٥١٤ تعاليمها محدودة الهدى ومختصة الزمان ضياعها عند هجوم نبوخذ نصر الشهادة الداخلية على أنها كتبت من الذاكرة ليس في التوراة دليل قطعي على القيامة استخدامات كلمة "ابن الله" في التوراة نبأ موسى فيها عن بعثة الرسول لا يوجد في العالم من يعمل بالتوراة إلا نادرا اليهود لا يحفظون عادة التوراة عن ظهر قلب

Page 821

الجزء الثامن الثواب والعقاب الثواب تابع لصفة الله الرحيم يجزي الله الإنسان أكثر عمله من مقدار ثواب الحسنة وعقاب السيئة الجبل (راجع أيضًا الكون) خلق الجبال على الأرض فوائد الجبال تمنع الجبال الحركة الزائدة للقشرة الأرضية حقيقة نبأ تسيير الجبال الجحيم (راجع جهنم) الجريمة (راجع الثواب والعقاب أيضًا) تاريخ الجرائم الجماعة صفات جماعة المدعي الصادق لا يطوّر الله جماعته على أيدي المشاهير الجماعة الإسلامية الأحمدية (راجع أيضًا المسيح الموعود) أهميتها الروحانية Vo ٧٤ ٤٩ ۱۷۷ ۱۳ ٦٢٦ ۲۷۰ ۵۱۹ ۳۱۹ ١٩٤ л موقف غير الأحمديين مقابلنا لا نسخ في القرآن عندنا اختلاف المبايعين منا وغير المبايعين رحمة ملحقات ۳۹۹ مقارنة الأحمدية بالبهائية برامجها وإنجازاتها برامج جماعتنا V..6799 روح التضحية والإيثار والمثابرة ونظام التبليغ عندنا ٣٠٨ ۷۰۲،۷۰۱ حماس الأحمديين للدعوة في زمن المسيح الموعود سيرة بعض الأحمديين المتحمسين مركزنا القوي من علامات رقينا وجود علامات الازدهار في الجماعة قوة الإقدام عندنا ۲۸ ۲۰۷ ٦٩٩ ٦٩٩ ۳۲۲ بداية مشروع التحريك "الجديد" عام ١٩٣٤م ٦٥٥ هدف "التحريك الجديد" تعوّد تحمل المشاق إنجازاتها في غرب أفريقيا ٤٤٦ ٦٩٨ نظام العناية بالفقراء والمساكين فيها ٧٤٤ || خدام الأحمدية" و"أنصار الله" لتعود تحمّل المشاق ٤٤٤ نصائح وتعاليم للجماعة دلیل صدقها وجود أناس كأمثال الصحابة فيها انضمام جميع أنواع الناس إليها ٤٤٥ ٦٩٢،٦٩١ ٦٢٠ ۷۰۱ كل ما نقوله نقوله لتوطيد شرف النبي وجلاله ٤٨٥ عقائدها لا يمكن التقرب من محمد الهلال و الآن إلا بواسطة المسيح الموعود العلمية سيبعث الله مظاهر المسيح الموعود المختلفة في صورة مهدي حينًا ومسيح حينا آخر الفرق بين إيمان الأحمديين بالله وغيرهم ٤٩٨ ٤٨٢ وصف المسيح الموعود اللة الجماعته ضرورة العمل بما جاء به المسيح الموعود العلي ٤٤١ ۲۳۳ ٢٤١ ٤٧٩ ضرورة نشر الإسلام في العالم على الجماعة تقديم أي تضحية لإحياء الإسلام يجب الاجتهاد لإيصال هذه الأمانة إلى أجيال تالية ٢٤٠ أربعة مبادئ اجتماعية لا بد لنا من التحلى بها إذا ركزت جماعة نبي على الأغنياء أكثر ضاق نطاق رقيها وصية الالتزام بآداب "بهشتي "مقبرة" ٧٤٩ ۱۹۳ ٧١٤،٧١٣ ٧٤٩ ٦١٨ على الجماعة أن تعلم أن المال سيغدرون محبي من له الخيار في إنفاق مال الجماعة؟ لا يجوز لأحد أن يأخذ التبرعات دون إذن المركز ۷۲۸

Page 822

الجزء الثامن معارضتها ومصير المعارضين میں ملحقات لعب إبراهيم مع أولاد المؤمنين والمشركين في الجنة ٢٨٧ ۱۱ ۲۲ ۷۷۲،۷۷۱ سبب معارضة الأحمدية بشدة معارضتها الحالية وإقبال الناس عليها مستقبلا معارضة الأحمدية دليل على صدقها المراد من "جنات عالية" حقيقة "تجري من تحتها الأنهار" خاصية نعماء الجنة العلاقة بين هلاك فرعون وزمن المسيح الموعود ۷۱۸ المراد من الرحيق المختوم تشابه جماعتنا ببني إسرائيل ونجاتها من فرعون في العاشر المستمتعون بنعماء الجنة من محرم ۷۱۸ سيُطَمْئِنُ خليفة الجماعة من اضطهاد فرعون في القرن الـ ١٩ ۷۲۱ تعمد المخالفين اتهام الأحمدية بالإساءة إلى النبي ٤٨٢ إيذاءات المخالفين للأحمديين شعور المخالفين بتفوق الجماعة الأحمدية ٤٨٥ ۱۱ "التسنيم" هو الإلهام الإلهي أرواح المؤمنين في الجنة كل إنسان يدخل الجنة في حالة الشباب لا لغو ولا اتهام في الجنة معنى "وإذا الجنة أزلفت" في آخر الزمان وعد للمتقين بالجنة في الدنيا اعتراف مدير جريدة "زمیندار" بتأثير الأحمدية في كبار الطمأنينة والسكينة جنة دنيوية ٦١٢ ٤٨٦ ۷۳،۷۲ ٤٢١ ۲۹۳ ٤٢٧ ٤١٢ ٦٧ ۷۳ ٣٠٣ ٣٥٧،٥٧ ٣٥٦ الفعل الواحد يُري الكافرين جحيما والمؤمنين جنةً ١٨٤ الناس عاقبة المعارضة باب التوبة مفتوح للمعارضين مستقبل الجماعة الأحمدية ۳۲۲ ٤٨٤، ٧٥١ ٤٨٥ الجهاد إلغاء الجهاد بالسيف في هذا العصر الحكمة من الله ٣٠٣ جهنم الجحيم أنباء في سورة الفجر عن مراحل تاريخ الأحمدية ٦٩٥ ۱۹۰۲ و ۱۹۸۱ و ۱۹۹۰م سنوات مهمة يوم الفرقان فيها ٦٩٥ ٦٩٥ مستقبل الأحمدية في ضوء أنباء مؤسسها ٤٦٠،٤٥٩ جهنم تكميل أرواح أصحاب النار في الجحيم عذاب الجحيم محدود نبأ غلبتها على العالم في ثلاثة قرون الجنة إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً ٣١٨، ٦٩٦ شدة عذاب الجحيم المراد من "إن جهنم كانت "مرصادا عدم الطمأنينة جحيم الدنيا ٣٠٢ ΕΛ ٤٥ ۵۸۹ ٤٠ ٣٥٦ (الحديث) ٢٨٦ ۲۸۸ ٣٠٣ النبي في الجنة والشهيد في الجنة...(الحديث) الجنة تحت ظلال السيوف (الحديث) ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد...(الحديث) ٢٨٦ مسألة دخول أولاد المشركين الجنة أطفال المشركين في الجنة (ابن عباس) أطفال المؤمنين يدخلون الجنة ٢٩٣،٢٨٤ ۲۸۹ ۲۹۳،۲۸۹ الفعل الواحد يُري الكافرين جحيما والمؤمنين جنة ١٨٤ فترة حسد أعداء الإسلام جحيم لهم الحرب العالمية جهنم ضرورة عبور نهر آلام الجحيم للقاء الله الجيولوجيا (راجع أيضا الخلق) كيفية خلق الأرض بحسب القرآن خلق الجبال وفوائدها ٤٢ ٣٥٧ ٤٤٤،٤١ ۱۷۸ ۱۳

Page 823

الجزء الثامن الحج الحج الأكبر الحجة لا يعذب أحد بدون إتمام الحجة الحديث النبوي الأحاديث الواردة في هذا المجلد اجعلوها (أي سبحان ربي العظيم في ركوعكم ۲۹۰ ٥٣٠ ۱۰ حب الوطن من الإيمان حلا أُمَّ فلان خير ركم قرني، ثم الذين يلونهم...الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين الصبر عند الصدمة الأولى فيشفع النبيون والملائكة....النبي في الجنة والشهيد في الجنة...معـ ملحقات ١٤٤ ٧٥٨ ٤٥٦، ٦٩٠ ٢٨٥ ۷۳۵ ٢٥٥ ۲۸۸ يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: مع آبائهم..٢٨٥ ٢٥٥ لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم...اجعلوها (أي سبحان ربي الأعلى) في سجودكم ٥٣٠ إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة أسلمت على ما سلف من خير أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم اقتراب الساعة هلاك العرب ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة أنا لكم بمنزلة الوالد إن رسول الله لما نزل الحجر في غزوة تبوك إن الشيطان يجري من الإنسان...إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَحْطَأَ خَطِيئَةٌ تُكتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ...إن لكل ملك حمي...إن لمهدينا آيتين لم تكونا....إن الله تعالى خلق للجنة أهلا...إن الله وَتر يحب الوتر إن الله يبعث لهذه الأمة...إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة...إن من أشراط الساعة أن بعثت أنا والساعة كهاتين تخلّقوا بأخلاق الله تزوجوا الولود الودود يرفع العلم...ذلك (أي العزل الوأد الخفي الجنة تحت ظلال السيوف ٢٥٥ 1.9 ٢٦٦ ٢٥٦ ٣٤٤ ۷۷۹ ۷۱۲ ٤٠ ٤٠٤ ٦٤ ٢٦٥ ٢٨٦ ٦٧٣ ٤٧١ ٤١١ ٢٥٥ ٢٥٦ ٣٤٩ ٢٩٦ ٣٠٣ كان الرسول مضطجعًا في بيته كاشفًا لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم...لا يبقى من الإسلام إلا اسمه...لقد هممت أن أنهى عن الغيلة....للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب عن فخذيه ٣٤٤ ٢٥٥ ٤٦٣ ٢٩٤ ٤٨ ما أَذنَ الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن ٤٣٧ ما المسئول أعلم من السائل ما غرَّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان إذا ولدت الأمة ربها.....٢٥٤ ٣٤٢ ٢٥٥،٢٥٤ ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله...٦٤٢ من مسلم يموت له ثلاث من الولد...٢٨٦ ٢٥٦ ٢٨٤ ٢٥٠ ما مَن سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت من نوقش الحساب عُذْبَ من مات قامت قيامته من مات وليس في عنقه بيعة...نعوذ بالله من الحور بعد الكور..الوائدة والموءودة في النار...والله لا يخرج من النار أحد حتى...وقتُ المغرب ما لم يغب الشفقُ ملكا...وكل بالمؤمن مئة وستون هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر ۱۲۳ ٤٤٩ ٢٨٥ ٤٤ ٤٥٢ ٥٠٠ ٦٤٥

Page 824

ملحقات ۳۷۸ ۲۷۸ ۲۱ ۲۱ 17.۲۳۹ ۲۳۹ ۲۳۸ ۱۷۹ ٢٧٦ الجزء الثامن إذا أراد عبدي سيئة فلا تكتبوها عليه...من قال مطرنا بنوء كذا وكذا...يوشك أن يأتي...زمان لا يبقى من الإسلام..اليوم الموعود يوم القيامة....إن لله تسعة وتسعين اسما...غفَر الله لامرأة سقت كلبا مَن حُوسب عُذِّبَ إن الجنة لا تدخلها عجوز حديث المعراج حديث عظيم ومتواتر قل العمل بالحديث النبوي في هذا العصر ٤٩ ۱۱۰ ٤٧٢ ٦٤٤ ۱۷۹ ٢٨٤ ٦٧ ۲۹۱ ٢٦٤ نهي الرسول الله صحابته عن شرب ماء بئر بالحجر ۷۱۲ الحروب (راجع أيضا الغزوات) شجاعة المسلمات في حرب اليرموك حرب صفين чл الحكم لا يدوم إلا بالعدل نبأ قيام حكومات علمانية في آخر الزمان الحياة الحياة الحقيقية الحياة الحقيقية هي دار الآخرة الإحياء الروحاني الأدلة على الحياة بعد الموت التدليل على الحياة بعد الموت بخلق العالم احترام الموتى دليل على الحياة بعد الموت الحياة بعد الموت (انظر الحياة) الحيوانات تعاليم الإسلام بشأن الحيوانات نبأ حشر الوحوش في آخر الزمان خاتم النبيين (انظر في محمد رسول الله ﷺ في الأسماء) الخشية يتجنّب المقربون الذنوب مخافة الله وعل الخلافة ١٨٦ حُكم خلفاء المسملين لم يكن ملكيًا بل أخلاقي ١٢٦ مثالان على عدم أخذ الخليفة بقول الأكثرية ١٤٣،١٤٢ استشارة الخلفاء الراشدين العباس ۲۲۰ ٤٧ ٦٤٣ ٢٥٧ بدأت الملكية في المسلمين بعد ثلاث مئة سنة إنكار عبد الله بن الزبير بيعة يزيد خلافة بني العباس ۳۰۰،۲۹۸ ۱۷۷ ٣٠ الخلق (راجع أيضا الكون) ثورة في النظريات حول الخلق خلق الأرض خلق الكون ليس عبثا ٣٥٧ ٤٠٧،٥٥ ٤٠٧ ٣٦٤ ۳۸۷،۳۸۷ ٣٠٤ ٣٥٤،٢٥٣ ٢٨٤ ٣٦٥ ٣١٤ ٦١٧ ٢٥٥ الحرب العالمية الحرب العالمية الثانية نبأ الحرب العالمية الثالثة الحساب على المرء أن يجعل حسابه صافيًا محاسبة الأقوام محاسبة الأقوام في زمن أنبيائهم سيحاسب المؤمنون حسابًا يسيرًا يحاسب الكافر حسابًا شديدًا الحضارة ليست هناك حضارة مسيحية الحكومة (راجع الخلافة أيضا) صفات الحاكم حكم المسلمين المثالي تفويض الحكم إلى غير أهله ضياع للأمانة

Page 825

الجزء الثامن خلق الكون دليل على وجود الله خلق الكون دليل على الحياة بعد الموت خلق الإنسان ليس بلا حكمة أربع درجات لخلق الإنسان تسوية الإنسان بلا عيب الفرق بين التعديل والتسوية للإنسان الخلق نوعان خلقُ سماء وأرض جديدتين في الزمن الأخير الخلق (راجع الأخلاق) الخمر أضرارها الشبه بين الخمر والحب الإلهي الخير والشر حقيقتهما الدعاء ١٦٧ ١٦٩ ۲۳۹ ٣٤٥ ۰۳۱ ٣٤٨ ٥٤٦ ٤٣٩ ۷۲،۷۱ ۷۱ ٧٣٠،٧٢٦ طريق لجلب رحمة الله وإثارتها أدعية إبراهيم دعاء إبراهيم عند رفع قواعد الكعبة دعاء إبراهيم لبعثة نبي عظيم استجابة دعاء إبراهيم ٧٥٥،٧٥٤ ۷۸۳ ،٧٦٩ ٧٦٩، ٧٨٠ دعاء" اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ٧٨٤ || ۵۸۹ ۵۸۹ ۲۹۳ طلب الكفار منه الدعاء للنجاة من القحط دعاء الملائكة للمؤمنين دعاء عيسى لقيام ملكوت الله في الأرض وتحققه شخص الرسول المسيحيون يدعون يسوع بدلاً من الله تعالى ١٢٦ ۳۳۸ الدنيا نظام السماء دليل على غاية وراء خلقه ٢٤ ۱۲ ملحقات الدين لا إكراه في الدين لا فائدة في الإكراه في الدين فطرة الإنسان ومواهبه خُلقت في أحسن تقويم لا يوجد كتاب سماوي محفوظ إلا القرآن فكرة السنة النبوية لا توجد إلا في الإسلام ٦٢٨ ۱۷۸ ٥٤٩ ١٤٢ الدين مستقبلا على ضوء نبوءات المسيح الموعود ٤٦٤ من ينال التوفيق لخدمة الدين؟ الدين ليس للفقراء فقط ۲۳۳ ۲۱۷ الذنب الفرق بين الاعتداء والإثم الجهل سبب رئيس لارتكاب الذنوب غفران الله ل لا يولد الجرأة على الذنوب طريق كفّارة الكبائر عقيدة المسيحية عن الخطيئة الموروثة إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلَاتِهِمْ....السَّمَاوِيُّ عواقب بعيدة المدى للذنوب ۳۹۱ ٣٤٣ ٣٤٣ ٢٩٤ ٣٤٤-٣٤٥ ٣٦٤ ٤٠٤-٤٠٥ الرؤيا بدأ وحي الرسول بالرؤى الصالحة رؤيا للمسيح الموعود أنه موسى وجماعته ٤١٦ ۷۱۹ رؤيا للمفسر تشير إلى تفاني المسيح الموعود في النبي ٦٩٣،٦٩٤ رؤيا للمفسر أنه في المكان الذي لجأ إليه موسى ۷۱۹ رؤيا أخرى للمفسر تعلم المفسر مفاهيم الفاتحة في الرؤيا الرسول (راجع النبوة) الرق مفهومه الواسع الإسلام والرق ٦٣٧ ٨٠٤ ٨٠٤

Page 826

الجزء الثامن تحرير عبد هو بمثابة تحرير قوم اعتناق العبيد الإسلام في أول أمره إكرام الرسول الله العبيد المسلمين الأوائل ٨٠٦ ۵۹۲ ۱۸۳ إنشاء المراكب الجديدة فيه حشر الوحوش فيه تحقق نبوءة "إذا الموءودة سئلت" فيه إكرام عمر العبيد المسلمين الأوائل ۸۵ ۸۲ ۱۸۳ زندافستا (كتاب الزرادشتيين) رمضان المبارك فرض صیام رمضان في المدينة ٦٥٣ يعد محفوظا من التحريف الزواج صام الرسول عشر محرم الأولى قبل فرضية رمضان ٦٥٤ تزوجوا الولود الودود (الحديث) بعث الرسول في رمضان وقعت غزوة بدر في ۱۷ رمضان بعد الهجرة الروح ٦٧٧ ٦٧٧ العزل هو الوأد الخفي صور جواز ضبط النسل وعدمه ملحقات ٢٧٤ ٢٧٦ ٢٩٦ ٥٤٨، ٥٥٥ ٢٩٦ ۲۹۵ ۲۹۵ تضارب عقيدة البهائيين وعملهم في تعدد الزواج ٧٠٢ تفسير عمر للآية: إذا النفوس زوجت" الساعة (راجع أيضًا القيامة) ۲۸۲ دليل على أن الروح خُلقت لهدف عظيم الإحياء الروحاني والبعث بعد الموت متلازمان معنى قوله تعالى "يوم يقوم الروح" الزكاة (راجع أيضا المال) فتنة مانعي الزكاة واستقامة أبي بكر الزمن الأخير عند بعثة النبي تحاسب الأمة كلها تحقق نبوءات قرآنية متعلقة بهذا الزمن بعثة مبعوث فيه خلق أرض وسماء جديدتين فيه خلق آدم جديد فيه حالة المسلمين فيه بحسب الحديث وضع الجهاد بالسيف فيه بحكمة من الله غلبة العلوم الغربية فيه شعور أهله بعذاب الله إنشاء أصحاب الرأي الواحد منظمات فيه انتشار الجرائد والصحف فيه بكثرة VA ١٤٢، ١٤٣ ٣٠٤ ٢٩٦ ٣٠٣ ٤٣٩ ٤٣٨ ٥٦٩ ۲۸۱ ٣٠٤ ۲۸۲ ۲۹۷ معنى الساعة والقيامة بحسب القرآن جبريل يسأل الرسول عن الساعة حديث: بعثت أنا والساعة كهاتين المراد من اقتراب الساعة معنى اقتراب الساعة هلاك العرب أشراط الساعة السعادة نوعان للسعادة والشقاوة السماء (راجع الكون) السنة لا يوجد تصور لسنة نبوية إلا في الإسلام السورة (راجع القرآن أيضًا) اعتبار القرآن كل سورة صحيفة مستقلة كل سورة متكاملة في مواضيعها نبأ تسهيل وسائل الإعلام واجتماع الأقوام فيه ۲۸۱ علاقة السور فيما بينها نبأ تعطيل الإبل فيه ٢٧٤ طريقة معرفة ترتيب السور ٢٥٢ ٢٥٤ ٢٥٦ ٢٥٢ ٢٥٦ ٢٥٥ ٥٧٦ ١٤٢ ۲۲۳ ۳۲۸ ٦٣٤ ٣٦٣

Page 827

الجزء الثامن ١٤ فائدة بحث كون السورة مكية أو مدنية ٤٦٩٠٤٦٨ حقيقة مبادئ المستشرقين في تحديد زمن نزول السور ضرورة وضع كتاب متكامل بهذا الصدد قول البعض أن (كلا) في السور المكية فقط ٣٦٢،٣٦١ ٣٦٤ ۲۲۲ صلتها بالسور السابقة لها سورة الانشقاق صلتها بالسور السابقة لها سورة البروج صلتها بسورة الانشقاق السور البادئة بالتسبيح فيها ذكر المسيح الموعود ٥١٥ فيها إشارة إلى المسيح الموعود قراءة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة والعيدين ٥٨٥ سورة الطارق سورة الفاتحة تلقي المفسر معارفها من عند الله و سورة البقرة تلقي المفسر ترتيبها من عند الله و سورة النبأ ٦٣٧ ٦٣٧ زمن نزولها صلتها بسورة البروج فيها إشارة إلى المهدي سورة الأعلى ملحقات ٣٦٣ ٤٣٥ ٤٧٠ ٦٣٥ ٤٩٣ ٤٩٣ ٦٣٥ زمن نزولها موضوعها البعث بعد الموت والقرآنُ وغلبة الإسلام ۱ صلتها بالسورة السابقة لها فيها إشارة إلى هجرة النبي سرا صلتها بالسورة السابقة لها سورة النازعات ۲۷ 1 صلتها القوية بسورة الغاشية ۵۱۰ ٦٣٠ قراءة الرسول لله إياها في صلاة الجمعة والعيدين ٥٨٥ تردّ على سؤال: كيف سيغلب الإسلام؟ صلتها بسورة النبأ مماثلتها بسورة عبس سورة عبس صلتها بالنازعات سورة التكوير AV AV ٢٤٣ ۱۹۳ علاقتها الوطيدة بالحياة الاجتماعية الإسلامية ٥٨٥ سورة الغاشية زمن نزولها ovo خلاصة مضامينها علاقتها الوطيدة بالحياة الاجتماعية الإسلامية ٥٨٦ 010 قراءة الرسول الله إياها في صلاة الجمعة والعيدين ٥٨٥ صلتها القوية بسورة الأعلى ٦٣٠ صلتها بسورة عبس وما قبلها من السور ٢٥٦ سورة الفجر مَن سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ زمن نزولها إذا الشمس كورت (الحديث) سورة الانفطار صلتها بسورة التكوير هي تتمة لسورة التكوير تذكر علامات خاصة للمسيحية علاقتها بمستقبل المسيحية سورة المطففين ٢٤٩ ۳۲۷ ۳۲۷ ۳۲۷ ٣٣٥،٣٣٤ ترتيبها صلتها بسورة الغاشية ملخص تفسير المفسرين لها تلقى المفسر معارفها وهو يصلي العصر فيها أنباء بعثة الرسول الثانية "والفجر وليال" استعارة ٦٣٢ ٦٣٣ ٦٣٣-٦٣٤ ٤٤١-٤٤٢ ٦٤٠ ٦٨٢ ٦٦٢ ۷۱۷ حكمة ذكر دمار عاد وثمود مع دمار فرعون

Page 828

الجزء الثامن سورة البلد صلتها بالسور السابقة لها الشرك إن الشرك لظلم عظيم اعتبار الملائكة شركاء في صفات الله شرك شدة شرك المسيحيين نشر المسيحية الشرك مسألة نجاة أولاد المشركين اعتراف مشركي مكة بفشل آلهتهم الشريعة ٧٥٣ ۷۱۸ ۱۲۰ ٣٦٥ ۳۳۵ ٢٨٤ ٦٧٩ عدم نزول الشرع الكامل والجامع من بدء الإنسانية ۵۲۰،۵۱۹ ١٥ ملحقات تتولد الأخلاق السامية في الشعوب بجهد السنين ٧٥٠ ٧٤٣ ٧٤٠ أهمية الفقراء في حياة الشعوب أثر الاهتمام باليتامى في حياة الشعوب الازدهار دون دين وخلق وتحمل مسؤولية محال ۷۸۲ محال هلاك أمة يُعتبر كلّ منها مسئولا عن شعبه ١٤٠ لا يطول حُكم شعب إلا إذا خدم الناس وضحى ۳۷۸ الأقوام الحية تحافظ على عاداتها وتقاليدها الاعتدال والحماس والعزيمة يخلق روح العمل الحماس للتطوع والهجرة لخدمة الأمة لا تنهض أمة إلا إذا ارتفع مستوى نسائها دينيا دور الأغنياء في نهضة الأمة الأضرار الناجمة عن تجميد الأموال حب المال يولد الغدر بالأمة أساس الشرع الأول كان على الفطرة الإنسانية ٥٢٠ أثر الشريعة الكاملة تحوي ردودًا على جميع تساؤلات الفطرة الإنسانية إنما التعليم الكامل ما يوافق البيئة الشريعة تنزل توافق البيئة اهتمام الشرع المحمدي بالفطرة الإنسانية هل يُبعث كل نبي بشريعة وأحكام جديدة؟ القاصر ليس مكلفا بالشرع مآل اعتبار المسيحيين الشرع لعنةً اعتبار "البهائيين" شرع الإسلام منسوحًا ٥٤٣ ٥٤٠ ٥٤٠ ۰۷۱ ٢٢٤ ٢٨٥ ٢٢٦ ۷۰۳ منع النسل على مستوى الأمة ٢٦٧ ٦٦ 1 ٦٦ ٧٤٥ VEV ٧٤٧، ٧٤٨ ٢٩٦ ٣٤٨ ۷۳ ٥٥ ٢٥٢، ٧٤٥، ٧٤٨ ٣٠٥ ٢٦٧ على من ينال الحكم أن يشكر ولا يتكبر أبدًا دور حسن الظن في رقي الأمة تدهور الشعوب وأسبابه حالة الأقوام المنهزمة علامات دمار الشعب أسباب دمار الشعب أسباب انحطاط الشعوب ودمارها ٤٤٩، ٧١٦،٧٤٠ طريق سهل للقضاء على قوم عندما يحين تدهور شعب تغيب مؤهلاته الصادقة ١٩٥ الشعوب والأقوام رقي الشعوب ووسائله رقي الشعوب وتدهورها ثلاث ذرائع لتجنب الهلاك صفات الشعوب الغالبة عاقبة نسيان عادات الأسلاف الحسنة تنزل الويلات على شعب لا يرحم يتشتت شمل الشعب الذي يولد فيه ظالمون أثر حب المال الشديد في أخلاق الشعوب حياة البذخ تفضي إلى دمار الأمة الإسراف علامة كبيرة على تدهور القوم أسباب نقص الزعماء الكبار يشعر القوم بدمار بعد فوات الأوان خلق الشعور بالتضحيات على المستوى الشعبي ٧٤٠ ٢٦٧ ۳۷۱ ٧٤٦ ٧٤٦ ٢٥٥ ٧٤٥ ٧٤٦ ٤٤٩ صفات الأقوام المحفوظة من التدهور سر الرقي القومي ۳۷۷ ۸۰۱ ١٣٦ Vol ٦٦، ١٢٥

Page 829

الجزء الثامن إحياء الأقوام بواسطة الأنبياء حالة القوم قبل بعثة نبي حالة العرب قبل بعثة الرسول حالة الهند السيئة قبل بعثة المسيح الموعود العلية إحياء الأقوام على يد الأنبياء ۲۰،۱۹ ۲۲ ۲۲ 1790177 ١٧٤ ٤٤٤ ۳۷۷ ۷۹۱ ٣٠٤ ۳۷۸ تظهر مواهب أفراد القوم ببعثة نبي يحظى القوم بلقاء الله حين يتفاني كل فرد منهم لكل قوم دوره ولكل دور قيامته صفات قوم نبي صادق يحاسب القوم كلهم عند بعثة نبي محاسبة الأقوام ١٦ الشمس (راجع الكون أيضًا) ضوء الشمس وحرارتها ذاتية دور الشمس في خصوبة الأرض ملحقات ۲۹،۳۰ ۱۷۸ ٢٦٣ ٢٦٣،٢٦٤ ٢٦٥ لا يمكن قيام نظام الأرض دون نظام الشمس حقيقة تكوير الشمس تشبيه الرسول بالشمس في القرآن نبأ كسوف الشمس والقمر الشهاب الثاقب سقوط الشهب بكثرة سنة ١٨٨٥م الشيطان ٢٦٩ أقوام الغرب عيب كبير في الأقوام المسيحية تعاضدهم فيما بينهم وظلمهم للآخرين احتلال الأقوام الغربية البلاد باسم الحماية ٣٣٧٣،٣٧٤ ٣٦٦ ٤٣١ ٣٥٩ 413 ،٤٠٧ ٣٥٧ لن تتحقق مقاصد تشكيل منظمة عصبة الأمم ثلاث هزات لدمار الأقوام الغربية قرب وقت تدهور أوروبا تدهور الأقوام الغربية ورقي الإسلام قدر مقدور ٤٠٠ تُدمّر الأقوام الغربية بعد الحرب العالمية الثالثة ٤٠٧ ما غر ابن آدم غيرُ هذا العدو الشيطان (الحديث) ٣٤٢ إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم (الحديث) ٤٠ إغواؤه آدم الشيطان لا يعلم الغيب لا سلطان له على المؤمنين حقا واجب جماعتنا لأداء الأمانة إلى الأجيال التالية الشيعة بدأ التشيع في آخر أيام خلافة عثمان الشيعة لا يترهون القرآن عن الكلام الدخيل ٥٦٨ ۳۱۸ ٤١ ٢٤٠ ٥٦٠ ۳۲۲ أنباء القرآن الكريم عن الأقوام نبأ اجتماع الأقوام في آخر الزمان نبأ المحاء التعصب العرقي المتفرق عن الشعوب أهمية تقاليد الأقوام الشفاعة ۲۸۲ ٢٦٨ ٢٦٧ عقيدتهم المتناقضة عن القرآن والرد عليها رد على عقيدة الصبر حقيقة الصبر لا بد للأمم من الصبر من أجل التقدم نموذج صبر الرسول الصبر عند الصدمة الأولى ( الحديث) شفاعة الرسول يوم القيامة ۷۹ فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي (الحديث) ۷۹ الصحابة مقامهم ٣٢٤ ۱۳۱ ۱۳۱ ۷۳۵ ۷۳۵

Page 830

الجزء الثامن أصحابي كالنجوم (الحديث) تأثر مستشرق بإيمان الصحابة مقارنتهم بأصحاب الأنبياء السابقين أخلاقهم وصفاتهم تربيتهم العالية ۱۷ ٢٦٦ ٦٢ V تفاصيل ظلم الكفار إياهم صبرهم على الظلم على الظلم الشديد صبر العبيد المسلمين على الاضطهاد حبهم القرآن الكريم ٧٩٤ رفعهم القرآن فرفعوه رسم القرآن لأخلاقهم ا أخلاقهم العالية ومحاسنهم ٦٠٧،٦٠٩ أوائل الصحابة الذين علموا القرآن في المدينة ٤٢٠ زمن تكميل أخلاقهم خصائصهم صفاتهم الحميدة إخلاصهم إيمانهم بالإسلام على بصيرة استقامتهم رغبتهم في الحسنات لها وسعيهم تنافسهم في الحسنات غنى نفوسهم لم يحبوا المال على كونهم أغنياء حماسهم للخدمة الطوعية رغبتهم في الجهاد والشهادة قيامهم بالجهاد حقا تضحياتهم المحيرة في الجهاد ١٤٧ ٤١٦،٤١٧ ملحقات ٧٦٧ 1.9 ٥٧ ۲۳۰ ۵۰۹ كثرة حفاظ القرآن فيهم نشرهم القرآن في العالم بعد النبي لماذا لم يُعلموا معارف القرآن كلها؟ رغبتهم في التعلم ٥٦١،٥٦٢ ۲۲۸ ٦٨٠ لم يعلم القراءة والكتابة من الشباب الأوائل إلا الزبير لم يعلم القراءة والكتابة في البداية منهم إلا اثنان أو ۷۹۱،۷۹۲ ،۱۳۸ ۱۳۱ ١٤٢ ٦٨٠ ٧٦٥ ۱۳۷ ١٤٠ ٤٢٠ ٧٢٤ ١٤٥ ۱۲۹ ۱۳۰،۱۳۲ وصفهم عمير بن وهب أموات راكبين المطايا قبولهم الشهادة بيقين كامل شجاعة الصحابيات وتضحيتهن أشداء على الكفار تحقق نبأ براعتهم في القتال تركهم أقاربهم في سبيل الإسلام نصح الرسول إياهم بالتواضع يوم الفتح 71.٦٧،٦٩ ٢٣،٢٤ ۱۳۳ ٢٤٤، ٧٦٥ 110 صبرهم على المصائب صبرهم على الفقر والمصائب اضطهاد الكفار الصحابة خارقين حرمة الحرم ۷۲۳ ،۷۱۳ ٧٦٣ ثلاثة انشغالهم في نشر العلم حبهم للنبي الكريم سعيهم للتأسي بالرسول ﷺ وصولهم في اتباع النبي الذروة حبهم له حب الصحابة والصحابيات له تعبيرهم عن مشاعرهم للتضحية له هجروا أقاربهم من أجله والإسلام صحابي ترك والديه من أجله والإسلام قصة حب صحابية له حراستهم النيل متناوبين وقائع من حياتهم هجرتهم من مكة عند شدة الظلم هجرتهم إلى الحبشة هجرتهم إلى الحبشة والمدينة أصحاب الهجرتين منهم الفتوحات على أيديهم ۰۰۹ 710 ١٤٢ ١٤٢ ٦٦٢ ۱۳۰،۱۳۱ ٢٤٤ ٢٤٤ ٢٤٥ ١٢٤ ٦٨١ ٦٧٢ ٦١ ٦٢

Page 831

الجزء الثامن تصرفهم الرفيع القويم في بلاط كسرى سفرهم إلى الصين والهند لنشر الإسلام أمور متفرقة عنهم نيلهم الجوائز الدينية والدنيوية من الله كثرة النعم الروحانية عليهم نهوا عن الأسئلة اللاغية ٤٢٠ ٦١٥ ٤١٨ ۸۱،۸۲ ۱۸ إشهار أبي جندل إسلامه في صلح الحديبية الضيافة إكرام الضيف الأمر بإكرام الضيف إكرام الرسول للضيف ملحقات ۲۱۱ ۲۱۱ ظهور الضعف في أولادهم بعد ثلاثين سنة ٢٤٠،٢٤١ نبأ انمحاء التأسي بسيرتهم الصحف (راجع أيضًا القرآن) جاء كل نبي بصحيفة جمع القرآن كل تعاليم الصحف السابقة ٢٦٦ ٢٢٤ ٢٢٥ صحف إبراهيم تشمل صحيفة نوح وصحف بعض الأنبياء الآخرين ٢٢٤ الطب أمراض مختلفة أهلكت أقواما مختلفة الرد على عدم ضروة الزائدة الدودية خواص الزرنيخ أهمية النوم في حياة الإنسان الطفل (راجع أيضًا الزواج) الطفل ليس مكلفا بالشرع ۷۷۰ ۵۳۲ ۷۳۱،۷۳۲ 19-11 ٢٨٥ صحيفة موسى تشمل تعاليم كل الصحف السابقة ٢٢٤ قول عائشة طوبي له عصفور من عصافير الجنة" ٢٨٦ ضرورة الأغذية المتوازنة للطفل ۵۱۷،۵۱۸ يوم القيامة يبعث نبي إلى من توفي طفلا ۲۸۷، ۲۹۲ الصدق الصدق أغلى من الوطن الصدقة خير الصدقات صدقة جارية الصلاة (راجع العبادة أيضًا) حقيقة الصلاة التزام المرء بالصلاة أيامًا معدودة يجعله يعتادها كان الرسول الله الله يقرأ الأعلى والغاشية والفجر في الصلوات عمومًا كان يقرأ الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة والعيدين منعه الا الله معاذ بن جبل من قراءة السور الطوال في الصلاة صلح الحديبية أثره في قلوب العرب ١٤٤ ٦١٥ 01.٢٣٦ ٦٣١ ٦٣٥ ٦٣١ ۳۱۱ ،۰۰، ۳۹ ،۳۶ ٤٠ إبراهيم العلة يلاعب الأطفال في الجنة امتحان الأطفال في يوم القيامة ۲۸۹ ۲۸۷ اعتقاد البعض أن الأطفال المتوفين سيكونون في الجنة خدمًا وسيسر بهم والداهم مكانة أطفال المؤمنين في الجنة عقائد مختلفة عن نجاة أطفال المشركين ۲۸۸ ۲۹۱ ٢٨٤_٢٨٩ ۲۸۹ "أطفال المشركين في الجنة" (ابن عباس) رأي أحمد السرهندي عن أولاد المشركين ۲۸۸، ۲۹۳ الظن دورُ حُسن الظن في رقي الأمم عاشوراء صوم الرسول العشر الأوائل من محرم قبل رمضان ٦٥٤ أظهر الله في عاشوراء موسى على فرعون ٦٥٢

Page 832

ملحقات لا يتعين المعنى بـ"الفعل" ما لم يرجع إلى مصدره ۱۱۸ يدل "الماضي" على اليقين و"المضارع" على التوقع ۳۹۰ لا يجوز تغيير المعنى اللغوي دون قرينة حذف اللازم أو الملزوم من الأشياء المتلازمة ٤٤ ٢٦٥ جواز تذكير "المضاف" أو تأنيثه تبعا للمضاف إليه ١٥١ سبب تسمية "التكليف" بلاء استخدام كلمة "القلة" كلمة "القلة" من أجل النفي الفرق بين "ما أدراك" و "ما يدريك" "هل" تأتي للتصديق "لا" الزائدة في كلام العرب حروف القسم المراد من القسم في العربية العزل ۲۲ ۳۸۷ ۶۹۷ ٤٥١ ۹۱ ةة ۲۹۵ ٢٩٥ ٣٥٠ {1.۲ ۵۲۳ ۱۹ ۰۷۱،۵۷۲ 01.۵۷۳ ١٦٥،١٦٦ ٤٨٦ ٤٨٥ الجزء الثامن العبادة اليسر في العبادات الإسلامية حقيقة الصلاة المقارنة بين العبادة الإسلامية والمسيحية العبرة حقيقتها ۵۸۸،۰۸۹ ،۱۹۲ ،۲۸۷ العذاب نوعان من العذاب العذاب الظاهري والباطني أسلوب بيان شدة العذاب لا ينزل العذاب دون بعثة نبي وإتمام الحجة ۳۰۲ ،۲۹۰،۲۹۱ سبب عذاب الذين يكفرون ويتولون ٦٢٩،٦٣٠ نباً نزول عذاب خاص في زمن الرسول ﷺ والمسيح قول الرسول : ذلك الوأد الخفي جوازه وعدم جوازه لا يجوز العزل خشية إملاق العلم كل علم نزل حين صار العقل صالحا لفهمه الفرق بين العلم والعرفان الأهداف من التساؤل تعليم الله و رسوله دون وساطة سعة علوم القرآن حسب ضرورات الزمن ٦٨٠،٦٨١ ٦١٥ ۲۸۱ ۳۲ ۳۲ ٢٧٦ ۱۷۷ ۲۹۸ ۲۱ نشر المسلمين العلوم في أقاصي الأرض غلبة العلوم الغربية في هذا الزمن ارتقاء فن الخط بين المسلمين علم التصوف نبأ رقي علم الأحياء في آخر الزمان علم الجيولوجيا تطور علم الفلك في هذا الزمن اعتراف علماء الفلك بالقيامة ۵۸۹ ۱۸۱ الموعود العلمية نزول عقاب الله على أبرهة وجنوده ۷۷۰، ٧٧٦،٧٧٧ نبأ نزول أنواع العذاب الدنيوية على الكفار شعور الناس بعذاب مسلط عليهم في هذا الزمان ٣٠٤ ۷۱۲ لا يحبذ بقاء المرء في مكان نزل عليه عذاب العربية ۷۱۵ ،۳۸۱ ۳۸۱ ۳۹۳ ٧٥٤ ۲۲۹ ٩٤ ٢٦، ٦٨١ إثبات كونها أُمَّ الألسن كلمات عربية في اللغات الأخرى أصل "story" الإنجليزية " هي "أسطورة" حكم وفلسفة في طيات الكلمات العربية نبأ قرآني بقاء العربية إلى الأبد تداولها في أوائل الإسلام في بلاد كثيرة الاشتقاق الصغير والكبير والأكبر التنوين يفيد التفخيم

Page 833

ملحقات ٤٧٢ ٦٧٦ ٥٩٦، ٦٠٦ ۱۳۰ هي اليوم الموعود هي يوم الفرقان قتل أبي جهل فيها بيد صبيين أنصاريين معظمها كانت عبارة عن منابلة بالسهام غزوة تبوك منع الرسول استعمال ماء الحجر عند العودة منها ٧١٢ غزوة حنين تشتت المسلمين فيها الضرر كان ناجما عن جبن المسلمين الضعفاء ٢٥٢ ۷۳۱ ۲۰ ٤٦٩ ٤٩ الجزء الثامن اثنا عشر برجا عند علماء الفلك العمل الملائكة يسجلون أعمال الناس لا يضيع عمل عامل هل يضيع ما قام به المرء من حسنات زمن كفره ۸۰۹ كل عمل يؤثر في أخلاق عامله وعقله حقيقة العمل الصالح تعريف العمل الحسن ٤٠٤ ٤٨٥ 71.٦٣٢ الإيمان بالرسالة أساس الصالحات "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الغيب (راجع أيضًا الأنباء) الأيام العشر" العهد ٦٤٢ حث الإسلام على الوفاء بالعهد فردًا وأمة ٣٨ ١٧٥ قصة التزام مسلم إسباني بالعهد بعض أنباء الأنبياء تتحول إلى عهد الغزوات (راجع أيضا الحروب) غزوة أحد ١٧٦ ٣٨ ۷۳۰،۷۳۱ ،٦٦٢ خصص الكفار أرباح التجارة للتجهيز لغزوة أحد١٥٣ إخبار الرسول أنباء غيبية كثيرة لم يحب الرسول التدخل في علم الغيب الشيطان محروم من علم الغيب غير المبايعين الأحمديون اللاهوريون الرد على قولهم إن كل من يتلقى الإلهام يمكن أن - لغةً – نبيًّا يسمى ٣١٦ ۲۲۰ ۳۱۸ يخالفون تعاليم المسيح الموعود العلية في الصلاة والزواج وغيرهما ٢٤٥ - ٢٤٦ يؤذوننا باتهامنا بنسخ شهادة الإسلام قلقُ صحابية من خبر استشهاد الرسول في أحد ٢٤٥ غزوة الأحزاب ٤٨٥ ٢١٤ ۲۱۳ ٤١٧ ٣٨٥-٣٨٦ ۰۷۱ ۲۳۲ ٢٢٤ الغيرة يغار الله وعلى كثيرًا على رسله غيرة المسيح الموعود العلية على النبي ﷺ الفجور علامات الفاجر نبأ عن انغماس المسيحيين في الفجور الفطرة اهتمام القرآن بالفطرة الإنسانية تعاليم القرآن تحفز الفطرة الإنسانية توافق فطرة البعض مع القرآن ٦٠٢،٦٠٣ ٤٧٢ ٦٧٦ ٦٧٧، ٦٧٦ 1026100 ٦٧٧ ١٥٤ ١٥٤ كان المسلمون ضعفاء قبلها هي اليوم الموعود غزوة بدر نبأ إشعياء النبي عنها نبأ عنها في سورة مكية أسبابها بدأت الحرب بمكيدة من أبي جهل وقعت في ۱۷ رمضان العام الثاني للهجرة لم يخرج المسلمون للقتال ولا الكفار لماذا اشترك فيها عدد قليل من المسلمين

Page 834

الجزء الثامن ۲۱ ملحقات بحث الفطرة الإنسانية عن مقصود أسمى ١٦ نزل القرآن الكريم عند الحاجة احترام الميت بالفطرة دليل على الحياة بعد الممات ٢٣٨ حكمة نزوله في آخر الزمان من لم تتم عليه الحجة يفصل في أمره بناء على إيمانه الفطري (المسيح الموعود اللة) تزود الفطرة الإنسانية بالدفق تأثيم المسيحية الفطرة الإنسانية طريق كفارة الكبائر حالة الفطرة الإنسانية عند الفشل اتخاذها شتى التدابير فراراً من العقوبة علاج ضعفها موجود فيها الفقه جواز الإجهاض وصورة وجوبه مسألة المباشرة في أيام الرضاعة جواز العزل وعدم جوازه للحالف تحليل يمينه بأداء الكفارة الفيدا (كتاب الهندوس) بحوث المحققين الهندوس عن الفيدا هي محرفة ومبدلة لا يوجد في العالم من يعمل بها ۲۹۲ ٥٠٢ ٣٤٦ ٢٩٤ ۱۸۲-۱۸۱ ٣٤١ ٣٤٧ ٢٩٥ ٢٩٤-٢٩٥ ٢٩٥ - ٢٩٦ ٧٦٢ ٥٥٣ ٢٢٥ سبب نزوله منجما مفرقًا 28 ٣٥٠ 011 ۳۲۷ ۳۲۹-۳۲۸ جميع سوره كاملة بمضامينها ترتيبه الإعجاز في ترتيبه القول بعدم ترتيب آياته إساءة ۱۹۲-۱۹۱ ٦٢٥ اعتراف المستشرقين بترتيب فيه 1 اقتراح المفسر لمعرفة صلة بين شتى سُورِه ٣٦٣-٣٦٤ عظمته بداية القرآن عظيمة ونهايته عظيمة ٤٢٥ ٥٤٨ إثبات كون القرآن القول الفصل القرآن خاتم الكتب..أي محال التحريف فيه مكانته مقابل الحديث النبوي عظمته تدخل في القلوب بتزكيتها القرآن طاهر بنفسه ومطهر لمن يمسه يحكم القرآن على جميع فروع الحياة ٣٨٦ ۲۹۰-۲۸۹ ۲۳۳ ۲۳۳ ٢٢٦ ٢٣٤-٢٣٥ حالة منكري عظمة القرآن القرآن يُعظَّم أكثر من الكتب السماوية الأخرى ٢٢٥ القبر قبرُ عالم البرزخ احترام الموتى بالدفن وغيره دليل على الآخرة القدر جميع أنواع الأقدار والأسباب بيد الله حقيقة الخير والشر قدر للقوى وقدر آخر لإظهارها القرآن الكريم نزوله الغاية من نزوله ۲۳۷ ۲۳۸ ۱۸۹ ۵۳۸ ٢١٦ خصائصه القرآن جامع كتب جميع الأنبياء يُدعى القرآن "صحفًا" لجمعه صحف الأولين يذكر القرآن حكمة الأحكام طريقه الخاص في إثبات وجود البارئ تعالى طريقه الفريد في إثبات يوم القيامة صفات القرآن الثلاث تعاليمه تغطي جميع مجالات الحياة اتساعه العلمي طبق ضرورات الزمن ٢٢٤ ۵۷۳ ١٦٩ ١٦٣ ٢٢٥ ٣٢٤ ٦٨١ القرآن مبرأ من كل خطأ لفظي أو معنوي ٢٢٦، ٤٢٣ اهتمامه بالفطرة الإنسانية في أحكامه ۵۷۲_۰۷۱

Page 835

الجزء الثامن جعله الله موافقا لطبائع الناس المختلفة يحوي جميع التعاليم الرافعة للفطرة الإنسانية ۲۱۷ ۲۳۲ تفويض القرآن بعض الشروح إلى العقل ۷۱۰-۷۱۱ فصاحته وبلاغته هو القول الفصل إيجازه الرائع التكرار العابث مخالف لعظمته خطاب القرآن موجه للجميع إلى يوم القيامة يشرح أحكامه بنفسه عند إمكانية سوء الفهم ۳۸۹ ١٥٧ ٣٤٨ ٣٢٤ ۷۱۰ ۱۹۲ ۲۲ فيوضه لا يستفيد منه إلا الصالحون فيوضه الروحانية خدامه ينالون التكريم ملحقات ۲۳۳-۲۳۲ ٧٦ القرآن بوء أبا بكر وعمر وعثمان وعلي هذا المقام ٧٦ ثمرات العمل بالقرآن تعاليمه فضل تعاليمه "الرحيق المختوم" هو تعاليمه التي تسكر بحب الله ۲۳۱ ۱۲۲ القرآن لا يخل بالموضوع مراعاة للسجع القرآن الكريم ذو وجوه وبطون لا يهب الحياة الروحانية اليوم إلا القرآن تعاليمه تطابق الفطرة السليمة مواف افقته لفئة معينة من الطبائع ٤٢١-٤٢٢ ٤٢٢ ٢٤٢-٢٤٣ لا يُعمَل بأي من الكتب الإلهامية اليوم إلا القرآن ٢٢٥ حوى كل تعليم أخلاقى وروحاني ورد في الصحف صدقه دلیل صدقه تعاليمه تنطوي على أسرار الكون والفطرة دليل كونه كلام الله وعل شهادته الداخلية على كونه كلام الله تعالى.انكشاف الحقائق التي بينها القرآن ٣٩٦ ۳۰۹ ۱۰۳ ۲۸۲ السابقة حفظه " في لوح محفوظ" إشارة إلى ميزتين قرآنيتين نبأ حفظه من وعد من الله بحفظ القرآن الأخطاء اللفظية والمعنوية نباً حفظه بالكتابة ٢٢٤ ٤٩٢ ٥٥٦،٤٢٣ ۲۲۷ ۲۲۸ مؤرخ مسيحي صحة بيان القرآن عن عاد وارم ٧٠٧ حفظه اللفظي والمعنوي تصديق عالم جيولوجي بما جاء به القرآن الأنباء القرآنية نبأ نشر تعاليمه إلى أنحاء الأرض ۱۷۷ ٥٦٩ أسباب حفظه ٥، ٥٦١، ٥٦٣،٥٦٢، ٥٦٤۰۹ نباً بقاء لغة القرآن إلى يوم القيامة الصحابة ۲۲۹ ۲۲۸ ۲۲۸ القرآن الكريم كان مكتوبًا في زمن لا يبقى من القرآن إلا رسمه في آخر الزمان ٤٦٣ ، ٥٦٩ إثبات كتابته من أول أيام نزوله نبأ بعثة المسيح الموعود الله تحديد موعد أنبائه حول بعثة المسيح الموعود نباً نزوله مرة ثانية نبأ نزول علومه ثانية ١، ٤٧٢، ٤٧٤ ٢٢٦ - ٢٢٧، ٥٥٧-٥٥٨ ۶۹۱ ٤٦١ ٤٣٨ اعتراف المستشرقين بكونه غير محرف ،۱۰۳ هو الكتاب الوحيد المحفوظ حسب بحوث معاصرة ٣٠١ معنى قوله تعالى فلا تنسى إلا ما شاء الله) ٥٦٧ نباً حول كيفية معارضة الأحمدية مستقبلا ٤٨٠٤٧٩ حكمة نسيان الرسول القرآن تحقق نبئه عن قوم عاد وأرم ۷۰۸ النسخ لا نسخ في القرآن حسب عقيدتنا ٥٦٧

Page 836

ملحقات خدمة القرآن الكريم ۲۳ الجزء الثامن الأدلة على عدم نسخه آداب تلاوته وترجمته التغني به سنة نبوية كان أبو بكر شديد البكاء عند تلاوته النظر في السياق والقرائن عند تعيين معانيه ٤٣٧ ۱۱۳ معان مختلفة للفظة واحدة ليس مخالفا لقواعده ٤٩٤ - ٤٩٥ ٤٢٧، ٥٣٠ ۰۷۱ ،۵۱۰ ۵۸۷ ضرورة الوحي لمعرفة علوم القرآن عظمة القرآن تتطلب نزول الوحي في كل زمن ضرورة نبي بعد نزول القرآن بعثة نبي بشريعة جديدة محال بعد نزوله تنكشف معارفه الجديدة في كل زمن بعثة المسيح الموعود اللة لنشر القرآن فوض الله نشر علومه إلى المسيح الموعود الية المسيح الموعود أبطل ما نُسب خطأ إلى القرآن تلقي المفسر معارف القرآن بإلهام رباني أقسام القرآن فلسفة القسم في القرآن الكريم لم يرد فيه قسم على الحوادث السابقة لغة القرآن واصطلاحاته أوائل الصحابة الذين علموا أهل المدينة القرآن خدام القرآن الكريم حفاظه وخدامه ۵۰۹ ٢٣٣-٢٣٤ ٤٢٤ ۲۲۸ نشر الصحابة تعاليمه إلى أنحاء الأرض بب عدم انکشاف جميع معارفه على الصحابة ٦٧٩ الصفات الثلاث لحَمَلة القرآن المقطعات القرآنية الاستدلال بها على رقي الإسلام وتدهوره فيها أنباء الوقائع المهمة مقارنة القرآن مع الصحف الأخرى أكبر ما يميزه على الكتب الأخرى لا يوجد كتاب سماوي محفوظ غير القرآن ٦٨٠ ٥٥٥ ٤٢٥ ٣٠١ ٥٤٤ ۲۳۳ ٦٩٣ 9.ΣΥΛ ۲۲۸ ،۲۲۰ ٦٨٣ ٦٨٣ ۳۲۷ مقارنته مع الكتب السماوية الأخرى ،٥۲۸ ،۹۶ مقارنته معها في بيان ذات البارئ وصفاته ۵۲۸ القرآن والمعارضون شتى نظريات كفار العرب عن القرآن اتهام القساوسة بانتحاله الكتب السابقة من بحوث المستشرقين عن القرآن مبنية على الظن ٤٠١ ٤٦٩ المتفرق عن القرآن تصرُّف "أهل الحديث" الخاطئ تجاه القرآن الكريم ٢٦٤ ٢٦٤ ۹۳ ۹۲ 1.۷۷۹ ۹۰ لسانه عربي مبين قضية الكلمات الأعجمية في القرآن العربية لغةُ الجيل الأول بعد الخلق عند القرآن أحيانًا يعني بالقيامة انقلابا في الدنيا استخدام كلمة "أساطير" في القرآن المراد من تعبيره "عشيّة أو ضحاها" المراد من تعبيره "يوم أو بعض يوم" ۳۷۹ ٣٨٠ ٢٥٤ ٣٩٣-٣٩٤ ۱۹۰ ۱۹۱ "سجين" و"عليين" يعني الآيات المبشرة والمنذرة ٣٨٦ لا يرد حرف "كلا" إلا في السور المكية عادة ۲۲۲ تصرُّف أهل القرآن" الخاطئ تجاه الحديث القسم المراد من القسم في اللغة العربية حكم مختلفة للقسم القسم أكبر دليل على صدق ما يقال القسم لا يكون للإكرام فلسفة الأقسام القرآنية

Page 837

ملحقات ٢٤٩ ٢٥٠ ۳۷۷ ٢٤٩-٢٥٠ 6109 ٢٥٤ ٢٥١ ٢٥٠ VA ٢٤ الجزء الثامن حقيقة قسم الله عل تشتمل الأقسام القرآنية على علوم الغيب - ١٠٤ ١٠٤ حقيقة القيامة ورود "القيامة" في القرآن بمعان مختلفة الأقسام في القرآن منوطة بحوادث مستقبلية ٦٥٤، ٦٥٥ للقيامة ثلاثة معان لدى العلامة السندهي لكل قوم دوره ولكل دور قيامته بعثة نبي وهلاك مخالفيه قيامة القيامة بمعنى يوم الآخرة وغلبة الإسلام ٢٥٢_٢٥٤ القيامة انقلاب في الدنيا عند القرآن معاني "القيامة" و"الساعة" عند القرآن المراد من قوله تعالى "اقتربت الساعة" من مات فقد قامت قيامته (الحديث) أيبعث الإنسان في الآخرة بجسد مادي؟ المجيء الثاني للمسيح هو القيامة عند المسيحية أشراط الساعة أشراط الساعة ٢٥٤_٢٥٦ ΣΥΛ 1.0 ٧٦٢ ٥٧٦ ٢٥١ ٢٥٤ لا يوجد قسم فيه متعلق بحادث ماض ينزل عذاب الله على الحالف كذبًا حلف الرسول على صدق دعواه حلف المسيح الموعود على صدق دعواه ضرورة عدم العمل بالقسم الخاطئ بالكفارة القلب تأثره بالنصيحة القمر معجزة شق القمر الكسوف والخسوف آية على صدق المهدي القيامة الإيمان بها إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة (الحديث) ٢٥٥ كل نبي يدعو إلى الإيمان بالقيامة بعد الإيمان بالله ١٦٠ إذا وُسدَ الأمر إلى غير أهله فانتظرها (الحديث) ٢٥٥ مَن سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ أحوال الآخرة إذا الشمس كورت" (الحديث) إثباتها ٢٤٩ الدمار قبل القيامة يومَ القيامة يقول الجميع نفسي نفسي ٣٤ ٢٤٤ ٢٥٣، ٢٨٤ ٣٥٤ ٤٠٩ ٢٨٤ 001-00.أسلوب القرآن الخاص لإثبات القيامة ١٦٣ يُحاسب المؤمن يسيرا والكافر عسيرا الأدلة على القيامة ١٦٣ - ١٦٤ ، ۱۸۰، ۲۳۸، ۳۹۹ شهادة الأيدي والأرجل يوم القيامة إثبات القيامة بخلق الله وعل علم الله التام دليل على يوم القيامة صفة الله وعجل المحيي دليل عليها خلق الكون دليل على الحياة بعد الموت ١٦١-١٦٢ ١٦٢ ١٦٣ 179 سبب بعث بعض الناس عميانا مسألة نجاة أولاد المشركين الكتاب المقدس کتاب غير موثوق به قانون السببية دليل على القيامة غلبة موسى على فرعون دليل على يوم القيامة ۱۵۹ تحليل مفصل له من قبل المحققين المسيحيين دليل على تدوينه ثانيةً من الذاكرة ٥٥٢ كل من القيامة وغلبة الإسلام دليل على الآخر ۱۲۱، كتاب باليونانية نُسب إلى عُزير ولم يُذكر في الكتاب 001 المقدس

Page 838

الجزء الثامن ٢٥ ملحقات نبوءة إشعياء عن غزوة بدر ٦٧٦-٦٧٧ كفار مكة الكشف بدأ اضطهادهم المنظم للمسلمين بعد السنة الرابعة للبعثة النبوية ۵۹۲ رؤية المسيح الموعود المسيحَ الناصري قلقا على شرك ظلموا المسلمين مخالفين تقاليدهم التي يعود تاريخها إلى مه قوم كشف للمسيح الموعود حول ازدهار قاديان كشف لأُمِّ شاب مذنب الكفارة طريق كفّارة الكبائر ۳۳۲ ۶۹ ٣٤١ ٢٥٠٠ عام تحريضهم القبائل ضد النبي جرائمهم الكبيرة فشل مؤامراتهم ضد النبي ﷺ كفارة وأد البنات ٢٩٤ ٢٩٤ يجب عدم العمل بالقسم الخاطئ بأداء الكفّارة ٧٦٢ فشلهم في الحبشة عاقبتهم حالتهم النفسية عند فتح مكة V72 ٦٧٥ ۷۱۷ ٦٧١ ۵۹ ۸۱۱ ٦٠٠ ،۱۸۲ الكفر والكفار مرحلة التمييز البين بين الإسلام والكفر حسرات الكفار يبدأ الكافر عمله بالفرح وينهيه بالترح كان كفار العرب موقنين بغلبة الإسلام هل تضيع حسنات أيام الكفر ؟ عقائد الكافرين ٢٤٦-٢٤٧ ٨٤ ٤٤٨ 11-1.1.9 شتى نظريات كفار العرب عن الحياة بعد الممات لم يكن الكفار يؤمنون بالحساب ۰۳ مَن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب (الحديث) آراء كفار العرب المختلفة عن القرآن الكريم تبراً كل كافر من كفره سرا بعد بعثة النبي سيئات الكفار الاجتماعية أربع سيئات اجتماعية لدى الكفار أخلاقهم حالة قلوبهم تطرفهم ضد الإسلام إنفاقهم المال تفاخرا أسباب دمار الكفار موجودة في مجتمعهم 110 ۱۲۲ ۷۳۹ ۲۱۳ ٤٨٩ ۰۲ ۸۰۷ ،۷۹۹ ۷۳۹ إسلام أولادهم لم يكن أقل من العذاب لهم الكون نظام الكون أهم وأدق من خلق الإنسان سعة الكون نظام الكون لم يُخلق عبئًا الأدلة على أن الكون لم يُخلق صدفةً حالة ما قبل خلق الأرض والسماء أهمية الأجرام والسماوات في نظام العالم نظام قانون السببية في الكون الفلك دليل على عظم هدف خلق الكون حقيقة السماوات السبع 177 ۲۹۹ ،۳۲ ،۳۱ ۳۲،۳۰ ،٢٤ ١٦٧ ٤٣٧ ۱۷۲ المراد من انفتاح أبواب السماء انشقاق السماء يعني نزول الوحي انشقاق السماء بمعنى غلبة المسيحية ٢٤ ٢٤-٢٥ ٣٤،٣٩ ٤٣٦ ٣٣٠ تفسير قوله تعالى "إذا السماء كُشطت" ۲۹۸-۳۰۲ اللباس منافع اللباس سبب تسمية الليل لباسًا ۲۰ ۱۹

Page 839

الجزء الثامن اللغو فوائد تجنب اللغو المال أضرار تجميد أموال الأمة ۷۲ ٢٦ شجاعة المسلمات محال تطور أمة دون نساء عاليات الهمة المسجد آداب المسجد الاستثمار في الأغراض القومية VEA-VEV VEA-VEV المسكين أهمية إخراج حق الفقراء من الأموال العامة ٧٤٤-٧٤٥ المراد من "مسكينًا ذا متربة" حب المال الفتح في الحرب محال دون مراعاة المساكين أثر حب المال على الأمم حب المال يؤدي إلى خيانة الوطن استعمال المال في محله وغير محله الإسراف سيئة اجتماعية الإسراف مؤشر كبير على تدهور الأمة المؤمن (انظر في الإيمان) ٧٤٦ ٧٤٦-٧٤٧ ٧٤٧ ٧٢٤ ۷۳۸ γελ نظام الأحمدية في مراعاة المساكين المسلم (راجع الإسلام أيضًا) صفات المسلم الصادق خصائص المسلم الصادق أخلاق المسلم المثالي الحاكم المثالي بذل الصحابة أقصى جهد في اتباع النبي ملحقات ٦٦-٦٧ ٦٨ - ٧٠ ٧١٤ ٧٤٣ ٧٤٤ ١٤٢-١٤٤ ٦١٣-٦١٤ ٦١٨ ١٤٢ المجتمع أربع سيئات اجتماعية تدمر الشعوب المجددون ۱۳۹ إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (الحديث) ٤٧١ نبأ بعثة المسيح الموعود اللة بعد اثني عشر مجددًا ٤٧١ مزايا مسلمي العصر الأول على مستوى المجتمع ۱۳۷ روح التنافس في العصر الأول كان الأغنياء منهم يعتبرون أموالهم أمانة إلهية نماذج شجاعة المسلمات لم يبال المسلمون بالوطن من أجل الله وعل انتشار العلوم على أيدي المسلمين كان عبد الله بن الزبير أول المجددين عند الكثيرين ٦٤٣ انتشار العلم في أنحاء العالم بأيديهم المخترعات (راجع أيضا العلم) اختراع المذياع ٥٤ تفوق المسلمين في تعظيم كتابهم ١٤٢ ٦١٨ ٦٧-٦٩ ١٤٤ ٦١٦ ۳۲ ۲۲۸-۲۲۰ ٤١٨ قد تخترع آلة تمكننا من سماع أصوات الأولين ٥٤-٥٥ غلبة المسلمين مخترعات أديسون المرأة المكانة التي يريدها الإسلام للمرأة نبأ ارتفاع مستوى المسلمات الديني روح التنافس في الصحابيات ۲۷۲ V.٦٦ ۱۲۵ صوفية الفيج الأعوج ظل المسلمون ضعفاء إلى غزوة الخندق نبأ عزتهم وإكرامهم في العالم التيسير للمسلمين لتعلم العلوم السماوية نالوا أجرهم الدنيوي دون حساب فتوحاتهم العظيمة الأولى بقي المسلمون حكام العالم قرابة سبعة قرون ٦٠٣ ٦٢٠ ٦١٩ ٢٥٣ ٤٢

Page 840

الجزء الثامن سيطرتهم على آسيا وإفريقيا الشمالية حكمهم على إسبانيا والهند مدة طويلة دعوة نصارى حمص لعودة المسلمين حكامًا سر نصرهم أنباء متعلقة بالمسلمين نبأ تركهم السنة النبوية ٤٧ ٣٥-٣٦ ٦٢٣ ۱۳۵ ٢٦٤ ۲۷ ملحقات في سورة البروج إشارة إلى المسيح الموعود ٤٧٨ - ٤٧٩، ٦٣٥ علاقة المسيح الموعود بالتسبيح نبأ المهدي في سورة الطارق 010 ٦٣٥ الأحاديث تدل على ظهور المسيح والمهدي في الأمة المحمدية نبأ نسيان المسلمين روح القرآن في آخر الزمان ٥٦٩ ضرورة المسيح والمهدي نبأ تدهور المسلمين بعد ألف سنة تدهوره لم يظهر الخلاف في المسلمين جليا حتى سنة ٢٧٠ بدأت الملكية بعد ثلاثمئة سنة ثلاث صفات لمسلمي هذا الزمن تركوا اتباع النبي حقيقةً في هذا العصر لا يهتمون بالاقتداء بالصحابة ٤٧ ង ។ ٤٧ ۲۷۱ ٢٦٣ ٢٦٦ سقوطهم نتيجة تركهم العادات القومية الحسنة ٢٦٦ تقليدهم الغرب اتهامهم الأسلاف ٣٠٥ ٢٦٧-٢٦٨ نتيجة طمع مسلمي ولاية "أوده" الهندية في الربا ٧٤٧ حالة المسلمين الروحانية قبل بعثة المسيح الموعود ٤٤٤ انحراف أهل الحديث وأهل السنة عن روح الدين ٢٦٣ ٢٥١ ٣٢٦ ٢٤٥-٢٦٥ نبأ الكسوف والخسوف في رمضان المهدي والمسيح شخص واحد قال المسيح الموعود أن مداره على اسم المهدي ٦٩٤ ٤٩٦ ٤٩٦ غلبة الإسلام وإقامة شريعته مقدر على يد المهدي ٤٩٨ الفتوحات منوطة بالمهدي ذروة التطور الإنساني منوطة بموعود بشر به كل دين المسيحية نالت المسيحية الغلبة بعد ثلاثة قرون مدى أثر المسيحية عند نزول القرآن زمن نهضة المسيحية علم المسلمين هو أساس تطور الأمم المسيحية المقارنة بين غلبة الإسلام والمسيحية ٢٤١ ٣٣٠ ٤٦-٤٧ ٣٤٧ نصائح للمسلمين أمر الله على المسلمين بحماية حدود بلادهم لن يتطور المسلمون أبدًا بالوسائل المادية ضرورة رفع المستوى الديني للمسلمات ضرورة المسيح والمهدي ٦٤ ٥٨٧ ٦٦ ٣٢٦ مستقبلها مستقبلها ثلاث هزات دمار للمسيحية ٣٠٨ ٤٠٧ سينفر المسيحيون من عقائدهم خلال ثلاثة قرون ٤٦٠ نبأ فساد الكنيسة المسيح الموعود والمهدي ال (راجع مرزا تعاليمها وعقائدها غلام أحمد القادياني أيضًا) نبأ بعثته في آخر الزمان لنشر الإسلام والقرآن نبأ قرآني عن بعثة المسيح الموعود ٤٢٥ ٤٧٤ التعارض الصريح في اعتقادها بالله طبق عقيدتها لا يمكن الله و أن يرحم يتوسل المسيحيون في أدعيتهم إلى يسوع ٣٣٥ ٣٤٤ ٣٦٤ ۳۳۸ نبأ وقوع أهلها في الفجور الشديد ٣٨٥-٣٨٦

Page 841

الجزء الثامن ۲۸ إنذار نزول العذاب عليهم بعد نزول المائدة ٤٠٦ شطارتهم في التجارة رد على عقيدتهم في صفتي الغفور والودود ٤٨٧-٤٨٨ قصة "شايلوك" تنطبق عليهم حقيقة دعائهم لنزول ملك الله على الأرض الرد على عقيدة بنوة الله على عقيدة بنوة الله وعمل بمثابة تشقق السماء أساس دينهم على فداء المسيح أساس الفداء الفداء طريقة غير طبيعية لا يؤمنون بالقيامة تعاليمهم المتناقضة فقدان الاعتدال في تعاليمهم استنبط المسيحيون عكس تعاليمهم الأصلية عواقب اعتبار الشريعة لعنة ٤٨٨ ٣٤٦ ۳۳۱-۳۳۰ ٣٥٩ ٣٤٦ ٣٤٨ ٣٥٢ ٣٦٤ ۵۱ ō ٣٦٤ ٢٢٦ اتخذوا الثالوث واستبدلوا السبت يوم الأحد بطلب بيوم قيصر روما جانبان كبيران وخطيران لأعمالهم ديدنهم احتقار الأنبياء الآخرين شرب الخمر حسن في نظرهم إساءتهم للمقابر أنا جيلها انتهى العمل بتعاليم الإنجيل عمليا الأناجيل كتبت بعد ١٨٠ سنة ٤٢٣ ٣٦٥ ٣٥١ ٢٦٨ ٣٣٦ ٢٢٥ ۲۲۸ فشلوا خلال ۱۹۰۰ سنة في إقامة ملك الله رقيهم المادي سبب كبرهم ملحقات ۳۷۳ ۳۵۹ ٣٤٧ مسيحيو الغرب ملحدون ومع ذلك يعظمون المسيح الإسلام والمسيحية تنبیه رباني لهم إلى التوحيد من خلال الإسلام دعوة النبي العبيد المسيحيين إلى الله عل المقارنة بين العبادات الإسلامية والمسيحية ۳۳۱ ٣٤٧ ٢٠٣ ۰۷۳ ٢٥٧ المصلح الموعود أنا مصداق نبأ المسيح الموعود عن المصلح الموعود (المفسر) المعجزة معجزة انشقاق القمر وتأويله ٢٥١-٢٥٢ الهجرة إلى المدينة سبب ظهور معجزة معجزة العصا هي أكبر معجزات موسى ٦٧١-٦٧٣ 10A المعراج حدث في العام الخامس من النبوة ۲۸۹ ۱۲۵ ۱۲۱ ۱۲۰ ۱۲۳ ۱۲۰ ۲۳۷ الملائكة حكمهم على الدنيا لكل سبب ملك مسبب ليسوا بحاجة إلى هبوط جسدي عملهم بعد بعثة النبي الدعاء للمؤمنين إشراكهم في بعض صفات الله علل شرك المهدي (انظر في المسيح الموعود) الموت اعتبر الله وعلى الموت منة على الإنسان ٥٥٠ ۳۲۹ ٣٤٦ ٣٦٥ ٣٦٥ ٣٦٦ عدد الأناجيل يناهز الثلاث مئة لا يذكر المسيحيون منه إلا قليلا فتوی قساوسة بريطانيا عكس ما جاء في الأناجيل ٢٢٥-٢٢٦ خصائصها عیبان خطيران في تاريخ المسيحية التطفيف من عادة المسيحيين يتعاضدون فيما بينهم ويسيئون إلى الآخرين الغرب المسيحي يهضم حقوق البلاد الأخرى

Page 842

الجزء الثامن ۲۹ ملحقات النبات ضرورة التفكر في عالم النباتات النبوءة أهميتها وغرضها الإخبار عن موعد تحقق النبأ ليس ضروريًا البحث في موعد وقوع النبأ لغو بعض أنباء النبي يصبح عهدًا النبأ الحقيقي قول النبي سأنتصر وستنهزم الدنيا بمواجهتي" حكم في تأجيل الأنباء الابتلاء النازل حسب النبوءات يقوي المؤمنين ردُّ فعل بنوعيه على الأنباء نبأ لموسى في التثنية عن بعثة النبي أنباء عن المسيحية نبأ عن انغماس المسيحيين في الفجور نبأ عن فساد الكنيسة أنباء عن معارضة الإسلام ٢٤١ أنباء عن الأمة نبأ عن بلوغ الأمة ذروة الروحانية ١٥٦ نبأ وجود مفسرين مشرفين بوحي الله في كل عصر ٤٢٨ ۱۸۹ ۱۸۷ ۱۸۸ ٣٦ ۱۸۸ ۱۸۷ ٢٦٠ AV ٣٨٥-٣٨٦ ٣٣٥-٣٣٦ أظهر الله في عاشوراء موسى على فرعون وسيحدث مثله في الأمة المسلمة نبأ فلاح المؤمنين ونجاتهم من المكروهات تحقق نبأ للنبي عن سراقة أنباء عن الفتوحات والغلبة نبأ في الفترة المكية عن غلبة الإسلام نبأ فتوحات الإسلام في السور المكية الأولية أنباء في المقطعات عن تطورات في الإسلام ٦٥٢ ٥٧ ٦١ ٦٢٩ ۱۲۸ ٦٨٣ نبأ في الغاشية عن تطور المسلمين وهزيمة الكفار ٥٨٦ نبأ انتشار المسلمين إلى أقاصي الأرض ١٤٤ ٦٢١ نبأ عزة المسلمين وتكريمهم في العالم نبأ عن رؤية أعداء الإسلام غلبته نبأ غلبة الإسلام على أعدائه إلى عشرة قرون نبأ عن فتح مكة في الفترة المكية عن معارضة شديدة للإسلام لعشر نبأ فتح مكة في: "يوم يقوم الروح والملائكة" سنوات نبأ ٦٦٤،٦٦٧ بفتح مكة تحقق النبأ المذكور في سورة البلد عن الاعتداء على النبي وعرضه في حرم مكة ٧٦٣ في معجزة شق القمر نبأ انتهاء حكم العرب نبأ عن ظلم أهل مكة للرسول وصحابته ٧٦٤-٧٦٥ نباً نزول عقوبات دنيوية مختلفة على الكفار نبأ هجرة النبي من مكة ورجوعه إليها || ٧٦٨ نبأ ندم الكفار وخجلهم ۵۷۹ ។ ۱۸۱ ۸۱ ٧٦٩ ۱۸۱ ظهور نبأ والشفع والوتر في سفر الهجرة ٦٧٢-٦٧٤ نبأ نزول العذاب الخاص في زمن الرسول ﷺ والمسيح نبأ عن غزوة بدر في الفترة المكية أنباء عن القرآن الكريم نبأ عن بقاء القرآن إلى الأبد نبأ عن كتابة القرآن الكريم نبأ عن انتشار تعاليمه في العالم نبأ عن احترام القرآن الكريم ١٣٠ ۰۰۹ ۲۲۸ ۲۲۸ ٢٢٥،٢٣٠ الموعود العلمية أنباء عن تدهور المسلمين نبأ تدهور الأخلاق والروحانية في المسلمين نباً زمن تدهور الإسلام بهجوم الترك نبأ امتداد زمن تدهور الإسلام لألف سنة نبأ تدهور المسلمين بعد ألف سنة ۵۸۹ ٦٩٠ ٢٥٦ ٦٨٤ ٤٧ نبأ عن كون القرآن في أيدي قوم يُظهرون معارفه ٢٢٩

Page 843

الجزء الثامن ۳۰ لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه (الحديث) ٤٦٣، ٥٦٩ نبأ نسف الجبال نباً حفر قناة بين بحرين نبأ عن ترك الاقتداء الحقيقي بالرسول ﷺ ٢٦٤، ٦٥٤ نبأ حشر الحيوانات المفترسة نبأ عن ترك اتباع الصحابة أنباء عن النشأة الثانية للإسلام ٢٦٦ نباً تعطيل الإبل باختراع وسائل نقل جديدة نبأ تهذيب الأقوام الوحشية وقيام حكوماتهم ملحقات ۲۷۰ ۳۳۵ ٢٧٦ ٢٧٤ ۲۷۷ ٢٥٥ نبأ إحياء الإسلام وتطوره من القرن ١٣ إلى ١٦ ٦٨٨ - ٦٨٩ نبأ إنجاب الإماء سادة القوم نبأ "وإذا الموعودة سئلت" ٢٩٦ نبأ زوال المسلمين والنشأة الثانية للإسلام ٣٠٧-٣٠٨ نبأ وصول أنواع الطعام والشراب إلى بلاد العرب ٢٧٥ نبأ تطور الإسلام ثانية من السنة ١٣٠٠هـ نبأ إحياء الإسلام بعد السنة ۱۲۷۱هـ أنباء عن المسيح الموعود والمهدي نبأ بعثة المسيح الموعود في الأمة المحمدية أنباء سورة الفجر عن البعثة الثانية للنبي نبأ بعثة المسيح الموعود في الأمة المحمدية نبأ بعثة موعود في آخر الزمان لنشر الإسلام نبأ بعثة رجل فارسي الأصل عند صعود الإيمان إلى الثريا نبأ ظهور مبعوث من الشرق لتأييد الإسلام نبأ يحدد زمن بعثة المسيح الموعود ٢٥٧ ٦٨٥ ۰۷۱ ٦٨٢ ٤٥٧ ٤٢٥ ٤٦٣ ۳۱۱۷ ۶۹۱ نبأ بعثة موعود في قرن ۱۳ لإحياء الإسلام ٦٨٩ - ٦٩٠ نبأ عظيم تحقق في هذا الزمن أنباء المسيح الموعود العليا أنباؤه عن مستقبل الجماعة الأحمدية نبأ غلبة الأحمدية خلال ٣ قرون نبأ أنه سيعطى جماعة مضحية نبأ هجرة الناس إلى قاديان نبأ وضع عصا روسيا في يده أنبائه الدليل على صدق جميع نبأ "زلزلة الساعة" دحض شبهة كون نبوءاته مبهمة ۷۰۸ 27.-209 ۳۱۷ ٤٤٠ ٦٩٩ ۳۱۱۷ ۳۱۷ ٦٥٧ ۱۸۸ مطالبته الا القس "آتهم" بالحلف أنه لم يرتعب من نبوءته زمن طلوع الفجر هو ۱۳۰۲هـ وهو عام نُشر فيه النبوة والنبي کتاب براهين أحمدية" ۶۹۱ أنباء في سورة الفجر عن مراحل تاريخ الأحمدية ٦٩٥ نبأ الكسوف والخسوف للإمام المهدي ٢٦٥، ٦٥٤ لغة معنى النبي ضرورة بعثة الأنبياء حساب الأقوام في زمن بعثة الأنبياء 1.0 ٤ ۱۷۲ ٣٠٤ ۲۰-۱۹ نبأ المعارضة الشديدة الجماعة المسيح الموعود اللة ٤٨١ حالة أقوام الأنبياء قبل بعثتهم أنباء عن الزمن الأخير نبأ بعثة نبي واشتعال غضب الله نتيجة تكذيبه الأيام التي يوجد فيها نبي هي أيام الحياة الحقيقية ٢٣ ۲۸۷،۲۹۰ نبأ نزول القرآن وعلومه ثانية تطور العلوم الأرضية والسماوية نبأ انتشار الصحف وتحققه نبأ سقوط الشهب الثاقبة بكثرة ۳۰۲ ٤٣٨، ٤٦١ ٤٤٢ ۲۹۷ ٢٦٩ لا ينزل العذاب دون بعثة نبي ليس ضروريًا أن يأتي النبي بشرع جديد أو أحكام جديدة أو صحيفة جديدة ٢٢٤

Page 844

الجزء الثامن الغرض من بعثة الأنبياء ۳۱ ملحقات لا يخبر نبي عن تدهور الناس فقط بل يبشر ببعثتهم ثانية كل نبي يدعو إلى الإيمان بالقيامة بعد الإيمان بالله ١٦٠ أيضًا النشأة الروحانية على أيدي الأنبياء الانقلاب الأخلاقي والروحاني على أيديهم تبقى مواهب الناس خفية ما لم يُبعث نبي ١٦٠،١٦٣ ۱۷۲ ۱۷۲ قام الأنبياء بإحياء في ظروف غير مواتية وقدموا دليلا على الحياة الآخرة كل نبي يعطى التعاليم بحسب أحوال زمنه إخلاص المؤمنين في حياة الأنبياء 177-170 ٣٥١ ۲۸ يغار الله وعمل على أنبيائه كثيرًا معارضتهم وقتلهم سبب معارضتهم الأساسي لا يخالف الناس إلا نبيا صادقا أكبر جريمة قتل نبي (الحديث) تكفير النبي سبب إنكار جميع الحسنات تحقير الأنبياء السابقين مخالف للعقل ٢٥٨ ٢١٤ ۱۰ ۷۷۲ ۷۱۸ ٦٣٢ ٣٥١ صدق الأنبياء وعلاماته قواعد معرفة صدق النبي الصادق ۱۰ شقاوة الكافرين بالأنبياء عاقبة الأنبياء ومخالفيهم الفرق بين المدعي الصادق والكاذب ۹۷، ۳۱۸، ۳۱۹ بعثة بي ودمار معارضيه قيامة أيضا كل نبي تغلب على صعوبة الأوضاع علامات جماعة المدعي الصادق قيمُ جماعة النبي الصادق الجوهرية يُعامل الأنبياء بتقدير بالغ قبل بعثتهم يؤاخذ الله كل النبي الكاذب حتما صفاتهم ومهماتهم كان إبراهيم الله نبيا تابعا لنوح العلة شاهد و مشهود كل نبي يُبعث يوم والأولاد القيامة نبي للمجانين والعجائز المختلين أخلاق الأنبياء أسمى من أخلاق الفلاسفة كل نبي يحمل تعاليم الأنبياء السابقين لا يؤمن بالنبي عموماً إلا الفقراء لا توجد سرية في جماعة الأنبياء ١٦٠ ۳۱۹ ۷۹۲ ١٤١ ۹۹ ٢٢٤ ٤٧٣ ۲۸۹-۲۸۷ ٤٠٨ ٢٢٤ ١٩٤ ۳۲۲ الأنبياء يعظمون المكان الذي نزلت فيه آية رحمة الله ويخافون غضبه آداب سماع خطاب نبي ۷۱۳-۷۱۲ ۲۰۸ النبي صاحب الشريعة لا يُقتل لا يُقتل أول نبي في سلسلة نبوة ولا آخرها فضل النبي على الأنبياء السابقين نبينا وحده مبعوث الجميع الأقوام ٣٩٥ ٢٥٠ ٦٧٠ ٥٠٠ ٦٨٥ غلبة النبي أكبر من غلبة الأنبياء الآخرين علة عدم نزول القول الفصل على الأنبياء السابقين ٥١٣ النبوة في الأمة المحمدية سيُبعث أنبياء خادمون للرسول دائما نبأ بعثة نبي في آخر الزمان ني تابع في الأمة المحمدية مكانة نبي ٦٨٥ ٤٩٦ لا يمكن نيل النبوة في الإسلام إلا بالتفاني في الرسول بعثة نبي للحفاظ على معاني القرآن ٦٩٣ ٥٦٩ المتفرقات عن النبوة لا ينزل العذاب دون بعثة نبي المراد من "رسول" "كريم" نبينا ضرورة المبعوثين ۲۹۰ ،۲۸۷ ۳۱۰ ٥٠٥ اعتبار بعض أنباء الأنبياء عهدًا ٣٦ الوقت الصحيح لبعثة المبعوثين الفرق بين المدعي الصادق والكاذب ۳۱۷

Page 845

الجزء الثامن ۳۲ ملحقات من معاني إن عليكم الحافظين كراما كاتبين" مبعوث الوقت وجماعته ٣٥٥ لا تكون المعارضة إلا بإذن الله وهي علامة صدق ۷۷۱ نبأ بعثة المبعوث من المشرق بعثة المبعوثين في الأمة المحمدية للحفاظ على معاني القرآن ٣١٦ ٥٧٠ محال أن يأتي المبعوثون بشريعة جديدة بعد القرآن ٥٨٧ نبأ معارضة المبعوث الآتي لرقي الإسلام القرآن جامع لتعاليم جميع الصحف النجاة الجميع ينالون النجاة في النهاية مسألة نجاة أولاد المشركين عقيدة مسيحية غير طبيعية في النجاة ۵۸۷ ٢٢٤ ٤٨ - ٤٩ ٢٨٤ ٣٥٠ النفس النفس المطمئنة النوم أهمية النوم في حياة الإنسان 19-11 19-11 عصور غفلة الأقوام ونهضتهم الهجرة أنباء هجرة الحبشة وهجرة المدينة إشارة خفية إلى هجرة الرسول ﷺ الهجرة إلى الحبشة كانت في العام الخامس للبعثة قام الصحابة بهجرتين أصحاب الهجرتين إذن الله لرسوله بالهجرة ٦٢ ۲۷ ١٤٤ ٤٧ ٦٠، ٦٦ النجاح والفلاح سر النجاح الاعتدال يؤدي إلى النجاح أمر ضروري لنجاح الأقوام ۰۲ ،۲۳ ٦٦ نية أبي بكر للهجرة هجرة النبي وصحابته إلى المدينة رقود على ه في سرير الرسول هجرة النبي إلى المدينة كانت فجر الإسلام هجرة الناس إلى قاديان طبق النبوءات ۵۸ 71-7.V ٦٦٨ ۶۹۹ النجم (راجع الكون أيضًا) الفرق بين النجم والكوكب اختراع المناظير والتقدم في علم الأفلاك تشبيه الصحابة بالنجوم ۳۳۳ ۲۹۹ ٢٦٦ انکدار النجوم يعني عدم اتباع الصحابة ٢٦٦-٢٦٧ تحقق نبأ سقوط الشهب بكثرة سنة ١٨٨٥ النصيحة النصيحة تؤثر بالقلب حتما النفاق الإكراه يولد النفاق ٢٦٩ ٥٧٦ ٦٢٨ المنافقون مصابون بعيوب ينسبونها إلى الآخرين ٢١٥ الهندوسية ٣٦ تعاليمها غير فطرية لا يمكن العمل بها ٤٠٨، ٥٤٠ إيمان الهندوس أن كتاب الفيدا للأبد ولكن ليست للعالم كله ٦٨٦ تعاليم هندوسية بإلقاء الرصاص في آذان "الشودر" إذا سمعوا الفيدا ٦٨٦ الوالدان مظهران ناقصان لربوبية الله الوحي/ كلام الله ضرورة نزول الوحي الإلهي الله في الإنسان استعداد لتلقي وحي ٥٣٠ ٥٠٥

Page 846

ملحقات ۳۳ الجزء الثامن ضرورة الوحي رغم نزول الكتاب الكامل الفرق بين كلام الله وعمل وغيره الله وعجل نفسه يقدم الأدلة على صدق كلامه الكلام المنزل من الله بحاجة للإثبات أحيانا قد يكون في كلام الله وعل غموض بسيط الفرق بين الوحي القابل للنسخ وغيره كلام الله على ثمرة صفته الرحمانية آثار كلام الله و السريعة وبعيدة المدى و ٥٣٤ ٢٥٨ ۹۹ ۹۸ ង ។ ٥٤٧ ٧٦ ۳۲ لا يعمل على إزالة عيوب الدنيا إلا كلام الله ل وبعثة الأنبياء ۱۷۳ "يا قمر، يا شمس أنت وأنا منك" مني الدين ويقيم الشريعة" لكي ينقطع من آبائك ويبدأ منك" ٤١٧٣ ٧٠٤ "يوم تأتي السماء بدخان ،مبين، وترى الأرض يومئذ || خامدة مصفرة" أوى النبي ﷺ إلى قلعة الهند" (ترجمة) ۱۹۰ ۵۹۰ ٦٩٢ "كم من صغير سيجعل كبيرا وكم من كبير سيجعل نبأ نزول وحي من الله ولا يتضمن علوم القرآن في الصدق أغلى من الوطن آخر الزمان بدأ نزول الوحي على النبي بالرؤى الصالحة تشبيه الوحي بصلصلة الجرس وحي إلهي منسق ومتسلسل كلمة "تسنيم" تعني وحي الله وعل ضرورة كلام الله المتجدد في كل عصر ضرورة الإلهام بعد نزول القرآن بطش الله بالمفترين نبأ وجود المفسرين المشرفين بوح بوحي الله الله علاقة صفة المهدوية والمسيحية بوحي التدريج في إلهامات المسيح الموعود اللة سبب تركيز المسيح الموعود العلية على إلهاماته ٤٣٨ ٤١٦ ٦٣٤ ٦٣٤ ٤٢٧ ٤٢٧ ۰۱۲ ٤٢٨ ٤٩٨ ٤١٦ ٦٣٣ انکشاف علوم القرآن على المفسر بالإلهام ٦٣٦-٦٣٧ صغيرا" ٦٠٧ الوطن حب الوطن من الإيمان (الحديث) لم يبال المسلمون بالوطن من أجل الله وعل ترك الوطن وسيلة للرقي القومي ١٤٤ ١٤٤ ١٤٤ ١٤٤ اليتيم رعاية اليتامى والمساكين ۷۳۹ الحث على تربية اليتامى يتيما ذا مقربة العواقب الوخيمة لعدم رعاية اليتامى اليهود سماهم الكتاب المقدس أبناء الله إلقاء نبوخذنصر اليهود في النار ٧٤٠٤٧٤٩ A.V VEV ٦٩٦ ۸۱ ٤٤ ۱۷ ٣٤٦ ٤٧٥ سباهم نبوخذ نصر من فلسطين ورجعوا إليها بمساعدة قورش ٥٥٢ ۲۲۸ أضافوا إلى التوراة الأقوال المنسوبة إلى موسى بعده 001-00.01 ٦٦٧ بفترة طويلة كتب عُزير التوراة الضائعة من ذاكرته افتقار تعاليمهم إلى الاعتدال كان يهود المدينة يخبرون عن قرب بعثة نبي كانوا يؤمنون في البداية بنزول شريعة جديدة ٦٨٧ 71 اتفاقيات المسلمين مع اليهود ٤٩٠ ۱۷۱ 791-790 ٥٠٠ ۷۱۹ ۷۰۱ ،۱۹۹ || إلهامات للمسيح الموعود العليا "إني مع الأفواج آتيك بغتة" جَرِيُّ الله في حُلل الأنبياء" " والسماء والطارق" " والله يعصمك من الناس" " يأتي عليك زمن كمثل زمن موسى || "يأتيك من كل فج عميق...

Page 847

الجزء الثامن ٣٤ ملحقات المجتمع اليهودي تقاليد سيئة واستغلال غاشم ٨٠٦ لا يؤمن معظم اليهود بيوم القيامة استهزاؤهم بالمسلمين إسلام عبد الله بن سلام يوم الفرقان يوم بدر يوم الفرقان يوم الفرقان في تاريخ الأحمدية ٣٥٣ ٣٨٤ ۱۲۸ ٦٧٦ ٦٧٥ يوم الفصل حقيقة يوم الفصل صلح الحديبية كان أساس يوم الفصل اليوم الموعود ٣٨٨ ٣٦ ۳۹ المراد من اليوم الموعود القرن الثالث عشر وبعثة موعود فيه لإحياء الإسلام هو زمن بعثة المسيح الموعود العلي المظاهر المختلفة لليوم الموعود ٦٨٩ ٤٧١ ٤٧٢

Page 848

(د) فهرس الأعلام شعوب وشخصيات

Page 849

ملحقات ۳۷ الجزء الثامن آتهم القس عبد الله مطالبة المسيح الموعود الله إياه بالحلف أنه لم يرتعب نبوءته آدم الطبية 1.0 ۷۱١٨، ٢٢٤، ٥ ٥٧٧، ٥٦٨ ٥٦٨ إغواء الشيطان إياه نسي و لم نجد له عزمًا لم يكن الناس في زمنه يعرفون ما هي السرقة سبب عدم نزول الشرع الكامل في زمنه بعثة آدم روحاني في آخر الزمان إبراهيم الأصبهاني إبراهيم بن محمد ﷺ صبر النبي على وفاته إبراهيم السيالكوتي أبرهة، والي اليمن والي اليمن من قبل ملك الحبشة ٦٤٣ ۷۳۵ ۵۹۷ 011 ۷۷۷ ٥٣٦ ٤٣٨ هجومه على الكعبة ومصيره ه الوخيم ۷۷۰ ،۷۷۰ ، ۷۰۸ ابن أبي حاتم ،۲۸۸ ،۲۸۵ ،۲۸۲ ،٤٢ ، ٤٣ ٢٨٩، ٣٤٢ ابن أبي ذئب ابن أبي نجيح ٤٥٢ ٦٤٤ له ابن أم مكتوم..راجع عبد الله بن أم مكتوم) ابن تيمية الإمام ۲۸۷ ٢٨٥ الألوسي صاحب تفسير روح المعاني إبراهيم ال ،٢٢٤ ،۱۰۲ ،۹۹ ،۹۸ ،۳۲ ،۶ ،۳۵۱ ،۳۵۰ ، ۳٤۹ ، ۲۹۲ ، ۲۹۱ ،۲۸۹ ، ۲۸۷ ،۵۸۲ ،۵۸۱ ،۵۷۸ ،۵۰ ۹ ،۳۹۸ ،۳۹۵ ،۳۹۱ ٦٤٩، ٦٥٣،٦٥١، ٦٥٨،٦٥٦ عاش قبل النبي ٢٥٠ سنة ٧٦٤، ۷۷۰،۷۷۱ ابن جرير ٤٣ ، ٦٤٢،٥٠، ٦٤٤، ٦٤٥، ٦٨٢ تاريخ العرب مسجل منذ زمنه العليا توكله وتضحيته العظيمة ٦٢٦ ٦٤٨ ابن جزي ۱۷۱ ٦٣٣، ٦٣٩ ابن حیان صاحب البحر المحيط لم يكن نبيا تشريعيًا بل كان تابعا لنوح ٢٢٤، ٥٨١ جمعت صحيفته صحف نوح وغيره من الأنبياء ٢٢٤ نظرته في ترتيب بين سور القرآن جديرة بالتقدير ٦٣٤ ٤٩١ ٣٤٢ ۵۸ ،٦٤٢، ٦٤٣ ،۶۳۱ ،۵۰۹ ۷۵۳ ،٥٠، ٥٨٥ ۹ ،۸۷ ،٦٤٤ ٦٤٣ (المفس) ابن خالويه ابن خيثم ابن الدغنة قصة إجارته أبا بكر.ابن الزبير رفضه بيعة يزيد وإعلانه بخلافته تكشف لنا صحفه عن بعثة نبي عظيم يأتي بشريعة كاملة ۲۸۹ ،۲۸۷ ۷۸۰ ،۷۷۹ ٧٦٩ ۷۸۳ ۵۸۱ ۵۸۲ ،۵۸۱ Чол رؤية النبي إياه في المعراج علاقته بالبيت الحرام وضعه قواعد البيت الحرام دعاؤه لإسماعيل وأولاده دعاؤه البعثة النبي استجابة دعائه نبؤه عن بعثة النبي آية عظيمة

Page 850

ملحقات ٦٧٤ ١٤٢،١٤٣ مقامه علاقته الفدائية بالنبي الكريم فناؤه في اتباع النبي الكريم بكاؤه عند تلاوة القرآن الكريم: "كان رجلا بكاء" ٥٨ ٥٨ ۱۹۵ ۱۳۰ ٨٣،٨٤ ٦١٧ ٣٥٧ ۳۸ ٦٤٣ ٤٥٣،٥٠،٥ الجزء الثامن اعتبره الكثيرون المجدد الأول ابن زید ،۱۱۰ ،۷۹ ،۷۸ ،٤٣، ٤٨ ابن عباس لله ،٣٤٢، ٣٨٤ ،۱۱۲ ،٤٥٠ ٤٥٢ ، ٤٥٣ ، ،٥، ٦٤١،٦٤٦، ٦٨٢۰۹ ،۴۹۱ ،٤٧٢،٤٥٤ تأثر الناس بتلاوته كان أهل مكة معترفين بمواهبه ۹ ،۸۷ ه، ۰۸۵، ۷۵۳، ۷۷۹، ۸۰۲ قوله لابنه لو رأيتك في المعركة لقتلتك عقيدته حول نجاة أولاد المشركين قوله: "أطفال المشركين في الجنة" ابن عبد البر ابن ،عمر ٢٤٩ ، ٤٥٢ ، ٦٤٦، ٦٤٧، ٧١٢، ٢٨٩،٢٨٤ ۲۸۹ حصوله على المقامات الدنيوية العالية حاكم منقطع النظير صاحب النبي في غار ثور ۱۹۸ طمأنه النبي الله في غار ثور ٣٥٧، ٦٧٤، ٦٩٢، ٧٢١ خلافته استغراب أبيه على تقلده الخلافة 415 ،196 تردده في أخذ الراتب من بيت مال المسلمين بعد تبوئه الخلافة صموده أمام مانعي الزكاة أداء واجباته بنشاط كامل الشبه بينه وبين المسيح الموعود اللي ٦١٧ ١٤٢ ٤١٧ ٦٩٢ أبو جعفر بن جرير ،٦٤٢،٦٢٤، ٦٤٤ ٦٤٥، ٦٨٢ أبو جندل بن سهيل بن عمرو له ٥٩٥ أبو جهل (أبو الحكم) ،٤۹۳ ،۱۹۷ ،۱۹۵ ٥٢٢، ٥٩٦، ٦٠٧،٦٠٤ ٢٤٩ ۲۰۷ 154 ۱۳۰ ١٣١، ٦٠٦ ١٣٢، ٦٠٦ كان يُدعى أبو الحكم دعاه النبي الكريم إلى الله عل سبب اشتراكه في غزوة بدر بدأت الحرب في ميدان بدر بمكيدة منه قتله صبيان أنصاريان ببدر عاقبته المثيرة للعبرة ١٤٣ ٣٤٢ ٤٢، ٤، ٧٤، ٦٤٥،٦٤١ ۱۱۰ ١١٧، ٤٧٠ ٤٤، ٤٥٢،٤٥ اتباعه النبي الكريم تفسيره لآية ابن كثير ابن کیسان ابن مردویه ابن مسعود، راجع أيضًا عبد الله بن الله بن مسعود له ٢٨٥ ٢٩٤ ٢٩٤ أبو الأسود أبو أيوب أبو البقاء أبو بكر الصديق ،٢٤٩، ٢٥٠، ٢٥٢ ٢٦، ٣٤٤، ٣٥٧، ٤١٤ ، ٦٠٦،٤١٧ ٥٨ أراد مغادرة مكة فأجاره ابن الدغنة ردُّه أمان ابن الدغنة إليه ٦٤٣ عبد الله بن الزبير حفيده من جهة الأم

Page 851

ملحقات ۳۹ الجزء الثامن أبو حيان مصنف "البحر المحيط" (راجع ابن حيان) أبو فكيهة له أبو داود صاحب السنن أبو ذر الغفاري ٢٨٥، ٢٨٦، ٢٩٥ ۱۲۳ ۲۳۳ أبو قحافة (والد أبي بكر الصديق ) ١٤٣ استغرابه لدى انتخاب أبي بكر له خليفة ١٩٦،٨٤ {10 ٧٦٦ ٧٦٦ ٤٤ ٤٠٣ ۱۹۰ ،۱۲۳ أبو لهب أكره ابنيه على تطليق بنتين للنبي أبو مسلم بن أبي العلاء أبو معاذ النحوي ٢٨٨، ٤٠٤، ٤٥٢، ٦٤٤ ٦٣ ٧٩٥،٧٩٤ ۷۹۵ ٢٥٧ ٦٨٢ أبو موسى الأشعري أبو هريرة ولد حبه للنبي لم يترك صحبة النبي بعد الإيمان قوله الشهير: بخ بخ أبو هريرة أبو ياسر بن أخطب عالم يهودي في زمن النبي لالالالالا سؤاله النبي عن مقطعات القرآن أُبي بن كعب أحمد البريلوي رحمه الله كان حجة على المسلمين الغافلين 01.٤٤٤ أحمد بن حنبل الإمام رحمه الله ٢٨٥، ٦٤٢، ۲۹۳ ،۲۸۸ ۲۹۳ ،۲۸۸ ۳۸۵ ،۱۱۰ ۲۷۲ أحمد السرهندي رحمه الله رأيه في نجاة أطفال المشركين الأخفش النحوي أديسون ١٢٤ 111 ٤٠٣ ۵۸۹ VAY VVA VVA ٦٨ ។ ។ أبو رافع (سلام بن أبي الحقيق) فوضت مهمة قتله إلى الخزرج أبو روق أبو زيد أبو سفيان طلبه النبي الدعاء لأهل مكة عند القحط ٤٥٣ ،۱۱۱ ٦٣ ٦٤٢ ٦٤٥ ٦٤٤ دعاه قيصر الرومي للسؤال عن النبي ﷺ ذهاب إلى النبي ﷺ قبل الفتح طلب الأمان لأهل مكة عند الفتح شجاعة زوجته في معركة اليرموك أبو سلمة بن عبد الرحمن أبو صالح أبو طلحة الأنصاري إهداؤه بستانه إلى النبي ٤٥٠ ،۳۸۵ ،۳۷۹ ،۱۱۰ ،۶۹ ٦٩ ٦٢٤ ۷۷۹ ٤٩١ أبو ظبيان أبو العالية أبو عبد الله أبو عبيدة قائد جيش المسلمين في معركة اليرموك أبو عمر أبو عمران الحوفي أبو الفضل

Page 852

ملحقات ٧٦٦ ۵۸ ۱۹۷ ۲۰۷ ،۱۹۷ ٤٩١ ٢٦٨ ٥٦٣ ۱۲۳ ٧٠٦ أم كلثوم بـ بنت محمد أم هانئ رضي الله عنها كان النبي يصلي في بيتها مع أصحابه أمية بن خلف دعاه النبي الكريم إلى الله عل أنس بن مالك أورنغزيب عالمغير ٤٠ ٥٥٥ ١٤٣ كان يكتب القرآن يوميًا للبركة الأوس عداؤها الشديد للخزرج قبل الإسلام ٥٨٢ ۷۷۹ ٧٨٤ ۷۸۳ تنافسها في الخيرات مع الخزرج بعد الإسلام ٤٤٤ ۱۲ ،۱۲۳ ۱۲۳ أيدرامي تائي اسم عاد إرم لدى الجغرافيين اليونانيين البابية الباب علي محمد مؤسس بابا ۷۰۰ اتفاقية ملك أسبانيا المسلم مع البابا ضد الدولة المسلمة بالعراق ادعاؤه كان قبل الأوان البخاري الإمام محمد إسماعيل البراء ابن العازب برتهوي راج (ملك هندي) محاربته شهاب الدين الغوري ٦٨٣ ٦٩٨ ٦٨٢ 01.٦٠٤ ٤٤ البزاز بشير الدين محمود أحمد المفسر له TVV ٧٠٥ ٤٧٥ ٤٥٢ 1.0 00 ٤١١ ۲۸۲ ٧٤٢ الجزء الثامن أسامة بن زيد رضي الإسكندر المقدوني الله عنهما حرق "زندافستا" عند هجومه على فارس إرسال أبي بكر إياه مع الجيش رغم الأخطار أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قيامها بالحراسة في معركة اليرموك مع زوجها إسماعيل القلب نبأ موسى العليم عن بعثة نبي مشر علاقته بالبيت الحرام تضحيته العظيمة في سبيل دعاء إبراهيم له ولأولاده الله إسماعيل الشهيد رحمه الله أشعر (قبيلة يمنية) إشعياء الكلية نبوءة له عن غزوة بدر أشوكا (ملك هندي) آثار مدينة أشوكا في تيكسلا أصحاب الأخدود رد المفسر على رأي المفسرين فيهم قصتهم إشارة إلى تضحيات زمن المسيح الموعود ال ٤٧٨ الأصمعي إقبال السير محمد الألمان أم بشر رضي الله عنها ضي أم طاهر رحمها الله (زوجة المفسر ) اهتمامها بتربية اليتامى

Page 853

ملحقات ١٧٦ ۵۹۷ ٦٠٠،٥٩٨ ۱۷۰۰ ٦١٢ ۵۹۷ ۵۹۰ ٢٦١ ۷۱ ٤٥٢ ٤٥٢ ۲۳۳ ،۲۲۰ ۲۲۰ ٥٥٧ ٦٥٣ ۷۱۹ ۱۹۸ ٣٠٨ ٢٥٥ ΛΕ أمور متفرقة حدث من طفولته ٤١ الجزء الثامن دعواه أنه هو المصلح الموعود في نبوءة المسيح الموعود ٢٥٧ رؤاه و كشوفه رؤیاه رؤياه عن تفاني المسيح الموعود الليلة في النبي ٦٩٣ رؤياه عن إقامته في بيت لجأ إليه تلقيه علوم القرآن الله على من موسی حادث انکشاف معارف سورة الفجر عليه ٦٦٠،٦٣٩ قال: أخبرني الله و أن هلاك أوروبا آت علاقته بالقرآن الكريم شكره الله تعالى لتعليمه علوم القرآن إلقاؤه دروس القرآن في مدينة دلهوزي بالهند ۷۱۹ ٦٣٦ ٣٥٧ ٦٣٦ ٦٣٧ الأقسام في القرآن تتعلق بعلوم لم تكن في متناول يد النبي حواره مع إنجليزي عن حفظ القرآن 1.0 إثارة قريب له فتنة ضده خلال الحج مظاهر نصرة الله له خلال الحج قصة زيارته مركز البهائيين في عكا زيارته للبساتين المعلقة في مومباي شفاعته لابن أحد معارضي جماعتنا وصفه للقحط والمجاعة عام ١٩٤٢ تجربة عجيبة له وصفه لحالة سكير بكر بن عبد الله المزني بكير بن الأشج بلال له تعرضه للاضطهاد بعد الإسلام بليكي القس وليام جي تقدير عمر se له حبه للنبي ا الكريم غيرته على النبي اتهام المعارضين إياه بالإساءة إلى النبي توضيحه لقول له عن النبي ۳۳۱ ٤٨٢ ۲۱۷ رده على المفسرين حول قصة النبي مع بن أم مكتوم ۲۰۹ ،۱۹۸-۱۹۷ الحوارات الدينية بنو إسرائيل نجاتهم من فرعون رؤيا المسيح الموعود أنه وجماعته مثل موسى وبني إسرائيل بنو إسماعيل (راجع إسماعيل) 7V, 6779 6197 (AE بنو أمية بني عامر بن لؤي بنو عباس أسباب زوالهم بعد رقيهم بنو عبد المطلب بنو هاشم ٣٥٠ ۳۳۱ حواره مع القس "وُود" عميد كلية التبشير المسيحى ٤١٨ ٢٦٨ ۲۱۷ ٢١٤ بلاهور حواره مع ملحد بريطاني حواره مع امرأة بهائية خطابه عن ذكر الله وعل عن دفاعه السلطان محمود الغزنوي معياره للحب اعتراض المنافقين عليه ورده عليهم

Page 854

ملحقات 111 الجرجاني ترجي زيدان اعترافه بصحة ما ورد في القرآن من أحوال عاد إرم جذامة بنت وهب أخت عكاشة جعفر بن أبي طالب له تمثيله المسلمين في بلاط النجاشي جلال الدين السيوطي رحمه الله ٧٠٦ ٢٩٤ 7.،٢٧، ٦٦، ٢٨٨، ٤٩٢ ٣٦٣ ٢٢٥ ش ٣٤١ ٤٥٢ ٢٤٩ ٧٥٨ وردت أخطاء في كتابه "الإتقان" جلال الدین شمس ) رحمه الله انتصاره على القساوسة بإنجلترا الجنيد البغدادي رحمه الله ٤٢ جهانغير ملك مغولي) الجوهري الحاكم صاحب المستدرك الحريري الحسن البصري رحمه الله ،٣٤٢، ٤٥٣ ،۲۸۸ ،۱۱۱ ،۱۱۰ ،۷۸ ،٤٣، ٥٠ حکیم بن حزام كان صديقا للنبي ﷺ قبل البعثة 1.9 حليمة السعدية نزول البركات في بيتها ببركة النبي ٥٢٤،٥٢٥ حمزة له مقامه في العائلة ٣٣ حيي بن أخطب زعيم يهودي في المدينة ٦٨٢ V..۷۷۲-۷۷۱ ٦٩٨ ٧٠٣ ٣٥٢ ٤٧،٢٥٦ ٤١٧ الجزء الثامن بهاء الله مؤسس مؤسس البهائية سبب عدم معارضة المسلمين للبهاء كانت دعواه قبل الوقت كان عند زوجتان رغم نهيه عن زواج اثنتين بيلاطس حاكم رومي لفلسطين التتر نبأ زوال المسلمين بهجوم التتر تضرر المسلمين بسبب التتر الترمذي أبو عيسى تسدل القس مصنف مآخذ على القرآن ٢٥٦، ٢٩٥ ٤٠١ ٢٦٨ ٦٧٦ ٣٨٨ ۷۰۷ ٧١٤ ٧١٤ ۷۱۲ ۷۱۲ ۷۱٥ ٤٨٩، ٤٩٠ ٢٧٤ ٢٥٠ ٧٩٦ تشرتشل السير وينستن تیما ثمود قبيلة من قوم عاد كان نبيهم صالحا انکشاف آثار نمود كانوا ينحتون من الجبال بيوتا موقع عاصمتهم "الحجر" ذكرهم في القرآن الكريم هلاك جنودهم ثناء الله الأمر تسري معارضته المسيح الموعود اللة نال الشهرة بمعارضته لجماعتنا ٤٧٠، ٦٣١، ٦٤٢، ٦٤٤ ۳۱۰ ٢٥٤ جابر بن عبد الله جبريل القلة تمثله كإنسان وسؤاله النبي عن الساعة شرح الوحي ليس من مسؤولية جبريل

Page 855

الجزء الثامن خالد ٤٣ دوغلس قاض بريطاني عادل في الهند ملحقات طلب محمد حسين البطالوي منه كرسيا في المحكمة ۷۸۸ خالد معدان خال للمفسر أشعل المعارضة ضده بن خالد بن الوليد VVA خباب بن الأرت صبره على فظائع كفار مكة تقدير عمر له خديجة رضي الله عنها النبي واحترامه لها ٤٣ ۲۳۳ ٥٧ ٨٥ ۱۹۸ قولها للنبي : " كلا! والله ما يخزيك الله...الخ ۷۹۲ : ذهابها بالنبي إلى ورقة بن نوفل سؤالها النبي عن مصير ولدين لها مشركين VVE ۷۸۹ الوليد دخوله مكة فاتحـــا دیانند البانديت مؤسس آريه سماج" الهندوسية ٥٤٠ راجا رام البانديت الدكتور اعترافه بتحريف الفيدا الهندوسي ٠٥٤ الرازي الإمام صاحب التفسير الكبير الراغب الأصفهاني صاحب المفردات ۱۱۲ ٥٤، ٧٢٣،٦٢٤۷ ،۲۳٤، ٥۰ ،۱۸ ،۵ ،۳ ۲۸۹ ،۲۸۶ الخزرج قبيلة من الأنصار عداؤها للأوس قبل الإسلام تنافسها مع الأوس في الخيرات بعد الإسلام الخليل النحوي الله عنها الخنساء رضي ۱۲۷ ،۱۲٤ ،۱۲۳ ۱۲۹ ۱۲۳ ۲۲۲ ۲۸۸ الخوارج ٥٦٠ رام تشندر ۱۱۲ ،۹۹ ،۷ ربيع بن أنس ٦٤٥ ،111 ربيع بن الخيثم رقية بنت محمد ٧٦٦ روزفيلت الرئيسي الأمريكي ٢٦٨، ٣١١ الزبير بن العوام ٦٤٣،٤٦٨ ،۱۹۵ كان عائلة شريفة غنية من اعتناقه الإسلام ٢١٦ ۵۹۲ كان الصحابي الشاب الوحيد الذي يعلم القراءة والكتابة ١٤٢ دخوله مكة فاتحا VVA ٣٤٢ دارون دانيال ال داود الطبية أوتي الحكمة وفصل الخطاب قول لطيف له داود بن هندبة ٤٧٥ ٧٣٤،٥٧٨ ۰۱۱ ٦٤ ٢٨٥ حراسته مع زوجته في حرب اليرموك الزجاج النحوي زرادتشت زراد تشت القلعة لم يكن دينه عالميا ۶۹ ۳۸۵ ،۳۷۹ ،۳۷۵ ،۲۲۲ أعماله ليست محفوظة بشكل كامل ۹۹ ،۹۸ ٦٨٦ ٥٥٥ الزمخشري ۱۰۹، ۱۱۰، ۱۷۱، ۱۹۸، ۲۱۸،

Page 856

ملحقات ۱۲۷ ۱۲۳ ٢٨٥ ٥٨٧ ٣٤٧ ٤٤ ۲۳۳ سلمان الفارسي قبوله الإسلام بن يزيد الجعفي سلمة سليمان العلية سماه الله تعالى ابن الله سليمان التيمي سمرة بن جندبه سهيل بن عمرو إشهار ابنه إسلامه وهو يمثل قريشا في صلح الحديبية ٢٢٢، ٤٩٩ ٣٦٩ ٧٦٣ ۳۹۵ ٤٥٢ سيبويه النحوي شايلوك بطل مسرحية شيكسبير "ضابط من البندقية" شبلي رحمه الله قصة ضربه منصور الحلاج بزهرة شداد شداد بن أوس شعيب العلة ۵۱۹ شهاب الدين الغوري عقابه الغريب لجنوده الهاربين ٦٠٤ شيبة بن ربيعة ١٩٥، ١٩٦، ١٩٧، ٢٠١، ٦٠٤ دعوة النبي إياه إلى الإسلام ۲۰۷ ٦٣٨ ٣٦٩، ٣٨١ شير علي المولويه ترجم معاني القرآن إلى الإنجليزية شيكسبير ٤٤ الجزء الثامن ٦٠١، ٦٢٤ ،٤٥٤، ٥٦٧ ،۳۸۳ ،۲۱۳ ٢٨٥،٢٨٤ ۲۳۳ ٦٤٤ ٦٤٨ ۷۸۹ عقيدته في نجاة أطفال المشركين زید زيد بن أسلم زيد بن الحباب زینب زوجة الرسول سائن آچاریه عالم هندوسي سارة عليها السلام أخرج إبراهيم هاجر من البيت برغبة سارة حسب الكتاب المقدس ٤٣،٤٢، ٤٥ ٥٥٧ ٦٤١،١١٠ سالم بن أبي الجعد سبرنغر المستشرق اعترافه بسلامة القرآن من التحريف السدي اقة مالك سر بن واقعة لبسه أسورة كسرى سعد بن عبادة تعليمه القرآن في المدينة دخوله مكة فاتحا سعدي الشيرازي رحمه الله سعيد بن جبير سعيد بن عوف سفيان الثوري له 71 ۵۰۹ ۷۷۸ ٣٤٠ ٤٥٣ ،۳۸۰ ،۷۸ ،۱۳ سلام بن أبي الحقيق (أبو رافع) ٦٤٣ ٣٤٢ ١٢٤ زعيم يهودي في المدينة استحق القتل

Page 857

ملحقات ٧٠٦ V.A ۲۳۳ ٤٥٢ ۱۹۷ ۲۲۰ ٢٥٢ ۲۲۰ ۷۰۲ ۲۸۲ ۱۳۰ ۱۳۱ ٤١٧ ٧٢٤ ٥٠٣ ۲۷۸ ۵۹۷ ٤٥٢ ٤٥٩ ۷۳۵ 1.0 الجزء الثامن صالح ال بي قوم ثمود كان مرجو القوم صهيب الضحاك الطبري طلحة كان عائلة بن عبد الله من عريقة غنية اعتناقه الإسلام ٧١٤ ۳۲۰ ۲۳۳ ٦٤٣،٤٥٣ ،۳۸۶ ،۳۸۲ ظفر أحمد مرزا تربيته لليتامى ظهير الدين "أروبي" ادعاؤه أنه "المصلح الموعود" عائشة الصديقة رضي ۷۷۹ ١٩٥، ٦٤٦ ٢١٦ ۵۹۲ ٧٤٢ ۷۷۱ الله عنها ٦٩، ٢٥٢، ٢٥٣، ٦٣١،٥٠ ۲۸ ۱۹۸ ٢٩٤، ٤١٦، ٩ تزوجها النبي بعد سنة من الهجرة كانت تغبط خديجة رضي الله عنهما سؤالها النبي عن القضايا الشرعية سؤالها النبي عن مصير أولاد المشركين ٣٤٤،٢٥٣ ٢٨٦ ٤٥ عاد إرم قبائل شتى العمالقة هم بقية عاد عامر بن فهيرة عبادة بن الصامت له العباس بن عبد المطلب ازداد الإسلام قوة بإسلامه نداؤه المسلمين في غزوة حنين استشارة الخلفاء الراشدين إياه عباس علي مرزا ابن البهاء وصية أبيه له أن يتزوج أخرى عبد الجبار خان عبد الرحمن بن أبي بكر ذكره غزوة بدر عبد الرحمن بن عوف.قصته مع ولدين قتلا أبا جهل في بدر اهتمامه بنشر الإسلام يحب المال رغم غناه عبد الرحمن الحافظ الأمر تسري تآمره مع البطالوي ضد المسيح الموعود اللة عبد الرحيم نير عبد الستار كبتي دعوة المفسر له إلى الأحمدية عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عبد القادر الجيلاني رحمه الله كان مقامه مقام الإنعام وليس مقام الابتلاء عبد الكريم المولويه ۱۹۸ عاتكة بنت عامر بن مخزوم رضي الله عنها كانت أم عبد الله بن أم مكتوم له عاد دحض اعتراض المستشرقين أن آثار عاد لم تظهر في الحفريات اسم عاد إرم لدى الجغرافيين اليونانيين القدماء سيطروا على العرب بعد قوم نوح ۷۰۷، ۷۰۹، ۷۱۵ بعث إليهم هود العلة V.O ٧٠٦ ۷۰۷ كانوا مشركين معنى كونهم: ذات العماد ۷۰۸

Page 858

ملحقات ۱۹۰ ،۱۳۲ ۱۳۲ ۳۱۹ عبد الله بن مسعود أظهر أبو جهل حسرته أمامه عبد الله التيمابوري عبد الله الغزنوي رحمه الله ٤٦ ٤٨٢ 1.0 الجزء الثامن عبد اللطيف سيد الشهيد لم يرق قلب أحد عندما رجموه عبد الله الله آتهم (راجع آنهم) عبد الله ابن أبي ربيعة له ذهابه إلى الحبشة ممثلا للكفار عبد الله بن أم مكتوم ۰۹ ۲۲۱ ،۲۲۰ ، ۲۱۹ ، ۲۱٤ ،۱۹۷ ۱۹۸ الله عنهما ۱۹۸ ۱۹۸ كان ابن خال خديجة رضي روايات مختلفة عن اسمه الحقيقي سبب كنيته ابن أم مكتوم كان من أسرة شريفة ومقربًا عند النبي ٢، ٢٠٤۰۲ ،۱۹۹ ،۱۹۸ هو أول من قام بتعليم القرآن في المدينة ولاه النبي على المدينة مرتين معنى عبس وتولى لدى المفسر عبد الله بن الزبير ، راجع ابن الزبير ۱۹۸،۱۹۹ عبد الله بن سبا تأثره بأفكار أهل التشيع عبد الله بن سلامه كان ممن أسلم من بين اليهود عبد الله بن شريح بن مالك ربيعة الفهري ٥٦٠ ۱۹۵ ۱۲۷ كان من أولياء الله (المسيح الموعود ال) عبد المطلب عبدة بن عبد الله ٤٤٤ ។ ។ ។ ٦٤٢ عبيد نغو ٤٧٧ عتبة بن ربيعة ١٩٥، ١٩٦، ١٩٧، ٢٠١، ٦٠٤ دعوة النبي له إلى الإسلام عثمان عفان بن كان من عائلة ثرية بمكة إسلامه قول النبي : إن الملائكة تستحيي منه ۲۰۷ ٢٦٦، ٤١٤ ،۱۹۵ ٢١٦، ٢٣٣ ۵۹۲ ٣٤٤ ٤١٧ 001 شهادته على محافظة عُمر على مال المسلمين اعتراف المستشرقين بسلامة مصحف عثمان افتراق المسلمين في آخر خلافته سنة وشيعة عثمان بن مظعون كان من عائلة غنية ومع ذلك اضطهد العرب هو اسم عبد الله بن أم مكتوم في بعض الروايات ١٩٨ تاريخ العرب محفوظ من زمن إبراهيم العلي عبد الله بن عبد العباس ، راجع ابن عباس الله بن عمر ، راجع ابن عمر عبد الله بن عمرو بن قيس ابن زائدة بن الأعصم هو اسم عبد الله بن أم مكتوم في بعض الروايات ١٩٨ عبد الله كعب بن مالك بن ٤١١ بداية النسل الإنساني من العرب عاد إرم من العرب يرى العرب أن حضارتهم منوطة بعاد إرم ٧٦٦،٧٦٧ ٦٢٦ ٧١٥ ٧٠٦ ٧٠٦ ٢٢، ٦٢٢ مقام العرب لدى العالم قبل بعثة النبي نظرياتهم المختلفة عن الحياة بعد الموت أيام الجاهلية ٩ لم يكونوا يرضون بإمارة قوم أقل منهم شأنا ونفوذًا

Page 859

ملحقات علي بن أبي طالب ٤٢،٤٥، ٤١٤،٥١٠ ، ٣٤٠، ٩٥،٢٣٣،٢٦٦،۱۱۰ ۲۳۳ Л ۵۲۷ ۱۹۹ ۵۲۷ ٣٤٠ ٤٢،٤٥ ٥٦٣،٦٨٣ ٦٨٤ مكانة عائلته ترك النبي إياه في سريره عند الهجرة اختاره النبي لفتح خيبر أمره النبي على المدينة ركة النبي شفاء عينيه ببر أعتق عبدًا بسبب جوابه اللطيف تفسيره لكلمة "أحقاب" حرب معاوية له قول معاوية في حق علي رضي الله عنهما ردًا على رسالة قيصر الذين يفضّلون عليًا على الخلفاء الآخرين يعنونه هو ٧٢٤ ٥٦٣ 79AY..۲۳۳ ۵۰۹ V.A بلقب "أمير المؤمنين" يعتقد الشيعة أن جزءاً من القرآن كان عنده على محمد الباب مؤسس البابية عمار بن ياسر قيامه بتعليم القرآن في المدينة العمالقة، بقيةُ قوم عاد عمر بن الخطاب ١٤، ٤٥،٥٧،٦١،٧٦۳ ،۱۸۳،۱۹۵،۲۳۳ ،٢٨٢،٣٤ ٢،٣٤٤،٤١٤ ۲۳۳ ۲۲۰ ۲۳۱ ۱۸۲،۱۸۳ ٦١٧ ٤١٧ مكانة عائلته خرج مخترطا السيف لقتل النبي عمله بالقرآن جعله كبيرًا قصة حدثت في أيام غلبته حاكم مثالي قيامه بواجباته بحماس وتفان ٤٧ ۱۹۹ الجزء الثامن صفاتهم الحميدة صفاتهم الحميدة تعظيمهم الكعبة مع مرور ألفين وخمسمائة سنة اهتمامهم بعظمة مكة وحرمتها إحدى خصالهم الحميدة يشركون الآخرين في طعامهم خطاب رباني هام للعرب نبأُ فشل زعماء كفار العرب انقلاب العرب بواسطة النبي 175 ،174 ٧٦٤ ٧٦٤ ۵۸ ٢٣٦ ١٧٤ ۳۹ ١٧٤،١٥، ٥٢٦ امتناع بعض قبائل العرب عن أداء الزكاة بعد وفاة النبي اقتراب الساعة هلاك العرب" (الحديث) ذهب حكمهم لتركهم حياة المشقة تمرد البدو على ترك ركوب الإبل عزرا العليا نبي بعث في زمن نفي اليهود عزرائيل ١٤٢ ٢٥٦ ٢٥٥ ٢٧٤ 001 ٥٥٢ ۱۲۰ ٧٨٥ العزى غزير العليا أعاد كتابة التوراة مع خمسة من الكتبة له كتاب اسمه "Esadras" باليونانية ولا يوجد في الكتاب المقدس عطاء بن أبي رباح عكاشة بنت وهب عكرمة بن أبي جهله لم يقدر أن ينقذ أباه في بدر عكرمة مولى ابن عباس ،١١١،٦٤٣ • 001 001 ٢٩٤ ۱۳۱ ١١٠،٦٤١،٦٤٣

Page 860

الجزء الثامن بحثه عن إبل بيت مال المسلمين في يوم قائض ألبس سراقة سواري كسرى تحقيقا لنبأ النبي مجيئه إلى مكة زمن خلافته ٤١٧ ٦١ ٨٤،١٨٢ ΕΛ لا يمكن أن يُدعى ابن داود ملحقات ٣٥٠ وعد الله وعل بعصمته كانت تعاليمه كاملة لقومه إكرامه الا الله السابقين الأولين من الصحابة ١٨٢،٣٩٤ اعتبره المسيحيون خطأ أنه مبعوث للعالم كله معاملته العبيد المؤمنين وأولاد سادة قريش ٨٦،٣٩٤ جاء يُملك الله إلى الأرض سؤاله خباب بن أرت عن جروح ظهره تفسيره لآية تفسير لقوله تعالى إذا النفوس زوجت) ٥٧ ٣٤٢ ۲۸۲ قوله : بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم "نصبر II ۷۲۳ ٥٤٤ ٦٨٧ ٤٨٨ استجيب دعاؤه بقيام مُلك الله في الأرض في شخص ١٢٦ النبي دعاؤه لينزل الله مائدة على قومه إنعام الله جل على قومه ٤٠٢،٤٠٦ ٤١٢ لم يأخذ قومه كاملا ما أعطاه الله وعل رفض أبي بكر لمشورته أن يلين مع مانعي الزكاة ١٤٣ المقارنة بين أتباعه وأتباع النبي عمران بن حصين عمرو بن العاص به ذهابه إلى الحبشة ممثلا للكفار لم يستطع وصف ملامح النبي إعظاماً له عمرو بن عبد الله عمرو بن قيس بن زائدة ٦٤٥ ۰۹ ٦٠٧ ۲۲۱ يُسأل يوم القيامة عن شرك قومه تحريف تعاليمه في زمن النبي المقارنة بين غلبته وغلبة النبي قولان له العلية يرى المسيحيون أن مجيئه الثاني هو القيامة نزوله من.السماء مع الملائكة ينا في سنة الله غالب أسد الله خان الشاعر ٢٨٣ ۳۲ ٣٦٤ ٣٥٢ ٥٨٧ هو اسم عبد الله بن أم مكتوم بن أم مكتوم حسب رواية ١٤٩ يبدو أنه كان في قلبه حسنة إذ تكلم بكلام حكيم كثير ٧٥، ٤٤٦ عمير بن وهب أشار على الكفار بعدم قتال المسلمين قبل غزوة بدر غلام أحمد القادياني المسيح الموعود والمهدي عوفي عيسى بن مريم العلي ٦٤٤ المسعود العلية ٤٥٩،٤٧٤،٥٦٠،٠٠، ١٠٦،٣١٨،٤٤١ دعاويه العليا أعلن دعواه عام ١٨٩٠م ٦٩١،٦٩٥،٦٩٧ ،٥٢،٣٦،٤٠٦،٤١٢،٥٠ ٩٨،١٤٢،٣٥٠، ٠،٥٥٠ ٥٥٦،٥٧٨،٥۸۷،۶۸۷ خاتم السلسة الموسوية كان ورقة بن نوفل يعتبره نبيا غير مشرع عقيدة ملك الحبشة في المسيح العلي ٥٠٠ VVE قدّم حَلْفًا مكتوبًا على صدق دعواه على طلب شخص الفرق بينه وبين المدعين الآخرين بالمهدوية المقارنة بينه وبين مؤسس البهائية جوابه لمن يطالبون بالآيات ١٠٦ ٦٩٧ ۷۰۰ ۳۱۷

Page 861

الجزء الثامن زمن بعثته العليا || تأليفه كتابه براهين" "أحمدية عام ۱۳۰۰ ونشره إياه عام ١٣٠٢ الهجري كان تحقيقا لأنباء قرآنية ۶۹۱ ٤٤١ عصره العليا بعثته العلة بصفته "المسيح الموعود في اليوم الموعود || د II σ ٤٩ M ظل.جميع الأنبياء قوله تعالى "إذا الرسل أقتت" يشير إلى بعثته تظهر رسالة جميع الأنبياء في رسالته بینه العليمة وبين الصديق الشبة ظهرت عليه التجليات الإلهية بالتدرج ملحقات ٤٧٤ سبب تسميته بـ "الطارق" في الإلهام بعثته الا في القرن الرابع عشر وفق أنباء القرآن ٤٥٩ يقينه الكامل بالله وعمل واطمئنانه عند الأهوال أراد الله و أن يبدأ التاريخ بالمسيح الموعود العلي أعلن دعواه في زمن تشير إليه أنباء القرآن والحديث حالة المسلمين الروحانية في زمنه غرض بعثته العليا ۶۹۷ ۲۲ ۷۰۳ ٤٨٨ غرض بعثته إحياء الدين وإقامة شريعة الإسلام نزل بواسطته مُلك الله على الأرض أزلفت الجنة وحصل الإيمان الحي على يده ال ٣٠٣ لا ينشأ اليقين بغلبة الإسلام إلا بعد الإيمان به العلم فوّض الله وكل إليه مهمة كشف علوم القرآن انكشاف معارف القرآن الجديدة عليه ٣٠٨ ٦٣٦ كان القرآن مطهراً ولكنه الكشف ميزته هذه كما لم يظهرها غيره حدوث ثورة ببعثته الانقلاب في أتباعه غلب على المسيحيين بشكل كامل ۲۳۳ ٢٥٠ ۷۰۰ ۳۳۱ ۲۸ ويقطعه من آبائه في المستقبل تفانيه العليا في الرسول قد تفانى في الرسول رؤيا المفسر عن تفاينه العلية في الرسول غيرته العلم على النبي الهاماته العلة الواردة في هذا المجلد || إني مع الأفواج آتيك بغتة" ي الله في حلل الأنبياء" "والسماء والطارق" ٢٢٤ ٢٢٤ ٢٢٤ ٦٩٢ ٤١٦ ٦٣٥ ٣٥٧ ۱۹۰ ٦٩٣ ٦٩٣ ۲۱۳ ٤٩٠ ٢٢٥ ۶۹۰ ٥٠ || ۷۱۹ ٦٩٩ " والله يعصمك من الناس" يأتي" عليك زمن كمثل زمن موسى " يأتيك من كل فج عميق" "يأتون من كل فج عميق" "يا قمر، يا شمس أنت مني وأنا منك" اكي الدين ويقيم الشريعة" حماس الأحمديين للتبليغ في زمنه || ينقطع" من آبائك ويبدأ منك" نزول العذاب في زمنه بصورة الحرب والقحط ٥٩٠ يوم تأتي السماء بدخان مبين" مكانته العليان ٤ مقامه الفريد في الأمة المحمدية مقامه کمسیح موعود ومهدي معهود ٦٣٥،٦٩٤،٧٠٣، ٤٩٦ حقيقة شهرته باسم المسيح الموعود في الجماعة اعتبره القرآن الكريم "شاهد" ٤٧٢ ٤٧٣،٤٧٤ وترى الأرض يومئذ خامدة مصفرة" أوى النبي إلى قلعة الهند" (ترجمة) ٤٧٣ ٧٠٤ ۱۹۰ ۰۹۰ ۰۹۰ ٦٩٢ كم" من صغير سيجعل كبيرا وكم من كبير سيجعل صغيرا" وعد الله ل له بالحماية سبب تركيزه على إلهاماته ٦٠٧ ٥٠٠ ٦٣٣

Page 862

الجزء الثامن دليل واضح على تحقق إلهامه: "يأتون من كل فج عميق" ۶۹۹،۷۰۱ رؤاه وكشوفه العليا رؤيته عيسى بن مريم اللي في الكشف قلقًا على شرك قومه كشفه عن توسيع قاديان رأى نفسه كموسى وجماعته كبني إسرائيل أخبر في الرؤيا في عام ١٨٨٦م بغلبة الإسلام سيظهر مثيل فرعون في القرن التاسع عشر وتظلم ۳۳۲ ٦٩٩ ۷۱۹ ٢٥٧ ملحقات الفرق بين علوم الله وعلوم الإنسان في رأيه ١٦٢ إبطاله جميع العقائد والتعاليم الباطلة المنسوبة إلى القرآن تفسيره العلمية لآية "إذا الشمس كورت" تعريفه العلة للأخلاق بيانه العلي قسمين للابتلاء ۲۳۳ ٢٦٩ ۵۳۳ ٤٤٦ قال : لا يُقتل النبي الأول والأخير من سلسلة الأنبياء من لم تتم عليه الحجة في الدنيا سيُحكم عليه يوم ٥٠٠ جماعته لدرجة تقلقها أنباؤه العليا ۷۱۹ القيامة بناء على فطرته فتواه العلية عن الإجهاض ۲۹۲ ۲۹۵ تحقق نبوءته العلية التي أعلنها عام ١٨٨٦ عن ظهور "قد مصلح موعود قد طلع نهار أعداء الدين بينما خيم الليل علينا، فاطلعي يا شمسي فإني في انتظارك على أحر من الجمر سأعطى عصا روسيا ۳۱۷ ستغلب الجماعة الأحمدية خلال ثلاث قرون ۳۱۷ أنباؤه عن مستقبل الجماعة الأحمدية أنبأ عن "زلزلة الساعة" دليل على صدق أنبائه ٤٥٩ ٦٥٧ ۳۱۷ مطالبته القس عبد الله "آتهم" بالحلف على عدم خوفه من نبوءته الرد على كون أنبائه غامضة بعض أقواله الطبية وتصريحاته أمري يتوقف على كوني مهديًا ٤٩٦ 1 معارضته العليان السبب الرئيس لمعارضته معارضة كبار العلماء له العلية كيد البطالوي ضده العلي بالتواطؤ مع شيخ آخر تعليقه العلل على تفاخر البطالوي بكتابته رسالة إلى الحاكم ذلة البطالوي بسبب معارضته له حالة قلوب المعارضيه ۱۰ ٢٥٠ ٥٠٣ ۳۱۱ ٥٩٦،٥٩٧ ٤٧١ من فرّق بيني وبين المصطفى فما عرفني وما رأى ٦٩٣ عذاب روحي لمعارضيه كان لآبائه شأن عظيم الله تعالى قد جعل العزَّ في عصرنا هذا منوطا بنا ٧٩٦ أمور متفرقة لن يحظى أحد بقرب الله مستقبلا إلا باتباعي ذكره محاسن أفراد جماعته وصيته العلم للجماعة أن تستعد لتقديم التضحيات ٤٦٤ ٤٤١ ۱۹۰ قال: جمع جدي ميرزا گُل محمد حوله خمس مئة حافظ للقرآن ٥٦٢ ٤٨١٤٨٠ كان يحب المسك كثيرًا ٤٢٥ قال : جميع النقائص والعيوب تنشأ بسبب البعد عن الله ردة فعله حين سلّم عليه البانديت ليخرام عدو الرسول ول ٦٣٣ ۲۱۳

Page 863

ملحقات ۲۱۰ قریش رؤساء قريش ۰۱ ۲۱۷ الجزء الثامن غلام أحمد الشيخ، قصة المفسر معه غلام فريد ملك الماجستير ترجم معاني القرآن إلى اللغة الإنجليزية غلام محمد میان تبريره ادعاءه بكونه "المصلح الموعود ٦٣٨ ۳۱۹ الفراء النحوي ۳۷۰،۳۷۲،۳۷۹،٤٠٣،٧٣٧ مصنف "شاهنامه" الفردوسي توجد في أبياته كلمات كثيرة من غير اللغة البهلوية فرعون 157،97،337،346،38٨،٣٩٤،٦٥٢ حضارته وحضارة قومه سعة ملك مصر في زمن الفراعنة ذهاب موسى إلى فرعون بأمر الله طلبه الدعاء من موسى حشره الناس هلاك جنوده ٧١٦ ٧١٦ ١٥٧ ۵۸۹ ۱۰۹،۱۸۹ ، ۱۰۸ ۱۰۹ نبوة النبي إشعياء عن زوال مجد قيدار (أي قريش) ٦٧٦ قدمت المال استعدادًا لغزوة أحد إيمان أولاد رؤساء قريش وحماسهم للشهادة ١٥٣ ١٢٥ القشيري الصوفي روى قصة محيرة لمغفرة شاب مذنب قورش ملك ميديا وفارس معاهدته السرية مع اليهود قیدار (قريش) نبوة النبي إشعياء عن زوال مجدهم قيس بن عاصم له سؤاله النبي عن كفارة وأده لبناته قيصر الروميوقع رسالة النبي ﷺ في قلبه ۱۱۲ ٣٤١،٣٤٢ ٥٥٢ ٦٧٧،٦٧٦ ٢٩٤ سؤاله أبا سفيان بعد استلام رسالة النبي ۳۱۲ ۳۱۲ ٦٨٤ رد معاوية له على رسالة قيصر اتفاقية حكومة بغداد عام ٢٧٣ مع قيصر الرومي ضد ٦٨٣ ٤٠٩،٣٢٢ ۷،۹۸،۹۹،۱۰٢،١٤٢ ٦٢٤ 71 ٣٨٥ ١٢٤ الحكومة الإسلامية بأسبانيا كائط الفيلسوف کرشنا العلني رؤيا المسيح الموعود الله أن فرعونا يلاحقه وجماعته ۷۱۹ سيظلم فرعون جماعتنا بحيث تقول الجماعة "يا موسى إنا لمدركون" فضيل بن عياض ۷۱۹ ۳۳۹ فقير محمد شوهدري قصة بيعته بعد قراءة كتاب المفسر "دعوة الأمير" ٢٦١ قارون إبطاله دعواه "إنما أوتيته على علم عندي || ۷۲۷ الكسائي کسری فارس استشاط غضبًا بعد قراءة رسالة النبي هلاك كسرى ولبس سراقة سواره كعب قتادة كعب بن أشرف ه،٤٠٤٠، ۷۸، ۱۱۰، ۱۱۱، ٣٨٥، ٤٥٣ زعيم يهودي بالمدينة المنورة

Page 864

الجزء الثامن كعب بن مالكه قصة احتضاره كمال الدين الخواجه أخبر المسيح الموعود الله عما نواه قاض ضده گل محمد میرزا في بلاطه خمسمئة حافظ للقرآن غاندهي الفرق بينه وبين غيره حقيقة صومه للاتحاد بين المسلمين والهندوس اللات لبيد الشاعر ٤١١ ٣٥٦ ٥٦٢ ١٣٦ ٨٠٤ ٥٢ ملحقات قبيل بعثه لو كان اليهود ينتظرون نبيا موعودا في بلاد العرب بعث بعد عیسی بست مئة سنة تقريبًا بعثته كانت نتيجة دعاء إبراهيم كان المقصود الحقيقي لبناء مكة المكرمة بعثته كانت نتيجة رحمانية الله حدوث ثورة ببعثته انقلاب روحاني ببعثته انفتاح أبواب التطور المادي والديني ببعثته ٦٦٧ ٧٦٤ ΥΛΕ ۷۷۱ ۱/۱/ 1 ۱۹۵ ۳۹ 011 ضرورة بعثة مصلح بعد النبي الكامل تتحدث سورة الجمعة عن ظهورين كبيرين له ٢٥٧ سيبعث أظلاله المبشرين ومنذرين إلى يوم القيامة ٦٨٧ ظهور ظله و بعد ألف سنة من تدهور المسلمين ٦٨٧ قصة غضبه من عثمان لوط ليكهرام البانديت بن مظعون ٧٦٧ ۵۱۹ مقام نبي تابع له مقامه هو أفضل الأنبياء ٤٩٦ ٥٧٨ ردة فعل المسيح الموعود ال حين سلّم عليه البانديت هو خاتم النبيين إذ اجتمعت فيه صفات الأنبياء كلهم ليحرام عدو الرسول مالك بن أنس الماوردي المبرد ۲۱۳ ٤٥٢ ۱۱۲ ٢٢٢،٣٨٥ هو خاتم النبيين إذ لا يمكن لأحد نيل الفيوض الإلهيه إلا بواسطته ٢٢٤ ٦٨٥ كانت على ظهره الا الله وعلامة ظاهر تؤيد المعاني الحقيقية لختم النبوة نبوءته مستمرة إلى يوم القيامة ٤٢٦ ٦٨٧،٣٠ مجاهد اصطفاه الله و أن يكون نبيًّا للعالم كله وللأبد ٦٨٧ ه، ۱۱۰،۱۱۱، ٦٤۲، ٦٤١ ، ٤٥٢،٤٥٣، ٦٤٤ المراد من رسول" "كريم" هو محمد المصطفى خاتم النبيين ،۲۷،۲۸،۳۰، ۳۲ ،۳۵،۳۹، ، ، ٤٥ ۱۰ ،۷ ٥٢٧،٥٤١،٥۰۷ ،۵۷۵ ، ۸۰ ،۸۱،۸١،٧٦، ٤٩٦، ٤ بعثته النبي ۳۰۹ "ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثُمَّ أمين" ٣١٣ هو إمام ومطاع لجميع الناس إلى يوم القيامة هو "الروح" أي الروح الكامل شفاعته يوم القيامة ۷۹ ۷۹

Page 865

الجزء الثامن شبههه القرآن الكريم بالشمس عمله باعتباره "سراجا منيرا هو كأب للأمة أقام ملك الله وعمل في الأرض ٥٣ ٢٦٥،٤٥٦،٤٥٩ ۲۷،۲۸ ۷۷۹ ٤٨٨ أخلاقه السامية ملحقات ١٤٨،٢۰۲،۲۰۹،۲۱۹ تحليه بالأخلاق الحميدة في السراء والضراء صبره على وفاة ابنه إبراهيم صورة بلاط محمد في شخصه استجيب دعاء عيسى عن قيام ملك الله احترامه العبيد الذين آمنوا به في الفترة الأولى في الأرض هو مبشر ومنذر للناس كلهم إلى يوم القيامة ١٢٦ ٦٨٥ لم ينظر إلى الفقراء والطبقة الدنيا بازدراء سعيه للنهوض بالضعفاء وتحرير الأرقاء ۷۳۵ ۷۳۵ ۸۱ ۱۸۳ ۲۳۳ ۲۱۹ هو ليس بمصيطر لا على المؤمنين ولا على الكافرين لا يمكن لأحد أن يفهم صفات الله على أكثر منه ٦٢٨ معاملة ربانية خاصة به تجلت عليه صفات الله دون واسطة تجلت عليه ربوبية الله بشكل أكبر تجلت عليه رزاقية الله بشكل خاص من خلاله ظهر شفاء الله وعمل وعد الله و بحمايته ما كان ممكنا أن يُقتل إذ كان نبيا مشرعًا قوته الإحيائية ۵۲۲ ٥٢٢ ۵۲۳ ۰۲۱،۰۲۲ ٥٢٤ ٥٢٦ ٥٠٠ ٦٧٠ ٥٢٦ نزول البركات في بيت حليمة السعدية بواسطته ٥٢٦ من ميزاته أن قومه آمنوا به كان مثيل يوسف الليل مقارنة غلبته مع علبة الأنبياء الآخرين V ۸۱ V خمسة أدلة على دحض فكرة عدم التفاته إلى بن أم مكتوم جرأته وشجاعته اطمئنانه منقطع النظير عند الأهوال طمأن أبا بكر في غار ثور ترتيله للقرآن الكريم كان يرد على السائل بعد أن ينتهي من ۱۹۹ ۷۸۷ ،٦٧١ ٣٥٧ ۷۲۱،۳۵۷ ٤٣٧ كلامه مع الأول استحياؤه من عثمان عفان بن قوله العجوز مازحًا لا تدخل الجنة عجوز الحكمة في نسيانه بعض الأمور كرهه للمكان الذي نزل عليه غضب الله صدقه دلائل صدقه حلفه على صدق دعواه عند مطالبة شخص مكة آية صدقه المقارنة بينه وبين موسى فيما يتعلق برؤية الله ١٥٦ دخوله مكة فاتحا دليل على صدقه عزته الدنيوية نبأ عظمته يعرفه الناس يوم القيامة بعلامات معينة أخلاقه ماله أخلاقه الفاضلة قبل البعثة اعتراف الكفار بأمانته وصدقه شعوره بالهيبة عند نزول أول وحي ۳۱۱ ۱۸۹ ٤٤٧ ۷۹۲ ١٤١،١٤٢ ۷۹۲ ۲۰۳ ٣٤٤ ٦٧ 07V ۷۱۲ 1.7 ٧٥٩ ٧٥٩ تحقق دعائه " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع || يوس وسف معجزته عن شق القمر شفاء عيني علي کته ۵۸۹ ٢٥٦،٢٥١ ۵۲۷ ٣٦ نبا غلبته الوقائع بداية نزول الوحي عليه بالرؤى الصالحة ٤١٦

Page 866

الجزء الثامن نزول الوحي الأول عليه وقلقه قوله لورقة بن نوفل "أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ" بيعة العقبة الأولى في سورة النبأ إشارة خفية إلى هجرته تركه عليا له في سريره عند الهجرة ازدیاد قوته بعد صلح الحديبية تعاليمه فضائل تعاليمه إشارة قرآنية إلى كون تعاليمه عالمية وصيته للصحابة بالتواضع عند الفتح قيامه بالدعوة دعوته رؤساء قريش دعوته لأهل مكة ثلاثة عشر سنة متتالية دعوته للعبيد المسيحيين رسائله التبشيرية إلى الملوك رسالته إلى قيصر الروم معارضته ۷۹۲ VVE ٦٦٨ ۲۷ л ۳۱۱ ١٢٦ ۲۸ 110 ۲۱٥ ٥٧٥ ٢٠٣ ۳۱۲ VAY ٥٤ أمته الصحابة الأوائل حب الصحابة له صفات جماعته تناوب الصحابة لحراسته فرح أهل المدينة عند مجيئه إليهم وصول أتباعه إلى القمة في اتباعه المقارنة بين أتباعه وأتباع موسى وعيسى الهلال اليوم عناية قومه باليتامى والمساكين غلبة العرب على العالم بعد الإيمان به نبأ عن عدم اتباع أمته له ملحقات ٥٩٦ ٢٤٤،٢٤٥ 11 ١٢٤ ١٤٢ ٧٤٨ ٦١٥ ٢٦٤ " لا نقول ما نقول إلا لإظهار شرف النبي وجلاله" (المفسر) توضيح المفسر لبيان له عن النبي ٤٨٥ ۱۹۸ محمد إسحاق مير ، قصة من طفولته 1.0 محمد أكرم خان ٢٦١ محمد بن رافع ٦٤٢ بداية معارضته ۰۹۳ اعتراف وليام موير ببداية معارضته بعد السنة الثالثة محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني ٦٤٣ من البعثة بدأت مخالفته الله المنظمة في السنة الرابعة من البعثة مكائد المخالفين ضده تفصيل فضائع الكفار عليه ٦٦٩،٦٧٣،٦٧٩ في البداية لم يقدر على الصلاة علنا ۷۷۳ ٥٨ محمد بن علي بن الحسين محمد بن كعب محمد حسين البطالوي ٤٥٢ ٦٤١ ٢٥٠ آخر محاصرة الكفار بيته لقتله ازدراء الكفار لأتباعه فشل الكفار في مكائدهم ضده عاقبة أعدائه الوخيمة الرد على اتهامه بالجنون ۱۸۳ ٦٧٩ ۷۲۱ ۳۱۸ معارضته المسيح الموعود العلي كيده بالمسيح الموعود اللة بالتواطؤ مع شخص قصة مناظرة له مع الخليفة الأول طلبه الكرسي من القاضي دوغلس تفاخره بمراسلته مع الحاكم دراسة ابنين له في قاديان على نفقات جماعتنا ٤٦٢ ۷۸۹ ۳۱۱

Page 867

منصور الحلاج رحمه الله قصته حين رماه شبلي بزهرة مهنْدَر مشر ساهتيه أجارية الباندت مهيش الباندنت کندر برشاد ملحقات ٧٦٣ ٥٥٤ ٥٥٥ اعترافه بالتحريف في كتب الفيدا موسی ،٥، ٢٢٤ ، ٥٥٥، ٥٧٨۰۹،۱٥٦ ،۹۸ ،۳۲ ،۷ ٦٥٢،٥٨٢ ١٥٦ نزول الوحي عليه بالوادي المقدس طوى أكبر معجزاته الآية الكبرى من معجزاته 00 ٣٥٠ ٢٥٠ ٣٥٥ ٤٥٩ الجزء الثامن محمد شریف میان محمد طاهر السندهي مصنف مجمع البحار ذكر ثلاثة معان للقيامة محمد علي، أمير الجماعة اللاهورية محمود الغزنوي ٢٦٨،٢٧٢ الدين بن العربي رحمه الله مريم عليها السلام مسروق ٣٣٠،٣٥١ مسيلمة الكذاب موسوليني مصعب بن عمير أول من قام بتعليم القرآن في المدينة مصلح الدين الشيرازي معاذ بن جبل جبله منعه ۳۱۳ ٣٤٠ ۱۱۰،۱۱۷ النبي من قراءة السور الطوال في الصلاة جماعة معاوية بن أبي سفيان له شجاعة والدته في حرم اليرموك حربه ضد سيدنا علي معمر معين الدين الجشتي رحمه الله ٦٣١ ٥٦٣،٥٦٤ 111 ٤٥٩ وعد الله و بحمايته لم يكن مبعوثًا للعالم أجمع أمره الله و أن يذهب إلى فرعون طلب فرعون منه أن يدعو ربه تغلبه على فرعون دليل على القيامة ١٥٨ ٥٠٠ ٦٨٥ ١٥٧ ۵۸۹ نجا من فرعون في اليوم العاشر من محرم (حديث) ٦٥٣ تضمنت صحفه تعاليم جميع الأنبياء السابقين كان كتابه إمامًا ورحمة للناس كان كتابه كاملا لقومه وزمنه كانت تعاليمه محرفة في زمن النبي ﷺ ما يُنسب إليه كُتب بعد وفاته بفترة طويلة ذكر وفاته ودفنه في التوراة سبب انمحاء أثر قبره ٢٢٤ ٤٧٤ ٥٤٤٤٥٤٨ ۳۲ ۲۲۷ ٥٥٢ ٥٥٣ في صحفه نبأ مجيء رسول عظيم بشرع كامل المقارنة بينه وبين موسى فيما يتعلق برؤية الله ١٥٦ المقارنة بين غلبته وغلبة النبي المقارنة بين أتباعه وأتباع النبي منة الله عل على قومه ٥٤١ V ٤٣،٣٥٨ ٤٥٢ ۸۱۱ ،۷۸۵ مقاتل بن حيان مكحول مناة

Page 868

الجزء الثامن لم تأخذ أمته ما أعطاه الله رؤيا المسيح الموعود الا أنه موسى سيظهر مثيل فرعون في القرن التاسع عشر وتظلم ملحقات ٤١٢ ۷۱۹ نظام الدین میان جماعته ۷۱۹ قصة طلبه من البطالوي أن يخبره بآية واحدة تثبت حياة المسيح النعمان بن بشير ٤٦٢،٤٦١ ۵۱۰، ۲۸ موير السير وليام ٦٦٥،۱۹۳،۲۲۹،۰۰۷ نعمان اعترافه بعدم وجود التحريف في القرآن بن عبد السلام ٦٤٣ ۱۹۳،۲۲۶،۲۲۹،۰۰۸ ،۱۰۳ نمرود ٣٩٥ اعترافه ببداية مخالفة النبي بعد السنة الثالثة من النبوة نوح العلم ٧،١٨،٩٨،٤٦٨،٧٨،٥۸۱،۷۱۰ أرسل إلى بلد من بلاد العرب میشخ ٤٧٦ ناصر أحمد الخليفة الثالث للمسيح الموعود ال حفظ القرآن وهو ابن خمس عشرة سنة استهزاء قومه به تحديه قومه مخالفة ابنه ۷۱٥ ٤٣٠ ٦٠٢ نافع نبوخذ نصر سيطر على فلسطين ونفى اليهود أحرق بيت المقدس والكتب عثور العلماء على مكتبته الحجرية نابليون بونا بارت النجاشي ملك الحبشة له ٤٤ ٤٧٥ ٥٥٢، ٥٥٦ محاولة رؤسا مكة لإقناعه أن يعيد الصحابة يقينه بنصرة ة الله أيد العقائد الإسلامية بعد سماعها عقيدته عن عيسى العلي النسائي صاحب السنن نظام الدين الأولياء رحمه الله ٥٥٠ ٥٥٠ ۲۹۷ ٢٦٦،٣٥٤ ٦٠ ٢٨٥ ٥٥٣ دمار بابل كان دمار قومه المقارنة بين غلبته وغلبة النبي كان إبراهيم نبيا تابعا له نور جهان الملكة نور الدين الخليفة الأول للمسيح الموعود ال نكتة تفسيرية له معرفته الدقيقة ۷۰۸ ٢٢٤ ٣٤١ ٢٥٠٤٧٤٧ ۱،۳۳۲ ۳۳۲ قصته مناظرته مع البطالوي حول حياة المسيح ووفاته ٤٦٢ مثال ضربه لبيان حالة معارضي المسيح الموعود ٤٨٩ ٧٤٧،٣٦٦ ٣٦٦،٣٦٧ ٤٢٠ مثال ضربه لنهب الإنجليز على المستوى القومي قوله الجميل عن الأقوام المسيحية بيانه قصة رجل نولدکه (مستشرق ألماني) ٤٦٨،٥٠٩،٥٥٧،٦٣٢ (٦،١٩٣،٣٦۱،۱۰۳

Page 869

ملحقات VVE ٧٧٤ ٧٧٤ ورقة بن نوفل كان مسيحيًا عاما بالصحف المقدسة سماعه من النبي قصة نزول الوحي عليه كان يعتبر عيسى الله نبيا غير مشرع الوليد بن المغيرة دعاه النبي إلى الإسلام ۲۰۷،۱۹۷ ۱۹۷،۲۰۷ ٣٥٠ وود القس حواره مع المفسر "ويري" ريورند القس ٤٦٨٤٩٣، ٤٦٧، ٥٠٩،٦٣٢،٦٦٦ ۵۰۹ ٥٥٤ ۲۷۷ ٦٤٣ ۳۷۲ ١٢٦ ۵۸۹ ١٧٦ ٣٥ الرد على استدلاله الخاطئ ويدك من البانديت يار محمد المحامي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان رفضُ عبد الله بن الزبير بيعته وإعلانه خلافته يوسف العلية سمته النسوة ملكا استمر القحط في زمنه سبع سنين يوسف عربي إسباني قصته الشهيرة في أوروبا بالتزامه بالعهد يوسف النجار زوج مريم عليها السلام OV الجزء الثامن عدو الإسلام، ولكنه أكثر المستشرقين تحقيقا وبحثاً يبدو أنه تدبر في القرآن فعلا (المفس) اعترافه بعدم تحريف القرآن رفضه للقصة المنسوبة إلى بن أم مكتوم اعترافه بوجود ترتيب في القرآن النووي الإمام ۲۲۷ ۲۲۷ ۰۰۷، ۲۲۷ ۱۹۹ ۱۰۳،۱ ٢٨٦ ۷۸۹ ١٥٨ هاجر عليها السلام أخرج إبراهيمُ هاجر من البيت بحسب رغبة سارة حسب الكتاب المقدس ٢٦٦، ٣١١ ٤٥،٤٢ ٦٧٩ ٦٧٩ ۷۰۸ ٤٠٩ ۱۱۲،۳۸۳ ٦٤٣ هارون الطبية هتلر هلال الهجري هند بنت عتبة بن ربيعة زوجة أبي سفيان بايعت بعد الفتح تضحياتها للإسلام شجاعتها في حرب اليرموك هود القل، بعث إلى قوم عاد هيجل الفيلسوف الواحدي واصل بن سائب

Page 870

(٣) فهرس الأعلام أماكن

Page 871

الجزء الثامن آسیا غلبة المسلمين فيها خداع الآسيويين في التجارة الفردية الحبشة هجرة المسلمين إليها الأحقاف ٤٧ ۳۷۳ ٦٧٢،٤٧٥ ٦٨٢،٦٧٢ ٦١ ملحقات أمريكا ٣٣٦،٢٩٩،٢۸۱ ،۲۷۹،۲۷٨،٢٦٩،٢٦ ۲۷۹ إبادة الأقوام الغربية سكانها المحليين حماس أبنائها للتضحية من أجل الأمة خططها للتطور في علم الهيئة توسيعها الأنهار طمعها في سلب جميع ثروات العالم ٧٤٤ ۲۹۹ ٣٣٦ ۱۸۰ ٣٦٥ مناطق عاد إرم وموقعها في بلاد العرب إسبانيا ۷۰۷ ٦١٥ ،۳۹۳ ،٤٦ اتفاقية ملك إسباني مسلم مع البابا ضد حكومة بغداد اتفاقية بغداد مع قيصر الروم ضد الحكومة الإسبانية ٦٨٣ ٦٨٣ انحياز أهلها للمسيحية مع إلحادهم إنجلترا ۶۳۸ ،۳۳۷،٢٦١، ٣٣٦ ٧٤٤ ٧٤٥ 1^.٢٢٥ ٥٦١ ،۳۳۱ حماس أبنائها للتضحية من أجل الأمة بذل أصحاب الملايين فيها جهدهم الشعبهم طمعها في سلب جميع ثروات العالم إفتاء قساوستها ضد تعاليم الإنجيل المسلمة حكمها المسلمون مدة طويلة قصة التزام إسباني عربي بالعهد أستراليا إبادة الشعوب الغربية للأستراليين القدماء إفريقيا انتشار الإسلام فيها على يد الصحابة فتح المسلمين لها سيطرة الشعوب الغربية عليها ١٧٦ ٣٣٦ ۲۷۹ ٧٠٦،٤٣١ ٥٦٣ ٤٧ ٤٣٢ طرد الإنجليز أبناءها من جميع ميادين العمل ۲۷۹،۲۷۸ تعرُّف أبنائها على الحضارة الجديدة إنجازات الجماعة الأحمدية فيها أفغانستان وصول الصحابة إليها لنشر الإسلام ألمانيا تضحية أبنائها على مستوى الأمة نفى علماء الدين منها ۲۷۸ ٦٩٩ ٧٠١،٣٦٧ ۲۲۸ ٣٣٦ ٧٤٤ ۲۷۳ سفر المفسر إليها أنطاكيا (الشام) نشر الصحابة الإسلام فيها أودهـ، (ولاية هندية) قصة سيطرة الإنجليز عليها أوروبا ٦١٥ ٥٦٤ ٣٦٧، ٧٤٧ ۲۸۰ ،۲۶۸ ،۲۰ تأثر كاتب أوروبي بحالة الصحابة البدائية اعتراف المستشرقين بوجود الترتيب في القرآن شهرة قصة وفاء إسباني عربي في أوروبا تطور أوروبا المتوحشة في آخر الزمان تطورها نتيجة لدعاء العلمية عیسی تغيرات جذرية فيها نتيجة التطور توسيع أهلها الأنهار المواصلات البرية والبحرية فيها دوافع منع الحمل عند أهلها ملحدوها أيضا يعظمون المسيح العلي تأثير نظرية دارون في قلوب أهلها ٦٢ ١٧٦ ۲۷۸ ٤١٤،٤٠٦ ٣٣٤ ۲۸۰ ۲۹۵ ۳۳۱ ۳۰۰

Page 872

ملحقات ۲۸۰ ۲۸۰ ٣٦٧ ۱۸۱ ۱۳۰ 154 ٦٢ ٣٤١ ٤٦ ٦٢ الجزء الثامن تأثير الفلسفة الأوروبية في هذا الزمن اعتبر المسلمون أوروبا زعيمة لهم ۲۸۱ ٣٠٥ أخبرني الله أن هلاك أوروبا قريب (المفسر) ٣٥٧ وعلم لمحة عن أخلاق الأمم الأوروبية بحوث المستشرقين عن القرآن ظنية تعمد أهل أوروبا مسخ تاريخ المسلمين ٤٣٠ ٤٦٩ ۲۷۲،۲۷۱،۲٦٨،٢٦٧ غصب أهلها حقوق الشعوب الأخرى سياسة أهلها وسلبهم للآخرين بالتجارة تشابه الأقوام الأوروبية بكفار مكة يوم حساب الأقوام الغربية الظالمة تحالف أوروبا لن يجديها شئيا ٣٦٦ ٣٧٤ ٤٠١ ۳۷۷ ٣٦٥،٣٥٩ اعترف الفلاسفة بفقدان الطمأنينة من قلوب أهلها البحر الأحمر البحر المتوسط بخاری بدر أذن للصحابة بالقتال في بدر أول مرة وصول النبي والصحابة إليها برلين البصرة بغداد اتفاقية حاكم بغداد المسلم مع قيصر ضد إسبانيا المسلمة ٦٨٣ بلجيكا ٥٥ البنجاب يا" مَدَني" في الشعر البنجابي يعني النبي ۰۹۰ ،۳۲۰،۲۸۱ ،۲۷۷ ،۱۹٦ ۷۸۱ البنغال ۷۰۰ ،۷۰۱ ۰۹۰ ۲۸۰ ۵۹۹،۰۹۷ ۷۰۱ ٦٢ ٥٥٢ ٢٨٢،٢٧٤ وقائع القحط الذي ضربها عام ١٩٤٢م بنما البهجة قرية قريبة من عكا يسكنها بهائيون بوبال (الهند) بورما بيترسبورغ (روسيا) بيت فغور (موآب) بيشاور ٣٥٦ ۲۷۸ أوغندا إيران (راجع فارس أيضًا) ازدراء كسرى بالعرب إهانة كسرى الصحابة تصرّف الصحابة الوجيه في بلاط كسرى وصول الصحابة إليها لنشر الإسلام ۷۸۸ ٤٢٠ ٦٢٢ ٢٢٨، ٥٦٤ سبب معارضة الإيرانيين للبابية مع عدم معارضتهم ۷۷۲ ۲۷۳ ٥٥٠ ٤٧٦ V.A ۲۱۷۷ البهائية إيطاليا نفيها علماء الدين بابل نفي نبوخذ نصر اليهود إليها تعذيب ملكها لليهود الموحدين بالنار دمار بابل كان دمار قوم نوح بتهانكوت (الهند)

Page 873

ملحقات ٦٨١ ۰۹ ۰۹ هجرة الصحابة إليها مرتين هجروا إليها العام الخامس من البعثة محاولة كفار مكة إرجاعهم منها الحجاز الحجر، هي ۷۰۷ عاصمة قوم ثمود وموقعها ۷۰۷، ۷۱۲ منع النبي الصحابة من المكوث فيها الحديبية ۷۱۲ ٣٦ حالة ممثل الكفار عند صلح الحديبية ٥٩٦،٥٩٥ حراء (غار) نزول أول وحي على النبي فيه VVE ٧٠٦ ۵۹۸ ٦١٦ ۵۲۷ ۲۷۷،۲۷۰ ٦٣٧ ٢٦١ ٣٣٦ حضرموت حلب الخرطوم خیبر انتخاب النبي عليا لفتحها دلهوزي (الهند) إلقاء المفسر دروس القرآن فيها دهلي تدمير الإنجليز المقابر لتوسيعها دیهه صابو (السند) قرية في السند فيها قبر صحابي للرسول ﷺ روسيا حماس أبنائها للتضحية من أجل الأمة حكمها علماني ۲۷۳،۳۳۷ ٧٤٤ ۲۷۸ ۲۷۱ ۳۳۰،۳۱۲،۲۹۵ ٤٢٣ ٦٣ ۷۱۲ ،۷۰۷ ٣٦٧ ٣٦٧ ۲۷۱ ۲۱۷۳ V.O الجزء الثامن تبوك تركستان (الصينية) تركيا قرار حكومتها بأداء الصلاة وتلاوة القرآن بالتركية نفي حكومتها العلماء منها ۷۲۱ ٣٥٧ ٦٧٣ ٦٩٢،٦٧٤ ٦٩٢ ٢٦١ ٤٦٢ ٤٤٥ ۲۷۵ ۵۹۹ ۲۲۸ ٣٦٧ تيكسلا العثور على آثار الملك "أشوكا" فيها ثور (غار) اختفاء النبي فيه عند الهجرة حدوث معجزة فيه طمأنة النبي أبا بكر فيه اليوم يوجد "غار ثور" المعنوي في الهند جارسده جامون جاوا جدة حادث وقع مع المفسر في جدة الجزائر وصول الصحابة إليها لنشر الإسلام جورجيا جيكب آباد، آثار قديمة فيها الحبشة ٣٣٠،٦١،٥٨، ٧١٦ كان أبرهه حاكمًا على اليمن من قبل ملك الحبشة ۷۷۰ نفيها لمن كان يفضّل الدين على السياسة روما إصرار ملكها على تغيير عقائد المسيحية ۵۹ ۷۱۸ ،۶۷۲ ،١٤٤ جعلها الله ل دار الأمن للمسلمين هجرة الصحابة إليها

Page 874

ملحقات ۷۱٥ ٥٦٤ بعث فيه نوح العلمية انتشر الإسلام فيه على يد الصحابة العربية الجزيرة ،٤٠،٣٩، ٧٤،۳۷ ،۳۳ ،۲۲ ،۲۰،۱۰ ،۹ ۳۸۹ ،۳۹،۳۸۲ ،۳۸۱ ،۲۸٢٥٠٠٨٤ ، ٤،٢٥٥ ٦٧٧ ٣٦٨ وحي النبي إشعياء عن أهلها تحقق نبأ جلب أنواع الثمار إليها نفوذ الإنجليز فيها عما (فلسطين) مركز البهائيين وقبر البهاء فيها V..6799 فاران ٥٨٢ فرنسا ۲۹۶ ،۲۸۱ ،۰۰ تزاوج أهلها مع الأقوام الأخرى ۲۸۱ عواقب منع الحمل الوخيمة في فرنسا تجارب طبيب فرنسي عن الزائدة الدودية ٢٩٦ ۵۳۲ فلسطين انتشار الإسلام فيها على يد الصحابة قادیان كشف للمسيح الموعود اللة عن ازدهارها نبأ هجرة الناس إليها وتحققه معظم سكانها هاجروا إليها ٦٩٩ ۶۹۹ ۷۰۱ ۷۰۱ ٧٤٢ ٧٤٢ ٥٩٦ ٦٢٣ ٦٨٣ ٣٦٧ ٦٤ ٧٥٨ ٤٨٦ ۰۹۰ ۷۰۱ V.1 (09.٥٦٤ ٤٤٥ ۲۸۰ ٥٨٢ ١٥٤ ۳۱۲ ٥٦٤ الجزء الثامن زمزم سرجودها سرحد سري لنكا سعير السند آثار قديمة لمدينة موهنجو دهرو مجيء الصحابة إليها مجيء المفسر ه إلى السند سومطرة السويس (القناة) جمع بين البحر الأحمر والمتوسط سيناء الشام عودة قافلة تجارية لقريش منها رسالة النبي إلى قيصر وهو في الشام انتشار الإسلام فيها على يد الصحابة شاه دي دهيري شمله (الهند) لقاء زعماء الهند الكبار ٨٠٤،٥٠٣ ،۲۷۰ ٨٠٥٠٨٠٤ صنعاء الصين ۷۰۷ ٤٤٥،٣٧٦، ٦١٥، ٧٠٦ ،۳۷۸،۳۹۷ وصول الصحابة إليها لنشر الإسلام ٢٢٨، ٦١٥، ٥٦٤ الطائف ٧٦٤ طوى، واد نزل فيه الوحي على موسى ال ١٥٦ عدن العراق ۷۰۷ V.V هي مركز علمي وروحاني نظام العناية بالمساكين والفقراء فيها إنشاء دار لليتامى فيها دراسة ابني البطالوي فيها على نفقات الجماعة القدس دعاء مواطنيها المسيحيين لعودة المسلمين القسطنطينية القفقاس

Page 875

الجزء الثامن کشمیر الكعبة المشرفة هجوم أبرهة عليها کولکتا كينيا لاهور لدهيانه ۲۷۱،۱۹۶ VVV ٧٤٧ ۲۷۸ ٤۲۰،۲۸۲ ،۲۷۲ ،۲۶ 1.0 ٧٤٨ ٧٤٨ لكهناو، قصة استيلاء الإنجليز عليها غدر أمرائها عند هجوم الإنجليز لندن لويل بور مالابار (الهند) المدينة المنورة ٦٣ ٤٨٦ ۷۰۱ ۱۳۲،۱۲۷،۱٢٣،٦٣ ٣٦١،٢٠٤،۱۹۹،۱۹۸،۱۰۳،۱۳ صارت دار أمن للمسلمين هي تنوب عن مكة اعتبرها الله وعلى حرما هي مركز الإسلام هي مركز العالم بيعة بعض أهلها النبي عند الحج دعا مسلموها النبي ﷺ للهجرة إليها هجرة المسلمين إليها معاهدة النبي مع أهلها سعادة أهلها عند هجرة النبي قضاء الإسلام على تعصب أهلها القبلي مصالحة الأوس والخزرج فيها قصة وصول خبر شهادة النبي إليها نبأ نشوب حروب المسلمين بعيدا عنها صحابة أوائل قاموا بتعليم القرآن فيها ۷۹۱،۷۹۰ ۷۹۰ ٦٢ ٦١ ٦٦٨،٦١ ٦٦٨،٦١ ١٤٤، ٦٧١ ٦١ 0.9 ۱۲۳ ۱۲۳ ٦٦٢ ۱۳۳ ۵۰۹ ملحقات أمر النبي ابن أم مكتوم عليها مرتين ۱۹۸ المروة تذكار للآيات العظيمة ٧٥٨ مري ۲۷۱ مصر نشوء هيليوغرافية والآثار القديمة فيها أهرامها ٣٦٧،٣٤٦،٣٣٧،٣٣٦،٣٣٠ ٣٣٦ ٧١٦ ۳۳۷ استخراج الجثث المحنطة هنا انتشار الإسلام فيها على يد الصحابة ٥٦٤ رؤيا المسيح الموعود اللة أنه على ضفة النيل ۷۱۹ مكة المكرمة ۱۲۳،۸۷،۸۰ ٦٣،٥۷،۳۹،۳۰،۲۷،۷ ،١٨١،١٥٤،١٤٦،١٤١،۱۳۱،۱۲، ،٢٤٤،٢٢ ٠،٢١٦،٢ ۷،۲۰۳،۱۹۷،۱۹۰،۱۸۹ ٣٢٣، ٣٦١، ٤١٥،٤٠١،٣٩٤ ،۳۱۳ ،۲۷٢٥٢، ٤ خصوصياتها هي مقام تجليات الله العظيمة تميّزها بآيات إبراهيمية قبل بعثة النبي علاقة إبراهيم وإسماعيل بها هي آية على صدق النبي تقدم آيتين عظيمتين على صدق الإسلام خدمة فقرائها وأغنيائها للإسلام جر ترائم أهلها كبرياء أهلها ٧٦٢،٧٦١ ٧٥٩،٧٥٨ ٧٥٩ ۷۸۰،۷۷۹ ٧٥٩ ٧٦١ ۲۳۳ ۷۱۸ ٦٢٥ خرق كفارها تقاليدها المستمرة منذ ٢٥٠٠ عام باضطهاد المسلمين ٧٦٤ محاصرة كفارها بيت النبي اعتراف أهلها بكون النبي زعيما ناجحا محاولة أهلها ليتنازل النبي عن دعوته فشلُ كفار مكة في الحبشة فشل هجوم أبرهة على مكة ١٤١ ۳۱۳ ٦٠ ۷۷۷ ،۷۷۰ ،۷۵۸

Page 876

الجزء الثامن لم يدخلها فاتحا خلال ٢٥٠٠ عام إلا النبي كيفية دخوله وأصحابه فيها عند الفتح وصيته للصحابة بالتواضع عند فتحها الحالة النفسية لكفار مكة عند الفتح أمر الكفار بالخروج منها قصة بيعة هند بعد فتحها يوم فتحها كان يوم الفصل يوم فتحها كان يومًا موعودًا يوم يقوم الروح والملائكة إشارة إلى فتحها الطامة الكبرى هي فتح مكة ۷۷۷ ۷۷۸ 110 ۱۸۲ ۳۷ ٦٧٩ ٣٥ ٤٧٢ A.۱۸۱ ٢٥٢ ٦٦ حكمها المسلمون فترة طويلة احتلال الأقوام الغربية لها حكمها الإنجليز ثلاثة قرون تصرف الإنجليز حين طالب أهلها الاستقلال فشل زعمائها السياسيين في خلق جو الوطنية قصة غطرسة زعيم هندي نقصان العاطفة القومية عند أهل الهند شدة القحط فيها عام ١٩٤٢م مثل من لغتها الأردية مثل هندي شهير انتشار الإسلام فيها على يد الصحابة من معاني يوم القيامة فتح مكة عادة أهلها تركُ أبنائهم عند البدويات للرضاعة ٥٢٤ وجود مئات الآلاف من حفظة القرآن فيها قصة عمر انتشار وباء الهيضة فيها عند نزوله في مكة زمن خلافته ٨٤، ١٨٢ منصوري (الهند) ۵۹۹ ۲۷۱ ۵۹۹ موآب ٥٥٢ مومباي ٦١٢ مقابر صلحاء المسلمين في الهند حالة الهند قبل بعثة المسيح الموعود الية مونجو دهارو (السند) آثار حضارة قديمة ٧٠٥ ميديا میسور (الهند) تنصر ابن للبطالوي وتجارته فيها نجد النمسا نوربور (الهند) النيل رؤيا المسيح الموعود اللي أنه على ضفة النيل وادي القرى موطن قوم ثمود بين المدينة وتبوك ٥٥٢ ٥٩٦ ٥٩٦ ۷۰۷ ۲۸۰ ۲۷۷ ۷۱۹ ۷۱۲،۷۰۷ الهند ٢٢، ۳٦، ۱٤۰،۱۲۷ ، 157، 369، 431 ملحقات ٣٦ ٤٣١ ٧٠٥ ٣٦٩ ۱۲۷ ٨٠٤ ٧٤٤ ۵۹۰ ١٥٧ ١٤٠ ٥٦٤ ٥٦١ ٥٥٣ ۲۲ ۶۹۲ غار ثور الثاني في الهند في هذا العصر أوى رسول الله إلى حصن الهند (وحي للمسيح الموعود الكلية ٦٩٢ اليابان ٤٤٥ اليرموك شجاعة المسلمات وجرأتهن في حرب اليرموك л اليمن ادعاء أهله التفوق السياسي بين العرب حكم عاد إرم عليها قبل الميلاد كان أبرهة حاكمًا عليه من قبل ملك الحبشة ۱۲۷ ،۱۲۳ ۱۲۷ ٧٠٦ ۷۷۰ اليونان ذكرُ عاد إرم لدى الجغرافيين اليونانيين ٧٠٦

Page 877

(٤) المراجع والمصادر

Page 878

الجزء الثامن 79 ملحقات القرآن الكريم كتب التفسير * * * المراجع العربية الإمام الرّاغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن الإمام فخر الدين الرازي، التفسير الكبير أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي، تفسير فتح البيان أبو الفضل بن حسين بن الفضل الطبرسي الطوسي، مجمع البيان في تفسير القرآن الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم * * * * * * الإمام جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن الإمام جلال الدين السيوطي ، الدر المنثور في التفسير المأثور العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي، روح المعاني العلامة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان العلامة أبو حيان محمد بن يوسف البحر المحيط محمود بن عمر الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، إملاء ما من به الرّحمن عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن الحديث الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري، صحيح مسلم

Page 879

الجزء الثامن الإمام الحافظ محمد بن عيسى الترمذي، جامع الترمذي الإمام أبو داود سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، سنن النسائي الإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل الإمام علي بن عمر الدار قطني، سنن الدارقطني عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، سنن الدارمي الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين * الحافظ أبو قاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير الشيخ ولي الدين أبو عبد الله محمد بن عبد ملحقات الله الخطيب، مشكاة المصابيح الدين بن يحيى بن شرف النووي، المنهاج بشرح صحيح مسلم *الإمام بن الحجاج الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، شعب الإيمان الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، السنن الكبرى الإمام أحمد بن داؤد أبو حنيفة الدينوري، الأخبار الطوال، المجلد الأول، الطبعة الأولى في مدينة المحروسة ١٨٨٨م * العلامة بدر الدين أبو محمد بن أحمد العيني، العيني، عمدة القاري محمد عبد الرحمن السخاوي، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، دار الكتاب العربي * أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي أصول من الكافي، دار الكتب الإسلامية ۱۳۸۸ هـ

Page 880

الجزء الثامن ۷۱ ملحقات الإمام محمد طاهر الكجراتي، مجمع بحار الأنوار، دار الإيمان، المدينة المنورة العلامة محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، دار إحياء التراث العربي محمد سعيد ،مفتي تشييد المباني في تخريج الأحاديث مكتوبات الإمام الرباني، مطبعة فيض الكريم حيدر آباد دکن السيرة والتاريخ ابن هشام، السيرة النبوية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ۱۳۵ أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت * أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، مناقب أمير المؤمنين عمر بـــــن الخطاب، دار الكتاب العربي أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي، فتوح الشام، مطبعة المنشي نولکشور، لكهناؤ عمر يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي، الاستيعاب في معرفة أبو الأصحاب، دار الكتب العلمية، بيروت * أحمد بيروت * بن زيني دحلان مفتي مكة المكرمة، السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي، الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الروضُ الأُنفُ، دار الكتب العلمية، بيروت الإمام جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، أصح المطابع، كارخانه تجارت کتب آرام باغ كراتشي باكستان

Page 881

الجزء الثامن ۷۲ ملحقات الشيخ حسين بن محمد بن الحسن الديار بكري، تاريخ الخميس، مؤسسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت العلامة أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير، أُسد الغابة في معرفــــة الصحابة، دار الفكر العلامة أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار الكتاب العربي بيروت، طبعة ١٩٩٧م * * العلامة القاضي أبو البقاء كليات أبي البقاء، دار الإشاعة العربية، كوئتة، باكستان العلامة علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي السيرة الحلبية، المكتبة الإسلامية، بيروت الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، طبعة العيد المئوي ۱۸۸۳ - ۱۹۸۳ شهاب الدين أحمد بن علي المعروف ابن حجر، الإصابة في تمييز الصحابة، دار الكتب العلمية، بيروت * محمد بن سعد، الطبقات الكبری دار ،صادر بیروم أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، مكتبة مصطفى البابي الحلبي و أولاده، مصر * الإمام شهاب الدين ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، دار الكتاب العربي، بيروت * العلامة محمد بن يحيى التادفي قلائد الجواهر الشركة المساهمة المصرية، مصر * كتاب العرب قبل الإسلام جرجي زيدان مطبعة الهلال بالفجالة مصر، ۱۹۰۸م * محمود شكوري، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتب العلمية بيروت

Page 882

الجزء الثامن ۷۳ ملحقات صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، دار المعرفة، بيروت اللغة والأدب * * * جمال الدين ابن هشام الأنصاري مغني اللبيب، دار الفكر، بيروت محمود بن عمر الزمخشري أساس البلاغة، الطبعة الأولى، المطبعة الوهبية ۱۸۸۳م العلامة ابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري، لسان العرب محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس أحمد بن محمد بن علي المقري، المصباح المنير * * * سعيد الخوري الشرتوني اللبناني، أقرب الموارد المنجد في اللغة والأعلام الشيخ مصطفى الغلاييني جامع الدروس العربية، المطبعة العصرية للطباعة كتب عربية للمسيح الموعود والإمام المهدي ال نور الحق الخطبة الإلهامية كتب متفرقة *العلامة ابن أبي العز الحنفي شرح العقيدة الطحاوية، قديمي كتب خانه مقابل آرام باغ كراتشي، باكستان كتاب "الأقدس"، المرزا حسين علي المعروف بـ"بهاء الله" مع مقدمة للناش ۱۹۳۱ خدوري إلياس عناية مطبعة الآداب بغداد ١٣٤٩ هـ ١٩٣١م كتاب "الأقدس"، مركز البهائية كندا ١٩٩٢ الطبعة الأولى

Page 883

الجزء الثامن νε المراجع الانجليزية ملحقات ☐ ☐ Black's Bible Dictionary, Manchester University Press ❖ Encyclopaedia Britannica Vol: XV.Cambridge University Press, 11th Edition, 1911 ❖ Encyclopaedia Britannica (The New) Vol:8 Publisher, William Benton, 1943-1973, 15th Edition J.M.Rodwell, M.A.The Koran, Temple Press Letchworth for J.M.Dent & Sons.Ltd.Aldine House Bedford St.London East.Reprinted I☐ 1948 Lexicon Universal Encyclopedia.Publications, Inc.New York, N.Y.Mary Boyce, Textual Sources of the Study of Zoroastrianism, Manchester University Press Patrick Moor, The Guinness book of Astronomy.Guinness Publishing (5th Edition) ❖ MUIR, W., 1878.The life of Mahomet, Smith, Elder, & Co.Waterloo " Place London, 1878 ❖ Shoghi Effendi, God passes.Bahai Publishing Trust 1957 ❖ Stanlay L Robbin, Pathology Basis of Disease T.R.Sethna, The Teachings of Zarathushtra, 1966 The Encyclopaedia of Islam (New Edition) Volume 1, Leiden, E.J.Brill, 1979 The Holy Bible, (Edited by Rev.C.I.Scofield, D.D.) Humphrey Milford Oxford University Press, London

Page 884

ملحقات Vo الجزء الثامن William Muir, The Coran, its composition and teaching, Society for Promoting Christian Knowledge, K.C.S.I.LTD.London William, Pathology Structure and Function in Diseased Body, CC.M.D.1970 ✰❖ W.J.Hamilton, The Text Book of Human Anatomy, 2nd Edition, English Book Language Society W.Smith, Dr.Dictionary of the Bible, Vol: 11, Published by Hurl and Houghton, New York, 1874 ✰ WHERRY, E.M., 1896.A comprehensive commentary on the Quran (comprising Sale's translation and preliminary discourse by EM Wherry).London: Trubner & Co.Ltd.❖ Http://csmres.jmu.edu/geollab/Fichter/P latetec/heathistory.html.under topic: the Heat history of the earth www.biblemagazine.com/magazine/vol.9/issue-3/assyria- babylon.html www.wikipedia.org/wikw/nebuchadrezzar ✰ www.quran.org.uk/ied.quran-manuscrip.htm ❖www.earth-history.com/ancieent/tect/several.....

Page 885

الجزء الثامن ٧٦ ملحقات المراجع الأردية والفارسية کتب حضرت مرزا غلام احمد قادیانی علیہ السلام ، (طبعه روحانی خزائن ) پبلشر نظارت اشاعت ربوہ، ضیاء الاسلام پریس ربوہ ، پاکستان براہین احمدیہ ( ہر چہار حصص ) براہین احمدیہ حصہ پنجم ازالہ اوہام آئینہ کمالات اسلام سرمه چشم آریہ انجام آتھم تذكرة الشهادتين حقیقة الوحی تریاق القلوب الوصیت ايام الصلح فتح اسلام ضیاء الحق

Page 886

الجزء الثامن VV ملحقات قادیان کے آریہ اور ہم تذکرہ ( مجموعہ الہامات کشوف ورؤیا حضرت مرزا غلام احمد قادیانی) الشركة الاسلامیۃ لمیٹڈ ربوہ پاکستان ملفوظات جلد سوم ، چهارم ، پنجم دیگر کتب و اخبارات سلسله فصل الخطاب ، حضرت مولانا حکیم نورالدین خلیفہ المسح الا ول ، الشركة الاسلامیہ لمیٹیڈر بوہ احمدیت یعنی حقیقی اسلام ، (انوار العلوم جلد ۸ ) حضرت مرزا بشیر الدین محمود احمد خلیفۃ المسیح الثانی حیات احمد ، یعقوب علی عرفانی صاحب ، عهد جدید اول به سلسله قدیم ، جلد سوم ، اسلامی پریس حیدر آباد دکن 1952ء تاریخ احمدیت لا ہور.الحکم قادیان ، ۱۰ جنوری ۱۹۰۶ء - الحکم قادیان ،۲۴ - اگست ۱۹۰۶ء بدر قادیان ، ۱۷ اکتوبر ۱۹۰۷ء - بدر قادیان ،۲۱.اگست ۱۹۰۶ء

Page 887

الجزء الثامن دیگر کتب ۷۸ ملحقات تذكرة الاولیاء، شیخ ابو حامد فرید الدین عطار نیشاپوری ، ناشر انتشارات کنچینه ناصر خسرو مثنوی مولوی معنوی ، مولانا جلال الدین رومی ، مطبع منشی نول کشور لکھنو دیوان ذوق، شیخ محمد ابراہیم ذوق ، آ تمارام اینڈ سنز تاجران کتب انارکلی لاہور - قاموس قرآن ، سید علی اکبر قریشی ، جلد پنجم ، دار الکتب الاسلامیہ، طهران گلستان سعدی ، شیخ سعدی شیرازی، ناشر ملک سراج الدین اینڈ سنز تاجران کتب کشمیری بازار لاہور - تاریخ ہندوستان ، مولوی ذکاء اللہ، مطبع انسٹی ٹیوٹ علی گڑھ 1917ء - قاموس الکتاب - مسیحی اشاعت خانه ۳۶ فیروز پور روڈ ، مکتبہ ء جدید پر لیں.لاہور.2005 ء دعائے عام، شائع کردہ کرسچن نالج سوسائٹی انار کلی لاہور، بار نم ، 1947 : بیان القرآن ، مولوی محمد علی صاحب ، جلد سوم حیات طیبه شیخ عبد القادر ، سابق سوداگر مل

Page 888

الجزء الثامن ۷۹ ملحقات.قرآن مجید ، پنجابی اُردو لہر لاہور پاکستان ، ۱۹۸۶ء تاریخ ارض القرآن جلد اول ، سید سلیمان ندوی ، مطبع معارف اعظم طبع سوم ، ۱۹۴۴ء - اردو دائرہ معارف اسلامیہ جلد ۱۲ ، طبع اول ، دانش گاہ پنجاب لا ہور ، ١٩٧٣ء دیوانِ غالب، مرزا اسد اللہ خان غالب ، آئینہ ادب چوک مینار ، انارکلی لا ہور ، پاکستان الذکر الحکیم ، ڈاکٹر محمد عبد الحکیم خان مطبع تحریری تر اوڑی ضلع کرنال ، ہندوستان - تحفہ قادیانیت ، محمد یوسف لدھیانوی.ہفت روزه پیغام صلح ، ۲۹ اگست ۱۹۷۳ء ادم ستیارتھ پرکاش ، ( مستند اردو ترجمہ ) آریہ پرا دیشک پرتی ندھی، سمجھا پنجاب سندھ بلوچستان لاہور تاریخ بائبل، ولیم جی بلیکمی صاحب ڈی ڈی ، پنجاب ریلیجس بک سوسائٹی ، انار کلی لاہور ، ۱۹۵۵ء کتاب مقدس ، ہندوستان کی بائبل سوسائٹی ، مہاتما گاندھی روڈ.بنگلور Revised Version 93 Printed in Great Britain by Lowe) and Brydone(printers) Ltd.London

Page 889

الجزء الثامن ملحقات.انجیل مقدس، نارتھ انڈیا بائبل سوسائٹی ، آرفن سکول پریس، زیر اہتمام ڈاکٹر میتھر صاحب، بمقام مرزا پور انڈیا ۱۸۷۰ء انجیل مقدس، برٹش اینڈ فارن بائبل سوسائٹی ،لندن، ۱۸۸۷ء کتاب مقدس ، پاکستان بائبل سوسائٹی انارکلی لاہور - اردو جامع انسائیکلو پیڈیا ، مدیر اعلی مولانا حامد علی خان اشاعۃ السنة النبوية ، ابوسعید محمد حسین بٹالوی ، اسلامیہ پر لیس لاہور تاریخ فرشتہ، ترجمہ عبدالحئی خواجہ ایم اے ، ناشر شیخ غلام علی اینڈ سنز لاہور کلیات میر میر تقی میر، مطبع منشی نول کشور لکھنو ، ۱۹۴۱ء بہاء اللہ و عصر جدید ، جے.ای.ایسلمنٹ.ترجمہ عباس علی بٹ ، پبلشر محفل روحانی ملتی بهائیان ہند و پاکستان و بر ما ، طبع سوم، مشہور آفسٹ لیتھو پر لیس کراچی ، ۱۹۵۱ء - کتاب اقدس ، بہائی پبلشنگ ٹرسٹ پاکستان ، پہلا ایڈیشن (۱۹۹۷ء (Revised النور الابهى فى مفاوضات عبدالبهاء ، مرتبه کلیفورڈ بارنی امریکانیه ترجمہ عباس علی بٹ ، ناشر بہائی پبلشنگ ٹرسٹ آف پاکستان ، بہائی ہال بہائی اسٹریٹ کراچی نمبر ۵ ، ۱۹۷۷ء

Page 889

← Previous BookNext Book →