Language: ARABIC
Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)
التفسير الكبير مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام المجلد السادس سور الحج والمؤمنون والنور والفرقان الشركة الإسلامية المحدودة
- المجلد السادس اسم الكتاب: التفسير الكبير الطبعة الأولى: ١٤٢٧ هـ / ٢٠٠٦م AT-TAFSIR AL-KABĪR "Commentary of The Holy Qur'an " By: Hadrat Mirzā Bashīr -ud- Dīn Maḥmūd Aḥmad, Khalifatul Masīḥ II Volume: 6 Surah Al-Hajj to Al-Furqān (Arabic Translation) Translated by: Abdul Momin Tahir O Islam International Publications Ltd.First Published in UK in 2006 by: Al Shirkatul Islamiyyah Islamabad Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ United Kingdom Printed and bound in Great Britain by: William Clowes Ltd, Beccles, Suffolk ISBN: 185372 775 X
الجزء السادس أ كلمة الناشر كلمة الناشر الحمد لله الذي وفقنا بعونه لإخراج المجلد السادس من هذا التفسير القيم بلغــــة حبيبه محمد المصطفى.ولقد كان شرف ترجمته إلى العربية من نصيب الأستاذ عبد المؤمن طاهر، حيث راجعه الأستاذان الفاضلان المهندس هاني طاهر والدكتور محمد حاتم حلمي.تقبل الله سعيهم، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهم على إخراج الأجزاء المتبقية من هذا التفسير العظيم.آمين.ثمة أمور عن هذه الترجمة ينبغي توضيحها: أولاً : لم تذكر في الأصل (الأردو) معظم الاقتباسات من الحديث النبوي الشريف والسيرة وغيرهما من المراجع بنصوصها، وإنما ذكرها المفسر له بألفاظه وأسلوبه..غير أننا نقلناها عند الترجمة بنصها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، اللهم إلا في بعض الأماكن التي تعذر علينا فيها الأمر، فترجمنا المضمون مع الإشارة إلى النص الأصلي أو مرجعه في الهامش.ثانيا: هناك مواضع في الأصل أشار فيها حضرة المفسر له إلى بعض الأمـــــور إشارة عابرة قد لا تكون كافية لبعض القراء، فقام المترجم بتوضيحها في الهامش صرفًا للالتباس.ثالثا: إن ترقيم الآيات في التفسير هو باعتبار البسملة أول آية من كل سورة.
الجزء السادس كلمة الناشر رابعًا: لقد قام المفسر بهذا التفسير قبل حوالي نصف قرن من الزمان.فلو أخــــذ القارئ الكريم هذا الأمر بعين الاعتبار لسهل عليه فهم كثير من الأمـــور والأحداث المذكورة فيه.خامسًا: يجب التنويه إلى أن هذا المجلد قد تُرجم وطبع في أقل من سنة، فإذا وجد القراء الكرام أية أخطاء مطبعية وغيرها فليخبرونا بها مشكورين حتى يتم تداركها في الطبعة القادمة إن شاء الله تعالى.وأخيرًا فإننا نتقدم بخالص الشكر والدعاء لكل من ساهم في إخراج هــذا الكتاب، ولا سيما الأستاذ سيد مير محمود أحمد ناصر، عميد الجامعة الإسلامية الأحمدية معهد تأهيل الدعاة بربوة باكستان لتفضله بالإشراف على مجموعات الطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهذا التفسير.وكذلك نخص بالشكر والدعاء الإخوة السادة الأفاضل: المهندس تميم أبو دقـة، عبد الله أسعد عوده، فضل يونس عوده الحاج محمود أحمد عوده، عكرمة حسن نجمي، محمد شريف عوده، شمس الدين حسام النقيب الحافظ عبد الحي بهتي، مهر، مرزا خليل بيك، عبد المجيد عامر، ومحمد طاهر نديم، لمساعدتهم المشكورة في شتى المجالات العلمية والفنية.فجزاهم الله جميعا أحسن الجزاء.حفیظ الله كما ندعو الله العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببًا لشفاء غليل الكثيرين من عباده علميًا وعمليا وروحيا ووسيلة لفهم كلامه.آمين الناشر جمادى الثانية ١٤٢٧ هـ تموز/يوليو ٢٠٠٦ م
الجزء السادس سورة الحج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحج مدنية، وهي مع البسملة تسع وسبعون آية وعشرة ركوعات هذه السورة مكية ومدنية عند علماء تاريخ القرآن الكريم..أي أن بعض آياتها نزلت بمكة وبعضها بالمدينة فالآيات رقم ۲۰ إلى ٢٢ مدنية عند ابن عباس ومجاهد كما أن الآية رقم ۲۳ أيضًا مدنية عند ابن عباس..أي أن أربعًا من آياتها مدنية عنده.بينما يرى الضحاك أن هذه السورة مدنية كلها.(تفسير القرطبي) الترتيب والربط من حيث الترتيب القريب، تكمن صلة سورة الحج بسورة الأنبياء في أن الموضوع الأساس الذي تعالجه سورة الأنبياء هو أن العذاب لم يزل ينزل بالدنيا جرّاء عصيان أهلها، وهذا يدل على أن بإمكان الإنسان أن ينال النجاة باتباع الصراط الصحيح.كما بين الله تعالى لنبيه في سورة الأنبياء أن قومه أيضًا يتعرضون للعذاب، حيث ختم الله تلك السورة بقوله (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ على مَا تَصفُونَ..علما أن الضمير في قال راجع إلى محمد رسول الله ﷺ فكأن الله تعالى كان قد علم رسوله هنا.وقد جاء الجواب على دعائه هذا في سورة الحج حيث استهلها الله تعالى بقوله يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنْ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٍ عَظِيمٌ)..أي أيها الناس قد شرع رسولنا بالإضافة إلى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، فإنه ينقسم أيضا إلى ركوعات..وهي أقسام صغيرة تناسب القراءة في ركعات الصلاة، وهي مألوفة في المصاحف المطبوعة خارج الجزيرة العربية..وخاصة في القارة الهندية وإيران وأفغانستان وإندونيسيا وبعض بلاد المغرب العربي.(المترجم)
الجزء السادس سورة الحج الآن في الدعاء للعذاب، فإذا أردتم النجاة فأصلحوا أنفسكم وادعوا للنجاة من العذاب.يعني أما بالنظر إلى الترتيب الممتد الموجود بين عديد من سور القرآن فإن هذه السورة تكملة لمضمون السور مريم وطه والأنبياء.ذلك أن سورة مريم قد تناولت مبادئ المسيحية مع الرد عليها، لأن صدق محمد رسول الله ﷺ ما كان ليثبت بدون الرد على المسيحية.فقد كانت دعوى محمد ﷺ ذات شقين: أولهما أنه جاء بشريعة جديدة وثانيهما أنه رسول الله إلى الناس جميعًا.فإذا كانت المسيحية قائمة بصورتها الأصلية عند بعثة النبي ، فهذا أنه كان في الدنيا دين حق صالح للعمل، ولم تكن هناك حاجة لنزول أي شرع جديد للأمم كلها؛ إذ لو كانت المسيحية عندئذ دينًا حيًّا، لما كان المسيحيون بحاجة إلى دين الإسلام.إذا، فسورة "مريم" جاءت تردّ على مبادئ المسيحية، وتتحدث عن ولادة المسيح الا وحقيقة دعواه وأحواله، مؤكدةً أنه لم يكن إلا كباقي الأنبياء.أما سورة "طه" فأسهبت في الرد على ادعاء المسيحيين بأن الشريعة لعنة (رسالة بولس الأولى إلى أهل غلاطية ۳ (۱۳) وأما سورة "الأنبياء" فتناولت هذا الموضوع بأسلوب آخر حيث بين الله تعالى أنه إذا كانت نجاة الإنسان من "الخطيئة الموروثة" مستحيلةً بدون المسيح، فلماذا بعث الأنبياء بهذه الكثرة ولمدة طويلة قبل المسيح، ولماذا تعرض أعداء أولئك الأنبياء للعقاب؟ لقد كان الإنسان مسيرا نتيجة "الخطيئة الموروثة"، والمسيّر لا يعاقب! أما في سورة الحج فقد بين الله تعالى أنه إذا كان المسيح الذروة في الروحانية، فما كان ينبغي أن يأتي بعده أي نبي ولا أي شرع؛ لأن المسيح كان هو الأكمل، ولأن الشرع كان قد أُلغي.ولكن شخص محمد رسول الله ﷺ قد أبطل هذا الادعاء.ومن البراهين الدالة على صدقه الله أولاً أن أعداءه سيهلكون كما هلك أعداء الأنبياء الذين خلوا من قبله.وثانيًا أن تعليمه يحتوي على أمور ضرورية ذات حكمة.وثالثًا أن الذين يؤمنون به سيحرزون الرقي روحانيا وماديا.
الجزء السادس سورة الحج ورابعا أنه سيتلقى البركات من السماء بشكل خارق.وخامسا أن أتباع الملل الأخرى بما فيها المسيحية سينهزمون جميعًا على يده.ملخص محتوى السورة قد أنذر الله تعالى في مستهل هذه السورة من عذابه الذي سيحل بأعداء محمد رسول الله ﷺ.هذا ملخص قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ..إلى قوله وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّه شَديدٌ).ثم بين الله تعالى أن محمدا لا يملك البراهين، وأن الدعاوى الفارغة لا تصمد أمام البراهين.هذا ملخص قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ..إلى قوله لبئْسَ الْمَولَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.بعد ذلك أخبر الله تعالى أن محمدا لله يحظى بتأييدات سماوية، فكيف يأمل العدو، أيا كانت ملته، في التغلب عليه؟ هذا ملخص قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّات..إلى قوله (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.ثم إن تعليم محمد ﷺ يدعو إلى السلم وأنه تعليم مبارك، في حين أن تعليم معارضيه ضار، فكيف يصمد تعلميهم أمام تعليمه؟ هذا ملخص قوله تعالى إن الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا..إلى قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِالْحَادِ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ أليم.، ثم بين الله تعالى أن محمدا لله مصداق للجزء الثاني من دعاء إبراهيم ال فكيف يمكن أن يفشل، إذ إن فشله يُعتبر فشلاً لإبراهيم.هذا ملخص قوله تعالى وَإِذْ بوانا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ..إلى قوله إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ حَوَّانٍ كَفُور.لا شك أن محمدا له هدف المعارضة شديدة ،الآن، وأنه قد صبر طويلاً، ولكن الله تعالى سيأذن لــه بالدفاع، وينصره ويكتب لـه الفتح – علما أن المسيحية لا تجيز حتى الدفاع (متى ٥: ٣٩، وهنا عُقدت مقارنة وجيزة بين تعليم الديانتين وأن مصيره سيكون كمصير من سبقه من أولي العزم من الرسل.هذا ملخص
الجزء السادس سورة الحج قوله تعالى أذنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا..إلى قوله وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).ثم بين الله تعالى أنه لا بد للأنبياء كلهم من مواجهة المعارضة، وأن الشيطان يعيق طريقهم، ولكن الله تعالى يزيل كل العوائق دائما ويجعل رسله غالبين، وهذا ما سيفعله هذه المرة أيضًا.إن محمدا رسول الله ﷺ سيتغلب على الأديان كلها، وسيتضح للعيان وبمناسبات شتى أنه لله على الدين الحق.هذا ملخص قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..إلى قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآياتنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.ثم بين الله تعالى أن الحرب الدفاعية جائزة، بل أعلن تعالى أنه سينصر الذين يحاربون دفاعًا عن الدين، ولولا ذلك لهُزم الحق في العالم.هذا ملخص قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبيل الله ثُمَّ قُتِلُوا..إلى قوله (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.ثم يخبر الله تعالى أن الهدى إنما ينزل ليكتب لـه النجاح كماء الغيث الذي ينزل لينضّر الأرض ثانية.كما بين الله تعالى أن الهدي حين يكمل دوره يصبح غير نافع ولا يقوى على الصمود أمام الهدي الجديد.هذا ملخص قوله تعالى ألم تَرَ أَنَّ اللَّهُ أَنزِلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً..إلى قوله إنَّ ذَلكَ عَلَى اللَّه يَسيرٌ.وإن أكبر دليل على ذلك هو أن الهدي الخاص بفترة يفقد التأييد الإلهي نتيجة تسرب أفكار الناس إليه وجراء فشله في سد ضرورات العصر الجديد لو كان ذلك الهدي لا يزال يتمتع برضا الله تعالى لكان لزاماً أن يتلقى التأييد الإلهى كما كان يتلقاه من قبل.مما يجعل أصحاب الهدي السابق يريدون أن يأخذوا قضية عقاب الناس في أيديهم بدلاً من أن يتركوا هذا الأمر الله تعالى، ولكنهم يفشلون في ذلك لحرمانهم من النصرة الإلهية.هذا ملخص قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنـ سُلْطَانًا..إلى قوله (وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.ثم أخبر الله تعالى أن الديانة السابقة التي كانت تحظى بنصرة الله في الماضي تصبح عديمة الجدوى كليةً إزاء التأييد الإلهي، ولا ينتصر إلا صاحب الهدي الجديد
الجزء السادس سورة الحج الذي يرتفع الصوت الرباني في حقه.هذا ملخص قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ..إلى قوله وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ..وبما أن محمدا لله هو الموعود الجديد فلا بد أن يكون نصر الله حليفه، فالحري بأتباعه أن يطيعوه طاعة كاملة ليكونوا من الفائزين عليهم أن يتذكروا أن النبوءات السابقة تدعمهم فليس رسولهم رسولاً موعودًا فحسب، بل إن أمته أيضا أمة موعودة، فلا بد أن يكونوا من الفائزين بنصر الله تعالى.هذا ملخص قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا..إلى قوله فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصيرُ ).
الجزء السادس ٦ سورة الحج حِمِ اللهِ الرَّحمن الرّحيمِ يَتَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٍ عَظِيمٌ ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَرَىٰ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) شرح الكلمات : اتقوا: وقاه وقاية: ستره من الأذى وصانه وحفظه والوقاء والوقاية: ما وقيتَ به شيئا (الأقرب)، كما يقي الجلد الكتاب والقشر الشجرة.وفي المفردات: "الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره.والتقوى: جعلُ النفس في وقاية مما يخاف." فالمراد من قوله تعالى اتَّقُوا رَبَّكُمْ اجعلوا الله وقاية وسترا للنجاة من الآفات.الساعة: جزء من أجزاء الزمان؛ ويعبر به عن القيامة وقيل: الساعات التي هي القيامة ثلاث: الساعة الكبرى وهي بعث الناس للمحاسبة؛ والساعة الوسطى، وهي موت أهل القرن الواحد والساعة الصغرى وهى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موتُه (المفردات).فالمراد من الساعة هنا : ساعة الهلاك، أو تلك الساعة المعينة التي تنتظر.تذهل ذهله : نسيه لشغل (الأقرب).شکاری: جمع سكران سكر من الشراب نقيضُ صحا (الأقرب).التفسير : وليكن معلومًا أنه ليس ضروريًا تطبيق هذه الآية على الآخرة، بل إن هذا المشهد يمكن أن يُرى خلال الحروب والزلازل أيضًا.فهكذا كانت حالة الناس
الجزء السادس V سورة الحج تماما حين ضرب زلزال عنيف محافظة "كانغره " سنة ۱۹۰٥م، حيث راح ضحيته ثلاثون ألف إنسان، وكان عدد الجرحى أكثر من ذلك بكثير.لقد انمحت العديد من القرى من على وجه الأرض، واهتزت منطقة البنجاب من أقصاها إلى أقصاها.وهذا المشهد نفسه قد شوهد لدى زلزال "كويته" عام ١٩٣٥م، فحين كانت القطارات الخصوصية تأتي بالناجين من الزلزال من الجرحى وغيرهم كان الناس يجرون على الأرصفة مذهولين بحثا عن أقاربهم، وعندما كانوا لا يجدونهم كانت صيحات بكائهم وآهاتهم ترتفع بشكل مخيف.فكتب مراسل جريدة أنه رأى على محطة القطار امرأة تتمايل كالسكران، وتسقط إلى اليمين مرة وإلى الشمال مرة أخرى، وهي تقول باكية لقد مات جميع أقاربي و لم يبق أحد.وقد أخبر بعضهم المنكوبين لما كانوا يُسألون عن الحادث كانوا يأخذون في البكاء والعويل بدلاً من أن يجيبوا شيئًا.كما أن العديد صاروا مجانين لشدة الصدمة، فقد نشرت الجرائد في تلك الأيام أن امرأتين من ضحايا الزلزال العائدين بالقطار من "كويته" إلى "ملتان" أُصيبتا بالجنون، وأن رجلاً آخر أصيب بالجنون وقفز من القطار السريع.إذا، كان مشهدًا مؤلًا لدرجة أن من قرءوا أخباره، ناهيك الذين شاهدوا ،دماره صاروا أن مذهولين وكوى الجزع قلوبهم.جريدة "انتخاب لا جواب: لاهور ٢٧/ ١٩٣٥/٨) كذلك لما ضُربت منطقة "بهار" بزلزال مدمر شبيه بزلزال القيامة تراءى للناس مشهد مماثل تمامًا.حتى قال حاكم الهند آنذاك "اللورد ريدنغ" في خطابه بلندن وعيونه تذرف بالدموع: إنه زلزال عنيف هائل لم يسبق له مثيل في تاريخ الهند.(جريدة Civil & Military Gazette ١٠ فبراير ١٩٣٤) وكتبت جريدة أخرى حتى إن الحيوانات، دَعْكَ من الناس، أيضا صارت مذهولة نتيجة هذا الغضب الإلهي، بل إن الوحوش الضارية أيضًا أصيبت بالذهول والدهشة لدرجة أنها كانت تجري مع الناس في ذعر شديد.(جريدة "حقيقت" لكناؤ ١۸ يناير ١٩٣٤) وكتب مراسل جريدة أخرى : لقد رأيت عدة أشخاص يقفزون من الشبابيك، ولكن قبل أن يصل هؤلاء إلى الأرض كانت جدران بيوتهم تتهدم وتستوي
الجزء السادس سورة الحج بالأرض.وبدا وكأن هناك مطرًا من الرؤوس والأيادي البشرية.(جريدة "برتاب" لاهور ٢٦ يناير ١٩٣٤) أما الدمار الذي حل بمنطقة "مونغير" فقد كتب عنه شاهد عيان وقال: اهتزت الأرض مرتين يمينا وشمالاً، وبعدها بدا وكأن أحدًا قد وضع الأرض على بكرة ودوّرها.ففقدت الوعي، ولما أفقتُ بعد نصف ساعة كان أمامي مشهد غريب جدا.لقد رأيت أنقاض البيوت حتى منتهى البصر، وكان يخيل إلي أنني لست في مدينة "مونغير".لقد تغيرت المدينة تمامًا حتى لم أقدر على معرفة بيتي أيضا.(جريدة "انقلاب" ١ فبراير ١٩٣٤) منهم وكتب محرر جريدة "ملاب": رأيت الآباء يبحثون عن أولادهم، كما أن الأولاد يتيهون بحثا عن آبائهم.إن الأولاد الذين نجوا من البيوت المتهدمة يقلبون كل حجر علهم يجدون آباءهم فينادوهم بحب وحنين.ولكن هل ترك الزلزال أحدًا حيا! كلما يتم العثور على جثة من تحت الأنقاض يرتفع بكاء وعويل يذيب أشد القلوب قسوة.(جريدة "ملاب" ٢٥ يناير ١٩٣٤) وهذا ما يحدث في الحرب أيضًا.فقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ رأى في إحدى الحروب امرأة تجري هنا وهناك بحثًا عن ولدها.فكلما وجدت صبيا ظنته ولدها، فألصقته بصدرها ثم تركته وأخذت تجري كالمجانين بحثا عن ولدها، حتى وجدته.فاحتضنته وأخذت تلاطفه وتداعبه ثم جلست بهدوء ترضعه.فقال النبي : هل رأيتم ما بهذه من الحزن والكرب؟ الله أشد حزنًا على عبده المذنب من هذه على ولدها (مسلم كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله).أما قول الله تعالى وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى فمعناه أَن تصرفاتهم لن تكون تحت سيطرتهم لشدة الذعر شأن السكران الذي لا يملك نص الحديث هو: "عن عمر بن الخطاب أنه قال قدم على رسول الله ﷺ بسبي، فإذا امرأة من السببي تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته.فقال لنا رسول الله : أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن لا تطرحه.فقال رسول الله : لله أَرحَمُ بعباده هذه من بولدها." (مسلم، كتاب التوبة).(المترجم)
سورة الحج الجزء السادس السيطرة على تصرفاته.وهكذا تكون حالة الناس في الحرب الشديدة.فإذا طبقنا هذه الآية على الحروب، فأرى أنها تنطبق على فتح مكة بشكل أوضح وأمثل.لقد سميت هذه السورة سورة الحج، وكان هذا إشارة إلى أن المسلمين سيتمكنون من أداء الحج بعد حرب عظيمة.علما أن النبي ﷺ هو الذي قد سمى معظم سور القرآن الكريم، وقد تحدثت هذه السورة عن الحج في ركوعها الثالث، كما ال الذي أُقيم بواسطته تحدثت عن إبراهيم الحرام؛ فثبت بذلك أن حج بيت الله هذه الآيات تضمنت الإشارة إلى حرب عظيمة تمهد للمسلمين الطريق للحج.لا شك أن كلمة زَلْزَلَةَ السَّاعَة) الواردة في الآية توهم، في أول وهلة، أن بِغَيْرِ الحديث هنا يدور عن العذاب المقدر للكفار في الآخرة فحسب، ولكن الأمر ليس كذلك، إذ يتضح من دراسة القرآن الكريم أنه لم يستعمل كلمة الساعة بمعنى القيامة التي تكون في الآخرة فحسب، بل قد استعملها أيضا بمعنى ساعة رقي جماعات الأنبياء وهلاك أعدائهم.قال الله تعالى زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةَ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ حساب ) (البقرة: (۲۱۳).لقد بين الله تعالى هنا أن الكافرين يعتبرون هذه الحياة الدنيا منتهى غايتهم، وأنهم مغرورون بقولهم، مع أن الأمور بالخواتيم، وسيكون مآل المسلمين هو الأفضل، وسيصبحون غالبين على الكافرين.أما لو قلنا أن هذه الآية تعني أنهم سيصبحون غالبين عليهم بعد الموت في الحياة الآخرة فليس في ذلك دليل للكفار على صدق المسلمين؛ إذ سيقول لهم الكفار إننا لا نؤمن بالحياة بعد الموت، ولا يمكن أن نصدق أنكم ستصبحون غالبين علينا في الدنيا.إن هي إلا أحلامكم ودعاويكم الفارغة.إضافة إلى أن الإيمان بعد الموت لا ينفع صاحبه، فما الفائدة من كثير من سور القرآن لها أكثر من اسم، وقد رويت كل هذه الأسماء عن الرسول ﷺ ولا شك أنها كلها وحي.(المترجم)
الجزء السادس ۱۰ سورة الحج تقديم غلبة المسلمين هذه أمام الكفار كحجة في الآخرة؟ فثبت أن هذه الآية لو طبقت على الآخرة فلن يبق لها أي مدلول أو مفهوم، كما لا يمكن أن تعتبر دليلا على صدق الإسلام.فالحق أن زَلْزَلَةَ السَّاعَة تعني هنا فتح مكة وما شابه ذلك من الوقائع التي الله نال فيها المسلمون غلبة واضحة.فإن الرسول ﷺ لما قال للكفار يوم الفتح: أخبروني ماذا يُفعل بكم الآن، قالوا افعل بنا ما فعل يوسف بإخوته.وهذا يعني أنهم قد اعترفوا بذلك أن الله تعالى قد جعل النبي غالبًا عليهم كما صار يوسف العليا غالبًا على إخوته في آخر المطاف، فتوقعوا منه نفس المعاملة التي عامل بها يوسف إخوته.فما كان من الرسول ﷺ إلا أن قال: "لا تثريب عليكم اليوم، يغفر لكم.اذهبوا فأنتم الطلقاء" (السيرة الحلبية: فتح مكة، الجزء الثالث ص ١١٣).أي لا مؤاخذة عليكم فليغفر الله ذنوبكم.اذهبوا فأنتم أحرار جميعًا.فقد ثبت من هذه الآية أن لفظ "الساعة" أو "القيامة" قد ورد في القرآن الكريم بمعنى الفتوحات الإسلامية أيضًا.وهذا هو المقصود لقول الله تعالى يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّه شَدِيدٌ ) حيث أنباً تعالى فيه عن فتح مكة، مبينًا أن زلزلة كالقيامة آتية على الكفار، وحين يرونها يصابون بالذعر الشديد حتى لن يجدوا لهم مخرجًا ولا مناصا، بل سيتعثرون كالسكارى.وهذا ما يؤكده لنا التاريخ، فإن قريشا لما نقضت صلح الحديبية وأغارت بمساعدة بني بكر على بني خزاعة المعاهدين O ورد في معظم المصادر أن النبي الا الله قال: "يا معشر قريش، ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرًا.أخ كريم وابن أخ كريم.فقال النبي : أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.اذهبوا فأنتم الطلقاء." (السيرة الحلبية: فتح مكة، الجزء الثالث ص ۱۱۳) (المترجم)
۱۱ الجزء السادس سورة الحج للمسلمين وقتلوا أشخاصا منهم، بعث بنو خزاعة أربعين شخصا إلى المدينة على النوق السريعة يخبرون النبي بغدر الكفار، ويطالبونه بحسب المعاهدة بشن الهجوم على مكة انتقاما لهم.وقبل أن يصل الوفد الخزاعي إلى المدينة أخبر الله رسوله الله من خلال الكشف بغدر أهل مكة تروي أم المؤمنين ميمونة – رضي الله عنها - أن رسول الله ﷺ بات عندي ليلة فاستيقظ لصلاة التهجد.فسمعته يقول وهو يتوضأ: لبيك، لبيك لبيك ثلاثًا نُصرت، نُصرت، نُصرت ثلاثًا.فقلتُ: يا رسول الله ما هذا الذي قلت؟ كأنك تكلّم إنسانًا؟ قال : لقد رأيت حالاً أن وفدا من خزاعة قد جاءوني ويقولون إن قريشا قد أغارت علينا بمساعدة بكر، فأصابوا عديدًا منا.فانتصر لنا وفق المعاهدة بشن الغارة على مكة.فقلت لهم: لبيك.إني جاهز لذلك تمامًا.بني فبعث بنو خزاعة وفدهم إلى المدينة، وفي الوقت ذاته فقد توقع أهل مكة أن المسلمين سيشنون عليهم حربًا إذا بلغهم نقض الميثاق..فبعثوا أبا سفيان إلى المدينة ليحاول التعديل في معاهدة الصلح بطريق أو بآخر، حتى لا يتهموا بالغدر.فبلغ أبو سفيان المدينة وبدأ يقول للناس إني لم أحضر صلح الحديبية، وأنا أكبر رؤساء مكة، فلا أهمية للمعاهدة بدون موافقتي، وأريد أن تتم المعاهدة من جديد.فجاء النبي ، ثم أبا بكر وعمر أيضا، ولكن لا أحد اهتم به.فلما يئس أبو سفيان من الجميع قام في المسجد وقال: أيها الناس، إني لم أحضر صلح الحديبية، وأنا رئيس مكة، فلا قيمة لتلك المعاهدة، وأريد توقيعها من جديد.فضحك المسلمون من سذاجته، فناله من الخزي ما نال ورجع إلى مكة خائبا خاسراً.وجهز النبي ال جيشًا من عشرة آلاف مسلم للهجوم على مكة، وسار به على جناح السرعة ونزل قريبا من مكة ليلاً.ثم أمر بإشعال النيران أمام كل خيمة.فكان للنيران المشتعلة أمام خيام عشرة آلاف جندي مشهد هائل.وكان النبي قد أخفى مسيره إلى مكة فلم يدر أهلها أن الجيش المعسكر حولهم هو الجيش المسلم، فأوجسوا في أنفسهم خيفة.وكان فشل أبي سفيان قد زاد الطين بلة.فأشاروا عليه بالعودة إلى المدينة ليتحسس خبر المسلمين.فلما خرج مع أصحابه من
۱۲ سورة الحج الجزء السادس مكة وجد الصحراء كلها مضيئة بالنيران، فقال لأصحابه في حيرة: من هؤلاء القوم؟ ما هذا؟ هل نزل جيش من السماء؟ فأخذوا يذكرون لـه أسماء قبائل مختلفة.فكلما ذكروا لـه قبيلة رفض رأيهم قائلاً إن هؤلاء أذل وأقل من ذلك.- وبينما هو يتحدث مع زملائه سمع من الظلام صوتًا يناديه: أبا حنظلة وكان أبو سفيان يكنى أبا حنظلة - فعرف الصوت وقال: أين أنت يا عباس؟ فقال له العباس: هذا رسول الله ﷺ في جيشه ! فإن كنت تريد النجاة فاركب البغلة خلفي، وإلا فها هو عمر قادم ورائي ليضرب عنقك.ثم أخذ العباس يد أبي سفيان بشدة – وكانا صديقين حميمين - وأركبه على دابته خلفه وركض بها إلى رسول الله ﷺ وعرض عليه أبا سفيان قائلا: يا رسول الله، قد جاءك أبو سفيان يريد البيعة.وكان أبو سفيان مذهولاً مما حدث لدرجة أنه لم يتكلم بشيء.فلما رآه رسول الله قال: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به.فأتى به عند صلاة الفجر، فلما رأى أبو سفيان أن آلاف المسلمين يقفون إذا وقف رسول الله ، ويقعدون إذا قعد، ويركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد، ظن أنهم ربما يتدربون لتعذيبه بنوع جديد من العذاب فسأل العباس: ما هذا الذي يفعله هؤلاء في الصباح الباكر؟ فإن هؤلاء عشرة الآلاف من القوم يقفون إذا وقف محمد، ويركعون إذا ركع، ويخرون ساجدين إذا سجد، ويقعدون إذا قعد؟ قال له العباس: إنهم يصلون.فقال أبو سفيان: لقد حضرت بلاط قيصر، وشاهدت بلاط كسرى، ولكني لم أر الناس يطيعون هؤلاء الملوك العظام كما يطيع هؤلاء محمدًا! قال العباس: لا تستغرب من ذلك؟ والله لو أن محمدًا أمرهم أن يكفوا عن الأكل والشرب لما أكلوا ولما شربوا.وعندما انتهت الصلاة أتى به العباس النبي ، فلما رآه قال: ألم يأن لك، يا أبا سفيان، أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال أبو سفيان بأبي أنت وأمي، قد أيقنت أنه لو أن مع الله إلها غيره لأغنى عني شيئًا.فقال النبي : ويحك ألم يأن لك، يا أبا سفيان، أن تعلم أني رسول الله؟ فتلكاً أبو سفيان في التصديق قليلاً، ولكنه أسلم أخيرًا بترغيب من العباس، ولأن صاحبيه الآخرين أيضا كانا قد أسلما.
الجزء السادس ۱۳ سورة الحج ثم قال يا رسول الله، هل لأهل مكة الأمان إذا لم يرفعوا السيف؟ قال النبي : نعم، من كفَّ يده وأغلق داره فهو آمن فقال العباس يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئًا.فقال النبي : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.فقال: يا رسول الله، إن داره لا تسع سكان مكة.فقال : من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن.ومن دخل الكعبة فهو آمن.فقال: يا رسول الله حتى هذه الأماكن لا تسع سكان مكة.فقال : حسنًا، ائتوني بقماش فجيء بخرقة، فصنع منها لواء وناوله أبا رويحة الذي آخى النبي بينه وبين بلال، وقال له: من كان تحت لواء بلال فهو آمن.(السيرة الحلبية: فتح مكة الجزء الثالث ص ۸۱-۱۱۳) إن هذا الحدث التاريخي يصور لنا حالة أهل مكة حين قام أبو سفيان بهذا الإعلان بينهم.لا شك أن الجميع قد فروا كالمجانين إلى بيوتهم، وإلى الكعبة، وإلى راية بلال، وإلى بيت أبي سفيان، وإلى بيت حكيم بن حزام، بقلوب ترتجف، وأرجل تتخاذل، وحواس تختل.هذا، وإن عطاء النبي ل بلالاً الراية يمثل أسلوبًا لطيفا لتذليل الكافرين واسترضاء بلال له لقد لقي بلال بسبب إسلامه الا الله الضرب والإهانة على أيدي الكافرين سنين طويلة، ففكر النبي لا لا لا أن بلالاً سيقول في نفسه لقد عفا النبي عن قومه، و لم ينتقم لما في قلبي من جراح عميقة؟ ولذلك صنع النبي ﷺ راية وناولها لأخ لبلال وقال: من وقف تحت راية بلال فهو آمن (السيرة الحلبية الجزء الثالث ص ٩٣).وهكذا دلل له على عظيم رحمته من جهة، ومن جهة أخرى وضع البلسم على جراح بلال أيضا.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلّم.
الجزء السادس ١٤ سورة الحج وَمِنَ النَّاسِ مَن تَجَدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَنٍ مَرِيدٍ (٢) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ, وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ ) ) الكلمات شرح مريد: المريد: الخبيث المتمرد الشرير (الأقرب) السعير: النار (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنه ينبغي للإنسان ألا يجادل في أي أمر بغير دليل وبرهان.فمن أظلم ممن يجادل في الله تعالى بغير علم ويتبع كل شيطان متمرد، أن الله تعالى قد كتب أن الذي يتبع الشيطان المتمرد ويواليه فلا بد أن يضله ويدفعه إلى طريق النار.مع لقد تبين من هذه الآية أن المرء إذا أطاع الشيطان مرة بعد أخرى نشأت بينهما صداقة تؤدي به إلى جهنم في نهاية المطاف.وقد قال الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم (وَمَنْ يَكُن الشَّيْطَانُ لَهُ قَرينًا فَسَاءَ قَرِينًا (النساء: ٣٩).فإذا لم ينتبه المرء عندها إلى إصلاحه ذهب في طريق السيئات بعيدًا، فلا يعود الشيطان صديقا له بل يصبح سيدا عليه، فيصفّده بأغلال العبودية كلية.وبتعبير آخر، إن المؤمنين يركبون مطايا الهدى، أما هؤلاء فينحطون حتى يركبهم الشيطان ويسوقهم حيث يشاء.وهؤلاء هم الذين قال القرآن الكريم عنهم إننا جعلنا بعض الناس الذين يعبدون الشيطان (المائدة: (٦١) وكأن الله تعالى قد بين هنا أن أحط من درجات الهوان أن الإنسان الذي خلقه الله تعالى ليكون عبدا لــــه، للشيطان جراء سوء أعماله.يصبح مطيعا وأرى لزاماً هنا إلقاء بعض الضوء على الشيطان..أي أن أبين ما هو الشيطان؟
الجزء السادس ١٥ سورة الحج الشيطان يعني في العربية الكائن الذي يبتعد عن الحق، أو يزداد شرا وسوءا (لسان العرب: شطن).أما إبليس فهو من يصبح آيسا (أقرب الموارد).وعندي أن الشيطان أو إبليس اسم لكائن خلقه الله تعالى إزاء الملائكة لاختبار البشر، فلا موت للشيطان ما لم يكمّل مهمته كما لا موت للملائكة ما لم تتم مهمتهم.والكائن الذي قام ضد آدم اللي هو هذا الشيطانُ وأظلاله.بيد أن التفاصيل الواردة في قصة آدم لها جزءان جزء يشير إلى هذا المحرّض على الشر، وجزء آخر يشير إلى أظلاله فالشيطان الذي كان في زمن آدم اللي حي من جهة، وقد مات من جهة أخرى.إنه حي بمعنى أن المحرض على الشر سيظل موجودًا في الدنيا ما دام النسل الإنساني موجودًا فيها؛ وإنه ميت بمعنى أن أظلاله أي أولئك الشياطين من البشر المذكورين في قصة آدم قد ماتوا في ذلك العصر نفسه.ولا مجال لثواب أو عقاب الشيطان المحرض على الشر.ذلك أنه مما لا شك فيه أن الذي يقتل شخصاً آخر يعاقب بالإعدام ولكن البرق الذي يحرق عشرات الناس لا يستحق أي عقاب وبالمثل إن حمم البراكين التي تثور عند الزلزال وتدمر مناطق واسعة، ومطر البرد الذي يُهلك الزروع، والرياح التي تحوّل المدن خرابا، كلها أشياء مؤذية مدمرة، ولكنها لا تعاقب في أي شرع.فلا شك أن الشيطان وإبليس مصيره هما جهنم، وأن الملائكة مصيرها الجنة، ولكن لن تجد الملائكة في الجنة أي متعة، كما لن يشعر الشيطان في جهنم بأي أذى ذلك أن الشيطان كائن ناري، ومتى تتألم جذوة من النار إذا ما أُلقيت في الأتون؟! إن النار إنما هي مقام إبليس.فليس المراد من دخول الشيطان النار أنه سيعاقب بذلك، بل المعنى أنه وصل إلى المكان الذي كان ينتمي إليه إن الملائكة إذا دخلت الجنة فلن تدخلها كجزاء لها، وبالمثل لن يدخل الشيطان النار كعقاب له.نعم إن أظلال الشيطان يعاقبون بحسب جريمتهم لأنهم يقومون بأعمال لم يُخلقوا من أجلها.علما أن العقاب إنما هو على أعمال تكون خلافا للقانون الطبيعي، ولما كان الإنسان قد خُلق بطبعه للأعمال الصالحة لقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٧) فمن ترك منهم العبودية لله تعالى ونسي عبادة الله استوجب العقاب.ولكن
الجزء السادس ١٦ سورة الحج الحافز على الشر، أي الشيطان لم يُخلق إلا لاختبار الناس، فلن يعاقب إلا إذا قصر في تحريضه إياهم على الشر.نعم، يمكن أن يقال: فلماذا يُذكر الشيطان بالسوء إذا؟ والجواب أن كون الشيء سيئًا أمر، وكونه مستوجبًا للعقاب فهو أمر مختلف تماما.فمثلاً، إننا لا نرمي الغائط والبراز بعيدًا عنا عقابًا له، بل لأن بقاءه داخل البيت ضار بصحتنا.وهكذا حال الشيطان الذي هو الحافز على الشر.إنه يمثل المرض والإثم، فلا بد أن يوصف بالسوء، ومع ذلك لا يستوجب العقاب.بيد أن هناك أظلالاً تابعين لـــه من البشر ومن الجن أيضًا.والأرواح الشريرة التي لم تخلق للسوء، ولكنها تحب السيئة فتحفّز عليها، أو البشر الذين لم يُخلقوا من أجل السوء، ولكنهم يحبون السوء، فيحثون عليه، إن هؤلاء كلهم أيضًا شياطين وأبالسة بدرجات متفاوتة، ويستوجبون العقاب.يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَكُم مِّن اور تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْ َوثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ خَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ تُخْرِجُكُمْ طِلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مِّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مِّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى يدخل تحت مسمى "الجن" كل الكائنات والقوى التي لا نعرف كنهها ولا طبيعتها.ولكنها ليست الجن بالمفهوم التقليدي الشائع.راجع للمزيد الجزء الرابع من هذا التفسير ص ٩٤ سورة الحجر: قوله تعالى وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّموم.(المترجم)
الجزء السادس ۱۷ سورة الحج صلے الْأَرْض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ ود مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (3) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ تُحْيِ الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (٤) وَمِنَ النَّاسِ مَن تَجَدِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَبٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْرِهِ لِيُضِلَّ عَن صلے وو سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرُ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةُ أَنقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ : يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا で لَا يَدْعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَلُ الْبَعِيدُ ( يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ で ۱۳ مِن ذَعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعَلُ مَا يُرِيدُ (٤) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
الجزء السادس ۱۸ سورة الحج وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (٤) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَهُ وَايَتٍ بَيِّنَتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ ) ۱۷ شرح الكلمات : مضغة: قطعة لحم.(الأقرب) مخلقة : تامةُ الخَلْق.(الأقرب) رم هامدة: همدت الأرض: إذا لم يكن بها حياة ولا عُودٌ ولا نبت ولا مطر.وفي "الأساس": أرض هامدة: قد يبس نباتها وتحطَّمَ.(الأقرب) اهتزت اهتزت الأرض: أنبتت (الأقرب) بهيج : بهج به: فرح به وسُرَّ.فالبهيج: السار (الأقرب) عطف: العطف من كل شيء: جانبه (الأقرب).حرف حرف كل شيء: طرفه وشفيره وحده (الأقرب) العشير: الصديق (الأقرب) التفسير: أي يا أيها الناس، لم تنتابكم الشبهات حول الحياة بعد الموت؟ ألا ترون أن خلقتكم الأولى كانت من أشياء لا حياة فيها؟ فالخضرة تخرج من التراب، وتتحول الخضرة التى يأكلها الإنسان إلى النطفة ثم تنقلب النطفة إلى علقة من دم، ثم تصبح العلقة قطعة لحم تأخذ بعضها شكل جسد إنسان وبعضها تظل ناقصة.ونخلقكم على هذا المنوال والترتيب لنعطيكم فكرة حول خلقكم الروحاني.وعندما نخلق الجنين إلى حد معين نبقيه في الرحم لفترة محددة، ثم نخرجه طفلاً، لكي تبلغوا شبابكم رويدا رويدا ومنكم من نتوفاه قبل أن يقوم بأي عمل في الدنيا، ومنكم من نمد في عمره حتى يبلغ سن الضعف أي الشيخوخة، وذلك لكي ينال العلم إلى حد معين ثم يصير جاهلاً تمامًا.وترون الأرض بلا حياة وقوة، ثم إذا أمطرنا عليها
الجزء السادس ۱۹ سورة الحج الماء أخرجت خضرتها، وأنبتت أزواجًا جميلة شتى.ذلك لتعلموا أن كل ما يريده الله تعالى يتحقق حتما، وأنه تعالى يحيي الموتى، وأنه يملك القدرة كلها على فعل كل ما هو موافق لمشيئته.علما أنني قد فسرتُ قوله تعالى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بهذا المعنى لأنه تعالى لم يقل هنا "وأنه على كل فعل قدير"، فكأنه تعالى أعلن بذلك أن قدرته إنما تتجلى في الأمور الجيدة التي يشاؤها، لا فيما هو لا يريدها.فلا يمكن أن يقال مثلاً: هل الله تعالى قادر على أن يكذب؟ أو هل هو قادر على أن يسرق؟ أو هل هو قادر على أن ينتحر؟ ذلك لأنها كلها أمور غير مرغوب فيها تتعارض مع قدرة الله تعالى ومشيئته.فالقرآن الكريم إنما يقول إن الله تعالى قدير على الأمور المرغوب يتم فيها..أي أنه تعالى إنما يجلّي قدرته في الأمور التي يتفق تحققها مع مشيئته.ثم يقول الله تعالى أيها الناس عليكم أن تدركوا برؤية كل هذه الأمور أنه كما خلْق الجسم تدريجيا كذلك يتم خلق الروح بالتدريج.فعلى الكفار ألا يستعجلوا بهلاكهم وبرقي المسلمين بمجرد إعلان رسول الله ﷺ بدعواه.كلا، بل كما أن الجسد يُخلق تدريجيًا، كذلك سيحرز الإسلام والمسلمون الكمال شيئا فشيئًا.وكما أن الجسد يؤول بعد فترة إلى الضعف والاضمحلال فلا يصلح لشيء مطلقا، كذلك تصابون، أيها الكافرون، بالضعف والانحطاط إزاء المسلمين وتملكون، فلا تستعجلوا.فلا الحياة التي توهب من عند الله تعالى تبدي آثارها فورا، ولا الهلاك الذي يحيط بالشعوب يأتي بنتائجه فجأة.بيد أن ما يقول الله تعالى كتبت له الحياة نالها ومن قدر له الهلاك أحاط به.ولا بد أن يحيا كتبت لهم الحياة وإن بدوا للناس كمدفونين في القبور، الهلاك فلن ينفكوا يجادلون في الله بغير علم مستكبرين، ويودّون أن يُضلوا الآخرين، ولكنهم سيلقون الخزي والهوان في الدنيا، كما سيعذَّبون في الآخرة.وإن عذاب الله لا ينزل بلا سبب، وإنما ينزل نتيجة أخطاء الإنسان وسيئاته.إنما يريد الله تعالى للإنسان أن يرغب فيه بكل قلبه، لأن العبادة التي تتم بدون رغبة صادقة لا تحظى بالقبول.عليه أن لا يترك الله تعالى في السراء والضراء وإلا فلا جدوى من مثل هذا يتم الذين حتما، فمن أما الذين قدر لهم
الجزء السادس ۲۰ سورة الحج الإيمان.والحق أن الإيمان الذي يجعل صاحبه وارنا لنعم الله تعالى ويجعله من المقربين لديه تعالى إنما هو ذلك الإيمان الذي يكون أسمى من كل أنواع الشكوك والشبهات، ويكون خاليا من محبة ما سوى الله تعالى.وفي بلدنا أيضا يقولون: إن الذي يحاول أن يركب قاريين في وقت واحد هالك لا محالة.والحق أنه حتى لو جرى القاربان جنبًا إلى جنب لبعض الوقت فإن تيار الماء يفصلهما حتما في وقت من الأوقات، وبالتالي لا بد من أن يغرق من وضع قدميه فيهما؛ كذلك فإن الذين يدعون بحبه تعالى بألسنتهم، ويتهافتون عمليًّا على الدنيا كل حين، نابذين أحكام الله وراء ظهورهم فليسوا من الله تعالى في شيء.لما أغار الأتراك (التتار) على أهلها مليونا وثماني مئة ألف شخص (تاريخ ابن خلدون مجلد 3 ص بغداد قتلوا من ٥٣٧).وبرؤية هذا الدمار المخيف ذهب بعض أهلها إلى أحد من أولياء الله تعالى ليدعو لنجاة المسلمين من هذا الدمار.فقال لهم هذا الولي: ماذا أفعل، فإنني كلما أرفع يدي للدعاء أسمع صوت الملائكة من السماء يقول: أيها الكُفَّار، اقتلوا الفُجار..أي أيها الكافرون اقتلوا هؤلاء المسلمين الفجرة.وذلك برغم أن الفريق الذي كان يتعرض للدمار كان يؤمن بالله ورسوله ولم يكن للفريق الآخر أي علاقة بالدين.وقد حدث ذلك لأن هؤلاء كانوا مسلمين بالاسم فحسب، ولم يحدثوا أي تغير طيب في أنفسهم، فاستحقوا العذاب.إذا، فعلى الإنسان أن يفحص إيمانه دائمًا وينظر إلى نوعية علاقته بالله تعالى..أهو قائم على عهده ووعده بالوفاء التام في حالتي العسر واليسر أم لا؟ فلو أنه أثنى على الله تعالى إذا أنعم عليه، وإذا حلّت به مصيبة قال متى أنعم الله على من قبل حتى أصابني بهذه المصيبة، لتبين أن إيمانه ليس إلا خدعة إنما صاحب الإيمان الكامل من يظل ثابتًا مستقيما عند كل ابتلاء ومصيبة، بل يصبح عند حلول المصائب أكثر إنابة وانكسارًا وتواضعًا لله تعالى.وهذا ما يبين الله تعالى هنا فيقول يجب أن تظل صلتكم بالله قوية في كل الأحوال، فلا تقطعوا صلتكم به حتى في المصائب.ورد في الحديث أن أعرابيا بايع النبي الله ، وأسلم ، ولكنه أصيب بالحمى بعد بضعة أيام.فجاء النبي ﷺ وقال أريد أن تردّ لي بيعتي فقد أصابتني الحمى (البخاري: كتاب فضائل
الجزء السادس ۲۱ سورة الحج المدينة، باب المدينة تنفي الخبث).وعلى النقيض من هذا الأعرابي نجد أناسًا ضحوا بأرواحهم وفاء بالعهد الذي عقدوه مع محمد رسول الله ﷺ و لم ينكثوه مثقال ذرة.والحق أن الإخلاص الحقيقي والصلة الصادقة إنما يُعرفان عندما يُختبر المرء بابتلاء، أما في حالة الأمن واليسر فإن ضعفاء الإيمان أيضًا يبدون حبا وولاء كبيرين.لقد ذكر الله تعالى في بداية القرآن علامة المنافقين فقال كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) (البقرة : ۲۱)..أي أن البرق كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم توقفوا..بمعنى أن المنافقين ينضمون إلى المؤمنين في أيام الأمن، ويخذلونهم وقت الشدائد، فمثل هذا الإيمان لا ينفع صاحبه شيئًا.وهذا ما أكده الله تعالى في هذه الآية أيضا، فقال إنه لمن المحال أن ينجح من تكون صلته بالله تعالى ضعيفة لهذه الدرجة.أما أن يترك الإنسان عبادة الله تعالى ويعبد الأصنام التي لا تنفعه، بل في عبادتها احتمال الضرر بدل النفع، فهذه حماقة ما بعدها حماقة.إن الذين يعبدون الله وحده لهم الأمن والراحة في الآخرة وفي الدنيا أيضًا.فالذين يظنون أن الله لن ينصر عبده الموحد الكامل التوحيد، أي محمدًا رسول الله ، و لا في الدنيا ولا في الآخرة، فعليهم أن يمدوا حبلاً إلى السماء ويتسلقوا به، ثم ليقطعوه ويسقطوا على الأرض ويموتوا، لأن أملهم هذا لن يتحقق أبدًا إنهم سيموتون بهذه الحسرة، بينما يستمر محمد رسول الله ﷺ في الرقي والازدهار ولن يمنعه من ذلك أحد.إن موتهم هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول دون رؤيتهم فشلهم ورقي محمد ، وليس هناك سبيل آخر لذلك.إن الله تعالى قد قرر في السماء ازدهار دین محمد ﷺ وانتصاره غير العادي، وقد امتشق حسامه ضد أعدائه لله فمهما مكر المعارضون الآن، ومهما احترقوا حسدًا ليل نهار ، فليعلموا أن مكرهم وحيلهم ضد ما يغيظهم ستبوء بالفشل دائما، وسيموتون في نهاية المطاف ميتة حسد وحسرة ومعاناة.أما الإسلام فيترقى ويزدهر ولا بد أن تنتشر دعوة محمد رسول الله في الدنيا.
الجزء السادس ۲۲ سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّبِعِينَ وَالنَّصَرَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ ۱۸ التفسير: أي أن الذين يؤمنون بالتوحيد أيضا يتبوءون درجات متفاوتة.فالمسلمون على درجة في التوحيد، ولليهود ،درجة وللصابئين درجة، وللمسيحيين درجة - علماً أن المسيحيين كانوا موحدين في أول أمرهم - وللمجوس درجة في التوحيد، وللمشركين درجة فيه.علما أنه كان بين المشركين أيضا أناس آمنوا بالتوحيد؛ فمثلاً كان بين رؤساء مكة شخص اسمه زيد حيث كان يؤمن بوحدانية الله تعالى (السيرة النبوية لابن هشام مجلد ١: ذكرُ ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل).فالله تعالى يعلن هنا أنه سيفصل يوم الفصل الأخير بين جميع الطوائف التي تدعي بالتوحيد..أي أن الصادقين منهم في دعواهم سيصبحون غالبين، وأن الكاذبين سيجعلون مغلوبين بحسب درجة كذبهم.وبالفعل قد أصبح المسلمون غالبين يوم الفصل، أما المشركون، الذين كان بينهم موحدون قليلون جدا، قد دمروا كلية.أما اليهود والنصارى والصابئون والمجوس فنالوا العقاب بقدر ضعفهم منهم و تقصيرهم.مما شكل دليلاً على أن الإسلام هو الحق.يستنتج البعض من هذه الآية خطأ أن الإسلام قد اعتبر اليهودية والمسيحية والصابئية ديانات صادقة.والحق أن النظر إلى الفحوى الحقيقي لهذه الآية يكشف لنا أنها تذكر معيارًا لمعرفة الصادق، فمن ثبت صدقه بحسب هذا المعيار فهو الصادق، لا أن كل هذه الطوائف صادقة.
الجزء السادس ۲۳ سورة الحج أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ وَكَثِيرٌ مِّنَ صلے قلے النَّاسِ وَكَثِيرُ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَ عَلُ مَا يَشَاءُ ) ۱۹ で التفسير: أي أن في السماء والأرض قانونا يستحيل أن يتحرر منه أي شخص.خذوا مثلاً اللسان الذي خلقه الله لنا، فالإنسان حر في استخدامه لدرجة أن بإمكانه أن يسب به الله تعالى إذا شاء، ولكن من جهة أخرى لو أن جميع ملوك العالم ووزراءهم وعلماءهم وفقهاءهم طلبوا من اللسان بكل رجاء أن يذوق الحلو ما، والمر حلوا، لما قدر على ذلك.كلا، بل سيذوق الحلو حلوا، والمر مرا.ولو أننا رأينا في هذا القانون الخاص باللسان تغيرا في بعض الأحيان، لوجدناه أيضا خاضعا لقانون إلهي آخر.فمثلاً، لو كان المرء مصابًا بمرض في كبده لذاق لسانه الحلو مراً.وبالمثل يمكن أن يجد لسانه، بسبب بعض الأمراض الأخرى، في الطعام العادي ملوحة شديدة، أو لا يجد في الطعام الحلو أي حلاوة، أو يجد في الشيء الذي لا مرارة فيه على الإطلاق مرارة شديدة.ولكن الواقع أن هذا التغير في اللسان أيضًا خاضع لبعض القوانين الإلهية الأخرى.وإلا فالأشياء التي لا خيار للإنسان فيها لا يقدر على تغييرها إطلاقًا.وعلى سبيل المثال، لو حاولت إدخال إصبعك في ثقب إبرة لن تقدر على ذلك ولو كنت من القادة الكبار أو الولاة أو الملوك العظام.أو مثلاً لا تقدر على أن تحوّل صوت أحد أقاربك إلى صوت شخص آخر وإن أردت ذلك.أو مثلاً لو ولد عند شخص طفل دميم وأراد أن يجعله جميلاً فلن يستطيع ذلك أبدا؛ أو لو ولد عنده طفل قصير فليس بيده أي وسيلة لأن يجعله طويلاً.أو خذوا مثلاً هذه العين التي خلقها الله تعالى للرؤية، فإنها
الجزء السادس ٢٤ سورة الحج لن ترى الأحمر إلا أحمر، ولا الأصفر إلا أصفر، ويستحيل أن ترى الأحمر أصفر، أو الأصفر أحمر، وإن أراد صاحبها ذلك.وهذا يعني أن ثمة قانونًا إلهيًّا لا يمكن لأحد الخروج عليه.وبالمثل إن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب كلها تعمل بحسب قانون إلهي خاص، وكل منها يقوم بواجبه الذي أُنيط فالله به.تعالى يقول هنا كيف تتخذون هذه الأشياء آلهة.إنها بنفسها واقفة أمام الله تعالى كالخدم المسخرين، ومع ذلك قد بلغ بكم الغباء درجة أنكم تقفون أمامها كالسائلين معرّضين أنفسكم للذل والهوان.لقد أشار الله تعالى هنا إلى هذا النظام الجاري في الكون، مبينا أن التدبر سيكشف لكم بكل وضوح أن الكون كله خاضع لقانون الطبيعة..أي الله تعالى، وأن كثيرًا من الناس أيضًا خاضعون لقانون الطبيعة.علما أن قوله تعالى...وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ لا يعني أن بعض الناس متحررون من قانون الطبيعة، بل يعني أن بعضهم يحاولون خرق قانون الطبيعة أيضًا، كأن يأكل المرء إلى حد التخمة، فيحل العذاب بأكثرهم، مما يدل على أن قانون الطبيعة غير مبدل، وأنه من المحال أن ينال أحد العزة بخرق قوانين الله تعالى، بل إن مشيئته هي الغالبة في آخر المطاف.الله هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَرُوا قُطِعَتْ هُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ : يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (2) وَهُم مَّقَدمِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٤) ۲۲ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن تَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمْ أَعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ۲۳
الجزء السادس شرح الكلمات : ۲۵ سورة الحج يُصهَر : صهر الشيء: أذابه (الأقرب).مَقامِعُ: جمعُ مقمعة والمقمعة: العمود من حديد، وقيل كالمِحْجَن يُضرب رأس الفيل؛ خشبةٌ يُضرب بها الإنسانُ على رأسه ليُذَلِّ ويُهان (الأقرب).التفسير أي أن هذين الفريقين، أي الذين يتبعون قانون الطبيعة والذين يريدون التحرر منه يختصمان حول ربهم، وستكشف النتائج أيهما على الحق وأيهما على الباطل.فالذين يخالفون قانون الطبيعة يرون الفشل والخسران دائما ولا يزالون يصلون ناراً روحانية على الدوام.يُصَبّ على رؤوسهم ماء حميم يحرق حتى ما في بطونهم..بمعنى أن الأفكار الهمجية تغزو عقولهم مؤكدة سوء باطنهم.إن هؤلاء سينالون عقابًا شديدًا، ولن يكون عقابًا باطنيًّا فحسب بل يكون خارجيا كذلك..فيلقون عقابًا باطنيًا على شكل أفكار مزعجة تنتابهم وتدمر سلامهم الباطني، كما ينالون عقابًا خارجيًا يقضي على سلامهم الخارجي أيضًا.وكلما حاولوا النجاة من العذاب غاصوا فيه أكثر فأكثر، ذلك لأن أساس عذابهم هو الأفكار الفاسدة المتولدة في عقولهم.والواضح أنه ليس لهم أي سيطرة على الأفكار، وبالتالي يستمر عقابهم الباطني والخارجي معًا، لأن العقاب الداخلي يتسبب في العقاب الخارجي.تتحدث هذه الآية عن العذاب بنوعيه الروحاني والمادي، حيث بين الله تعالى أن أجسادهم ستصلى في النار، كما أن قلوبهم أيضًا ستحترق بنار داخلية لن يجدوا منها مناصا.إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ جَنَّتِ تجرى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ عَلونَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُوا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَريرٌ )
الجزء السادس ٢٦ سورة الحج التفسير: ليس المراد من هذه الآية أنهم سيُلبسون هناك الذهب المادي.إن الذهب المادي حقير لدرجة أن المؤمن يرميه بعيدًا في هذه الدنيا أيضًا، فكيف يمكن أن يسره في الآخرة.فالحق أن هذا مجاز، والأساور إشارة إلى أسباب الزينة، وكونها من الذهب إشارة إلى أن أسباب الزينة تلك لن تفنى أبدًا، لأن الذهب لا يصاب بالصدأ.والمراد من اللؤلؤ أن تلك الأسباب ستضفي على طبائعهم لمعانًا ورفقًا شأن اللؤلؤ الذي يكون لامعًا ناعم الملمس.أما قوله تعالى وَلبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ فبين فيه أهم لن يتكبدوا أي مشقة ولا عناء في سبيل التقوى التي تتيسر لهم في الآخرة.لقد أوضح الله تعالى في القرآن الكريم أن التقوى تشبه اللباس، قال تعالى وَلبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: (٢٧).ولكن التحلي بالتقوى في الدنيا يتطلب من المرء جهدًا جهيدًا وعناء كبيرا، بينما يخبر الله تعالى هنا أن التقوى في الآخرة ستشبه الحرير..أي أن التحلي بالتقوى لن يكلف المرء أي عناء، بل سيجد فيها راحة، وسيميل طبعه إليها تلقائيا، دون أن يُكره عليها.وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (3) ۲۵ التفسير : هنا بين الله تعالى أن لباس أهل الجنة لن يكون جميلاً فحسب، بل إن لسانهم أيضًا سيكون طيبا، كما أن سلوكهم أيضًا سيكون مرضيا، حتى إن الله تعالى نفسه سیحمدهم، كما أن جيرانهم سيثنون عليهم.لقد تبين من ذلك أن الجنة ليست مكانًا للبطالة، بل هي مكان للعمل.والفرق الوحيد أن المرء في هذه الدنيا يقع في الإثم أيضًا، أما في الآخرة فلن يصدر عنه أي سوء، بل سيكون مصونًا من كل زوال روحاني.
الجزء السادس ۲۷ سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ كَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَيكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) رم شرح الكلمات: ٢٦ يصُدّون: صدَّ عنه: أعرض عنه ومال.صدَّ فلانًا عن كذا: منعه ودفعه وصرفه عنه (الأقرب).العاكف: المقيم.(الأقرب) الباد: المقيم بالبادية (المفردات).إلحاد: الحد عن دين الله: مالَ وحاد وعدل.وفي القرآن وَمَنْ يُرِدْ فِيه بِالْحَادِ ظلم أي يُرِدْ عدولاً عن الحق (الأقرب).التفسير: أي أن الذين يقطعون صلتهم عن كعبة الله ويمنعون الناس من الوصول إليها، لن يقدروا على إقامة المساواة بين الناس في الدنيا، كما أنهم سيلقون العذاب في الآخرة.اعلم أن قوله تعالى (سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فيه وَالْبَاد ) إشارة إلى المساواة التي راعاها الإسلام لدى تأسيس الكعبة المشرفة، حيث بين الله تعالى أن هذا المسجد لم يؤسس لشخص خاص، بل هو للناس أجمعين.ولا فرق فيه بين فقير وغني أو شرقي وغربي.إن أبوابه مفتوحة لكل إنسان سواء الذي يعبد الله تعالى فيه مقيمًا أو الذي هو يسكن في البوادي والبراري.ورد في التاريخ أن وفدًا من المسيحيين جاؤوا النبي للنقاش الديني، وبينهم قسيسون كبار.ودار الحديث في المسجد وطال.ويبدو أن هذا الحوار تم في يوم يوم العبادة عند المسيحيين.فلما حانت صلاتهم قال أحد القسيسين للنبي : لقد حان وقت صلاتنا، فاسمح لنا أن نخرج لأداء صلاتنا.فقال : لا داعي الأحد
الجزء السادس ۲۸ سورة الحج لأن تخرجوا من المسجد، إذ يمكنكم القيام بعبادتكم في مسجدنا إذ لم يُين إلا لعبادة الله تعالى.فأدوا صلاتهم وفق طريقتهم في المسجد النبوي (تفسير الطبري وزاد المعاد الجزء الثالث ص ٣٥).حسب طريقتهم.إن هذا الحدث التاريخي يؤكد أن باب المسجد مفتوح عند الإسلام لشرفاء كل دين وملة لكي يقوموا بعبادتهم ثم توطيدا للمساواة لم يشترط الإسلام لإمام الصلاة بأن يكون من عائلة معنية أو من قوم معينين.بينما يؤم النصارى في عبادتهم قسيس معين، ولا يمكن أن يؤمهم شخص غيره.وبالمثل لا يمكن أن يقرأ على السيخ كتابهم "غرنث" إلا باندت معين.ولكن الإسلام لا يجعل الإمامة حكرًا على القسيسين والباندات والمشايخ، بل إنه يعتبر كل إنسان صالح ممثلاً لله تعالى، ويعطي كل شخص صالح حق الإمامة.ثم إن الفقير والغني كليهما يقفان في المسجد جنبًا إلى جنب في صف واحد.فيقف القاضي والمجرم معًا، والقائد والجندي معًا، ولا يحق لأحد أن يجبر غيره على ترك مكانه في المسجد.أما في كنائس الإنجليز فيكتبون على المقاعد بأن هذا المقعد لفلان كبراء القوم، وذلك محتجز لفلان العائلة الفلانية.ولكن هذا التمييز لا يوجد عند المسلمين لأن الإسلام قد أعطى الجميع حقا متساويًا في مخصص المسجد.من من فسألت لما زرت البلاد العربية رأيت في ناحية من مسجد حجرةً حولها سياج.بعض القوم عن تلك المقصورة، فعلمتُ أن الملوك في الماضي حين كانوا يحضرون المسجد كانوا يصلون في تلك الحجرة.وذلك لأن أحدًا من الملوك حضر المسجد ذات مرة، فجلس بجنبه أحد الكناسين، فحاول حاشية الملك إبعاده عنه، فثار المسلمون والقضاة وقالوا إن المسجد لله، ولا تمييز فيه بين الكبير والصغير، ويجوز حتى لشخص يعمل كناسًا حتى لو كان أسلم في نفس ذلك اليوم، أن يقف في المسجد بجنب أي إنسان ويصلي معه ولو كان هذا من كبراء القوم وحتى لو كان
الجزء السادس ملكًا.۲۹ سورة الحج فلم يقدر أحد على إبعاد ذلك الكناس من مكانه.فأمر الملك ببناء حجرة خاصة به في جنب المسجد.لقد فلما سمعت هذه القصة قلت في نفسي نزع الله تعالى من ذلك الملك التوفيق لأداء الصلاة في المسجد بسبب انتهاكه حكما من أحكام الإسلام.ذلك لأن المكان الذي بُنيت فيه تلك المقصورة لم يكن جزءا من المسجد.قصارى القول إن الإسلام لم يجعل بين الكبير والصغير في المساجد أي تمييز، وهكذا قد أقام بين بني آدم مساواة لا نظير لها.وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّابِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (3) شرح الكلمات: ۲۷ بَوَّأْنا : بَوَّاً له منزلاً: هيأه ومكن لـــه فيه (الأقرب).فقوله تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيتِ) يعني أننا هيأنا لإبراهيم مكانًا في الكعبة.التفسير: يخبر الله تعالى هنا أنه قد بدأنا ببناء هذا البيت منذ عصر إبراهيم وعلى أساس مبدأ بأن المنتمين إلى هذا البيت لن يشركوا بالله تعالى وأنهم سيطهرون هذا البيت للمسافرين والمقيمين حوله والراكعين والساجدين.هذه الآيات توضح أن التضحية التي طالب بها الله إبراهيم والتي ترك بحسبها ابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع، إنما كان يهدف أساسًا إلى أن يتولى إسماعيل حماية بيت الله عندما يكبر ويخدم الدين الإبراهيمي، وأن يخرج منه أولاد أراد الله تعالى أن يقيم على أيديهم الدور الأخير من دينه فالأمر الواقع أن اليوم الذي تُرك فيه إسماعيل عند بيت الله كان بمنزلة إعلان عن بعثة محمد رسول الله ﷺ.إذ كان من المقدر أن يكون بيت الله تعالى آخر بيت لذكر الله تعالى في زمن الرسول ﷺ،
سورة الحج الجزء السادس وقد بدأ التحضير لذلك منذ عصر إسماعيل الله والحق أن الأعمال العظيمة إنما يبدأ الاستعداد لها قبل أوانها بكثير.ولما كان ظهور النبي ﷺ مقدرا من مكة فأخذ الله تعالى يمهد لذلك قبل ألفي عام من خلال إسماعيل.فما أعظمه مكانةً ورفعة حيث أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – قبل ألفي عام بأن يطهرا بيته إذ قد اقترب ظهور نبيه الذي ستشرق الأرض كلها بنوره.فقال الله تعالى وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ...أي جهز للذين سيحضرون للطواف والإقامة هنا والذين سيركعون ويسجدون.دین عصر بید هذا الله أنه أن ينبغي نرى كم من الناس كانوا يحضرون البيت بهذه النية في زمن إسماعيل وبعده؟ لا جرم أن الناس كانوا يأتون هناك للطواف، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كم منهم كانوا يذهبون هناك ناذرين حياتهم كلها لخدمة الله تعالى.إن التاريخ قبل عصر الرسول الله لمئات السنين محفوظ، وهذا التاريخ يخبرنا أنه لم يكن ببيت الله عندئذ إلا الشرك والوثنية.لم يوجد هنالك معتكف من ولا مقيم ولا راكع ولا ساجد الله تعالى.بل إن الذين أرادوا أن يرفعوا اسم تعالى هنالك كانوا يتعرضون للضرب والإهانة.فالحق أن قوله تعالى لإبراهيم أن طهر بيتي ليأتي هنا الطائفون والعاكفون والركع السجود إنما كان تحقيقه مقدرًا في النبي ، وقد بعث الله تعالى إسماعيل ليمهد لذلك.أما السؤال: ما هو الإنجاز الذي قام به إسماعيل إذن فجوابه أنه قام بتعمير الكعبة تعميرًا ظاهرًا، وبواسطته فجر الله تعالى عين زمزم.ولا لوم على إسماعيل العليا بسبب المفاسد والمساوئ التي تسربت إلى أهل مكة فيما بعد.لا شك أن الذين تركهم إسماعيل خلفه قد صار معظمهم فيما بعد مشركين يعبدون الأصنام ولكن هل يمكن لأحد في العالم أن ينكر أن هؤلاء هم الذين كانوا مؤهلين حقا لنشر الدين الحنيف.لا جرم أن أهل مكة صاروا من المعارضين للإسلام، ولا شك أن قريشا خالفت النبي ﷺ بكل شدة، بل يمكن لأحد أن يقدم أبا جهل كمثال ويقول كيف يصح أن يكون نبأ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود خاصا بالقوم الذين خرج منهم أبو جهل.ولكني أقول لهذا المعترض،
الجزء السادس ۳۱ سورة الحج أيها الجهول، إنك استطعت أن ترى أبا جهل الذي قد انتهى عمله، ولكنك لم تقدر على رؤية أبي بكر الذي إنجازاته خالدة حتى اليوم.لقد رأيت عتبة وشيبة اللذين جاءا ثم طواهما الفناء، ولكنك لم تر عمر وعثمان وعليا الذين قد وهبوا الحياة الخالدة والذين لن تنمحي إنجازاتهم إلى يوم القيامة؟ إذا، مما لا شك فيه أن الذين جاءوا بعد إسماعيل قد أصابهم الفساد، ولكن فسادهم هذا يماثل الغبار المتراكم على المعطف أو على الجوهرة التى لم يتم صقلها بعد.إن هذه الأحجار الكريمة لما صُقلت ببركة تربية النبي الله وقوته القدسية صارت أغلى متاع في العالم.فلمع أبو جهل في شخص عكرمة، والعاص ووائل في صورة عمرو، وأبو سفيان في صورة معاوية ويزيد بن أبي سفيان.إن ذرات الذهب لا قيمة لها ولا قدر ما دامت مدفونة في التراب، ولكن عندما يبصر الشخص الخبير تلك الذرات الذهبية يفصلها عن التراب، فتباع بأغلى الأثمان.وإن الجوهرة ما دامت حجرا لا يعرف أحد بقيمتها، ولكن حينما يقوم الجوهري الخبير بصقلها وتقديمها في صورتها الحقيقية أمام العالم فيبلغ ثمنها مئات الآلاف بل الملايين.إذا، فلا شك أن هؤلاء قد تسربت إليهم المساوئ والمفاسد، إلا أن محمدًا رسول الله ﷺ لما قام بتصفيتهم خرج منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين.بل لقد ولد آلاف غيرهم مثل طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة وسعد وسعيد وعثمان بن مظعون.أولئك قوم ضحوا بأغلى أمانيهم ومشاعرهم في سبيل إعلاء اسم الله تعالى، حتى صار كل واحد منهم أن النبي ﷺ كان من أولاد إبراهيم العلم، بيد أنه مما لا شك فيه أيضًا أنه كان أبا إبراهيم أيضًا حيث خرج من أولاده الروحانيين ببركة قوته القدسية عشرات الآلاف الذين كانوا كإبراهيم والذين أحيوا الأسوة الإبراهيمية من جديد في الدنيا.إبراهيم حيا.لا جرم قصارى القول، إن بعث إسماعيل في مكة عند الله تعالى إنما كان استعدادًا من وتمهيدا لمجيء النبي.لقد أمره الله تعالى أن طهر لأن بيتي حبيبي ورسولي الذي هو آخر رسول ذي شرع سيظهر عن قريب.فعليك أن تجهز لمقدم حبيب من
الجزء السادس ۳۲ سورة الحج الآن، وأن تخلف من الآن وراءك أولادًا يخرج منهم من ينصرون حبيبي كأمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وحمزة ،والعباس، وأن تقدم إليه هدية مئات أمثالهم من الصحابة العظام.هذا هو المراد من قوله تعالى وطهر بَيْتِي للطَّائِفِينَ وَالْقَائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ، وإلا فلو أخذناه بالمعنى الظاهري فإن أهل مكة لم يقدموا بعد إسماعيل ال مثالاً جيدًا من الناحية الدينية.نعم، لما كان تحقق هذه النبوءة مقدرًا في عهد الرسول الله فإن الله تعالى قد جاء بإسماعيل إلى مكة ليعد محمد رسول الله ﷺ ولتنذر نفسها في سبيل إظهار جلال الله ذريةً تقوم بخدمة دين تعالى.بيد أنه لما كانت مساجد العالم كلها بيوت الله تعالى حيث إنها مخصوصة لذكر الله ولأنه تعالى يعتبرها بمنزلة أظلال لبيت الله، فإن هذه الأحكام لا تخص بيت الله فقط، بل تنطبق أيضًا على كل مسجد على سبيل الظلية والتبعية.ولو تدبرنا هذه الآية من هذا المنظور لوجدناها تذكر ثلاثة أغراض هامة للمساجد وهي: الأول: تبنى المساجد لينتفع منها المسافرون.الثاني : تبنى المساجد لينتفع منها أهل المدن.الثالث: تبنى المساجد لينتفع منها الركع السجود..أي الذين ينذرون حياتهم لابتغاء مرضاة الله تعالى والذين هم على التوحيد الكامل قائمون.يمكن للمسافر أن ينتفع من المسجد من حيث إنه إذا لم يجد أي مسكن آخر فبإمكانه المبيت في المسجد لبضعة أيام متجنبًا معاناة عدم وجود مأوى يبيت فيه.أما المقيم فيمكنه الانتفاع من المسجد من حيث إن المسجد مكان محفوظ من الضجيج والشغب، فيمكنه أن يعكف على ذكر الله تعالى ومناجاته ودعائه في هدوء تام في المسجد.أما الذين ينذرون حياتهم لخدمة دين الله فإن المسجد هو مكانهم الحقيقي، لأن المساجد مجمع المؤمنين ومكان الدعاء وذكر الله تعالى، ومن المحال لمن يحب الله تعالى حقا وهو على صلة متينة معه الله أن ينفصل عن مثل هذا المكان.
الجزء السادس ولا يغيبن عن البال أن كل الأعمال التي فيها مصلحة عامة الإسلام لا يعني أن هي سورة الحج أيضًا بمثابة ذكر الله تعالى، سواء فيها ما يتعلق بالقضاء أو حسم الخلافات ومحاربة الفتن أو التعليم وما إلى ذلك مما هو ذو صلة برقي المسلمين أو انحطاطهم.ولو نظرنا إلى عصر الرسول ﷺ لوجدنا أن الخصومات كانت تحسم في المساجد، وكان القضاء والتعليم يتمان فيها؛ ما يعني أن المساجد ليست لذكر الله تعالى باللسان فحسب، بل لا بأس من القيام بالأمور التي هي ذات صلة بالضرورات العامة.ذلك لأن ذكر الله في يردد المرء "سبحان الله سبحان الله" فحسب، بل إن خدمة الأرامل أيضا من الدين وتربية الأيتام أيضًا من الدين وفض الخلافات والإصلاح بين الناس أيضًا من الدين فكل الأعمال التي فيها منفعة عامة والتي تنهض بالأمة خُلقيًّا وماديا تندرج تحت ذكر الله تعالى، وأداؤها في المساجد جائز.فكلما جاء الرسول ﷺ ضيف أعلن بين صحابته في المسجد: من منكم يستضيف هذا في بيته (البخاري: كتاب المناقب، باب ويؤثرون على أنفسهم).فالأمر كان يتعلق في الظاهر بقرى الضيف وطعامه فحسب ولكنه الدين بعينه إذ يحقق ضرورة دينية.لقد أخطأ الناسُ فضيقوا مفهوم الدين جدا، مع أن الدين إنما نزل ليوصل الإنسان بالله تعالى، ولا الله تعالى على العبد بالوصال إلا إذا قام بخدمة الخلق.إنما يتيسر وصاله تعالى برعاية اليتامى وخدمة الأرامل وتبليغ الدعوة للكافر وتفريج الكربة عن المؤمن.فالقيام بهذه الأمور في المسجد ليس من الدنيا في شيء، وإنما هو من الدين في ينعم الحقيقة.إلا أنه لا يجوز الحديث في المسجد عن الأمور الشخصية البحتة، كأن يقول الواحد لصاحبه مثلاً: ما الذي قررت بصدد زواج ابنتك؟ أو يقول مثلاً: هناك نزاع حول ترقيتي لأن المسؤولين لا يرضون بذلك.إن الحديث عن مثل هذه الأمور لا يجوز في المساجد.غير أن الإمام مستثنى من ذلك إذ تقع عليه مسؤولية القوم كلهم، ومن حقه أن يتحدث مع القوم عن هذه الأمور إذا ارتأى ذلك.
الجزء السادس ٣٤ سورة الحج قصارى القول، لا يجوز الحديث في المسجد عن الأمور الشخصية البحتة.وعلى سبيل المثال قال الرسول : إذا فقد أحد شيئًا فلا يعلن عنه في المسجد* (مسلم: كتاب المساجد، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد).فالمساجد إنما هي لذكر الله فحسب، ولكن ذكر الله تعالى يشمل جميع الأمور التي تنهض بالإنسان سياسيا وعلميا وقوميا.أما الأمور التي تتعلق بالخصومات والفساد ومخالفة القانون فلا يجوز الحديث عنها في المساجد وإن سميتَها قومية أو سياسية أو دينية.كما أن الحديث في المساجد حول الأمور الشخصية البحتة ممنوع، لأن الإسلام يعتبر المسجد بيت الله تعالى وقد خصه لذكره تعالى.وَأَذِنْ فِي النَّاسِ بِالحَج يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَاعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا ) اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَمِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَابِسَ الْقِيرَ : ثُمَّ لْيَقْضُوا تَثَهُمْ وَلْيُوفُوا ۲۹ نُذُورَهُمْ وَليَطوفُوا بالبيت العتيق ) شرح الكلمات: رجالاً: جمع راجل وهو من ليس لـــه ظهر يركبه (الأقرب).ضامر: الضامر : القليل اللحم الدقيق.يقال: جَمَلٌ ضامِرٌ وناقةٌ ضامر وضامرة (الأقرب).نص الحديث: "قال رسول الله ﷺ: من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عليك.فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا".(مسلم، كتاب المساجد، رقم الحديث ٨٨٠) (المترجم)
الجزء السادس ٣٥ سورة الحج فَج: الفج: الطريق الواسع الواضح بين جبلين (الأقرب).تَفَتْ: التفتُ: الوسخ (الأقرب).التفسير: أي أننا قلنا لإبراهيم أن هذا الأمر ليس خاصا بك، بل إنه للناس أجمعين، فقد أمرناهم بأن يأتوا هنا من أماكن نائية على نوق قد أصبحت ضامرة من طول السفر وتركت أثرها في الطريق بكثرة أسفارها وسرعة سيرها، ذلك لكي يجلبوا هنا منافع مادية، ويذكروا اسم الله تعالى في أيام معلومة، وهكذا يقوم في العالم كله دين واحد.ثم قال تعالى وليأكل الأغنياء منكم لحوم أضاحيهم ويطعموا الفقراء أيضًا.وبعد أن ينتهوا من تقديم الأضاحى عليهم أن يغتسلوا ليزول وسخهم..أي عليهم أن يهتموا بالنظافة الجسدية، كما عليهم بالطهارة الروحانية بتطهير قلوبهم.وليُوفُوا عهودهم مع الله تعالى، وليطوفوا بالبيت القديم.ويجب ألا يفهم من الطواف أن الإسلام قد رفع بيتًا هو مجرد جماد ميت إلى مرتبة الله تعالى كلا بل الطواف عادة قديمة ترمز إلى الفداء والتضحية.فكان المرء يطوف حول المريض تعبيرًا عن أنه يقدم نفسه فدية عنه لينجو من الموت.(Encyclopedia of Religion and Ethics v.3 p.657) وهذا ما تقصده هذه الآية حيث قال الله تعالى إنه ينبغي أن يو جد في العالم أناس ينذرون حياتهم في سبيل تعظيم هذا البيت وإقامة عبادة الله تعالى.وإلا فليس الطواف الظاهري في حد ذاته بذي أهمية.لقد تحدث الله تعالى في هذه الآيات عن حج بيته، وهو عبادة هامة في الإسلام.فيجتمع كل سنة في مكة المكرمة مئات الآلاف من الناس من مختلف الشعوب والأقطار.لا يعرف بعضهم تقاليد الآخر ولا عاداتهم ولا لغاتهم، ولكنهم يعترفون عمليا أن التوحيد الإسلامي قد وحّد قلوب المسلمين لدرجة أنهم مستعدون للاجتماع في مكان واحد تلبية لنداء الله تعالى، رغم اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم وألوانهم وأعراقهم وأفكارهم ومناخهم.كما أنهم علاوة على قيامهم بالحج في الظاهر، يثبتون عمليا أنهم جاهزون لفداء أرواحهم في سبيل حماية الكعبة المشرفة.وما دام المسلمون متحلّين بهذه الروح لن يقدر العدو أن ينظر إلى الكعبة بنية شريرة
الجزء السادس ٣٦ سورة الحج أو على تشتيت شملهم ذلك لأن شمل المسلمين باق ما بقيت الكعبة.إنهم لا يرون كيف أن الله تعالى نشر الإسلام في مختلف بقاع العالم فحسب، بل يرون أيضا أن والاضطهاد، ومع ذلك خرج نداء صعد من واد غير ذي زرع فلم يلبه أهله بل آذوا صاحبه بشتى أنواع الأذى ذلك النداء إلى شتى أكناف العالم، وجمع اليوم مئات الآلاف من البشر.إنهم يرون هذه الآية الإلهية العظيمة ويشعرون بنضرة وحلاوة جديدة في إيمانهم يقولون في أنفسهم انظروا هنا ولد محمد رسول الله ﷺ الذي رفع صوتًا لم يزل يدوي في العالم حتى بلغ البلاد القاصية ووصل إلى الملايين.وها مكة - التي اضطهد أهلها المسلمين واضطروهم لترك أوطانهم ولم يسمحوا لهم في هذه الأرض أن يقولوا "لا إله إلا الله" يردد كل فرد فيها: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد ، ويقول : لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك".وكأن هؤلاء يرون الله تعالى ماثلاً أمامهم، فيقولون لــــه: نحن حاضرون يا رب، ونقر بأنه لا شريك لك.أنت وحدك حري بأن تنادي عبادك، وها قد حضرنا في جنابك ملبين نداءك.هي إذا، فمكة المكرمة هي ذلك المقام الذي يجتمع فيه كل سنة مئات الآلاف من المسلمين وليس غرضهم إلا أن يعبدوا الله ويشهدوا أمام العالم أن الدين الذي قد أتى به محمد رسول الله ﷺ حي اليوم أيضًا، وأنه لا يزال في الدنيا اليوم أيضا خدام له ليرفعوا نداءه عاليا.إذا، فكأن الحج رسالة موجهة إلى العالم بأنه لا يزال دم الحياة يجري في عروق أهل الإسلام، ولا يزال عشاق محمد مجتمعين في مركز الإسلام معربين عن صلتهم المتينة بالإسلام وبمحمد رسول الله ﷺ.إنهم يشهدون أمام العالم أنهم وإن كانوا ضعفاء، إلا أن الدنيا لا تخلو من الذين يحبون محمدًا رسول الله ، وأن المسلمين لا يزالون ينبضون بالحياة كأمة واحدة.وهذا هو السبب الذي من أجله قد جعل الإسلام الحج من الفرائض كالصلاة والصوم والزكاة.لا شك أن الهدف الروحاني الأساسي من الحج إنما هو أن يصبح الإنسان لله تعالى بصدق القلب نابدا كل أنواع الصلات الأخرى، إلا أن الله تعالى قد فرض الحج الظاهري ليساعد على تحقيق هذا الهدف أيضًا، ففرض على كل ذي مقدرة
الجزء السادس معينة، مع ۳۷ سورة الحج أن يترك أهله وداره ويحضر مكة، ليتعلم درس التضحية بالوطن والأهل والأقارب.ذلك لأن الإسلام يسلم بأهمية الروح والجسد كليهما.فكما أن لكل إنسان جسدًا ماديًا وتكون الروح في ذلك الجسد، كذلك فإن للدين والروحانية أيضًا جسدًا لا بد من الحفاظ عليه وعلى سبيل المثال، قد جعل الإسلام لأداء الصلاة حركات أن الغرض الأساسي من الصلاة أن يتولد في قلب المرء حب الله تعالى، وأن يفكر في صفاته تعالى فيسعى إلى صياغة حياته على ضوء صفاته تعالى.ولكنا لا نرى في بادي النظر أي علاقة بين هذا الهدف وهذه الحركات الظاهرة في الصلاة والحق أن أي روح لا يمكن أن تعيش بدون جسم، ولذلك لما فرض الله تعالى علينا الصلاة أمرنا أيضًا بأداء حركات محددة والواقع أن الأديان التي لم تدرك هذه الحقيقة و لم تأمر أتباعها بالقيام بحركات معينة خلال العبادة، غفل أهلها العبادة أصلاً عن بالتدريج، وإذا كانت لا تزال عندهم صلاة فلا تعدو أن تكون تمثيلية هزلية فحسب.كذلك فإن الحج الحقيقي إنما هو أن الإنسان الله فقط قاطعا كل علاقاته الأخرى.ولذلك لو رأى المرء في المنام أنه قام بالحج فتأويله أنه سيظفر ببغيته (تعطير الأنام: الحج).ومن الواضح أن أكبر غاية من خلق الإنسان هي عبادة الله والظفر بقربه لا بدليل قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا ليَعْبُدُون (الذاريات : ٥٧)..أي إنما خلقتُ الإنسان لأجعله مقربًا لدي.فحج المرء علامة على أنه قد نال الهدف الذي من أجله خُلق، وبتعبير آخر إن الحج هو رؤية الله تعالى.بيد أن الله تعالى قد جعل لهذا الحج قالبًا ظاهريًا أيضًا حفاظا على روح الحج.يصير تعالى ثم إن الحج إحياء لذكرى ذلك الحادث الذي جرى قبل أربعة آلاف عام، والذي أبدى فيه إبراهيم له أسوة رائعة للوفاء الصادق لا تزال الدنيا ترى نتائجها حتى اليوم.قبل أربعة آلاف عام من اليوم ولد في بيت مشرك بأرض "أُور" طفل (التكوين (۱۱ (۲۸).وتربى بين ظهراني قوم ما كان شغلهم الشاغل إلا الإشراك بالله تعالى وعبادة الأصنام ليلا ونهارًا.ولكن هذا الطفل وُلد بقلب عامر بالنور، فكان منذ طفولته ينظر إلى الأوثان باحتقار وكراهية.فلما نظر الله تعالى إلى ضلال عباده
الجزء السادس ۳۸ سورة الحج المتزايد وغيهم المتفاقم وأراد أن يصطفي أحدًا منهم لنفسه وقعت عينه تعالى، التي لا تخطئ أبدًا في معرفة أهل الكفاءات، على إبراهيم من قرية الكلدانيين، فمسحه بفضله، وقال اذهب يا إبراهيم وضح بابنك، لأزرع به مشتلا للصلاح والورع، وأفجر ينبوع الطهر والصفاء تحت رعايتي وحمايتي الخاصة، وفي معزل عن الآخرين.فقال إبراهيم سمعا وطاعة فها أنا جاهز تمامًا.فأخذ ابنه الذي كان قد رزقه في شيخوخته، وتركه في واد غير ذي زرع لم يوجد فيه أثر للماء ولا الطعام بحسب القرآن الكريم (سورة إبراهيم: (۳۸ و لم يترك إبراهيم ابنه مع أمه في ذلك القفر المخيف إلا لإعلاء ذكر الله تعالى وإقامة عظمته في الدنيا من جديد.لقد أُعطي ذلك الولد وامه من الزاد سقاء ماء وجراب تمر، وكان القرار الإلهي بشأنهما أن يقضيا باقي حياتهما في تلك البرية.قال إبراهيم في نفسه إلى متى سيعيش الولد وأمه على قربة ماء وكيس تمر؟ لن يكون عند زوجتي وابني بعد أيام إلا ذرات الرمال اللامعة تحت الشمس المحرقة فرق قلبه واغرورقت عيناه بالدموع.فلما رأت زوجته هاجر - رضي الله عنها - الدموع في عينيه والاهتزاز بشفتيه أدركت أن الأمر أكثر مما ترى؟ فأخذت تمشي وراء إبراهيم وتقول: أين تتركنا يا إبراهيم؟ لا يوجد هنا ماء للشرب ولا طعام للأكل أراد إبراهيم أن يجيبها ولكنه لم يستطع الكلام لغلبة الرقة.فسألته هاجر الله أمرك بأن تتركنا هنا أم تتركنا برغبتك؟ فما كان من إبراهيم إلا أن رفع يديه إلى السماء ليخبرها أنه قد فعل ما فعل بناء على أمر الله تعالى.فهاجر التي كان قلبها عامرًا بالإيمان واليقين، والتي كانت لا تزال في سن الشباب والتي لم يكن عندها إلا ابن واحد وقد صار عرضة للموت المحقق، توقفت عن الجري وراء إبراهيم وقالت: إذا، لن يضيعنا الله تعالى.وبعد أيام نفذ الماء والغذاء، ورغم أن هاجر لم تر في تلك المنطقة أي إنسان إلا أنها لم تقدر على رؤية ابنها وهو يتلوى ويضطرب من شدة العطش، فصعدت إحدى التلال علّها ترى إنسانًا فتطلب منه الماء، أو تجد أثرا لقرية، ولكنها لم تجد أي أثر للماء على مدى البصر.فهبطت من التلة في فزع وأخذت تعدو إلى تلة أخرى وصعدتها.فنظرت إلى ما حولها، و لم تر أي أثر للماء.وجرت هاجر في شدة
الجزء السادس ۳۹ سورة الحج كربها واضطرابها بين التلتين سبع مرات.فخافت على ولدها خوفا شديدًا وقالت حتى وحي الله في نفسها ماذا سيحدث الآن؟ وبينما هي في تلك الأفكار فاجأها تعالى يقول: يا هاجر، لقد هيأ الله لولدك الماء، فارجعي إليه وانظري.فرجعت فإذا ينبوع ماء ينفجر بجنب الولد الذي كان يتلوى من غلبة العطش.هذا هو النبع الذي يدعى زمزم.وزمزم معناه في الواقع نشيد يتغنى به عند الفرحة.ويبدو أن هاجر هي التي سمت ذلك النبع زمزم لأنه أتاح لها الفرصة للتغني بحمد الله تعالى شكرًا على نجاة ابنها من الهلاك.وهكذا هيأ الله تعالى لهما الماء.وفيما هي تفكر من أين تجد الطعام الآن إذ وصلت عند هاجر قافلة ضلت طريقها.وكان هؤلاء بحاجة ماسة إلى الماء، فلما رأوا النبع قالوا لهاجر: هل تأذنين لنا أن ننزل عندك وسنعيش كالرعايا لك؟ فأذنت لهم، فعاشوا هنالك كالرعايا لهاجر وإسماعيل.وهكذا صار إسماعيل ملكًا قبل أن يبلغ سن الشباب.(البخاري: كتاب بدء الخلق) وإحياء لذكرى ما جرى مع هاجر، يقوم كل حاج حتى اليوم بالسعي بالصفا والمروة سبع مرات.هذا السعي هو بمنزلة إقرار من الساعي بأنه سيتبع خطوات هاجر.هذا السعي إعلان من الحجاج بأنه لو اقتضى الأمر فسنترك أقاربنا بلا تردد ابتغاء مرضاة الله تعالى.فالحج عبادة ذات أهمية قصوى في الإسلام عندما يزور المرء مكة المشرفة مؤديا مناسك الحج كما ينبغي، تتراءى له هذه المشاهد كلها، فيرى بعينيه كيف يُكتب الخلود الأبدي للذين يضحون في سبيل الله تعالى.ثم إن الحج يخلق في المسلمين روح المركزية والوحدة، ويتيح لهم الفرصة الإعمال الفكر في حاجاتهم وحاجات باقي العالم.كما يجدون هناك فرصة لرؤية محاسن الآخرين والتحلي بها، ويزدادون أُخوّة ومحبة.ورد في لسان العرب فرس مزمزم في صوته إذا كان يُطرب فيه.(المترجم)
الجزء السادس ٤٠ الله سورة الحج خلاصة القول إن الحج ركن هام من أركان الإسلام، وقد نبه الله تعالى إليه هنا.فالذين قد أعطاهم الله سعة من المال ووهبهم صحة تتحمل صعوبات السفر، فمن واجبهم العمل بهذا الأمر الرباني وأن يستمتعوا ببركات الحج إلى بيت تعالى.وعندي أن الحج هو أكبر حسنة للأغنياء في هذا العصر، لأن معظمهم لا يذهبون للحج رغم كثرة المال والثروة.أما الذين يحجون فأكثرهم من الذين لا حج عليهم.فعندما أديتُ فريضة الحج جاءني أحد الحجاج وسألني بعض المال.فقال له جدي المرحوم الذي كان يرافقني: لماذا جئتَ للحج وليس معك زاد؟ قال: كان عندي مال كثير ولكنني أنفقته كله.فقال لــه جدي: كم كان عندك؟ قال: عندما خرجت من بومباي كان عندي خمس وثلاثون روبية، فرأيت أن الحج فرض عليّ.فكان هذا الشخص يرى أن خمسا وثلاثين روبية مبلغ كبير يوجب عليه الحج.بينما يوجد بين المسلمين من يملكون خمسة وثلاثين ألفا بل مئات الآلاف من الروبيات ومع ذلك لا يذهبون للحج.فإنك ترى بين الفقراء حجاجًا كثيرين، وتجد الواحد منهم يوفر المال قرشًا قرشًا طوال عمره، وعندما تجتمع عنده مئة روبية مثلاً يخرج للحج بهذا المال القليل الذي وفّره طيلة حياته؛ مع أن هذا المال هو كل ما ستعيش عليه زوجته وأولاده.فلو أنه اشترى به زوجًا من الثيران القوية لأعمال الزراعة أو قطعة من الأرض لعاشت زوجته وأولاده في سهولة ويسر.ولكنه لا يبالي بذلك، بل يأخذ كل ما عنده من المال قاصدا الحج.إذًا، فالحج أكبر حسنة للأثرياء، لأنهم أشد تقصيرا في أداء هذه الفريضة.ثم هناك كثير من الموظفين الذين يقولون سنذهب للحج بعد التقاعد.ولا يفكر هؤلاء أنه ليس هناك أي ضمان للحياة بعد التقاعد فقد رأينا مراراً أن بعض الناس يمرضون بعد التقاعد حتى لا يقدرون على الخروج للحج.ذلك لأن الحكومة إنما يقصد به حضرة المفسر له والدَ والدته الكريمة واسمه حضرة مير ناصر نواب (المترجم)
الجزء السادس ٤١ سورة الحج تحيل المرء إلى التقاعد بعد أن تكون قد امتصت كل طاقته وقوته معتبرة إياه غير صالح لأي عمل.ثم إن بعض رجال الأعمال يقولون بسبب عملهم سنذهب في السنة التالية، ثم لا يزالون يسوّفون كل سنة، مع أن أعمال الدنيا لا تنتهي أبدا.فأيها الإنسان، إذا كان الله تعالى قد آتاك الفرصة فعجل بالحج.حينما ذهبت إلى مصر للدراسة كنت نويت الحج أيضًا.ولكن لم يكن بنيتي أن أحج في تلك السنة نفسها، بل كنت أنوي الحج عند العودة من مصر.ولما وصلت إلى بومباي لحق بي جدي المرحوم الذي كان يريد الذهاب إلى الحج مباشرة، فقررت أنا الآخر أداء فريضة الحج مع جدي في تلك السنة نفسها.ولما بلغنا ميناء بورسعيد رأيت في الرؤيا أن المسيح الموعود الي جاء وقال لي: إذا كنت تنوي الحج فاركب السفينة غدًا لأنها هي السفينة الأخيرة.وكانت لا تزال أمامنا قبل الحج عشرة أو خمسة عشر يوما، ولم تكن المسافة بعيدة، فكان الظن الغالب أن سفنًا عديدة أخرى ستخرج بالحجاج من مصر إلى جدة.وكان برفقتي السيد عبد الحي العرب، وكان يصر على أن نذهب بسفينة أخرى لا التي تبحر غدًا.ولما كان المسيح الموعود الله قد قال لي في الرؤيا إنك إن كنت تريد الحج فاخرج على السفينة التي تذهب غدًا لأن السفن لن تذهب بعد ذلك، فصممت على الخروج على تلك السفينة، برغم أن بعض معارفنا المحليين أيضًا أشاروا علي قائلين: لا تزال هناك سفن عديدة ستذهب بالحجاج، فعليك أن تؤجل الخروج إلى الحج لتزور القاهرة والإسكندرية؛ إذ ليس من المناسب أن تعود بدون زيارة هذه الأماكن خاصة وقد جئت من مسافة بعيدة جدا.فقلت لهم إن المسيح الموعود ال قد أخبرني أنني إذا لم أخرج غدًا فهناك خطر فوات الحج، لذلك فلا بد أن أخرج غدًا.وبالفعل قد حصل خصام حاد بين شركة السفن وبين الحكومة، وكانت النتيجة أن السفينة التي خرجتُ عليها كانت هي السفينة الأخيرة، إذ لم ترسل الشركة بعدها أي سفينة أخرى بالحجاج في تلك السنة.
الجزء السادس ٤٢ سورة الحج فكثير من الناس يرغبون في الحج، ولكنهم لا يحققون رغبتهم في وقتها فيُحرمون حسنة كبيرة جدا.فكل من استطاع سبيلاً فليسرع لنيل شرف الحج إلى بيت الله الحرام.بيد أنه لا فائدة في الحج إذا لم يتم بتقوى الله وخشيته.عندما قمت بالحج وجدت في طريقنا إلى منى تاجراً شاباً منطقة من سورت الهندية وهو يتغنى هناك بأبيات غزلية فاحشة جدًّا باللغة الأردية بدلاً من أن يذكر الله تعالى.وتصادف أن رجع هو بنفس السفينة التي كنت ركبتها عند عودتي من الحج.وذات يوم سنحت لي الفرصة فقلتُ له: هلا أخبرتني لماذا جئت للحج؟ فقد رأيتك لا تذكر الله تعالى حتى عندما كنت تذهب إلى من.فقال: الواقع أن الناس عندنا يشترون حاجاتهم من محلات التجار الحجاج أكثر من غيرهم.وهناك محل قريب من محلنا، فقام صاحبه بالحج وعلق على محله لافتة تقول إنه محل فلان الحاج، فبدأ زبائننا أيضا يشترون من محله فقال لي والدي لم لا تذهب أنت للحج حتى نعلق على محلنا أيضا مثل هذه اللافتة.هل يمكن أن يثاب هذا الشخص على الحج يا ترى؟ كلا، بل سيجعله حجه من الآثمين حتما، بدلاً من أن يجلب له أي ثواب.إذًا، فعلى المرء أن يأخذ في الحسبان في جميع أعماله أنه لن يعمل أي عمل مهما كان صالحًا، إلا لابتغاء مرضاة الله تعالى وإلا فستدفعه تلك الحسنة نفسها إلى الهلاك والعذاب.لا شك أن الحج حسنة كبيرة، ولكن المرء إذا ذهب للحج ليزداد عزة بين الناس، أو ليدعى حاجا، أو إذا أدى الحج تقليدًا فحسب، فإنه سيرجع من الحج وقد فقد ما عنده من الإيمان.كان سيدنا المسيح الموعود - عليه الصلاة والسلام - يحكي لنا قصة بأن – عجوزا عمياء كانت جالسة على المحطة في أيام الشتاء تنتظر القطار.لم تكن عندها ثياب دافئة إلا رداء كانت تريد أن تلتف به عندما يتحرك القطار اتقاء الهواء البارد.وكانت قد وضعت الرداء بجنبها وكانت تتلمسه من حين لآخر.فمر بها شخص فكر أنها عمياء والظلام دامس، فلو سرق رداءها لن تفطن به هي ولا الناس.فاختلس رادءها.ولما كانت العجوز تتلمس الرداء من حين لآخر، علمت أن
الجزء السادس ٤٣ سورة الحج رداءها قد سُرق.فأخذت تصرخ بأعلى صوتها : أيها الأخ الحاج، آتني ردائي.فإني امرأة فقيرة عمياء، وليس عندي ثوب آخر.فعاد المرء بسرعة وناولها الرداء وقال لها بلطف: كيف عرفت أنني حاج؟ قالت: يا بني لا يقوم بمثل هذه الأعمال إلا الحجاج.إنني عمياء وفقيرة، ثم إنني وحيدة، والطقس بارد، ومن المستحيل أن يجرؤ سارق عادي على سرقة ردائي في مثل هذه الحالة.إنه عمل لا يقوم به إلا أحد الحجاج.خلاصة القول أن الحج إنما ينفع صاحبه إذا قام بهذه الفريضة بقلب عامر بخشية الله وحبّه وإخلاصه.فإذا ذهب إلى الحج بقلب مخلص رجع بجبال من الإيمان، أما إذا خرج للحج بغير إخلاص فقد ما عنده من الإيمان أيضًا.والجدير بالذكر هنا أن الله تعالى قد وصف بيته البيت العتيق، وذلك إشارة إلى أن إبراهيم ال ليس هو الذي بنى بيت الله هذا، بل قد بني هذا البيت قبله، إنما قام إبراهيم مع إسماعيل بتعميره ثانية متتبعا آثاره السابقة.فإن إبراهيم العلي عندما ترك هاجر وإسماعيل دعا بالكلمات التالية ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) (إبراهيم: (۳۸)..وفي هذا دليل على أن بيت كان قد بني قبل زمن إبراهيم العل.وقد أشار الله إلى هذا المعنى أيضًا في قوله تعالى إِنْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بَبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمينَ ) (آل عمران: ٩٧)..أي أن أول بيت بني لنفع الناس روحانيا ولحماية إيمانهم إنما هو ذلك الذي بمكة.لقد جمعت فيه للناس جميع البركات وكل سبب للفضل والرحمة.لقد كان قوله تعالى (وُضِعَ لِلنَّاسِ) نبأ بأنه من خلال هذا البيت سيتم جمع الناس المتفرقين..أي أن هذا البيت سيكون ذا صلة بدين عالمى وأنه سيكون سببًا في توحيد العالم كله.وبالفعل قد جمع الله تعالى بواسطة محمد رسول الله ﷺ شتى شعوب العالم على يد واحدة، وهكذا صارت الكعبة وسيلة لجمع الناس كلهم.
الجزء السادس ٤٤ ويُطلق سورة الحج وكان إشعياء النبي أيضا قد تنبأ بذلك حيث ورد هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل......."أنا قد أنهضته بالنصر ، وكُلَّ طُرقه أسهلُ؛ هو يبني مدينتي، لا بثمن ولا بهدية، قال رب الجنود: هكذا قال الرب: تَعَبُ مصر، ، وتجارة والسبئيون ذوو القامة إليك يعبرون ولك يكونون خلفك يمشون.بالقيود يمرون، ولك يسجدون إليك يتضرعون قائلين: فيك وحدك الله وليس آخر، ليس إله".(إشعياء ٤٥: ١٣-١٤) إن أول ما تؤكده هذه النبوءة هو أنه سيبني مدينة الله تعالى.والواقع أن بلد الله الحرام هو المدينة الوحيدة في العالم كله التي يمكن أن تسمى مدينة الله حقا.ثم تخبر النبوءة أن باني تلك المدينة..أي من يقيم عظمتها في العالم..سيفك رقاب سبيبي بلا أجرة.وبالفعل قد أطلق محمد رسول الله ﷺ سراح الأسرى عند فتح مكة بكلمة واحدة وبدون أي خراج أو غرامة حيث قال: "لا تثريب عليكم اليوم".وكذلك قال ل للأسرى الروحانيين لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا )) (الأنعام: ٩١).ثم إن محمدا رسول الله ﷺ هو الذي جاءته ثروة مصر وأرباح كوش وأناس طوال القامة من سبأ.والمسيح الا هو الوحيد من بين الأنبياء السابقين الذي يدعي أتباعه أنه ربما كان مصداقا لهذه النبوءة، ولكن الواقع أنه لم توجد في المسيح ال أي علامة من العلامات المذكورة في هذه النبوءة.لا جرم أن مصر ظلت تحت سيطرة الرومــان المسيحيين لفترة من الزمن، ولكن أرباح تجارة كوش لم تصلهم.لقد حاول الكتاب المسيحيون جاهدين أن يثبتوا أن الحبشة هـي كـــوش ) The Dictionary of the "Bible, p.122-123: "cush) ولكن التحقيق الجديد يؤكد أن كوش المذكورة في العلية سفر إشعياء إنما هي تلك المنطقة الواقعة بين إيلام وميديا.وإيلام ورد في النسخة الأردية مكان ذلك ما تعريبه: "أنا قد بعثته بالصدق".(المترجم) ورد في النسخة الأردية مكان ذلك ما تعريبه: "ثراء مصر".(المترجم)
الجزء السادس ٤٥ سورة الحج شواطئ خليج فارس حتى دجلة، وأما ميديا فهي الأرض الواقعة جنوبي بحر قزوين (Encyclopedia Biblica V.1 p.967: CUSH)، وأرباح تجارة هذه المناطق لم تصل إلى المسيحيين أبدًا..بمعنى أن أهلها لم تعتنق المسيحية أبدا.كذلك لم يذهب أصحاب القامات الطويلة من سبأ للسجود إلى الأماكن المقدسة لدى المسيحيين.ولو ذهب هؤلاء لعدّوا مؤيدين للثالوث، في حين أن إشعياء النبي يخبر أن الذين تنطبق عليهم هذه النبوءة سيجتمعون في تلك المدينة لعبادة الإله الواحد وسيدخلونها شاهدين الله الله أن لا إله إلا هو.أما الإسلام فقد توافرت فيه هذه العلامات كلها، حيث إن الذين يؤمنون بأن الكعبة هي بيت يوجدون في مصر وفي بلاد اليمن التي تقع فيها "سبأ"، كما يوجدون في كوش أيضا.ويخرج كل سنة مئات الآلاف من أهل هذه المناطق قاصدين تلك المدينة التي فيها بيت الله، فيدخلون ذلك البيت الذي يسمى بين شاهدين : لبيك اللهم لبيك.لا شريك لك لبيك.إذا، فهذه النبوءة أيضا تتضمن الإشارة إلى توجه الخلائق إلى مكة المكرمة، وقد تحققت هذه النبوءة على يد محمد رسول الله ﷺ.وتأكيدا لهذه الصلة نفسها قد أمرنا الله بالتوجه إلى بيته خلال الصلاة.قصارى القول، إن بيت الله مكان جد قديم، والتاريخ شاهد على ذلك.فقد كتب السير وليام موير في كتابه "حياة محمد": لا مناص لنا من إرجاع المبادئ الهامة لدين مكة إلى زمن عتيق جدا.وبرغم أن المؤرخ اليوناني الشهير هيرودتس (Herodotus) لم يذكر الكعبة باسمها، إلا أنه يذكر من بين آلهة العرب الكبيرة إلها باسم "إلالات" - أي إله الآلهة؛ مما يدل على أنه كان يُعبَد في مكة كائن كان إله الآلهة الكبيرة باعتقاد الناس." ( 14.The Life of MAHOMET: Introduction P) ويضيف فيقول: "وكتب المؤرخ دايودورس سکولس (Diodorus Siculus) أيضا وقد كان زمنه قبل التقويم المسيحي بخمسين سنة أنه يوجد في الجزء المحاذي لشواطئ البحر الأحمر من الجزيرة العربية معبد يعظمه العرب تعظيمًا كبيرًا.(المرجع السابق) -
الجزء السادس ٤٦ سورة الحج ويقول أيضًا: متى بني هذا المعبد، فهذا لا يتضح من التواريخ القديمة..أي أنه معبد قديم لدرجة أن وجوده مذكور في التواريخ القديمة ولكن بداية بنائه غير معروفة.وهذا بالضبط هو مفهوم قوله تعالى البيت العتيق، ولكن بكلمات أخرى.ثم يكتب: يتضح من بعض التواريخ أن العمالقة أعادوا بناء هذا البيت، وظل عندهم لفترة من الزمن.وتخبرنا التوراة أن العمالقة هلكوا في زمن موسى (الخروج ١٧: ٨-١٦، والعدد ٢٤ : ٢٠).وهذا يعني أن العمالقة ظلوا مسيطرين على هذا البيت قبل موسى ال بزمن طويل، وأنهم لم يكونوا من بناته، بل كان قد بني قبلهم أيضًا، وأنهم أعادوا بناءه إيمانًا بحرمته.العلية إذًا، فكون بيت الله البيت العتيق حقيقة ثابتة من الناحية التاريخية أيضًا.وأرى لزاما علي بهذه المناسبة، ذكر كشف لحضرة محيي الدين ابن عربي - رحمه الله – قد سجله في كتابه "الفتوحات المكية".يقول حضرته: "ولقد أراني الحقُّ تعالى فيما يراه النائم وأنا طائف بالكعبة مع قوم من الناس لا الآخر، أعرفهم بوجوههم، فأنشدونا بيتين ثبت على البيت الواحد ومضى عني فكان الذي ثبت عليه من ذلك: لقد طفنا كما طفتم سنينا بهذا البيت طرا أجمعينا..فتعجبتُ من ذلك.فقال لي واحد منهم وتسمّى لي باسم لا أعرف ذلك الاسم، ثم قال لي: أنا من أجدادك.قلت له: كم لك منذ مت؟ فقال لي: بضع وأربعون ألف سنة.فقلت : فما لآدم هذا القدر من السنين؟ فقال لي: عن أي آدم تقول؟ عن هذا الأقرب إليك أو عن غيره؟ فتذكرتُ حديثا عن رسول الله : إن الله خلق مئة ألف آدم.فقلتُ: قد يكون ذلك الجد الذي نسبني إليه من أولئك." (الفتوحات المكية مجلد ۳ رقم الباب ٣٩٠ ص ٥٤٩) إن هذا الكشف لحضرة محيي الدين ابن عربي - رحمه الله – أيضًا يؤكد أن بيت الله الحرام قد ظل مركزا للعالم وسببًا لهداية الناس منذ عصر عتيق.كما يؤكد أيضًا أن الدنيا موجودة من مئات الآلاف من السنين، حيث لم يزل الناس يطوفون
الجزء السادس ٤٧ سورة الحج بهذا البيت الحرام منذ آلاف السنين كما نطوف به اليوم وهذه هي الحقيقة التي بينها القرآن الكريم في قوله البيت العتيق، أي أنه البيت الذي ظل مهبطا لأنوار وتجلياته منذ القديم، وسيظل سببًا لاتحاد العالم على مركز واحد إلى يوم القيامة.الله قالے ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَمُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَنِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ النُّورِ ) شرح الكلمات : ) الرجس: القذَرُ ؛ المأْثَمُ؛ العملُ المؤدّي إلى العذاب؛ العقاب؛ الغضب (الأقرب).الأوثان : جمع الوثن أي الصنم (الأقرب).الزور: الكذبُ الشّرك بالله الباطل (الأقرب).التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا أن الذي يعظم أوامر الله ينال عند ربه درجات..أي أن السبيل لنيل العزة عند الله تعالى إنما هو أن يعظم المرء كل ما أمر الله تعالى بتعظيمه في ذلك الزمن.ثم يبين تعالى أن من الأنعام ما قد أُحلّت لكم، أما التي تُقدَّم قربانًا من أجل الأصنام فهي محرمة عليكم.فعليكم باجتنابها وأيضًا باجتناب الكذب..أي أن تقديم قرابين الأنعام على سبيل الشرك أيضا نوع من الكذب.ثم قال تعالى ولا تشركوا، لأن الكعبة إنما أُسست لتوحيد شعوب العالم كلها وإقامة دين واحد، ولا يمكن جمع الشعوب كلها إلا على عقيدة التوحيد.والحق أنه لمن المستحيل أن يتخلص العقل الإنساني من شتى أنواع التشويش والاضطراب بدون التوحيد حيث تؤكد الوقائع أن منكري ذات البارئ تعالى ظلوا في دوامة التشويش والقلق دائما، ولم يتيسر لهم الأمن الحقيقي والسكينة
ΕΛ الجزء السادس سورة الحج الحقيقية.لما ظهر الإنسان على مسرح العالم بدت له الشمس كطبق من الذهب، وبدا له القمر كقرص لامع وتراءت لـه النجوم بعضها بحجم الحبات وبعضها بحجم النبق وبعضها بحجم الجوز وبعضها بحجم التفاح.فظن أن الأعشاب والأشجار الموجودة على الأرض أكبر من الشمس والقمر والنجوم.لقد حيّره هذا القرص الصغير الذي يطلع على بعد مئات الأميال حيث لا تصل إليه أيديه ولو صعد الجبال فيضيء الدنيا كلها.ثم حيره طبق أبيض صغير آخر يظهر بالليل وينور العالم كله.كما استغرب من مئات الآلاف من النجوم المتلألئة المنتشرة في الجو وتبهر عينه بلمعانها وتقدم لبصره منظرًا خلابًا، ثم تغيب إذا طلع النهار.لقد كانت أمورًا مذهلة له، ولولا أن يد الله تعالى أخذته ودلّته على الصراط المستقيم منذ البداية لظل محتارًا مذهولاً.فنحن أيضا نرى أن أهل البيت إذا سمعوا صوتًا مُريبا خفيفًا أخذوا في البحث والتجسس.فيقول أحدهم: هناك سحلية، ويقول الآخر: هذا فأر، ويقول الثالث: هذا سارق.وهذا يعني أن صوتًا بسيطا يجمح بخيال المرء من السحلية إلى السارق.ومن أجل ذلك قال المسيح العل أيضًا في الإنجيل أن المسيح الآتي سينزل كالسارق حيث قال الحوارييه: "اسهروا إذًا، لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم.واعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق لسهر ولم يدَعْ بيتَه يُنقَب.لذلك كونوا أنتم أيضا مستعدين لأنه في ساعة لا تظنون يأتي ابن "الإنسان متى ٢٤ ٤٢-٤٤).وهذه النبوءة تعني مجيء المسيح ستنتاب الناس ريبة وخوف، فيسمونه سارقا، ولكنه يكون نبيا صادقًا عند من الله تعالى.أنه عند فما أؤكد عليه هنا هو أنه ما دام الصوت البسيط أيضا أنه ما دام الصوت البسيط أيضًا يزعج المرء لهذه الدرجة فكم بالحري أن يصاب الإنسان الأول بالدهشة والحيرة عند رؤية هذه المناظر الخلابة.ولكن بمجرد أن بلغ الإنسان مرحلة الشعور همس الله تعالى في أذنه وقال: إني لك، وأن كل ما تراه هو مما خلقتُه بيدي كما خلقتُك أنت، وأنك ستموت يوما لتحضر عندي، وأن كل هذه الأشياء، سواء القريبة منها والبعيدة، إنما خلقتها وسخرتها كلها لفائدتك وخدمتك.لا شك أن هذا الصوت قد نجاه من كثير من
الجزء السادس ٤٩ سورة الحج المشاكل والمخاوف بإمكاننا أن نتصور كم كانت مصائب الإنسان الأول..أي آدم..شديدةً وكثيرة لو لم يسمع هذا الصوت الرباني عند بلوغه مرحلة الشعور؟ فبمجرد طلوع الشمس كانت معاناته تبدأ حيث كان يتطلع إلى معرفة كنهها.وبمجرد أن يخيم الليل أحاطت به مشكلة أخرى حيث كان تواقا ليعرف حقيقة القمر.كما كان يريد أن يعرف ما هي علاقة هذه الأشياء به، وما إذا كانت قادرة على أن تنفعه أو تضره أو تحزنه أو تسره أم لا؟ إننا نرى أن الذين لم ينتفعوا من هذا الصوت الإلهي لا يزالون حتى اليوم في دوامة تلك الحيرة والتشويش.فجميع الشعوب التي تعبد الأصنام لا تزال في تلك المشاكل ذاتها.فمنهم من يظن أن بعض الأرواح تتحكم في الشمس والقمر، وأنها تبدي سرورها أو سخطها للناس، فإذا قام أحد من المشركين بعمل لم يأت بنتيجة طيبة ظن أن عمله هذا لم يُعجب الأرواحَ المسيطرة على القمر مثلاً، وإذا قام أحد منهم بعمل أتى بنتيجة مرضية ظن أن عمله قد أعجب الروح المسيطرة على الشمس مثلاً.أما آدم، فكم كان يتمتع بالسكينة وبشاشة القلب، لأن الله تعالى كان أخبره أن هذه الأشياء كلها مسخرة له من قبله تعالى وعاملة على خدمته، فلا داعي لأن يشق على نفسه بحثا عما يجنبه سخط الشمس أو القمر، أو عما يرضيهما.كان آدم الموحد الواصل بالله تعالى يعبده تعالى في مأمن من كل هذه الهموم والمخاوف.لو انحصر بحث المرء في أن الشمس شيء مادي، وعليه أن يعرف ما في أشعتها من منافع، فهو بحث علمي، ولا داعي للقلق بهذا الشأن؛ ولكنه إذا اعتبر هذه الأشياء آلهة ظنًا منه أن لها صلة بموته وحياته وأن لها تأثيرا على راحة أهله وأولاده، فلا بد أن يخالجه القلق ليل نهار، فيقول في نفسه لعل هذه الأشياء ستصيبني بضرر، فما السبيل لاسترضائها؟ وبالجملة، فإن حياة المشرك كلها تصبح صورة مجسدة للقلق والحيرة والاضطراب النفسي دون أن يجد منفذا من مصائبه.فيسجد لصنم تارة، ويخر أمام صنم آخر تارة أخرى.ويخاف سخط ذاك مرة ويحذر غضب هذا مرة أخرى.ويخاف النجوم حينًا، ويرتعد من الشمس والقمر حينا آخر، ويمتقع وجهه خوفا
الجزء السادس ۵۰ سورة الحج من الأصنام المنحوتة من الحجر التي لا حياة فيها.فلا يجد طمأنينة ولا سكينة في أي مرحلة من حياته.ولذلك قال الله تعالى هنا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان..أي إذا كنتم تريدون النجاة من القلاقل والاضطرابات النفسية فتجنَّبوا شرك عبادة الأوثان، وكونوا موحدين كاملين عندها لن يصيبكم قلق ولا اضطراب، وسترون أن الدنيا كلها مسخرة لخدمتكم.ثم يقول الله تعالى إن وصيتنا الثانية هي وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ النُّورِ، لأن الكذب أيضا مرض مدمر للروحانية.علمًا أن الشرك في حد ذاته كذب أكبر.ذلك لأن المشرك ينسب إلى هذه الأشياء طاقات وقدرات لم يهبها الله إياها ولا هو أهل لها، وهكذا فإن المشرك يتهافت على نجاسة الزور.والحق أن الصدق والسداد هو من أبرز علامات جماعات الأنبياء وهذه العلامة ذات أهمية قصوى، ولكن المؤسف أن كثيرا من الناس لا يقدرون الصدق والسداد حق قدره.وقد اشتد هذا المرض في العصر الحاضر خاصة، لأنه زمن المداهنة والنفاق، حيث يرى الناس اليوم أن التحضر يعني يراعي المتكلم مشاعر المخاطَب لدرجة بحيث لا يتردد في إخفاء الحق إذا اقتضى الأمر.ولكن على المرء محاربة هذه السيئة بكل ما أوتي من قوة ولا يألو جهدا في القضاء عليها، على الرغم من هذا التيار المعاصر، ذلك لأن الكاذب يحاول خداع الناس، والخداع يضر القوم.إذا، فالكاذب ليس محرمًا أخلاقيا فحسب، بل إنه عدو للإنسانية ويهلك الناس.والقضاء على هذا العيب واجب على كل مسلم صادق مخلص قال النبي الله إن من علامات المنافق أنه إذا حدث كذب (البخاري: كتاب الإيمان باب علامة المنافق).وقال الله تعالى في القرآن الكريم إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (النساء:١٤٦).وهذا يعني أن الله تعالى سيعامل المنافقين بأسوأ مما يعامل به الكافرين، ذلك لأن الكافر لا يضر إلا نفسه، أما المنافق فيتضرر به المسلمون أيضًا.إن الأمة التي لا تقدر على محو الكذب من أفرادها، ومع ذلك تظن أنها ستحرز الرقى والرفعة فظنها باطل.ومثلها كمثل طفل يظن أنه سيصل إلى القمر أو الكواكب الأخرى فكما أن أمنية الطفل للوصول إلى القمر أو النجوم الأخرى لا تتحقق، كذلك من المستحيل أن تفلح أمة بين أن
الجزء السادس ۵۱ سورة الحج يوجد فيها الكذب.لقد كان النبي ﷺ صادق القول لدرجة أن أعداءه أيضًا اعترفوا بأنه يتبوأ مرتبة عالية من الصدق والسداد لما نزل عليه الوحي بأن يدعو الناس إلى الهدى صعد جبل الصفا وأخذ ينادي أهل مكة.فلما حضر الجميع قال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصدقي؟ قالوا؟ نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.(البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء، وتفسير روح المعاني: سورة المسد).ذلك برغم أنه كان من المستحيل أن يكون وراء ذلك الجبل جيش كبير ولا يشعروا بوجوده.كذلك لما دعا قيصر الرومي أبا سفيان في بلاطه وسأله عن محمد رسول الله ﷺ قال: هل نكث محمد وأصحابه عهدًا عقدوه معكم ؟ قال أبو سفيان: لم نر منه غدرًا من قبل، إلا أننا الآن في معاهدة صلح ولا ندري ما هو فاعل فيها؟ فقال له قيصر : دَعْك من الحديث عن المستقبل.ما دام محمد ( لم يغدر بكم في الماضي، فهو دليل على أنه لن يغدر بكم في المستقبل أيضًا (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي).معه ت الله فترى أنه حتى ألد أعداء النبي الله لم يقدروا قط أن يتهموه بالكذب في قوله أو الغدر في عهده وهم في حرب معه.وهذا ما جعل أهل كل بلد دخل فيه المسلمون مشغوفين بحبهم متأثرين بأخلاقهم الفاضلة حتى أكرموهم أكثر مما أكرموا زعماء قومهم ودينهم ودعوا لسلامتهم ورد في التاريخ أن المسلمين لما فتحوا مدينة حمص التي كانت تحت حكم الروم، أحسوا بعد فترة بخطر الهجوم من قبل العدو ثانية، فارتأوا إخلاء حمص.فدعوا أهلها النصارى وقالوا لهم: لقد أخذنا منكم الجزية شريطة أن نقوم بحماية أنفسكم وأموالكم ولكنا قد أصبحنا في موقف حساس حرج، ولا نقدر على حمايتكم، فخذوا ما أخذنا منكم من الجزية، فردّوا للنصارى أموالاً بلغت الآلاف.فكان لهذا النموذج الحسن تأثير عميق في قلوب النصارى لدرجة أنه لما غادر الجيش المسلم مدينتهم خرجوا معه باكين داعين الله تعالى أن يعود بالمسلمين إليهم.ثانية كما أن اليهود أيضا قالوا للمسلمين بكل
الجزء السادس ۵۲ سورة الحج حماس حالفين بالتوراة: لن يدخل قيصر مدينة حمص ما دمنا أحياء (فتوح البلدان للبلاذري : أمرُ حمص ويوم اليرموك ص ١٣٦-١٣٧ و١٤٣) إذا، فالصدق أمر يستحيل بدونه أن يكون لقوم رعب وهيبة.إن الذين يتحلون بالصدق والسداد يتسببون في انتشار صيت قومهم في العالم، أما الذين لا يقدمون هذا النموذج الحسن فإنهم في الواقع يقضون على قومهم.で حُدَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَحْطَهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ شرح الكلمات : سحيق السحيق المكان البعيد (الأقرب).۳۲ التفسير: أي أن مثل الشرك، إزاء التوحيد، كمثل أن يلقي المرء نفسه من مكان عال جدا فيتمزق، فتفرق الريح أشلاءه بعيدًا.ذلك لأن المشرك يختار لنفسه عدة أسياد، ولكل سيد منهم حق على لحمه.وليكن معلوما أن الشرك ليس أمرًا بسيطًا كما يُظن عادة، بل هو قضية دقيقة معقدة للغاية، ولذلك نجد معظم الأمم التي تخالف الشرك في الظاهر تقع فيه عمليًّا؛ وليس ذلك إلا لأنهم فشلوا في معرفة حقيقة الشرك.والحق أنه ليس للشرك تعريف واحد محدد، بل يمكن استيعاب هذا المرض من زوايا مختلفة.وسيبقى الشرك قضية معقدة لا تقبل الحل طالما يسعون لتحديده في تعريف واحد.وينقسم الشرك، عندي، إلى الأقسام التالية: الأول: الاعتقاد بوجود كائنات عديدة ذوات قوى متساوية، كل واحد منها يحكم العالم ويسوده.وهذا ما يسمى الشرك في ذات البارئ تعالى.
الجزء السادس ٥٣ سورة الحج والثاني: الاعتقاد بأن في الكون كائنات عديدة تدير العالم، وأنها تتقاسم فيما بينها شتى الصفات والكمالات، فبعضها تتمتع بصفة وغيرها بصفة أخرى.وهذا النوع أيضًا يندرج في الشرك في ذات البارئ تعالى.الثالث: تعبر مختلف الأمم عن التواضع والتذلل بأعمال شتى، وإن القيام بأي عمل دال على منتهى التذلل أمام غير الله تعالى شرك.فالسجود، مثلاً، تعبير عن غاية التعظيم والتذلل، فلا يجوز السجود لغير الله تعالى.بيد أن هناك حركات بدنية أخرى تقوم بها شعوب شتى تعبيرًا عن منتهى التذل والتواضع؛ مثل ربط الأيدي بعضها على بعض عند الوقوف أمام الآخر ، أو الركوع أمامه وما إلى ذلك، وقد تعالى هذه الحركات في الصلاة وجعلها جزءا منها، فلا يجوز الآن القيام جمع الله بهذه الحركات لغير الله تعالى.الرابع: ظن المرء أن أسبابه المادية ستسدّ حاجاته كلها بحيث ينصرف تفكيره عن قدرة الله وتصرفه في سد حاجاته، حتى يعتمد على الأسباب الظاهرة فحسب.هذا أيضا نوع من الشرك.أما إذا فكر أن الله تعالى قد أودع هذه الأسباب قوى وتأثيرات شتى، وستأتي بالنتائج المرجوة بأمر الله تعالى، فهذا ليس من الشرك في شيء.الخامس: إشراك غير الله في صفاته التي ما أعطاها للعباد بل خص نفسه بها كإحياء الموتى وخلق الأشياء وكونه تعالى أزليا وغير فان.فإلغاء خصوصية الله هذه الأمور وإشراك غيره فيها شركٌ، حتى وإن ظن أحد أن الله تعالى نفسه وبإرادته فلانًا هذه الصفات الخاصة به أو بعضا منها.ومشيئته قد منح = السادس: غض المرء الطرف عما خلقه الله تعالى من أسباب، فيعتقد أن فلانًا من الناس أو الأشياء قد أنجز عملاً كذا بطاقته الذاتية الخاصة به بدون أن يستعمل ما خلق الله تعالى من أسباب لإنجاز ذلك العمل.فمثلاً قد خلق الله تعالى النار للإحراق، فلو ظن أحد أن فلانًا قد أشعل النار بطاقته الذاتية بدون اللجوء إلى الأسباب والقوانين الطبيعية التي خلقها الله تعالى لذلك، فهذا شرك.غير أن
الجزء السادس ٥٤ سورة الحج المسمرية أو التنويم المغناطيسي (Mesmerism) وغيرها من الممارسات لا تندرج تحت هذا الباب لأنها مشمولة في القوانين الطبيعية التي خلقها الله تعالى، وليست من الكمالات الذاتية لأحد.السابع: الاعتقاد أن الله تعالى يحبّ عبدًا من عباده لدرجة أنه يقبل منه كل ما يقوله، لأن هذا الاعتقاد يعني أن ذلك العبد يتمتع بقوى إلهية.مع أن الله تعالى لم يعط الثامن: اعتقاد المرء أن كائنًا ما سينجز له عملاً معينًا، ذلك الكائن في قانونه الطبيعي أي قدرة على إنجاز ذلك العمل.فمثلاً، إن الله تعالى أنه هو "السميع"..أي أنه يستمع لدعاء عباده بشكل كامل ويسد حاجاتهم..بمعنى لا يحول دون ذلك الوقتُ ولا المسافة.ولكن أحدًا لو أخذ يزور قبور الموتى ويسألهم حاجاته، بدلاً من أن يدعو الله تعالى لذلك، فإنه يشرك بالله تعالى، إذ أشرك الموتى في صفة الله السميع"، مع أن القرآن الكريم يرفض ذلك صراحة في قول الله تعالى لَّذينَ يَدْعُونَ منْ دُون الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ.أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ (النحل: ٢١-٢٢)..أي أن الآلهة الباطلة التي يدعوها الناس من دون الله تعالى لتنصرهم، لا تقدر على أن تخلق شيئا، بل إنها نفسها مخلوقة وكلها أموات غير أحياء ولا تعلم متى تبعث ثانية.علما أن الله تعالى قد فند هنا زعم المشركين أن آلهتهم أيضا تعلم بذات الصدور، معلنًا أن ادعاءهم هذا باطل كلية، لأن الخالق يكون على علم بما في أن مخلوقه من طاقات وحاجات، ولكن الذين يدعونهم مخلوقون بأنفسهم، فأنى لهم يعلموا ما في صدور من يدعونهم.ثم إنهم أموات غير أحياء، فأني لهم أن ينصروهم.إنهم لا يعرفون حتى وقت بعثتهم ثانية..أي أن مصيرهم هو الآخر ليس في أيديهم بل في أيدي غيرهم.فالذي يزور قبر أحد الموتى، والحال هذه، ويسأله حاجته، فإنه يرتكب الشرك حتمًا.كذلك من الشرك أن يعرض أحد حاجاته على الأنهار أو البحار أو الشمس أو القمر أو غيرها، ويدعوها لنصرته.
الجزء السادس ٥٥ سورة الحج التاسع: القيام - من دون ضرورة طبيعية - بأعمال هي بقية من آثار التقاليد الوثنية وإن لم تكن تشبه الأعمال الوثنية في هذه الأيام، كأن يضع المرء على ضريح مصباحًا مضيئًا، سواء طلب من صاحب القبر حاجته أم لم يطلبها، أو اعتقده إلها أم لم يعتقد.إن هذا العمل أيضًا يُعتبر شركا ووثنية لأنه بقية من الأعمال الوثنية في كان القدامى يعتقدون أن الموتى يرجعون إلى قبورهم ويساعدون من يعظم قبورهم، وينجزون له الأعمال، ومن أجل ذلك كان الناس يضعون على قبور الموتى المصابيح أو الأزهار وغيرها.وبما أن إحياء تلك الأعمال الوثنية يماثل تأييدًا للشرك فقد اعتبر هذا العمل أيضا من الشرك والوثنية.كذلك يندرج في الشرك أيضًا تعليق الحبال والخرق على الأشجار أو تغليف الماضي.الأضرحة بالثياب وممارسة أعمال السحر والشعوذة وما شابه ذلك.أما قولي "بدون ضرورة طبيعية ، فأقصد به أن أحدًا لو كان مسافرًا وأتاه الليل، فاضطر للمبيت في مقبرة، فليس عليه أن يبيت هناك في الظلام، بل لا بأس أن يشعل سراجًا أو مصباحًا ليبيت في الضوء.العاشر: والنوع العاشر من الشرك هو أن يكنّ المرء تجاه أحد من البشر مشاعر الحب والتعظيم والخوف والرجاء أكثر مما يكنه لله تعالى أو مثله، وإن لم يقم بأي عمل وثني آخر تجاهه.إنما الموحد الكامل من يتجنب أنواع الشرك هذه كلها، ويؤمن بوحدانية الله تعالى بصدق القلب.والحق أن الشرك يجعل رؤية المرء ضيقة جدا، ويثبط همته، ويجعل غايته محدودة جدا.يظن المشرك أن وصاله إلى الله تعالى مباشرة مستحيل، وأنه بحاجة إلى وسيط، مع أن الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده أي وسيط، بل ترك أبواب قربه مفتوحة للناس جميعًا، ليدخلها من شاء.لا شك أنه من المستحيل على ملك من ملوك الدنيا أن يكون على صلة مع كل فرد من رعاياه، ولكن قدرة الله لا تعرف الحدود، فهو قادر كل القدرة على أن يكون على صلة مباشرة بالجميع ويمتعهم بقربه.
الجزء السادس سورة الحج ذَالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَدَبِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَتَاعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ يَحِلُهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) شرح الكلمات: العتيق: القديم من كل شيء؛ الكريم من كل شيء؛ والخيار من كل شيء (الأقرب).التفسير: أي أن العمل بأحكام الله تعالى وتعظيم شعائره، وتعظيم أماكنه المقدسة، وإقامة حرمة آياته لا ينفع الله شيئًا، بل ينفع الإنسان نفسه، حيث يولّد الخير في قلبه، ويزيده ورعًا وتقوى.خذوا البُدْنَ مثلاً، فإنها تنفع أصحابها أولاً لفترة من الزمن قبل أن تصل إلى الكعبة المشرفة، حيث تُذبح هناك وتوزع لحومها لفائدة البشر أنفسهم، إذ لا تصل إلى الله تعالى لحومها ولا دماؤها، وإنما يصل إلى الله تعالى ذلك الإخلاص الذي كان وراء تقديم هذه الأضاحي.فالشيء المهم الإخلاص والإيمان الذي هو في قلب المرء، وهذا هو الشيء ذو القيمة والقدر عند الله تعالى.هو لقد بين الله تعالى بقوله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أَن تعظیم شعائره يندرج في تقوى القلب..أي لا بد للمرء، ليكون تقيا، من توقير آيات الله وتعظيمها لأنها تدل على وجوده تعالى الواقع أن الإسلام يقدم نظرية تقول إن أعمال الإنسان الظاهرة تؤثر على باطنه، كما أن باطنه يؤثر على ظاهره.فالذي يعظم الأماكن التي ظهر فيها جلال الله، أو يحترم الذين نزل عليهم كلام الله تعالى أو صاروا مهبطا لآياته ومعجزاته، إنما يعظمها نتيجة ما في قلبه من تقوى وخشيته، لذا فمن الطبيعي أن يؤثر صفاء قلبه على ظاهره، فيتحلى بالحسنات ظاهرا وباطنًا.الله هذه الآية، رغم قصرها، تبين فرائض الإنسان وواجباته أيما بيان، بحيث إن بوسع كل إنسان ذي عقل سليم أن يصحح كافة أعماله على ضوء هدي هذه
الجزء السادس ٥٧ سورة الحج الآية.إن سعادة المرء وخيره كله إنما هو في تعظيم شعائر الله واحترامها على الدوام، وإلا فإن إيمانه لا يمكن أن يسلم.وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنْ قالے بَهِيمَةِ الْأَنْعَمِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُحْبِتِينَ (۳) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّبِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَوَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُن قُونَ - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَهَا لَكُم مِّن شَعَتِهِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَ ج فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَ كَذَلِكَ سَخَّرْنَهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) شرح الكلمات : البدن: جمعُ البَدَنة.والبدنة : ناقة أو بقرة تُنحَر بمكة سُمِّيت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها (الأقرب).شعائر: جمع شعيرة، والشعيرة: العلامة (الأقرب).صواف جمع صافة والصافة من الإبل: الواضعة قوائمها صفا (الأقرب).وجَبَتْ وَجَبَ : سَقَط ومات.فالمراد من قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها أي أن تلك الأضاحي سقطت على جنوبها بعد النحر وخرجت أنفاسها (الأقرب).القانع: قنع الرجلُ: سأل وتَذلَّلَ (الأقرب).
الجزء السادس ۵۸ سورة الحج المعتر: الفقير؛ المتعرضُ للمعروف من غير أن يسأل (الأقرب)..أي الذي لا يسأل بلسانه بل بلسان حاله.التفسير: أي أننا قد سننا القرابين في كل قوم ليذكروا اسم الله على ما أعطاهم من المواشي، وذلك ليؤدوا الشكر له الله، ولو بلسانهم فقط، على هذه المنة العظيمة حيث خلق لهم الطعام والمطايا.أما الشكر الحقيقي فهو أن يقدموا نفوسهم في سبيل الله تعالى قربانًا كما خلق الله لهم هذه البهائم التي يذبحونها قربانا.فأيها المسلمون، عليكم أن تضحوا الله الأحد وتطيعوه ليقام في الدنيا مُلْكُ رب واحد.فالذين يعيشون أمامنا في تواضع وإنابة وترتعش قلوبهم بذكرنا، ويصبرون على المصائب، ويؤدون الصلاة جماعة، وينفقون أموالهم على الفقراء، فبشرهم، أيها الرسول، أنهم سائرون على طريق سيؤدي بهم إلى العز والشرف في الدنيا والآخرة.لقد لفت الله تعالى بقوله وَلكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهُ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَة الأَنْعَام النظر إلى أمرين: أولهما أن عادة القرابين موجودة في كل ديانة، وثانيهما أن الله تعالى إنما أمر بتقديم قربان الأنعام فقط ابتغاء مرضاته؛ فالقرابين البشرية التى تقدم في بعض الديانات إنما سببها انحراف الناس عن التعليم الحق، لأن الله تعالى لم يأمرهم إلا بتقديم قرابين الأنعام فقط.يتضح من دراسة التوراة أيضًا أنه كان هناك رواج للقرابين الإنسانية في القديم، وقد تسربت هذه العادة في بني إسرائيل زمن فسادهم، فأخذوا يضحون بأبنائهم وبناتهم قربانا إلى أصنامهم ورد في التوراة عن الملك آحاز أنه: " لم يعمل المستقيم في عيني الرب إلهه كداودَ أبيه، بل سار في طريق ملوك بني إسرائيل حتى إنه عبّر ابنه في النار حسب أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل." (الملوك الثاني ١٦: ٢-٣) بل ورد في مكان آخر من التوراة أنه لم يُلق في النار ابنا واحدا، بل عديدا من أبنائه حيث ورد: "وأحرق" بنيه في النار أخبار الأيام الثاني ٢٨: ٣) كما ورد عن بني إسرائيل أنهم في عهد الملك هُوشع "عبدوا العجل، وعبّروا بنيهم وبناتهم في النار، وعرفوا عرافة، وتفاءلوا." (الملوك الثاني ١٧: ١٦-١٧)
الجزء السادس ۵۹ سورة الحج وقد ورد عن منسى ابن حَزَقيا أنه "بنى مذابح لكل جند السماء في داري بيت الرب، وعبّر ابنه في النار." (الملوك الثاني ٢١: ٥-٦) علما أن هناك بعض الاختلاف بين ما ورد هنا في سفر "الملوك الثاني" وما ورد في سفر "أخبار الأيام الثاني"، حيث جاء في المرجع الأول أن منسى قدم ابنًا واحدًا 11 s کقربان في حين ورد في المرجع الآخر أنه "عبر بنيه في النار في وادي ابنِ هَنَّومَ.(أخبار الأيام الثاني ٣٣: ٦) وقد أشار داود الا إلى هذه السيئة فقال: "وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان، وأهرقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان، وتدنّست الأرضُ بالدماء." (المزامير ١٠٦: ٣٧-٣٨) وكانت عادة القرابين البشرية شائعة في عصر موسى العليا فجاء النهي الشديد عنها في شريعته حيث ورد: "متى دخلت الأرض التى يعطيك الرب إلهك لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم.لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو بنته في النار، ولا من يعرف عرافةً، ولا عائفٌ، ولا متفائل، ولا ،ساحر، ولا مَن يرقي رقيةً، ولا من يسأل جانا أو تابعة، ولا من يستشير الموتى، لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب." (التثنية ۱۸: ۹-۱۲) وورد في مكان آخر : ولا تُعط من زرعك للإجازة لمُولَكَ مُولَكَ هو اسم إله للكنعانيين لئلا تدنّس اسم إلهك." (اللاويين (۱۸: ۲۱) وكذلك جاء: "وكلّم الربُّ موسى قائلاً: وتقول لبني إسرائيل: كل إنسان من بني إسرائيل ومن الغرباء النازلين في إسرائيل أعطى من زرعه لمولك فإنه يُقتل.يرجُمه شعبُ الأرض بالحجارة وأجعَلُ أنا وجهى ضد ذلك الإنسان وأقطعه من شعبه، لأنه أعطى من زرعه لمولك لكى يُنَجِّس مقدسى ويدنس اسمى القدوس.وإن غمض شعبُ الأرض أعينهم عن ذلك الإنسان عندما يعطي من زرعه لمولك فلم يقتلوه فإني أضع وجهي ضد ذلك الإنسان وضد عشيرته، وأقطعه وجميع الفاجرين وراءه بالزنى وراء مُولَكَ من شعبهم." (اللاويين ٢٠: ١-٥)
٦٠ الجزء السادس سورة الحج وبرغم أن التوراة تندد بالقرابين البشرية من ناحية إلا أنها، من ناحية أخرى، تذكر أن الله تعالى أمر إبراهيم ال بذبح ابنه بالسكين.تقول التوراة إن الله تعالى أمر إبراهيم وقال: "خُذ ابنك وحيدَك الذي تحبه إسحاق، واذهب إلى أرض المُريَّا، وأصعده هناك مُحرَقةً على أحد الجبال الذي أقول لك.فبكر إبراهيم صباحًا، وشدَّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه، وشقق حطبًا لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله." (التكوين ٢٢: ١-٣) ثم ورد: "بني هناك إبراهيم المذبح، ورتب الحطب، وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب.ثم مدَّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه، فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم فقال: هأنذا؟ فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمتُ أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي.فرفع إبراهيمُ عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكًا في الغابة بقرنيه.فذهب إبراهيم وأخذ الكبش، وأصعَدَه مُحرقة عوضا عن ابنه."(التكوين ٢٢: ٩-١٣) فلو صح ما تذكره التوراة بأن الله تعالى أمر إبراهيم أولاً أن يذبح ابنه بالسكين، ثم نهاه عن ذلك لما أوشك على ذبحه لثبت أن الأمر الأول كان بدون جدوى.ذلك لأن الله تعالى إذا كان لا يريد من إبراهيم ذبح ابنه بهذا الطريق فلماذا أمره بذلك أصلاً؟ ثم لماذا قبل منه قربان الكبش فقط؟ فثبت أن ما تذكره التوراة غير مقبول عقلاً ومنطقا حيث يجعل حُكما من أحكام الله تعالى لغوا.أما ما يخبرنا القرآن الكريم بهذا الشأن فهو أن إبراهيم العلة رأى في المنام أنه يذبح ابنه (الصافات: ۱۰۳).وقد حقق هذه الرؤيا بترك ابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع، وهكذا ذبحه بيده عمليا.وهذا يعني أن التوراة تقدم قصة إبراهيم و و كأن قربان الإنسان كان هو الأصل، وأن قربان الحيوان قام مقام القربان البشري.ولكن الإسلام يعتبر قربان الحيوان هو الأصل، موضحًا أن قربان الحيوان كان هو الأصل الله تعالى في كل ديانة، وأما قربان الإنسان فقد راج في مختلف الأديان عند فسادها خلافا لمشيئة الله تعالى.من
الجزء السادس ٦١ سورة الحج وهنا ينشأ سؤال : إذا كان قربان الإنسان خلافا للمشيئة الإلهية فلم أرى الله تعالى إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه؟ والجواب أن تلك الرؤيا كان لها في الواقع تأويل كشفته الأحداث فيما بعد، وهذا التأويل هو أن إبراهيم سيترك ابنه إسماعيل بأمر الله تعالى يومًا ما في مكان وظروف يكون موته فيها أمرًا مؤكدًا بالنظر إلى ظاهر الأحوال، ولكن الله تعالى سيتقبل تضحيته هذه وسيهيئ لإسماعيل أسباب الحياة، وذلك لكي يتم على يده ثانية إعمار ذلك المعبد القديم الذي أراد الله أن يجعله معبده الأخير، ويجعل بيته في مكة هو بيته الأول والأخير كما أنه تعالى بنفسه هو الأول والآخر.إذًا، فالمسلمون لا يحتفلون بعيد الأضحى إحياءً لذكرى كبش ذبحه إبراهيم ال، بل إحياء لذكرى قربان إسماعيل الذي قدّم ليظل بيت الله عامراً.وأي شك في أن ترك إبراهيم ابنه في واد غير ذي زرع كان بمنزلة قتله بيديه، بل كان أكثر من ذلك في الحقيقة؛ ذلك لأن القتل المادي يزهق النفس في لمح البصر، أما في تلك الظروف فلولا فضل الله ورحمته لكان على إسماعيل أن يموت موتا بطيئا وهو يقاسي آلاما شديدة.فرؤيا إبراهيم الا لم تكن لترويج القربان البشري، وإنما أراد الله بها أن يعلّمنا تحمل المشقة والأذى لفائدة الإنسانية.إنما القربان أن التضحية الحقيقية إنما هي المقبول عند الله تعالى هو ذلك الذي فيه حياة الناس.الله وجدير بالذكر هنا أن قول الله تعالى ﴿وَلكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا قد ألقى الضوء على حقيقة القربان وفلسفته بأسلوب رائع لطيف جدا، حيث بين الله تعالى أن مجرد القربان ليس بشيء، بل إن مشاعر الإخلاص التي تكون وراء القربان هي التي لها قيمة عند الله تعالى.فلو ذبح المرء كبشًاً ضخماً ، بدون أن يبتغي به وجه ومرضاته، فلا يساوي قربانه عند الله مثقال ذرة.وقد أشار الله تعالى إلى هذا الأمر اللطيف باستعمال كلمة مَنْسَكًا التي تعني شِرْعَةُ النَسْك" (أي طريقة القربان)، ونَفْسُ النَّسك" (أي الذبيحة، وموضع تذبح فيه النسيكة".والنسيكة، وهي الذبيحة في العربية، مشتقة من النسك، يقال نسك الله : تَطوّع بقربة وذبح لوجهه
الجزء السادس ٦٢ الله سورة الحج (الأقرب)..أي قام بعمل حسن عن طواعية ورضى بدون أن يؤمر به أو بدون أن يكون هذا العمل من مسؤوليته وابتغاء لمرضاة الله تعالى.إذًا، فمن شروط النسيكة أولاً أن تتم برغبة المرء ورضاه وإرادته بدون أي جبر وإكراه، وثانيًا أن تتم خالصة.كما يقال : نسَك الثوبَ أي غسله بالماء فطهره".إذًا، فالله تعالى قد نبهنا بكلمة (مَنْسَكًا إلى الأمور التالية: الأول عليكم أن تقدموا الذبائح بطيب النفس وبشاشة القلب دائما، وليس كأن أحدًا يكرهكم عليها، إذ لا يحظى بالقبول عند الله تعالى إلا القربان الذي يُقدم عن رضى وطيب النفس.والثاني أنه لا يكفي بشاشة القلب فقط، بل الخطوة التالية أن تقدموا القرابين لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته والثالث أن تفحصوا زوايا نفوسكم جيدًا كي لا يكون قربانكم مشوبًا بشيء من أغراض الدنيا، وإلا فلن يحظى بالقبول عند الله تعالى.لقد علمنا الله تعالى من خلال هذه الكلمة الوجيزة كل هذه الدروس اللطيفة القيمة التي لو استفاد منها الإنسان لنال من قرابينه نتائج عظيمة.أما قوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُحْبَتِينَ ) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) فقد بين الله فيها أربع علامات للذين يُخبتون ويتواضعون عند الله تعالى، وهي كالآتي: الأولى: أنه إذا ذكر الله ترتجف قلوبهم خوفًا.الثانية: أنهم يتحملون الشدائد والمحن في سبيل الله تعالى بصبر وثبات.الثالثة: أنهم يقيمون الصلاة.الرابعة: أنهم ينفقون في سبيل الله تعالى جزءاً من كل ما رزقهم.مع العلم أن قوله تعالى (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لا يعني المال فحسب، فلا يظنن أحد أنه إذا من ماله في سبيله تعالى فقد أدى واجبه كلا بل إن الرزق هنا يشمل عينه أنفق وعقله وأذنه وأنفه ويديه ورجليه وكل عضو من كيانه أيضا.كما يشمل بيته، وكل ما يُنبته من المنتوجات الزراعية من حنطة وفجل وجزر وقصب سكر وما إلى ذلك.لا جرم أن المرء إذا أنفق من ماله اعتُبر من الذين يقدمون التضحية المالية،
الجزء السادس يسمى ٦٣ سورة الحج ولكن الشرع لا يأمرنا بالتضحية المالية فحسب، بل يوصينا الله تعالى بالإنفاق في سبيله من كل ما أعطانا.فلو تبرع المرء بكل ما يملكه من عقار، ولكن لم تساهم عينه أو يده أو رجله في خدمة عباد الله تعالى فلا يحق لـه القول إنه قد أدى واجبه حيث تبرع بكل عقاراته في سبيل الله تعالى كلا، إن قوله هذا يمكن أن منطقا ولكنه لن يسمى دينا.فلكي يحقق ما يقتضي منه الدين لا مناص لـه من تسخير كل عضو من كيانه في خدمة عباد الله تعالى.ورد في الحديث أنه حين يُعرض الناس كلهم على الله تعالى يوم القيامة، يقول لبعضهم: يا عبدي، كنتُ جائعًا فأطعمتني، وكنتُ عاريًا فكسوتني، وكنتُ مريضا فعدتني، فاذهب وادخل جنتي.فيقول العبد مستغربًا : سبحانك ربي كيف يمكن أن أطعمك أو أسقيك، أو أكسوك أو أعودك في مرضك؛ فإنك بريء من هذه النقائص كلها.فيقول الرب تعالى صحيح ما تقول، ولكن جاءك عبدي فلان حقير الشأن جائعا فأطعمته، فكأنك أطعمتني، وجاءك عبدي الفلان ،عطشان فسقيته، فكأنك سقيتني، وحين کسوت عاريًا فكأنك كسوتني، وحين عدت مريضا فكأنك عدتني، فتعال وادخل جنتي.(مسلم كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض) إذًا، فقد نبهنا الله تعالى بقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أَن على المؤمن أن يبذل من كل ما آتاه الله من قوى وقدرات لخير الإنسانية، ولا يفرح بأنه قد أنفق ماله أو صلى أو صام.ذات مرة دعا النبي ﷺ صحابته للإنفاق في سبيل الله تعالى، وجاء أحد فقراء المسلمين بحفنتين من الشعير فضحك منه المنافقون وقالوا انظروا إلى هؤلاء الذين يريدون فتح العالم بحفنتين من الشعير ! الحقُّ أنه لو كانت لهؤلاء المنافقين أعين يبصرون بها لعلموا أنهما ليستا حفنتی ،شعیر بل هما قطر تا دم سالتا من قلب يفيض نص الحديث: "عن ابن مسعود قال: لما أُمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني.عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء".(البخاري: كتاب التفسير قوله تعالى : والذين يلمزون المطوعين من المؤمنين...إلخ) (المترجم)
الجزء السادس سبيل الله ٦٤ سورة الحج بحب الإسلام، وعُرضتا على محمد رسول الله ﷺ.والحق أن الدنيا إنما تفتح بقطرات الدم وحدها لا بأسباب مادية.فمن علامات الإيمان الكامل أن تنفقوا في من كل ما تكسبون ومما تأكلون في بيوتكم ومما تلبسون ومما تنفقون، مسخرين كل ما أوتيتم من قوة وطاقة لخير الإنسانية وصالحها.ثم يقول الله تعالى ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ...أي أخبرهم يا محمد أننا قد جعلنا الذبائح من شعائر الله..أي أنها توصل صاحبها إلى الله، وتؤدي إلى خيره في الدنيا والآخرة.فعليكم أن تذكروا اسم الله في أيام القربان على هذه الذبائح وهي في صفوف لكي تنفع عباد الله تعالى.فإذا سقطت على جنوبها بعد الذبح فكلوا من لحومها وأطعموا الفقير الصابر والفقير المضطر.لقد خولناكم هذه الأموال لتنفقوها على الفقراء شكرا لله تعالى.لقد أكد الله تعالى هنا أهمية الذبائح التي تقدم عند حج بيت الله الحرام، حيث بين أن هذه القرابين من شعائر الله وأنه تعالى قد جعل لكم فيها بركة عظيمة.ولكن الذين يجهلون الحقائق، من غير المسلمين وبعض الأغبياء من المسلمين أنفسهم، يطعنون في الإسلام بأنه قد فرض هذه الذبائح التي لا حكمة فيها.لم لا تنفق هذه الأموال على فتح الكليات مثلاً للنهوض بالقوم.لنفترض أنه يُذبح على الحج كل سنة أربعين ألف كبش، ولو كان معدل ثمن كل كبش ٢٥ روبية لصارت الأموال التي تنفق على ذبح الأكباش عشرة ملايين وخمسة وعشرين مئة روبية.ولو أضفنا إلى هذا المبلغ ثمن الجمال وغيرها من الحيوانات التي تنحر بهذه المناسبة، لأصبح المبلغ الإجمالي حوالي عشرين مليون روبية.لم لا تُنفق هذه ألف هكذا ورد في الأصل! (المترجم)
الجزء السادس ٦٥ سورة الحج الأموال على تعليم العرب، ولم لا تُفتح المدارس والكليات في مكة المكرمة، عوضًا عن أن تضيع هذه المبالغ على تقديم الذبائح؟ وأنا أقول دائمًا لهؤلاء المعترضين : أحيانًا يأتي على الشعوب أوقات يضطرون فيها إلى تقديم تضحيات تبدو عديمة الفائدة في بادئ الأمر، قد شرع الإسلام هذه الذبائح تدريبًا للقوم على مثل هذه التضحيات حتى يستمروا في تقديمها عند الحاجة، سواء أفهموا الحكمة من ورائها أم لم يفهموها.وعلى سبيل المثال، لو أصدرت دولة يقيم فيها مسلم ،واحد حكما غاشما ضد الدين تريد به محو الإسلام في تلك الأرض، فلا يجوز لهذا المسلم، بحسب تعليم الإسلام، أن يقول لن أضحي بنفسي إذ لا فائدة من تقديم هذه التضحية.كلا، بل عليه أن يقدم نفسه لهذه التضحية بدون تردد، ذلك لأنه ما لم يضح بنفسه فلن يرغب الآخرون أيضا في التضحية.ولكنه لو قبل الموت شنقا لانبرى غيره أيضا للصعود على منصة الإعدام، ولو أُعدم هذا لتقدم مسلم ثالث لمثل هذا الموت، وهكذا سيتولد الحماس المتزايد لتقديم أرواحهم لحماية الإسلام غير خائفين ولا هيّابين، وسيجبرون الكفر على الهزيمة.كم بدت التضحيات التي قدمها الصحابة لدى إعلان النبي ﷺ دعواه في مكة المكرمة غير مجدية وبدون أية نتيجة في الظاهر، ولكن هذه التضحيات نفسها هي التي أدت إلى فتح مكة حتى اجتمعت الجزيرة العربية كلها تحت راية الإسلام.عندما كان الصحابة يقدمون هذه التضحيات في مكة ما كان لأحد أن أنها يتصور ستكسب النبي ل تلك العظمة الخارقة.حينما كانت المسلمات يُقتلن طعنًا بالرماح في فروجهن، وحينما كان المسلمون يُشقون قطعتين بربط رجلي الواحد بجملين، فلا شك أن من يرى هذا المشهد كان يقول في نفسه إن هؤلاء يزهقون أنفسهم عبئًا.كان عثمان بن مظعون الله من هؤلاء المسلمين.ذات مرة كان الشاعر العربي الشهير لبيد ينشد أبياتا له في ناد، فقال: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل"..أي أن كل ما سوى الله هالك.فلما سمع عثمان بن مظعون قوله هذا قال في حماس شديد: صدقت والله، فكل شيء سوى الله فان.وكان عثمان منهم
الجزء السادس ٦٦ • سورة الحج إذاك شابا، فلما سمع لبيد قوله هذا سخط سخطا شديدا وقال للقوم حوله: إن ولدكم قد أهانني هل أنا بحاجة إلى ثناء من ولد؟ فقام بعض القوم لضرب عثمان، ولكن هداه آخرون قائلين لعثمان: لا تتفوه بعد ذلك بشيء.فاستأنف لبيد إلقاء قصيدته فقال: "وكل نعيم لا محالة زائلُ فلم يملك عثمان نفسه فقال: كذبت والله، فإن نعيم الجنة لا يزول أبدا.فاسشتاط لبيد غضبا وقال: لن أسمعكم المزيد من شعري.فثار القوم ضد عثمان بن مظعون وأوسعوه ضربًا ولكما.ولكمه أحدهم لكمةً شديدة أخرجت حدقة عينه وكان لوالد عثمان صديق، وعاش عثمان من قبل متمتعا بجوار هذا الرجل، ولكنه لما رأى أن إخوانه المسلمين الآخرين يتعرضون للضرب والإهانة بينما يمشي هو في مكة مرتاح البال، ذهب إلى صديق أبيه وقال لـــه شكرًا لا أريد منذ الآن العيش بجوارك.فأعلن الرجل بين القوم أن عثمان لم يعد في ذمته.وكان هذا الرجل موجودا في هذا النادي، ولكنه لم يستطع الوقوف في وجه الجميع لنصرة عثمان، بيد أنه لما رأى عينه قد فقئت قال له لائما، شأن الأم الفقيرة التى تصب جام غضبها على ولدها هي إذا ضربه ولد لأم ثريّة : ألم أقل لك أن لا تخرج من جواري؟ هل رأيت عاقبة ذلك؟ فقال لـــه عثمان بن مظعون يا عم، إنك تلومني على ضياع عيني! والله إن عيني لتتوق لأن تفقاً في سبيل الله تعالى.الإصابة في معرفة الصحابة: عثمان بن مظعون، والسيرة النبوية لابن هشام قصة عثمان بن مظعون والسيرة الحلبية الجزء الأول ص ٣٤٨) فهل يمكن لعاقل أن يظن عندها أن ضياع عين عثمان يمكن أن ينفع الدين شيئا؟ الحق أن تلك التضحيات كانت تبدو حينها عديمة الجدوى تمامًا، ولكن لو لم تفقأ عين لعثمان في سبيل الله تعالى ولو لم تضطرب عينه الأخرى لتفقأ في هذا السبيل، ولو لم تُطعن المسلمات في فروجهن بالرماح، ولو لم تُزهق أرواح بريئة في أوائل الإسلام في مكة، لما استطاع المسلمون تقديم التضحيات فيما بعد في وقعة بدر ولا في أحد ولا في الأحزاب إن تلك التضحيات الأولى هي التي خلقت فيهم حماسًا وزادتهم إخلاصا ورفعتهم إلى مستوى عال من التضحية.الصحيحة
الجزء السادس ٦٧ سورة الحج وهكذا رغم أن آلاف الخراف تُذبح في مكة وتذهب لحومها سدى إذ لا يكون هناك من يأكلها، إلا أن الإسلام يأمرنا بتقديم تلك الذبائح مؤكدا أن لنا فيها خيرا وبركة حيث قال الله تعالى لَكُمْ فِيهَا خَيْر..أي عليكم أن تستمروا خَيْر..في تقديم هذه الأضاحي دائما بدون انقطاع آخذين في الحسبان نتائجها البعيدة المدى.ولا تكونوا كذلك الملك الأحمق الذي أصدر قرارًا بتسريح جيوشه إلى بيوتهم زعما منه أن الإنفاق على الجيش تبذير وإسراف لا جدوى منه، فإن الجزارين في دولته قادرون على أداء هذه المهمة إذا اقتضى الأمر.فكان مآله أنه فقد دولته كلها.ونجد في حياة النبي الله أيضاً حادثًا قد أعطى الله فيه المسلمين الدرس نفسه، إذ تُقدم أحيانًا تضحية تبدو عديمة الجدوى في الظاهر، إلا أن القوم يشتركون فيها ويقدمونها.فعندما عقد النبي و المعاهدة الصلح مع المشركين عند الحديبية استولى على الصحابة اضطراب شديد لدرجة أن رجلاً كعمر أيضا أصيب بملع كبير، فذهب إلى النبي ﷺ وقال يا رسول الله، أما وعدك الله بأننا سنحج؟ قال : بلى، ولكن متى قال الله تعالى إننا سنحج هذه السنة.وعليه فقد جاء صلح الحديبية صدمة عظيمة للصحابة، حتى إن النبي ﷺ لما أمرهم بذبح الأضاحي في الحديبية نفسها أصيبوا بالذهول وقالوا يجب ذبح الأضاحي في مكة أو بعد الحج أو العمرة، لماذا نؤمر بذبحها هنا؟ إننا لم نصل إلى مكة، ولم نطف بالكعبة، ولم نعتمر ولم نحج، فعلام نضحي؟ ولما وجد النبي أصحابه مترددين في ذبح الأضاحي دخل خيمته وقال لزوجته: لقد أمرتُ قومك اليوم بشيء فلم يستجيبوا لي! قالت: يا رسول الله، إنهم لم يفعلوا ذلك لقلة حبهم لك، بل لأن الصدمة صعقتهم ففقدوا صوابهم.فاخرج وانحَرْ بُدْنَك دون أن تكلّم أحدًا بكلمة، وستری ماذا سيحدث بعد ذلك.فخرج النبي ﷺ واتجه إلى بدنه.وما إن نحرها حتى أسرع الصحابة إلى ذبائحهم وأخذوا يذبحونها كالمجانين (البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد).فترى أن هذه الذبائح لم تكن ذات مغزى في الظاهر، إذ لم يدخل الصحابة مكة، ولم يطوفوا بالكعبة، ولم يقوموا بالحج ولا العمرة، ومع ذلك قدموا الذبائح.لماذا؟ منهم
الجزء السادس л سورة الحج ذلك لأن الله تعالى أراد أن يعلّم المسلمين أن الكافرين إذا كانوا قد صدّوكم عن بيت الله فاذبحوا الأضاحي حيث صدوكم موقنين أن ذلك المكان هو بيت الله تعالى.قصارى القول إن هذه التضحية أيضًا كانت عديمة الجدوى في الظاهر، ومع ذلك أمر النبي ﷺ أصحابه بتقديمها، مبينًا لهم أن عليهم أن لا يترددوا في القيام بأي تضحية مهما بدت لهم عديمة الجدوى في ظاهرها.إنما واجبهم أن يقتحموا غمار التضحيات بلا تردد إن الله تعالى قد جعلهم من جنود دينه وإن هزيمة الكفر والشيطان مقدرة على أيديهم.إنما خُلقوا من أجل العمل، فعليهم أن ينفذوا كل ما يأمرهم به قائدهم، وأن يتبعوه حيثما ذهب بهم.هذه الروح هي التي سينالون بها الخير والبركة، ولن تقدر معها أمة من الأمم على الوقوف في وجههم.لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَنَكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) التفسير: أي اعلموا أنه ليست الحكمة من وراء هذه القرابين أن تصل لحومها أو دماؤها إلى الله تعالى، إنما الحكمة فيها أنها تولّد في الإنسان التقوى، وتلك التقوى هي التي يحبها الله تعالى.يعترض البعض ويقول هل الله تعالى متعطش للدماء ومغرم باللحوم كالآلهة الهندوسية، حتى يأمر بذبح هذه الحيوانات ويتقبلها كقرابين بلهفة وشوق، ويبشر الذين يقدمون هذه القرابين الحيوانية بالجنة؟ لقد رد الله تعالى في هذه الآية على هؤلاء الطاعنين، وقال: ليست الحكمة في تقديم هذه الأضاحي أن لحومها أو دماءها تصل إلى الله تعالى، وإنما الحكمة فيها أنها
الجزء السادس ٦٩ سورة الحج تتسبب في نشوء التقوى في قلب الإنسان وتلك التقوى هي ما يحبه الله تعالى.فالذين يفرحون بذبح الخرفان والإبل والبقر ظانين أنهم قد وصلوا بذلك إلى الله تعالى، فهم مخطئون، إذ قد صرح الله تعالى هنا أن هذه القرابين الظاهرية ليست بشيء.تذبحون الأنعام بأيديكم، وتأكلون اللحوم بأنفسكم، فما لها والله؟ إن هذه الذبائح إنما هي تعبير عن حقيقة بلغة تصويرية تكمن وراءه حكمة عميقة.فالرسام الصور، ولكن هدفه ليس رسم الصور فقط، بل يحاول بها إيصال بعض مثلاً يرسم المعاني العظيمة إلى القوم.فتارة السلسلة، يرسم ويرمز بها إلى الوحدة القومية، وحينًا يرسم منظر طلوع الشمس، ويقصد بها رقي القوم.وبالمثل فإن القرابين الظاهرة هي الأخرى من قبيل لغة الرسم والتصوير، ومضمونها أن الذي يذبح هذا الحيوان هو جاهز ومستعد لأن يضحي بنفسه أيضًا.إذا، فالذي يقدم القربان يقر بأنه سيضحي في سبيل الله تعالى بنفسه ونفيسه.والخطوة التالية هي أن يصدق المرء بعمله ما قد أقرّ به بلغة التصوير، لأن مجرد التقليد الخالي من الحقيقة لا يُكسب صاحبه أي عزة ولا شرف.لم لا يحترم الشرفاء هؤلاء الذين يقومون بأدوارهم التمثيلية في الأفلام وغيرها يا تُرى؟ ذلك لأنه لا حقيقة لملوك يظهرون في التمثيليات والأفلام.أما الملوك الحقيقيون فيلقون التكريم والاحترام من الجميع.إن الذي يقوم بدور الملك في تمثيلية لو اجتهد في حياته العملية أيضا للوصول إلى هذا المنصب فلن يلام على ذلك، ولكن التقليد الفارغ لا يؤدي إلى الشرف والعزة.وبالمثل، فإن الذي يقدم نفسه قربانا مع قربان كبشه سيلقى الاحترام عند الشرفاء، ولكن الذي يرى الكفاية في تقديم قربان الكبش فليس إلا مقلد فارغ ومهرج هازل لا يستحق احترامًا ولا تكريما.ثم إننا لو تعمقنا في الأمر لوجدنا أن عملية ذبح الذبيحة تترك أثراً بالغا وعميقا في نفوس الذين يرونها وهي تُذبح - ما عدا الجزارين الذين يذبحون الأنعام يوميا - وتحدث في أفكارهم ثورة، الأمر الذي حدا ببعض الطوائف إلى اعتبار الأضاحي ظلما عظيمًا.لا جرم أن قولهم هذا يدل على ضعف طبائعهم، إلا أنه مما لا شك فيه أن لذبح الذبيحة وقعًا كبيرًا في نفس الإنسان، ولخلق هذا التأثير قد جعل الله
الجزء السادس ۷۰ سورة الحج تقديم الذبائح في العبادات وكأن كل إنسان يقرّ من خلال أضحيته أنه إذا اقتضى الأمر فسوف يضحي بنفسه عن طيب خاطر لمن هو أعلى وأسمى منه كما فعل هذا الحيوان الذي هو أدنى منه ومع ذلك ضحى بنفسه من أجله.فانظر كم سيكون التأثير عظيمًا على من ضحى بأضحيته مع إدراكه لهذه الحقيقة الكامنة في القرابين، وكم سيتذكر مسؤوليته التي فرضها عليه خالقه.ستظل ذكرى هذه الأضحية حية في قلبه على الدوام، ولا يزال قلبه يذكره بأنك قد أقررت حين ذبحت الكبش بيدك بأن الشيء الأدنى يضحى به من أجل الشيء الأعلى والأسمى، فعليك أن تكون جاهزا لهذه التضحية توطيدًا للحق أو دفعًا لمعاناة الإنسانية.هذا هو المعنى الذي أكده الله تعالى هنا حيث بين أنه لن ينال الله لحوم أضاحيكم ولا دماؤها، وإنما تناله تلك النية الطيبة التي ذبحتم بها الأضحية خشيةً الله تعالى..أي أنكم ستنتفعون من أضاحيكم إذا حققتم هذا الغرض الذي ضحيتم من أجله، وإلا فإنكم إنما أرقتم الدماء وأكلتم اللحوم فحسب، فلا جدوى من ذلك في الحقيقة.لقد ثبت بهذه الآية أيضًا أن الإسلام يعلن أن الشكل الظاهري للعمل لا يأتي بالنتيجة، وإنما روح وجوهر التضحية التي تعمل وراءه هي التي تأتي بالنتيجة.فالاختلاف الحاصل أحيانًا في الشكل الظاهري للعمل بسبب اختلاف الظروف لا يحول دون رقي أحد، بل يحكم الله تعالى عند النتائج وفقا لإخلاص المرء في عمله.فمثلاً، هناك شخص يملك عشرة آلاف روبية، فينفق مئة روبية على الفقراء، وهناك شخص آخر عنده عشرة روبيات فقط، فينفق منها خمس روبيات في سبيل الله تعالى، فلن تكون النتيجة بمجرد النظر إلى الروبيات الخمس أو المئة روبية، بل الله تعالى عند الجزاء إلى شدة حاجة كل منهما إلى المال، وكم ضحى كل سیری واحد منهما رغم حاجاته، أو سينظر الله إلى ما دفعهما إلى الصدقة، وأي الحافزين أفضل وأسمى.وما دام الثواب يترتب بحسب هذا المبدأ، فلن يُنقص من ثواب أحد منهما رغم الاختلاف الظاهري؛ وبالمثل لن ينفع المرء مجرد تقديم قربان من الأنعام، وإنما ينال الله الإخلاص الذي يكون وراء قربانه والحب الإلهي الذي يحفزه على تقديم هذا القربان.إن نصف الروبية التي ينفقها الإنسان التقي أفضل عند الله من
الجزء السادس من ۷۱ سورة الحج مئة روبية ينفقها شخص خال من التقوى.ذلك لأن المبدأ الذي بينه القرآن الكريم هو أن الله تعالى لا ينظر إلى الدماء ولا إلى اللحوم، بل ينظر إلى نية صاحب القربان.إن الشخص الثري يستطيع أن يضحي بكل سهولة بمئة من الإبل أو الخرفان في سبيل الله تعالى، ولكن الفقير الذي لا يبرح طوال السنة يوفر قرشًا قرشًا لتقديم الأضحية، والذي يقضي كل يوم في حسرة أن يجتمع عنده من المال ما يستطيع به تقديم الأضحية ولو مرة في يوم العيد، ليوزع بعض لحمها في سبيل الله تعالى، ويُقدم بعضه هدية لأصدقائه، أقول لو أن هذا الأخير ضحى برأس عادي من الماعز أو الخروف بعد أن جد وكدح طوال السنة، فهل تظن أن الله تعالى لن يقبل الفقير ماعزه العادي أو خروفه الصغير، وسيتقبل من الثري خرافه السمينة؟ لو أن الله تعالى حكم بمجرد النظر إلى ظاهر أعمال البشر لقبل الخرفان السمينة من الثري ورفض رأس الماعز البسيط أو الخروف الصغير من الفقير، ولكنه تعالى لن يحكم وفق أعمال البشر الظاهرية، بل يعلن وَلَكن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ..أي لا ينال الله لحوم الأضاحي ولا دماؤها وإنما يناله ما يختلج في قلوبكم من عواطف و مشاعر، بمعنى أنه تعالى يحكم بحسب هذه المشاعر.لو وصلته تعالى اللحوم أو الدماء لاختار منها أفضلها، ولتقبَّلَ تلك الأضاحي التي أُريق منها دم أكثر، ولكنه تعالى يعلن أنه لا يصله من هذه الأضاحي شيء، وإنما تصلــه النية التي تكون وراء القربان.فإذا ذبح شخص خروفًا صغيرًا ولكن بنية صافية وعالية جدا، وذبح غيره مئتي خروف ولكن لم تكن نيته سامية ولا إخلاصه عاليًا، فستتحول مئتا خروف له يوم القيامة إلى خروف ضعيف هزيل، أما الذي ضحى بخروف صغير بإخلاص وحب كبيرين فلن يكون معه يوم القيامة خروف صغير، بل آلاف من الخراف السمينة؛ لأن جميع الأشياء في ذلك العالم ستكون بحسب النيات.هذه هي حقيقة الأضاحي من المنظور الروحاني.من المنظور الروحاني.أما من المنظور المادي فلو أمعنت النظر لوجدت أن لكل شيء خلقه الله تعالى في الدنيا قشرًا ولُبا.ليس ثمة لب بدون قشر، ولا قشر بدون لب.وهذا هو حال الأعمال الروحانية أيضًا.فمثلاً إن القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة عبارة عن قشور، والتأثير الروحاني
الجزء السادس ۷۲ سورة الحج الذي يتولد من هذه الحركات هو اللب والجوهر.وفي القرابين أيضًا يكون لب وقشر، فذبح الحيوان هو بمثابة القشر، والإخلاص الذي يكون وراء الذبح هو اللب، ولذلك قال الله تعالى لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منْكُمْ.ورب قائل يقول : إذا كانت التقوى هي الغاية في تقديم القربان فما الداعي لذبح هذه الحيوانات؟ والجواب على ذلك كالآتي: أولاً: ما سبق بيانه بأن لكل لب قشرًا.وثانيًا: إن قشر القربان، أي ذبح الحيوان، ليس بدون فائدة، بل إنه ينفع الفقراء.فالفقراء يظلون محرومين عادة من الطعام المغذي لأجسامهم، ففرض الله على الناس نوعًا من الصدقة تُقدم فيها قرابين الحيوانات لكيلا تعاني قلوب الفقراء من الحسرة الدائمة ولا يظلوا محرومين نتيجة ضيقهم المادي من هذا الغذاء الضروري.ومن أجل ذلك يقول الله هنا إننا قد وهبناكم هذه الأنعام لتذكروا اسم الله عليها كما أمركم، وتقوموا برعاية المساكين، واعلموا أن الذين يعملون بأحكام الله تعالى ينالون جوائز كبيرة.قلب إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَانٍ ور ۳۹ التفسير: أي على المؤمنين أن لا يخافوا لأن الله تعالى نفسه سيحارب أعداءهم نيابة عنهم ويفشل..كيدهم عليهم أن يتذكروا أن الله تعالى لا يحب الخائنين ولا الذين يتنكرون لنعمه التي أنعم بها عليهم..أي الذين لا ينفقون أموالهم على الفقراء.إنما يحب الله تعالى من ينفقون من النعم الإلهية على الآخرين بشتى الطرق كإمدادهم بلحوم الأضاحي والكسوة وما إلى ذلك.
الجزء السادس ۷۳ سورة الحج أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (ج) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقَّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ هُدِمَتْ صَوَامِعُ وو وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا قلے وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِثُ عَزِيزُ (۲) الَّذِينَ إِن 21 مكَنَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَوَةَ وَءَاتَوُا الزَّكَوةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَقِبَةُ الْأُمُورِ (1) وَإِن قلے ٤٣ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (۳) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (5) وَأَصْحَبُ مَدْيَنَ وَكُذِبَ مُوسَى فَأَمَلَيْتُ لِلْكَارِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَتِن مِّن قَرْيَةٍ 20 أَهْلَكْنَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِثْرٍ مُعَطَّلَةِ وَقَصْرٍ مشهد (٣) أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ صلے هَا أَوْ ءَاذَانُ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَرُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي في الصُّدُور )
الجزء السادس شرح الكلمات: ٧٤ سورة الحج صوامع: جمع صومعة وهي: كل بناء متصمِّعُ الرأس أي متلاصقه (المفردات).والصومعة: منار الراهب (الأقرب).بيع: جمع بيعة، وهي: معبد النصارى.(الأقرب) صلوات: جمع صلاة وهي صلاة وهي كنيسة اليهود (الأقرب) مكنا مكنه من الشيء: جعَل له عليه سلطانًا وقدرة (الأقرب).نكير النكير الإنكار (الأقرب) معطلة: عطّل البئر: ترك وردّها؛ وكلُّ ما تُرك ضائعا فقد عُطِّلَ (الأقرب) مشيد: المشيد هو ما طُلي بالشيد؛ وقيل هو المرفوع المطوّل (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى في هذه الآيات تلك المبادئ التي تبيح للمسلمين الخوض في الحرب الدفاعية في ظروف معينة.إن الإسلام لا يقول لنا كالمسيحية "مَن مَن لطَمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا" (متى ٥: ٣٩)، بل يأمر أنه إذا هاجمكم قوم فأخرجوكم من دياركم، من دون أي جريمة سوى قولكم: ربنا الله، فعليكم بالتصدي لهم، ولا تظنوا أنكم قليلون لأنكم إذا كنتم مظلومين فلا بد أن يأتي الله لنصر تكم، وإنه لقادر على ذلك تماماً.واعلموا أنما نأمركم بذلك توطيدا للأمن والسلام في العالم، ولو لم نأمر قومًا بذلك من أجل نشر العدل والإنصاف هدمت كنائس النصارى ومعابد اليهود وكذلك مساجد المسلمين التي يُذكر فيها اسم الله كثيرًا.فالمسلم الذي يهب ضد الحرب التي هدفها القضاء على الحرية الدينية، فإنه لا ينصر نفسه في الحقيقة، بل ينصر هذه الطوائف، ولا يدافع عن دينه فحسب، بل يدافع عن الأديان كلها؛ فلا بد أن ينصره الله تعالى.وبما أن الله تعالى قوي وعزيز، فمن المحتم أن يصبح هذا المسلم قويًّا وغالبًا، لأنه إنما يقف في وجه هذا العدوان بنية أنه إذا نال القوة فإنه سيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.وهذه الأمور كلها موافقة للمشيئة الإلهية؛ وبما أن الله تعالى هو الذي يأتي بالنتائج فلا بد أن يكون النصر حليفا لمن يتبع مشيئة الله تعالى.
11 الجزء السادس Vo سورة الحج ثم قال الله تعالى يجب ألا ينتابكم الخوف من المعارضة الشديدة، فإنها مستمرة منذ زمن نوح وعاد وإبراهيم، بيد أن الغلبة كانت للحق دائما، ولا تزال آثار دمار أعداء هؤلاء الرسل ماثلة أمامكم في العالم.فانظروا إلى هذه الآيات وانتفعوا منها، لأن القلوب هي التي تتمكن من رؤية الحق وليست العيون." لقد تبين من هذه الآيات التي تجيز للمسلمين الخوض في الحرب، أن الإسلام إنما يأذن بالحرب لقوم يظلون عرضة للاضطهاد لمدة طويلة على يد قوم ظالمين يمنعونهم من أن يقولوا رَبُّنَا الله...أي أنهم يتدخلون في دين الآخرين ويكرهونهم على ترك الإسلام قهراً أو يصدونهم بالقوة عن اعتناقه ويقتلونهم بجريمة اعتناقهم إياه.إذا، فلا يجوز الجهاد ضد أي قوم سوى هؤلاء.أما إذا نشأت حرب ما فلا تكون إلا حربًا سياسية أو وطنية، ومثل هذه الحرب يمكن أن تنشب بين طائفتين من المسلمين أيضا، ولكنها لا يمكن أن تسمى جهادًا، كما لن يكون الاشتراك فيها لزاما على كل مسلم وإنما يكون فرضًا على المسلمين الذين يعيشون تحت ظل تلك الدولة المحاربة ؛ لأنها تسمى حربا وطنية، وليست حرباً دينية؛ ويقول الرسول : حُبُّ الوطن من الإيمان".ثم بين الله تعالى أنه من واجب هؤلاء المظلومين أنهم إذا نالوا القوة فعليهم بحماية كل الديانات والحفاظ على حرمة أماكنها المقدسة، ولا يجعلوا غلبتهم سببًا لزيادة قوتهم ونفوذهم، بل عليهم أن يبذلوا قوتهم في رعاية الفقراء والنهوض بالبلاد والقضاء على الشر والفتنة؛ ذلك لأن الإسلام إنما جاء في الدنيا شاهدا ومحافظا لا ظالماً جباراً.إذا، فالذين يطعنون في الجهاد الإسلامي عليهم أن يفكروا هل بإمكان المسلمين بعد هذا التعليم أن يشنّوا الحرب متى شاؤوا ويجعلوا الكفار أسرى؟ إن مثل هذه الحرب لا يمكن أن يبدأها إلا عدوهم؛ فإذا شن العدو حربًا كهذه، رغم قدرته على تجنبها، وسعى لتغيير دين الآخرين جبرًا وقهراً، فلا يعني ذلك إلا أحد الأمرين: فإما أنه مصاب بالجنون، أو أنه يستحق العقاب؛ إذ كان بوسعه أن لا يشن الهجوم
الجزء السادس ٧٦ سورة الحج ظلما وعدوانًا، وكان بإمكانه أن لا يظلم أحدا، وكان بوسعه أن لا يثير للدين حربًا، وبالتالي يحفظ نفسه من الهلاك والدمار.برغم قد يعترض هنا أحد فيقول: كيف يصح قول الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمنوا مع أنه تعالى قد صرح أذنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلَمُوا...فما دام العباد أنفسهم قاتلوا الكفار دفاعا عن أنفسهم فكيف يقال إن الله تعالى هو الذي قد تولى الدفاع عنهم؟ لقد أجاب الله ولا على ذلك بقوله وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ..أي أنه أن المؤمنين خاضوا الحرب إلا أنهم يدركون، كما يدرك غيرهم، أنهم ضعفاء ولا يمكن أن يتغلبوا على أعدائهم، إنما تكون الحرب في الحقيقة من قبل الله تعالى.وإن المؤمنين مجرد سلاح يستعمله الله تعالى.وهو الذي يكتب لهم الفتح، ويعطيهم الغلبة، ليكون دليلاً على أن الله تعالى هو الذي حارب وليس العباد.وقد أكد الله تعالى هذا الأمر في الآية التالية أيضًا حيث قال (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ...أي أن الله تعالى يؤيد الذين يهبون لنصرة دينه.وهذا يعني أن الله تعالى هو الذي يتولى الدفاع الحقيقي رغم خوض المؤمنين الحرب.وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن تُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ۚ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (٢) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ ٤٨ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَى الْمَصِيرُ (٥) قُلْ يَتَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ : فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ
الجزء السادس VV سورة الحج هُم مَّغْرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءَايَتِنَا مُعَجِزِينَ أُوْلَيكَ أَصْحَبُ الجَحِيم (2) شرح الكلمات : أمليت: أملاه: أمهَلَه (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن أعداء الحق يطالبون دائما بنزول العذاب بدون تأخير وعلى المؤمنين أن لا ينخدعوا بخدعتهم هذه، لأن يوما عند ربهم يساوي ألف سنة، وإنه ينزل العذاب على مهل.فلينظروا إلى الذين خلوا من قبل، فإنهم هم الآخرون كذبوا بالحق، ولكنهم لم يدمروا على الفور، بيد أن العذاب حل بهم في الأخير فكانوا من الهالكين.واعلم أن الله تعالى قد أشار بقوله وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ إلى أمرين: أولهما شدة ،العذاب حيث أخبرهم الله تعالى أنهم يطالبون بالعذاب، ولكن إذا حل العذاب ستبدو لهم ساعة واحدة من العذاب كألف سنة، ولن يجدوا منه مناصاً.وثانيهما أن الله تعالى قد أشار بذلك إلى تلك الفترة التي سيرفع فيها الكفر رأسه ثانية والتي ستمتد إلى ألف سنة.فقال الله تعالى للكفار ألا يستعجلوا بالعذاب لأنه تعالى يريد أن يعطيهم مهلة ألف سنة ليرى كيف يعملون؛ وعند انقضاء مهلة ألف سنة سيلقون عقابًا شديدًا على سوء أعمالهم يكون عبرة للآخرين وسيُطوَى به بساط الكفر للأبد.وقد أكد الله تعالى هلاك الكفر هذا في سورة طه أيضًا حيث قال تعالى يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عشر) (الآيتان: ١٠٣و١٠٤).فقوله تعالى (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرِّقًا إشارة إلى أن الشرك سيكون منتشراً في ذلك العصر بين الشعوب ذوي العيون الزرقاء أي بين الشعوب الأوروبية والأمريكية انتشارًا عامًا، وأن سيطرتهم على العالم لن تدوم إلا عشرة قرون.وبالفعل قد بدأ رقي هؤلاء في القرن الثالث الهجري وبدأ
الجزء السادس VA - وهي المدة سورة الحج انحطاطهم بعد انقضاء عشرة قرون تماما في القرن الرابع عشر الهجري.إذ الثابت تاريخيا أن هذه الشعوب المسيحية قد شرعت ترفع رؤوسها في سنة ٢٧١ الهجرية، التي قد أشير إليها في مستهل سورة الرعد في مقطع المر.ولو أضفنا عشرة قرون من رقيهم في ٢٧١ صار عندنا عام ۱۲۷۱ الهجري.ولكي نعرف السنة الميلادية المطابقة عام ١٢٧١ الهجري علينا أن نضيف إليها فترة ٦٧١ عاما التي ما بين بداية التقويم الميلادي حتى هجرة رسولنا الكريم - فيصير المجموع عندنا ١٨٩٢.وعلينا أن نطرح سنتين أو ثلاثًا من هذا المجموع لأن سورة الرعد مكية حيث نزلت قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، وهكذا يصير عندنا عام ١٨٩٠ أو ۱۸۸۹ و ۱۸۸۹ هو العام الذي بدأ فيه حضرة المسيح الموعود ال أخذ البيعة من الناس، فوضع بذلك الأساس لهلاك المسيحية.وبالفعل ترى أنه لما انتهت هذه وجاء زمن هلاك المسيحيين فإن الحكومة البريطانية، التي كانت أكبر دولة مسيحية في العالم في ذلك العصر، لاذت بالفرار من الهند بحيث لم يبق لها أثر فيها، أن الهند كانت تُدعى جوهرةً في تاج الإمبراطورية البريطانية.المدة لقد كان هؤلاء مغرورين بقوتهم.لقد ظنوا في أول أمرهم أنه لن يصيبهم الدمار أبدا كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة الكهف في قوله (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً (الآية:۳۷)..أي أن القوة القيادية لهم ستقول: لسنا جاهزين أبدا أن نقبل أن ساعة هلاكنا آتية.ولكن حين يأتي العذاب وتنكسر قوتهم كلية سينكشف عليهم أن زمن رقيهم لم يكن إلا ألف سنة، إذ ليس لهم بعد ذلك سوى الدمار.ثم إن الله تعالى قد سمى هذه القرون العشرة يومًا أيضًا حيث قال (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةٌ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (طه:١٠٥)..أي أننا أعلم بما سيقول هؤلاء عند هلاكهم حين يعترف من هو أكثرهم اتباعًا لدينه ويقول لقومه: لو تدبرتم الحقيقة لوجدتم أنكم لم تمكثوا إلا مدة معينة..أي عشرة قرون كما تقول النبوءة.وكما يقول الله تعالى في سورة سبأ أيضًا وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمِ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) (الآية: ٣٠-
الجزء السادس ۷۹ عنه سورة الحج ٣١)..أي يقول المعارضون متى سيتحقق وعد انتشار الإسلام في العالم كله إن کنتم صادقين؟ فقُل لهم: قد حدد لكم ميعاد يوم لن تتأخروا ولن تتقدموه.ولفظ يوم الوارد هنا أيضًا يعني مدة ألف سنة حيث صرح الله تعالى في سورة السجدة يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ممَّا تَعُدُّونَ ﴾ (الآية : (٦)..أي أن الله تعالى سيُنزل الإسلام من السماء إلى الأرض ويقيمه فيها بتدبيره، ثم يرتفع إليه في يوم يساوي ألف سنة بحسب عددكم، ولكنه تعالى سيهيئ بعد ذلك الأسباب لغلبة الإسلام ثانية ويُهلك الكفر.وقد أشار الله تعالى إلى هذا العذاب الموعود في سورة مريم فقال ﴿قُلْ مَنْ كَانَ في الصَّلالَة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (الآية:٧٦)..أي قُلْ لهم إن الذين يتيهون في ضلالهم يمهلهم الله الرحمن إلى مدة معينة، حتى إذا ظهر لهم ما وعدوا به أي العذاب في الدنيا أو الدمار القومي التام عندها سيعلمون من هو أسوأ مكانًا وأضعف صديقا ، بمعنى أنه لن تحميهم من الدمار حضارتهم التي يتباهون بها ولا أصدقاؤهم وزملاؤهم وأنصارهم ستنزع منهم ثروتهم، كما سيتخلى عنهم أصدقاؤهم، فيصيبهم الهلاك والدمار.وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَيَ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ قلے وَايَتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢) شرح الكلمات: تَمَنَّى: تمنَّى الشيء: أرادَه.وتمنّى الكتاب قرأه.والأُمنية: البغية؛ ما يُتمنَّى ويُقدَّر (الأقرب).
الجزء السادس ۸۰ سورة الحج ينسخ: نسخ الشيء نسخا أزاله ، تقول : نسَحْتُ حُكْمَه بحكم فلان: أي أزلتُه به (الأقرب).: التفسير هذه الآية أسهل آية في القرآن الكريم، ولكن المفسرين قد جعلوها خطيرة جدا.وبيان ذلك أنهم يربطونها بآيات من سورة النجم، ثم بناء على إشكالات خيالية يجعلون من هذه الآية سلاحًا خطيرًا جدا ضد الإسلام، مع يوجد بين سورة الحج وسورة النجم أي علاقة على الإطلاق.- أنه لا يقول المفسرون أن النبي جاء مرة إلى فناء الكعبة، فاجتمع حوله الكافرون، فأخذ يقرأ عليهم قول الله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالثَةَ الأُخْرَى.ثم قرأ - والعياذ بالله "تلك الغرانيقُ العُلى وإِن شفاعتَهَنَّ لتُرتَجى"..أي أنها الآلهة طويلة الأعناق ونأمل في شفاعتهن.ثم لما بلغ النبي ﷺ قول الله تعالى في نهاية السورة فَاسْجُدُوا الله وَاعْبُدُوا سجد، فسجد معه الصحابة والكافرون أيضًا، حتى إن الوليد بن المغيرة أيضًا - وكان عدوا لدودًا للإسلام - أخذ بضع حصوات ومسح بها جبينه متظاهرًا بأنه هو الآخر قد اشترك في السجود.وهذا الخبر أثار ضجة كبيرة في مكة، وأخذ الناس يقولون إن مكة كلها قد دخلت في الإسلام لأن الكافرين كلهم سجدوا مع المسلمين.ومما يقول المفسرون لأن جملة "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لتربحى" التي قرأها النبي ﷺ - والعياذ بالله – لم تكن من وحي القرآن، فنسخها الله تعالى فيما بعد، ولذلك لا نجدها في المصحف.(القرطبي وفتح البيان) وتدليلاً على صحة زعمهم يقدم المفسرون قول الله تعالى في سورة الحج وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّته..أي لم نرسل قبلك يا محمد من رسول ولا نبي إلا إذا قرأ وحيه دس الشيطان في وحيه من عنده، ويمحو الله تعالى فيما بعد ما يلقي الشيطان في وحيه تعالى.وهذا ما حصل مع النبي ، فلما قرأ سورة النجم في بيت الله الحرام دس الشيطان فيها من عنده: "تلك الغرانيق العُلا وإنّ شفاعتهم لَتُرتجى." وبسماع هذه الكلمات شيئا من
الجزء السادس ۸۱ سورة الحج لسان النبي ﷺ ظن كفار مكة أنه قد بدل من دينه شيئا، فاشتركوا معه في السجود.فلما شاع بين أهل مكة أن الكافرين قد دخلوا في الإسلام، قال الكافرون إنما سجدنا مع محمد لأنه قال في وحيه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي"، وهكذا صدق آلهتنا صراحة.ويقول المفسرون أنه ما دام من الثابت في الحديث أنه قد سُمع عندها صوت يقول "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي"، لذا فإن هذه الآية إنما تعني أنه ما من نبي إلا ويُجري الشيطان على لسانه في بعض الأحيان كلمات خلاف مشيئة الله تعالى.(القرطبي، وفتح البيان) ولكن هذه الآية لا تذكر أبدًا أن الشيطان أجرى بعض الكلمات على لسان ، وإنما تعني فقط أن كل نبي حين يتمنى شيئا - وطبعا ليست أمنية أي نبي إلا إصلاح الناس - يلقي الشيطان في طريقه العراقيل لأنه لا يريد نجاحه.فمن معاني الإلقاء أيضًا وضعُ الشيء في مكان وطرحه فيه؛ وعليه فقوله تعالى ألقى الشَّيْطَانُ في أُمنيته إنما يعني أن الشيطان يضع شيئا في طريق النبي.ومن الواضح النبي أن الشيطان إنما يلقي العوائق في طريق النبي، ولا ينصره أبدًا.إذا، فمن الظلم العظيم أن يفسروا هذه الآية بأن الشيطان يلقي كلمات الشرك على لسان الأنبياء.ولكن المشكلة التي نواجهها هي أن الرواية المذكورة أعلاه قد قبل كبار المحدثين بصحتها.فمثلا يقول المحدث الكبير ابن حجر: "إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح" (فتح البيان)..أي أن هذه الرواية مروية من قبل عدة رواة ثقات، وأن ثلاثة من هذه الأسانيد تبلغ مستوى صحيح البخاري ثقة.كما أن البزاز والطبراني قد اعتبرا هذه الرواية صحيحة (هميان الزاد، تفسير سورة الحج).إذن، فكيف نستطيع أن ترفض هذه الرواية كلية؟ بيد أن الله تعالى قد فهمى بفضل منه حل هذه المعضلة، وهو كالآتي: " هكذا ورد في فتح البيان، ولكنا لم نعثر على هذا القول في كتاب لابن حجر.(المترجم)
الجزء السادس ۸۲ سورة الحج لما هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة شق ذلك على أهل مكة، فبعثوا وفدًا إلى ملك الحبشة لاسترجاع المسلمين المهاجرين (السيرة الحلبية، الجزء الأول: باب النجاشي الهجرة الثانية إلى الحبشة).وورد في التاريخ أن بعضا من هؤلاء المهاجرين رجعوا من الحبشة إلى مكة عند حادث سجود الكفار.فسألهم من قابلهم من سكان مكة: لماذا رجعتم؟ قالوا لقد بلغنا أن أهل مكة قد أسلموا ابن خلدون الجزء الثاني ص (١٠).فقيل لهم إنهم لم يسلموا أبدا، بل كل ما في الأمر أن رسولكم قد قرأ عليهم آيات من القرآن تدعم الشرك فسجدوا معه، ولكن رسولكم لما نسخ تلك الآيات فيما بعد عاد المكيون إلى دينهم ثانية.فرجع هؤلاء إلى الحبشة ثانية.ولكن الفترة الزمنية بين حادث تلاوة سورة النجم وعودة هؤلاء المهاجرين من الحبشة قريبة لدرجة أن الواقع الجغرافي يرفضهما.فكان أقرب ميناء من مكة في ذلك الزمن، واسمه شعيبة، يقع على مسافة يقطعها الراكب في خمسة أيام أو أربعة على الأقل، حيث ورد: "مسافتها طويلة جدا" (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية الجزء الأول ص٢٧٠).أما المسافة بين شعيبة وميناء الحبشة فتستغرق أربعة أيام أو خمسة أيضًا؛ إذ لم تكن وسيلة سفر الناس في البحر حينئذ إلا السفن الشراعية، التي كانت لا تجري في كل وقت، إذ لم تكن هناك شركات بحرية في ذلك الزمن، بل كلما وجد أحد الملاحين الفرصة أبحر، وكانت رحلته هذه تستغرق شهوراً في بعض الأحيان.ثم إن المسافة من ميناء الحبشة إلى عاصمتها كانت تستغرق حوالي شهرين.وهذا يعني أن المدة الإجمالية التي يمكن أن يصل فيها خبر سجود الكفار من مكة إلى عاصمة الحبشة، وسماح الملك للمسلمين بالعودة، ثم وصولهم إلى مكة، تصبح ما بين شهرين ونصف وثلاثة أشهر.في حين نجد الروايات تقول إن المسلمين المهاجرين رجعوا بعد حادث سجود الكافرين خلال ١٥ أو ٢٠ يومًا، حيث خرجوا إلى الحبشة في شهر رجب، ومكثوا هنالك حتى شعبان ورمضان، ورجعوا في شوال (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية الجزء الأول ص ٢٧٠، و٢٨٢).
الجزء السادس ۸۳ سورة الحج وهكذا تصبح المدة الإجمالية لمكوثهم في الحبشة ووصولهم إلى مكة أقل من ثلاثة أشهر أيضًا (السيرة الحلبية الجزء الأول ص ٣٦٤) لقد تبين من ذلك كله – وبكل وضوح أن حادث سجود الكفار لدى تلاوة سورة النجم كان مكيدة مخططة من قبل الكافرين..أعني أن بعض زعماء الكافرين كانوا قد قاموا بنسج خطة سلفا، وبعثوا بعضهم إلى الحبشة ليشيع بين المسلمين المهاجرين هناك أن أهل مكة قد أصبحوا مسلمين، وأنهم قد سجدوا مع محمد رسول الله.فلما اقترب موعد وصول المسلمين القادمين من الحبشة إلى مكة قالوا فيما بينهم ماذا سنجيبهم إذا ما رأوا أن أهل مكة لا يزالون كافرين.فأشاعوا بين القوم أنهم إنما سجدوا مع محمد لأنه قرأ - معاذ الله - خلال تلاوته للقرآن آيات تدعو إلى الشرك، ولكنه لما قام بنسخ هذه الآيات من القرآن رجعوا إلى كفرهم ثانية – والحق أن النبي لم ينسخ أية آية كهذه، وإنما أعلن أنه لم يقرأ على الكفار آيات الشرك مطلقا وما كانت هذه الخطة لتنجح إلا إذا قرئت بالفعل آيات كهذه في المجلس.ويبدو أن كافرًا خبيثا – وليس محمدا رسول الله ﷺ قرأ هذه الجمل بحسب ما أمره رؤساء الكافرين خلال تلاوته في المجلس.ولما كان الجمع كبيرًا يبلغ المئات ويضم جميع رؤساء الكافرين، فلم يعرف القوم من جراء الضجيج والصخب صاحب الصوت الذي قرأ هذه الجمل، بينما أشاع الكافرون أن محمدًا هو الذي ردد هذه الجمل، ولذلك سجدنا معه.فبما أن الذين كانوا على أطراف المجلس سمعوا هذه الجمل من هذا الكافر الماكر الذي رددها بصوت عال خلال تلاوة النبي لا لا لا لا ل و ا فظنوا أيضًا أن محمداً هو الذي قرأ هذه الجمل.إذا، فإن الحل الوحيد لهذا اللغز هو أن أحد الكافرين الخبثاء ردد هذه الجمل - - بصوت عال خلال تلاوة النبي بحسب مخطط مدروس سلفا، والدليل على وجود هذه الخطة المنسوجة سلفا هو وصول المهاجرين من الحبشة إلى مكة قبل المدة التي كان وصولهم فيها ممكنا بعد سماع حادث سورة النجم، بل إنهم قد وصلوا إلى مكة قبل المدة التي يمكن أن تستغرقها رحلة جوية لو كانت في ذلك الوقت أية طائرات.فوصولهم قبل الموعد يدل على أنهم كانوا قد أُبلغوا قبل الموعد
الجزء السادس ΛΕ سورة الحج أن أهل مكة قد أسلموا، وأنه في الأيام التي كان مجيئهم فيها متوقعًا بحسب المخطط قد تكلم أحد من الخبثاء بهذه الكلمات في المجلس.ثم إننا لو تركنا جانبا تلك الأحاديث التي تعارض القرآن الكريم صراحة، لوجدنا أن سورة النجم نفسها تبطل هذه القصة تماما.ذلك لأن الله تعالى يقول، قبل تلك الآيات التي يقال أن الشيطان دس فيها كلمات تدعو إلى الشرك: وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةٌ أُخْرَى) (الآية : ١٤)..أي أن محمدا رسول الله ﷺ قد رأى ربه، بل رآه مرة ثانية.كما يقول الله تعالى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَات رَبِّهِ الْكُبْرَى (الآية: ١٩).وبعد ذلك يقول الله تعالى للكفار (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (الآيتان: ۲۰ و ۲۱)..أي هل رأيتم من أصنامكم آية مثل التي رآها محمد من ربه؟ أي أنكم لم تروا منها أي آية، ولكن محمدا قد رأى من ربه آيات كبرى.هذا ما ورد في سورة النجم قبل "الجملة" المزعومة الشيطانية الوثنية".أما بعدها فيقول الله تعالى إنْ هيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان..أي أنكم بأنفسكم قد سميتم هذه التماثيل بهذه الأسماء، ولم ينزل الله تعالى على ذلك أي برهان.فبالله عليك، هل من المعقول أن تكون هذه الجملة الشيطانية الوثنية المزعومة" مسبوقة بآية تبطل الشرك، وتليها أيضًا آية تردّ على الوثنية، ومع ذلك يُزعم أن الشيطان قد أجرى ما بينهما كلمات وثنية على لسان محمد رسول الله ؟ إن المفسرين قد وصفوا الشيطان عادة بالذكاء الشديد حتى اعتبروه أستاذا للملائكة، وذلك خلال تفسيرهم لآيات من سورة البقرة، وعرضوه على العالم وكأنه قد هزم الله الله في حواره معه (القرطبي).ومع ذلك، فما بال الشيطان في هذه القصة، فهو يبدو فيها كالحمار، إذ لم يجد لإلقاء هذه الجملة الوثنية مكانًا إلا بين هذه الآيات التي تدعو إلى التوحيد بكل قوة وشدة إن هذا الشيطان يجب أن يُزَجّ في دار المجانين، إذ لا يستطيع هذا الغبي البليد إغواء خلق الله تعالى؟ ثم إنه لمن العجب العجاب أن سورة النجم تنتهى بقول الله تعالى (فَاسْجُدُوا الله وَاعْبُدُوا وأي أحمق كان يمكنه بعد سماع قول الله هذا، أن يزعم أن محمدا
الجزء السادس ٨٥ سورة الحج رسول الله لا ينطق بكلمة وثنية ؟ قصارى القول إن كل آية من آيات سورة النجم تفند هذه القصة كلية.يرجع هذه شهادة داخلية، أما الشهادة الخارجية فهي أنه من المستحيل أن المهاجرون من الحبشة إلى مكة بعد سماع هذا الخبر في المدة التي رجعوا فيها، كما أثبت من قبل.وأتناول الآن تفسير هذه الآية من سورة الحج التي يحتجون بها على صحة هذه القصة، لأبين أنها لا تعني أبدا ما ذهب إليه المفسرون.لقد فسروها بأن جميع الأنبياء والرسل الذين خلوا من قبلك يا محمد، قد دسّ الشيطان شيئًا من عنده في وحيهم كلما قاموا بتلاوته، ولكن الله تعالى ينسخ ما يخلطه الشيطان في وحيهم، وهكذا يحكم الله آياته.(القرطبي) والحق أن هذا المعنى لا يصح على الإطلاق.فأولاً، إن لفظ التمنّي لا يعني القراءة فحسب، بل يعني الإرادة أيضا، وليس المراد من الأمنية التلاوة فقط، بل تعني المراد والغاية أيضًا (انظر أقرب الموارد).وعليه فإن هذه الآية تعني أنه: " لم يُبعث قبلك من نبي ولا رسول إلا إذا أراد شيئا ألقى الشيطان في إرادته؛ فيزيل الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته".هذا المفهوم يكشف أن التفسير الذي يقدمه المفسرون لا ينطبق هنا، إنما تعني هذه الآية أنه لم يأت نبي ولا رسول إلا حاول الشيطان عرقلة طريقة ليفشله في هدفه وغايته ولكن مهما سعى الشيطان لإعاقة طريق الأنبياء إلا أن الله تعالى يزيل كل عائق من طريقهم، ويهيئ الأسباب لتحقيق آياته التي أنبأ بها لنجاحهم؛ وهكذا ينتصر النبي وينهزم الشيطان.وبالنظر إلى وقائع التاريخ أيضًا يمكن للقارئ أن يعرف ما إذا كانت الأحداث والوقائع تؤيد ما يذكره المفسرون أم تؤيد المفهوم الذي نقدمه نحن.فبناء على ما يذكره المفسرون كان على محمد رسول الله ﷺ أن ينهزم ويتغلب الشرك، ولكن ما حدث على صعيد الواقع هو أنه كسر بيده الأصنام الموضوعة في الكعبة فانمحى الشرك للأبد.
الجزء السادس ٨٦ يعود سورة الحج فثبت أنه لم يأت نبي ولا رسول حتى اليوم إلا عرقل الشيطان كل هدف وغاية ورغبة وأمنية لـه.إنه يدرك أنه لو نجح النبي فلا مكان لـه، لذا فيبذل هو وذريته كل ما أوتي من قوة ضد الأنبياء وجماعاتهم شأن الشخص الذي قد أحاط به الموت من كل مكان فيسعى للنجاة من براثن الموت بكل ما أوتي من قوة.ويعلم الذين تصادف أن رأوا شخصًا في سكرات الموت أنه برغم كونه مغشيا عليه وغافلاً عن الدنيا وما فيها وفاقدًا كل قواه إلا أنه يبذل قصارى جهده وكأنه يريد أن إلى الدنيا، فيصاب كيانه بهزة، ويرتفع عنقه ويستجمع كل طاقته.هذه حالة شخص مغشي عليه قد فقد كل قواه وقد جفّ اللحم على جسده، فما بالك بشخص لا يكون مغشيا عليه ولم يفقد كل طاقته ؟ أو إذا دفعت - مثلاً - ولدًا صغيرًا إلى حافة البئر لتخوفه فإنه سيلتصق بك وتتولد فيه طاقة تزيد على طاقته العادية عشرات المرات.أو هناك شخص يلقيه مصارع على الأرض في لمح البصر، ولكن المصارع لو حاول إلقاءه في البئر لرأيت أنه لن يقدر على إلقائه فيها في ساعة دعك أن يصرعه في دقيقة؛ ذلك لأنه يرى أن المصارعة مباراة فحسب، ولا بأس لو صُرع بيد الخصم، ولكنه إذا أدرك أن الموت وشيك استنزف كل طاقته وبذل كل جهده حتى أصبح ندا لخصمه أو قريبا من ذلك.عند الله من عندما تقام جماعة في الدنيا تثور الأرواح الشريرة ذوات الصلة بالشيطان أو التي قد استولى عليها الشيطان جراء ذنوبها ، فتبذل كل ما في وسعها للحيلولة دون انتشار الخير في العالم.وهؤلاء الذين يقفون ضد الجماعات الإلهية بن يكون بعضهم ضمن نظام الجماعات ومنتمين إليها انتماء شكليًّا مثل عبد الله أبي بن سلول، وبعضهم ينتمون إليها بالاسم ولكن لا يكونون ضمن نظامها مثل الخوارج في عهد سيدنا علي ، وبعضهم لا ينتمون إليها من حيث الاسم ولا النظام مثل كفار مكة واليهود والنصارى.فهؤلاء كلهم يسعون معا ليكونوا سدا عائقًا في طريق الأهداف التي يُبعث أنبياء الله تعالى لتحقيقها في العالم، فيضعون في سبيلهم كل نوع من العوائق والعراقيل، ولكن الله تعالى يؤيد رسله بآياته، ويُفشل الشيطان في كل مكائده.الواقع أن كلب الشرطة إذا ما شم رائحة ثياب اللص
الجزء السادس ۸۷ سورة الحج وترك وراءه فإنه يبطش به لو طارده عشرة أو عشرين بل مئة ميل، كذلك فإن الشيطان يكون عدواً لرائحة القداسة والطهر، فإذا وجدها في شخص صال عليه بشراسة ليفترسه افتراسا.فلما مسح آدم الله بيد الله تعالى بعطر الطهر والقداسة طارده الشيطان.ولما أعطي نوح الا هذا الشذى تتبعه أيضًا.ثم لما جاء إبراهيم العلة وانتشرت هذه الرائحة بواسطته، صال عليه الشيطان.ثم جرى وراء رام تشندر وكرشنا وزرادشت وعيسى وسيدنا محمد المصطفى.فلولا أن هؤلاء جميعًا أعطوا عطرًا مماثلاً لما صال عليهم الشيطان بصولات مماثلة.لقد هجم عليهم الشيطان في عصورهم هجمات مماثلة لأنهم كانوا قد مُسحوا بعطر واحد هو عطر التوحيد.ولكن ما يحصل هو فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكُمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ..أي أن الله تعالى يزيل كل العوائق التي يضعها الشيطان ويثبت التعليم الذي يأتي من عنده تعالى، وهو الله ذو علم وحكمة عظيمين.لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَنُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ قلے وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٤) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٤) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ شرح الكلمات: ٥٦ فتنة: الفتنة: الخبرة والابتلاء؛ الضلال والإثم والكفر؛ الفضيحة؛ العذاب؛ العبرة (الأقرب).
الجزء السادس ۸۸ سورة الحج شقاق: شاقه وشقاقا خالفه وعاداه وحقيقته أن يأتي كلُّ واحد منهما في شقّ شق صاحبه (الأقرب).تخبت: الإخبات: اللين والتواضع (المفردات).مرية: المرية: الشك؛ الجدل (الأقرب).يسمح الله يوم عقيم: الذي لا خير فيه (الأقرب).وفي "المفردات": يوم عقيم: لا فرح فيه.التفسير: يردّ الله تعالى على سؤال يطرح نفسه هنا وهو: لماذا للشيطان بإعاقة طريق الأنبياء.يقول تعالى إننا نسمح للشيطان بهذه الممارسات لتتطهر نتيجة فتنه جماعات الأنبياء من أهل النفاق والخيانة وتنكشف عداوة الأعداء على الناس.فعندما يضع الشيطان العراقيل يستجيب لـه الذين في قلوبهم شر وقسوة، فيضطهدون المؤمنين فينكشف للناس ضعف الضعفاء في الإيمان وعداوة الأعداء، ويعرف الناس مدى عناد أعداء الإسلام ومعارضتهم؛ كما يعلمون أن المؤمنين الصادقين في إسلامهم لا يخافون شر أهل الشر ، بل يزدادون إيمانا مع إيمانهم، وهكذا يزيد الله المؤمنين هدى.لقد بين الله تعالى في هذه الآية قاعدة بأنه كلما جاء نبي وقدم مشروعًا لإصلاح الناس، أخذ الشيطان في عرقلة طريقه ؛ فينفصل أهل النفاق وضعفاء الإيمان عن جماعة المؤمنين، وهكذا يزيد الله جماعته قوة وعظمة.إن التدبر في هذا المعنى يكشف لنا أن الله تعالى يؤكد حماية كل الأنبياء عموما، وحماية محمد رسول الله ﷺ ،خاصة من أي تصرف للشيطان، بل إنه تعالى يبين أن الشيطان يلقى الخزي والمذلة على أيدي الأنبياء، بدلاً من أن يكون له أي سلطان عليهم.كما أننا لو أخذنا في الحسبان قول الله تعالى للشيطان إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) (الإسراء: ٦٦)..أي لن يكون لك غلبة على عبادي، ثبت جليًّا أن المعنى الذي أذكره هو الصحيح وأن ما يذكره المفسرون هو خطأ.ذلك أن تصرف الشيطان في لسان نبي، وخاصة عند تلاوته الوحي، لسلطان ما بعده من سلطان.
الجزء السادس ۸۹ أنه سورة الحج فإننا نرى في الدنيا أن بعض الناس لا يزالون يرفعون الهتافات ضد الحكومة مهما تعرضوا للاضطهاد على يدها، فكيف يصح إذا القول أن المصطفى ، وهو سيد الأنبياء والرسل، لم يَقْوَ – والعياذ بالله – على الصمود أمام الشيطان فتصرف في لسانه وجعله يتكلم بكلمات وثنية.إن هذا الزعم لنقض صارخ للآية المذكورة أعلاه من سورة بني إسرائيل، ومن المحال أن تعارض آية من القرآن الكريم آية أخرى.يقول الله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهُ لَوَجَدُوا فِيهِ اختلافا كثيرًا) (النساء: ۸۳).ويظن البعض خطأ أن كلمة (كثيرا هنا تعني يوجد في كلام الناس اختلاف كثير، أما كلام الله فيوجد فيه الاختلاف ولكنه ليس كثيرًا.ولكن الواقع أن كلمة الكثير تعني الفضل والعظمة أيضًا حيث ورد في "المفردات": "وليست الكثرة إشارة إلى العدد فقط بل إلى الفضل"..أي أن لفظ الكثير الذي ورد في القرآن لا يعني كثرة العدد فقط، بل يأتي أحيانًا لبيان الفضل والعظمة.فالقول بأن الله تعالى يعلن في القرآن من جهة إنه ليس للشيطان سلطان على عبادي، ويقول من جهة أخرى أن الشيطان قد أُعطي سلطانا على كل نبي ورسول حتى إنه يدس في وحيهم شيئًا من عنده، إن هذا لاختلاف ما بعده اختلاف.إذًا، فهذه الآية من سورة النساء أيضا تؤكد أن ما قاله المفسرون خطأ وباطل ومخالف تماما لصريح القرآن.هذا، وهناك تفسير آخر لقول الله تعالى لَوَجَدُوا فيه اختلافا كثيرًا وإليك بيانه.بحسب علم المنطق لا يجوز استخراج قضية مخالفة للقضية الحملية، والقضية المخالفة هذه تسمى أيضًا مفهوم المخالفة.فلو قلنا مثلاً: "فلان صغير الرأس" فلا يجوز لنا أن نستنتج من ذلك أنه صغير القدمين أيضًا.وبالمثل إن دعوى القرآن وَلَوْ كَانَ عند الله لَوَجَدُوا فيه اختلافًا كَثِيرًا جملة شرطية، وهي تعني في حالة القضية الحملية أن كلام غير الله يوجد فيه اختلاف كثير، ولكن هذا لا يعني ألبتة اختلاف في كلام وجود الله ولو بقدر قليل جدا، لأن هذه النتيجة مفهوم مخالف لا يجوز استنتاجه بحسب علم المنطق، كما قد وضحت بالمثال.
الجزء السادس ۹۰ سورة الحج ثم يقول الله تعالى هنا في سورة الحج وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)..أي ما كان الكافرون ليتركوا الشك فيما نزل إليهم من الحق إلى أن تأتي ساعة هلاكهم فجأة أو يأتيهم عذاب لا يُبقي ولا يذر.فمن ذا الذي كان يوقن حتى هجرة النبي بأن تلك الحفنة من فقراء المسلمين في مكة سيسيطرون في فترة وجيزة على الجزيرة العربية كلها، ولكن هذا ما حدث بالفعل.فبعد الهجرة فوراً، أي في السنة الثانية، فإن رؤساء مكة الذين كانوا مصممين على القضاء على الإسلام والذين عرّضوا المسلمين الفقراء لصنوف الاضطهاد، قد قتلوا في معركة بدر كما تقتل الكلاب المسعورة في شوارع القرى.وعندما جاء الطوفان في زمن نوح الله، استمر قومه يسخرون منه حتى آخر لحظة قبل مجيء الطوفان قائلين: إذا جاء الطوفان وغرقنا فأين ستجد أنت الملاذ إذا؟ ولكن بعد استهزاء استمر عدة سنوات - وقد بالغت التوراة كالشعراء في بيان هذه الفترة وقالت إنها امتدت إلى مئات السنين - فاجأهم الطوفان، فأغرق الذين سخروا منه واستوت سفينته على الجبل.كما يتضح من القرآن الكريم والتوراة كليهما أنه عند هروب موسى الله من مصر لم يدرك قومه حتى آخر لحظة أن وقت نجاتهم قد حان.لقد قال فرعون أيضًا إن هؤلاء لشرذمة قليلون، فأنى لهم أن يفلتوا من أيدينا؟ ولما رأى قوم موسى فرعون وجنوده قالوا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء: ٦٢)، ولكن هؤلاء القوم الذين كانوا يظنون قبل نصف ساعة أن انفلاتهم من يد فرعون مستحيل رأوه قد وصل مع وزرائه وجنوده الذين كان يتباهى بهم إلى قعر البحر.(الخروج) ۱۲ : ۳۷) إلى آخره، والخروج ١٤: ١٥) والحق أن عظمة هذه المعجزة تتضاعف حين نرى أن فرعون كان من الملوك الذين كانوا يسترون وجوههم بالنقاب كلما ظهروا للناس، وكانوا قد أشاعوا بين
الجزء السادس ۹۱ سورة الحج القوم أن الذي يرى وجه الملك يصاب بالجذام كانوا يعتبرون نظر الناس إلى وجوههم إهانة لهم، فكانوا يضعون النقاب على وجوههم ليخبروا الناس أنهم أعظم من أن ينظر إليهم كل من هب ودب.فكان كل من كشف له الملك النقاب عن وجهه يصير من المقربين لـه، ويصبح رئيسا لقومه.أما اليوم فقد أصبحت جثة فرعون مومياء موضوعة في متحف القاهرة، وقد رأيتها بأم عيني في عام ١٩٢٤م.ولكن بأية مشاعر ينظر المرء إلى موميائه؟ بطبيعة الحال إنه لا ينظر إليه بمشاعر طيبة، بل كل من يراه يلعنه ويقول أيها الخبيث أنت الذي كنت تؤذي موسى العلية لا؟ مجمل القول، إن العذاب من عند الله تعالى يأتي في بعض الأحيان بغتة لدرجة أنه يحيط بالمرء وهو ينظر إليه فيحوّله رمادًا في لمح البصر.هذا ما يبين الله تعالى في هذه الآية فيقول : سيظل هؤلاء في شك من أمر محمد رسول الله ﷺ حتى تفاجئهم ساعة هلاكهم، فلن يجدوا منها مصرفا، أو يحل بهم عذاب يمحو كل أثر لعظمتهم.وقد كانت ساعة فتح مكة أيضًا من الساعات التي أتت على الكافرين بغتة، فقضت على كبريائهم قضاء مبرما ، فصار أولئك الذين كانوا يؤذون النبي ﷺ وأصحابه منذ فجر الإسلام ضعفاء وعاجزين لدرجة أنهم أخذوا يتوسلون إليه بكل تواضع أن يرحمهم ويعاملهم كما عامل يوسف إخوته (السيرة الحلبية: فتح مكة، الجزء الثالث ص ١١٣).وقد حدث انقلاب عظيم لدرجة أن أولئك الذين كانوا حتى الأمس يتعطشون لدم النبي يفدونه بمهجهم وأرواحهم.أما عَذَابُ يَوْمٍ عَقيم فالمراد منه عذاب يوم بدر عند ابن عباس ومجاهد وقتادة..يومَ قُطع دابر الكفار ، وكُسرت شوكتهم وعظمتهم (القرطبي).
الجزء السادس ۹۲ سورة الحج الْمُلْكُ يَوْمَبِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ۚ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ فِي جَنَّتِ النَّعِيمِ : وَالَّذِينَ كَرُواْ وَكَذَّبُوا بِطَايَتِنَا فَأُوْلَبِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ شرح الكلمات ΟΛ جنات النعيم: النعيم: الخفضُ والدَعَة؛ المال (الأقرب).والنعيم: النعمة الكثيرة (المفردات).التفسير : أي حين تأتي تلك الساعة ستقام حكومة الله في الدنيا وينمحي الشرك والكفر.وحده وبالفعل ترى أن بيت الله الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل لعبادة الله والذي ملأه فيما بعد أولادهما الضالون بثلاثمئة وستين صنما، طُهر منها لدى فتح مكة، فكسر كل صنم وطرح خارج البيت.وكان النبي ﷺ يضرب كل صنم بعصاه ويقول جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: ٨٢)..أي أن الحق قد جاء وأن الباطل قد ولّى، والباطل هارب لا محالة.عندما ضرب النبي "هبل"، وكان أكبر أصنامهم، سقط وانكسر، فنظر أحد الصحابة إلى أبي سفيان وقال له: يا أبا سفيان، أتذكر حين هتفت في وقعة أحد بكل زهو وغرور : اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَل؛ فانظر كيف تناثرت قطعه المكسرة أمام عينيك؟ فقال أبو سفيان نادماً : دَعْك من هذا يا أخي لو كان ثمة إله سوى إله محمد رسول الله ما رأينا اليوم ما رأيناه.لقد أيقنا الآن أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك لــه (السيرة الحلبية: فتح مكة، الجزء الثالث ص ٩٩).
الجزء السادس ۹۳ سورة الحج وباختصار، فقد تحققت نبوءة الْمُلْكُ يَوْمَئِد الله في ذلك اليوم بكل عظمة وجلاء، وقد دوّت بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها بأصوات "لا إله إلا الله".ثم يقول الله تعالى فَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات في جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهين..أي أن الشيطان مهما حاول عرقلة طريق الجماعة الإلهية ومهما كاد ،ومكر ، فإن أنبياء الله تعالى يصبحون غالبين في آخر المطاف، وتبوء مكائد الكافرين كلها بالفشل.ويحرز المؤمنون الرقي، ويحترق المعارضون كمدًا خائبين ،خاسرين حتى تنقلب لهم الدنيا جحيما تلتهب.الدين والجدير بالذكر هنا أن البعض يطعنون في قول الله تعالى مالك مالك يوم قائلين: لماذا وصف القرآن الله تعالى بكونه مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، بدلاً من أن يقال الدين"، فإن الملك أكثر سلطة واقتدارًا من المالك؟ والرد على هذا إنه "ملك يوم الله الاعتراض موجود في قوله تعالى الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ حيث بين تعالى أن الحكم والملك يومئذ يكون الله تعالى وسيحكم بينهم عندئذ.وهذا يعني أن الله تعالى ليس مالكًا فحسب بل إنه أيضًا صاحب الحكم والاقتدار بشكل كامل، أي أنه تعالى ملك.ولكن هذا لا يعني أنه ملتزم بقانون من قبل سلطة أعلى منه كما هو الحال بملوك اليوم، إذ يُفرض الالتزام بالقانون من قبل سلطة عليا على من يمكن أن يظلم أو يستبد بالناس في قراراته، ولكن الله تعالى رحمن، فلا يكون في قراره ظلم ولا استبداد، بل تتسم معاملته مع الجميع بالرحمة والعفو وتؤدي إلى خير الجميع.كما يقول الله تعالى في مكان آخر الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ للرَّحْمَن (الفرقان:٢٧)..أي أن الحكم الحقيقي يومئذ يكون الله الرحمن.ويقول تعالى أيضا مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّين يَوْمَ لاَ تَمْلكُ نَفْسٌ لَنَفْس شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذ لله ) (الانفطار: ۱۹ و ۲۰).
الجزء السادس ٩٤ سورة الحج يعني فثبت من هذه الآيات أن لفظ مالك الوارد في سورة الفاتحة لا أن الله تعالى مجرد مالك فحسب، وليس ملكا، بل يعني أنه تعالى ملك مالك، ومن الواضح أن الملك المالك أفضل ممن هو مجرد ملك، بمعنى أن الملوكية وحدها لا تمنح السلطة التامة على الأشياء، حيث لا يجوز لملك أن يعامل رعاياه ويتصرف في أموال البلد كما شاء، ولكنه يتصرف في الأشياء التي هي ملك لــه تصرفا مختلفا يكون أكمل وأعلى من تصرفه الملكي.إذًا، فقوله تعالى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لا ينفي كون الله بل هو بيان لنوعية ملوكية الله تعالى، بمعنى أنه تعالى ليس ملكا فحسب، بل هو ملك مالك لجميع الخلق، والملك المالك يتمتع بحرية تامة في تعالى ملگا، التصرف فيما يملك.وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ (3) لَيُدْخِلَنَّهُم مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمُ حَلِيمٌ (٢) التفسير : هذا لا يعني أن المهاجرين في سبيل الله الذين قتلوا أو ماتوا إنما يُرزَقون في الآخرة فحسب، ذلك لأن الخصم يمكن أن يقول كيف أصدق ذلك وأنا لم أر الجنة ولا أعرف مكانها؟ بل المراد من ذلك قومُهم أيضًا، لأن ما يعامل به بعض القوم يُعتبر معاملة للجميع.فالمعنى أنه مما لا شك فيه أن هؤلاء المهاجرين يُقتلون ويموتون، ولكن الله تعالى سيمنحهم وقومهم كلهم كثيرًا من نعماء الدنيا والآخرة، أي أن الأحياء منهم ينالون نعم الدنيا على صورة الملك والحكم، وينالون نعم الآخرة في شكل زيادة الإيمان
الجزء السادس ۹۵ سورة الحج قل ذَالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَ و غَفُورٌ )) شرح الكلمات : بغي عليه: بَغَى عليه: استطال عليه وظلمه (الأقرب).التفسير: أي لا ينبغي العفو عن الظالم في كل مرة، بل يجوز الانتقام منه أحيانًا.فلا تظنوا أنكم إذا انتقمتم من الظالم و لم تعفوا عنه فسيزداد شرا وتتفاقم مصائبكم.كلا، بل إذا انتقمتم من الظالم بقدر مناسب، فازداد ظلما، فاعلموا أن الله تعالى سينصركم فلا داعي للخوف.إن هذه الآية لا تبدو في الظاهر منسجمة في هذا السياق، ولكنك لو أمعنت النظر فيما سبقها من الآيات لوجدت فيها قول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ، وقول الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولِ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنيَّته، وقول الله تعالى (أَذنَ الَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، وأيضًا قول الله تعالى إنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.وقد تبين من هذه الآيات أن الحديث عن الحرب جار منذ عدة آيات، حيث بين الله تعالى أنه مهما كان عدد الذين يحاربون دفاعًا عن الحق قليلاً، فإنهم الغالبون لا محالة.فكان لزامًا أن يُلقي الله الضوء على هذا الجانب من الحرب ويبين ماذا سيحدث إذا ثارت حمية الكافرين أكثر بسبب انتقام المؤمنين منهم.فثبت أن هذه الآية ليست منقطعة عن السياق، بل جاءت في سياق الموضوع نفسه.
الجزء السادس ٩٦ سورة الحج ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ - وو وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِمت شرح الكلمات ٦٢ يُولج: أوجه: أدخله (الأقرب).التفسير: أي يجب أن لا تخافوا من مصائبكم ورقى العدو، لأن تاريخ العالم شاهد على أن الأمم المتقدمة تنهار في يوم من الأيام، لتسبقها الأمم المنهارة.فإذا كان اليوم لعدوكم، فالغد لكم.ثم يجب أن لا يغيب عن البال أن الله تعالى يسمع دعاء عباده ويبصر أحوالهم.والمقصود من هذا البيان هو التأكيد على أن الله تعالى يخلق الظلمة بعد النور، والنور بعد الظلمة، والعسر بعد اليسر، واليسر بعد العسر، حيث بين أنه تعالى لم يصبح مخلوعًا من إدارة نظام الكون، بل إنه ينصر المظلوم ويظهر من أجله قدرته وجلاله.فلا داعي لقنوط المسلمين، فإن الله تعالى ناصرهم، وسيفتح لهم أبواب الرقي حتماً.ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ، هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ وو السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُحْضَرَةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفُ خَبِيرٌ ) شرح الكلمات: الباطل: بطل: أي فسد أو سقَط حُكمُه وذهَب ضياعًا وخُسرا (الأقرب).فالباطل: الضائع خائبًا خاسراً.
الجزء السادس ۹۷ سورة الحج التفسير: لقد بين الله تعالى أنه يدير نظام العالم لأنه القائم بذاته في الحقيقة ولأن الباطل هالك، فلو أن العباد كانوا على صلة بالباطل فلا بد من هلاكهم، ولو أنهم كانوا مع الحق والصدق فلا بد أن يظلوا قائمين فما دمتم، أيها المسلمون، على صلة مع الله واجب الوجود فكيف يمكن أن تلقوا الهزيمة على يد قوم يتبعون منهجًا مصيره الضياع والهلاك؟! إن هلاك الجماعة التي يقيمها الله تعالى يمثل إساءة له تعالى؛ إذ لا يبقى الله عندها عليا ولا كبيرا.ولكن ربكم كبير حقا، فلا بد أن تصيروا كبارًا ،ومعززين وإن أصنام أعدائكم حقيرة فلا بد أن يكونوا أقزاما مهانين.انظروا إلى العالم المادي كيف يصير نضرا مخضرا عند نزول الماء، فكيف يمكن أن لا تكونوا نضرين إذا نزل عليكم الماء الروحاني، خاصة وأن الله تعالى عليم بسرائر القلوب وخبير بكل شيء.لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (3) التفسير: يقول الله تعالى إن كل ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى، وأنه تعالى ليس بحاجة إلى شيء.فكل قربان هو يطالبكم به إنما هو لفائدتكم أنتم، ولا مصلحة له فيه ولو تدبرت أحكام الإسلام لوجدت أن كل ما أمرنا الله به إنما هو لمنفعة الناس، وليس لأنه يزيد من عظمته شيئًا.فمثلاً إذا كان قد أمرنا بالصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الصدقة أو البر أو الحج فذلك لأن جميع هذه الأحكام تنفع الإنسان شخصيًا.فمثلاً يقول الله تعالى عن الصلاة إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر (العنكبوت : ٤٦).فالذي يصلي الصلاة حقًا فإن المنفعة الشخصية التي يجلبها بالصلاة هي حفظه من السيئات عدا فوائدها الأخرى.كما أن من منافع
الجزء السادس ۹۸ سورة الحج الصلاة أنها تجعل المرء يفكر دائما في جمع شمل القوم حيث يرى أنه يجب أن يكون بيننا في كل وقت إمام واجب الطاعة نرفع تحت قيادته اسم الله تعالى.ثم إن حضور المرء في المسجد خمس مرات يوميًّا ينفع المصلين أيضًا، حيث يطلع بعضهم على أحوال البعض، وبإمكانهم أن يستغلوا ذلك لتقوية نظامهم.وإن الصوم أيضا عبادة هامة في الإسلام، ولكنه ينفع الإنسان نفسه وليس الله تعالى فإن الصوم يروّض الصائم على تحمل المشاق، الأمر الذي ينفعه في حياته نفعًا كبيرًا.كما أن الصوم يُشعر الصائم بمعاناة الفقراء، فتزيد فيه الرغبة في رعايتهم والنهوض بهم؛ وهذا ينفع القوم ككل، فيحققون الرقي بسرعة.و نفس الحال بالنسبة إلى الزكاة، فإنها سبب قوي لرقي القوم، حيث تأخذ الحكومة جزءًا من أموال الأثرياء وتنفقها على الفقراء، فيتمكن الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم والذين هم تحت المصائب والآفات من الوقوف على أقدامهم، فلا يصاب القوم ولا الدولة بالضعف.كما أن الحج أيضا من أركان الإسلام، ولكن التدبر يكشف لنا أن الحج ينفع المسلمين أنفسهم، حيث يتعوّد به المرء على ترك وطنه من أجل الله تعالى.كما أن اجتماع المسلمين في مكة المكرمة من جميع أنحاء العالم يزيدهم شعوراً بالأخوة العالمية، ويقوي بينهم أسس الاتحاد.قصارى القول إن كافة الأحكام التي أمر بها الإسلام إنما هي لمصلحة الناس، إذ ليس لله حاجة إلى أي شيء منها.
الجزء السادس ۹۹ سورة الحج أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَاللكَ تجرى فى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) من شرح الكلمات: سخر: سخره كلّفه عملاً بلا أجرة (الأقرب).أنه ملك التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أنه لو كان هو بحاجة إلى هذه القرابين البسيطة الناس، فما الداعي لأن يسخر لخدمتهم كل شيء يوجد في الدنيا مع له وفي قبضته؟ إن كل ما خلقه الله تعالى إنما خلقه لمصلحتهم ومنفعتهم لكي يتمتعوا بهذه النعم ويترقوا.إننا نرى أن العلم المعاصر لا يزال يكشف لنا صدق هذه الحقيقة التي بينها القرآن أكثر فأكثر، حيث تنكشف به خواص عجيبة لآلاف الأشياء التي كانت تُعد من قبل عديمة الجدوى كلية.فقد قتل الزرنيخ والبيش وجوزُ القيء آلاف البشر على مدى التاريخ ولكنها تتسبب الآن في حياة الملايين.لا شك أن آلاف الناس يموتون نتيجة لدغ الثعابين، ولكن تُجلب من سُمّها اليوم منافع شتى حيث يُستعمل في علاج أمراض فتاكة كثيرة، وينال به ملايين البشر حياة جديدة.وهذا الغائط، الذي هو شيء قذر جدا ويبدو غير مفيد في الظاهر، يتحول إلى السماد وينفع الإنسانية نفعًا كبيرًا فليس هناك شيء ليس فيه نوع من الفائدة وأنه لم يُخلق لنفع الإنسانية.انظروا إلى الجبال ،مثلاً كم هي نافعة للناس.حينما يلفح الصيف جسد الإنسان يفر إلى قمم الجبال ليعيش هناك في راحة بعيدا عن حرقة الشمس.ثم إن هذه الجبال هي التي تمدّ الناس بمعادن ثمينة كثيرة كالذهب والفضة قیظ
الجزء السادس 1..سورة الحج والحديد وحجر البلق والكروم وغيرها.ويُستخرج من هذه الجبال نفسها الملح الذي تتوقف عليه الحياة الإنسانية.وعلى الجبال تنبت أنواع كثيرة من الأعشاب والتوابل التي ينتفع بها الإنسان في الطب والتجارة.كما أن الأنهار والجداول النابعة من على الجبال تروي البلاد كلها، فتنبت الزروع وتخضر البساتين.أما الأشجار فتنفع الناس وتسد حاجاتهم من خلال الخشب والفحم للبناء والعمارة ولإشعال النار للطبخ والتدفئة.قصارى القول، ليس في الدنيا شيء إلا وقد خلقه الله تعالى لنفع العباد، وإذا كان الناس لم يعرفوا بعد فائدة شيء من الأشياء فإنما سببه نقصان علمهم فحسب، وإلا فإن الله تعالى قد خلق كل ما في الأرض لفائدة البشر.لقد خلق لنفع العباد الجبال وثلوجها وأشجارها وأزهارها وأعشابها ومناجم فحمها ورصاصها ونحاسها وأحجارها الكريمة من جواهر وغيرها.لقد خلق حيوانات الصحراء وأسماك البحار وطيور الهواء أيضًا لفائدة البشر.فكل شيء قد خُلق لخدمة العباد فقط، سواء ما يخرج من الأرض وما ينبت في البراري وما يُستخرج من قعر البحار أو يجلب من الجبال.ولكن المؤسف أن الإنسان الذي قد خلق الله هذه الأشياء لخدمته يبلغ من الغباء أنه يخر تارة أمام الأصنام الحجرية التي هي جماد ولا حياة فيها، وتارة أخرى يعتبر النجوم سبب كل بركة أو نحس، وحينًا يعبد الشمس غافلاً ذلك الإله الذي خلق هذه الأشياء كلها لتكون خادمة لـه.عن حينما يقف الإنسان أمام هذه الأشياء خاشعًا ومتوسلاً إليها في تذلل وهوان، فإنما مثله كمثل سيد يتوسل إلى خادمه أو كمدير شركة يخاف من عامل بسيط يعمل تحته.ولو أن الناس رأوا مشهدا كهذا في الدنيا لعدّ كلّهم هذا السيد أو المدير مجنونا، ولكن ما أكثر هؤلاء المجانين في عالم الأديان، الذين رغم كونهم أشرف والقمر
الجزء السادس ۱۰۱ سورة الحج المخلوقات ينسبون إلى هذه الأشياء صفات ربانية وقدرات إلهية، وهكذا يسيئون إلى إنسانيتهم إساءة كبيرة.أما قوله تعالى (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بإذنه فهو بيان بأن الله تعالى قد جعل لإنزال العذاب قيودًا وشروطًا لينتفع منها الناس، فيُصلحوا الله أحوالهم ويوثقوا صلتهم بالله تعالى وينجوا بأنفسهم قبل أن يحيط بهم العذاب.وليكن معلومًا أن العذاب نوعان: عذاب شرعي وعذاب طبيعي.ولا يأتي العذاب الشرعي إلا إذا كذب الناس رسولاً من تعالى، أما العذاب الطبيعي فليس مشروطا بهذا الشرط، بل كلما غفلت أمة عن الأخذ بالأسباب التي خلقها الله تعالى للرقي في العالم المادي هلكت وفق القانون الإلهي العام.لقد ظهرت على خريطة العالم آلاف الأمم والحكومات حتى اليوم، ثم أصابها الضعف والانحطاط فهلكت حتى لم يبق لها في العالم من أثر.وهذه الشعوب لم تهلك لأنها لم تكن تحب الله تعالى أو كانت تنكر رسل الله، وإنما هلكوا لأنهم غضوا الطرف عما خلقه الله تعالى في الدنيا من أسباب للرقي.وقد ذكر الله تعالى هذين النوعين من العذاب في العديد من آيات القرآن الكريم.فقال عن العذاب الشرعي وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء: ١٦).فعندما تقام عليهم الحجة بمجيء الرسول، ويزدادون إنكارا وتكذيبًا له نقرر إهلاكهم في آخر المطاف، فيقعون فريسة للعذاب.وعلامة العذاب الشرعي الذي يحل بالناس نتيجة تكذيبهم للرسل أن الله تعالى ينذرهم منه قبل حلوله من خلال نبوءات شتى، أو تقع قبل نزوله في الدنيا آفات و بلايا بشكل لا مثيل له في الأيام الخالية؛ فمثلاً تقع الزلازل بعد الزلازل بغتة، أو تجتمع الأوبئة والأمراض والمجاعة والحروب وغيرها من الكوارث في وقت واحد حتى تقوم بسببها ضجة في العالم، ويعترف الجميع أنها أحداث غير عادية.
الجزء السادس ۱۰۲ سورة الحج وقد أخبر القرآن الكريم أيضًا أن العذاب الشرعي يحل على فترات لكي يهب الناس من سباتهم نتيجة هزات العذاب المتعاقبة هذه فلا يهلكوا كلية.وقد ذكر الله تعالى هذا القانون في قوله (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُل اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (يونس: ٢٢)..أي حينما نذيق الناس طعم الرحمة بعد محنة تصيبهم يشرعون على الفور في الكيد والمكر ضد آياتنا.فقُل لهم إن كيد الله أسرع تأثيرًا، وأن رسلنا يسجلون ما تكيدون.لقد بين الله تعالى هنا أن عذابه لا ينزل دفعة واحدة، بل تقع هزة من العذاب ثم تنتهي لكي يتوب الناس ويرتدع الظالمون عن الظلم والإثم، ولكن أصحاب الطبائع الشريرة لا يأخذون العبرة من هذا الإنذار، بل يخافون قليلا وقت العذاب، ثم إذا خف العذاب قليلاً عادوا ثانية إلى مكرهم وكيدهم ضد وحينا وأحكامنا.إن مكر الله تعالى نافذ بسرعة، ولكنه تعالى لا ينفذه على الفور رحمة بالعباد؛ فإنه تعالى لا يمكن أن ينسى أفعال الناس حتى يضطر إلى الانتقام منهم فوراً، كما لا مانع له من عقابهم حتى يُظَن أنه إذا لم يعاقب الآن فربما يتعذر عليه عقابهم فيما بعد.كلا، بل إنه قادر على عقابهم في أي وقت شاء، ولا يخفى عليه من شيء، فعلى المعارضين أن لا يلجأوا إلى الكبرياء والإعراض، فإن الله تعالى إذا ما قرر هلاكهم فلن ينقذهم منه مكر ولا كيد.عنه إنَّ الله لا الله هذا فيما يتعلق بالعذاب الشرعي.أما العذاب الطبيعي فقال الله يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: ١٢)..أي أنه تعالى لا يغير حالة قوم ما لم يغيّروا باطنهم.إنهم حين يتردون بسوء أعمالهم من أعمالهم من المكانة التي وهبها لهم يتغير السلوك الإلهي تجاههم أيضًا، فيسقطون في الحضيض.وهذا يعني أن الله تعالى يريد للناس أن يرثوا إنعامه، لكنهم إذا أكلوا السم بأيديهم أنهى الله تعالى حياتهم طبقا للقانون الإلهي.
الجزء السادس ۱۰۳ سورة الحج هذه هي النواميس الإلهية التي أشير إليها في هذه الآية حيث بين الله تعالى أنه بيد رحمته قد أمسك عنكم العذاب، فجعل نزوله مشروطًا بأنواع الشروط، فمن واجبكم الآن أن تنتفعوا من هذا القانون لتنجوا من العذاب الشرعي بطاعة أحكامه، وتتجنبوا العذاب الطبيعي باتباع القوانين الطبيعية، وتنتفعوا من نعماء الله تعالى حق الانتفاع.وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَنَ لَكُورٌ V شرح الكلمات : :كَفور كفر نعمة الله : جحدها وسترها وهو ضدُّ الشكر.وفي الكليات (لأبي البقاء): "الكفر تغطية نعم المنعم بالجحود (الأقرب).التفسير: أي أن الله تعالى يحقق الرقي للإنسان دائما، ويصيبه بالدمار أيضًا إذا ذلك عصاه بعد الرقي، وذلك لكي يتطهر قلبه، وإذا ما تطهر قلبه أحياه ثانية.ومع يرى الإنسان نعم الله كلها ثم يجحدها.ويتضح من قوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ أن الله تعالى محي ومميت في وقت واحد، وأن كل موت مقرون بحياة.فالطعام الذي نأكله إذا مات وتلف صار شيئًا ثمينًا كالسماد إن رغيفا واحدا لن ينفع المرء أكثر مما في الرغيف الواحد من نفع، ولكن الله تعالى يجعل عشرة أرغفة من رغيف واحد يتحول إلى غائط ثم إلى سماد.فلا شيء في الدنيا يأتي عليه الموت إلا ويؤدي إلى نوع من الحياة.إن الأعمى روحانيا حين لا يرى يقول إن الله يميت ولكن البصير حينما يرى يقول إن الله يحيي.والحق أن العين البصيرة إنما توهب لأنبياء الله ورسله وجماعاتهم.فثبت أن الموت لا يأتي وحده من عند الله تعالى، بل كل موت يأتي حاملاً معه رسالة حياة.
الجزء السادس ١٠٤ سورة الحج لا جرم أن بعض المسلمين قد استشهدوا في وقعة ،بدر، ولكن ألم تكن تلك المعركة أحيت العرب.ولا شك أن بعضا من المسلمين ماتوا في غزوة أحد وكذلك في غزوة الأحزاب، ولكن هذه الغزوات لما أدت إلى إصلاح العرب بدأ هي التي مكة كل واحد منهم يرى روح الحياة.ثم قد حصلت بعض الوفيات لدى فتح أيضا، ولكن لولا فتح مكة لاستحال إحياء مئات الآلاف من العرب ثانية.فبوسع كل إنسان أن يدرك أن حياة العرب كانت كامنة في هذه الوفيات.إذا، فالموت يؤدي إلى الحياة شريطة أن يعود الناس إلى الله تعالى ويحدثوا تغيرا طيبا في حياتهم العملية.لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَزِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ شرح الكلمات: ۶۸ ناسكُوه: نسَك الرجلُ نسكًا: تَزهَدَ وتَعبَّدَ وتقشف.ونسَك الله: تَطوَّعَ بقربةٍ وذبح لوجهه (الأقرب).فالناسك هو العابد؛ من يضحي لوجه الله تعالى.مَنْسَكًا : المنسَك: شرعةُ النسك (الأقرب).فلا ينازعُنّك: نازعه منازعة: خاصمه (الأقرب).التفسير: أي لا بد لكل طائفة من تعليم ودين، فلا عند المعارضين لأن مبرر يخاصموك في دينك.عليهم أن يروا ما إذا كان دينك يدعو إلى الله تعالى أم لا، وهل يهدي الناس إلى الصراط المستقيم أم لا.إن دينك يدعوهم إلى الله تعالى صراحة ويقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا (الحج:٣٥)، ويأمرهم بالسير في الصراط المستقيم إذ أمروا بأن يدعوا في كل صلاة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، وما
الجزء السادس 1.0 سورة الحج دام الأمر هكذا فثبت أنهم يعارضونك بغضًا وحسدًا فحسب، إذ لا مبرر للنزاع مع من يدعو الناس إلى الله الأحد ويهديهم إلى الصراط المستقيم.إنما يجوز نزاعه إذا كان ينكر وجود البارئ ،تعالى، أو إذا ثبت أن بوسع الإنسان تحقيق غايته بدون السير على الصراط المستقيم.ولكن ما دام من المحال تسمية أي دين دينا بدون الإقرار بوجود الله تعالى، وما دام إحراز أي نجاح مستحيلاً بدون السير على الصراط المستقيم، فثبت أن الأعداء إنما ينازعونك حسدًا وبغضا، ولا يخاصمونك لسبب معقول.وقوله تعالى إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ يمثل نبوءة من الله تعالى بأنه مهما عارضت الدنيا محمدا رسول الله ﷺ إلا أن التعليم الذي يقدمه سيكون هو الغالب في العالم في نهاية الأمر، وأن رايات الأديان كلها ستخضع إزاء راية الإسلام لا محالة وليس خافيًا على أحد كيف كانت حالة الدنيا حين قدم رسول الله ﷺ عقيدة التوحيد.فكان النصارى يؤمنون بثلاثة آلهة وكان الزرادشتيون يعتقدون بوجود إلهين اثنين: إله النور وإله الظلام.وكان المجوس يعبدون النار.وأما عبدة الأوثان فكانوا يؤلهون اللات ومناة.إذًا، فكانت الدنيا كلها مليئة بالشرك والوثنية.ولكن التوحيد الذي قدمه الإسلام صار غالبًا على الدنيا كلها؛ حتى إن المسيحيين أنفسهم اضطروا لأن يدعوا بأنهم موحدون، وأن عبدة الأصنام يعترفون واحد وأن هذه الأصنام إنما هي وسيلة للوصول إلى البلاط الرباني.والحق أن الإسلام لما أعلن وحدانية الله تعالى أصيب أهل مكة تجاه هذه الدعوى بحيرة شديدة، فأخذوا يقولون أجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ)) (ص: ٦).وهذا يعني أنهم ظنوا أن هناك آلهة كثيرة، ولكن هذا يقول بوجود إله واحد، فربما قام بطحن الآلهة كلها وجعل منها إلها واحدًا ! أما اليوم فإن الدنيا كلها تعتنق التوحيد، حتى إن الأمم الوثنية نفسها لا تجرؤ على إنكار التوحيد رغم انغماسها في بأن الله
1.7 الجزء السادس سورة الحج شتى الأعمال الوثنية ونفس الحال بالنسبة للقضايا الأخرى.فمنذ أمد بعيد لم تزل أوروبا تطعن في أحكام الإسلام، أما اليوم فقد بدأ بعض أهلها المثقفين من الطبقات العليا يعترفون بصدق الإسلام بناء على نفس الأحكام الإسلامية التي كانت مصدر طعن عندهم من قبل.لما ذهبت إلى لندن من أجل العلاج رغب في الإسلام قبل وصولي هناك عازف شهير للبيانو كان يعمل في أوبرا كبيرة بلندن.فعلمت من دعاتنا هناك أن هذا الرجل رغب في الإسلام لسبب عجيب مختلف تماما عن الأسباب العادية، مما يكشف أن الله تعالى قد أخذ يحدث انقلابًا في عقول هؤلاء القوم.وبيان ذلك أن قضية تعدد الزوجات كانت تعتبر من قبل أكبر عائق في دخول الناس في الإسلام حيث كان الأوروبيون يقولون بإصرار شديد أن الزواج بأكثر من امرأة ظلم عظيم.أما اليوم فقد أصبح الوضع مختلفا إذ إن هذا العازف الشهير لما دخل في قلبه حب الإسلام ذهب إلى بعض المسلمين الآخرين وسألهم ما هو موقف الإسلام من تعدد الزوجات؟ فحوقلوا وقالوا إن أعداء الإسلام قد عرضوا هذه القضية على الناس بشكل مشوه؛ فليس في الإسلام أي حكم كهذا؛ وإنما جعل هذا الإذن مشروطًا بشروط وقيود.يقول هذا العازف: لما سمعتُ هذا الجواب قمت فورًا وقلت لهم: إن تعدد الزوجات هو الميزة البارزة للإسلام عندي، بينما تقولون أنه قد جعل هذا الأمر مشروطًا بشتى القيود والشروط.إني أريد الالتحاق بالمسلمين الذين يعلنون صراحة إن الإسلام قد أذن بتعدد الزوجات.فجاء هذا الشخص إلينا وسألنا عن موقف الإسلام بهذا الشأن.فقال له دعاتنا إن بذلك، ولكنه قد أمر الزوج بالعدل بين زوجاته وأداء حقوق كل منهم الإسلام يسمح واحدة منهن.فقال: هذا هو الصحيح، وهذا ما يقبله عقلي؛ وأرى أن أوروبا قد فقدت الكثير بترك هذا التعليم وأفسدوا أخلاقهم؛ لذا لن أذهب بعد ذلك إلى أحد سواكم.ثم قابلني أنا وجاء بأهله وأولاده إلى محل إقامتي.
الجزء السادس ۱۰۷ سورة الحج كذلك زارتني سيدة ألمانية كانت قد أسلمت حديثا، فقالت لي خلال الحديث إن الجنرال نجيب كان قد أرسلني إلى الملك السعودي، فاقترح علي الزواج من ابنه.فقلت لهذه السيدة : اشكري الله تعالى أنك نجوت منهم، إذ توجد عند هؤلاء زوجات عديدة! فقالت: ليس الواقع هكذا، وإنما تكون لهم زوجة واحدة، أما الأخريات فهن السراري ثم قالت لي ما دام الإسلام قد سمح بالزواج من أكثر من زوجة فكيف أعترض على ذلك وقد أسلمتُ.وأضافت قائلة: لقد تحدثت مع القسيسين مرارا، وكان أحدهم قد ألقى خطابًا ضد تعدد الزوجات، فقلت لـه: : إنك جد غبي.إنني أنا المرأة وأنا التي تكون لها الضرة وليست لك، ذلك لا ومع ومع اعتراض عندي على تعدد الزوجات، فلماذا تتضايق أنت من هذا الحكم؟ إنني أفهم الحكمة وراء هذا الحكم الإسلامي جيدًا.لقد أذن الإسلام بتعدد الزوجات، ولكنه قد أمر الزوج أن لا يفرق بين زوجة وأخرى في الطعام والثياب والمسكن، فلم تعترض المرأة على ذلك والحال هذه؟ إننا في الغرب نتزوج بعد الصداقات الطويلة، ذلك يحصل الخصام بين الزوجين بعد صداقة تطول سنتين أحيانًا.أما في حالة تعدد الزوجات فيكون لي بيت ولضرّتي الأولى بيت ،آخر، ولضرتي الثانية بيت ثالث؛ ولو خاصمني زوجي سآخذه من يده في المساء وأدفعه إلى البيت الآخر وأقول له: لقد تحملتك في بيتي بوجهك النحس طيلة اليوم، فلتره الآن زوجتك الأخرى.فإذا كان الزوجان في أوروبا لا يتخاصمان أبدا بعد زواج يتم بعد الصداقة كان لاعتراضهم على تعدد الزوجات ثقل ووزن، ولكن ما دامت الخصومات تقع في بيوتهم، فيصبح هذا الحكم الإسلامي خيرًا للمرأة، إذ بإمكانها أن تأخذ زوجها من يده وتدفعه إلى بيت زوجته الأخرى كلما خاصمها كيلا ترى وجهه الغضبان طوال اليوم.
الجزء السادس ۱۰۸ سورة الحج ولما حكيتُ قصة هذه السيدة لذلك العازف قال : لا تستغرب من قولها، فإن بإمكاني أن أدلك على عشرات الآلاف من النساء اللواتي هن على استعداد لأن يسمحن للرجل بالزواج من أكثر من امرأة شريطة أن يعدل بينهن.ولكن المشكلة أن أخلاق الناس في بلادنا قد فسدت لدرجة بحيث أصبح العثور على أزواج طيبين أمرًا متعذرًا.فترى كم هو عظيم هذا الانقلاب الذي أخذ يحصل في نفوس هؤلاء القوم! كما أخبرني العديد ممن قابلتهم أنهم لم يشربوا الخمر منذ عشرين أو ثلاثين سنة، إذ يرون شربها أمراً قبيحا.وكان الأوروبيون يعترضون في الماضى على الحجاب أيضًا، أما اليوم فأخذ بعضهم يعترفون بضرورته بل هناك ما هو أكثر غرابة.فقد أخبرني ذلك العازف الشهير الآنف الذكر أنه قد قرأ كتابي "ديباجة تفسير القرآن" وقد خالجه الشك بقراءته.فقلت له ما الذي رابك فيه؟ قال: لقد ذكرتم فيه أن رسول الله ﷺ كان معتكفا في المسجد ذات مرة، فجاءته إحدى نسائه تزوره، وجلست عنده حتى حل الليل، فخرج معها ليوصلها إلى البيت.فمر بهما شخص، فخاف النبي أن يظن به هذا الشخص الظنون، فتزل قدمه بعد ثبوتها.فكشف و و و و وجه زوجته وقال له: انظر، إنها زوجتي ورد في الحديث: "عَنْ صَفِيَّةَ بنت حُيَيٍّ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ الله ﷺ مُعْتَكفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ ليلا، فَحَدَّثْتُه.ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ مَعي يَقْلِبُنِي.وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ.فَمَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأَنصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا النبي ﷺ أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ : عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ بنتُ حُيَيٍّ، فَقَالا: سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ.فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الْإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّم، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا ، أَوْ قَالَ شَيْئًا".(مسند أحمد: مسند باقي الأنصار رقم الحديث ٢٥٦٣٠، والبخاري: أبواب الاعتكاف).(المترجم)
الجزء السادس ۱۰۹ سورة الحج قال هذا العازف لما قرأت ذلك قلت في نفسي إن الحجاب حكم عظيم من أحكام الإسلام، وهو روح الطهارة؛ فالذي قد رأى خدمات النبي وتضحياته ومع ذلك وإيمانه وإخلاصه وحبه الله تعالى طيلة هذه المدة الطويلة أي ستين سنة، تنتابه الشكوك والشبهات حول سيرته ، فليهلك ذلك الشقي وليذهب إلى هذا يعني أجله الجحيم، ولا داعي فقلت له : أليس قصدك أنك تظن أن النبي ﷺ قد ضحى بشيء كبير من أجل شيء صغير؟ كان إيمان هذا الشخص ذا قيمة بلا شك، ولكنه إيمان ضعيف، حيث شك في طهارة النبي ، فكشف النبي وجه زوجته حفاظا على إيمانه يماثل تضحية شيء عظيم من أجل شيء حقير.قال: نعم، هذا ما يحيرني.قلت: أنك تسلّم بضرورة التضحية بالشيء الصغير للشيء الكبير.والحق أن الحفاظ على إيمان ذلك الشخص كان أكبر من بقاء وجه زوجة النبي ﷺ في الحجاب.قال: كيف؟ قلت: أنت تعرف أن حكم الحجاب لم يرد في الشرائع السابقة، وتعلم أيضا أن أمر الحجاب نزل في الأعوام الأخيرة من حياة النبي ، حيث مكث النبي ﷺ ثلاث عشرة سنة في مكة دون أن ينزل حكم الحجاب؛ و لم يُفرض الحجاب خلال السنوات الأربع أو الخمس الأولى بعد هجرته إلى المدينة أن زوجات النبي لم يلبسن الحجاب سبع أو ثماني عشرة سنة أن يكشف النبي من وجه زوجته؟ أيضًا؛ وهذا يعني من مجموع الثلاث والعشرين سنة التي عاشها النبي الله بعد إعلانه النبوة.وحيث إن الحجاب قد فُرض بعد الهجرة إلى المدينة بأربع أو خمس سنوات فلا بد لك من الاعتراف أن كل صحابي - تقريبًا - قد رأى كل واحدة من زوجات النبي.فما الحرج إذا كشف النبي وجه السيدة التي قد رآها ذلك الشخص عشرات المرات قبل هذا الحادث، حفاظا على إيمانه.لقد كان هذا رأى نساءه في شبابهن، أما الآن فكن قد صرن عجائز فكشفُ النبي هل هلاله عن وجه زوجته العجوز
الجزء السادس 11.سورة الحج للحظة حفاظًا على إيمان ذلك الشخص الضعيف الإيمان ليس بأمر ذي بال.وهذا أن النبي لم يضح بشيء كبير من أجل شيء صغير، بل ضحى بالشيء يعني الصغير للشيء الكبير.ففرح هذا الأخ ،بقولي وقال لقد فهمت الأمر الآن.فما أعظم الانقلاب الذي حصل في أفكار هؤلاء كانوا يقولون من قبل حيث إن الإسلام يأمر المرأة بالحجاب فهو دين باطل، أما اليوم فيقولون: لماذا رفع النبي النقاب عن وجه زوجته وقت الليل ولو للحظة لكي يحفظ إيمان شخص واحد؟ لقد جاء لمقابلتي دسموند شو (Desmond Shaw)، الذي يُعد من كبار الكتاب في إنجلترا، بل إنه يعد نفسه أفضل من H G Wales، وقال إن أكبر ظلم يُرتكب في العالم هو أن النبي الهلال الذي نشر السلام في الدنيا أكثر من أي نبي آخر يوصف بـ "نبي الحرب"، ويجعله القسيسون عرضة للمطاعن.ثم قال لي: لعلك تعدني مجنونًا، إذ تقول في نفسك: كيف يتكلم مسيحي بهذا الكلام؟ صحيح أنني مسيحي، ولكني على يقين أن محمدا رسول الله الله كان أفضل من المسيح الله، وأن التعليم العظيم الذي أتي به محمد لم يأت به المسيح ال.ولما ودّعته ورجعتُ إلى غرفتي شعرت بأن شخصًا قادم ورائي، فلما نظرت إلى الوراء رأيته قادمًا إلي.فقال لي: لقد خطر ببالي سؤال وأردت أن أسألك إياه.قلت: ما هو؟ قال: إنني عندما أقول للناس أثناء خطبي إن محمدا رسول الله ﷺ أفضل الأنبياء قاطبة أشعر وكأن الله تعالى يتكلم ،بداخلي، ومع ذلك لا يقبل هؤلاء النصارى قولي؟ قلت: أيها السيد دسموند شو، إن هؤلاء إنما يسمعون صوتك فقط الله في ولا يسمعون صوت الله تعالى، ولكنهم عندما يسمعون صوته تعالى ويتكلم قلوبهم أيضًا عندها سيتأثرون من قولك معترفين بعظمة محمد رسول الله.فاطمأن بجوابي.
الجزء السادس ۱۱۱ سورة الحج إذًا، فالدليل الذي يذكره الله تعالى هنا بقوله إنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقيم على صدق نبيه هو أن الدنيا مهما أصرت على الإنكار إلا أنها ستعود في نهاية المطاف إلى التعليم الذي تقدمه أنت يا محمد بعد تعرضها لشتى العثرات والويلات، ذلك لأنك سائر على الصراط المستقيم، أما هؤلاء فهم تائهون في الغي والضلال وَإِن جَندَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (3) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَحْتَدِرُونَ (3) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَبٍ إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٤) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلُ بِهِ وو ۷۱ سُلْطَنَا وَمَا لَيْسَ هُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ) شرح الكلمات جادلوا جادله خاصَمَه شديدا (الأقرب).يسير : اليسير : القليلُ الهَيِّنُ (الأقرب).التفسير: أي أنهم إذا ما خاصموك بالباطل وجادلوك بعد أن بينت لهم البراهين ودعوتهم إلى الصراط المستقيم، فقل لهم ارتقبوا مصيركم إذا كنتم لا تريدون أن تهتدوا باتباع هذا الدين، ثم انظروا أي الفريقين يتلقى النصرة من عالم الغيب.ثم ساق الله تعالى ثلاثة براهين ضد الشرك كالآتي: الأول: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنزل به سُلْطَانًا..أي ليس بوسع المشركين تقديم أي دليل من الأسفار السابقة على عبادة الأشياء التي يعبدونها سوى الله تعالى.إنما يعبدونها مقلدين آباءهم تقليدًا أعمى.
الجزء السادس ۱۱۲ سورة الحج الثاني: وَمَا لَيْسَ لَهُمْ به علمٌ..أي أنهم عاجزون أيضًا عن أن يقدموا أي دليل على عبادة آلهتهم الباطلة بناء على ما جربوه أو شاهدوه بأنفسهم.وحيث إن الأمر وثيق الصلة بنجاتهم في الآخرة، فكان لزاما عليهم أن لا يتبعوا شيئًا لمجرد أنهم سمعوه من الآخرين، بل كان عليهم فحص الأمر وتدبره بأنفسهم.ولكنهم اتبعوا ما سمعوه دون أن يُعملوا بصيرة الثالث: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ..أي أن المشركين يظلون محرومين من تهم.تمت نصرة الله وتأييده كلما تمت المواجهة بينهم وبين الموحدين، مما يؤكد أنهم على الخطأ.وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَرُواْ الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَتِنَا قُلْ أَفَأُنَتِئُكُم بِشَرٍ مِّن ذَالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ قلے كَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) شرح الكلمات: ۷۳ المنكر المنكر ما ليس فيه رضى الله من قول أو فعل (الأقرب).يَسطُون: سطا عليه يسطو : صال عليه ووثَب.وقيل: قهره بالبطش، أو بسط عليه بقهره من فوق (الأقرب).فالمراد من قول الله تعالى يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا (۱) أنهم يهجمون على المؤمنين، (۲) أنهم يمارسون عليهم أنواع الضغط ليمنعوهم من نشر الدعوة.المصير المرجع والمعاد (الأقرب)
الجزء السادس ۱۱۳ سورة الحج التفسير: يبين الله تعالى هنا أن الأشرار يثورون غضبا عند سماع الحق ويصولون على المؤمنين محاولين منعهم من التبليغ بممارسة كل أنواع الضغط.إنهم لا يدرون أن قبول الحق خير لهم، وأنهم سيعانون إذا لم يقبلوه إنهم بسبب حماسهم المفرط فحسب يندفعون إلى إثارة الفتنة والفساد ويؤذون المؤمنين.وبالفعل ترى أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي لما أعلن أن المسيح العليا قد توفي كغيره من الأنبياء اندلعت نيران المعارضة في الهند من أقصاها إلى أقصاها، وثار طوفان المخالفة من كل مكان فأخرج العلماء كل ما في جعبتهم ضده الله، وانكسرت أقلامهم وهم يكتبون خلافه، وجُرحت ألسنتهم من كثرة الخطب.إنهم لم يألوا جهدا في أن يسموه الكافرا بل أكفر، ودجالاً وضالاً ومضلاً، حتى استصدروا الفتاوى ضده ال من علماء البلاد العربية.ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد أكد كل يوم طلع بعد ذلك أن بعضًا من أتباع هؤلاء العلماء صاروا منكرين لحياة المسيح العليا وإن لم ينضموا إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية.أما اليوم فلن تجد بين المثقفين المعاصرين أحدًا يؤمن بحياة المسيح ال، بل لو ناقشت هذه المسألة مع المسلمين عمومًا قالوا دَعْك من هذا فما الجدوى من مثل هذا النقاش؟ مما يدل على أن قلوبهم بدأت تستيقن بوفاة المسيح ال.وكذلك لما قال مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي إن الله تعالى قد بعث أنبياءه في كل بلد وقطر ثار الناس ضده وقالوا انظروا كيف يعتبر رام تشندر و کرشنا من الأنبياء وهكذا يعدّ هؤلاء الكفرة من رسل الله تعالى.أما اليوم فحتى أشد معارضينا أيضًا قد سلّموا بصحة هذه المسألة، وقد نشرت الجرائد المعارضة مقالات عديدة بأن الإسلام يعترف بصدق الأنبياء السابقين سواء كانوا في اليهود أو الهندوس أو الزرادشتيين وغيرهم.
الجزء السادس ١١٤ سورة الحج وكذلك عندما أعلن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العلي أن القرآن كتاب متسم بالكمال، وأنه لا نسخ فيه مطلقًا، ثار المشايخ ضده وأرغوا وأزبدوا، أما اليوم فتجد حتى علماء المسلمين وكذلك المتدينين من عامتهم، يستدلون بكل آية من القرآن الكريم، ولا يسلّمون بنسخ أي آية منه.وحصل هذا في كل زمن خلا، فكلما جاء نبي وبلغ رسالة الله عارضه الناس، وآذوه أشد الأذى، ولكن في نهاية المطاف اضطرت الدنيا لقبول ما جاء به الأنبياء قبل معترفة بهزيمتها.لقد تحدث الله تعالى في هذه الآية عن هذا السلوك المعاند من المعارضين، فبين أنه إذا تُليت عليهم آياتنا بينات ترى في وجوه الكافرين آثار الله الكراهية الشديدة يكادون يهاجمون الذين يقرأون عليهم آياتنا، ذلك بسبب انكشاف عجزهم عن تقديم الدلائل والبراهين العقلية والنقلية.يقولون في أنفسهم لا يمكننا التغلب على الأنبياء بالأدلة والبراهين إنما السبيل لذلك هو اللجوء إلى القوة وشَجّ رؤوس القوم الذين ينحرفون عن عقائدنا بالعصي والهراوات.ولكن المؤمنين يصبرون على عدوانهم مدركين أن من سنة الله تعالى أنه يجعل عباده يعبرون أنهار البلايا والشدائد أولاً ، ثم يمنحهم قربه لم يُبعث في العالم نبي إلا وامتحن جماعته بأشد البلايا والمحن وطهرهم بإلقائهم في بوتقة المصائب.وعندما أكدوا على صدقهم بتضحية دمائهم وأموالهم وأوطانهم وأهاليهم وأقاربهم أكرمهم الله عنده إكراما عظيمًا ، فكانوا من الفائزين في الدنيا ومن أهل الدرجات العلى في الآخرة.فعلى المؤمنين أن لا يخافوا من إيذاء المعارضين، وإنما عليهم الصبر على أذاهم، مستعينين بالله بالدعاء والابتهال.فإن القلوب كلها في يد الله تعالى وتصرفه، يهديها متى شاء ورد في التاريخ أنه في غزوة حنين انضم إلى جنود المسلمين أحد من مكة، واسمه شيبة، وكان بنيته أنه إذا التقى الجمعان وسنحت لـه الأعداء الفرصة قتل النبي ﷺ فلما حمي الوطيس وتشتت المسلمون نتيجة ما أمطره
الجزء السادس ۱۱۵ سورة الحج المشركون عليهم من سهام، ولم يبق مع النبي له إلا بضعة من أصحابه، أصلت شيبة سيفه وأخذ يدنو من النبي.يقول شيبة: لما اتجهت إلى النبي ﷺ "ارفع إلي شواط من نار كالبرق كاد يُهلكني، فحال بيني وبين النبي.وفيما أنا في ذلك حتى نادني النبي الا الله وقال يا شيبة، اذن مني.ولما اقتربتُ منه مسح صدري وقال: ادْنُ اللهم أعذه من همزات الشيطان." قال شيبة: فوالله ما إن مسح النبي بيده صدري حتى خرجت منه كل ما أكنه نحوه من عداء وبغضاء، وصرت مشغوفًا بحبه.ثم قال لي النبي ﷺ: هلم يا شيبة، قاتل الأعداء.فتقدمت وقاتلتهم.ولم يكن في قلبي إذاك أمنية إلا أن أضحي بنفسي دفاعا عن النبي..ووالله لو كان أبي حيًّا ووجدته أمامي لم أتردد عن ضرب عنقه أبدًا.(السيرة الحلبية: غزوة حنين، الجزء الثالث ص ۱۲۸) فعلى المرء أن يدعو ويصبر عند المعارضة، ولا يدع اليأس يقترب منه أبدًا.انظروا إلى رسول الله ﷺ كيف عارضه أهل مكة معارضة شديدة واستهزأوا بما جاء به، ولكنه لم يقنط ولم ييأس، بل استمر في دعوتهم بغير انقطاع.كان من عادته لأنه كلما وجد مجموعة من الناس جلوسًا، ذهب إليهم وقال لهم هل تسمحون لي بأن أحكي لكم شيئًا عن الله تعالى؟ وبما أن أهل مكة كانوا قد أشاعوا بين القوم أنه مجنون - والعياذ بالله - فكان أهل المجلس يشير بعضهم إلى البعض بأنه مجنون، ثم يتسللون واحدًا بعد الآخر.وكان بعضهم يلقي القاذورات على رأسه.وكان العديد منهم يسخرون منه ويستهزئون (السيرة النبوية لابن هشام: الجزء الأول، ذكرُ ما لقي رسول الله ﷺ من قومه).ولكنه ما برح يبلغهم رسالة الله ليل نهار، وفي نهاية المطاف خرج منهم أناس نذروا أرواحهم في سبيل الإسلام.إذًا، فالمثابرة على الدعوة والاستعانة بالله تعالى والاستغاثة به هي السبيل للنجاح.ومن المستحيل أن ينجح قوم لا يتحلون بهذا التفاني والفداء.
الجزء السادس 117 سورة الحج で يَتأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ صلے تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن تَخلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ VE شرح الكلمات : الذباب الحشرة المعروفة: ويُطلق على الزنابير والنحل.والذباب البعوض بأنواعه (الأقرب).التفسير: لقد ذكر الله تعالى هنا دليلاً رائعاً على بطلان الشرك وهلاك المشركين، حيث بين تعالى أن آلهتهم من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا لذلك، بل إن يسلبهم الذباب شيئًا من طعامهم لن يقدروا على استرداده منه.فما أضعف العابد والمعبود! أليس من المحير جدًّا أن يقول بعض المسلمين، رغم وجود هذه الآية، أن المسيح العليا كان يخلق الطيور (القرطبي).إن القرآن الكريم يعلن أن آلهة المشركين غير قادرة على خلق ذبابة ولو اجتمعوا له، بينما يقول المفسرون عندنا أن المسيح ال وحده خلق الطيور.العلية لا ذات مرة قال مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العلة لأحد المشايخ: إنك تزعم أن المسيح ال كان يخلق الطيور، وهذا يعني أن الطيور التي نراها في الدنيا بعضها قد خلقها الله تعالى وبعضها قد خلقها المسيح؛ فهل بوسعك أن تدلّنا على
الجزء السادس ۱۱۷ سورة الحج ما يميز بين هو من خلق الله وما هو من خلق المسيح الل؟ فقال الشيخ باللغة البنجابية ما معناه من الصعب الآن التمييز بين هذه الطيور لأنها قد اختلطت.مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزُ ) شرح الكلمات ما قدروا الله: قدر الله: عظمه (الأقرب).Vo التفسير : أي أن الذين ينكرون التوحيد لم يقدروا صفات الله تعالى حق قدرها؛ وهذا ما سبب لهم العثار.و بالفعل ترى أن منكري التوحيد، أو الذين يزعمون وجود وسائل أخرى غير الله تعالى في إدارة الكون، إنما أساس عقيدتهم أن عقولهم لا تسلم بوجود كائن يرى الكون كله، ويسمع الأصوات كلها.إنهم يظنون أن هناك حاجة إلى وسائط تنقسم بينها صفات الله تعالى، ويستعمل كل واحد منهم هذه الصفات في مكانه.وإنما السبب الأساسي لهذه الخدعة قياسهم صفات البارئ تعالى على صفات الإنسان وحيث إن الواحد منهم إذا نظر إلى جهة لم يستطع أن يرى الجهة الأخرى في الوقت نفسه، ظنوا أن رؤية الله تعالى أيضًا محدودة.ولما رأوا أنه ليس بوسعهم أن يسمعوا الأصوات من كل مكان في وقت واحد، ظنوا أن الله تعالى أيضًا ليس بقادر على سماع كل صوت من كل مكان في وقت واحد.فلما قاسوا الصفات الإلهية على الصفات البشرية أحسوا بحاجة إلى شركاء الله تعالى.وبناء على هذه الفكرة اعتقد بعض الفلاسفة أن علم الله تعالى كلي وليس جزئيا..تعالى يعلم أن الإنسان يأكل الطعام، ولكنه تعالى لا يعلم أن زيدًا – مثلاً – يأكل الآن إنه تعالى يعلم أن الأولاد يولدون في بيوت الناس، ولكنه تعالى لا يعلم أن ولدا يولد الآن في بيت عمرو.وليس أساس هذه الفكرة إلا أن الإنسان يقيس قدرة بمعنى أنه
الجزء السادس ۱۱۸ سورة الحج الله تعالى على قواه البشرية المحدودة.ولكن انظر كيف أن الله تعالى، الذي كان البشر الضعفاء ينقصون قدراته، قال لهم اليوم تعالوا لأزيد طاقاتكم وأريكم كيف توصلون أصواتهم إلى مسافات بعيدة جدًّا، وكيف تسمعون الأصوات بكل وضوح من أبعاد شاسعة.فمكن الله الإنسان من اختراع جهاز اللاسلكي، ليبين لـه أنه إذا كان بإمكانك أنت الكائن الحقير الذليل، أن تسمع باللاسلكي أصوات الدنيا وتوصل صوتك إلى مختلف أنحائها فكيف تظن أن الله تعالى، الذي خلقك، لا يقدر على سماع صوتك؟ فعندما يوصل أحد المغنين أو المغنيات في إنجلترا صوته اليوم إلى شتى أنحاء العالم، فإن كل اهتزاز في الجو وكل ارتعاش للصوت يضحك على فلاسفة أوروبا ويقول أيها الأغبياء، ألم تعلموا بعد أن الله تعالى قادر على سماع أصوات العالم كله كذلك قد اخترعت الآن مراصد ضخمة تمكن من حر ركة الكواكب الموجودة على بعد مئات الآلاف من الأميال.هذا وقد تم تطوير جهاز اللاسلكي الآن تطويرًا كبيرًا بحيث يُري الصور من أبعاد شاسعة هائلة.قصارى القول إن التقدم العلمي قد أزال اليوم تلك الشبهة القائلة كيف يمكن أن يرى الله تعالى الكون كله، وكيف يسمع أصوات الكون كلها، حيث تبين للناس أنه إذا كان بوسع الإنسان، وهو كائن حقير أن يوصل صوته إلى الدنيا كلها، كما يمكن أن يسمع صوت شخص جالس في الناحية الأخرى من العالم، بل يرى صورته أيضًا أفليس الله ذو الجلال بقادر على أن يرى كل شيء ويسمع صوت كل إنسان؟ وحيث إن الله تعالى يبصر كل شيء ويسمع صوت كل إنسان، فما الحاجة به إلى أي إله مساعد؟ إنه تعالى وحده يسيطر على الكون كله، ويحكم بمفرده على كل شيء.مشاهدة
الجزء السادس ۱۱۹ سورة الحج إذًا، فقد نبه الله تعالى بقوله مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْره إلى هذا الخطأ الأساسي عند المشركين، مبينًا أنهم يخطئون في معرفة قدرات الله تعالى لأنهم يقيسونها على ما عند البشر من قوى وطاقات، وبالتالي يقعون في العقيدة السيئة كالشرك.اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَتَبِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ وو سَمِيعٌ بَصِير ) شرح الكلمات : يصطفي : اصطفاه: اختاره (الأقرب).التفسير: أي أن الله تعالى سيظل ينزل ملائكته على عباده الأطهار، كما سيظل يختار من عباده المصطفين رسلاً ليبعثهم إلى الدنيا، لأنه تعالى سميع الدعاء وبصير بظروف العباد.؛ فكلما يجد روحَ إنسان تتعطش إلى ماء السماء سينـــزل الله تعالى عليه الماء من السماء، وكلما يرى عباده قد انحرفوا عن الهدى سيبعث لهدايتهم عباده الأطهار.كان الكلام قبل هذه الآية موجهًا إلى الذين كانوا معاصرين للرسول وليس إلى الذين خلوا من قبله.وبما أن الله تعالى هنا أنه يختار رسله من الملائكة يصرح والناس وسيختارهم دائما في المستقبل كما هو واضح هنا من فعل المضارع لذا فإن هذه الآية تسلط الضوء بكل جلاء على قضية إمكانية يَصْطَفِي) - - استمرار النبوة في أمة المصطفى ، حيث يتضح منها أن الله تعالى سيظل يبعث البعض من أمته على مقام النبوة والرسالة.
الجزء السادس ۱۲۰ سورة الحج قلے ۷۷ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (3) التفسير: أي أن الله تعالى يعلم ما قد فعله الإنسان وما لم يستطع أن يفعله، وإليه ترجع الأمور كلها؛ فكيف يمكن أن لا يهدي الناس عند الحاجة.إذ لو لم الله تعالى حُقِّ لهم عند المثول أمامه تعالى للحساب، أن يقولوا يا رب، أنت الذي لم تمدنا بالهدى عند حاجتنا إليه، فما ذنبنا في ذلك؟ ويتضح يهدهم أيضًا من قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَينَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أن أحدًا لا يوهب النبوة بناء على كفاءاته السابقة فحسب، بل أيضًا بالنظر إلى كفاءاته التي شأنها أن تنكشف في المستقبل، ومن أجل ذلك ذكر الله تعالى هذا الأمر مقرونًا من موضوع اختيار الرسل.يَتأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُ لِحُونَ )) شرح الكلمات : ۷۸ اركعوا ركع المصلّي رَكْعًا وركوعًا طأطأ رأسه.ركع إلى الله: اطمأن إليه.ركَعَ الرجلُ: انحطّت حاله وافتقر.وركع المصلي في الصلاة ركوعًا: خفض رأسه بعد قومة القراءة حتى تنال راحتاه رُكبتيه أو حتى يطمئن ظهره.والراكع: كلُّ ء يخفض رأسه (الأقرب).وورد في تاج العروس: "قال ثعلب: الركوع الخضوع.وكانت العرب في شيء الجاهلية تسمّي الحنيف راكعا إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله."
الجزء السادس ۱۲۱ سورة الحج فالركوع يعني التذلل والخضوع، وعليه فالمراد من قوله تعالى (ارْكَعُوا): (۱) تواضعوا، (۲) اعبدوا الله عبادة خالصة مستمسكين بالتوحيد تمامًا.اسجدوا: سجد: خضع وانحنى.وسجد البعيرُ : خفض رأسه.وسجدت السفينة للرياح: طاعتها ومالت بميلها.وفلانٌ ساجد المنخر أي ذليل خاضع (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى وَاسْجُدُوا : أطيعوا الله وانقادوا لــــه.التفسير: لقد نبه الله تعالى هنا المؤمنين إلى الواجبات التي تساعد الجماعات الإلهية على النجاح والتي من المستحيل أن تتغلب بدونها.وليكن معلوما أن منهج الجماعات الدنيوية مختلف تماما، ولا يمكن أن تقاس عليه الجماعات الإلهية.إذ لا ترى الجماعات الدنيوية ضرورة التمسك بالصدق، فتلجأ إلى الكذب والغش والخداع، وتسعى لنجاحها بكل طريق ممكن مشروع وغير مشروع ولكن الدين قد حرّم بتانا هذه الأساليب والمكائد التي تعتبر سببًا للنجاح في الدنيا عادة يلجأ الناس في أمور دنياهم إلى الكذب محتجين أنه لا مناص لهم منه.ويقومون بالغش والخداع زاعمين أنه لا مفر لهم منه.ويعاملون بالنفاق قائلين أنه لا مهرب لهم.فإننا نرى أن دولة عندما تريد إلحاق الضرر بأمة أخرى، فإنها، من ناحية، تستجمع كل قواها للهجوم على الأخرى، آخذةً أهبة الاستعداد في كل شعبة من شعبها، ومن ناحية أخرى، تعلن حكومتها في الوقت نفسه بأعلى صوتها أن لها علاقات ثنائية طيبة مع تلك الدولة؛ ومع أنها تكون قد صممت على شن الهجوم على الدولة الأخرى، إلا أنك تجد مفكريها يعلنون أنهم لن يألوا جهدًا في أن يتصالح الطرفان؛ ولا يكون الهدف من هذه الإعلانات إلا خداع العدو.وعدوهم أيضا يتعامل معهم بنفس الطريقة، فيلجأ هو الآخر إلى المكر والخداع والكذب.ولكن الله تعالى لا يسمح للجماعات الإلهية اتباع هذا المنهج المعوج، وإنما يقال لهم: لا تفاجئوا أحدًا بالهجوم، وإذا كنتم في عهد مع قوم، ووجدتم أنهم
الجزء السادس ۱۲۲ سورة الحج يغدرون بعهدهم، فعليكم أن تعلنوا لهم إلغاء المعاهدة قبل شن الحرب عليهم بمدة كافية، إن أردتم حربهم.إذا، فهناك مشاكل كبيرة أمام الأمم الدينية، إذ من غير أن المسموح لها أن تتخذ التدابير التي يلجأ إليها أهل الدنيا؛ لذا فإن العقل يقتضي يكون هناك شيء يساند هؤلاء الأبرار إزاء غش الأعداء ومكرهم وكذبهم.وقد ذكر الله تعالى ذلك السند في هذه الآية، وفيما يلي بيانه.يعني يقول الله تعالى هنا أولاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا).علما أن الركوع هنا أن يتوجه المرء إلى الله تعالى مع إيمان كامل بتوحيده ويطرد فكرة كل ما سوى الله تعالى من القلب كلية.وكأن الركوع هو الإيمان الكامل بتوحيد البارئ تعالى، وطردُ فكرة عبادة أحد سوى الله تعالى من القلب أو الثقة به أو التوكل عليه أو الأمل منه.يقال "فلان" راكع إلى الله"..أي مال إليه تعالى طاردًا كل فكرة لأي شيء مادي من قلبه إذا فالركوع هنا لا يعني الركوع الذي في الصلاة حيث يخضع ويأخذ بركبتيه بيديه، لأننا لا نقوم بمثل هذا الركوع خارج الصلاة بل هو جزء منها.والركوع..مجرّد الركوع..ليس ثابتا في الإسلام في أي مكان إلا ما هو في الصلاة، كما أن السجود..مجرد السجود..أيضًا ليس ثابتا في الإسلام خارج الصلاة إلا سجود الشكر على نعمة ما أو الذي يكون خلال تلاوة القرآن أو السجود الذي يجوز للداعي القيام به أثناء الدعاء.فالركوع هنا يعني ميل المرء إلى الله تعالى نافضًا من القلب كل تفكير في ما سوى الله تعالى، ومؤمنا بالتوحيد الكامل.وكأن هذا الركوع هنا يقوم مقام الأشياء التي يأمرنا الله بتركها مثل الغش والخداع والكذب.وقد استعمل الله تعالى هنا لفظ الركوع لأن الشيء الراكع يميل إلى ناحية، ولأن المرء إنما يتكئ على شيء إذا كان مائلاً إليه، أما إذا ظل مستقيما فلا يمكنه الاتكاء عليه فقوله تعالى (ارْكَعُوا هو أمرٌ بالتوكل على الله تعالى والميل إليه
الجزء السادس ۱۲۳ سورة الحج فقط.إن الزور والخداع والنفاق سند أهل الدنيا وعمادهم، ولكن الله يقول لنا إن هذه الأمور سند سيء، فاتركوها ولا تقتربوا منها والقاعدة أن الإنسان إذا ما حرم من سند احتاج إلى سند آخر، لكونه غاية في الضعف وقلة الحيلة.فمثلاً إذا مشى الإنسان المريض الضعيف اتكأ على عُكّاز، أو إذا توقف استند إلى جدار، أو إذا تعب جلس على كرسي، أو إذا كان مستلقيًا على سريره وأراد أن يهب استند إلى مرفقه أو إلى وسادة.فالإنسان بحاجة إلى الاستناد إلى أشياء أخرى وقت المرض والضعف.وبما أن الإنسان جد ضعيف في العالم الروحاني، حيث تقف آلاف الأمور الخفية سدا منيعا دون رقيه الروحاني، فإنه بحاجة إلى سند ما في العالم الروحاني أيضًا.إن الشخص المادي يستند في مثل هذه الظروف إلى الغش والخداع والكذب والمكر ولكن الله تعالى يقول للمؤمنين إياكم وهذه الأمور كلها، فلا تخدعوا ولا تكذبوا ولا تغشوا ولا تلجأوا إلى أي طريق غير مشروع.وما دام الشرع قد حرم الإنسان الضعيف من كل سند مادي، فماذا يفعل إذا؟ إذ لا بد للضعيف من سند، وحرمانه من السند يماثل حرمان الشخص المعوّق من عُكازته، أو يشبه نزع الوسادة من تحت المريض، أو هو بمثابة إبعاد الكرسي عن الضعيف إذا ما هم بالجلوس عليه إنه لا بد له من سند في هذه الحالة وإلا سيقول: آتوني ما أعتمد عليه وإلا سأسقط على الأرض.فيجيب الله تعالى على سؤاله هذا في هذه الآية فيقول ارْكَعُوا.أي عليكم أيها المؤمنون أن تتكلوا علي، وتتوجهوا إلي.ومثل سلوك الله تعالى هذا كمثل إنسان يأخذ من شخص عصاه، ويقدم لـــه كتفه قائلا: تعال امش متكئًا على كتفى.فالله تعالى إذا ما نهانا عن اللجوء إلى الطرق غير المشروعة من جهة، فإنه من جهة أخرى قال لنا إنكم بحاجة إلى سند ما في كل حال، فتعالوا واعتمدوا علي واستندوا إلي.
الجزء السادس ١٢٤ سورة الحج إذًا، فلفظ الركوع يدعونا إلى التوكل على الله تعالى، حيث يعلّمنا الله تعالى أنه ينبغي للمؤمن أن يتوكل على الله تعالى، مؤمنًا بأنه تعالى نفسه سيتدارك ما في أعماله من نقصان.فما دام الله تعالى قد نهى المؤمن عن اللجوء إلى التدابير المادية غير المشروعة من أجل النجاح فقد صار تعالى نفسه كفيلاً له، وسيسدّ له ما في عمله من خلل ونقص.ثم يقول الله تعالى وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.والسجود هنا أيضا ليس السجود الذي نقوم به على الأرض أثناء الصلاة، والدليل على ذلك هو قوله تعالى بعد ذلك (وَاعْبُدُوا، فإن عبادتنا تشمل السجود أيضًا.إنما يعني قوله تعالى وَاسْجُدُوا هنا أن عليكم بطاعة الله طاعة كاملة واتباع أحكامه اتباعا تاما، واعملوا كما يأمركم به سواء أفهمتم حكمته أم لم تفهموا.ذلك لأن الإنسان يعلم أن الله تعالى قد أمره بفعل شيء، ومع ذلك يظن، بسبب حمقه وغبائه، أن فيه هلاكه، ولكنه لو عمل به ابتغاء مرضاة الله تولى الله حفظه وحمايته، فيبدأ نزول النعم عليه بدلاً من أن يهلك ويباد.لقد ورد في الحديث مثال لطيف رائع يبين كيف أن الذين يتحملون الأذى لوجه الله تعالى ويلقون أنفسهم في التهلكة في الظاهر، يرثون أفضال الله تعالى في نهاية المطاف، ويخلق الله تعالى لهم من أسباب الهلاك أسباب البركات.ورد في الحديث أن الله تعالى سيأمر عبدًا من عباده يوم القيامة بأن يقفز في النار، فيقفز فيها دونما خوف ويقول في نفسه: ما دام الله تعالى يأمرني أن أدخل النار، فأنا راض بها.ولكنه حين يدخل فيها تتحول جنة ذات راحة ونعيم، فيلعب بالنار، فيقول الله تعالى انظروا إلى عبدي كم هو فرحان بالنار.
الجزء السادس ۱۲۵ سورة الحج والحق أن هذا المثل يبين لنا أن الذين يلقون أنفسهم في التهلكة في الظاهر بتقديم التضحيات في سبيل الدين، يخلق الله لهم أسباب الرقي من أسباب الهلاك نفسها.الدنيا تظن أنهم قد قفزوا في النار، ولكنهم حين يقفزون فيها تتحول لهم إلى الجنة.ومن المعروف أن الجزيرة العربية كلها ارتدت إثر وفاة النبي ، حتى خاف هذه الفتنة أبطال كعمر وعلي - رضي الله عنهما.وكان النبي ﷺ قد جهز جيشا قبيل وفاته لشن الهجوم على بعض المناطق الرومية، وأمر عليه أسامة ، ولكن عاجلته المنية قبل رحيل الجيش.ولما رأى الصحابة ارتداد الجزيرة العربية كلها إثر وفاته خافوا خوفًا شديدا، وظنوا أنه لو بعث جيش أسامة لحرب الرومان خلال هذه الثورة والتمرد فلن يبقى في المدينة إلا الشيوخ والنساء والولدان، ولن يكون هناك من يحرس المدينة فاقترحوا أن يذهب وفد من كبار الصحابة إلى أبي بكر يلتمس منه منع الجيش من الخروج إلى أن تُخمد الثورة.فذهب إلى أبي الله بكر وفد من كبار الصحابة بمن فيهم عمر، وعرضوا عليه التماسهم.فقال أبو بكر الله للوفد وهو غضبان: هل تظنون أن أول عمل يقوم به ابن أبي قحافة بعد وفاة النبي هو أن يمنع الجيش الذي أمر بتسييره - علما أن أبا قحافة هو كنية والد أبي بكر ، وكان من بسطاء الناس في مكة وكان أبو بكر له إذا أراد الإشارة إلى ضآلة شأنه ذكر اسم أبيه، مبينًا أنه ما كان لي أن أفعل كذا وكذا، فإني ابن فلان وفي هذه المناسبة ذكر أبو بكر أيضًا اسم أبيه وقال: أنى لابن أبي قحافة أن يوقف الجيش الذي جهزه النبي ﷺ اللقاء العدو - ثم قال أبو بكر : فليرتد العرب كلهم والله لو أن العدو اقتحم المدينة وعاث فيها، حتى جرت الكلابُ
الجزء السادس ١٢٦ سورة الحج جثث المسلمات في شوارع المدينة ، لأبعثنَّ الجيش الذي أمره النبي ﷺ بالخروج.فإذا كنتم تخافون جيوش العدو فاتركوني إن شئتم، ولسوف أحارب العدو وحدي.(البداية والنهاية، مجلد ٣ ٣٠٤: فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد) ص أين استمد أبو بكر الله هذه الشجاعة والبسالة يا ترى؟ إنما هي نتيجة العمل بقول الله تعالى ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا.فكما أن السلك العادي إذا اتصل بتيار الكهرباء تولدت فيه طاقة هائلة، كذلك إذا حظى المرء بقرب الله تعالى فليس بوسع أي قوة في الدنيا مقاومته إذا عزلت السلك عن تيار الكهرباء لم يعد ذا شأن، ولكنه إذا كان متصلاً بتيار الكهرباء وبدون غلافه المطاطي، فلو لمسه أقوى شخص في العالم لسقط على الأرض كالفأر الميت، ولن تنفعه قوته شيئا.بالاختصار، إن الناس يقدّمون تضحيات جسيمة من أجل العز المادي، فيقول الله تعالى للمؤمنين مشيرًا إلى هذا الأمر : ما دمتم قد أتيتم إلينا، فعليكم أن تدركوا جيدا أنكم لن تحرزوا أي نجاح بدون العمل بوصيتنا وهي: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.واعلموا أنكم إذا توكلتم علينا وعاهدتمونا بطاعة أوامرنا طاعة كاملة وقمتم بعبادتنا فلا بد أن نكتب لكم النجاح والفلاح.ثم يقول الله تعالى (وَافْعَلُوا الْخَيرَ..أي أنكم إذا توكلتم على الله تعالى، ووضعتم نير طاعته على أعناقكم، وقمتم بعبادته ليلاً ونهارا، فواجبكم الرابع أن تسعوا لخير الإنسانية.فارعوا الأيتام، وتفقدوا أحوال الأرامل، وأشفقوا على ونص ما قاله أبو بكر له بحسب إحدى الروايات هو: "والله، لا أحل عقدةً عقدها رسول الله ﷺ ، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزنّ جيش أسامة، وآمر الحرس يكونون حول المدنية." (البداية والنهاية: فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد مجلد ٣ ص ٣٠٤) (المترجم)
الجزء السادس ۱۲۷ سورة الحج المساكين وعاملوهم بالرأفة وأحسنوا إلى الجيران وانشروا الإسلام بين الشعوب التي لا علم لها به، وافعلوا كل خير لعلكم تفلحون.وفيما يتعلق بأمر الله تعالى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فإن الناس يقبلونه إلى حد ما، ولكنهم يظنون أنهم سيهلكون إذا عملوا بأحكام الله الأخرى.يقولون: كيف لا يهلك من يتوكل على الله تعالى.ويقولون: من يعمل بأحكام الدين ويتبرع في سبيله بالمال، فليس مصيره إلا الفقر.ويقولون: إن الذي يصلي خمس صلوات لا بد أن يضيّع ثلاث أو أربع ساعات يوميًّا، وكيف ينجح في الدنيا من يضيع هذا القدر الضخم من وقته الثمين؟ إذا، فالدنيا ترى أن هذه الأحكام كلها تؤدي إلى الهلاك، بينما يوصي القرآن الكريم المؤمنين بأن لا يعملوا إلا هذا لأن ثمة بونا شاسعا بين الرقي المادي والرقي الديني، ولأن وسائلهما أيضًا تختلف اختلافا كبيرًا.وَجَهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَنكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ ج で مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّنكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَوَةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَىكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (3) شرح الكلمات: ۷۹ جاهدوا: جاهَدَ في سبيل الله مجاهدةً وجهادًا: بذل وُسْعَه.وجَاهَدَ العدو: قائله (الأقرب).
الجزء السادس ۱۲۸ سورة الحج وفي المفردات: "الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو.والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس؛ وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى ﴿وَجَاهَدُوا في الله حق جهاده.(المفردات) اجتباکم اجتباه اختاره واصطفاه (الأقرب).حرج: ورد في المفردات: "قيل للضيق حرج وللإثم حرج".اعتصموا اعتصم به أمسكه بيده.واعتصم بالله: امتنع بلطفه واعتصم فلان من الشرّ والمكروه: التجأ وامتنع (الأقرب).من المعصية.التفسير : أي لا تكتفوا بالإقرار باللسان فحسب، بل اسعوا بالأعمال في سبيل الله حق السعى، فهو قد اصطفاكم دون الأمم الأخرى في أمور الدين، وقد اختار لكم ذلك الدين الذي لا ضيق فيه، بل إنه يساعد على السير في الصراط المستقيم دونما ثقل يفوق طاقتكم.وقد تحدث المفسرون في تفسير قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج.فمنهم من قال إنه إشارة إلى سماح الإسلام بقصر الصلاة خلال السفر.ومنهم من يقول بل هو إشارة إلى كثرة الزوجات ورخصة الإفطار للمسافر.ومنهم من يقول إنه إشارة إلى جواز صلاة المريض جالسًا وعدم فرضية الجهاد على من لا يقدر عليه.(القرطبي) من لا شك أن هذه الأقوال صحيحة ولا بأس بها، ولكن يجب أن نأخذ في الحسبان أن الله تعالى قد استعمل هنا لفظ مِنْ حَرَج..أي أنه لم يجعل في الدين أي نوع الضيق.فثبت أنه تعالى لا يشير هنا إلى نوع خاص من الضيق، بل ينفي كل نوع منه.والموضوع الحقيقي الذي يبينه الله تعالى هنا هو أنه لم ينزل الشرع لكي يثقل على الناس، وإنما لكي يضع عنهم أثقالهم.لقد قال المسيحيون خطأ أن الشرع لعنة (رسالة بولس الأولى إلى أهل غلاطية ٣: ١٣)، مع أن الشرع هو بمثابة إرشاد
الجزء السادس ۱۲۹ سورة الحج وهداية، ولا يعد الهدي والإرشاد لعنة إلا الغبي الأحمق.فمثلاً، تصف كتب الطب بعض الأشياء بأنها سمّ، وأنه إذا تناول أحد ذلك السمّ فعليه أن يتناول كذا من الأشياء فإنه ترياق يزيل التأثير الضار لذلك السم.فمن ذا يعتبر هذه الكتب لعنة يا ترى؟ كلا، بل إنها تجلب الراحة والسعادة للناس دائما، وليس التعب والأذى.وبالمثل إن الشرع يعلّمنا طرق تفادي الأمراض الروحانية والآفات المادية، ويرشدنا إلى التدابير التي تنجي من المصائب التي قد حلّت بالفعل.قال الله تعالى في القرآن الكريم يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ منْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: ۲۷- ٢٩)..أي أن الله تعالى يريد أن يبين لكم كل المسائل بكل وضوح، ويخبركم ما هو خير لكم من الأعمال وما هو ضار بكم.لقد خلت قبلكم شعوب، فنعم بعضهم بالراحة والسعادة نتيجة أعمالهم، وذاق بعضهم الأذى.ويريد الله تعالى أن يبين لكم أحوالهم تمامًا، ويهديكم إلى طريق قوم نجوا من الهلاك، لأنه تعالى يعلم أخبارهم جيدا، ويعلم الحكمة وراء كل شيء.يريد الله تعالى أن يتم رحمته عليكم من خلال ،شرعه ولكن الذين يتبعون شهواتهم يودون أن تميلوا كلية إلى جهة واحدة، أي أن تنحرفوا عن جادة الوسط والاعتدال، وتميلوا إلى طرف واحد.ثم يقول الله تعالى: إنه يريد أن يخفف عنكم أثقالكم لأن الإنسان قد خُلق ضعيفًا بفطرته، والله يعلم أن الإنسان سيتضرر ضررًا كبيرًا إذا لم يُؤتَ أي نوع من التعليم والهدى.فالواقع أن هدف الشرع تخفيف أثقال الإنسان وإنقاذه من الأخطار والمصائب بكل أنواعها.وهذا ما قد ذكره الله تعالى في قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج، مبينًا أنه ليس في الدين الذي قد أنزله الله لكم حكم يدفعكم إلى الحرج
الجزء السادس ۱۳۰ سورة الحج والمعاناة، بل لو تدبرتم في أي حُكم من أحكامه صغيرًا أو كبيرا، لوجدتموه بركة ورحمة للناس.ثم يقول الله تعالى مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ..أي أنه دين أبيكم إبراهيم، وليس هو بدين جديد حتى يشق عليكم اتباعه بل هناك أكثر من ذلك وهو أن الله تعالى قد سماكم المسلمين من قبل وفي هذا الكتاب أيضًا حتى يشهد محمد رسول الله ﷺ بعمله على أنه هو الموعود على لسان إبراهيم وغيره من الأنبياء السابقين؛ ولتكونوا أنتم أمام الأمم الأخرى شهداء على أنكم أنتم الذين النبي فقد تستحقون بجدارة هذا الاسم الجديد الذي أنبأت به الصحف السابقة.أما النبوءة المشار إليها في قوله تعالى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وردت في سفر إشعياء النبي كالآتي: "وتُسَمَّينَ باسم جديد يعينه فم الرب." (إشعياء (٦٢: ٢ كذلك أنبأ إشعياء النبي: "وتُخلفون اسمكم لعنة لمختارِيَّ، فيُميتك السيد الربُّ، ويسمّي عبيده اسما آخر".(إشعياء ٦٥: ١٥) لقد حاول كتبةُ الكتاب المقدس تطبيق نبوءة إشعياء هذه على الكنيسة.(The Old Testament with a brief commentary: Word: "Isaiah") ذلك بالرغم من أن الله تعالى لم يعط المسيحيين أي اسم من عنده؛ كما أن شتى الأسماء التي اختارتها شتى الفرق المسيحية لنفسها إنما هي من اختيارها هي وليس من اختیار الله تعالى.هناك أمة واحدة فقط في الدنيا تلقت اسمها من عند الله تعالى أعني المسلمين؛ وإلى هذا قد أشار الله تعالى بقوله هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبْلُ.أما قوله تعالى (وَفِي هَذَا فهو إشارة إلى دعاء لإبراهيم ال قد سجله القرآن الكريم كالآتي: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةٌ لَكَ
الجزء السادس ۱۳۱ سورة الحج (البقرة: (۱۲۹)..أي ربنا عُدَّني أنا وابني إسماعيل من المسلمين عندك وأَخْرِجُ من أولادنا أيضًا جماعةً كبيرة تكون مسلمةً عندك.وطبقًا لهذه الأنباء قد أعلن محمد رسول الله ﷺ أن الله تعالى قد سمى أُمّي "المسلمون" وديني " الإسلام".وينطوي لفظ "الإسلام" على حكمة عميقة وفلسفة عظيمة، ولو أمعنت النظر فيه لوجدت أنه يبين غاية هذا الدين بكل وضوح وجلاء.فمن خصائص اللغة العربية الرائعة أنه ليست الكلمات فيها وحدها تؤدي معاني معينة، بل إن الحروف فيها أيضًا تتضمن مفاهيم معينة.كما أن اللفظ الموضوع لشيء في العربية لا يكون علامة على ذلك الشيء فحسب، بل يُطلق عليه لسبب هام، حيث يدل على الميزة الخاصة بذلك الشيء والتي بسببها أُطلق عليه ذلك الاسم.فمثلاً يقال في لغتنا "الأردية" للشيء الطويل "لمبي" وللشيء القصير "چھوٹی"، وللأم "مان"، وللأب "باپ"، غير أن هذه الكلمات لا تدل على الميزة الخاصة التي بسببها أُطلقت هذه الأسماء على هذه الأشياء، ولو أننا سميناها بأسماء أخرى لما حصل أي نقص في هدفنا.فمثلاً لو أطلقنا على الشيء الطويل "چهوٹى" وعلى الشيء القصير "لمبي"، ثم راجت هذه التسمية وتداولت لما حصل أي نقص في لغتنا الأردية ولكن الأمر ليس هكذا في العربية، إذ لا يجوز فيها أن تسمي الطويل قصيرًا، لأن حروف "ق ص ر" لا تدل على المعاني التي تتضمنها حروف "ط و ل".قصارى القول، إن أسماء الأشياء في اللغات الأخرى إنما تكون مجرد علامة لها، ولا حرج لو وضعنا لها أسماء أخرى، أما العربية فلا يكون الاسم فيها علامة شيء فحسب، بل يدل أيضًا على ميزته الخاصة، لذا فمن المستحيل أن نستبدل اسما لشيء بآخر.وقد اختار الله تعالى لدين الإسلام اسما ينطوي على مزايا كثيرة وحكم بالغة.فكلما اجتمعت في كلمة حروفُ "س" ل م"، التي يتكون منها لفظ الإسلام، دلت على معنى الحفظ والحماية حتمًا، ولا يزال هذا المفهوم قائما في كل الكلمات التي تتكون نتيجة تغيير ترتيب هذه الحروف.خذوا مثلاً لفظ "الإسلام"، الذي يعني الطاعة والانقياد فهذا المعنى يتضمن مفهوم الحفظ والحماية حتما، لأن المرء إذا
الجزء السادس ۱۳۲ سورة الحج أطاع كبيرًا من الكبراء حفظ تلقائيا من الأذى الذي قد يصيبه من طرفه.ثم إن يتمتع الشخص المطيع المنقاد هو الذي تكون نفسه وماله في حفظ وحماية، إذ لا المتمردون بحماية في أي دولة، بل كان يقال في العصور القديمة عن هؤلاء "إنهم خارج القانون"، ولو قتلهم أحد لم تعاقبه الدولة.ثم هناك لفظ "السلم" ومعناه النجاة من المصائب والآفات.ويقال "سلم الجلْدَ" أي دَبَغَه بالسَّلَم.وإنما يُدبغ الجلد ليصان من التآكل والضياع.وهنا أيضا تجد معنی الحفظ.ويقال : سالمه إذا صالحه.والصلح أيضًا يكون بهدف الاتقاء من الشر.ويقال: تسلّم الشيء: قبضه والبديهي أن الشيء إذا وقع في قبضة صاحبه صار مصونًا.ويقال: استلم الزرعُ: خرج سُنبله.وهنا أيضًا تجد معنى الحفظ، لأن الفلاح لا يطمئن ولا يرى نفسه مصونًا من الخسارة ما لم يخرج زرعه سنابله وما لم تنبت الحبة فيه.والسلام اسم من أسماء الله تعالى لكونه بريئا من كل نقص وعيب.وفي الاشتقاق الكبير ينقلب لفظ "السلم" إلى كلمات أخرى وإليك بيانها: السمل، يقال شمل الحوض سملا: نقاه السَّمَلة وأصلحه.وسمل بين القوم: أصلح.من واللّمْسُ أيضًا فيه معنى الحفظ لأن المرء إنما يصون الأشياء بحواسه التي منها اللمس.ومسل الماء: سال.وإذا سال الماء إلى الزرع حماه من الجفاف والتلف.والأسم هو السكوت وغني عن البيان السلام الذي يتمتع به المرء نتيجة 28 سكوته.ولنعم ما قيل: البلاء موكل بالمنطق.والملس هو المداهنة، وإنما يداهن المرء ليتقي شر غيره بكلامه المعسول.السلم: شجر من العضاه يُدبَغ به (الأقرب).(المترجم)
الجزء السادس ۱۳۳ الله تعالى سورة الحج وينجوا من بالاختصار، إن حروف "س" ل م" في العربية تعطي دائما معنی الحفظ والحماية أيا كان ترتيبها في الكلمات المركبة منها وعليه فالمراد من "الإسلام" قيام المرء بأعمال تنجيه من الهلاك.وكأن الله تعالى قد بين في هذا الاسم الغاية من بعثة محمد رسول الله ، ألا وهي أن يصير الناس في مأمن من غضب التنازع والتحارب.أي أن تكون لهم صلة وثيقة بالله تعالى من جهة، ومن جهة أخرى أن يعاملوا الناس معاملة طيبة تؤدي إلى الحب والوئام بينهم وتقضي على الفتنة والفساد.والحق أن الدين الحق يهدف إلى هذين الأمرين: إنه يقوي صلة العباد بالله تعالى من ناحية، ومن ناحية أخرى يحثهم على الشفقة على خلق الله تعالى.وإذا توثقت صلتهم بالله تعالى نتيجة عملهم بهذا التعليم، وصاروا مشفقين على خلق الله تعالى أصبحوا في مأمن من سخطه تعالى كما لم يبق لهم خطر من قبل بني جنسهم أيضًا؛ وهكذا أحرزوا السلام الروحاني والمادي كليهما.إذا، فإن الله تعالى قد بين بلفظ "الإسلام" حقيقة الدين كلها، موضحا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو العباد إلى أداء حقوق الله تعالى كاملةً، كما يحافظ على حقوق الناس دونما نقصان.إن صلة الإنسان الأولى تكون مع ذات البارئ تعالى.فمن أطاع الله تعالى صار مسلما، لأنه يخضع أمام أوامر الله تعالى كل الخضوع، وهذا هو الشرح الحقيقي للإسلام.الفتن وصلة الإنسان الثانية تكون نفسه مع وبني جنسه.فمن وقى نفسه من وتجنّب الشر والخيانة والظلم والكذب والغش والخداع والحقد والبغضاء، فهو أيضًا مسلم إذ هيأ السلام لنفسه.ومن نفع قومه فهو أيضًا مسلم.ومن هيأ الأمن لجيرانه وأقاربه ولم يفسد بينهم و لم يسفك دماءهم فهو أيضًا مسلم.ولكن الذي يعمل خلاف ذلك فليس بمسلم وإن سمى نفسه مسلما بالليل والنهار إذ لا يتغير الشيء بتغيير اسمه.فإننا نرى أن بعض الصبيان يضع خلال اللعب يده على يد صاحبه ويقول له خُذ حبة المانجو هذه وكُلْها، أو خُذ هذه القطعة النقدية، يكون في يده أي شيء.إن هذا العمل الصبياني يمكن أن يمثل مزاحًا يُضحك آباء أنه لا
الجزء السادس ١٣٤ سورة الحج هؤلاء الصبيان، أو قد يجعل الصبي الآخر يضحك حيث مازحه الطفل الأول، ولكن لا يكون فيه أي نفع حقيقي.يمكنك في عالم التصور والخيال أن تهب لأحد الدنيا وما فيها، ولكن هذا لن يغيّر من وضعه الحقيقي شيئا.وعلى النقيض لو وهبت له قرشًا واحدًا بالفعل فسينتفع به يقينًا.هذا هو حال الإيمان؛ فالذي يدعي الإسلام بلسانه فقط لن ينفع الناس شيئا، ولكنه لو عمل وفق مفهوم الإسلام، ولو قليلاً، لا نتفع بنفسه نفعًا كبيرًا، كما نفع الآخرين أيضًا نفعًا حقيقيًّا.
الجزء السادس ۱۳۵ سورة المؤمنون سورة المؤمنون مكية، وهي مع البسملة مئة وتسع عشرة آية وستة ركوعات يقول القرطبي إن سورة المؤمنون" كلها مكية بلا خلاف (تفسير القرطبي).وعدد آياتها ۱۱۹ عند البصريين و ۱۱۸ عند الكوفيين.ونحن أيضا نرى أن عدد آياتها ١١٩، ولكن هذا يرجع إلى اعتبارنا البسملة جزءا من كل سورة، في حين أن المفسرين الآخرين رغم إيمانهم بضرورة إبقاء البسملة داخل السورة لا يعتبرونها جزءا منها؛ وعدم اعتبارهم البسملة جزءا من السورة، رغم وجودها في المصحف، لهو أمر مضحك لا مبرر له.فإننا نتفق مع الكوفيين فيما يتعلق بالآيات التي تلي البسملة بأنها ۱۱۸ ، أما عدد آيات هذه السورة كلها مع البسملة فهو ۱۱۹ آية.بيد أن هذا الاختلاف بين الكوفيين والبصريين لا يعني أن هناك آية ناقصة أو زائدة في السورة في رأيهم، وإنما الواقع أن ما يعتبره أحد الفريقين آية واحدة يعدّه الفريق الآخر آيتين.فقوله تعالى ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَان مبين آية كاملة عند البصريين ولكن الكوفيين يرون أنها ليست آية كاملة، بل هي جزء من الآية التالية، ولذلك قالوا إن عدد آيات هذه السورة ليس ١١٩، بل ۱۱۸ آية.وبما أن القسيسين المسيحيين يجهلون هذه الأمور، فقد استنتج بعضهم من أقوال مماثلة للمفسرين أن حفظ القرآن أمر مشكوك فيه، حيث يذكر البعض أن عدد آيات هذه السورة كذا، بينما يقول الآخرون إن عددها أقل من ذلك.ولكن هذا الاختلاف أو النقصان ليس حقيقيًّا كما أثبت من قبل، وإنما الأمر الواقع أن أحد
١٣٦ الجزء السادس سورة المؤمنون الفريقين قد اعتبر جملة من القرآن الكريم آية كاملة نظرًا إلى مضمونها، بينما لم يعتبرها الفريق الآخر آية كاملة بل جزءا من الآية التالية، وهذا ما أدى إلى الاختلاف في بيان عدد آيات بعض السور، دون أي نقصان في محتواها.فكلا الفريقين يسلّم بصحة كل لفظ من السورة، دون نقصان أو زيادة في محتوى القرآن كله.ولكن ماذا يفعل المرء تجاه هؤلاء المسيحيين الجاهلين الذين يدلون بآرائهم دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء الفحص والتحري.زمن نزولها: إن زمن نزول هذه السورة من حيث مضمونها هو قبيل الهجرة، فالعلامة جلال الدين السيوطي يعدّها آخر سورة نزلت بمكة.بينما يعتبرها البعض مدنية أيضًا، ولكن قولهم هذا لا يساوي شيئا عند جمهور العلماء.يرى ريفرند ويري" (R.Wherry) أن هذه السورة هي مما نزل بعد السنة السادسة أو السابعة قبل الهجرة.(A comprehensive commentary on the Quran Vol.3 page 174) ولكن الأصح أنها نزلت قبيل الهجرة لا بعدها، وإن لم تكن آخر سورة نزلت بمكة كما يقول السيوطي تركز هذه السورة خاصة على ثلاثة أمور أولها أن المؤمنين هم المفلحون وأن زمن نجاحهم وشيك؛ وثانيها أداء الزكاة؛ وثالثها إقامة الصلاة.وهذه الأمور كلها وثيقة الصلة بالفترة المدنية بوجه خاص، فكان هذا التركيز الخاص إشارة إلى أن زمن تحقق هذه الأمور قد اقترب.والحق أن قول "ويري" بأن هذه السورة قد نزلت في السنة السادسة أو السابعة مفيد لنا جدًّا، لأن التسليم برأيه يزيد هذه النبوءة القرآنية عظمة.بيد أننا لا نستطيع تصديق رأيه هذا بالنظر إلى الروايات الإسلامية ومحتوى هذه السورة وإن كان بإمكاننا القول إن هذه السورة قد نزلت قبل الهجرة بمدة وجيزة.الترتيب والترابط : تتمثل الصلة القريبة لهذه السورة بالتي قبلها في أن الله تعالى قد أمر المؤمنين من قبل في سورة الحج أن ينيبوا إليه تعالى، ويطيعوه لكي ينجحوا.عليهم أن يجاهدوا بالسيف أوان الجهاد بالسيف، ويجاهدوا بالدعوة في وقت الجهاد
الجزء السادس ۱۳۷ سورة المؤمنون بالدعوة.وقد أمرهم الله تعالى بالجهاد بالسيف تارة وبالدعوة تارة أخرى لأنه لم يجعل في الدين من حرج..أي لا يسمح بالجبر على غير المؤمنين، كما لم يأمر المؤمنين بما يتنافى مع ضمائرهم.وهذا يعني ثم بين الله تعالى للمسلمين أنه لا بد لهم للقيام بالجهاد في الدين من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والتمسك بأهداب الله تعالى بقوة بحيث لا ينفصل بعد ذلك الحب الفريد عنهم.ولو فعلوا ذلك لنصرهم وأنجز لهم ما يريدون.علما أن الله تعالى قد بين في تلك الآيات أن الأمر مشروط، فإذا قام المؤمنون بتلك الأعمال أفلحوا ونجحوا وكان نصر الله حليفهم.أما هنا في سورة "المؤمنون" فقد أخبر الله تعالى أن مثل هذه الجماعة ستوجد بين المسلمين حتمًا، وستحرز النجاح يقينًا.أنه قد أعلن هنا أن الأمر الذي قد سلّم به من قبل نظريًّا واقع حتمًا.والحق أن هذه السورة استطراد على موضوع السور السابقة الرئيس، حيث تناولت السور السابقة تعليم المسيحية وأخطاءها وتصحيحها، أما هذه السورة فبينت بالإضافة إلى الرد على تعليم المسيحية، أن الإسلام قد أخذ الآن مكان المسيحية، ليصلح ما فيها من أخطاء وعيوب فيصعد بالإنسانية إلى الفلاح بسرعة، أما المسيحية فبما أنها قد انحرفت عن جادة التوحيد فلن تقدر الآن على أن تؤتي الإنسانية ثمارا سماوية كانت تطعمها في الماضي؛ فإن الله تعالى يعامل الناس وفق إيمانهم الذي في قلوبهم أو الذي يعملون بحسبه، وليس طبقًا لما يدعون به بأفواههم.ملخص محتواها: لقد بين الله تعالى في هذه السورة أن نجاح المؤمنين بالقرآن الكريم وشيك.(الآيتان ١-٢) وعلامات هؤلاء المؤمنين الصادقين هي: :أولاً : أنهم لا يعبدون الله تعالى في الظاهر فقط.ثانيا: أنهم يتجنبون كل عمل لا يعود بنفع على أنفسهم أو قومهم أو بلدهم.ثالثًا: أنهم يكونون جاهزين لكل نوع من التضحية من أجل رقي بلدهم.
الجزء السادس ۱۳۸ سورة المؤمنون رابعا أنهم يسدّون كل المنافذ التي تتسرب منها المساوئ إلى القلوب، ويهتمون بعفتهم كل الاهتمام، بيد أنه لا حرج عليهم فيما يتعلق بزوجاتهم الحرائر منهن والمملوكات.خامسا: أنهم يؤدون ما أُلقي عليهم من مسؤوليات، ولا ينقضون العهود التي قطعوها مع الأمم الأخرى.سادسا : أنهم يحافظون على العبادات الجماعية على وجه الخصوص..أي أنهم يعملون على تنمية المشاعر القومية أو الملية جاعلين الفردية تابعة للملة.وهؤلاء هم القوم الذين يرثون النعم التي وعد الله بها وسيحظون بالجنات التي وعدها المؤمنون، وسيظلون وارثين لها إلى أبد الآبدين.هذا هو الخلق الروحاني الذي يماثل الخلق الجسدي تماما، إذ قد تم الخلق الجسدي للإنسان على هذا المنوال أيضًا.لقد بين الله تعالى أنه قد خلق الإنسان من خلاصة منتجة من التراب..أي من الأغذية التي تنبت في الأرض.ثم حولنا هذه الخلاصة إلى نطفة ثم استقرّت النطفة في مكان مناسب لنموها.ثم جعلنا النطفة على شكل دم متجمد، ثم جعلنا الدم المتجمد قطعة من اللحم، ثم خلقنا فيها عظاماً ، ثم كسونا العظام لحما ، ثم تحول هذا الخلق إلى شيء آخر..أي أخذ صورة إنسان.(الآيات ٣-١٥) ثم يخبرنا الله تعالى أنكم كما تموتون بعد الولادة الجسمانية لتبعثوا يوم القيامة ثانية، كذلك يحدث في الخلق الروحاني، حيث تُخلق الأمم ثم تموت، لتقوم مقامها أمم أخرى.(الآيتان ١٦-١٧) ثم يذكر الله تعالى أنه قد قسم رقي الإنسان سواء المادي أو الروحاني، سبعة أدوار – وقد سبق تفصيل ذلك في الآيات السالفة حيث قسم تعالى الخلق الجسدي والمادي أيضًا سبعة أدوار - وأنه تعالى ليس بغافل عن الخلائق.(الآية: ١٨) وأنزلنا من السماء ماء بقدر معين، ثم أسكناه في الأرض – أي أن الماء المادي والماء الروحاني كليهما ينزل بقدر معين - وإننا على ضياعه لقادرون..أي أن - الله
الجزء السادس ۱۳۹ سورة المؤمنون كون نزول التعليم من الله تعالى ليس وحده دليلاً على أنه لن يتعرض للفساد والخراب أبدًا (الآية ١٩).وجعلنا لكم جنات من نخل وعنب وأنبتنا لكم فيها ثمارا كثيرة تأكلونها.وخلقنا شجرة الزيتون التي تنبت في طور سيناء بزيت وطعام للأكلين – وقد ذُكر ذلك في آية سورة النور آية ٣٦ - وقد خلقنا لكم الأنعام التي فيها آية لكم.تشربون ما يخرج من بطونها أي لبنها، ولكم فيها منافع أخرى.فتأكلون لحومها وتركبون على ظهورها كما تركبون السفن..أي كما أن الله تعالى قد خلق أشياء كثيرة تجلب الراحة في حياة الإنسان وتطوّرها، كذلك قد خلق تعالى أشياء مماثلة شتى لحياته الروحانية.فالذي يختار ما يريح حياته الجسمانية فقط ثم يترك ما يجلب لـــه الراحة في حياته الروحانية فليس بعاقل بل هو غبي أحمق.(الآيات ٢٠-٢٣) ثم ضرب الله مثال نوح الا وبين أنه أيضًا بُعث من عنده تعالى ليهدي أهل زمنه إلى طريق الفلاح، وأنه لم يعلمهم إلا أن الله تعالى واحد وليس ثمة إلهان.فكفَر به قومه، ولم تكن حجتهم إلا قولهم إنه بشر مثلنا لا أكثر من ذلك.علما أن الناس قبل المسيح العلبة كفروا بأنبيائهم محتجين أنه بشر فكيف جاءنا بشر ليهدينا، أما بعد المسيح اللي فقد صار الناس كافرين لأنهم قالوا ما دام ابن الله قد جاءنا فلا حاجة بنا إلى أي بشر الآن.مع أن الأجدر بالقبول والتصديق من يأتي من عند الله تعالى، سواء أتى حاملاً لقب "الله" أو لقب "ابن الله" أو لقب "النبي".إن القطيع إنما يستمع لنداء الراعي، سواء ناداه من المشرق أو المغرب أو الجنوب أو الشمال.وإن راعينا هو تعالى، وعلينا أن نستجيب لندائه أيا كانت الشخصية التي ينادينا هو من خلالها).ثم يذكر الله تعالى أن المعارضين يقولون إنه تعالى لو أراد لأنزل ملائكة بيننا...أي لسنا مستعدين لسماع قول بشر إذ لم نسمع مثل هذا الادعاء من الأولين.(على المسيحيين أن يفكروا هنا أنه لو كان ادعاؤهم صحيحًا فكيف يكون اعتراض هؤلاء باطلاً.الغريب أن الذين جاؤوا قبل المسيح الكفروا بحجة أننا لم نسمع من الأولين قط بأن إنسانًا يكون أفضل من غيره من البشر ، أما الذين كانوا في زمن المسيح اللي فقالوا إننا لم نسمع عن أحد أنه ابن الله، أما الذين كانوا معاصرين الله
الجزء السادس ١٤٠ سورة المؤمنون للرسول الله فقالوا لم نسمع من أحد أنه يمكن أن يُبعث نبي خارج بني إسرائيل.من المؤسف أن الإنسان لم يزل على مدى التاريخ يبحث عن الأعذار الواهية، ولم يلب نداء الله تعالى.ويضيفون ويقولون: إن به مسا من الجنون فتربّصوا حينا وسترون مصيره.فدعا نوح ربه طالبًا عونه، فقال الله له أن اصنع السفينة وفق أمرنا ووحينا..أي قدم التعليم الذي يكون سبب نجاة لأهل هذا العصر.ثم إذا اشتدت المعارضة وحان العذاب فهيى للناس كلهم الملاذ في هذه السفينة وأنقذ أَهْلَك أيضًا، إلا من صدر قرارنا بصدده من قبل.فإذا استويت عليها فادعُ الله تعالى: الحمد لك اللهم إذ نجيتنا من القوم الظالمين، فأنزلنا الآن منزلاً نكون فيه في مأمن من هؤلاء الظالمين.ولو أن الناس تدبروا في حياة نوح لوجدوها آية عظيمة.(الآيات ٢٤-٣١) و لم يزل الجنس البشري مستمرًا بعد ذلك، وظل الناس على الهدى لبعض الوقت، ثم تطرق إليهم الفساد، فبعثنا فيهم رسولاً من أنفسهم (أقول: لا بد للرسول أن يكون من جنس القوم الذين بُعث إليهم، إذ لو كان من جنس آخر، كما تدعي المسيحية، فلا يمكن أن يكون أسوة لهم؛ إذ من المستحيل أن يقوم الإنسان بأفعال الأسد، كما يستحيل للأسد أن يعمل أعمال البشر.لا يمكن لابن الإنسان أن يقلد ابن الله، ولا يمكن لابن الله - أي المسيح أو عُزير عليهما السلام- أن يفهم مشاكل ابن الإنسان).فأمرهم رسولهم نوح أن لا يعبدوا إلا إلها واحدا.(وهذا يعني أن الرسل بعد نوح أيضًا أخبروا عن إله واحد لا اثنين).فقال رؤساء قومه الذين كانوا منكرين للحياة بعد الموت وفرحين بمتع الدنيا: أيها القوم إنما هو بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون ولو اتبعتم شخصا مثلكم لكنتم من الخاسرين.إنه يقول إنكم ستحيون بعد الموت، والواقع أننا إنما نموت ونحيا في هذه الدنيا، ولا حياة لنا بعد الممات.إنه شخص مفتر كذاب.(هذا هو الفساد الذي يدفع أهل الدنيا إلى الهلاك ويمنعهم من الخير دائما).فدعا نبيهم: ربِّ لقد رفضني هؤلاء، فانصرني عليهم فقال الله :له سيندم هؤلاء على ما فعلوا.فأخذهم العذاب وهلكوا.(الآيات ٣٢-٤٢)
الجزء السادس ١٤١ سورة المؤمنون ثم جاءت بعدهم أمم، وبعثنا فيها رسولاً تلو ،رسول، ولكن كلما جاء قومًا رسول منهم كفروا به، فأهلكنا قوما بعد آخرين.(الآيات ٤٣-٤٥) وبعد هذه الأحداث كلها بُعث موسى وأخوه ،هارون، وقد جاءا بالآيات مع والبراهين، فاستكبر فرعونُ ومَلَؤُه فقالوا كما قال الأولون: هل نتبع بشرين مثلنا أن قومهما عبيد لنا ؟ وكانت النتيجة أنهم هلكوا.و بادوا وآتينا موسى شرعًا مفصلاً ليهتدي به الناس إلى الصراط السوي.ثم أرسلنا ابن مريم وأُمَّه كآية، وهيأنا لهما الملاذ في منطقة عالية صالحة للإقامة تكثر فيها المياه الجارية.(الآيات ٤٦-٥١) أيها الرسل، كُلوا الطيب من الحلال، واعملوا أعمالاً تتفق مع مقتضى الحال، واتقوه لأنه تعالى خبير بما تعملون إن كل هؤلاء الرسل أحوالهم متشابهة ودعاويهم مماثلة، فلم تختلفون إذا في الله تعالى (الآيتان ٥٢-٥٣) = ولكن الناس كلما جاءهم نبي حرّفوا تعليمه وشوهوه، وابتدعوا من عندهم مذاهب شتى، برغم أن جميع الشرائع كانت واحدة في أول أمرها.فاتركهم في غفلتهم إذ ليس لك أن تمارس الجبر عليهم، وإنما أمرهم بيد الله تعالى.إنهم يظنون أن أموالهم وأولادهم ستزيدهم عزا وشرفًا؟ كلا، بل إنها هي التي ستؤدي بهم إلى الدمار.(الآيات ٥٤-٥٧) إنما المؤمنون الذين لا يبرحون مرتعدين من خشية الله وجاهزين للإيمان بآياته، ولا يشركون به شيئًا؛ ويظنون، رغم قيامهم بصالح الأعمال، أنهم ما زالوا مقصرين وأنهم سيحاسبون على ذلك أمام الله تعالى إنهم يتسابقون إلى الحسنات، ويسارعون في الخيرات.بيد أننا لا نتوقع من المرء إلا ما هو في طاقته، وعندما نحكم نحكم بطريق مميز بحيث ينال كل ذي حق حقه دونما ،نقصان، كما لن يزيغ بصرنا يبرئ ساحة أحد من الإجرام.(الآيات ٥٨-٦٣) إن قلوب هؤلاء في غفلة، فلا يسعون لأن يعملوا صالحا ويتقدموا في محال الخير، وعندما نبطش أثرياءهم بالعذاب إذا هم يصرخون.وعندها نقول لهم ما الجدوى من البكاء الآن؟ وكيف يمكن أن نساعدكم اليوم؟ لقد كانت أحكامنا عما
الجزء السادس ١٤٢ سورة المؤمنون تتلى عليكم، فكنتم تولّون عنها مدبرين، ولم تتدبروا فيها قط.وكنتم متكبرين وكنتم تستنكرون أحكامنا في نواديكم الليلية.(الآيات ٦٤-٦٨) من ألم يتدبروا فيما قلنا لهم، وهلا فكروا أن ما قيل لهم قد قيل لآبائهم أيضًا قبل؟ ألم يروا أن الذي يخاطبهم إنما يعرض عليهم تعليمًا فيه مفتاح نجاحهم، ومع ذلك يرفضونه.يقولون إن به جنونًا.أو لم يروا أن ما يقول به هذا المجنون واقع حتما كما يتراءى للعيان الواقع أن أكثرهم يخافون العاقبة التي ينذرهم منها هذا الرسول.لو كانت الحقيقة وفق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ولهلك الناس.(الآيات ٦٩-٧٢) إنك لا تسألهم شيئًا، بل الله تعالى يؤيدك بنصره.إنما تهدي إلى الصراط المستقيم، ولكن هؤلاء يتهربون من السير في الصراط المستقيم.ولولا أنهم سيزدادون شراً لعفونا عنهم ولو أنهم أنابوا إلينا وقت العذاب لرحمناهم، ولكنهم لا يتورعون عن شرورهم وقت العذاب العام، وعندما يأتيهم العذاب الأخير ينهارون يائسين تماما.(الآيات (۷۳-۷۸) ثم يقول الله تعالى للكافرين: ما هو العمل الذي أُعطيتم بسببه أسماعكم وأبصاركم وأفئدتكم؟ هل فكرتم في ذلك قط؟ هل شكرتم الله على هذه النعم قط؟ هل فكرتم في منافع شتى توجد في اختلاف الليل والنهار والموت والحياة؟ أفلا تفهمون؟ لم تصرون على قولكم كيف يمكن أن نحيا بعد الموت إذ قد سمعنا بهذا كثيرًا ولكن لم نر ذلك قط؟ (الآيات ٧٩-٨٤) قُل لهم: من ذا الذي يملك كل هذا الكون؟ أليس هو ملكًا لله تعالى، فلم لا تتعظون إذًا؟ ثم أَسْأَلهم: من رب السماوات والعرش العظيم؟ سيقولون هي الله، ومع ذلك لا يفهمون؟ واسألهم من بيده ملكوت كل شيء ومن يسمع سيقولون هي الله، فقُلْ فلمَ لا تفهمون؟ (الآيات ٨٥-٩١) ثم يقول الله تعالى : اعلموا أنه ليس الله ولد، وليس من دونه إلة، وإلا لبغى الواحد على الآخر.إنه تعالى عالم الغيب والشهادة بينما أنكر المسيح ال معرفته العلية لا الغيب) (انظر مرقس ۱۳ : ۳۲-۳۳)، فتعالى الله عما تشركون (الآيتان ٩٢-٩٣) الدعاء؟
الجزء السادس ١٤٣ سورة المؤمنون قُلْ يا رب إن نزل العذاب على قومي في حياتي فلا تجعلني فيهم، بل افصلني عنهم عندها.ثم يقول الله تعالى لرسوله: إننا قادرون على أن ننزل عليهم العذاب أمام أعينك، أما أنت فعليك أن تردّ على السيئة بالحسنة، وإذا أثار سبابهم سخطك فعليك أن تدعونا وتقول رب احمني من وساوس الشيطان، واحفظني من أن يتكلم الأشرار أمامي بما هو فوق احتمالي (الآيات ٩٤-٩٩) إن هؤلاء لن يبرحوا عاكفين على شرورهم إلى أن يأتيهم الموت، فيقولون ربنا ارجعنا إلى الدنيا لنعمل صالحا.ولكن رجوعهم إلى الدنيا محال.وحين يُحيون من جديد، ستنقطع أواصرهم كلها، ولن يفلح عندئذ إلا من عمل صالحا في الدنيا.أما الذين لم يعملوا صالحا فيدخلون جهنم خالدين فيها.وستحرق النار وجوههم وتسودها، ويقال لهم ألستم الذين كنتم تكذبون آياتي.(الآيات ١٠٠-١٠٦) فيقولون ربنا إنما هي شقاوتنا التي أدّت بنا إلى هذا المصير، وكنا ضالين.ربنا أَرْجعنا فلن نعود لمثله أبدًا.فيقول الله: ما الجدوى من هذا الكلام الآن؟ كان عبادي يقولون ربنا ،آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، ولم يكن لهم أي ذنب إذ لم يسلبوكم أموالكم، فكنتم تستهزئون بهم حتى نسيتم كل شيء آخر.فاليوم سنأخذ منكم ثأرهم.(الآيات ۱۰۷-۱۱۲) ثم يسأل الله الظالمين ويقول: كم لبثتم في الدنيا؟ فيجيبون: يوما أو بعض يوم (ذلك لأن أيام الراحة تبدو قصيرة جدًا حين تحل المصائب).فيقول الله لهم صحيح أنكم لم تلبثوا في الدنيا إلا قليلاً ولكن ليتكم أدركتم من قبل أن الحياة التي حسبتموها طويلة كانت قصيرة في الحقيقة.(الآيات ١١٣-١١٥) فيقال لهم هل ظننتم أنكم قد خُلقتم دونما هدف وأنكم لستم مسؤولين أمامنا؟ الله الملك الحق، لا إله إلا هو رب العرش الكريم.فمن اتخذ من دونه إلا لا برهان له عليه فسوف يحاسب من قبل الله تعالى، ولن يفلح أبدًا.فأَعْرِضْ عن هؤلاء واستغفره واسترحمه عز وجل.(الآيات ١١٦-١١٩) فتعالى
الجزء السادس ١٤٤ سورة المؤمنون م الله الرحمن الرح قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (٢) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَشِعُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِرُوجِهِمْ حَظُونَ (3) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَتُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (3) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَتبِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَنَتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَهِمْ حَافِظُونَ.أُولَيكَ هُمُ الْوَرِثُونَ (٢) الَّذِينَ يَرِثُونَ ال ِرّدَوسَ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (٤) شرح الكلمات : أفلح: أفلح الرجلُ : فاز وظفر بما طلب.وأفلح زيد: نجح في سعيه وأصاب في عمله (الأقرب).والفلاح: الظفر وإدراك بغية (المفردات).خاشعون: جمعُ خاشع وخشع ذَلَّ وتَطَأَمَنَ.وخشع ببصره: غَضَه.وفي "النهاية": الخشوع في الصوت والبصر كالخضوع في البدن (الأقرب).والخشوع: الضراعة، وأكثر ما يُستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح، والضراعةُ أكثر ما تُستعمل فيما يوجد في القلب (المفردات).اللغو: ما لا يُعتد به من كلام وغيره (الأقرب).وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا (المفردات).
الجزء السادس ١٤٥ سورة المؤمنون طاعة الزكاة زكى الشيءُ: نما.وزكا الرجلُ : صلح وتنعم وكان في خصب، ومنه زكَتِ الأرضُ (أي صارت ذات خضرة ونضارة).وزكاه الله: أنماه؛ طهره.وزكي فلان ماله : أدّى عنه زكاته وزكّى نفسه مدحها.والزكاة: صفوة الشيء؛ الله؛ ما أخرجته من مالك لتطهره به وقيل : سُمّيت الصدقة بالزكاة لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه وتوفره وتقيه من الآفات (الأقرب).الجنة الفردوس: البساتين (الأقرب).التي تنبت ضروبا من النبت؛ البستان يجمع كل ما يكون في التفسير: تنطوي هذه الآية على نبأ ألا وهو أن المسلمين الذين يتحلّون بالخصال التالية..أي أنهم لا يعبدون الله في الظاهر فحسب، بل يذكرونه بكامل الخشوع والخضوع والتواضع والتذلل والضراعة، ويتجنبون كل ما هو عبث لا ينفع أنفسهم ولا قومهم ولا بلادهم، ويكونون جاهزين لكل نوع من التضحية من أجل رقي بلدهم، ويسدّون كل منفذ يسري منه الفساد إلى قلوب البشر، ويهتمون بعفتهم كل الاهتمام، ويحفظون فروجهم كل الحفظ إلا بالطرق المشروعة، ويؤدون ما فُوّض إليهم من واجبات ومسؤوليات ولا ينكثون المعاهدات التي تتم بينهم وبين الأمم الأخرى، ويجعلون الفردية تابعة للملة وينمون المشاعر القومية، إن مثل هؤلاء المسلمين سينجحون في هدفهم وسيكون نصر الله حليفهم.الحق أن هذه الحقيقة الرائعة تدحض موقف الشيعة.ذلك لأنهم يزعمون أنه لم يوجد – والعياذ بالله – في زمن رسولنا الكريم له إلا مسلمان ونصف مسلم..أي علي ومولى له وسلمان الفارسي رضي الله عنهم.وهذا الزعم لباطل من حيث إن محاسن أي دين إنما تُعرف بأثماره.وقد أشار المسيح الله إلى ذلك فقال: "كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة، وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارا رديّة.لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ،رديّة، ولا شجرةً ردية أن تصنع أثمارا جيدة.كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار.فإذا من ثمارهم تعرفونهم." (متى ٧: (۲۰-۱۷
الجزء السادس البعيدين عن ١٤٦ سورة المؤمنون فالذي يدعي أنه مبعوث من عند الله تعالى لإصلاح الدنيا، ومع ذلك تذهب جهوده الإصلاحية كلها سدى، حيث يخلف وراءه جماعة من اللادينيين المنافقين الله تعالى لا يتجاوز عدد المؤمنين فيها رجُلين ونصف الرجُل، فلن يُعدّ هذا مدعيًا صادقًا.إذ من المحال تماما أن يبعث الله أحدًا بمهمة، ثم يفشل هو في تحقيقها.إنما يُعد هو من الناجحين إذا كان معظم أفراد جماعته الذين تربوا على يده واستفادوا من صحبته متأثرين به وداعين إلى منهجه وعاملين بتعليمه تماما، وإلا لصارت بعثته عبثا وبلا جدوى على الإطلاق.كما أنه من المستحيل أيضا أن تتردى جماعة من الصلحاء الأطهار فجأة وتصبح مثالاً للشر والفتنة بدون أن تمر بمراحل الانحطاط تدريجيًّا.فالمذهب الذي يعلن أن صحابة الرسول ﷺ والذين خدموا الإسلام بعدهم إنما كانوا جماعة من المنافقين، وأن الإسلام إنما كان في شخص الرسول ثم بعد وفاته انحصر تأثيره في بضعة أفراد من أقاربه؛ أقول إن مثل هذا المذهب لا يخلو من أحد اثنين فإما أنه يجهل قانون الطبيعة وعظمة الأنبياء جهلا تامًا، أو أنه يعادي النبي ﷺ في الخفاء حيث يريد أن يثبت أنه كان من الإسلام وإرضاء أعدائه مؤكدا لهم أن شجرة شخصا فاشلاً، ويريد الحط الإسلام لم تحمل أي ثمر، وأن تعليمه عديم التأثير.لقد قال النبي ﷺ: "من الكبائر شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ.قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلَ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّه." (مسلم: كتاب الإيمان).كذلك فإن الناس إذا اعتبروا قوما من هداتهم الروحانيين احترموهم أكثر من آبائهم وأمهاتهم.أما إذا سمت طائفة هداتها منافقين وكافرين فإنما يسبونهم في الحقيقة.وهي جريمة بالغة الخطورة توسع خليج الفُرقة والخلاف.فأولاً إن قول الشيعة أن عدد المؤمنين برسول الله ﷺ لم يتجاوز شخصين ونصف شخص و لم يكن الآخرون إلا منافقين وكافرين – والعياذ بالله – إنما يمثل طعنًا في قوة النبي ﷺ القدسية وسموّ کمالاته الروحانية.إن الرسول ﷺ يسمي نفسه سيد الأنبياء، كما صرح القرآن الكريم أيضًا، ولكنه يصبح أدنى درجة من موسى وعيسى أيضًا بحسب قول الشيعة هذا؛ إذ أثنى الله على حواربي المسيح الله في القرآن الكريم (الصف: ١٥)،
الجزء السادس أما موسى ١٤٧ سورة المؤمنون العليا فقد أخبر الله تعالى أنه قد آمن به "ذرية" من قومه وإن لم يؤمن به كلهم (يونس: (٨٤) ، وطبعا ليس المراد من ذرية من قومه" شخصين ونصف شخص فقط.وثانيا: لقد الله رد بقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ على هذا الهجوم الشيعي، مبينًا أن نظريتهم هذه باطلة تماما لا أساس لها من الصحة.فلفظ المؤمنُود المستعمل هنا هو للجمع السالم، مما يستلزم أن يكون عدد المؤمنين بالنبي ﷺ ثلاثة أو أكثر.ولو أخذنا في الحسبان الأنواع السبعة للمؤمنين المذكورة في الآيات التالية استلزم أن يكون عدد هؤلاء المؤمنين واحدًا وعشرين رجلاً على الأقل، في حين يقول الشيعة أن المؤمنين بالرسول ﷺ لم يكونوا أكثر من شخصين ونصف شخص.وثالثا: تعلن هذه الآية أن المؤمنين مفلحون.وتؤكد الأحداث أن أبا بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم - كانوا من المفلحين، أما عليه فعاش على المنح التي كان يتلقاها من هؤلاء.وعندما نال الحكم انقلب أصحابه أعداء لــــه، وقتل بيدهم هم الله الله فثبت من ذلك أن أهل السنة والجماعة الذين يرون أن الصحابة كلهم مؤمنون هم على الحق وليس أولئك القوم الذين يظنون أنه لم يكن في نصيب الرسول ﷺ من المؤمنين إلا شخصان ونصف.إن مكانة الصحابة – رضوان عليهم أجمعين عالية لدرجة أن القرآن نفسه يثني عليهم ويقول إنهم قد بلغوا الغاية في الورع والإخلاص حتى رضي عنهم.يقول الله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: ١٠٠)..أي الذين سبقوا في الخيرات من المهاجرين والأنصار وكذلك الذين اتبعوا آثارهم في طاعة كاملة قد رضي وصاروا هم راضين عنه.لقد أعدّ الله لهم جنات تجري خلالها الأنهار وسيقيمون فيها للأبد، وهذا هو النجاح العظيم.الله عنهم
الجزء السادس ١٤٨ سورة المؤمنون ولكن طبقا لعقيدة الشيعة، كان الله تعالى – والعياذ به – ساذجا لدرجة أنه وقع في خداع المنافقين، ورضي عنهم.فبالله أخبرونا، أليس القول بنفاق المهاجرين الله والأنصار الذين رضي عنهم وأعد لهم جناته ومنحهم شهادة رضوانه، لهو قول يدل على نفاق صاحبه وقلة إيمانه؟ ثم يقول الله تعالى عن الصحابة مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: ٢٤)..أي أن من الصحابة من وفى بعهده الذي عاهده عند إسلامه، فاستشهد وهو يقاتل الكافرين ومنهم من ينتظر ذلك.والواقع أن الذين آمنوا برسول الله ﷺ ثم استشهدوا في الحروب ضد الكافرين عددهم يتجاوز العشرات، ولكن الشيعة أذكياء في الحساب لدرجة أن هذه الجماعة التي تبلغ العشرات يقولون عنها أنها لا تتجاوز اثنين ونصفًا فقط.كما يقول الشيعة أن عليا كان أحق بالخلافة وهو الذي قد أوصى النبي ﷺ بها في حقه؛ ولكن كل واحد من أبي بكر وعمر أراد الخلافة، ونصب نفسه خليفة وغصب حق علي.(جلاء العيون (الفارسي) الباب الأول، الفصل السادس ص والحق أن هذا الاعتقاد باطل لعدة أسباب: لگے (10 أوّلها أنه لمما يخالف العقل تماماً أن يُظن أن شجاعًا مغوارا كعليه ظل صامتًا على أمر كان يراه حقا له، بل كان الرسول الله نفسه قد أوصى به في حقه ؛ فلم يحرك ساكنا ضد قوم خالفوا هذا الأمر متناسيًا وصية الرسول ، برغم أنه كان يرى أن أمة الإسلام تسقط في هوة الدمار.وثانيها من الثابت تاريخيًا أن عليًّا قد بايع أبا بكر ثم عمر - رضي وكان يعمل مع هذين الخليفتين بإخلاص.بل قد جعله عمر في عهده أميرًا على المدينة في غيابه خلال بعض أسفاره.فقد ورد في الطبري أنه عندما مني جيش المسلمين بنوع من الهزيمة على أيدي الفرس في وقعة الجسر استشار عمره الله عمر - رضي الله عنهم - المسلمين وقرر أن يخرج بنفسه مع الجيش المسلم إلى الحدود الإيرانية، فأمر عليا
الجزء السادس ١٤٩ سورة المؤمنون على المدينة في غيابه.وكذلك لما حاصر المسلمون القدس ورفض أهلها وضع السلاح حتى يأتيهم عمر نفسه، خرج هو إليهم بعد أن جعل عليا أميرًا على المدينة، برغم أن سفره هذا قد استغرق عدة شهور البداية والنهاية المجلد الثالث ص ص والمجلد الخامس ٢٤٩ والمجلد السابع ص ٥٥ ، وتاريخ الطبري: ذكر الخبر عما وتاريخ ابن خلدون: ذكر فتح بيت المقدس) أن عمر - رضي الله هیج ،١٤٧ القادسية، لو صح موقف الشيعة، فإن هذه الرواية تثبت أن عليا كان يخفي موقفه لدرجة عنهما – كان يجعله أميرًا على المدينة في غيابه دون أن يخاف أدنى خوف من تمرد عليّ عليه في غيابه.وهذا يعني أن عليا كان يكتم الحق كتمانًا عظيمًا ! ولو نسبنا هذا الأمر إلى أحد علماء الشيعة اليوم فسوف يسبّنا حتما، ذلك فإنهم لا يخجلون مطلقا أن من ينسبوا هذا الأمر القبيح إلى عليه والحق لا يسبّون بذلك أبا بكر وعمر، بل يسبّون عليا – رضي أهم - الله عنهم.ومع ذلك أن عليا ما دام قد بايع أبا بكر وعمر على الطاعة، وعمل معهما، فالقول أنه كان يؤمن في قلبه أنه أحق بالخلافة لا من حيث الجدارة بل بموجب الشرع، يرادف القول أنه حاشا لله - كان يبدي ما ليس في قلبه؛ وإن تصور مجرد إمكانية صدور هذا الأمر عن علي ه لإثم في حد ذاته، دعك عن صدوره عنه حقيقة.إذا فإن سلوك علي له نفسه يفند زعم الشيعة هذا، كما يبطله قوله تعالى قد أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ...وما يليه من الآيات؛ حيث أكد الله تعالى أن النجاح حليف المؤمنين المتصفين بتلك الصفات، إذ يعني لفظ أَفْلَحَ نجح وفاز.فإذا كان أبو بكر وعمر وعثمان يريدون الخلافة كما يزعم الشيعة، ثم صاروا خلفاء فعلاً، فقد ثبت من ذلك بكل جلاء أنهم كانوا مؤمنين كاملين حقا، حيث سلّم الله إليهم زمام أمور المسلمين الدينية والسياسية وجعلهم هداة للعالم.وإلا فلا مناص من التسليم بأن عليا لم يرد أن يتولى الخلافة رغم وصية الرسول ﷺ، بل أراد أن يتولاها أبو بكر عوضاً عنه؛ فحقق الله تعالى رغبة على هذه، ونجح أبو بكر في تولي الخلافة؛ ولكن أخذ أتباع علي الله يسبّون أبا بكر فيما بعد.
الجزء السادس عن ١٥٠ سورة المؤمنون قصارى القول إن آية قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ..تفند زعمي الشيعة كليهما؛ أعني أنها تبطل أولاً زعمهم أن أكثرية المؤمنين برسول الله ﷺ كانوا منافقين، إذ لم يؤمن به في الحقيقة إلا شخصان ونصف شخص؛ كما تبطل زعمهم أن عليًّا كان أحقَّ بالخلافة، ولكن أبا بكر وعمر وعثمان غصبوا حقه.وليكن معلوما هنا أن الله تعالى قد استخدم هنا كلمة الفلاح بحق المؤمنين فقال قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ، وهذا يبين أن غاية المؤمن الحقيقية ليست أن ينال النجاة بل أن يحرز الفلاح لا شك أن النجاة - وهي تعني أصلاً تجنب المرء المصائب والآلام - ميزة كبيرة ولكن الميزة الكبرى أن يحقق المرء هدفه.ومثله كمثل قولنا قائد القواد إنه قد نجا من العدو؛ ولا غرو أن نجاة القائد من العدو في من المواقف الحرجة عمل محمود، ولكنه إنما يستحق الثناء الحقيقي إذا ما أسر عدوه.كذلك فإن الإسلام لا يأمر بإحراز النجاة، بل يدعو المؤمنين إلى إحراز غاية أعظم من ذلك، فيقول عليهم بإحراز الفلاح؛ لأن الفلاح ضد العدو يتضمن النجاة من شره حتما.ومثاله الآخر أن هناك شخصا لا يشعر بالجوع، ولا شك أنه يكون في مأمن من قرصات الجوع بلا مراء، ولكن الأفضل منه من قد تناول طعامًا مغذيا، لأنه في مأمن من قرصات الجوع كما أن بدنه يكون صحيحا قويًّا.إذا فالفلاح مقام يضمن فيه المرء النجاة من الشر والفوز بالهدف الذي خلق من أجله.والبديهي أن غاية خلق الإنسان أن يصير مظهراً لصفات الله تعالى ويحظى بقرب الحبيب الحقيقي وفقا لما أودع الله فطرته من رغبة في الوصال به.وقد ذكر الله تعالى هذه الغاية في قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون (الذاريات: ٥٧).فالفلاح هو إحراز الإنسان غاية خلقه.أما كيف ينال المرء هذا المقام، وما هي وسائله وطرقه، فكل هذه الأمور مذكورة بالتفصيل في هذه الآيات.فقد ذكر الله تعالى في هذه السورة الخَلق الروحاني إزاء الخلق الجسدي، وبدأ الحديث عن الخلق الروحاني أولاً فقال قد أفلح المؤمنون الذين يؤدون صلواتهم في خشوع وخضوع.ثم يترقون فيصلون إلى مقام حيث يتجنبون كل ما هو لغو وعبث..أي أنهم يحترزون من كل فعل ليس فيه أي نفع عقلاً.ومثاله لعبة
الجزء السادس ١٥١ سورة المؤمنون الشطرنج وغيرها من الألعاب العديدة التي هي مضيعة للوقت.فالإسلام يأمر كل مؤمن بتجنب كل لغو من الأفعال والألعاب من شطرنج وورق اللعب وغيرهما مما هو مضيعة للوقت.بيد أن الإسلام لا ينهى عن الرياضة، فإنها تولّد في المرء الشجاعة والبسالة كما تشحنه بالقوة والخوض في فضول الحديث في المجالس أيضًا لغو، والعيش بدون أي عمل أيضًا لغو.فمن الناس من يجلسون مع الأصدقاء طوال النهار بدون أي عمل ويتجاذبون أطراف الحديث الذي لا طائل منه، دون أن يدركوا مطلقًا أنهم يهدرون أوقاتهم الثمينة.وفي بعض الأحيان يموت المرء تاركًا وراءه ثروة كبيرة، فلا يكون لابنه عمل إلا قضاء اليوم كله مع أصدقائه في فضول الكلام.فيدخل عليه الواحد تلو الآخر ويكيلون لـه المدح والثناء، خائضين في اللغو من الحديث طيلة اليوم، فيغتر بمديحهم، ويقدم لهم شتى الخدمات.فيقدم لهم البان" على الأقل، أو يقدم لهم أشهى الأطعمة صباحا ومساء؛ ليس لأن أصدقاءه فقراء ومساكين جياع يستحقون العطف والمواساة، وإنما لأنهم يزورونه ليقضي وقته معهم بسرور.إن الإسلام لا يسمح بمثل هذه التصرفات مطلقا.كلا، بل ينهى المسلمين عن اللغو من الأفعال دائما.إنهم لا يفعلون ويجب ألا يفعلوا أي عمل ليست فيه أي منفعة عقلاً بل إنه يجعل حياة المرء عاطلة.إن الذي يأكل أموال أبويه ولا يعمل أي عمل عليه أن يفكر على الأقل ماذا نفعته حياته أو نفعت قومه الواقع أن مثل هذه الحياة لا تنفعه هو ولا قومه ولا باقي الناس.إنه يضيع عمره في البطالة والترف، ولكن الإسلام لا يسمح بمثل هذه الحياة الخالية من العمل.لو ورث المرء من أبويه عشرات الملايين فرغم امتلاكه هذه الثروة الهائلة يأمره القرآن الكريم أن لا يضيع وقته، بل يستغله فيما ينفع قومه ودينه.فإذا كان في غنى عن عمل يؤمّن له الأكل، فبوسعه القيام بأعمال تطوعية.وهكذا فإنه * "البان" في الأصل اسم شجرة في الهند.يلفون في ورقها بعض البهارات مثل الهيل وغيره مع حلويات معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظف الفم وتعطره، كما تفرح القلب.(المترجم)
الجزء السادس ١٥٢ سورة المؤمنون ، كما يجعل الضياع، بإسداء خدمات مجانية إلى بلده أو قومه أو دينه، يحمي وقته من نفسه نافعًا للناس باستغلال أوقاته استغلالاً صحيحًا.وعملاً بأمر الله تعالى بتجنب اللغو قد نهى النبي ﷺ الرجال عن لبس الحلي والحرير (البخاري: كتاب اللباس، والنسائي: كتاب الزينة).إن لبس الحلي ليس حرامًا على النساء، إلا أن النبي ﷺ قد كره لهن أيضا لبس الحلي في الظروف العادية (النسائي: كتاب الزينة باب الكراهية للنساء في إظهار الحلي).إن لبس الحلي حلال لهن كونهن رمزًا للزينة، ولكن لا يسمح الإسلام بالإنفاق على الحلي بحيث يُلحق الضرر باقتصاد البلد، أو يولّد فيهن نزعة التفاخر، أو يزيدهن طمعا وجشعا.إن اقتناء الحلي مسموح لهن ولكن إلى حد معقول.أما الرجال فحرام عليهم استعمال الحلى قطعًا.كما قد نهى النبي ﷺ عن استعمال أواني الذهب والفضة (البخاري: كتاب الأشربة).ويندرج في ذلك أيضًا ما يقتنيه الأثرياء عادةً في بيوتهم من أشياء لمجرد الزينة والتفاخر.لقد رأيت بعض الناس يشترون أشياء لا فائدة فيها لتزيين بيوتهم.فمثلاً يشترون الأواني الصينية القديمة ويحتفظون بها في البيوت، ظانين أنه شيء غال.ويوجد هذا العيب في الأوروبيين خاصة حيث ينفقون على شراء هذه الأواني حتى خمسة أو عشرة آلاف من الروبيات، ثم يخبرون الناس أن هذا الإناء قديم كذا آلاف من السنين.أو أنهم يشترون سجاجيد قديمة بمبالغ ضخمة، ثم يعلّقونها على جدران بيوتهم، مع أن السجاد الجديد من ذلك النوع يمكن شراؤه من السوق بخمسين أو ستين روبية بكل سهولة ولا يضيعون على شراء تلك السجاجيد مبالغ ضخمة إلا ليتباهوا أمام الناس بأن ذلك السجاد قد استعمله فلان من الملوك أو أنه يبلغ من القدم كذا من السنين.ولكن الإسلام يعدّ كل هذه الأشياء لغوا، إذ ليست فيها أي منفعة حقيقية، بل يشتريها الناس لمجرد التفاخر بثروتهم، وهكذا يهدرون أموالاً طائلة.وإنني أرى أن الأوروبيين لو علموا اليوم أن سجادًا لكسرى إيران يباع في مكان ما فلربما اشتروه بعشرة ملايين من الروبيات.أما المسلمون فلم يكن سجاد كسرى عندهم ذا قيمة.فخلال إحدى الحروب أمر كسرى رجاله بأن
١٥٣ سورة المؤمنون الجزء السادس رضوان يأتوه بقواد المسلمين لأنه يريد أن يتكلم معهم بنفسه.فذهب إليه وفد من الصحابة الله عليهم أجمعين.ودخل عليه رئيسهم بنعاله البالية الدميمة ضاربًا رمحه على السجاجيد والنمارق.فتحير الملك برؤية هذا المشهد وقال للمسلمين أليس عندكم شيء من التحضر (تاريخ ابن خلدون: الجزء الثاني، ذكر الخبر عما هيج أمر القادسية سنة ١٤ الهجرية).والحق أنه رغم كونه ملكا، كان يعظم سجاده، أما المسلم، فرغم كونه فقيرًا، كان يعظم الله تعالى وحده.فكون السجاد مفروشا في بلاط كسرى لم يجعله ذا قيمة في نظر المسلم، إذ كان لا يعظم إلا ما هو عظيم عند الله تعالى.قصارى القول، إن رسولنا الكريم قد نهى عَمليًّا عن كل هذه الأشياء، موضحًا أنه لا يليق بالمؤمن أن يضيع وقته الثمين في اللغو من الأمور، ولا أن يهدر ماله على هذه التوافه التي لا طائل تحتها.والحق أن دور السينما والمسرح وغيرهما أيضا تحت هذا الحكم إذ يُهدر عليها كثير من أموال الدولة.إن الدول الأوروبية هي تندرج الحرة والساعية دائمًا لرقيها الاقتصادي، تعمل على إنشاء دور السينما والمسارح أكثر وأكثر لكي يزورها المحرومون من هذا الترف، ولكي ينفقوا عليها من وقتهم ومالهم؛ ولكن الإسلام ينهى عن كل الأشياء التى ليست نافعة للإنسانية، ويعلن أننا لن نسمح بها أبدا.ولو عمل الناس بهذه الأحكام كما ينبغي لصار مستوى الأثرياء متساويًا مع غيرهم إلى حد ما، إذ إن النفقات غير المشروعة وعديمة الفائدة الحافز الأكبر على جمع المال بطرق غير مشروعة.كما أن قوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَن اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ يلفت انتباهنا إلى أن المؤمنين الحقيقيين لا يتجنبون اللغو من الأعمال فحسب، بل يسعون لتجنب اللغو الأفكار أيضًا.والواقع أن الذين قد تعودوا على التفكير في اللغو هم الذين تنتابهم شتى الأفكار والوساوس التي تشتت تركيزهم في الصلاة.ولو أنهم لم يسمحوا لهذه الخواطر اللاغية بأن تنشأ في قلوبهم ،وعقولهم، أو قاوموها وحاولوا القضاء عليها إذا ما نشأت، لنجحوا في ذلك حتمًا.ولكننا نرى أن عديدا من الناس يقعون فرسى لأفكار كالتي كانت تختلج في قلب "جحا"، مع أنها لا طائل تحتها مطلقا على المرء أن لا يدَع نفسه أبدًا لتقع فريسة للخواطر التي ليست إلا من
الجزء السادس ١٥٤ سورة المؤمنون ظنا وتخمينا، لأن ذلك يؤدي إلى ضرر آخر أيضًا، وهو أن الذي يشغل عقله بتوافه الأفكار لا يعود قادرًا على التوجه إلى المعقولات.فحري بالمرء أن يطهر قلبه وعقله من لغو الخواطر والأفكار، ويوجههما إلى أفكار عالية نافعة، لتتقوى قوته الفكرية، ولكيلا يصير عقله، وهو نعمة ربانية عظيمة، معطلاً.منه، ثم بين الله تعالى في هذه الآيات أن المؤمنين يرتقون من هذا المقام إلى أعلى فلا يبرحون ينفقون أموالهم للنهوض بالفقراء.والحق أن الإسلام يرى أن كل ما في الدنيا من أشياء إنما خلقها الله جميعًا للمنفعة المشتركة للناس، ولا تخص شخصا دون شخص.وبما أن الثروة بكل أنواعها إنما تُنال في الدنيا بمساعدة الآخرين، وبما أن مال الثري يبقى فيه نصيب للأجير حتى بعد أداء أجرته، لذا فإن الإسلام أمره بإخراج الزكاة، ليتطهر ماله مما يشوبه من حقوق الآخرين.وعلى سبيل المثال، لو أن صاحب منجم أدى الجميع العاملين فيه أجرتهم كاملة فإنما أدى لهم أجرتهم فقط، بينما كان لهؤلاء حق في المنجم نفسه بحسب القرآن الكريم، وهذا يعني أنه لم يؤد لهم ما يستحقونه بصفتهم أصحابًا للمنجم.وكان أحد السبل لرد حقهم إليهم أن يعطيهم صاحب المنجم بعض المال زائدا على أجرتهم.ولو فعل ذلك فإنما أدى بذلك حق هؤلاء الحفنة من العمال بينما يظل سائر الناس الذين لهم الحق في المنجم، كما كان للعمال محرومين من حقوقهم.ومن أجل ذلك أعلن الإسلام أنه لا بد لكل إنسان أن يؤدي جزءا من ماله كزكاة لتنفقه الدولة على سد حاجات الناس المشتركة كما أمر النبي الله بدفع الخمس مما يخرج من كل المناجم إلى الحكومة لكي تنفقه على الفقراء (البخاري: كتاب الزكاة، باب في الركاز الخمس).وبذلك أيضًا قد حفظ الإسلام ما للناس كلهم من حق في ملكية الأرض.وبالمثل فإن المزارع الذي يأتي رزقه من الأرض إنما يأكل ثمرة جهوده، ولكن الواقع أنه ينتفع من الأرض التي جعلت للناس أجمعين؛ لذا يؤخذ جزء من ريعها ويعطى للحكومة لتنفقه على مصلحة الناس كلهم.ونفس الحال للتجارة.إن التاجر يتجر بماله في الظاهر، ولكن من المحال أن تستمر تجارته بدون الأمن في البلاد.وبما أن كل شخص يسهم في توطيد الأمن، فقد فرض الإسلام الزكاة على أموال
الجزء السادس 100 سورة المؤمنون التجارة، لكي يخرج منها ما فيها من حقوق الآخرين، ولتنفق الدولة كل هذه الأموال على المشاريع التي فيها مصلحة مشتركة للجميع.لقد كان رسول الله ﷺ يشعر بمعاناة الفقراء لدرجة أنه إذا جاء رمضان تصدق على الفقراء بكثرة لو شُبّهت بالريح المرسلة أي السريعة لكان هذا التشبيه ناقصا (البخاري: كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي يكون في رمضان).وذات مرة جاء النبي المال فقسمه بين الفقراء إلا دينارًا واحدًا، فتذكره النبي وهو يصلي ؛ فلما انتهى من صلاته أسرع إلى بيته بدلاً من الجلوس بين أصحابه للحديث معهم.ويقول الصحابة إن النبي ﷺ كان قلقًا جدا حتى إنه أسرع إلى البيت يتخطى رقابنا.ولما رجع قال كان ثمة دينار قد سقط في البيت من أموال الصدقة، فتذكرت ذلك وأنا في الصلاة، فقلت في نفسي لو أنني مت وهذا الدينار للفقراء في بيتي فماذا سيكون جوابي عند الله تعالى.فذهبت وأمرت أهلي بأن يعطوه بعض الفقراء (البخاري: كتاب الزكاة، باب من أحب تعجيل الصدقة من يومها).كما ورد في الحديث أنه جاء النبي الله ذات مرة تمرّ من الصدقة، ووضع الحسن تمرة منها في فمه وهو في الثانية من عمره أو يزيد قليلا.فلما رآه النبي ﷺ أخرج التمرة بيده من فمه، وقال إنها ليس من حقنا، بل هي للفقراء.(البخاري: كتاب الزكاة، باب ما يذكر في الصدقة للنبي وآله) وذات مرة علم النبي ﷺ أن بعض أصحابه – واسمه سعد وكان ثريا – يتفاخر على الآخرين بماله.فقال له النبي : هل تظن أنك كسبت هذا المال بقوة يدك؟ "هل تنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم"؟! فلا تفتخروا عليهم ولا تحتقروهم.(البخاري: كتاب الجهاد باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب) بالاختصار، لقد أوضح الله تعالى بقوله وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةَ فَاعِلُونَ أَن المفلحين هم أولئك الذين ينفقون أموالهم للنهوض بالفقراء ولا يقصرون في دفع حقوقهم لهم.إن العمال في أوروبا قد قاموا بتشكيل نقابات تسعى للدفاع عن حقوقهم، ولكن الناس في بلادنا يعطون الأجراء أقل مما يستحقون، ثم إنهم يماطلون في دفعه لهم.وبرغم أن لجان عمّالنا مشكلة في السماء وتفصل في حقوقهم
الجزء السادس سورة المؤمنون هنالك؛ إلا أنه لم يبق عند الناس في العصر الحاضر إيمان بالله تعالى مع الأسف، حيث لا يعملون بحسب قرار لجان السماء.عسى الله أن يوفقهم للعمل بحكم لجان السماء من خلال الأحمدية.بيد أن هذا العصيان لقرار لجان السماء لم يؤد إلى هضم حقوق العمال عندنا فحسب، بل أضر بأصحاب العمل أيضًا.ذلك أنهم يستعينون بالعمال الذين لا يعملون ببشاشة لحرمانهم من حقوقهم، مما يؤثر سلبيًا على العمل الذي يُعهد إليهم، وهكذا فإن أصحاب الأعمال أيضًا يضرون بأنفسهم بمضم حق الأجير.أما في أوروبا فلم أشاهد هناك أي شخص يمشي بل رأيت الجميع يجرون على ما يبدو.عند زيارتي لأوروبا في عام ۱۹۲٤م قلتُ للحافظ روشن على ذات مرة: هل شاهدت أحدًا في لندن يمشي ؟ قال كلا لم نر أحدًا يمشي هناك، بل كل واحد منهم يجري.لقد شاهدت هناك مبنى كان قيد الإنشاء، فأذهلتني السرعة التي كان يعمل بها العمال.أما العامل عندنا فإنه عندما يريد رفع لبنة يتأوه أولاً ثم يضعها في السلة.وعندما يريد حمل لبنة أخرى ينفخ فيها ليزيل عنها الغبار كأنها قطعة قماش غالي الثمن فينفخ في يمين اللبنة مرة، وينفخ في يسارها ثانية وليس ذلك إلا تمضية للوقت.ثم يقوم ببطء، ويمشي بالسلة إلى المعمار متكاسلاً.ثم بعد أن يوصل اثنتين أو ثلاثا السلات، يجلس قائلاً: أتناول جرعتين من النارجيلة.أما في دعوني إنجلترا فترى النقيض، حيث ترى كل شخص هناك كأنه يجري.ولقد رأيت أن المبنى المذكور آنفا كان قد ارتفع في دقائق، بينما لا يمكن أن يرتفع عندنا في ساعات.ولكن المؤسف أنني عندما ذهبت إلى أوروبا هذه المرة للعلاج علمتُ أن الكسل قد تسرب إلى أهل إنجلترا أيضًا، فلا يعملون الآن بالنشاط كما كانوا يعملون من قبل.بيد أنهم يقولون إن الناس في أمريكا ما زالوا يعملون بجد وبنشاط.من إذا، فهضم حقوق الفقراء قد أضرّ بالطرفين.فإنه قد أصاب الفقراء بالكسل وعدم الجد والاجتهاد، أما الأثرياء فلا ينتفعون من تجارتهم وأعمالهم ومصانعهم
الجزء السادس ١٥٧ سورة المؤمنون على ما يرام.فمن أهم ركائز الرقي القومي الحفاظ على حقوق الفقراء، وأن لا الأغنياء ينفقون جزءا من أموالهم على رقى الفقراء والنهوض بهم.فيحققون يبرح بذلك الرقي المادي، كما يتلقون البركات والجوائز الروحانية من عند الله تعالى.ثم إن المؤمنين يترقون إلى مقام أعلى من ذلك، فيحفظون كل منفذ لهم..أي آذانهم وعيونهم وأفواههم وعوراتهم.فلا يسمعون الغيبة، ولا يمدون عيونهم بجشع إلى أموال الآخرين، ولا يزنون، ولا حرج عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم.وليكن معلوما بصدد تفسير قوله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ أن البعض يرى أن هذا يشمل حتى الخادمات في البيوت، بينما يرى البعض الآخر أن المراد به النسوة اللاتي يؤخذن عنوة من قوم ضعفاء بشن غارة عليهم ثم يتم بيعهن كإماء.ويقول بعضهم أن المعنى أن النسوة اللاتي يقعن أسيرات خلال الجهاد يجوز إبقاؤهن في البيوت بدون عقد شرعي.ولكن كل هذه المفاهيم خاطئة.إن القرآن الكريم والحديث الشريف قد ذكرا الخدم والأرقاء ذكرًا منفصلاً، فلا يندرجون في مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ.لقد قال القرآن الكريم عن العبيد صراحة مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُنْحَنَ فِي الأَرْضِ (الأنفال : ٦٨)..أي لا يجوز لنبي أن يأخذ من قوم أسرى وأسيرات قهرا إلا بعد أن تجري بينه وبين أعدائه حرب دامية..بمعنى أن لا يجوز للمسلمين أخذ الأسرى من قوم لا يخوضون حربًا ضدهم، وذلك على خلاف ما كان عليه الحال في الحجاز منذ مئات السنين حيث كان أهلها يأخذون الأحباش عبيدا لهم، أو كما كان أهل العراق يجلبون الناس كعبيد لهم من إيران وروما واليونان والجزر الإيطالية إن الإسلام لا يجيز هذا الرق، وإنما يجيز أخذ أسرى العدو في الحرب فقط، وذلك أيضًا خلال المعركة فقط.وفي هذه الحالة أيضا يأمر الإسلام بإطلاق سراح أسير الحرب لقاء فدية.وإذا لم يكن عنده فدية، أو لم يُرد قومه دفع الفدية عنه، فعلى الدولة الإسلامية إطلاق سراحه منا وإحسانًا (محمد:ه).وإذا تعذر إطلاق سراحه منا فيمكن تسريحه بدفع الفدية عنه من أموال الزكاة (التوبة: ٦٠).وإذا كان هذا صعبًا فيجب أن يُعطَى الأسير خيار المكاتبة (النور: ٣٤)؛ والمكاتبة هو قول
الجزء السادس ١٥٨ سورة المؤمنون يقيم الأسير لمالكه سرّحْني وأنا سأدفع فديتي بمال سأكسبه بجهدي، وفي هذه الحالة سأكون حرا فيما أمارسه من عمل أو تجارة شخصية.كل ما عليه هو أن داخل الدولة الإسلامية.والبديهي أن امرأة إذا لم تُردَّ لنفسها الحرية رغم تواجد الفرص المذكورة أعلاه فلا شك أنها تجد خطرًا في ذهابها إلى بلدها، ولا تريد انتهاز فرص التحرر من خطر المكوث عند رجل مسلم فليس عند الرجل المسلم، والحالة هذه، بد من أن يتزوجها قهراً لأنها إذا لم تتحرر، ولم يتزوجها المسلم جبرًا أيضًا، فلا بد أنها ستنشر الفاحشة في بيته وفي المجتمع ؛ والإسلام لا يسمح بذلك.فإنما الفرق بين الحرائر وبين أسيرات الحرب أنه يجوز للحرة أن تتزوج برضاها، أما الأسيرة فإنها إما تتحرر بهذه الطرق التي فتحها الإسلام لها، أو يتزوجها صاحب البيت الذي تقيم هي فيه منعًا لانتشار الفاحشة؛ وإذا ولدت منه ولدًا صارت حرة.إذًا فيجب أن لا ينخدع أحد بكلمات مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، فإنها لا تعني الرق، لأن الإسلام لا يجيز الرق.إن القرآن الكريم يعلن صراحة أنه لا يجوز أخذ الأسرى من قوم حتى تقع بينكم وبينهم حرب دموية.ثم إنه يأمر بإطلاق سراحهم بوسائل شتى تملكها غالبًا الدولة الإسلامية أو الدولة الكافرة أو أقارب الأسرى أو الأسرى أنفسهم.أما إذا لم تسع الدولة المسلمة، وهي محايدة في القضية، لتفتدي المرأة الأسيرة، كما لم تسع لذلك الحكومة الكافرة المنحازة للأسيرة أيضا، ولم يحاول أقارب الأسيرة الذين هم أكثر قلقًا عليها أن يفتدوها، كما لم تحاول الأسيرة نفسها لحريتها مع أن المفروض أن تكون أحرص على شرفها من غيرها، ثم يتزوجها أحد المسلمين فمع ذلك يبقى أمامها طريق مفتوح آخر وهو ولدت له ولدًا تحررت تلقائيًا، وليس محرمًا عليها أن تخرج من قيده رغم كونها أسيرة حرب فبالله عليك هل تُعتبر هذه المرأة حرة أم أسيرة؟ فأولاً قد حرّم الإسلام أسرها بفرض شروط شتى، ثم فتح طرقا عدة لحريتها حتى قبل زواجها من مسلم، ثم أعلن أنها ستصبح حرة بمجرد أن تلد له ولدا أن تلد له ولدا بعد الزواج، وهكذا أعطى ضمانًا دائمًا بأنه حرام بيعها بشكل من الأشكال المحلّى لابن حزم كتاب العتق، المسألة و أنها إذا
الجزء السادس ١٥٩ سورة المؤمنون رقم ١٦٨٣ الجزء التاسع ص (۲۱۷)؛ فهل توجد في الدنيا امرأة حرة تتمتع بحقوق أكثر من هذه؟ والدرجة الخامسة في الرقي الروحاني هي وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ..أي أنهم يحافظون على كل أمانة تُركت عندهم، ويفون بكل عهد يعقدونه ولو مع كافر أو عدو.لقد عمل النبي ﷺ بمبدأ الأمانة بشدة حتى ورد في التاريخ أن شخصا كان يرعى الغنم لأحد رؤساء اليهود، فأسلم خلال محاصرة الجيش المسلم الخيبر.فقال: يا رسول الله، لا أستطيع الآن العودة إليهم، فماذا تأمرني في غنم سيدي؟ فقال النبي وجه غنم سيدك إلى حصن اليهود وسُقها إليه، سيأخذها الله إلى صاحبها.ففعل.ولما وصلت الغنم قريبًا من الحصن ساقها اليهود داخله (السيرة الحلبية: غزوة خيبر، الجزء الثالث ص ٤٥).إن التدبر في هذا الحادث يكشف لنا مدى حرص النبي ﷺ على أداء الأمانة، فإنه لم يسمح باستباحة مال العدو بغير حق حتى أثناء الحرب.إن هذا العصر يدعى عصر الرقي والحضارة ولكن لم يحدث فيه قط أن وقعت مواشي العدو في أيدي قوم فردوها إليه كلا، بل إنهم يستبيحون اليوم أموال القتلى في الحرب، حتى أصبح النهب والسلب لعبة يومية.وعلى النقيض ترى أنه برغم أن الأغنام كانت لشخص يحارب المسلمين، وبرغم أن وصول الغنم إلى حصن العدو يعني ضمان الزاد لهم لشهور واستمرار الحرب لفترة أطول، إلا أن النبي الله لم يرض بالخيانة بأي حال، فأمر راعي الغنم بتوجيه الغنم إلى الحصن كيلا يرتكب إثم الخيانة.وهكذا لقنه النبي أول درس عند إسلامه بأنه إذا التمن على شيء فعليه أن يحافظ على أمانته حتى في أحرج الأوقات ويؤديها إلى أهلها.لقد تعلم الصحابة – رضي الله عنهم - هذا الدرس من النبي ﷺ وعملوا به بما لا نجد له نظيرا في شعوب العصر الحاضر التى تدعى التحضر والتهذب.وما أروع النموذج الذي قدمه الصحابة في حمص.فعندما فتحوا هذه المدينة المركزية للنصارى، أخذوا منهم مئات الآلاف من المال كضريبة لكنهم اضطروا فيما بعد
الجزء السادس 17.سورة المؤمنون لإخلاء المدينة لبعض المصالح الحربية، فدعوا ذوي الرأي والعقل من أهلها، وقالوا لهم لقد أخذنا منكم هذه الضريبة نظير حمايتنا لأنفسكم وأموالكم، ولكن الوضع قد خرج عن سيطرتنا، وها نحن نترك مدينتكم، ونرى من الخيانة أن نحتفظ بأموالكم هذه، فردّوا إليهم تلك الأموال كلها التي بلغت الآلاف.ويخبرنا التاريخ أن هذا الحدث قد ترك في قلوب النصارى وقعًا عميقا لدرجة أن المسلمين لما غادروا هذه المدينة خرج معهم النصارى يودّعونهم وأعينهم تفيض من الدمع، وهم يدعون لهم قائلين : أعادكم الله إلينا ثانية فلم نر حاكمين أمثالكم قط.(فتوح البلدان للبلاذري: أمرُ حمص ويوم اليرموك ص ١٣٦-١٣٧ و١٤٣) واعلم أن الله تعالى قد عدَّ الحكم أيضًا ،أمانة وأمرنا بعدم الخيانة في هذه الأمانة، وأن نسلم زمام الحكم دائمًا إلى أيد قوم هم أهل لأداء أمانة السلطة على أحسن ما يرام.ويؤكد لنا التاريخ أن المسلمين قد عملوا بهذا الأمر الرباني بكل شدة.هناك مؤرخ مسيحي أوروبي شهير اسمه "غبن" Gibbon)، وقد ألف كتابًا تاريخيًا عن أحوال الرومان.لقد قال في كتابه هذا عن السلطان المسلم "ملك شاه" إن أباه "ألب أرسلان" تُوفي وهو صغير، فتآمر عليه شقيق له بالتواطؤ مع عم لـه وابن عم له ونصب نفسه ملكا ضده.فاندلعت حرب أهلية في البلاد.وكان نظام الدين الطوسى يعمل رئيسًا للوزراء عند ملك شاه"، وكان شيعيا.فطلب من الملك أن يذهب معه إلى ضريح الإمام موسى رضا ويدعو هناك بأن ينصره الله على خصمه في الحرب.فذهب معه.فلما فرغا من الدعاء قال ملك شاه للطوسي: بماذا دعوت؟ قال دعوت بأن يكتب الله لك الفتح.فقال الملك: أما أنا فلم أدع هكذا، بل دعوت أن يا رب إذا كان أخي أجدر مني بالحكم على المسلمين فانصره، وخُذ مني نفسي وتاجي.ولو كنت أنا الأحق بأداء هذه الأمانة على وجه أفضل فاكتب لي الفتح.إن "غبن" هذا المؤرخ المسيحي متعصب جدًّا، ولكنه لم يجد بدا من أن يعلق على هذه الواقعة قائلا إنه لمن المحال أن نجد في صفحات التاريخ نظرية هي أطيب
الجزء السادس ١٦١ سورة المؤمنون وأرحب من قول هذا الأمير المسلم الشاب ويستحيل أن يتحلى حتى الشيوخ من الملوك المسيحيين بمثل هذه الأخلاق الطيبة.(The Decline and fall of the roman empire vol.2 p.984) الحق أن هذه الروح الطيبة لم تنشأ في المسلمين إلا لأن الإسلام قد رسخ في أذهانهم بكل قوة بأن الحكم نوع من الأمانة، ومن واجبكم أن لا تخونوا أي أمانة أبدا.أما العهد فكان النبي الا الله حريصًا على إيفائه حرصًا شديدًا.فحتى قبل إعلان الدعوى كان عضواً في لجنة قام بعض الشباب من مكة بتشكيلها باسم "حلف الفضول"، بهدف نصرة المظلومين لما رأوا من حروب قبلية وخصومات يومية وفسادات متكررة.فقد أقسم هؤلاء الشباب على أنهم سينصرون المظلوم ويسعون لاسترداد حقه من الظالم، أو يدفعون له من عندهم ما بقيت في البحار قطرة ماء.إن التاريخ لا يمدنا بأية معلومات فيما يتعلق بالإنجازات التي حققتها هذه اللجنة التي قامت دفاعًا عن حقوق المظلومين والنهوض بهم، غير أننا نجد في التاريخ حادثا للنبي بعد إعلان دعواه وبعد أن صار أهل مكة أعداء متعطشين لدمائه.كان أبو جهل مدينا لشخص، وكان لا يدفع له ماله فجاء صاحب الدين إلى النبي وقال له: كنتَ عضوًا في "حلف الفضول، وقد حلفت على نصرة المظلوم، فأناشدك بحلفك هذا بأن تأتي معي وتسترد مالي من أبي جهل.فخرج النبي من توه، مع أن خروجه هكذا في مكة لم يكن خاليا من الخطر، كما أن أبا جهل نفسه كان عدوا لدودًا للنبي ، فكان من الممكن أن يصيبه بأذى.ولكنه خرج مع الرجل ووصل إلى بيت أبي جهل، ودق عليه الباب.فلما خرج قال لـه النبي : أعطه ماله الذي أخذت منه فدخل أبو جهل بيته بدون تردد، وأتى بالمال وسلّمه لصاحبه.ولم يكن هذا الحادث ليخفى على القوم، فشاع خبره في مكة انتشار النار في الهشيم، وأخذ القوم يقولون فيما بينهم إن أبا الحكم (أي أبا الله.معه جهل يأمرنا أن لا نسمع لمحمد (ﷺ)، ولكنه نفسه يخاف منه لدرجة أنه قد رد المال لصاحبه فورًا حين أمره محمد فلما سمع أبو جهل بحديثهم قال: ويحكم، والله
الجزء السادس ١٦٢ سورة المؤمنون لو كنتم مكاني لفعلتم ما فعلتُ! فإن محمدًا ( لما جاءني رأيت جملين" هائجين على يمينه وشماله، فأخذني منهما ذعر شديد، وقلت في نفسي إذا لم أنفذ أمر محمد فسيفترسني الجملان افتراسًا (السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثالث: أمر الأراشي) والله هو الأعلم ما إذا كان أبو جهل قد رأى مشهدا كهذا فعلاً، أم أن رعب الحق قد استولى عليه، إلا أن النبي ﷺ لما ذهب إليه ليسترد منه حق مظلوم، احترامًا لمعاهدة "حلف الفضول"، غير مكترث بما تحدق به من أخطار شديدة، قضى رعب الحق على نزعة الشر في أبي جهل، فرضي بإعطاء المظلوم حقه.ومما يدل على حرصه الشديد على الوفاء بالعهد ما حدث عند صلح الحديبية.فكان الفريقان قد تصالحا على أنه إذا أسلم شاب من مكة فلا بد أن يرده المسلمون إلى أقاربه في مكة ولكن إذا أراد مسلم العودة إلى مكة والالتحاق بأهلها فلن يردّوه للمسلمين.وما أن جفٌ حبر هذه المعاهدة حتى جاء أبو جندل – الذي كان أبوه سهيل يعقد الصلح من قبل أهل مكة – مصفّدًا بالقيود ومنهكا بالجروح - وسقط أمام النبي ، وقال يا رسول الله، إن أبي هذا يعذبني نتيجة إسلامي، وقد انتهزت فرصة وجوده هنا وفررت من البيت.وقبل أن يجيبه النبي ﷺ بشيء قال أبوه سهيل: لقد تمت المعاهدة بيننا، فلا بد أن يرجع ابني معي.وكانت حالة أبي جندل مؤلمة حتى سالت عيون المسلمين بدموع الدم برؤيته، فقال للنبي ﷺ بكل ضراعة: يا رسول الله، هل ترجعني إليهم في مكة ليعذبوني أشد من ذي قبل؟ ولكن الرسول ﷺ قال: إن رسل الله لا ينقضون العهود.فلا بد لك من العودة إليهم والصبر والتوكل على الله تعالى.فأرجع أبو جندل إلى مكة.ثم لما وصل النبي ﷺ مكة شاب آخر اسمه أبو بصير، ولكنه ل له أرجعه هو الآخر إلى مكة العقد.(السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثالث: أمر الهدنة، وما جرى عليه أمر قومٍ من المدينة لحقه بموجب من المستضعفين بعد الصلح) ورد في المصدر المشار إليه أنه رأى جملاً لا جملين.(المترجم)
١٦٣ سورة المؤمنون الجزء السادس ومما يدل على شدة اهتمام النبي له و بوفاء العهد أنه في إحدى المرات جاءه سفير حكومة برسالة، فاقتنع السفير بصدق الإسلام ببركة صحبته بضعة أيام.فقال يا رسول الله، أريد أن أعلن إسلامي، فقال له: هذا غير مناسب، فإنك مسؤول مرموق في حكومتك.عليك أن ترجع إلى بلدك الآن كما أنت، ولو رأيت أن حب الإسلام لا يزال متمكنا من قلبك فارجع إلينا وأَسلم ثانية.وقد حرص المسلمون أيضًا على الوفاء بالعهد حرصًا شديدا، فخلال إحدى المعارك عقد الكافرون مع أحد المسلمين الأحباش الهدنة على سبيل الخداع، ثم فتحوا باب الحصن، فلما تقدمت جنود المسلمين ليقتحموا الحصن قال الكافرون: كيف تهاجموننا وقد عقدتم معنا معاهدة فقال القائد المسلم لم تتم أي معاهدة بيننا.مع عبد منكم ، وقد آتانا الأمان على شروط.قال: ليس لهذا أن يعقد معكم أي معاهدة، إنما كان عليكم أن تعقدوا أي عقد معي.قالوا نحن لا نعلم شيئًا، لقد تمت الهدنة بيننا.فلما احتدّ الجدال كتب القائد المسلم إلى يخبره بالحادث ليأمره بما يجب.فكتب إليه عمر الله في الجواب: إن الله تعالى قد عظم الوفاء بالعهد جدا، فعليك أن تتموا إليهم عهدهم إلى أن ينكثوه بأنفسهم.(الطبري: ذكر مصالحة المسلمين أهل جندي سابور، الجزء الخامس ص ٧٥) قصارى القول إن الإسلام قد أولى الصدق والأمانة والالتزام بالمعاهدات أهمية كبرى، وأعلن أن المؤمنين الفائزين الذين يقدمون قدوة حسنة في أداء أماناتهم قالوا ا لقد عقدناها ورعاية عهدهم.هي عمر والدرجة السادسة التي ذكرها الله هنا أن هؤلاء المؤمنين يحافظون على صلواتهم.لقد استخدم الله تعالى هنا كلمة صَلَوَاتِهم، وهي صيغة الجمع، وذلك نفسك الحديث: عن أبي رافع قال: بَعَثَتْني قُرَيْشُ إِلَى رَسُول اللَّه ﷺ فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ الله ﷺ أُلقي في قلبي الإسلامُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهُ : إِنِّي لا بالْعَهْدِ وَلا أَحْبِسُ الْبُرَّدَ، وَلَكِن أَرْجِعْ، فَإِن كَانَ فِي الَّذِي فِي نَفْسِكَ الآنَ فَارْجِعْ.قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النبي ، فَأَسْلَمْتُ.(أبو داود: كتاب الجهاد، باب في الإمام يستجنّ به في العهود) (المترجم)
الجزء السادس ١٦٤ ، سورة المؤمنون ليشير إلى أمرين: الأول أنهم يؤدون كل الصلوات، سواء الفرائض أو النوافل، على أحسن وجه؛ والثاني أنهم يحافظون على العبادة الظاهرة لكل فرد من قومهم..أي أنهم يراقبون ما إذا كان أولادهم وزوجاتهم وأقاربهم وجيرانهم وكل قومهم يواظبون على الصلاة أم لا؟ ذلك لأن عمل المرء يظل عرضة للخطر ما لم تصلح كل العائلة بل كل القوم أعمالهم.فكثيرًا ما يحدث أن المرء إذا أراد أن يوقظ ولده لصلاة الفجر يقول في نفسه من شدة حبه له إن البرد قارس فما الداعي لإزعاجه؛ إنه سيصاب بالبرد إذا استيقظ للصلاة.ثم إذا أراد إيقاظ زوجته ثارت عواطف المحبة في نفسه وقال لقد ظلت امرأتي تمشي هنا وهناك طوال الليل حاملة الطفل، ولو أيقظتها سيفسد نومها؛ فالأفضل أن تنعم بالنوم الآن وستصلي فيما بعد.وهكذا لا يوقظ المرء أهله وأولاده بحجة البرد القارس تارة وبحجة الحر الشديد تارة أخرى.فيظل يقول ستة أشهر من الشتاء كيف أوقظ الطفل في البرد القارس إذ قد يصاب بالبرد، ويظل يقول ستة أشهر من الصيف لا يزال طفلي كالزهرة الناعمة، ولو خرج للصلاة في هذا القيظ فستضربه الشمس.فتمنعه هذه المشاعر والعواطف عند كل خطوة، فلا يستطيع أن يصلح نفسه ولا أهله ومن أجل ذلك قال الله تعالى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ (التحريم: ( أي يا عبادي، لا تنقذوا أنفسكم فقط من جهنم بل أهلكم وعيالكم أيضًا؛ إذ لا يكفي حماية أنفسكم من النار، بل لا بد لكم من حماية الآخرين، لأنهم إذا لم ينجوا منها فسيتسببون في دخولكم فيها أنتم أيضًا.غير أنه يجب أن لا يغيين عن البال أن إقامة الصلاة درجات عديدة، وأولى هذه الدرجات، التي ليست دونها درجة أخرى، أن يواظب المرء على أداء الصلوات الخمس إن المسلم الذي يؤدي الصلوات الخمس بدون أي انقطاع يتبوأ الدرجة الأدنى من الإيمان.والدرجة الثانية هي أن تؤدى الصلوات الخمس في أوقاتها، فالمسلم الذي يؤدي الخمس في مواقيتها يضع قدمه في الدرجة الثانية في سلّم الإيمان.
الجزء السادس سورة المؤمنون والدرجة الثالثة الثالثة في سلّم الإيمان.هي أداء الصلاة مع الجماعة، وبذلك يصعد المؤمن إلى الدرجة والدرجة الرابعة هي أن يصلّي المرء وهو يعي مفهوم كلمات الصلاة.فالذي لا يعلم معاني كلمات الصلاة عليه أن يتعلمها، أما الذي يعلمها فعليه أن يصلي بتأن وهدوء، حتى يستيقن بأنه قد أداها كما حقها.والدرجة الخامسة هي استغراق المصلي في الصلاة كلية فينهمك في صلاته كما يغطس الغطاس في البحر حتى يصل إلى أحد المقامين أن يوقن وكأنه يرى الله تعالى، أو يصلي بيقين بأن الله يراه.ومثله في المقام الثاني كمثل طفل كفيف جالس في حضن أمه.لا شك أن الطفل البصير الجالس في حضن أمه والناظر إليها ينعم بالاطمئنان، ولكن الطفل الضرير الجالس في حضنها أيضا يطمئن مدركًا أن أمه تراه وإن لم يكن يرى أمه بسبب عماه.لقد قال النبي ﷺ إن المؤمن لا بد له أن ينال أحد هذين المقامين خلال الصلاة؛ فإما أن يرى الله تعالى، أو أن يكون قلبه مفعما باليقين بأن الله يراه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان).هذه هي الدرجة الخامسة من الإيمان، وهنا ينتهي ما كتب الله على المرء من فرائض.ولكنه لم يصعد بعد إلى المكانة الرفيعة التي يجب أن يصل إليها.والدرجة التالية وهي السادسة للإيمان هي أن يصلي المرء النوافل.ومن أدى النوافل فكأنما يقول الله تعالى يا رب لقد أديت الفرائض، ولكن قلبي لم يطمئن بأدائها، وأودّ المثول في جنابك في أوقات إضافية غير مواعيد الفرائض.ومثاله كأن يذهب المرء لزيارة بعض الصالحين وعند انتهاء وقت اللقاء يقول له: أرجوك أن تعطيني دقيقتين أو أكثر ؛ فيجد المتعة في هاتين الدقيقتين الزائدتين.كذلك فإن المؤمن حين يؤدي النوافل بعد الفرائض فكأنما يقول الله تعالى أود الآن أن أظل ماثلاً أمامك وقتًا أطول.والدرجة السابعة هي أن لا يكتفي المرء بأداء الصلوات الخمس والنوافل فحسب، بل يصلي التهجد أيضًا في جوف الليل.وبهذه الدرجات السبع تكتمل صلاة المرء.والحائزون هذه الدرجات قوم قد ورد عنهم في الحديث أن ربنا تبارك
الجزء السادس 177 سورة المؤمنون وتعالى ينزل كل ليلة من عرشه إلى سماء الدنيا، وتنادي ملائكته يا عباد الله، إن ربكم قد جاء للقائكم، فاستيقظوا والتقوه.* ربه إذا فلا بد لكل امرئ من الوصول إلى هذه الدرجات السبع.عليه أن يواظب على الصلوات الخمس وعليه أن يؤديها في مواقيتها.وعليه أن يصلي مع الجماعة.وعليه أن يصلّي وهو يعلم ما يقرأ وإلا فعليه أن يتعلم معاني الصلاة.ومن واجبه أن يصلي النوافل آناء الليل وآناء النهار إضافة إلى الصلوات المكتوبة.ومن واجبه أن يصلي باستغراق وكأنه – كما قال الرسول ﷺ – يرى الله تعالى أو يوقن بأن الله يراه.ثم ينبغي لكل واحد منا أن يواظب على أداء الفرائض والنوافل بحيث يصبح ليله نهارًا ونهاره ليلا.كما يجب عليه أن يسعى للانتفاع بمناجاة ربه وقت التهجد أكثر فأكثر.وما لم يحافظ المرء على صلواته بهذا الأسلوب فأمله في أن يُرضي يظل ضربًا من الوهم فحسب.ثم يقول الله تعالى أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خالدُونَ..أي أن الدرجة السابعة من الرقي الروحاني للإنسان هي أن الله تعالى يورثه جنة هي مجموعة الجنات كلها أي الفردوس والفردوس في العربية جنة تجمع كل ما يوجد في البساتين.وفي هذا إشارة إلى أن هؤلاء المؤمنين كما يجمعون في أنفسهم كل الخواص الروحانية العليا، كذلك سيُدخلهم الله تعالى في مكان جامع لكل الميزات والمحاسن.أما قوله تعالى (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فأشار به إلى أن هؤلاء القوم لما كانوا يحافظون على عبادة الله تعالى دائمًا، كذلك فإنه تعالى سوف يتأكد من أن يظل هؤلاء وارثين لهذه النعم دائمًا، فلا تأتي عليهم ساعة الزوال أبدًا.نص الحديث: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخِرُ، فيقول : مَن يدعوني فأستجيب لــه، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.(البخاري: كتاب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل).(المترجم)
الجزء السادس ١٦٧ رة المؤمنون سورة وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَلَةٍ مِّن طِينٍ (3) ثُمَّ جَعَلْتَهُ نُطْةً فِي قَرَارٍ مَّكِينِ (٦) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ١٤ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَمًا فَكَسَوْنَا الْعِظَمَ لَحَمَّا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا وَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ (٢) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ) شرح الكلمات : ۱۷ سلالة: السلالة: ما استُل من الشيء؛ الخلاصة لأنها تُسَلّ من الكدر.والسلالة: النسل والولد (الأقرب).طين الطين تراب أو رملٌ أو كلْسٌ يُجبَل بالماء ويُطلى به (الأقرب).عَلَقَةً : العَلَقُ: الدمُ عامةً، وقيل الشديدُ الحمرة، وقيل الغليظ؛ وقيل الجامد.العلقة: القطعة من العلق للدم (الأقرب).مضغة: المضغة: قطعة لحم (الأقرب).التفسير: أي أن الخلق الروحاني سبع درجات مثل الخلق الجسدي للإنسان.فأولاً نخلق الإنسان من خلاصة الطين..أي من الغذاء الذي يخرج من التراب مثل النبات والحيوان والجماد وغيرها وهذا هو الحال في العالم الروحاني..أي كما أن النطفة تتكون من الأغذية التي يتناولها الإنسان والتي تخرج من الأرض، كذلك فإن بذرة الروحانية أيضًا لا يمكن أن تنشأ في الإنسان ما لم يتولد فيه الخشوع والخضوع والتواضع وما لم يتخل عن مادة الكبرياء والزهو.ثم إن الإنسان عندما يتناول هذا الغذاء الحاصل من التراب يحوله الله تعالى نطفة ويُقرها في مكان راسخ؛ وهي الدرجة الثانية في الخلق الجسدي.أما في الخلق
الجزء السادس ١٦٨ سورة المؤمنون الروحاني فقد قال الله تعالى إزاء ذلك وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ..أَي أَنه لا بد من الأخذ بأنواع الحيطة للحفاظ على النطفة المستقرة في الرحم وإلا هناك خطر لضياعها، كذلك تتطلب بذرة الروحانية في الإنسان أن يتجنب كل نوع من اللغو وإلا فهناك خطر أن لا يكتمل خلقه الروحاني.الله والدرجة الثالثة في الخلق الجسدي هى ما ذكره الله تعالى في قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةٌ...أي نحوّل النطفة إلى دم متجمد.وأما في الخلق الروحاني فقد قال إزاء ذلك وَالَّذِينَ هُمْ ِللزَّكَاة فَاعِلُونَ..أي كما أن النطفة تتحول علقةً وتلتصق بالرحم، كذلك فإن العبد إذا تقدم في الروحانية بلغ مقامًا حيث ينشأ في قلبه حب الإنسانية، فينفق أمواله على الناس للنهوض بهم.أما الدرجة الرابعة في الخلق الجسدي فذكرها الله تعالى بقوله (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً..أي تتحول العلقة إلى مضغة من اللحم بمعنى أنها تتخلص مما فيها من ضْغَةً..وسخ ودرن.أما في الخلق الروحاني فقد ذكر الله إزاء ذلك وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ...أي أن المؤمن الحائز على هذه الدرجة يحفظ كل منفذ من منافذه كائنًا مستقلاً قادرًا على حماية نفسه من السيئة بإرادته.حيث يصبح والدرجة الخامسة في الخلق الجسدي هي قوله تعالى فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا.أي بعد مرحلة المضغة تتولد العظام في الجسد.أما في الخلق الروحاني فقد ذكر الله تعالى إزاءه ذلك وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ..أي تنشأ في هؤلاء المؤمنين صلابة روحانية، فيراعون أماناتهم وعهودهم حتى مع الأعداء، ولا يأخذهم في ذلك طمع ولا ضعف.وكأن الجميع يعرف أن هؤلاء القوم لن ينكصوا عند الاختبار، بل سيوفون بعهدهم حتما في كل حال.والدرجة السادسة في الخلق الجسدي هي قوله تعالى فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا.أي تُكسى العظام باللحم في هذه المرحلة.أما في الخلق الروحاني فقد ذكر الله إزاء ذلك وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ..أي أنهم يحافظون على صلواتهم وصلوات قومهم.فكما أن الجنين إذا كُسِيَ الجلد أصبح محفوظًا من الضياع إلى حد كبير، كذلك فإن الذين يحافظون على عبادة قومهم يصبحون في مأمن من
١٦٩ سورة المؤمنون الجزء السادس التأثيرات الخارجية الضارة أفرادا وقوما لكون القوم كلهم صالحين، كما يصبح الجنين محفوظًا من التأثيرات الخارجية إلى حد كبير بعد أن يُكسى الجلد.أما الدرجة السابعة في الخلق الجسدي فذكره الله تعالى بقوله (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخر..أي بعد أن نكسو العظام لحما وجلدًا نخلق الجنين خلقًا جديدا، حيث يُولد ليصبح بشرًا سويًّا.أما في الخلق الروحاني فقد ذكر الله تعالى إزاء ذلك قوله أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ..أي أنهم سيرثون بعد الموت إنعامًا هو جامع لكل نوع من النعم.فكما أن الإنسان يُعتبر في عالم الأجساد جامعا لكل ما يوجد في الحيوانات من كمال، كذلك فإن الإنسان الروحاني ينال بعد موته كل أنواع النعم.وكما أن الإنسان المادي يكون قادرًا على حماية نفسه وقومه، كذلك فإن الله تعالى بنفسه يتولى الحماية الروحانية للإنسان الروحاني.وقد ذكر الله تعالى آخر مراحل الخلق الجسدي في قوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالقين، وهذا ينطبق على الخلق الروحاني أيضا، بمعنى أن الإنسان حين يبلغ هذا المقام خلال رقيه الروحاني يُعطى خلقًا جديدًا يثير إعجاب الجميع، فيضطرون إلى حمد الله تعالى.وهناك واقعة تاريخية تتعلق بهذه الآية يجدر ذكرها هنا كان ثمة كاتب اسمه عبد الله بن أبي سرح، وكلما نزل على النبي الله شيء من الوحي دعاه وأملاه عليه.وذات يوم كان النبي يملي عليه هذه الآيات، فلما بلغ قول الله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ قال الكاتب من تلقائه فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، فقال له النبي ﷺ اكتبها أيضًا فقد نزلت عليّ في الوحي.ولم يفكر الكاتب أن هذه الجملة نتيجة منطقية وطبيعية للآيات السابقة.إنما ظن أن محمدا (ﷺ) لما سمعها من فمه عدها من عند نفسه آية قرآنية؛ وهذا يعني أنه يختلق القرآن كله من عنده، معاذ الله.فارتد الكاتب وذهب إلى مكة.ولدى فتح مكة كان عبد الله هذا بين أناس بقتلهم حيثما وجدوا.ولكن عثمان الله أجاره، فظل مختفيا في بيته ثلاثة أيام، ثم جاء به عثمان ذات يوم إلى النبي ﷺ والناس يبايعون على يده، أمر النبي
الجزء السادس ۱۷۰ سورة المؤمنون والتمس منه أن يقبل منه بيعته، فتردد النبي ﷺ أول الأمر، ثم قبل بيعته، وهكذا أسلم عبد الله بن أبي سرح ثانية الإصابة في تمييز الصحابة: حرف العين، عبد الله.بن أبي سرح، وأبو داود: كتاب الحدود، باب الحكم في من ارتد) سوی صنع بن سعد وليكن معلومًا أن قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) لا يعني أن هناك خالفًا من دون الله تعالى، بل كلمة الخالقين) تعني هنا المقدرين.فقد قال الإمام الراغب ما نصه: "معناه أحسنُ المقدّرين، أو يكون على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أن غير الله يُبدعُ؛ فكأنه قيل : فاحْسَبُ أن ههنا مبدعين وموجدين، فالله أحسنهم إيجادًا على ما يعتقدون" (المفردات).أي أن بعض الناس يقولون إن من الله أيضًا يبدع ويوجد، فأجاب الله تعالى بأنه مما لا شك فيه أن في الدنيا مبدعين وصناعين سوى الله تعالى، ولكنه لو تمت المقارنة بين ما صنعوا واخترعوا وبين ما أوجده الله وصنع لاضطروا للاعتراف بأن ما أبدعوا لا يساوي شيئًا إزاء الله تعالى.فمثلاً إن الله تعالى سميع وبصير، وإنه تعالى قد وصف الإنسان أيضًا بذلك فقال (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) (الإنسان (۳)، وهذا لا يعني أن الإنسان شريك في صفتي الله السمع والبصر حقيقة، وإنما المراد أن الله تعالى حين وهب له قوة السمع والبصر سماه سميعًا وبصيرًا على سبيل المجاز.ثم يجب أن لا يغيبن عن البال أن الله تعالى قد استعمل للإنسان لفظي "سميع وبصير"، بينما سمى نفسه "السميع البصير"..أي أنه تعالى يستجمع في ذاته كافة كمالات السمع والبصر، أما الإنسان فسمعه وبصره محدودان جدا، إذ لا يقدر على أن يسمع صوتًا بعيدا، ولا أن يرى شيئًا موضوعًا وراء ظهره.وبالمثل، فبرغم أن في الدنيا صناعا ومخترعين كثيرين الله تعالى، إلا أن صناعاتهم ومخترعاتهم لا تساوي شيئًا إزاء صُنع الله تعالى.ثم إنهم ما داموا يخترعون هذه الأشياء بفضل ما حباهم الله به من قدرات وكفاءات، فثبت أن الله تعالى هو أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) في جميع الأحوال، وليس أي إنسان.وفي الأخير أرى لزاماً على أن أبين أن الوصول إلى المقام الروحاني المشار إليه في قول الله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ يتوقف على الاجتهاد والتضحية والعمل المتواصل، وهذا يتطلب من الإنسان السعي الدءوب لجلاء نفسه وصقلها مدة سوی
۱۷۱ سورة المؤمنون الجزء السادس طويلة.بيد أنه في بعض الأحيان تقع أحداث مصيرية انقلابية تأخذ المرء في لمح البصر من الفرش إلى العرش، ومثالها الخالد حادث إسلام عمر له.كان عمر يعادي الإسلام عداء شديدا، ولكنه كان مزودًا بالمواهب الروحانية أيضًا.أعني أنه، رغم شدة غضبه ورغم إيذائه النبي ﷺ وأصحابه، كان يحمل بين جنبيه قلبا رقيقا.فعندما أراد المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة تجهزوا للرحيل من مكة قبل صلاة الفجر كيلا يمنعهم المشركون ولا يؤذوهم.وكانت العادة في مكة أن يتفقد بعض رؤسائها شوارعها ليحرسوا الناس من السارقين.فخرج عمر له في تلك الليلة على نوبته للحراسة فرأى أكواماً من الأثاث أمام بيت فتقدم عمر وإذا هو بسيدة واقفة بجنب الأثاث.ولعل عمر كان صديقا لزوج تلك الصحابية فقال لها: ما هذا؟ يبدو أنكما خارجان على سفر طويل.ولم يكن زوجها عند الأثاث، ولو كان هناك فلربما اختلق لسفره عذرًا من الأعذار خوفًا من عداء المشركين وأذاهم؛ ولكن لم يكن عند تلك الصحابية أي خوف كهذا، فقالت يا عمر نحن مهاجرون من مكة.فقال عمر : ولكن لماذا تهاجرون؟ قالت نترك وطننا لأنك وإخوانك لا يريدون لنا أن نعيش فيه، ولا نستطيع أن نعبد الله تعالى هنا بحرية.فبرغم أن كان يعادي الإسلام عداء شديدًا، وبرغم أنه كان لا يبرح يضرب المسلمين، إلا أنه لما سمع الصحابية الواقفة هناك في ظلام الليل تقول له بأننا نترك أوطاننا لأنك وإخوانك لا يريدون لنا العيش فيه ولا يسمحون لنا بعبادة الله بحرية، حوّل وجهه إلى الناحية الأخرى ثم ودعها وقال: صحبكم الله.ويبدو أن الرقة قد غلبت على عمر لدرجة أنه علم أنه لو لم يحول وجهه إلى الناحية الأخرى لبكي.وبينما هو في ذلك إذ وصل زوج تلك الصحابية.فلما رأى عمر واقفًا هناك خاف أن يحول دون سفرهما إذ كان يعلم أنه عدو لدود للإسلام.فسأل زوجته كيف جاء عمر هنا؟ فقالت لقد وجدني واقفة هنا، وسألني عن قصدنا؟ فقال لها إني أخاف أن يثير شرا.قالت يا ابن عم – وكانت العادة عن نساء العرب أن يقلن لأزواجهن يا - تخاف أن يصيبنا عمر بشر، وأنا أرى أنه سيدخل في الإسلام في يوم من الأيام.فإني لما قلت له: إننا تاركون مكة لأنك وإخوانك لا يتركوننا لنعبد ربنا عمر ابن عم - عمر
الجزء السادس ۱۷۲ سورة المؤمنون حرية، أدار وجهه إلى الناحية الأخرى، وقال لي حسنًا، صحبكم الله.وكان في صوته ارتعاش وأظنه قد اغرورقت عيناه وأرى أنه سيعتنق الإسلام في يوم من الله يعلم الأيام حتمًا.السيرة الحلبية الجزء الأول، باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة ص ٣٦١) مرت الأيام ولم يزل عمر على عدائه الشديد للإسلام.وذات يوم قال في نفسه : لمَ لا أقتل مؤسس هذا الدين الجديد نفسه؟ فاستل السيف وخرج من بيته بنية قتل النبي ﷺ.فسأله بعض القوم إلى أين تتجه يا عمر؟ قال إني ذاهب لقتل محمد (ﷺ).فقال الرجل ضاحكا: ارجع إلى بيتك أولاً، فإن أختك وزوجها قد أسلما.قال عمر هذا كذب وافتراء.قال الرجل: اذهب وتحقق.فذهب عمر إلى بيتهما، فوجد الباب مغلقا، وسمع صوت قراءة القرآن.فدق الباب.فقال زوج أخته من؟ قال: أنا عمر.وكان زوج أخته أن عمر عدو الإسلام، فأخفى الصحابي الذي كان يقرأ القرآن في ناحية من البيت، ووضع أوراق القرآن أيضًا جانبًا، ثم فتح الباب.ولما كان عمر قد سمع عن إسلامهما قال له: لماذا تأخرت في فتح الباب؟ فلما حاول زوج أخته تبرير ذلك بعذر من الأعذار قال لـه عمر: كلا، بل قد تأخرت عن فتح الباب لسبب آخر.لقد سمعت صوت شخص يقرأ عليكما ما يقول ذلك الصابئ علما أن مشركي مكة كانوا يسمون النبي ﷺ صابئا – فحاول نسيب عمر كتمان الأمر، فغضب عمر وهم بضربه.فأسرعت وحالت بينهما دفاعًا عن زوجها.وكان عمر قد رفع يده لضربه فلم يستطع أن يوقفها، فأصاب أنف أخته، فسال الدم وكان عمر رجلا مرهف المشاعر، فلأنه ضرب امرأة خلافًا لعادة العرب، ولا سيما أنها أخته، فحاول تغيير الحديث وقال لهما: حسنًا، أروني ما كنتم تقرؤون.فأدركت أخته أن عواطفه قد هدأت ورقت، فقالت له: كلا، لن نضع أوراق هذا الكلام المقدس في يد إنسان مثلك.فقال عمر: إذا فماذا علي فعله؟ قالت : اذهب واغتسل أولاً، وعندها فقط سنضع هذه الأوراق في يدك.فذهب عمر واغتسل ورجع فناولته أخته أوراقا عليها آيات من القرآن.وكان عمر قد حصل انقلاب طيب في باطنه فأخذته الرقة بقراءة تلك الآيات.فما أن انتهى من قراءتها حتى قال من فوره: أشهد أن لا إله إلا الله، أخته -
الجزء السادس ۱۷۳ سورة المؤمنون وأشهد أن محمدا رسول الله عندها خرج الصحابي الذي كان مختفيا في البيت خوفا من عمر.فسأله عمر عن الأرقم.عمر المكان الذي يقيم فيه النبي حيث كان يغير مكان إقامته في تلك الأيام من جراء المعارضة الشديدة.قال إنه مقيم في دار فأراد عمر أن يذهب إلى النبي ﷺ متوشحا سيفه، فظنت أخته أنه ربما يخرج بنية سيئة، فوقفت في وجهه وقالت والله لن أدعك تذهب إلى النبي ما لم تقنعني أنك لن تعمل هناك أي شر.فقال لها: إني أعدك بكل صدق أني لن أثير هناك شرا ولا فتنة.فوصل عمر له دار الأرقم حيث كان النبي ﷺ وأصحابه يتدارسون الدين، وقرع الباب.فقال أحدهم: من؟ أجاب عمر: أنا عمر.فاقترح الصحابة للنبي بعدم فتح الباب مخافة الفتنة.وكان حمزة له حديث الإيمان بينهم، ومغواراً للحرب، فقال افتحوا الباب، وسأرى ما هو فاعله.ففتح أحدهم الباب.فلما دخل عمر قال له النبي : إلام ستظل سادرًا في معارضتي.قال يا رسول الله، إنني لم آت معارضا، بل لأصبح عبدا من عبيدك.فعمر الذي خرج قبل ساعة كعدو لدود للإسلام وبنية قتل النبي و تحول في لمح البصر من المؤمنين ذوي الطراز الأول.لم يكن عمر من علية القوم في مكة، ولكن كان قوي التأثير على شبابها بسبب شجاعته.فلما أعلن إسلامه كبر الصحابة من فرط الحماس.بعدها حانت الصلاة، فأراد النبي الله أداء الصلاة داخل الدار سرا، ولكن الذي خرج قبل ساعة أو ساعتين بنية قتل النبي ﷺ جرد سيفه ثانية وقال يا رسول الله ، هل من العدل أن يصلي المؤمنون بالله ورسوله سراً في حين أن مشركي مكة يفعلون ما يريدون علنًا في حرية؟ هذا لا يجوز.وسأرى من سيمنعنا من الصلاة في الكعبة.فقال له النبي ﷺ : بارك الله في مشاعرك الطيبة، ولكن الظروف لا تسمح لنا بذلك بعد.(المرجع السابق، باب إسلام عمر ص ٣٦٦-٣٧٣) هذا الانقلاب الذي حصل في عمر كان انقلابًا غير عادي، حيث انقلب في لمح البصر من عدو لدود إلى مؤمن من الطراز الأول.ولكن قليل هم الذين يحصل فيهم هذا الانقلاب المفاجئ.ثم إن هذا الانقلاب لا يمكن أن ينشئه أحد بنفسه، بل إنه يقع من الخارج من عند الله تعالى، ويقع بطريق مذهل حيث ينقلب العدو صديقا عمر
الجزء السادس ١٧٤ سورة المؤمنون والصديق عدواً.أما الارتقاء العادي فينشئه المرء بنفسه تدريجيا، فالذي هو في طور الارتقاء العادي، ومع ذلك يأمل أن يحدث فيه انقلاب ثوري، فلن يرى النجاح أبدا.فمثلاً قد قال المسيح الموعود الله إن الله تعالى قد علّمني أربعين ألف مادة من اللغة العربية في ليلة واحدة أنجام) ،آتهم الخزائن الروحانية مجلد ١١ ص ٢٣٤).كان هذا انقلابًا ثوريا حصل في نفسه..ولكن لو أن الطلاب احتجوا بهذا المثال ولم يذهبوا إلى المدارس منتظرين ملاكًا يعلمهم ستين ألف مادة من العربية مثلاً، فمن ذا الذي سيعدهم من العقلاء؟ كلا، إن هذا الانقلاب لا يولّده المرء بنفسه، بل يتولد من تلقائه أما الارتقاء العادي فيتم من حال إلى حال بالتدريج ونتيجة الاجتهاد.إنما يحدث هذا الانقلاب مرة في آلاف من الأيام، أما الأيام الأخرى فهي أيام الانتقال البطيء والارتقاء المتدرج وينتقل المرء من حالة إلى أفضل منها نتيجة السعي المتواصل والاجتهاد والتضحية.والارتقاء التدريجي والانتقال من حال إلى حال إنما يتأتى دائمًا بالنوافل وذكر الله والاجتهاد.فلو قام المرء بدراسة نفسه وفكر كيف يمتنع من الرد على السباب بالسباب، وكيف يتحمل ظلم الظالم، وكيف يلتزم الصمت عند سماع اللغو من الكلام من أحد، اكتسبت نفسه الكمال شيئًا فشيئًا.أما لو حصل في نفسه الانقلاب لبدأ في نفس اليوم بأداء صلاة التهجد والنوافل، وامتنع عن أكل الحرام وتجنب قول الزور، ولكن هذا لا يحدث لأن تطوره تدريجي ومنوط ببذل المجهود والسعي.وإنني أرى أن الناس لا يهتمون عادة بالسعي والجهد الذي قد حث عليه الله تعالى في هذه الآيات، بل ينتظرون حدوث الانقلاب المفاجئ فيهم.مع أن التطور الذي سيحصل فيهم إنما يكون تدريجيًّا ولا بد له من السعي وبذل المجهود.وهذا يتطلب من المرء أساسًا أن يقوم بعبادة الله تعالى بخلوص القلب ويداوم عليها.لو أن المرء داوم على العبادة لصدرت عنه الحسنات الأخرى من تلقائها.ولكن هذا لا أن يكتفي وللتأكد يعني من أن الله تعالى قد علمه ال العربية في "ليلة واحدة" راجع رواية "السيد غلام نبي سيتهي" في جريدة "الحكم".عدد ٢١-٢٨ أكتوبر ١٩٣٥م صفحة ٤.(هذه الحاشية توجد في النص الأردو وليست من المترجم)
الجزء السادس ۱۷۵ سورة المؤمنون بأداء الصلوات المفروضة فحسب، بل عليه أن يهتم بأداء التهجد والنوافل كما فصلتُ من قبل.كما عليه أن يفي بعهده، ويساعد الفقراء ويحافظ على عفته.وبالقيام بهذا الحسنات يرتقى المرء ارتقاء كبيراً حتى ينال خلقًا روحانيا آخر، وتبلغ إنسانيته أوج كمالها.وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَابِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَدِ لِمِينَ ) شرح الكلمات : طرائق جمع طريقة، وطريقة الرجل: مذهبه (الأقرب).۱۸ التفسير: يقول العلامة القرطبي إن سَبْعَ طَرَائقَ هي السماوات السبع، لأن بعضها فوق بعض.فيقال: طارقتُ الشيء أي صلبتُ بعضه فوق بعض.والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة (القرطبي).وقد نقل العلامة أبو حيان في تفسيره: "وسبعُ طرائق السماوات، قيل لها الطرائق لتطارق بعضها فوق بعض طارق النعل: جعله على نعل وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر، قاله الخليل والفراء والزجاج" (البحر المحيط).وقال الإمام الراغب في تفسيره لقوله تعالى في سورة الجن كُنَّا طَرَائقَ قدَدًا إنه "إشارة إلى اختلافهم في درجاتهم".فهو يفسر "طرائق" بمعنى الدرجات.أما سَبْعَ طَرَائِق فقال عنها أطباق السماء يقال لها طرائق" (المفردات).وعليه فقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ يعني أننا قد خلقنا فوقكم سبع درجات..بمعنى أننا كما أكملنا خلقكم المادي في سبع مراحل، كذلك قسمنا رقيكم الروحاني في سبع درجات.وما هى تلك الدرجات الروحانية السبع؟ يتضح لنا من دراسة القرآن الكريم أن الإنسان يشبه الجماد في درجته الأولى من رقيه الروحاني..بمعنى أن الجماد كما يخلو من أي حس وشعور كذلك يخلو بعض الناس من أي شعور وتمييز بين الخير والشر.فليس لديهم أي غاية سامية، ولا يتولد فيهم الإحساس بالخير ولا بخشية الله
الجزء السادس ١٧٦ سورة المؤمنون مهما وعظتهم ونصحتهم.وقد أشير إلى هؤلاء في القرآن الكريم في قول الله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة: ٧٥).وهذا أن هناك أناسًا تخلو قلوبهم من حب الله كلية حتى لا تجد عندهم أي إحساس بخشية الله تعالى.ليس عملهم إلا أن يأكلوا إذا جاعوا وأن يناموا إذا تعبوا.لا يفكرون أبدًا فيما فرض الله عليهم من مسؤوليات وواجبات، ولا يؤثر فيهم نصح يعني الناصحين بل يذهب سدى.وهؤلاء يُشبهون الجمادات في مجال الروحانيات.والدرجة الثانية الروحانية تماثل النباتات..أي أن الإنسان إذا تقدم في روحانيته وتخلى عن حالته الجمادية نشأت فيه قوة النماء كالتي تكون في النبات.والثابت بالتجارب على المدى الطويل أن في النباتات أيضًا روحًا وإن كانت جد ضعيفة بالمقارنة مع الروح الإنسانية.ومثاله نبتة تدعى بالعربية "المجزاعة"، وتسمى "لاجونتي" في لغتنا الأردية.فإن أوراقها تنكمش فورًا إذا ما لمست.وهذا يعني النباتات أيضا تتمتع بالحس، وإن كان بعضها أقوى حسا من غيرها.ولكن حسها ضعيف جدا بحيث إنها لا تقدر به على تجنب الصدمات والأخطار.فنبات المجزاعة مثلاً يتقلص إذا ما لمس، ولكنه لا يقدر على الفرار لينجو من الخطر.كذلك فمن الناس من يتمتع بالحس الروحاني إلى حد ما، ولكنه لا يستطيع حماية نفسه من أن الهجمات الخارجية.وقد أشار الله تعالى إلى هؤلاء في القرآن الكريم بقوله تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (الأعراف: ۱۹۹).لقد وصف الله تعالى هؤلاء بأنهم ينظرون ولكن لا يبصرون، وهذا دليل على أنه تعالى يتحدث هنا عن قوم يتمتعون بحس الخير إلى حد ما، ولكن الضعف غالب عليهم بحيث لا ينتفعون من هذا الحس كما ينبغي، ويظلون محرومين من الانتفاع من العلوم الروحانية وهم ينظرون.والدرجة الثالثة الروحانية تشبه الحياة الحيوانية..بمعنى أن الحيوان يسمع صوتك حين تُسمعه إياه، ولكنه لا يفقه منه شيئًا، وإذا حاولت إيذاءه هرب، ولكن ليس بوسعه أن يفكر في التدابير التي تحميه من الأخطار للأبد.كذلك يوجد في عالم الروحانية أناس يشبهون الحيوانات، وقد ذكرهم الله تعالى في قوله لَهُمْ قُلُوبٌ لا
الجزء السادس ۱۷۷ سورة المؤمنون يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: ١٨٠).لقد وصم الله تعالى هؤلاء القوم بضلال أشد، وذلك لأن وجود هذا العيب في الحيوانات شيء طبيعي، ولكن الله تعالى قد زود الناس بكل نوع من الكفاءات ومع ذلك قد صار هؤلاء كالأنعام.فإنهم يلجأون إلى أخذ التدابير للنجاة وقت الخوف كما تفعل الحيوانات عند الخطر..أي أنهم يتضرعون إلى الله تعالى وقت الخوف، ولكنهم لا يقدرون على حماية أنفسهم من العذاب للأبد، بل إذا كُشف عنهم العذاب عادوا إلى شرورهم ثانية.وإذا ازداد الإنسان شعورًا بمحبة الله أكثر تبوأ الدرجة الرابعة، فيصبح مشغوفًا بالتقوى والروحانية، ويقوم بكل الأعمال بعقل وفهم.بيد أن الشيطان يغلبه أحيانًا، وإن كانت السيئة لا تنجح في الهجوم عليه إلا قليلا، إذ أصبح قادرا على بمعنى أنه معرفة أن السيئة سيئة.وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحالة الروحانية بقوله الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (الأعراف: ۲۰۲.يتضح من هذه الآية أن الشيطان يحاول جذب هذه الفئة من الناس إليه، ولكنهم ينتبهون فوراً، ويدعون ربهم لنجدتهم، فينجون من الهجمة الشيطانية.ثم يترقى الإنسان أكثر فيصعد الدرجة الخامسة حيث يصبح ملاگا يزداد معرفة بالله تعالى بحيث يصبح العمل بجميع أحكام الله بمثابة غذاء لــــه، فيصير كالملائكة الذين يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، وينفذ أوامر الله تعالى كافة، ولا يركن إلى الغفلة أبدًا.وقد وصف الله تعالى هذه الفئة من الناس بقوله وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابِ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: ٢٥,٢٤).فبما أن هؤلاء القوم يتحلّون بالصفات الملائكية فيهرع الملائكة لرؤيتهم ليبشر وهم بقرب الله تعالى ونعمه.وليكن معلوماً هنا أن هذا لا يعني أن الملائكة سيدخلون عليهم من أبواب متفرقة بدلا من باب واحد بسبب كثرتهم، بل المراد أن الملاك الخاص بكل باب سيأتي كل واحد من هؤلاء القوم ويقول له هنيئًا لك نجاحك في مسعاك حيث كنا
الجزء السادس ۱۷۸ سورة المؤمنون أنا وأنت نحارب الشيطان سويًّا.ذلك لأن السيئة تدخل في قلب الإنسان من منافذ عديدة.فتارة تدخل عبر العين، وأخرى من الأذن، وحينا باللمس وآخر بالتذوق.وإن الله تعالى قد جعل على كل منفذ من منافذ الإنسان ملكًا يحفظه، ومن أجل ذلك حين ينال المرء الغلبة على الشيطان يأتيه الملاك المختص بكل باب يهنئه.ثم يرتقي الإنسان إلى الدرجة السادسة في الروحانية، فيبلغ من الورع والتقوى مقاما حيث يضع نفسه في يدي الله ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ اللَّهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: ۱۱۳)..أي أن الذين يُسلمون أنفسهم إلى الله تعالى كليةً ويعملون الحسنات لهم أجرهم عند ربهم، وسيكونون في مأمن من كل خوف وحزن.علمًا أن المرء عندما يكون في الدرجة السابقة الملائكية يظن نفسه قادرًا على فعل كل خير، ولو أمر بشيء لنفذه حالاً.ولكنه حين يبلغ هذا المقام يصبح في حالة أخرى، فيقول أنا لست بشيء يا رب، بل خُذني أنت حيثما شئت.ففي هذا المقام تصير أعماله كلها لوجه الله تعالى، إذ يضع نفسه في يد الله تعالى كشيء لا حياة فيه.وهؤلاء هم القوم الذين قال النبي عنهم إن من الناس من يرتقي ويرتقي حتى يكون الله سمعه وبصره ويده ورجله (البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع)..أي تصير حركاته وسكناته كلها تابعة لمشيئة الله تعالى، ويصبح محفوظا من كل اختبار وعثار.أما الدرجة السابعة التي يبلغها المرء في ارتقائه الروحاني فهي مذكورة في قول الله تعالى ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ..أي أنه يُعطى خلقًا آخر، فيصطبغ بالصبغة السماوية.في المرحلة السابقة كان لا يتكلم إذا كلمه الله تعالى، أما الآن فيشرفه الله تعالى بدرجة خاصة بحيث لو قال شيئًا أصدر الله الأوامر بحسب ما قال وأراد.فكأنه في الدرجة السالفة صار الله تعالى يده ورجله أما الآن فقد ارتقى مقامًا أعلى أصبحت يده ورجله ولسانه يدَ الله ورجله ولسانه ، وصار مصداقا لقوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى وَحْيٌ يُوحَى (النجم: ٤و٥).
۱۷۹ الجزء السادس سورة المؤمنون وهذه آخر نقطة من الكمال الإنساني، فإذا بلغها المرء انعكست في مرآة قلبه صفات الله تعالى، وأصبح مظهرًا لجلاله وجماله الا الله فمن عاداه عُدَّ عدوا الله تعالى، وتعالى.ومن أحبه صار موردا للبركات والجوائز من عند الله تعالى.وإلى هذا المقام نفسه أشار مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي في بيت شعر لــه بالفارسية: اے آں کہ سوۓ من بــدويــدي بـصـد تــبر از باغبان بترس که من شاخ مثمرم (إزالة أوهام، الخزائن الروحانية مجلد ٣ ص (۱۸۱ أي يا من تعدو إلي بنية تدميري شاهرا السيف والفأس، حَفْ صاحب البستان، فإني غصن مثمر لا يمكن قطعه.وإن مكائدك كلها ستنقلب عليك، ولن تدمر إلا خطتك أنت، لأن الله تعالى نفسه مستتر في كياني من أخمص قدمي إلى قمة رأسي.فمن صال علي صال على الله في الحقيقة.ومن ذا الذي ينجح في الهجوم على الله عل؟ فهذه هي المقامات السبعة التي جعلها الله له الا الله لإحراز الرقي الروحاني، فإذا ارتقى إليها الإنسان درجة فدرجة حظي بقربه تعالى وفاز بحبه الذي لا زوال لـــه.صلے وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَدِرُونَ (3) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّتٍ مِّن خَيلٍ رم وَأَعْنَبٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (3) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طور سيناء تنبت بالدهن وصية للاكلين الله شرح الكلمات : الدهن: دهن السمسم وغيره: زيته (الأقرب).۲۱
الجزء السادس ۱۸۰ سورة المؤمنون صبغ: الصبعُ: ما يُصطبغ أي يُؤتدَم به من الإدام (الأقرب).التفسير أي لقد أنزلنا من السماء ماء الحياة الروحانية بمقدار معين، ثم جعلناه يسكن في الأرض، وإذا لم يقدر الناس هذا الماء السماوي حق قدره فإننا قادرون على أن نغيبه من الدنيا.والحق أنه نفس النبأ الذي قد أشار إليه القرآن الكريم في مواضع عديدة، مبينًا أن الله تعالى قد أنزل من السماء وحيه الذي هو الشرع الأخير للإنسانية، وسوف يثبته في الأرض ولن تقدر معارضة الناس منع ذلك.ولكن بعد مدة من الزمان وعند فساد الناس سيأخذ هذا الكلام في الصعود إلى السماء وسيرتفع من الدنيا في ألف سنة مما تعدون (انظر سورة السجدة: (٦).وقد أوضح النبي أن فترة قيام الشريعة الإسلامية هي ثلاثة قرون حيث قال في حديث لـــه: "خيركُم قَرْني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيه السمن" (البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذِّر من زهرة الدنيا)..أي أن أفضل الناس هم الذين في قرني.ثم الذين يكونون في القرن الثاني.ثم الذين يأتون في القرن الثالث.أما بعدهم فيأتي قوم إذا أدلوا بشهادتهم قال لهم القوم إنكم كاذبون ولا نثق بشهادتكم.ويكونون جد خائنين، فلن يترك أحد عندهم أمانته ثم إنهم إذا نذروا نذرا لله تعالى لم يفوه.سيصابون بالسمنة من كثرة الأكل والشرب..أي أنه لن توجد فيهم عاطفة حب الدين والتضحية في سبيله.وكذلك قال رسول الله ﷺ: "لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه" (مشكاة المصابيح: كتاب العلم)..أي لن يبقى عند الناس لب الإسلام وجوهره، ولن يطلعوا على معارف القرآن ستخلو عباداتهم من الصدق والإخلاص، وستتقاصر أفهامهم عن إدراك علوم القرآن.وطبقا لهذه الأنباء الواردة في القرآن الكريم وكلام الرسول أخذ الإسلام في الزوال والانحطاط بعد القرون الثلاثة الأولى، وساءت حالة المسلمين لدرجة أنهم لم
الجزء السادس ۱۸۱ سورة المؤمنون تبق عندهم قوة ولا غلبة.لقد جاء على المسلمين زمان كانت أوروبا كلها تخاف من سلطان مسلم واحد، أما اليوم فلا يقدر العالم الإسلامي كله مقاومة أوروبا وأمريكا.ثم إن حالة المسلمين العملية أيضًا تكشف لنا مدى ابتعادهم عن الإسلام حيث يعتنقون عقائد تخالف تعليم الإسلام صراحة.وقد خلت قلوبهم من أي عاطفة لإشاعة الإسلام.ليس فيهم حب الله تعالى، ولا يوجد في حياتهم العملية أي نموذج لحب الرسول ﷺ يقولون بأفواههم إنهم مسلمون وقلوبهم تشهد أنهم خلو من روح الأسلاف.علماؤهم جاهزون دائمًا لإشعال فتيل الفتن والفساد، ولكنهم لا يلتفتون إلى الهدف الذي جاء من أجله الإسلام.أما الصلاة والصوم والحج والزكاة فإن الأكثرية منهم لا يهتمون بأدائها، ومن قام بها فإنما يقوم بها على سبيل التقليد فحسب.لا يدرون هدف الصلاة، ولا يدركون غاية الصيام، ولا يعلمون حكمة الزكاة والحج.وإن الله ل الذي هو أكبر ثروة، والذي يستحيل بدونه أن تنمو شجرة الروحانية، قد صاروا غافلين عن محبته تماماً.يظنون أن باب كلام الله وإلهامه قد انغلق الآن؛ لقد بعث الله تعالى المأمورين من عنده لإصلاح العباد في الماضي، ولكنه تعالى قد سد ينبوع هذه الفيوض الآن.لقد حجب الله وجهه عن أفراد أمة المصطفى للأبد، وقطع عنهم الوحي والإلهام إلى يوم القيامة.فمهما صرخ الواحد الآن وبكى فلن يهيئ الله له ما يشفي غليله ويسكن روحه، بل تركه تائها في وادي الظلمات.هذه هي الأوضاع التي يمر بها المسلمون في هذا العصر.لقد أصبح المسلم فريسة للقنوط والنكسة، وفقد الحماس للعمل.لا يوجد في أي زاوية من زوايا قلبه طموح ولا حماس ليكون غالبًا على الكفر.ولو استمر الوضع على هذا النحو لتعرض الإسلام للإبادة والفناء، ولاستحال كسر رأس إبليس أبدًا.ولكن الله الذي أخبر بانحطاط الإسلام لألف سنة، قد أنبأ أيضًا في القرآن الكريم ببعث محمد رسول الله في الزمن الأخير بعثة أخرى ظلّيّة (الجمعة: (٤) وقد ذكر من علامات ذلك الزمن أنه لن يوجد بين المسلمين علماء أتقياء يستطيعون هداية الناس وإرشادهم،
الجزء السادس ۱۸۲ سورة المؤمنون بل يأخذ مكانهم علماء زائفون يجهلون الدين جهلا (البخاري: كتاب العلم، كيف يُقبض العلم).وسيُخترع في ذلك العصر مركب جديد يحل محل الإبل.وستشاع الكتب والجرائد بكثرة.وستتم اكتشافات جديدة عظيمة في علم الهيئة والفلك.وتشق القنوات من الأنهار شقا (التكوير: ۵ و ۷ و ۱۱ و ۱۲).وستنسف الجبال نسفا.وسيكثر السفر.وسيتم الحظر على تقاليد قبيحة قديمة كوأد البنات وغيرها بسن القوانين.ستخترع من وسائل المواصلات ما لم تره الدنيا من قبل (المرسلات: ١١، والتكوير (٨-١٠).سيُشَقِّ الحاجز البري الموجود بين بحرين، يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر ،المرجان فيلتقيان وتجري السفن بينهما بكثرة.وكان هذا إشارة إلى قناة السويس وقناة باناما.قد ذكر الله تعالى نبأ البحرين هذه في سورة الرحمن بقوله مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان (الرحمن: ٢٠-٢٤)..أي أن الله تعالى قد أجرى هذين البحرين بحيث إنهما سيلتقيان في وقت من الأوقات، بيد أنه لا يزال بينهما حاجز برّي حاليًا فلا يلتقيان الآن.وقد تحققت هذه النبوءة من خلال حفر هاتين القناتين حيث التقى البحر الأحمر بالبحر الأبيض ص.(٤٣٧ المتوسط عبر قناة السويس، والمحيط الهادئ بالمحيط الأطلنطي عبر قناة "باناما".ثم إن رسول الله نفسه قد بشر أمته أنه برغم صعود الماء الروحاني إلى السماء سيبعث الله تعالى رجلا فارسي الأصل، فيعود بكنز الإيمان من السماء إلى الأرض ثانية (البخاري: كتاب التفسير سورة الجمعة، ومسند أحمد: الجزء الثاني فيكسر القوى الصليبية كسرًا، ومن خلال دلائله وبراهينه وأسلحته السماوية ومعجزاته وآياته وأدعيته، يُصيب أعداء الإسلام الصائلين عليه والغافلين عن مصيرهم بجراح لن يقووا بعدها على رفع رؤوسهم.إنه سيجعل الإسلام غالبا في الدنيا تارة أخرى، ويرفع راية القرآن ومحمد رسول الله ﷺ خفاقة عالية.وسيُلحق في حربه دفاعًا عن الإسلام بالأديان الباطلة هزيمة نكراء لا مثيل لها.(أبو داود: كتاب الملاحم، باب خروج الدجال)
الجزء السادس ۱۸۳ سورة المؤمنون ثم إن النبي لم يخبر عن مجيء رجل موعود لإحياء الإسلام فحسب، بل بين العلامات التي تسهل بها معرفته على المسلمين.فقال إن هذا الموعود سيكون مصابًا بمرضين: أحدهما يكون في أعلى جسده والآخر في أسفله (أبو داود: كتاب الملاحم، ٤٠٦).وأما لونه وشعره فهو "آدَمُ أحمد: الجزء الثاني ص باب خروج الدجال، ومسند كأحسن ما ترى من الرجال، سَبْطُ الشعر.إنه من عائلة الحراثين.في كلامه لكنة.سيضرب يده على فخذه أثناء الكلام سيظهر من قرية اسمها كدعة..أي قاديان (البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل واذكر في الكتاب مريم، أبو داود: كتاب المهدي، أحوال الآخرة للحافظ محمد (بالأردية) ص ۲۳ ، وينابيع المودة: الجزء الثالث ص ٩١).سيكون هو المسيح والمهدي في وقت واحد (ابن ماجة: أبواب الفتن، باب شدة الزمان).وسيظهر في أيام غلبة المسيحية على الطوائف الأخرى (الترمذي: أبواب الفتن، باب في فتنة الدجال)، وحين تصبح الحدود التي فرضها الإسلام.متروكة.ويكثر عندئذ الميسر والقمار.ويرى الأغنياء إخراج زكاة أموالهم ثقلاً لا داعي له.ستصاب الدول الإسلامية بالضعف والانحطاط مشكاة المصابيح كتاب العلم والترمذي: أبواب الفتن، باب ما جاء في أشراط الساعة، وابن ماجة: أبواب الفتن، باب بدأ الإسلام غريبًا).ستكثر في ذلك العصر النساء، وسيفوَّض إليهن من بين الأعمال التجارية بيع السلع.سيلبسن ثيابا تكشف من أجسادهن ما كان الأولون يعتبرونه عورة.(الترمذي: أبواب الفتن، باب ما جاء في أشراط الساعة ومسند أحمد: الجزء الأول ص ٤٠٧-٤٠٨، والجزء الثاني ص.وليس هذا فحسب، بل لقد أخبر النبي الله أن هذا الموعود سيظهر من الشرق.فتكثر في زمنه أمراض شتى (أبو داود كتاب الملاحم، باب خروج الدجال، وابن ماجة: أبواب الفتن، باب دابة الأرض).وتُظلم الشمس والقمر..أي ستنكسف الشمس في شهر رمضان في ثاني يوم من أيام كسوفها، وينخسف القمر في أول ليلة من ليالى خسوفه في الشهر نفسه.وقد ركز النبي على هذه العلامة لدرجة أنه قال إن هذه العلامة لم تظهر قط كآية على صدق أي شخص ادعى المهدوية من قبل.و (۲۲۳ (الدار قطني: كتاب العيدين، باب صفة صلاة الكسوف والخسوف وهيئتهما).
الجزء السادس ١٨٤ سورة المؤمنون ولو ألقينا على هذه الأنباء كلها نظرة شاملة لوجدناها لا تنطبق إلا على هذا العصر.ولا نجد أحدًا مصداقا لهذه الأنباء إلا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الذي أعلن أنه المسيح الموعود والمهدي المعهود، والذي تحققت هذه النبوءات كلها في زمنه.إذا فهذا هو العصر الذي جاء خبره في القرآن الكريم والحديث الشريف وفي كلام الأنبياء السابقين وإن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية هو الموعود الذي لم يبرح الناس ينتظرونه منذ القرون.يقول حضرته اللي ما تعريبه: "إن المهمة التي قد أقامني الله تعالى للقيام بها هي أن أقوم بإزالة ذلك الخلل الحاصل بين الله وخلقه، وأوطّد بينهما صلة المحبة والإخلاص ثانية؛ وأن ألغي الحروب الدينية بإظهار الحق مُرسيًا دعائم الصلح ؛ وأن أكشف الحقائق الدينية التي قد اختفت عن أعين الناس؛ وأن أقدم نموذجًا للروحانية التي صارت مدفونة تحت ظلمات النفوس وأن أكشف بالعمل لا باللسان فحسب، تلك القوى الربانية التي تسري إلى داخل الإنسان وتتجلى فيه نتيجة إقباله على الله تعالى أو نتيجة الدعاء؛ وفوق كل هذا، أن أغرس في القوم من جديد غراسًا خالدًا للتوحيد الخالص النقي اللامع الخالي من أي شائبة من شوائب الشرك.بيد أن هذا كله لن يتم بقوتي أنا، بل بقدرة ذلك الإله الذي هو رب السماوات والأرض".(لیکچر (محاضرة) لاهور، الخزائن الروحانية مجلد ۲۰ ص ١٨٠) إذا فقول الله تعالى وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب به لَقَادِرُونَ لا ينبئ عن انحطاط الإسلام فحسب، بل يخبر أيضًا أنه في ذلك الزمن المظلم الذي يتيه فيه الباحثون عن الروحانية في الظلمات كالعميان، يبعث الله تعالى مأمورًا من عنده في بلاد الشرق، فيبدد بأشعته النورانية ظلمات الوساوس والشكوك، ويروي الأرض المجدبة، ويُخرج خضرة الروحانية والتقوى؛ ليتحول العالم الذي أصبح كغابة قد جفت أشجارها إلى حقل مخضر نَضر، ولتعود إلى الناس الحياة والحبور، فينالوا الراحة الحقيقية التي لا تتيسر أبدًا بدون حب الله ولقائه.فجاء ذلك الزمن الذي وضع فيه الأساس لإحياء الإسلام ثانية وفاض نهر رحمته من شواطئه ليروي أراضى
الجزء السادس ١٨٥ سورة المؤمنون القلوب الجدباء.فلن يفلح الآن إلا الذين ينتفعون من هذا الماء السماوي ولا يعرضون عنه إباء واستكبارا.ثم بين الله تعالى أن نزول الماء المادي ثانية يتسبب في خروج أنواع الثمار المادية من نخيل وأعناب وما إلى ذلك.فمنها ما تأكلون ومنها ما تنتفعون به بطريق آخر.وعلى سبيل المثال، تستخرجون من ثمر الشجرة التي تنبت من طور سيناء أي الزيتون زيتا، كما تستعملونه كإدام مع الأطعمة الأخرى، وبالمثل تماما فإن نزول الماء الروحاني من جديد يُنبت صنوف الثمار الروحانية الطيبة.وقد أشار الله تعالى بذلك إلى نفس الموضوع الذي هو قيد البحث أي إحياء الإسلام ثانية، فقال لا تظنوا شجرة الإسلام بستانا لا ثمر فيه كلا، بل إنه بستان يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.وكلما تطرق إليه الفساد بعث الله المصطفى يكون ثمرة من ثمار روحانيته.فمثلا في هذا العصر الذي كانت الدنيا تنكر فيه المعجزات والآيات قال مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العليا متحديًا معارضي الإسلام في بيت شعر له بالفارسية: کرامت گرچه بی نام و نشان است بیا بنگر ز غــلـمـــان محمـــــد لإزالته خادمًا من غلمان (استفتاء (بالأردية) الخزائن الروحانية مجلد ١٢ ص ١٢٣) أي إذا كنتم لا تجدون في هذا الزمن نموذجًا للمعجزات والآيات في الدنيا، فتعالوا و شاهدوا هذه الكرامات من غلمان محمد.وقد ذكر النبي نفسه هذه النعمة الربانية العظيمة فقال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدّد لها دينها" (أبو داود: كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المئة)..أي أن الله تعالى سيقيم لأمتي على رأس كل قرن معلمين من عنده لإزالة شتى السيئات التي ستتسرب إلى الإسلام بمرور الأيام، فيتجلى للناس وجه الإسلام الأغر المنزه عن كل نقص وعيب مرة ثانية.هذا، وقد ذكر الله تعالى هنا الزيتون لأنه ينفع كإدام، كما أن زيته يحفظ المخللات من الفساد مدة طويلة.وهكذا فقد أومأ الله تعالى بذلك إلى أنه تعالى لن يُطعمنا بواسطة الإسلام صنوف الثمار فحسب، بل سيقيم فينا تعليما سيظل
الجزء السادس 117 سورة المؤمنون عليهما محفوظا من التعفن والفساد.فترى أن التعليم الذي أتى به موسى وعيسى السلام - قد أصبح عقيمًا عديم الجدوى، ولكن التعليم الذي أتى به محمد رسول الله قائم حتى اليوم، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.وليس إنسان أن يغير حتى حركة واحدة من حركات القرآن الكريم.بوسع صلے وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَمِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَدْعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْمُلْكِ تُحْمَلُونَ ) التفسير: أي أنكم ترون كيف نخرج من الأرض الميتة خضرة تأكلها الأنعام، ثم نمرر تلك الخضرة عبر بطونها فتتحول إلى غذاء نافع لكم.وبالمثل فمما لا شك فيه أن العقل الإنساني يأتي بأنواع الخطط والأفكار، أما أن تصير هذه الأفكار سامية ومفيدة وخالية من كل نقص وعيب فهو أمر يختص بالله تعالى وحده.إن الله الذي يمرر الخضرة في ماكينة الأنعام ويحوّلها لبنًا خالصا ، إذا ما تجلى على إنسان كامل العقل وأعانه بالوحي العالي المستوى، جاء بتعليم سام يربي الإنسان الروحاني كما يربي اللبن، حيث يُنزع من ذلك التعليم كل ما هو بمنزلة الفرث ويُطرَح.بعيدا.عنه الواقع أن الله تعالى قد جعل العالم الروحاني مشابها للعالم المادي.فإننا نرى في العالم المادي أن الأرض بحاجة إلى مطر من السماء لتخرج ما فيها من قوى النماء، وكذلك فإن العقل البشري أيضًا بحاجة إلى مطر الوحي والإلهام.وكما أننا نرى في العالم المادي مرة بعد أخرى بأنه إذا انقطع المطر من السماء فترة طويلة جفّت الآبار، وذبلت الأشجار، وتحولت الخضرة حطاما، ولم تحمل البساتين ثماراً، كذلك إذا انقطع نزول مطر الوحي والإلهام من السماء الروحانية مدة طويلة توقف العقل الإنساني عن التطور، و لم يستطع وحده هداية الناس إنما ضل الفلاسفة لأنهم اعتبروا العقل وحده هاديًا لهم.لقد ظنوا أنهم قادرون على سن القوانين لصالحهم
الجزء السادس ۱۸۷ سورة المؤمنون بأنفسهم، ولا حاجة بهم إلى أي دين أو وحي.والواقع أن الطبيعة نفسها تبطل نظريتهم هذه فبرغم أن الأرض مزودة بقوى عظيمة فإنها بحاجة إلى المطر.فإذا نزل المطر أخذت ينابيع الأرض تتفجر، ونباتها يخرج، وأشجارها تمتز، وأزهارها تُفرح الوجدان والقلب، وتفوح بشذاها الطيب.فتسرّ العيون خضرتها، ويبدو للرائي كأن الحياة أخذت تدبّ في كل شيء ثانية حتى إن الطيور في جو السماء أيضا تغرد من فرط السرور ، ويتنفس الناس في سكينة ،وحبور، وتتهلل وجوه القوم الذين كانت قلوبهم ترتجف خوفًا من الجفاف والمجاعة، إذ يدركون أن الله تعالى قد أنقذهم من الهلاك بإنزال المطر.فكما أن الأرض بحاجة إلى مطر السماء في العالم المادي، فإن العقل الإنساني أيضًا بحاجة إلى الوحي والإلهام في العالم الروحاني.وبتعبير آخر، فكما أن عين الإنسان لا تعمل بدون ضوء الشمس، كذلك لا ينفع عقل الإنسان بدون وحي الله وإلهامه.فلولا عون الله للإنسان من السماء لما قدر على شفاء غليله الذي أودعه الله ،فطرته، والذي يجعله يبحث دوما عن ضالته في كل جهة ومكان.انظروا إلى أوروبا، فكم أحرز أهلها التقدم في العلوم المادية.لقد بلغوا أوج الكمال في العلم حتى اعتبروا الدين عبثًا بالنسبة للحياة الإنسانية.وعلى النقيض ترون عندهم مشهدًا غريبًا أيضًا، إذ لو قال لهم أحد إن بإمكانه معرفة الغيب بقراءة الكف لأسرع إليه كبار محاميهم ومثقفيهم وأطبائهم ومهندسيهم، وجلسوا أمامه يتوسلون إليه أن يخبرهم بمستقبلهم بقراءة أكفهم؛ ثم يصدقونه فيما يقول معتبرين قوله قدرًا مقدوراً.إن حالتهم هذه تدل بكل وضوح وجلاء على أن الله تعالى قد جعل في فطرة الإنسان نوعًا من الظمأ والعطش، حيث يريد معرفة حقيقة الكون والاطلاع على أسراره.لا شك أنهم قد حكموا البحار لقرون طويلة، وقاموا بفحص كل جرعة من مياهها وسبروا أغوارها.لقد غطسوا حتى قعر البحار ليستخرجوا لآلئها ورموا سهامهم إلى السماء ليعرفوا أسرار أجوائها العليا.لقد فتشت أساطيلهم كل شبر من الأرض بحثًا عن الجزر، واستولوا على البلاد والأقطار.ولكن كونهم لا يزالون يمدون أكفهم أمام الناس لمعرفة علم الغيب يشكل دليلاً أكيدًا على أن العلوم المادية قاصرة عن جلب السكينة والاطمئنان لهم،
الجزء السادس ۱۸۸ سورة المؤمنون وأنهم رغم بعدهم عن الدين يشعرون في باطنهم رغبة عارمة لمعرفة ما وراء الطبيعة.إن هذا العطش أو الرغبة هو الذي يدفع بالإنسان إلى طريق تارةً وإلى طريق آخر تارة أخرى فمنهم من يسعى لمعرفة أخبار المستقبل بالنظر في النجوم، ومنهم من يرى أن قراءة الكف هي السبيل لمعرفة الغيب ومنهم من يتفاءل بحبات الشبحة، فإذا خرجت الحبات بعدد فرد أيقن بالنجاح، وإذا خرجت بعدد شفع أطرق رأسه موقنا بالفشل وكان العرب يتفاءلون بالسهام حينًا وبأشكال الطيور وأصواتها حينا آخر.فلو جلست البومة على جدار بيتهم أيقنوا بهلاكهم ودمارهم وإذا جلس على بيتهم غراب قالوا لا بد لنا الآن من سفر.مجمل القول إن كل إنسان مجبول على رغبة معرفة أسرار الكون وغوامض العالم العلوي.وإنها رغبة عارمة لدرجة أنك تجد في بلادنا كثيرًا من الناس الذين يقومون بممارسات شاقة ليتمكنوا من السيطرة على الجن.ولو بلغهم أن فلانا يسيطر على الجن وصلوا إليه متكبدين سفرًا طويلاً شاقا، وتوسلوا إليه في تذلل وهوان أن يعلّمهم كيف يسيطرون على الجن حتى يخرجوا بمساعدتهم من كافة مشاكلهم التي تحيط بهم.فمنهم من يبحث عن "الاسم الأعظم"، و منهم من يبحث عن "عمل الحب" و "عمل التسخير" هائما على وجهه في كل مكان.إذا، فلو كانت العلوم المادية كافية لشفاء غليل الإنسان فلماذا نرى الرجل الأوروبي "العاقل" يجري وراء هذه الأمور، ولماذا نجد الرجل الآسيوي "الجاهل" أيضًا يتمنى تحصيل هذه العلوم إن هذه الظاهرة تؤكد وجود شعور فطري في كل إنسان بقوة عُلوية.لا شك أن ثقل الماديات يكبت هذا الشعور الفطري في الإنسان أحيانًا، ولكن محاولته هذه تدل بجلاء على أن عقله غير الواعي يقوم بعمله عند غفلة عقله الواعي، فيبحث عن أنواع الطرق ليجد ضالته.حتى إنك ستجد الملحد ينكر وجود الله تعالى عادة، ولكن كلما فاجأته مصيبة قال من تلقائه "يا الله"، فإنه لا يدعُو لنصرته أحدًا إلا الله تعالى.وهذا يدل بكل تأكيد على أن فطرته تسلم بوجود البارئ ،تعالى، ولكن ثقل الماديات كان قد مسخ فطرته وغطاها بشتى الحجب، وما إن زالت تلك الحجب إلا ولمع فيه نور الفطرة وأخذ ينادي ربه الله.
الجزء السادس = إذا فإن الله ۱۸۹ سورة المؤمنون تعالى قد جعل في كل إنسان عطشا للقائه تعالى، وإن ظاهرة بحث الإنسان عن ضالته تكشف أنه لولا أن الله تعالى أنزل وحيه لهدايته لظل تائها في هذه المتاهات على الدوام، وما وجد الله أبدًا.لقد من الله عليه إذا دله بواسطة الأنبياء على طريق الهداية التي إذا سلكها وصل إليه تعالى بكل سهولة، ونجا من المصائب بكل أنواعها.وهذا الموضوع نفسه قد بينه الله تعالى في هذه الآيات بلغة المجاز والتمثيل، لافتًا أنظار الناس إلى اللبن، فقال كم هو لذيذ هذا اللبن وكم هو مفيد من أجل نماء قواكم.ولستم الذين تصنعون هذا اللبن بل الله تعالى هو الذي يُدخل الكلأ والعشب في ماكينة الحيوان، فيحوّله لبنا.كذلك فإنه مما لا شك فيه أنكم تتمتعون بالعقل، ولكنه كالكلاً، وما لم ينزل ماء الوحي على عقلكم فإنه سيظل شيئا حقيرًا كالكلأ، ولكن حين ينزل الله عليه ماء وحيه ينتج عنه تعليم ثمين كاللبن، ينمي قوى الناس العقلية ويوصلها إلى الدرجات العلى حتى إنهم يصيرون بأنفسهم مهبطا للوحي والإلهام، فيجدون به شفاء لغليلهم ويشعرون بلمعان جديد في أرواحهم.وَلَقَد أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَنقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم صلے مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ : فَقَالَ الْمَلُوا الَّذِينَ كَرُواْ مِن ٢٤ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُريدُ أَن يَتَضَلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَتَبِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابَآبِنَا الْأَوَّلِينَ (٢) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ (1) شرح الكلمات: ٢٦
الجزء السادس ۱۹۰ سورة المؤمنون جنة: الجنّة : طائفة من الجنّ؛ اسم من الجنون (الأقرب).التفسير: إن أعداء الأنبياء والخلفاء يعارضونهم باسم الحرية دائما، ويقولون كيف نرضى بأن يحكمنا بشر مثلنا؟ إنما يريد أن يتفضل علينا.وكأنهم يقولون: إنه لمما يتنافى مع الإنسانية والحرية أن يكون هناك خليفة يرشد الجماعة كلها ويطيعه الناس كلهم.فترى أن الله تعالى لما أمر الناس بطاعة آدم والانقياد له كلية قام 280.إبليس في وجه آدم باسم الحرية وقال الله تعالى أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ من طين (ص:۷۷)..أي كيف أطيع آدم وأنا أفضل منه.فعندي نار الحرية، وأما آدم فعنده عقلية العبيد.فليدخل في طاعته من يريد قتل نزعة الحرية فيه، أما أنا فلا أستطيع ذلك أبدًا.وهذه هي النعرة التي يرفعها دُعاة الفوضوية هذه الأيام.يقولون لا يمكننا أن نكون عبيدا للآخرين.سنقوم بالثورة عليهم لنحافظ على روح الحرية فينا.ولما كان من المستحيل أن يقوم نظام العالم بدون روح التعاون بين الناس وبدون طاعة الحكام، فإن أصحاب النزعة العصيانية هم موضع كراهية عند الدين، كما أن الحكومات الدنيوية أيضًا تلقي القبض عليهم وتعاقبهم بشتى العقوبات.وفي عصر النبي أيضًا قد عادى الإسلام هؤلاء الذين يرفعون هتاف الحرية عداء شديدا، وكان بعضهم من أقارب النبي نفسه مثل أبي لهب الذي كان عما له ، والذي قال الله تعالى فيه تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَب وَتَبَّ (المَسَد:٢).وإنما سمي أبا لهب لكونه سيدًا لذوي الطبائع النارية، إذ لم يكن هو ولا أصحابه مستعدين لطاعة النبي لأن هذا كان يتطلب منه التخلّي عن سيادته والدخول في زمرة خدامه ولكنه ما كان ليرضى بذلك أبدًا.وقد حدث هذا في زمن نوح اللة أيضا.فلما دعا نوح قومه إلى توحيد البارئ تعالى رفضوه.وقد حاولوا إضلال الآخرين بقولهم إنما هو بشر مثلكم، وليس فيه ما يوجب علينا طاعته إنما يقصد برفع هذا الهتاف المعارض للقوم كلهم أن يجمع حوله أناسًا يقوّي بهم حزبه ويتسيد علينا.ولكنا لن نسمح لـه بذلك،
۱۹۱ الجزء السادس سورة المؤمنون ولن نتخلى عن حريتنا مثقال ذرة ولو متنا في هذا السبيل.ثم إن هؤلاء تقدموا خطوة أخرى وقالوا لو أُنزلت علينا ملائكة من السماء حكامًا علينا لرضينا بهم، ولكن من المحال أن نقبل حكومة نبي أو خليفة هو بشر مثلنا، إذ ليس لـه أي فضل علينا.إنه لمن المستغرب أن أنبياء الله تعالى لم يزالوا منذ البداية يدعون الناس إلى توحيد البارئ ،تعالى وما انفك أعداؤهم يقولون يجب أن يأتي لهدايتنا كائن من جنس آخر يفوق البشر؛ ومع ذلك لم يزل الله يبعث البشر لهداية البشر.ذلك لأن الرسول لو كان من جنس آخر لما كان قدوة للبشر، إذ ليس بوسع الإنسان أن يقلد الأسد، كما ليس بوسع الأسد أن يقلد الإنسان.وقد يكون قولهم وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةٌ بمعنى آخر..أي لم لم مع هذا الرسول ملائكة حتى نراهم فنعلم أنه صادق.لقد سمعوا من الأولين أن الملائكة تنزل على الأنبياء، فظنوا أن هؤلاء الأولين كانوا يرون الملائكة النازلة، فشرعوا يقولون عن نبيهم إذا كان هذا قد بعث لأن يهدينا فلم لم تنزل معه الملائكة كما نزلت مع الأنبياء الذين خلوا من قبل.إننا لم نسمع من الأولين مثل هذا النبي الذي يأتي هكذا في صمت وسرية.بيد أن النجاح كان حليفا لتعليم الأنبياء دوما رغم المعارضة والعداء، إذ لا يصلح للقبول إلا ما يأتي من عند الله تعالى.إذًا، فعلى المرء تلبية النداء الرباني أيا ينزل و لگے كان الشخص الحامل لهذا النداء، معتبرًا الحرية الخاطئة المفرطة غُلا من أغلال اللعنة.ثم يخبرنا الله تعالى أنه لما رأى المعارضون أن بعض القوم يدخلون في جماعة نوح...ال رغم هتافاتهم الداعية إلى الحرية أخذوا يقولون إنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ به جنَّةٌ أي أنه ليس برجل الدين بل هو على صلة بالجن فينبغي أن يعزى نجاحه إلى الجن لا إلى التأييد الرباني.ثم قالوا فَتَرَبَّصُوا به حَتَّى حين..أي انتظروا قليلاً لتروا مصيره.عبر إن هذا هو نفس السلاح الذي لم يبرح معارضو الأنبياء يستخدمونه ضدهم العصور كلها، حتى إن النبي نفسه قد سمي مجنونا من قبل المعارضين، كما
۱۹۲ الجزء السادس سورة المؤمنون قال بعضهم إنما تنزل عليه الجن السيرة النبوية لابن هشام الجزء الأول: ذكر ما لقي رسول الله ﷺ من قومه).والقسيسون المسيحيون حين يعلمون أن النبي ﷺ قد بالجنون من قبل معارضيه لا يملكون أنفسهم فرحًا، ويقولون لو لم يكن بمحمد خلل عقلى لما سماه أعداؤه مجنونا؟ (A comprehensive commentary on the Quran Vol.3 p.15) ولكن هؤلاء القسيسين ينسون أن المسيح نفسه، الذي يعتبرونه "ابن الله"، قد رمي بالخبل والجنون.فقد ورد في الإنجيل: II شيطان فحدث أيضًا انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام فقال كثيرون منهم: به وهو يهذي *.لماذا تستمعون له؟" (يوحنا ١٠: ١٩-٢٠).ثم إن هؤلاء يعتبرون بولس رسولاً، ويخبرنا العهد الجديد أنه هو الآخر قد رُمي بالجنون حيث ورد: "وبينما هو يحتج بهذا قال فستوسُ بصوت عال: أنت تهذي يا بولس.الكتب الكثيرة تحوّلك إلى "الهذيان أعمال الرسل ٢٦: (٢٤) فلو جاز القول، بناء على اتهام الناس النبي ﷺ بالجنون، أنه كان بالفعل مصابًا في عقله - معاذ الله - فلم لا يسمي المسيحيون المسيح اللي مجنونا، ولم لا يعتبرون بولس أيضًا من المجانين؟ وإذا كان بالمسيح عيب عقلي فعلاً بحجة أن الناس قد رموه بالجنون، فكيف صار مخلصا للعالم؟ الحق أن الدنيا إنما ترمي الأنبياء بالجنون لأنهم يعرضون عليها تعليمًا مخالفا لتيار يسمع عصورهم كلية يستحيل أن يخترعه العقل الإنساني؛ فحين العلماء هذا التعليم يهبون لمعارضته، وعندما يبلغ خبره الأثرياء يستشيطون غضبا، وحين يصل إلى أسماع العامة يثورون غيظا.فبما أن الأنبياء مؤيَّدون من عند الله تعالى الذي يقف بجانبهم ويساندهم فلا يكترثون لمخالفة المعارضين ولا يضيقون ذرعا من قد ورد في النسخة الأردية مكان الكلمات التي تحتها الخط ما تعريبه: إنه مجنون.(المترجم) قد ورد في النسخة الأردية مكان الكلمات التي تحتها الخط ما تعريبه: أنت مجنون.تحوّلك إلى الجنون.(المترجم)
۱۹۳ عاكفا سورة المؤمنون ما هو الجزء السادس اضطهاد المعادين بل لا يبرحون يؤدون مهمتهم.وهذا ما يصيب الناس بالحيرة والعجب، فلأنهم لا يدرون أن رب السماوات والأرض يؤيد أنبياءه ويساندهم، فيظنون أنهم مجانين..أعني أن الأنبياء لا يبرحون ينشرون توحيد الله تعالى غير مكترثين للمصائب التي تُصب عليهم كالمجنون الذي لا يبرح على عليه ولا يبالي بضحك الناس عليه ولا بمعارضتهم له فلما رأى أهل مكة أنهم قد اتخذوا كل تدبير لمنع محمد رسول الله ﷺ من وعظ التوحيد، وأنه لم يرتدع عن ذلك، ولم يتورع عن أن يعيب آلهتهم، أخذوا يشيعون بين القوم أنه مجنون.فقال الله تعالى ردًّا على طعنهم هذا إن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون (القلم: ۲و۳)..أي أننا نُقسم بالمحبرة والقلم وبكل ما يكتب بهما ونشهد أنك لست بمجنون بفضل ربك..بمعنى أنه لو جمع الناس كل ما كتب بالحبر والقلم حتى الآن وما سيُكتب في المستقبل من علوم ومعارف ثم قارنوا بينها وبين ما أوتيت من علوم لعلموا أن كفة معارفك هي الراجحة.فإذا كان هؤلاء قد عُدّوا من كبار المخترعين أو العلماء أو الفلاسفة أو الفقهاء بسبب ما نشروا من علم، فكيف تُعَدّ مجنونًا وقد نشرت أضعاف ما نشروا من علوم ومعارف؟ إذا، فهذا سلاح قديم لم يزل معارضو الأنبياء يستخدمونه على مر العصور؛ وبتعبير آخر، إنهم يسعون كالغريق الذي يتشبث بالقشة، ليحولوا دون رقي الجماعات الإلهية برمي الأنبياء بالجنون.ولكن لا يفلح إلا رسل الله و في آخر المطاف، ولا يبقى للذين يتهمونهم بالجنون إلا الخيبة والخسران.قَالَ رَبِّ أَنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (3) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ أَصْنَعِ اللكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَأَسْلُكْ فِيهَا
الجزء السادس ١٩٤ سورة المؤمنون دو مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (3) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ ۲۸ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْمُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجِّنَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ : وَقُل رَّبِّ أَنزَلْنِي مُنزَلاً مُبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (3) ) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتِ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٢) شرح الكلمات : التنور: الكانونُ يُخبز فيه؛ كلُّ مَفْجَرِ ماءٍ؛ مَحفَلُ ماء الوادي (الأقرب).ومن معاني التنور وجه الأرض (تاج العروس).التفسير: لما بلغت معارضة نوح ل ذروتها أوحى الله تعالى إليه أن اصنع سفينة تحت رعايتنا وبحسب وحينا، إذ تعني "العين" الحفظ والحماية أيضًا كما ورد في القواميس.يقال "أنت على عيني" أي في الإكرام والحفظ" (الأقرب).ويقول الإمام الراغب: "فلان" بعيني أي أحفظه وأراعيه.وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا أي بحيث نرى ونحفظ ومنه "عين الله عليك" أي كنتَ في حفظ الله ورعايته" (المفردات).إذا، فقوله تعالى لنوح أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنَنَا أن الكافرين سيمنعونك من صنع السفينة، ولكننا سنحميك منهم ونجعلك من الفائزين.أما قوله تعالى وَوَحْيِنَا فهو إشارة إلى أن الأصل هو تقوى القلوب وهو الذي يحفظ من عذاب يعني الله الله تعالى.فعليك بتجهيز تلك السفينة الروحانية أيضا التي تُصنع باتباع وحي وينجو رُكابها من عذاب الله تعالى.وقد يراد بالفُلك هنا السفينة المادية أيضًا، إلا أن السياق يبين أنها قد أُريد بها تعالى، الة التي كان الكافرون يريدون الحيلولة دون تكوينها، إذ الحق أن جماعة نوح جماعة النبي هي التي تتسبب في نجاة الناس إذا انضموا إليها.
الجزء السادس ۱۹۵ سورة المؤمنون أما قوله تعالى فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فقد قال المفسرون أن هذا التنور كان لآدم العل (الرازي).ولكن قولهم هذا ليس إلا دليلاً على شغفهم بالقصص فقط، إذ لا ذكر لآدم في هذه الآيات.فمن معاني التنور في العربية "الكانونُ يُخبز فيه؛ وكلُّ مَفْجَرٍ للماء؛ ومَحفَلُ ماء الوادي؛ ووجه الأرض".غير أن أبا حيان يقول: قد يكون التنور هنا مجازا كقول الرسول عندما اشتدت الحرب: "حَمِي الوطيس"، والوطيس هو التنور.و"فار" و"حمي" بمعنى واحد؛ قال الله تعالى في القرآن الكريم سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ) (الملك:٨)..أي أن الكافرين حين يُلقون في جهنم يسمعون لها صراحًا وهي في هيجان وغليان.ويقول أبو حيان أن المراد من قوله تعالى وفارَ التَّنور أن الماء فاض وانتشر في كل مكان.وبناء على هذين المعنيين فالمراد من هذه الآية أنه لما حان عذاب الله تعالى تفجرت المياه من العيون أو فاضت على سطح الأرض وانتشرت في كل مكان.وهذا العذاب لم يقع نتيجة تفجر العيون الأرضية فحسب، بل كانت السحب هي السبب الحقيقي له كما يتضح من القرآن الكريم أي بسبب هطول الأمطار الغزيرة انتشرت المياه في كل مكان، وتفجرت العيون بالمياه أيضًا، كما يحدث عادة عند كثرة الأمطار، حيث تتفجر الينابيع بالمياه كما تفيض الأنهار من شواطئها؛ فدمرهم ماء السماء وماء الأرض معًا.قال الله تعالى في موضع آخر من القرآن فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاء مُنْهَمر ) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضِ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (القمر: ۱۲و۱۳)..أي فتحنا أبواب السحب بماء يجري بقوة، كما فجرنا ينابيع الأرض أيضًا، فاجتمع ماء السماء مع ماء الأرض على أمر كان قدرًا مقدورًا من عندنا..أي أخذ ماء السماء وماء الأرض يُدمران الناس.الكريم ويقول الله تعالى في مكان آخر في القرآن الكريم إنه لما انتهى وقت العذاب وحل الدمار المقدور وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (هود: ٤٥)..أي قلنا عندئذ للأرض ابتلعي ماءَكِ الآن، كما أمَرْنا السماء أن تتوقف عن الإمطار،
الجزء السادس ١٩٦ سورة المؤمنون وغارت المياه في الأرض، وقُضي الأمر وانتهى؛ ورست السفينة على جبل يدعى الجودي، وقيل للملائكة اكتبوا الهلاك للقوم الظالمين.فالثابت من القرآن الكريم أن الماء هطل من السماء بغزارة، كما تفجرت عيون الأرض بالمياه، كما يحصل في المناطق الجبلية، فعند هطول الأمطار بغزارة تزداد مياه عيون الأرض أيضًا نتيجة ذوبان الثلوج على الجبال العالية.والثابت من القرآن الكريم والتاريخ أيضًا أن نوحا الي كان قاطنا في منطقة جبلية، حيث قال لابنه يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء (هود: ٤٣ و ٤٤)..أي ظن ابنه أن بإمكانه أن يصعد قمة الجبل بسرعة ليعتصم العذاب.فهذا يدل بجلاء أن نوحا كان يقيم في واد بين الجبال؛ وليس بمستبعد من في مثل هذه المناطق أن يرتفع سطح الماء كثيرا وبسرعة مفاجئة.قصارى القول إن الله تعالى قال لنوح عندما ينزل المطر بغزارة وتتفجر عيون الأرض وتصبح المنطقة كالبحيرة، فأركب في السفينة زوجين من كل شيء، كما أدخل فيها أهلك أيضًا.والزوج في العربية هو "كل واحد معه آخرُ من جنسه" (الأقرب)، فالمراد من "زوجين" هو الذكر والأنثى من كل نوع، وليس المراد شيئين من أي نوع، ومن أجل ذلك قد أضاف الله تعالى هنا لفظ اثْنين ليبين أن المراد من الزوجين هو اثنان من جنس واحد، لا زوجان من كل شيء..أي أدخل في هذه السفينة المادية أو في هذه الجماعة الإلهية الذكر والأنثى من كل جنس.علما أن قوله تعالى (مَنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لا حيوان موجود على الأرض، إذ يستلزم ذلك القول أن نوحا الله قد حشد في سفينته ملايين الملايين من حشرات الأرض والملايين من وحوشها ودوابها وطيورها؛ هذه الحالة كان عليه أن يصنع سفينة بحجم بلاده؛ وهذا خلاف للعقل.إذا، فلفظ من كُل لا يعني من كل الأشياء، بل من كل شيء ضروري.ومثاله قول الله تعالى في القرآن الكريم عن ملكة سبأ وأُوتيتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل: ٢٤)، أن كلمات من كُلِّ شَيْء هنا لا تعني أنها كانت تملك ملك سليمان ففي يعني أن يأخذ نوح معه كل والواضح وجنوده أيضًا، وكانت تحكم الهند والصين وأمريكا ، أيضا ، بل المراد أنها كانت قد
الجزء السادس ۱۹۷ سورة المؤمنون أُوتيت كل شيء كانت بحاجة إليه.وهذا هو المراد من قوله تعالى ﴿فَاسْلُك فيها منْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..أي خذ معك في السفينة الذكر والأنثى من كل الحيوانات التي أنت بحاجة إليها، وليس المراد أن يأخذ معه في السفينة الفيلة والأسود والنمور وغيرها.إذًا، فلفظ اثْنين هو للتأكيد فحسب، ولا يفيد أي معنى جديد آخر، بل المراد منه الذكر والأنثى اللذان يستمر بهما النسل.قد يقول هنا قائل: نفهم قول الله تعالى (فَاسْلُكَ فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ إذا اعتبرنا الفُلك سفينة مادية، ولكن إذا أُخذت السفينة بمعنى الجماعة فماذا سيعنى قول الله هذا؟ فليكن معلومًا أن قول الله تعالى مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ في هذه الحالة سيعني أناسًا روحانيين من كل نوع والمراد : أَدْخل في جماعتك أناسا من كل الشرائح والطبقات، سواء الفقراء منهم والأثرياء والطبقة المتوسطة، غير حافل بازدراء القوم لهم واحتقارهم إياهم.ولو قيل: لم يكن بيد نوح العلم أن يُدخل القوم في جماعته، بل كان هذا الأمر بيد هؤلاء أنفسهم، فالجواب أنه كان بوسع نوح أن يسعى لذلك.فمن المشاهد أن بعض الناس يهتم لنشر الدعوة بين الأثرياء فقط، ومنهم من يعتني بالفقراء فحسب، ومنهم من يتوجه إلى الطبقة المتوسطة، ومنهم من يميل إلى العلماء، ومنهم من يتجه إلى أصحاب الحرف والمهن فقط، ومنهم من يرغب في المزارعين أو التجار فحسب.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى لنوح الا أنه إذا أراد زيادة جماعته فعليه بنشر دعوته بين الناس من كل الشرائح والطبقات ممن يوجد فيهم روح التعاون..أي يكونون كالأزواج.إذًا، ففي هذه الحالة لا تعني كلمة زَوْجَيْنِ الذكر والأنثى، بل يراد بها قوم يتوادّون ويتحابون ويتعاونون كما فعل رسول الله ﷺ في المدينة حيث آخى بين المهاجرين والأنصار وجعلهم كلهم إخوانا وكأنهم صاروا أزواجا (البخاري: كتاب المناقب، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار).وهذا ما أوصى الله به نوحا الي حيث أمره أن يخلق الأُخوّة في جماعته، ويجعل أتباعه القادمين من كل الشرائح إخوانًا وأخوات.ثم عليه أن يأخذهم جميعًا إلى مكان
الجزء السادس ۱۹۸ سورة المؤمنون واحد للإقامة معًا ليحظى هو وأصحابه بنصرة الله ولينـزل العذاب على أعدائهم، لأنه تعالى لن يُنزل العذاب على القوم ما دام المؤمنون مقيمين بينهم مختلطين بهم؛ وذلك كما قال الله تعالى في القرآن الكريم لرسوله الكريم وَمَا كَانَ الله ليُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأنفال : ٣٤).أما قوله تعالى لنوح وَأَهْلَكَ..أي أركب معك في السفينة أهلك أيضًا..فهو بمنزلة المدح والثناء على أبي بكر له ذلك لأن الله تعالى قد عد نبينا محمدًا رسول الله ﷺ مثيلاً للأنبياء كافة، فكان مثيلاً لنوح أيضا.وقد عمل النبي بهذه الوصية الربانية لنوح حيث اصطحب معه أبا بكر في الهجرة..وهذا يدل على أن أبا بكر كان من أهله السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثاني باب هجرة الرسول.فالذين يزعمون أن أبا بكر (ه) كان - والعياذ بالله - منافقا ومغضوبا عليه، مخطئون وعلى الباطل، إذ لو كان الأمر كذلك لما اصطحبه النبي ﷺ خلال الهجرة خلافا لهذه الآية.ثم يقول الله تعالى لنوح الوَلا تُخاطبني في الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي أنه حين يقرر الله تعالى إهلاك الكافرين، فلا يسمح للنبي حتى بالدعاء لهم.ومثاله في القرآن الكريم ما ورد بصدد هلاك قوم لوط، حيث يخبر الله تعالى أنه حين علم إبراهيم بقرارنا بهلاك القوم، وجاءته البشرى بولادة إسحاق ويعقوب أخذ يُجَادِلُنَا في قَوْم لُوط (هود: ٧٥)..أي بدأ يدعو الله تعالى أن لا عنده يهلكهم بالعذاب.فأوحى الله إليه يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُود (هود: ۷۷)..أي يا إبراهيم لا تشفع لهم الآن، لأنه قد صدر الآن الحكم النهائي من ربك في شأنهم.لقد بلغ هؤلاء الكافرون من التردي والسوء درجة أنه لا بد أن يحيطهم العذاب الذي لا مرد له.وهذا يعنى أنه كان قد جاء وقت نُهي فيه إبراهيم عن أن يدعو لهم أيضًا.هذا، وقد بين الله تعالى بقوله الَّذينَ ظَلَمُوا أنه لا يُهلك الناس بدون سبب، إنما يهلكون من جراء ظلمهم المتكرر.إن الأمم التي هلكت في الدنيا حتى اليوم إنما هلكت لأنها أصبحت ظالمة..بمعنى أنهم إما تغافلوا عن أحكام الدين، أو أنهم أهملوا
الجزء السادس ۱۹۹ سورة المؤمنون الله قوانين الرقي المادي؛ فإعراضهم عن أحكام الدين عرضهم للعذاب الشرعي، وإهمالهم للقوانين الطبيعية جعلهم عرضة لصنوف العذاب الطبيعي.ولكن من عظيم رحمة الله التي لا مثيل لها أنه لم يهلك حتى اليوم قومًا ظالمين ما لم يتم الحجة عليهم ولم يحذرهم من أخطائهم بواسطة رسول بعث فيهم.ومثاله ما فعل الله بقوم نوح العليا حيث نصحهم ليلا ونهارًا، ولكنهم لم يتورعوا عن العصيان، فقضى عليهم في نهاية المطاف.ثم قال الله تعالى لنوح فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ الله الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالمينَ...أي أن إنقاذي إياك من اضطهاد الأعداء لفضل عظيم منا، لذا فعندما تفرغ من صنع السفينة وتركب فيها، أو حينما تكتمل جماعتك وتُدخل فيها كافة الأرواح السعيدة، فعليك أن تقول الْحَمْدُ لله شكرًا لله تعالى إذ وفقك لإنجاز مهمتك على ما يرام.تقول التوراة لما توقف الطوفان بعث نوح اللة الغراب أولاً ليرى هل قلت المياه على وجه الأرض أم لا ولكن وجه الأرض كان مغطى بالمياه، فكان الغراب يرجع إلى السفينة كل يوم فأرسل الحمامة بعد أيام، ولكنها لم تجد على الأرض مكانًا تنزل فيه، ورجعت أيضا إلى السفينة.فلبث نوح سبعة أيام أخرى وعاد فأرسل الحمامة من السفينة فأتت الحمامة إليه في المساء بورقة زيتون خضراء في منقارها.فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض (انظر التكوين ٨: ٧-١١).لقد تبين من هنا أن الله تعالى بشر نوحا الا من خلال ورقة الزيتون بأن أعداءه قد صاروا مغلوبين إلى الأبد.وذلك كما قدّم الله تعالى الزيتون دليلا على صدق محمد رسول الله في سورة التين، حيث حذر أعداءه بأن بإمكانهم أن يطردوا محمدا من وطنه، ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم سيدمرون كأعداء نوح، وأن محمدا رسول الله ﷺ سيتلقى بشارة نجاحه وانتصاراته بواسطة ورقة الزيتون.فقد ورد أن من رأى في المنام ورقة الزيتون فإنه سيتمسك بالعروة الوثقى بقوة 28 (تعطير الأنام: زيتون).فكان في تلقي النبي ﷺ بشارة نجاحه بواسطة ورقة الزيتون دليلٌ على أن الله تعالى سيهب لـه جماعة قوية الإيمان تبلغ الذروة في التضحية والطاعة،
الجزء السادس ۲۰۰ سورة المؤمنون ولن تحيد عن جادة الحق أبدًا من جراء الاضطهاد من أي نوع كان.وهذه هي البشارة التي أوتيها نوح الا من خلال ورقة الزيتون، حيث أُخبر، حتى قبل أن العلمية ينزل من السفينة، بقوة إيمان جماعته ورقيها في المستقبل.فأمره الله تعالى أن يحمده ويشكره على أنه قد تمكن من إنجاز مهمته فضلاً منه ورحمة.ثم أمر الله تعالى نوحًا وَقُلْ رَبِّ أَنزَلْنِي مُنزِلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ لمنزلين.ولو اعتبرنا الفُلك سفينة مادية فالمراد : يا نوح ادْعُ ربك وقلْ يا رَبِّ أَرْس هذه السفينة في مكان مبارك.أما إذا أريد بالفُلك جماعته فالمعنى: يا نوح ادع ربك وقُلْ: يا رَبِّ وَفِّق جماعتي لتحقيق غايتها ولإحراز رقي يكون مباركًا من حيث الدين والدنيا.المكان الذي استقرت فيه سفينة نوح قد سماه القرآن الكريم الْجُودي (هود:٤٥)، بينما ورد في التوراة أن اسمه "أراراط"، حيث جاء: "واستقر الفُلك في فقد سمى الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط" (التكوين ٨: ٤).ونجد هنا اختلافا في الظاهر بين الاسمين، ولكن التدبر يكشف لنا أنه ليس ثمة أي اختلاف الحق أن الجود في العربية هي الرحمة والإحسان (تاج العروس).إذا، الله تعالى ذلك المكان الْجُودي ليشير إلى أنه مكان تجلت فيه رحمة الله ومنته.وهذا ما يعنيه لفظ "أراراط" أيضًا، فهو مركب من كلمتين هما "أرى" و"راط" و"راط" معناه طلب الملاذ (الأقرب)، فالمراد من "أراراط": أرى الملاذ أمامي.وهذا أن التوراة تسمي ذلك المكان ملاذا، بينما يسميه القرآن الكريم مهبط رحمة الله ومنته حيث نال نوح الملاذ وصار في مأمن من شر الأعداء.العليا فثبت أنه ليس ثمة اختلاف حقيقي بين الاسمين.يعني ثم يقول الله تعالى إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَات وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ..أي أننا لم نَرو هذا الحدث كقصة وأسطورة، بل فيه آيات كثيرة، ولا شك أننا نختبر عبادنا بالخير والشر..بمعنى أن محمدًا ( وقومه أيضًا سيمرون بظروف مماثلة.وهذا ما حصل صل الله بالفعل، فكما اضطر نوح العليا لترك وطنه نتيجة اضطهاد الأعداء، كذلك اضطر محمد رسول الله الله للهجرة من مكة نتيجة تعرضه للتعذيب المتكرر.وكما أن
الجزء السادس ۲۰۱ سورة المؤمنون سفينة نوح الاستوت على جبل الجودي حيث وجد ملاذا وصار مهبطا لنعم الله تعالى، كذلك كانت المدينة بمنزلة الجودي الذي استقرت فيه سفينة النبي وأصحابه..وكما أن نوحا نال البشرى برقي جماعته وقوة إيمانها، بواسطة ورقة الزيتون، كذلك قد أعطى الله محمدا لله في المدينة أنصارا استمسكوا بالعروة الوثقى، وضربوا في مجال قوة الإيمان أروع الأمثلة التي تملأ قلب الإنسان نشوة وسروراً.فلما بلغ النبي ﷺ أن قافلة تجارية للكافرين قادمة من قبل الشام تحت قيادة أبي سفيان وهي تحرض القبائل العربية ضد المسلمين، ارتأى وضع الحد لشرورهم.بجماعة من صحابته من المدينة.ولما كانت القافلة التجارية قليلة العدد فلم يُولها المسلمون الأهمية، ظانين أن عددًا قليلاً منهم يستطيعون التصدي للقافلة.ولكن الله تعالى أخبر نبيه الله أنهم لن يشتبكوا مع القافلة التجارية، وإنما ستتم المواجهة مع جيش كبير قد خرج لنجدة القافلة ونهى الله تعالى نبيه عن كشف هذا الخبر لأصحابه، ليختبرهم وليجعل آثار إيمانهم العظيم وتضحياتهم السامية خالدة على صفحة العالم إلى الأبد، ولكي يصبح إخلاصهم قدوة حية تجري دم الحياة في العروق الميتة للأجيال الإسلامية في المستقبل.فلما خرج المدينة عدة منازل جمع أصحابه وأخبرهم أن الله تعالى يريد أن تدور المعركة بينهم وبين جيش للكافرين كبير قادم من مكة، فما رأيهم الآن؟ فأخذ المهاجرون يقومون الواحد منهم تلو الآخر ويقولون: يا رسول الله، ما الداعي لمشورتنا؟ تَقدَّم وحارب العدو، ونحن معك بمهجنا وأرواحنا.وكلما انتهى مهاجر من قوله وجلس أعاد النبي له قوله : يا قوم أشيروا عليّ بما ترون كان الأنصار، قوما فدائيين وأذكياء، ولكنهم ظلوا صامتين ظَنَّا أنهم لو أبدوا رغبتهم في محاربة أهل مكة فربما منهم النبي عن يستاء المهاجرون من قولهم ظانين أن الأنصار يفرحون بقتل أقاربهم، إذ كانت بينهم وبين أهل مكة قرابات وأواصر ، فمنهم من هو أب لبعض المهاجرين، ومنهم من هو ابن لبعضهم، ومن هو أخ لبعضهم، ومن هو خال لبعضهم، ومنهم من هو عم لبعضهم.ولكن الرسول الله لما أعاد قوله قام أنصاري وقال: يا رسول الله، لقد أشار عليك القوم بما يرون، ومع ذلك لا تزال تكرر قولك.فكأنك تريدنا يا
الجزء السادس ۲۰۲ سورة المؤمنون رسول الله، وتود أن تعرف رأينا؟ قال النبي ، نعم.قال الأنصاري، يا رسول الله، لما زرناك في مكة وبايعنا على يدك، رجوناك أن تهاجر إلينا في المدينة.فقبلت التماسنا وحضرت عندنا.وقد عاهدناك عندها أنه إذا ما هاجم العدو المدينة فسنحميك بأموالنا وأنفسنا، أما إذا خرجت لقتال العدو خارج المدينة فلسنا ملزمين بالخروج معك للقتال.وبما أن القتال يتم الآن خارج المدينة فلعلك تشير بقولك هذا إلى تلك المعاهدة وتود أن تعرف رأينا فيما عاهدناك عليه من قبل؟ فقال النبي : نعم، هذا هو قصدي.فقال الأنصاري، يا رسول الله، لم نكن وقت الاتفاقية مطلعين على علو شأنك كما ينبغي.أما الآن فقد انكشفت علينا مكانتك العالية، وعرفنا علوّ شأنك وسموّ مقامك وعظيم جاهك وجلالك.فدَعك المعاهدة.والله، لو أمرتنا لخضنا هذا البحر الذي أمامنا.ووالله، لو وقع القتال، فسنحارب عن يمينك وعن شمالك أمامك ومن ورائك، ولن يخلص إليك ومن من تلك العدو إلا على جثثنا الهامدة السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثاني: غزوة بدر الكبرى).هذا هو الإخلاص الرائع الذي أبداه الأنصار، وهذه هي روح الفدائية التي تحلوا بها.أما وكيف رضوا بأن تُقطع رقابهم في سبيل الإسلام كما تقطع رؤوس المعز والخراف، فهو أمر مكتوب بأحرف من النور في صفحات التاريخ، بل هو محفور على ألواح القلوب بحيث لن تنسى الأجيال القادمة تضحياتهم العظيمة إلى يوم القيامة.قارنوا هذا الحادث بالجواب الذي تلقاه موسى العلي من قبل أصحابه، لتعرفوا ما أتت به القوة القدسية لرسول الله له من ثمار عظيمة.فإن موسى العلي لما قال لقومه يا قوم هيا بنا نشنّ الهجوم على أهل أرض كنعان المقدسة، قالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتلا إِنَّا ههنا قاعدُونَ ﴾ (المائدة : (٢٥).أما الأنصار فلم يقولوا للنبي ﷺ سندافع عنك داخل المدينة وفقًا للمعاهدة، ولن ندافع عنك خارجها.كلا، بل ألقوا بأنفسهم في نيران التضحيات بلا هوادة، وفازوا بقرب الله تعالى سابحين في أنهار الدماء.هذه هي الأوراق الزيتونية التي نالها محمد رسول الله ﷺ لتتم المماثلة بينه وبين نوح ، والتي قد نبأه الله بها في قوله تعالى إن في ذلكَ لآيات، حيث أخبر الله تعالى أننا لا نحكي قصة نوح كأسطورة، بل إنها تتضمن
الجزء السادس ۲۰۳ سورة المؤمنون أنباء عظيمة عن رقي محمد رسول الله ، وإنها لمرآة تعكس لكم مستقبل الإسلام المشرق.
الجزء السادس ۲۰۳ سورة المؤمنون ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا وَاخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ : وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَهُمْ فِي الحَياةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (3) وَلَبِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذَا ٣٤ لَّخَسِرُونَ : أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَمًا أَنَّكُم هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا تُخْرَجُونَ ۳۷ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (5) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلُ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ - قَالَ رَبِّ أَنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (3) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لِّيُصْبِحُنَّ نَندِمِينَ (3) ٤١ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَهُمْ غُثَاءَ فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّلِمِينَ ٤٢ شرح الكلمات :
الجزء السادس ٢٠٤ سورة المؤمنون الصيحة: الصوتُ الشديد: الزجرُ ؛ العذاب؛ الإغارة (الأقرب).غُثاء: الغُتَاء والغُتَاءُ: القَمَش (أي الشيء الرديء)؛ الزبد؛ الهالك؛ البالي من ورق الشجر (الأقرب).الله نوح التفسير: أي أننا لم تُنْه النبوة بنوح، بل قد جاء بعده رسل آخرون، وجاءت بعد قومه أقوام أخرى ما زالت تعترض على رسلها كما اعترض عليه قومه.وعندما أمرهم رسولهم أن لا يعبدوا إلا الله قال رؤساء القوم الذين كانوا ينكرون الحياة بعد الموت وكانوا مصابين بالكبرياء بسبب مالهم وعزتهم المادية، ألا ترون أنه بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون؛ ولو اتبعتم شخصا كهذا لكنتم من الخاسرين.إنه يقول إنكم لتعادون إلى الحياة بعد الممات، وهذا ما لا يقبله العقل إنما نحيا في الدنيا ونموت فيها وليس لنا أي حياة بعد الموت.إنه شخص مفتر، ولن نؤمن لقوله أبدًا.عندها دعا نبي وقال رب انصرني فإنهم قد كذبوني.فأخبره الله تعالى أن هؤلاء سيصبحون عن قريب نادمين على ما فعلوا.فأخذهم العذاب فأصبحوا من الهالكين.واعلم أن قول الله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنَا آخَرِينَ إشارة إلى قوم عاد الذين بعث هود ال هدايتهم.والدليل على ذلك هو أن الله تعالى قد ذكر العليا هذا الشعب بعد هلاك قوم نوح ال، ويسجل الله تعالى في القرآن الكريم قول هود لقومه عاد: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (الأعراف: ۷۰)، كما قال تعالى ﴿وَإِلَى عَادِ أَخَاهُمْ هُودًا ﴾ (الأعراف : ٦٦).ثم كما أخبر الله تعالى هنا أن هذا الرسول دعا قومه إلى التوحيد ونهاهم عن عبادة الأوثان، يخبر في مكان آخر أن هودًا قال لقومه يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهِ غَيْرُهُ (هود: ٥١).ثم كما قال الله عن الشعب المذكور هنا وَأَثْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، كذلك قال هود لعاد وهو يدعوهم إلى الصلاح والتقوى وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةٌ فَاذْكُرُوا آلاء الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف: ۷۰)..أي أنه تعالى قد جعلكم أكثر نفرا وأقوى أجسامًا، فاذكروا نعم الله عليكم لتكونوا من المفلحين.ثم كما قال هؤلاء هنا
الجزء السادس ٢٠٥ سورة المؤمنون معترضين وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)، كذلك جاء عن قوم عاد أن هودًا قال لهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ (الأعراف: ۷۰).إذا، فما دام القرآن الكريم يذكر أن عادًا جُعلوا خلفاء بعد هلاك قوم نوح، ثم يسجل هنا نفس الاعتراضات التي أثيرت من قبلهم فقد ثبت أن المذكورين في قوله تعالى قَرْنًا آخرين هم شعب عاد أنفسهم.أما قوله تعالى مَا هَذَا إلا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يَأْكُلُ ممَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ...فيبين لنا أن أكبر اعتراض يثيره المعارضون ضد الأنبياء دائما هو قولهم: لسنا جاهزين لاتباع بشر مثلنا.يجب أن يأتي لهدايتنا كائن يفوق البشر.ويثار هذا الاعتراض من قبلهم لعدة أسباب فيعترض بعضهم لأنه فريسة للتعصب ،والعناد ولأن الكبر متمكن من زوايا قلبه الخفية، فيقول عن النبي: ما فضله علينا حتى يصبح مهبطا لكلام الله تعالى؟ إن هو إلا بشر مثلنا.وإذا كان لا بد من نزول كلام الله تعالى لرقينا فكان الأولى أن ينزل علينا، لا عليه كيف يحق له، وهو بشر مثلنا، أن يتكبر علينا ويريد منا أن نتبعه؟ إذا، فإن هؤلاء القوم يسلمون بإمكانية نزول وحي الله تعالى ولكنهم يحتقرون الأنبياء ويزدرونهم، ظانين أنهم أفضل من أنبيائهم لما عندهم من مواهب مادية أو أموال وثروة أو علوم ظاهرة، فيرفضون الاستماع لرسالة أنبيائهم، ويقولون ما كان لنا أن نرضى بقولهم.ومنهم من يثير هذا الطعن لأنه يرى أن الله تعالى قد خلق كل إنسان مكتملاً من حيث القوى الذهنية والمواهب العقلية، فلا حاجة به بعدها إلى أي مساعدة من الخارج لهدايته.إن أصحاب هذا التفكير يرون أن بوسع كل إنسان أن يختار بنفسه النجاة ويميز بين الخير والشر، مستخدمًا ما عنده من مواهب وقدرات.إنه في غنى عن أن يخضع رأسه أمام بشر مثله، وأن يصدّق بكل ما يقول.وكأن هؤلاء القوم يرون أن اتباع المرء لبشر مثله يمثل الإساءة إلى المواهب العالية التي قد زُوّد بها كل إنسان من قبل الطبيعة.طريق
الجزء السادس ٢٠٦ سورة المؤمنون وهناك نوع آخر من هؤلاء الطاعنين، فهم يرون أن الكفاءات والقدرات التي تتطلبها النبوة لا تتوافر في أي من البشر.فإنهم جاهزون لاتباع كائن يفوق البشر في قواه وقدراته ولكن من المحال أن يتبعوا بشرًا مثلهم محتاجا إلى الحوائج البشرية، يأكل كما يأكلون ويشرب كما يشربون.إن هؤلاء القوم لا ينكرون نزول الوحي من عند الله تعالى، إلا أنهم ينتظرون كائنا مزودا بقدرات تفوق قدرات البشر، لذا فإنهم يرفضون أنبياءهم.= إذًا، فهذا الاعتراض يثار لعدة وجوه.بيد أن الله تعالى لم يزل يبعث الرسل من البشر دائما وأبدا ذلك لأن كل إنسان يكون بحاجة إلى القدوة والنموذج، ولو كان الأنبياء مزودين بكفاءات وقدرات تفوق قوى البشر لما كانوا أسوة للآخرين؛ إذ سيقول لهم الناس بكل بساطة إنما تعملون بهذه الأحكام الإلهية لأنكم قد أوتيتم قدرات غير عادية، ولو كانت لديكم قدرات كمثل قدراتنا لما عملتم بهذه الأحكام.ودفعا لهذا الاعتراض لم يزل الله يبعث البشر أنفسهم رسلاً، ليكونوا نموذجا للناس حتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة، وحتى يقيم الله عليهم الحجة قائلا لهم ما دام هؤلاء الذين كانوا بشرًا مثلكم قد عملوا بوصاياي واتبعوا هداي، فكيف يحق لكم أن تقولوا الآن أن العمل بتلك الوصايا والأحكام كان أمرًا مستحيلاً علينا.كلا، بل إنه عذر عار عن الصحة، وإنه خليق بكم أن تعاقبوا.إذًا، فلا بد للناس من أن يأتيهم رسول بشر مثلهم دائما، ولكن المؤسف أن الإنسان يبحث دائما عن الأعذار التافهة، ويخالف أحكام الله تعالى بشتى الحيل والحجج.أما قولهم إن هيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ فقد بين الله فيه السبب الثاني لإنكارهم للأنبياء، وهو أنهم يكونون منكرين للبعث بعد الموت، مما يحرمهم من الإحساس السليم بما يأتونه من أعمال سيئة أو خيرة.فلا يزالون سائرين على دربهم مغمضي العين، ظانين أنه ليس لهم في الدنيا إلا أن يأكلوا ويشربوا ويتمتعوا بملذات الحياة التي هي أيام معدودات، لذا فإن هؤلاء يصابون بهزة عنيفة حين يأتيهم رسلهم برسالة الله تعالى ليحدثوا في عقائدهم وأعمالهم
الجزء السادس ۲۰۷ سورة المؤمنون عبنا، فإننا انقلابًا عظيمًا، فيردّون على الأنبياء بقولهم: إنكم تخوفوننا من عذاب الله ننكر البعث بعد الموت أصلاً ، فلا نخاف أي حساب إنما نعمل من أجل هذه الحياة أيام معدودات، وإننا نعلم جيدا ما هو خير لنا وما هو ضار بنا، فلا التي مي تخوفونا من عذاب الآخرة.الحق أن الإيمان بالبعث بعد الموت هو الذي يخلق في المرء خشية الله ومحبته ، وهو أهم وسيلة لإصلاح الإنسان.ولولا الإيمان بالبعث بعد الموت لوجب التسليم بعبثية خلق العالم كله وليس ذلك فحسب بل لا بد من الاعتراف بأن محاولة الترقي في الخير والصلاح عبث ولغو كلية.إنه لمن غير المعقول أن يخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما من شمس وقمر وكواكب ونجوم وغيرها من ملايين الأشياء، ويودعها من الأسرار ما لا يعد ولا يحصى، ثم يخلق فيها الإنسان ليفني للأبد بعد أن يقضي فيها سنوات من حياته التي ليست لها غاية عظمى.إنها فكرة يرفضها العقل السليم.إن إيجاد الله هذا الكون الشاسع، ثم جَعَلَه الإنسان حاكمًا عليه بسبب عقله ليشكل دليلاً على أن هناك غاية أخرى للإنسان علاوة على حياته المحدودة ويعلن الإسلام أن تلك الغاية إنما هي أنه قد خُلق لحياة أبدية، وقد له باب الترقيات الروحانية الخالدة.إذا، فلا يعني موت الإنسان إلا انفصال روحه عن جسده المادي، إذ لا فناء لروحه، بل إنها تظل حية على الدوام، ولا تزال في الصعود في مراتب قرب الله تعالى التي لا نهاية لها.قصارى القول إن إنكار البعث بعد الموت هو من أكبر دواعي إنكار الأنبياء، وهذا ما أشير إليه في هذه الآيات، حيث بين الله تعالى أن المعارضين كفروا برسولنا واستهزءوا به، فأناب إلينا ودعانا واستعان بنا، فأوحينا إليه أنهم هالكون عن قريب بعذابنا.فجاءهم العذاب وجعلناهم حطاما.وقد أوضح القرآن الكريم هذا الأمر في مكان آخر فقال وَأَمَّا عَادٌ فَأَهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ حَاوِيَةٍ (الحاقة: ٧ و٨).
الجزء السادس ۲۰۸ سورة المؤمنون ومن أكبر الدلائل على صدق قول الله تعالى (فَجَعَلْنَاهُمْ غُتَاء وبالتالي على صدق القرآن الكريم أن بعض المحققين الأوروبيين لا يسلّمون بوجود قوم باسم عاد أصلاً.(Encyclopedia of Islam Vol.1 p.169) 28 وذلك برغم أن قبيلة باسم "عاد" مذكورة حتى في بعض كتب الجغرافيا اليونانية القديمة العرب قبل الإسلام، الجزء الأول: عاد ص (٦٢).فبما أن الله تعالى قد جعل عادًا بعذابه غثاء وحطاما، فصار من الصعب على بعض الباحثين الأوروبيين التسليم بوجود قوم باسم عاد أصلا.= ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا وَاخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ (٢) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرًا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً ٤٤ رَّسُوهَا كَذَّبُوهُ ۚ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (٢) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَرُونَ بِشَايَتِنَا وَسُلْطَنٍ مُّبِينٍ (3) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (3) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَبِدُونَ (3) ٤٨ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ (3) وَلَقَدْ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٢) مثل التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا أنه قد جاءت أمم أخرى بعد شعب عاد قوم ثمود الذين قد سماهم القرآن الكريم خلفاء لعاد (الأعراف:٧٥) – وأرسل الله
الجزء السادس ۲۰۹ سورة المؤمنون تعالى فيهم رسولاً تلو ،رسول وكلما جاء قومًا رسول رفضوه، فأهلكنا قوما بعد قوم.وهناك اختلاف كبير بين التوراة والقرآن بهذا الصدد، ولكن الشواهد التاريخية تؤكد صحة بيان القرآن وخطأ التوراة.تقول التوراة أنه لما جاء العذاب في زمن نوح وهلك أهل زمنه تأسف الله على فعله ووعد أنه لن ينزل بعد ذلك عذابًا مثله أبدا؛ حيث جاء فيها: "وقال الربُّ في قلبه لا أعود ألعَنُ الأرض أيضًا من أجل الإنسان لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته" (التكوين ٨: ٢١).ولكن التوراة نفسها تخبرنا في مكان آخر: "فأمطر الربُّ على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء، وقلب تلك المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض".(التكوين ١٩: ٢٤-٢٥) وهذا يعني أنه بحسب التوراة قد نقض الله بنفسه العهد الذي قطعه على نفسه حيث دمر سدوم بعذاب النار والكبريت.كما تخبر التوراة أنه في زمن موسى ال أيضًا قد حل العذاب بفرعون صنوفا وألوانا.فذات مرة "تَحوّل كل الماء الذي في النهر دما، ومات السمك الذي في النهر، وأنتن النهر" (الخروج : ۲۰-۲۱).وفي مرة أخرى عذبهم الله بكثرة الضفادع غطَّت أرض مصر كلها (الخروج ۸ (۷۱) وتارة عذبهم بكثرة القمل حتى تقول التوراة إن "كل تراب مصر صار بعوضاً * في جميع أرض مصر." (الخروج ۸: التي (IV-17 وفي إحدى المرات دعا عليهم موسى ال "فدخلت ذُبان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده، وفي كل أرض مصر خربت الأرض من الذبان" (الخروج ۸: ٢٤).وذات مرة "ماتت جميع مواشي المصريين".(الخروج ٩: ٥-٦).وفي إحدى ورد في الطبعة الأردية للتوراة "القمل" بدلاً من البعوض.(المترجم) ورد في الطبعة الأردية للتوراة "البعوض" بدلاً من الذبان.(المترجم)
الجزء السادس ۲۱۰ سورة المؤمنون المرات عدهم الله تعالى بالبثور، فطلعت البثور والدمامل في المصريين وبهائمهم (الخروج ۹: ۸-۱۱).ومرة نزل على المصريين عذاب البرد فكان برد ونارٌ متواصلة في وسط البرد.شيء عظيمٌ جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أُمّةً" (الخروج ٩:.(٢٢ - ٢٤ وفي إحدى المرات عذبهم الله تعالى بكثرة الجراد حتى قيل "لم يكن قبله جراد مثله ولا يكون بعده كذلك.وغطّى وجه كل الأرض حتى أظلمت الأرض، وأكل جميع عُشب الأرض وجميع ثمرِ الشجر الذي تركه البرد" (الخروج ١٢:١٠-١٥).ولكن الثابت جغرافيا، وخلافًا لما تقول التوراة هنا، أن مصر هي من البلاد التي يتكاثر فيها الجراد على وجه الخصوص.(The Book of Knowledge, Vol.5 P.33-34:"locust") كما غطّت ظلمةٌ أرض مصر عذابًا لأهلها حيث ورد: "فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام، لم يُبصر أحدٌ أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام." (الخروج ۱۰: ۲۲-۲۳) كذلك قد أهلك الله تعالى كل بكر من أولادهم، فكان صراخ وعويل في كل مكان، حيث تقول التوراة: "فحدث في نصف الليل أن الرب ضرَب كلَّ بِكْرٍ في أرض مصر من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكلَّ بكر بهيمة.فقام فرعون ليلاً هو وكلُّ عبيده وجميع المصريين، وكان صراخ و عظيم في مصر، لأنه لم يكن بيت ليس فيه ميت." (الخروج ۱۲: ۲۹-۳۰) فلو كان ما تقوله التوراة صحيحًا بأن الله تعالى عهد عند هلاك قوم نوح بأن لا يُهلك الناس بعذابه بعد ذلك لأن تصور قلب الإنسان شرير منذ حداثته"، فلم أهلك سدوم بمطر من النار والكبريت؟ ولم عذب الفرعونيين بالقمل والضفادع والبعوض والجراد؟ ولم صب عليهم البرد والنار ؟ ولِمَ حَولَ لهم ماء النهر دما؟ ولِمَ قتل البكر من أولادهم؟ ولم أخرج الدمامل والبثور في أجسامهم؟ ثم لم تركهم في
الجزء السادس سورة المؤمنون العلمية لا ظلمة دامسة ثلاثة أيام؟ وإذا كان الله تعالى قد قرر عدم عذاب أحد بعد نوح فلماذا قال على لسان موسى العليا "الرب إلهك هو نار اكلة" (التثنية ٤ : ٢٤).وإذا صح قوله تعالى لا أعود ألعَنُ الأرض أيضًا من أجل الإنسان" فلماذا قال لبني إسرائيل: إذا لم تعمل بوصاياي "ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل.ملعونة تكون سلتك ومعجنك.ملعونةً تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك..نتاج بقرك وإناتُ غنمك.ملعونا تكون في دخولك، وملعونًا تكون في خروجك.يرسل الربُّ عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعًا." (التثنية ٢٨: ١٥-٢٠) إذًا، فقد ثبت بطلان ما أعلنته التوراة بشهادتها هى.أما القرآن الكريم فيخبرنا بمجيء الرسل بعد نوح على التوالي، وأن أعداءهم قد دمروا بسبب عصيانهم، حتى بعث موسى في الأخير فهلك أعداؤه أيضًا.ويخبرنا التاريخ أن بيان القرآن الكريم الصحيح..أي أن أمما كثيرة بعد نوح اللي قد هلكت على التوالي بعذاب الله تعالى.إذًا، فمن الباطل تماما ما تزعم التوراة بأن الله تعالى تندم بعد إهلاك قوم نوح بعذابه، فوعد بعدم إنزال عذاب مثله في المستقبل.فلو كان وعده تعالى حقا وصدقًا فلم أنزل العذاب بعد ذلك في شتى العصور، ولماذا أهلك الناس وأبادهم؟ هو وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَايَةً وَءَاوَيْنَهُمَا إِلَىٰ رَبِّوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِين ۵۱ ) شرح الكلمات : آوی آویتُه أنزلته، ومنه "اللهم آوني إلى ظلّ كرمك وعفوك" (الأقرب).أوَى منزله وأَوَى إلى منزله نزل به ليلاً أو نهارا (الأقرب).ربوة: الربوة : الرابية وهي ما ارتفع من الأرض (الأقرب).قرار قر في المكان ثبت وسكن والقرار: ما قُرَّ فيه؛ المستقر (الأقرب).
۲۱۲ الجزء السادس سورة المؤمنون التفسير: لقد ذكر الله تعالى هنا عيسى ال وأمه مريم الصديقة، وأخبر أنه لما أوذي عيسى أذى شديدًا أعانه الله على عدوه وجعله آية دالة على قوته وقدرته عذاب العدو، وأسكنهما في أرض مرتفعة طيبة ثم إن الله تعالى نجاهما المسكن ذات ينابيع.من واعلم أن فعل "آوى" يعني في العربية دائما أنقذه من المصيبة والأذى منة عليه وإحسانًا.ومثال ذلك في القرآن الكريم قول الله تعالى لنبينا أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (الضحى (٧ أي لقد مات أبوك وصرت يتيمًا وأنت لا تزال في رحم أمك، فتكفلك الله وربّاك، وأظلك في كنفه.كذلك ورد في مكان آخر قوله تعالى (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (الأنفال : (۲۷).فقد استخدم الله تعالى هنا أيضًا لفظ (فَآوَاكُمْ حين وجد المسلمين في محنة كبيرة وأذى شديد، فهيأ لهم الأمن في المدينة المنورة مِنَ الطيبات وأيدهم بنصره.كذلك يخبرنا القرآن الكريم أن نوحا الله لما قال لابنه يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا قال له ابنه (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (هود:٤٤)..أي سألوذ بجبل يحميني من الطوفان.كما يقول القرآن الكريم عن يوسف ال وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِس بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف:٧٠)..أي لما وصل إخوة يوسف إليه هيأ لأخيه بنيامين الملاذ وقال لـه إني أخوك، فلا تحزن الآن بمعاملتهم السيئة.فترى أن لفظ آوَى قد ورد هنا أيضا بالمعنى المشار إليه، وهو أن أخا يوسف كان يعاني عناء شديدا بسبب غياب أخيه وسوء معاملة إخوته الآخرين، فأنزله يوسف عنده منزلاً كريما، وهدأ من روعه قائلاً: إني أنا أخوك.وهكذا زال عن أخيه الهم، وهدأ باله وارتاح.
الجزء السادس ۲۱۳ سورة المؤمنون وهذا المعنى ثابت من القواميس أيضًا، فيقال أوى إلى منزله أي دخله وارتاح.ومنه الدعاء "اللهم آوني إلى ظل كرمك وعفوك" (الأقرب).وعليه فإن الله تعالى قد بين بقوله وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبِّوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ أَنه نجى المسيح وأمه من محنة كبيرة، وهيأ لهما الملاذ في أرض مرتفعة تجري فيها عيون الماء.الملاذ - عليهما وإذا فحصنا الأمر من الناحية التاريخية تبين لنا أن المسيح وأمه السلام- لم يقع في حياتهما، قبل واقعة الصليب أي حادث كان بمنزلة مصيبة كبيرة اضطر بسببها للبحث عن الملاذ.إنما هي واقعة الصليب التي أصابت المسيح وأمه الصديقة بغم شديد.وبما أن الله تعالى قد أنقذ المسيح من الموت على الصليب فكان لا بد له من الهجرة من تلك الأرض إلى بلد آخر، لأن بلاد الشام كانت تحت حكم قيصر الرومي، وكان المسيح وأمه في عداد الخارجين على دولته، ولو أنهما ظلا في الشام لأُلقي القبض عليهما ثانية، ومن أجل ذلك أمر الله تعالى المسيح بالهجرة من تلك الأرض، ثم هيأ لهما بفضله ورحمته في بقعة من الأرض مرتفعة وبعيدة عن بطش الأعداء تجري فيها ينابيع الماء الطيب.وكما هو واضح من الشواهد التاريخية فإن هذا المكان هو منطقة كشمير حيث يسميها الناس جنة أرضية لما يوجد فيها من عيون ماء ومناطق خضراء نضرة ومناخ رائع.بل إن كلمة "كشمير" نفسها تدل على سفر المسيح العليا إليها، حيث تدعى هذه المنطقة "كشير" في اللغة الكشميرية.ولفظ "كشير" عبراني الأصل في الواقع، وهو في الأصل "كأشير" ومركب من كلمتين هما "ك" وهو حرف التشبيه، و"أشير" وهي بلاد الشام باللغة العبرانية والمعنى بلد كبلاد الشام ثم سقط الألف من كثرة الاستعمال، وبقى كشير" الذي حولته الأمم الأجنبية إلى "كشمير" بمرور الزمان.ولكن الغريب أن كشمير لا تزال تُدعَى وتُكتب "كشير" في اللغة الكشميرية.والكشميريون يسمون ساكن هذه المنطقة "كاشر"، بينما يسميه أهل البنجاب "كشميري".
الجزء السادس ٢١٤ النبي سورة المؤمنون ثم إن لفظ "كشمير" بحد ذاته يشكل دليلاً على أن العبرانيين قد عاشوا فعلاً في هذه المنطقة في عصر من العصور، بل الثابت من كتب التاريخ بكل جلاء أنه قد جاء نبي إسرائيلي إلى هذه المنطقة قبل ألفي عام، وكان يدعى الأمير، وقبره موجود في حي "خانيار" ومشهور بقبر يوز" آسف".وهذا اللفظ صيغة محورة من "يسوع آصف" كما قد ذكر ذلك مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في كتبه.والآصف في العبرية شخص يبحث عن قومه.أما "يوز" فهو صيغة محورة من "يسوع".وهذا يعني أن المسيح اللي قد سمي بذلك لأنه خرج إلى تلك المنطقة بحثا عن القبائل الإسرائيلية العشر الضالة ليبلغهم رسالة الله.وهي تلك القبائل الإسرائيلية التي قد أسرها نبوخذنصر البابلي، وأجلاها وأسكنها في المناطق الشرقية أي أفغانستان وكشمير.(History of Afghanistan, P.39 & The Races of Afghanistan Chapter 2, P.15& Afghanistan The Country & People, p.72-75) وقد أشار المسيح ال نفسه إلى مهمته هذه ذات مرة حيث قال: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى ١٥: ٢٤).كذلك ورد في مكان آخر قول المسيح: "ولي خراف أُخَرُ ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يوحنا.(١٦:١٠ وفي مناسبة أخرى أوصى المسيح الحوارييه بصدد التبليغ فقال: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (متى ١٠: ٥-٦).لقد تبين من هذه الفقرات أن المسيح ال كما قام بتبليغ رسالة الله ليهود فلسطين، كذلك كان من المفروض أن يبلغ دعوته إلى يهود البلاد الشرقية وأن يلبوا دعوته، لأن الخراف الفلسطينية ما كانت لتصدّقه إلا قليلاً، أما الخراف الأخرى في مدينة سرينغر.(المترجم)
الجزء السادس ۲۱۵ رة المؤمنون سورة فكان من المقدر لها أن تلبي نداءه وتجتمع حوله بسرعة.ووفقا لهذه الأنباء قد خلق الله تعالى في فلسطين من الظروف ما أدى إلى معارضة عامة ضد المسيح المسيح اللي حتى إن الحكومة رفعت ضده قضية التمرد والعصيان وحكمت بإعدامه.ولكن الله تعالى نجى المسيح الله من الموت على الصليب كما أنقذ "يونان" النبي من فم الموت.وبما أنه لم يكن بوسع المسيح الله أن يمكث في تلك البلاد بعد حادث الصليب، لأن الذي قد صدر الحكم بإعدامه من قبل الحكومة لو نجا من الإعدام فليس مآله إلا الإعدام ثانية، لذا فإن المسيح الهاجر من تلك البلاد.وبرغم أن الطريق من فلسطين إلى أفغانستان وكشمير كان وعراً ومخيفا جدا، إلا أنه هاجر من هنالك إلى هذه المناطق.وكما يخبرنا القرآن الكريم فإن الله تعالى قد جعل أرض كشمير دار هجرته، وهي أرض ينطبق عليها تماما قول الله تعالى ذَات قرار ومعين..بمعنى أن المسيح ال قد أقام في تلك الأرض في أمن ودعة بدون أن يواجه أي معارضة، كما تجري في تلك الأرض عيون ماء معين، وليس هذا فحسب بل إن هذه المنطقة تشبه الشام في بردها وخضرتها ونضارتها.فلما وصل المسيح العليا هذه المنطقة زالت همومه وانتهت مصائبه فظل ينشر دعوته في ربوعها حتى والعشرين (كنز العمال: كتاب الفضائل من قسم الأفعال، الباب الثاني في فضائل سائر الأنبياء، الفصل الأول، المعجم الكبير للطبراني الجزء الثاني والعشرون ص ٤١٧-٤١٨: ما روت عائشة أم المؤمنين عن فاطمة وتوفي أخيرا هنا، ودفن في "خانيار" بمدينة سرينغر ، حيث يوجد قبره حتى اليوم." بلغ وو المئة حي يَتَأَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَتِ وَاعْمَلُواْ صَلِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (3) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (2)
الجزء السادس ٢١٦ سورة المؤمنون فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ : أَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن で مَّالٍ وَبَنِينَ (3) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْرِقُونَ : وَالَّذِينَ هُم بِشَايَتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (3) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا وَاتُوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى تَهِمْ رَجَعُونَ : أَوْلَتَيكَ يُسْرِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَبِقُونَ ) شرح الكلمات : זי زُبُرا : الزبر جمع الزبرة، وهي القطعة الضخمة (الأقرب).عمْرة: يقول الإمام الراغب في تفسير هذا اللفظ: "جُعِلَ مثلاً للجهالة التي تغمر صاحبها" (المفرادت).التفسير: يجب أن لا ينخدعن أحد من هذه الآية فيظن أن هذا الكلام موجه إلى الأنبياء فحسب.فمن أساليب القرآن الكريم أنه يخاطب الأنبياء أحيانًا مع أن الكلام يكون موجها إلى أتباعهم ومثاله قول الله تعالى لرسولنا الكريم وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً )) (الإسراء: ٢٤).فالخطاب هنا موجه إلى النبي الله في الظاهر، ولكنه موجه إلى أمته في الحقيقة، إذ تُوفي أبوه قبل ولادته، كما لحقت أُمّه بربها قبل أن يبلغ سن البلوغ.وعليه فبرغم أن الخطاب هنا موجه إلى الرسل في الظاهر، ولكنه موجه إلى أتباعهم في الواقع، حيث أمرهم أن يأكلوا الحلال والطيب من الأشياء، لأن هذا سيساعدهم على القيام بالأعمال الصالحة.
الجزء السادس ۲۱۷ سورة المؤمنون والحق أن لطعام الإنسان تأثيرًا كبيرًا على أخلاقه، إذ تؤدي نوعية الغذاء إلى حدوث تغيرات جسمانية أو أخلاقية في الإنسان وبما أن الإنسان بحاجة إلى إثارة كافة عواطفه وملكاته الطبيعية وتطويرها كي يستخدمها في محلها فيحظى بمرضاة الله تعالى، لذا فقد نهى القرآن الكريم عن تناول الأغذية التي تضر الإنسان ضررًا جسديًا أو أخلاقيًا أو روحانيا.فمثلا قد حرم الله تعالى الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر عليه اسم غير الله تعالى.والواضح أنه ليس في هذه الأشياء ما هو خال من الأضرار الجسدية.خذوا الميتة مثلاً، فإنما يموت الحيوان إما إذا بلغ آخر حد من الكبر، أو إذا لدغه حيوان سام، أو بسبب مرض أو سُم.وفي كل هذه الحالات وغير صالح للاستهلاك.أما إذا مات من جراء صدمة شديدة، كأن يسقط في بئر أو ينطحه حيوان آخر، ففي هذه الحالة أيضًا دمه يتسمم وبالتالي يصير لحمه غير قابل للاستهلاك.أما الدم فهو الآخر يحتوي على سموم عديدة، وتناوله مدمر لصحة الإنسان طبيًّا.ونفس الحال للحم الخنزير، فأكله الأمراض.كما أن في الخنزير عادات سيئة تنتقل إلى الذين يصبح يسبب لحمه ساما كثيرًا من يأكلون لحمه.أما ما ذبح بغير اسم الله تعالى فإن أكله يجعل المرء عديم الغيرة الله تعالى، فيخلو قلبه من تعظيمه تعالى ثم إن الإسلام حرم الخمر من بين المشروبات، لأنها تسكر وتُذهب عقل الإنسان وتضر بذكائه وعلمه.إذا، فتحريم جميع جسدية أو أخلاقية أو روحانية.وإن الله تعالى إنما أحل لنا الأشياء التي تساعد على رقي الإنسان جسديًا وأخلاقيا وروحانيا.ثم إنه تعالى قد حثنا على تناول الطيبات مما أحل لنا..أي الأشياء التي تتلاءم مع صحة الإنسان ومزاجه والتي لا تتضرر بأكلها صحته.لقد تبين من هنا أن الإسلام يسلّم بتأثير الغذاء على أخلاق الإنسان، وأنه قد وضع للأكل والشرب قيودًا وشروطا وفتح بذلك بابًا جديدًا لنا لإحراز الأخلاق الحميدة إن الإسلام يعرض على الدنيا قاعدة تقول إنه لمن المحال أن تظل الروح الإنسانية في معزل عن تأثير التغيرات الجسدية، لذا فإنه تعالى قد وضع بعض القيود الأشياء التي حرمها الله تعالى إنما يرجع إلى ما فيها من أضرار
الجزء السادس ۲۱۸ سورة المؤمنون بصدد غذائنا، لكيلا تصل التأثيرات السيئة إلى قلب المرء وعقله عبر معدته، فلا تصبح روحه كالميت.إنه يقول إنكم إذا أكلتم الحلال، بل الطيب الحلال من وفقتم للقيام بصالح الأعمال حتمًا.ويماثل قوله هذا ما نراه اليوم عند دعاة الاشتراكية، فإنهم كلما وجدوا فرصة للكلام قالوا دَعُوا جميع القضايا جانبا، فإن.ملأ القضية الأساسية هي قضية البطن والقرآن الكريم أيضًا يعلن أن القضية كلها تدور حول البطن.ولكن الفرق هو أن الاشتراكيين يقولون إن من ملأ بطنه فقد فاز، بينما يعلن القرآن الكريم أن من وقى بطنه من الأشياء النجسة بكل أنواعها فقد فاز ونجا.من فرّق بين الحلال والحرام وتناول الطيبات دائما، فهو الذي يوفق للعمل الصالح.وبتعبير آخر، إنما يوفق للصلاة من أكل الحلال، وإنما يوفق للصوم من تناول الحلال، وإنما يوفق للزكاة من أكل الحلال إن الاشتراكية تقول: إن من بطوننا فهو زعيمنا ومخلّصنا، ولكن الله تعالى يعلن في القرآن الكريم أن من أكل في بطنه طعاما حلالاً فهو عبدنا، وأن هذا سيفتح عليه أبواب الحسنات.فما لم ير المرء فيما إذا كسب رزقه بطريق حلال أم بطريق حرام فلن ينفعه قوله "لا إله إلا الله"، كما لن يرضى الله بانتمائه إلى أي فرقة من فرق الإسلام.إنما يرضى الله عنه إذا أكل في بطنه رزقا حلالاً.أما إذا كسب المال بالغش والخداع، وملأ بطنه بطعام حرام، ثم ظن أنه سيقدر على عمل الصالحات، فظنه باطل تماما.أما إذا أكل الحلال قدر على فعل الصالحات أيضًا..بمعنى أنه إذا أراد بعد ذلك أن يؤدي الصلاة بخشوع وخضوع فسيوفق لها، وإذا أراد أن يصوم صومَ رجل تقي فسيتمكن من هذا، وإذا أراد أن يؤدي الزكاة بشروطها فسيستطيع ذلك.وليس أن هذه الأعمال الصالحة ستصدر عنه تلقائيا بعد أكل الحلال بدون أن يبذل المجهود، إذ لا يصدر أي عمل من تلقائه، وإنما ينفتح بذلك باب للقيام بالصالحات.إن هذا لا أن أحد الهندوس مثلاً إذا أكل الحلال بدأ في أداء الصلاة، أو أن أحد السيخ إذا تناول الرزق الحلال أخذ في ذكر الله تعالى.كلا، بل المراد أن أكل الحلال يمهد للمرء القيام بهذه الحسنات، وأنه لو أراد حقًا أن يصلى أو يصوم أو يذكر الله تعالى، فسوف يوفق لهذه الحسنات.أما إذا كان يأمل أنه سيتمكن من القيام بهذه يعني أبدًا
الجزء السادس ۲۱۹ سورة المؤمنون الحسنات بدون رعاية شرط أكل الحلال فلن يتحقق أمله هذا أبدا.يسأل الناس عادة ما السبيل إلى حب الله تعالى، وما الطريق للتقدم في الحسنات، وكيف يمكن تجنب الذنوب والسيئات وكيف نفوز في غاياتنا؟ وقد رد الله ل هنا على هذه الأسئلة كلها بقوله كُلُوا) منَ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحًا..أي إذا كنتم تودون أن يصدر عنكم صالح الأعمال فعليكم بأكل الحلال والطيب.أما إذا أكلتم الحرام وانغمستم في الغش والخداع والجشع وسوء المعاملات، ومع ذلك ظننتم أن بإمكانكم أن تتقدموا في الحسنات وتتولد محبة الله تعالى في قلوبكم، فليس ظنكم هذا إلا ضربًا من الوهم لا بد لكم من التخلي عن أحد الاثنين: فإما أن تُحرموا الأعمال الصالحة وإما أن تتركوا أكل الحرام.أما من حاول الجمع بين الاثنين فليس لـه إلا الفشل.وإنما النجاح لمن ترك أكل الحرام، وسعى لكسب الحلال والرزق الطيب.ثم يقول الله تعالى (وَإِنَّ هَذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون.والمراد من أمتكم هنا هو أمة الأنبياء لا الأتباع.وقد بين الله تعالى بلفظ أُمَّةً وَاحِدَةً أنكم إذا تدبرتم في تاريخ الأنبياء وجدتم تشابها بين جميع الأنبياء من حيث أحوالهم وتعاليمهم ودعاويهم.فكما أن نوحا دعا إلى التوحيد كذلك فعل الأنبياء الذين جاؤوا من بعده، وعلّموا الناس أن الله أحد.ثم جاء رسل آخرون ودعوا إلى التعليم نفسه.ولم يزل المنكرون يهلكون.ثم جاء موسى وهارون وعرضا على الناس التعليم نفسه.ثم أتى المسيح ابن مريم وجعله الله آية للدنيا، وأنقذه أعدائه من وآواه إلى مكان آمن فاتضح من ذلك أن توحيد البارئ تعالى هو أهم وأفضل ما في الدين، وأن الأنبياء كلهم قد دعوا الناس إلى التوحيد، فصاروا غالبين على أعدائهم دائما.فكيف تصحّ إذا عقيدة بُنوّة المسيح هذه التي اخترعتها أمته من بعده.ثم يبين الله تعالى سبب ذلك فقال فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا..أي أن السبب الحقيقي لهذا الاختلاف أنه لما مات الأنبياء ومضى دهر طويل على تعليمهم قام أتباعهم بتشويه تعليمهم الحقيقي من جراء الغفلة، فوجدت مذاهب
الجزء السادس ۲۲۰ سورة المؤمنون مبتدعة.ولما كان كل دين يتضمن بعض الحقائق ففرح أتباعه بعرض تلك الحقائق ظانين أنهم على الحق، مع أنهم ما داموا قد قطعوا دينهم الحق، فمن الطبيعي أن يكون عندهم أيضًا بعض الحقائق.فوجود تلك الحقائق عندهم ليس دليلا على صدقهم، وإنما الصادق من عنده التعليم الحق الكامل.ثم يقول الله تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَات بَل لا يَشْعُرُونَ..أي أن هؤلاء يظنون أن ما أوتوا من مال وأولاد إنما أوتوه لكونهم أهل عزة ومنزلة كلا إنهم لا يدرون أن هذه الأشياء هي ستؤدي بهم إلى الهلاك.دائما التي وعلى النقيض، لقد بين الله تعالى هنا أن من علامات المؤمنين أنهم يرتعدون من خشية الله تعالى، ويؤمنون بآياته، ولا يشركون به شيئًا، ويفعلون كل خير ومع ذلك يظنون أنهم مقصرون، ويوقنون أن الله تعالى محاسبهم..أي برغم أنهم يفعلون الحسنات بكل أنواعها إلا أن هذا لا يبعثهم على الكبر والزهو، بل يزيدهم تواضعًا، فتستولي خشية الله على قلوبهم قائمين وقاعدين.لقد أشار الله تعالى بهذه الآيات إلى أنه لن يفوز في هذه المواجهة بين الكفر والإسلام إلا الفريق الذي تتوافر فيه المزايا الأربع التالية: الأولى خشية الله، والثانية الإيمان بآيات الله، والثالثة تجنب الشرك، والرابعة خدمة الدين مع الشعور بالتقصير.فعن عائشة – رضي الله عنها - أنها قالت للنبي مرة : يا رسول الله، ما المراد من قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجلَةٌ ، هل يعني أن للمرء أن يفعل ما يشاء شريطة أن يخاف الله تعالى؟ فقال النبي الله كلا، وإنما معناه أن على المرء أن يفعل الخير ومع ذلك يخشى الله تعالى* (تفسير فتح البيان).نص الحديث: "عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت: يا رسول الله، قول الله ل الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، وهو مع ذلك يخاف الله عل؟ قال: لا، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، وهو مع ذلك يخاف الله وعل." (المستدرك للحاكم: كتاب التفسير : تحريم المتعة).(المترجم)
الجزء السادس ۲۲۱ سورة المؤمنون ثم يقول الله تعالى أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ..أي أنهم يتحلون بروح التنافس في الخير.والحق أن التنافس عاطفة فطرية في كل إنسان حيث يود أن يتقدم غيره في مجال الرقي.وهذه العاطفة هي التي تجعل الطالب يجتهد ويسبق غيره من الطلاب وهذه النزعة هي التي تجعل الأولاد يسعون جاهدين لكي يسبقوا الآخرين في الألعاب فيحتلوا مكان الصدارة.وهذا الوجدان هو الذي يدفع التجار والصناع والزُّرّاع والأطباء والمهندسين والمخترعين لينافسوا أقرانهم في مجالاتهم الخاصة.وتماشيًا مع هذه العاطفة نفسها تسعى الحكومات والشعوب إلى اكتساب القوة لتحتل مكانة أرفع من غيرها بل إن نزعة التسابق هذه موجودة حتى في الحيوانات.فمثلا إذا كان هناك فرسان يجريان الواحد خلف الآخر، فبمجرد أن يسمع الأول منهما صوت قدم الثاني فإنه يسرع خطاه كيلا يسبقه؛ وعندما يرى الحصان الثاني أن الأول قد أسرع خطاه فإنه يشتد جريا، وفي كثير من الأحيان يتقدم الحصان الثاني الحصان الأول.إِذًا، فهي عاطفة طبيعية وفطرية وتوجد في البشر كلهم.وقد لفت الإسلام أنظار المؤمنين إلى هذه العاطفة الطبيعية نفسها وقال إن من واجبكم منافسة الآخرين وسبقهم في كافة مجالات الحياة.فإذا كنتَ معماريًا فعليك أن تسعى جاهدًا كيلا يسبقك معماري من أمة أخرى.وإذا كنت صانعا فابذل جهدك حتى لا يسبقك صانع من قوم آخرين.وإذا كنت مخترعا فلا تدخر وسعا في أن تتفوق على مخترعي الأمم كلهم.وإذا كنت طبيبًا فلا تألُ جهدا في هذا المجال حتى لا يتفوق عليك طبيب من شعب آخر.كما يجب أن تكون قدوة عالية في الأمانة والصدق بحيث لا يجاريك في هذا الخير أحد من قوم آخرين.وإذا فعلتم ذلك كنتم أساتذة للدنيا ومعلمين للعالم، وسيتبعكم الناس مضطرين.أتذكر جيدا أن السيد سترك لاند، وكان أمين السجل للجمعيات التعاونية، جاء مرة لزيارتي في مدينة "شملة".فقال لي خلال الحديث إني أستغرب كيف يعمل حباة أموال التبرعات في جماعتكم بأمانة؟ فكل أستعمله لجباية الأموال في عملي تنكشف خيانته بعد أيام قليلة، فأضطر لطرده من العمل.فقلت إنني
الجزء السادس ۲۲۲ سورة المؤمنون أن له إن الجباة عندنا لا يخونون لأنهم يؤمنون بأن الخيانة تضيع الإيمان.وكان السيد سترك لاند يريد السفر إلى إنجلترا في إجازة، فقال لي : إذا عدتُ إلى الهند ثانية سألتمس من الحكومة أن تبعث حُباةَ الجمعيات التعاونية إلى إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية ليتدربوا عنده أولاً ستة أشهر، ليولد فيهم روح أولاً ستة أشهر، ليولد فيهم روح الأمانة.لقد تولد هذا الإحساس بتفوق جماعتنا في قلب ذلك المسؤول الحكومي الإنجليزي لأن كل فرد من جماعتنا يسعى، وفقًا لتعليم الإسلام هذا، أن يسبق الآخرين في الخيرات وأن لا يتقدمه غيره.ولو أن روح التنافس هذه تولدت في القوم كلهم، وسعى الجميع يتسابقوا في الخيرات لتلاشت جميع الخصومات والنزاعات من الدنيا، ولساد الأمن والسلام العالم كله.لقد قلت لمعارضي جماعتنا مرارا إن كيل الشتائم ليس عملاً محمودًا يُفتخر به.إذا كنتم تريدون أن تباروا جماعتنا فتعالوا نتبارى في المحاسن.وسبيله أننا إذا قمنا بتأسيس مئة مركز لدعوة الإسلام في الخارج فعليكم أن تؤسسوا في العالم مئتي مركز.وإذا أدخلنا خمسة أو عشرة آلاف شخص في الإسلام من الأديان الأخرى سنويًا، فعليكم أن تأتوا بعشرين ألف شخص منهم في حظيرة الإسلام سنويًا.وإذا كان عندنا ألفان ممن نذروا حياتهم لخدمة الإسلام، فعليكم أن تأتوا بأربعة آلاف كمثلهم، واسعوا لنشر رسالة الإسلام ومحمد رسول الله ﷺ في العالم أكثر مما نسعى ولكنهم لا يخرجون لهذه المباراة.إنما يريدون التغلب علينا بالسباب والشتائم ورمينا بتهم ،باطلة ولكن الإسلام لا يسمح بمثل هذه المباريات البشعة السخيفة، بل يقول إنكم إذا أردتم أن تتسابقوا فتسابقوا في البر والتقوى وحُبّ الله تعالى والتعلق به.تنافسوا في نشر دعوة الإسلام ورفع اسم محمد رسول الله ، وتَباروا في اتخاذ التدابير اللازمة للرقى المادي، بدلاً تهدروا طاقاتكم في منافسات شريرة.من أن
الجزء السادس صلے ۲۲۳ سورة رة المؤمنون وَلَا نُكَلِّفُ نَسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَبٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ - بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي عَمَرَةٍ مِّنْ هَذَا وَهُمْ أَعْمَلٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَمِلُونَ (3) شرح الكلمات: الحق: حَقَّه حقا غلبه على الحق.وحَقَّ الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين منه.والحق ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ المال؛ الملك؛ الموجود الثابت؛ اليقين؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).التفسير: أي لقد أمرناكم بأن تتسابقوا في الخيرات، ولكنا لا نتوقع من الإنسان إلا ما في وسعه.ما كان لنا أن نتوقع منه أكثر مما يستطيع، أو نعاقبه على عدم قيامه بما هو فوق طاقته.ما الواقع أن الإسلام يراعي التفاوت الموجود بين طبائع الناس، ويأخذ في الحسبان يوجد في طاقاتهم من اختلاف خذوا الصلاة مثلاً، إنها من القضايا الأساسية في الإسلام وجميع المسلمين مأمورون بأدائها خمس مرات في المسجد جماعة.ولكن الله تعالى قد أوضح أيضًا أن الأرض كلها مسجد الله تعالى، فإذا لم يوجد مسجد في مكان فلا يجوز لكم ترك الصلاة ، بل يمكنكم أن تؤدوها في أي مكان نظيف في الأرض.وإذا كنتم مرضى أو على سفر فيمكن أن تصلوا بغير جماعة.كما أن الإسلام قد اشترط الوضوء للصلاة، ولكنه قد صرح أيضًا أن المرء إذا لم يجد الماء أو كان استعمال الماء ضارًا ،بصحته فعليه بالتيمم.كما قال إنه إذا لم يقدر على الصلاة قائما فله أن يصلي جالسًا، وإذا لم يستطع أن يصلي جالسًا فليصل مستلقيًا.وإذا كان لا يقدر على ذلك أيضًا فيكفيه أن يصليها بالإشارات.
٢٢٤ الجزء السادس سورة المؤمنون ونفس الحال للصيام.لقد فرض الإسلام صيام رمضان، ولكنه قد صرح أيضًا أنكم لو كنتم مرضى أو على سفر فيمكنكم أن تصوموا الأيام الفائتة في أيام أخرى بعد المرض أو بعد العودة من السفر.وقد حث الإسلام على الجهاد كثيرًا، ولكنه قد صرح أيضًا أن المريض والضعيف والأعرج الذي لا طاقة به للقتال، ولكن قلبه يتلهف لأن يشترك في الجهاد لو كانت به قوة، فإنه عند الله في عداد الأصحاء الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم.قال الله تعالى في القرآن الكريم لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)) (النساء: ٩٦)..أي من المحال أن ينال المؤمنون الذين لا يقومون بخدمة الدين درجة المؤمنين الذين يشتغلون في خدمة دین الله وإعلاء كلمته بكل طاقاتهم.بيد أن الله تعالى قد استثنى منهم من يحرم خدمة الدين نتيجة ضرر ومرض، فإنه تعالى سيأخذ عذرهم في الحسبان ولن يحرمهم قربه وثوابه الله.وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة بكلمات أخرى إذ قال وَالْوَزْنُ يَوْمَئِدْ الْحَقُّ)) (الأعراف: ٩)..أي حين يتلقى الناس جزاء أعمالهم من الله تعالى يوم القيامة فيوضع في الحسبان كل شيء كان يعيق رقي الإنسان، فيُنظر في الأمور التي كان معذوراً في تركها حقا، وأيضًا في الأمور التي قد تركها غفلة وتهاونًا.إذا، فمن مزايا القرآن الكريم أنه لم يهمل أي جانب من جوانب الفطرة الإنسانية، ولم يأمر بما يشقّ العمل به على طبائع البشر، بل قد آتي من السهولة ما يمكن كل إنسان، أيا كانت فطرته وطبعه، من العمل بأحكامه.فكما أن الله تعالى قد خلق في هذا العالم المادي الأشياء صنوفا وألوانا بحيث يستحيل على أي إنسان، أيا كانت فطرته وطبعه، أن يقول إن الله تعالى لم يخلق لسهولتي شيئًا.فإذا كانت أسنانه قوية قادرة على مضغ الصلب من المأكولات فهناك طعام صلب.وإذا كانت أسنانه ضعيفة وكان بحاجة إلى طعام لين، فليس في الدنيا عوز في الأطعمة اللينة.وبالمثل ففي العالم الروحاني أيضا قد هيأ الله تعالى من خلال القرآن تعليما لرقي الطبائع البشرية بشتى أنواعها، وأتاح كثيرًا من اليسر والسهولة حتى لا يسع أي
الجزء السادس ٢٢٥ سورة المؤمنون إنسان أمين أن يقول أن شرع الإسلام غير قابل للعمل بالنسبة لـه.لا شك أن الشخص المتعنت يمكن أن يقدم شتى الحجج والمعاذير، ولكن الواقع أن أحكام شرع الإسلام تتسم بالمرونة والليونة بحيث يستطيع كل إنسان، أيا كان طبعه، أن يعمل بها بيسر وسهولة.وعلى النقيض تعرض المسيحية على الدنيا التعليم التالي: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا" (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ٣: ١٣).وهذا لا ، أن الله تعالى - والعياذ به - طوّق الناس بغُلِّ اللعنة بواسطة موسى ال يعني فجاء المسيح ونزع هذا الغلّ من أعناقهم وحررهم من العمل بأحكام الشرع.والواقع أن هذه الفكرة أبشع تهمة وأشنعها على قدوسية الله وسبوحيته، إذ يقال أنه تعالى فقد بصيرته فأنزل بواسطة موسى أحكامًا يستحيل على الناس العمل بها.إن الإسلام يرفض هذه العقيدة البشعة مؤكدًا أن الشرع إنما ينزل بأحكام يمكن أن تعمل بها الدنيا.فالشرع ليس لعنة، بل الانحراف عن الشرع لعنة، ويجب على كل إنسان أن يتجنب هذه اللعنة.أما قوله تعالى ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، فقال المفسرون إن الكتاب هنا يعني سجل أعمال الإنسان الذي ترفعه الملائكة؛ وبما أن الملائكة يقومون بتسجيله بأمر الله تعالى فنسبه إلى نفسه وقال وَلَدَيْنَا كِتَابٌ.وقيل: هو اللوح المحفوظ.وقيل: هو القرآن الكريم.(القرطبي) ولو كان الكتاب بمعنى سجل الأعمال فالمراد من قوله تعالى ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ))..أننا سنحكم يوم القيامة حكمًا ينال به كل إنسان جائزته بقدر ما يستحقها، ولن نغض الطرف عما يبرئ ساحة أحد من الجريمة.بيد أن سياق الكلام يدل على أن الحديث هنا يدور عن الشريعة الإسلامية حيث بين الله تعالى أنه ليس فيها ما هو غير صالح للعمل به، بل فيها ما يمكن أن يعمل به كل إنسان أيا كان طبعه وفطرته، لذا فالمراد من قوله تعالى ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بالْحَقِّ هو القرآن الكريم نفسه، وقد سلط الله تعالى هنا المزيد من الضوء على محاسن الشريعة الإسلامية.وقال الإمام الراغب - رحمه الله – في كتابه الشهير
الجزء السادس ٢٢٦ سورة المؤمنون في بيان معاني غريب القرآن الكريم "المفردات" إن لفظ الحق يُطلق على كل ما هو مطابق لمقتضى الحكمة، "لهذا يقال : فعلُ الله تعالى كله حق، وقال تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا....إلى قوله تعالى: مَا خَلَقَ اللهُ ذَلكَ إِلا بِالْحَقِّ) (انظر المفردات تحت كلمة "الحق"....أي أنه تعالى لم يخلق هذه الأشياء عبثا، بل جعل في خلقها حكمًا عظيمة.ثم ذكر صاحب المفردات أن إحقاق الحق يعني إكمال الشريعة كقوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (المرجع السابق).فقد سُمّي الإسلام هنا دين الحق لأنه غالب ومتفوق على الأديان كلها بسبب شرعه الكامل.وعليه فقوله تعالى (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يتضمن مفهومين: أولهما أن عندنا كتابًا مشتملاً على الأحكام الحكيمة كلها.وثانيهما أن لدينا كتابًا هو أفضل الشرائع كلها بسبب كماله.وهاتان الميزتان لا تتوافران في أي كتاب في الدنيا سوى القرآن الكريم.ففيما يتعلق بفلسفة الأحكام وحكمتها، فهذه الجملة القرآنية تؤكد على أن أحكام الإسلام كلها تتضمن بعض الحكم والمحاسن، فإن الإسلام لم يأمرنا بها لمجرد أن يأمرنا وينهانا، بل قد أمرنا بها لغاية وضرورة نرى في الدنيا أحيانًا أن السيد يأمر عبده بفعل شيء لا يوجد وراءه أي حكمة، أو يأمره بشيء لمجرد أن يعاقبه من دون أي حكمة، فيقول له مثلاً قُمْ متوجهًا إلى الجدار.وليس في هذا الأمر أي حكمة سوى أنه يريد إذلاله وإهانته.ولكن الله تعالى يخبرنا أن كل حكم من أحكام الإسلام ينطوي على حكمة وغاية إننا لم نؤمر في الإسلام بشيء إلا وفيه منفعة للجنس البشري، ولم تُنْهَ عن شيء إلا لأنه ضار بنا.وهذا هو من المزايا البارزة التي يتفوق بها شرع الإسلام على الشرائع الأخرى كلها.إن أحكام الشرائع الأخرى لا تخضع لحكمة وفلسفة، ولكن الإسلام لم يأمرنا بشيء بغير هدف وحكمة.خذوا الصلاة مثلاً، فإن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة مبينا لنا فائدتها أيضًا فقال إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت:٤٦)..أي أن الصلاة
الجزء السادس ۲۲۷ سورة المؤمنون لنجا من تتضمن تعاليم حكيمة وغايات سامية بحيث لو صلى المرء كما ينبغي الفحشاء والمنكر يقينًا.علما أن الفاحشة هي "ما اشتد قبحه من الذنوب"..أي الخطأ الشديد الواضح القبح بحيث يبدأ الناس يشيرون إلى مرتكبه مستقبحين إياه، أما المنكر فهو "ما ليس فيه رضى الله مِن قول أو فعل" (الأقرب).فالصلاة نافعة لهذه الدرجة بحسب القرآن الكريم.والحق أننا لو تركنا أحكام الإسلام الأخرى جانبا، وأمعنا النظر في حكم الصلاة فقط لانكشف لنا فضل الإسلام بكل جلاء، ولم نجد بدا من التسليم بأن من يصلي بصدق القلب لا بد أن ينجو من الفحشاء والمنكر.إن كل مسلم يصلي خمس مرات في اليوم وفي كل صلاة فرائض وسنن ونوافل.ثم هناك صلاة التهجد والضحى وغيرهما.ويقرأ المصلي في كل ركعة من هذه الصلوات سورة الفاتحة، ويدعو ربه قائلاً اهدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...أي يا رب، إن حياتي عبارة عن أعمال سيئة وصالحة، منها ما هو مستحسن يتفق والأخلاق العالية، ومنها ما هو مستهجن وساقط عن مستوى الأخلاق الحميدة.فأدعوك يا رب، أن تثبت قدمي دائما على الطريق المستقيم، الذي إذا سلكته لم أرتكب ظلمًا ولا عدوانًا ولا فاحشة، وتجنبت كل ضرر وخسارة.فالشخص الذي يدعو بهذا الدعاء ليل نهار بقلب صادق، فأنّى له أن يقع في السيئات والمعاصي؟ بل كلما خطرت بباله شهوة من الشهوات سيقول في نفسه: يجب أن أسلك لإشباعها طريقًا مستقيمًا..أي طريقًا حلالاً شرعه تعالى لي، ولا أتبع طريقًا حرامًا غير مشروع.وكلما فكر في الأكل والشرب تراءى أمام عينيه قول الله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا (الأعراف:٣٢).وكلما دخل في معاملة مع الناس تَذَكَّرَ أن من واجبه تجنب الغش والخداع لأن هذا ظلم.قصارى القول إن الذي يقوم بهذا الدعاء في الصلاة واعيا أنه يصلى ولا يقوم بتمثيلية هزلية ساخرا بالدين، حرص على الدوام على أن يتوخى طريقًا مستقيما لا عوج له في أكله وشربه، وعلاقاته مع الأصدقاء، ومعاملاته مع الأهل والأولاد، وفي مسؤولياته وواجباته الاجتماعية والمدنية وفي علاقاته مع البلاد الأجنبية والشعوب الأخرى.إن الذي يسأل الله تعالى شيئًا لماذا لا يكون مستعدا للعمل بما الله
الجزء السادس يتفق مع ۲۲۸ سورة المؤمنون مسألته هل وجدت بين الناس من يسأل الله تعالى أن يصيبه بمرض الكوليرا يا ترى؟ لماذا لا يدعو بذلك؟ إنه لا يدعو هكذا لأنه يستقبح الكوليرا، إذ لو استحسنه لسأل الله إياه.فثبت من هنا أن المرء إنما يسأل الله تعالى ما يراه حسنًا، وإذا رآه حسنًا فلا بد أن يسعى لاقتنائه أيضا.ثم إن المصلى لا يسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم فحسب، بل يدعوه أيضًا صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ...أي يا رب لا أسألك أن تهديني إلى الصراط المستقيم فحسب بل أتمنى أيضًا أن توفقني لسلوك طريق المقربين الذين لـهم حظوة خاصة في بلاطك.إنني لا أريد السير في طريق الأناس العاديين، ولا أريد أن أسلك طريق المتوسطين، بل أريد أن أتبع خطوات الذين أنعمت عليهم.وقد وصف الله المنعم عليهم هؤلاء في مكان آخر من القرآن الكريم فقال (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ منَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رفيقاً (النساء: ٧٠)..أي أن حزب المنعم عليهم هو حزب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.وهذا يعني أن كل مؤمن لا يدعو ربه في صلاته الخمس يوميا بأن يجنّبه السيئة ويوفقه للخير فحسب، بل يقول ربِّ هَبْ لي الخير الذي وهبته لموسى وعيسى؛ وربِّ جنّبني السوء كما جنّبته نوحًا ويعقوب ويوسف وغيرهم من الأنبياء والرسل.كم هو رفيع هذا المقام الذي علمنا الله هذا الدعاء للوصول إليه! وما أشدَّ هذا الدعاء قوة وإثارة فمن صلى بصدق القلب سعى للوصول إلى ذلك المقام، وإذا سعى فلا بد أن يكون أفضل من الذين لا يوجد في قلوبهم هذا الحماس، كما لا بد أن يتجنب كل نوع من السيئات ويقوم بكل نوع من الحسنات.حالاً ثم إن الله تعالى قد أمر المصلي بأن يدعو في صلاته بصيغة الجمع للمتكلم إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، مع أنه شخص واحد.فما الحكمة في ذلك؟ علينا أن نتدبر ونعرف الحكمة وراء هذا الأمر الرباني.إن الإمعان في الأمر سيكشف لنا أن المصلي حين يدعو في صلاته بصيغة الجمع فإنه يضم إلى نفسه غيره أيضًا، وهم الناس كلهم، أو المسلمون كلهم أو أهل دولته كلهم، أو ،
الجزء السادس ۲۲۹ سورة المؤمنون من أهل مدينته كلهم أو سكان حيه كلهم.إنه يدعو الله في صلاته بكل حرارة وحماس: اللهم انصرنا جميعًا، واهدنا جميعًا إلى الصراط المستقيم، ونجنا السيئات، ووفقنا للقيام بأفضل الصالحات.في حين أن الشخص الواقف بجنبه في الصف ربما يتمنى أن تنتهي الصلاة بسرعة ليعود إلى البيت، ليعلف المواشي أو يُحضر لزوجته المريضة الدواء من الطبيب.إن هذا يصلي في الظاهر، ولكنه يفكر في أمر آخر في الواقع.فالعبد المؤمن حقًا يُشرك في دعائه هذا الشخص الواقف بجنبه والغافل عن صلاته كلية والناسي لربه حتى في صلاته فيدعو لــه ويقول يا رب اهد أخي هذا أيضًا، واشرح صدره للخير.ثم إن المصلي حين يستعمل صيغة الجمع للمتكلم فإنه يُشرك في دعائه سكان الحي أيضًا، إذ نرى أنه لا يحضر الصلاة في المسجد إلا بعض أهل الحي بينما يظل الباقون مشتغلين بأعمالهم، ويكذبون في حديثهم بكثرة، فمثلاً يحلف صاحب الدكان لزبونه بأن الشيء يبيعه بأربعة قروش وربع قرش وأنه قد اشتراه هو بأربعة قروش، مع أنه يكذب في حلفه إذ لم يشتر الشيء إلا بقرش ونصف قرش.أو يقول مثلاً إنه سمن خالص تماما، مع أنه قد خلط فيه الشحم.وهذا يعني أنه لا توجد خشية الله تعالى في قلبه على الإطلاق.ولكننا حين نكون ماثلين أمام الله تعالى نقول له اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ..أي اللهم اهد إلى الصراط المستقيم إخواننا أيضًا الذين يعيشون معنا في حينا ولم يحضروا الصلاة في المسجد تقصيرًا منهم، والذين يكثرون من قول الزور ويفسدون عاقبتهم.فلو صلى المرء بتدبر ووعي على هذا النحو لازداد قلبه حبا لبني جنسه، وحماسًا لإصلاح الجميع وهدايتهم، وصار الجميع في مأمن من المساوئ والذنوب.ومن دعا لجيرانه وسكان حيه وأهل مدينته بهذا الحماس والحرارة فلا بد أن يستجاب دعاؤه في يوم من الأيام، فيهتدي إخوانه الآخرون أيضًا.ولا يمكننا القول أن دعاءه لن يستجاب، إذ لولا ذلك ما علمنا الله تعالى هذا الدعاء.فتعليم الله لنا هذا الدعاء دليل على أنه دعاء محاب.وما دام دعاءً مجابًا فلا بد أن يؤدي إلى هداية بعض القوم في يوم من الأيام، إذ يهتدي المرء نتيجة وعظ واعظ حينًا، أو يتوجه إلى الله تعالى عند نزول
۲۳۰ سورة المؤمنون الجزء السادس بلية في أهله أحيانًا ومهما كان الطريق الذي ستتيسر الهداية للشخص الآخر من خلاله في يوم من الأيام، فإنه يكون نتيجة لذلك الدعاء، وهكذا فالصلاة لا تنهى يسعى الفحشاء المصلي عن السيئات فحسب، بل تصدّ غيره أيضًا عن الفحشاء والمنكر.ثم إن الصلاة تعني الدعاء أيضًا بالإضافة إلى معنى العبادة، وعليه فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَن الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر أن هذه الصلاة التي علّمناكم إياها تنهى عن الفحشاء والمنكر بالنظر إلى مفهوميها.فلو أخذنا الصلاة بمفهوم العبادة فالمعنى أن المرء إذا حضر بلاط الله تعالى بإخلاص ومحبة مرةً بعد أخرى، فلا بد أن جاهدًا لتجنب الفحشاء والمنكر، وهكذا ستصونه هذه العبادة من الذنوب والمعاصي.أما إذا أخذنا الصلاة بمعنى الدعاء فأيضا قامت بحمايته من والمنكر، إذ يدعو فيها مرة بعد أخرى يا رب ارحمني وارحم جاري وأهل بلدي وأقاربي ومعارفي.ولو استجيب دعاؤه هذا ولو مرة في حياته كلها فلا بد أن يهتدي به شخص واحد على الأقل، وهكذا ستؤدي الصلاة إلى هداية المصلى وأيضا هداية من سواه وستجنّبهم الفحشاء والمنكر.والحق أن المسلمين الذين يبلغ عددهم اليوم ستمئة مليون لو أخذوا يصلون بصدق القلب، ولو أدى دعاء كل واحد منهم إلى هداية شخص واحد لبلغ عدد المسلمين ببركة هذا الدعاء بليونا ومئتي مليون، ولصار الإسلام غالبًا واستعاد مجده الغابر حتمًا.وهنا يقول البعض إننا ندعو في الصلوات ولكن أدعيتنا لا تجاب.فليتذكر هؤلاء أن العيب ليس في الدعاء، بل فيهم هم.إنهم يدعون اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وقلوبهم غير موقنة باستجابة هذا الدعاء.فما داموا غير مستيقنين بأن الله تعالى يمكن أن يعطيهم فلماذا يعطيهم إذا؟ ما داموا يظنون بالله ظن السوء وينكرون قدرته فلماذا يستجيب لهم.بينما نرى أن رسول الله وأصحابه أيضًا قالوا اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فدخلت الجزيرة العربية كلها في الإسلام وكذلك الشام وفلسطين ومصر وإيران.لم يكن عند أهل هذه البلاد عقول تختلف عن عقول أهل هذا العصر كلا بل إن نفس المساوئ التي هي منتشرة اليوم في أوروبا وأمريكا كانت منتشرة بين أولئك القوم أيضا، ومع
الجزء السادس ۲۳۱ سورة المؤمنون ذلك نالوا الهدى وكيف حدث ذلك يا ترى؟ إنما سببه أن المسلمين في ذلك العصر كانوا يصلون موقنين بأن الله تعالى يستجيب دعاءهم.والحق أنه لا تتولد في قلب المرء اللوعة والرقة إلا إذا كان عنده يقين كامل بالله تعالى.فمثلاً لو تعرض المرء للهجوم من قبل أحد الصعاليك وفرّ من وجهه للنجاة، ووصل إلى بيت وطرق بابه، ونادى صاحب البيت بصوت عال، فلا شك أنه سيستنجده ويستحلفه بالله تعالى لفتح الباب بألم لا مثيل له.ولكنه لو فرّ وصعد صخرة ما، وأخذ يستصرخ بصوت عال افتحوا الباب افتحوا الباب ليخوّف بذلك الصعلوك ويوهمه أنه يستنجد بأحد، فلن يتولد الألم في ندائه، لأنه بنفسه يعلم أنه لا يوجد هناك أحد وإنما يصرخ تخويفا للعدو فقط.وبالمثل فإن الذي يؤدي الصلاة بإخلاص موقنا بأن الله تعالى يستمع لدعائه فلا بد أن يتولد في قلبه خشوع وحماس يستحيل أن يتولد في قلب من يصلي تظاهرًا ورياء غير موقن بالله وقدرته الله.ثم هناك حكم الصوم، وقد صرّح الله تعالى بصدده في القرآن الكريم وقال إننا قد فرضنا عليكم الصيام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.والصوم هو أن نمتنع عن تناول الطعام والشراب ابتغاء مرضاة الله تعالى برغم أن الطعام أو الشراب متوافر لدينا في البيت.فالذي يصوم بنية خالصة لله تعالى ويترك طعامه وشرابه لوجه الله تعالى، أنَّى لــه أن يأكل طعام غيره بطريق غير مشروع ومن بلغ من الإخلاص درجة بحيث يتورع عن الانتفاع بماله هو ابتغاء وجه الله تعالى فكيف يمكنه أن يسطو على أموال غيره إنما يسعى لسلب أموال الآخرين من لا يصوم، أو الذي يصوم ولكن تقليدًا فحسب، غير راغب في حقيقة الصيام ،وغرضه إذ لا قيمة لصومه.فقد قال ليس الصوم أن تجوع وتظماً فقط، وتخاصم الناس وتسبّهم وتعيث في الأرض الفساد، فهذا ليس بصوم بل هو عطش وظمأ فحسب.كذلك ورد في القرآن الكريم أن الناس يذبحون الأضاحي ظانين أن سيرضى عنهم بها، ولكن الله تعالى يعلن أنه لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دَمَاؤُهَا وَلَكنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)) (الحج: ٣٨).كما يقول تعالى من قبل فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ (الحج:۳۷).لقد بين الله تعالى هنا النبي رهم
الجزء السادس ۲۳۲ سورة المؤمنون فلسفة القرابين، وبين لنا الهدف من تقديم الأضاحي.فكثير من الناس يعترضون قائلين ما الفائدة من تقديم هذه القرابين؟ إن الناس يأكلون اللحم طوال السنة فما الداعي أن يأمرهم الله تعالى بذبح الحيوانات في يوم معين؟ إن هؤلاء الطاعنين لا يدرون أن الله تعالى قد أمر بهذه القرابين من أجل الفقراء الذين لا يتيسر لهم اللحم في الأيام الأخرى إلا نادرًا.لا شك أن الأثرياء يأكلون اللحم طوال السنة، ولكن الفقراء لا يجدون اللحم في بعض الأحيان لعدة شهور، فمن أجل هؤلاء قد أمر الله تعالى بذبح القرابين بمختلف المناسبات كالحج والعقيقة والزفاف.ورد في الحديث أن أحد أصحاب النبي جاءه يخبره أنه قد تزوج.فقال له النبي ﷺ: أبكرًا أم تيبا؟ قال : يا رسول الله، لقد صار إخوتي أيتاما، فتزوجت امرأة ثيبا لترعاهم ولكي أثاب على الزواج من ثيب.فقال له النبي الله أحسنت، ولكن عليك بتقديم طعام الوليمة ولو بشاة.* وقد أمرنا الإسلام بتقديم القرابين بمناسبة العقيقة أيضًا.ذلك لأن هناك ذنوبا معينة قد جعل الله تعالى كفارتها أن تقدم قرابين الحيوانات.وفي صدقة الفطر أيضًا تكمن الحكمة نفسها..أي أن يتمكن الفقراء بهذه الأموال من شراء اللحم وما إلى ذلك بمناسبة العيد.ولولا هذه الأحكام بتقديم القرابين في الإسلام لظل الأثرياء يتمتعون بأكل اللحم دون أن يهتموا بالفقراء.قصارى القول إن هناك حكمًا بالغة في أحكام الإسلام كلها، وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا بقوله (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ..أي ليس هناك حكم من أحكامنا هو خال من حكمة وفلسفة، أو ليس فيه منفعة من المنافع لبني آدم من المحال أن يتضرر الناس بالعمل بأحكام القرآن كلا، بل إن العمل بأحكامه لن يزيدهم إلا نفعا وبركة.هذا الأمر مذكور في واقعتين مختلفتين: فجابر الا الله هو الذي سأله الرسول ﷺ: "أبكرًا أم ثيبا؟ وعبد الرحمن بن عوف هو الذي قال له الرسول ﷺ: "أولم ولو بشاة".(انظر البخاري: كتاب المغازي، قوله تعالى إذ همت طائفتان، وكتاب النكاح: باب الوليمة ولو بشاة) (المترجم)
الجزء السادس ۲۳۳ سورة المؤمنون أما بناء على المعنى الثاني للحق وهو الكمال، فسيعني قوله تعالى ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بالْحَقِّ معنى آخر، وهو أن هذا الكتاب يشتمل على شرع كامل، وليس في تعاليمه ما يصير باطلاً بمرور الزمن، بل إن النظريات التي يقدمها الإسلام ستظل غالبة على الدنيا، ولن يأتي عليها وقت تشعر فيه الدنيا بحاجة إلى تغييرها.فقد ورد في القواميس أن من معاني الحق "الموجود الثابت" و"الأمر المقضي" (الأقرب).والحق أن الأمر المقضي القطعي هو الأمر الذي لا يمكن تبديله والشيء الثابت القائم هو ما يكون كاملاً.فالواقع أن قول الله تعالى وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يمثل إعلانًا بكمال القرآن الكريم، حيث بين الله تعالى أنه آخر هدي للدنيا وأكمله.وقد سجل القرآن الكريم هذه الدعوى في موضع آخر أيضا فقال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (المائدة: ٤).لقد نزلت هذه الآية على النبي ﷺ في حجة الوداع لدى فتح مكة حين فتح لـــه ولأصحابه الطريق للحج والعمرة (البخاري: كتاب المغازي، باب حجة الوداع).وكان هذا هو الحج الأخير للنبي ﷺ حيث توفي بعده بثمانين يوما، ومن أجل ذلك سمي هذا الحج حجة الوداع وقد أوصى النبي الله أصحابه في هذه الحجة وصايا تحير منها الصحابة وقالوا لماذا ينصحنا الرسول ،هكذا، ولكنه لما توفي بعد ذلك بثمانين يوما علموا عندها أن الله تعالى كان قد أخبره باقتراب أجله، فكان المسلمين عندها بوصاياه الأخيرة.لقد نصح النبي الله وقال أيها المسلمون إني أوصيكم بحسن معاشرة النساء.أيها المسلمون إني أنصحكم بحسن معاملة العبيد والخدم.ثم قال إن التناحر والتحارب أمر منكر جدًّا، لذا فأود أن أوصيكم بوصايا كما أوصى إبراهيم العلي بوصايا بشأن حرمة مكة.ألا إن دم كل مسلم وماله وعرضه حرام في شرع الإسلام، فلا يصابَن مسلم بيدكم في نفسه وماله وعرضه وبما أن العرب كانوا يتحاربون على أتفه الأمور وكانت حروبهم تستمر فترة طويلة فتحدث النبي عن الحرب وقال يجب أن توضع نهاية لهذه الحروب إذ من المستحيل أن تتحلى الأمة المتحاربة بأخلاق سامية، فقال الله ألا إني أعلن نهاية جميع تلك الحروب الجارية منذ الجاهلية في يومي هذا وفي مقامي هذا ثم ضرب النبي ﷺ الأرض بقدمه يوصي
الجزء السادس ٢٣٤ سورة المؤمنون وقال ها أنا أدوس كل تلك الدماء السابقة تحت قدمي هذه.فلا يأخذن أحد ثأره من غيره بسبب النزاعات والخصومات السابقة.ثم قرأ النبي ﷺ قول الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا.ويرى بعض الصحابة وكثير من المفسرين أن هذه الآية آخر ما نزل من القرآن على النبي ، ولكن البعض الآخر لا يرى هذا الرأي، إلا أنه لمن المؤكد أن هذه الآية هي من الآيات القلائل التي نزلت في أواخر حياة النبي ﷺ وإن لم تكن آخر آية (القرطبي).إنها تعلن أن الله تعالى قد أكمل الشريعة، فلن ينزل بعد ذلك حكم جديد، كما لن ينزل بعد ذلك ما يلغي هذه الأحكام.لقد ثبت بذلك أن شرع الإسلام مكتمل من كل النواحي وأن قانونه آخر قانون.وسواء أقبل الهندوس والنصارى هذه الدعوى أم لا ، إلا أنه لا مناص لمسلم من التسليم بأن أحكام الشرع قد أكملت في القرآن الكريم، وأن في القرآن الكريم، وأن جميع القوانين التي كانت الدنيا بحاجة إليها قد ضُمّنت فيه.لا شك أنه من الجائز سن القوانين المؤقتة أو المحلية أو القوانين العابرة لمعالجة القضايا الطارئة.فمثلا لو تحاربت دولتان اضطررنا لسن بعض القوانين لفضّ النزاع بينهما، إذ ليس من مسؤولية الشرع أن يخبرنا كيف يفض النزاع بين أمريكا وإسبانيا لو حصل بينهما.أما الأمور التي يناقشها القرآن الكريم والتي يكون الدين مسؤولاً عن إرشاد الإنسان بشأنها، فقد ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، تفصيلاً أو إجمالاً، ثم قال كنتيجة لذلك إنه قد أتم نعمته على المسلمين.أنها ورد في الحديث أنه جاء عمر له قوم بينهم يهود و نصارى إذ كان هؤلاء قد صاروا رعايا لــه فقرأ أمامهم هذه الآية، فقال له يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا نحن اليهود لاتخذنا يوم نزولها عيدًا.فقال عمر له إنك لا تدري نزلت يوم الجمعة وفي حجة الوداع، وكلا اليومين عيد لنا.إنك تقول لاتخذنا بأنفسنا يوم نزولها عيداً لنا، ولكنا لم نتخذ بأنفسنا هذا اليوم عيدا لنا، بل إن تعالى نفسه قد أنزل هذه الآية في يوم كان فيه عيدان لنا..الجمعة والحج.(البخاري: كتاب التفسير) الله
الجزء السادس بين الله لقد ٢٣٥ رة المؤمنون سورة تعالى في هذه الآية بكل جلاء أننا قد أكملنا لكم دينكم.فما من حاجة للمسلمين إلا ويسدّها القرآن ومن المحال أن يضطروا لسدّها للاستعانة من الخارج.إن جميع الأحكام مذكورة في القرآن الكريم، وإن البركة كلها في العمل بهذه الأحكام.لقد تناول الله تعالى هذا الموضوع نفسه بمزيد من الإيضاح في سورة المائدة إذ قال وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمَنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) وَأَن بمَا أَنَزِلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ احذره أَنْ يَفْتُوكَ فتَنُوكَ عَنْ بَعْضٍ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضٍ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ذَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخَذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة: ٤٩ - احكم احكم بينهم.(٥٢ الله مَا إياه؛ أي قد أنزلنا إليك كتابا كاملاً وبينا فيه الحقائق الثابتة بكل أنواعها أيما تبيان.وهذا الكتاب محقق لنبوءات الكتب السماوية السابقة ومحافظ على تعاليمها السامية.فاحكم في قضايا الناس بحسب ما أنزل الله إليك.ولو أتاك الناس بخططهم التي نسجوها من عند أنفسهم فلا تتبعهم ولا تعمل بخططهم، لأنك لو اتبعت الفلاسفة الآخرين لاضطررت لترك هذا التعليم العالي الذي وهبك إذ من المحال أن تعمل بالاثنين في وقت واحد فإما أن تعمل بهذا أو ذاك.ولو اتبعت هؤلاء لتركتَ أحكام الله وتعاليمه واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.علما أن الخطاب هنا موجه إلى الرسول ، ولكن المراد منه أمته.ذلك لأن ما كان ليتأثر من قول الأعداء أبدا، فيأمر الله تعالى المسلمين بأن لا يتبعوا النبي أقوال الناس معرضين عن تعليم القرآن الكريم وإلا سيضلون.
الجزء السادس ٢٣٦ سورة المؤمنون ثم يقول الله تعالى هنا الكُلِّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا..أي قد جعلنا لكل واحد منكم طريقًا صغيرًا أو كبيرًا للوصول إلى ماء الوحي.هناك اختلاف بين الناس.فمنهم من يقول سأتبع ما يقول ،آبائي، ومنهم من يقول سأعمل بما يقول الفلاسفة، ومنهم من يقول سأتبع ما يقول علماء الاقتصاد، ومنهم من يقول سأفعل ما يقوله رجال القانون.أما أنتم، أيها المسلمون، فسلوككم مختلف عن سلوكهم.ستقولون إنا لن نتبع إلا ما يقول الله لنا، بينما سيقول هؤلاء إننا لن نتبع إلا أحد الفلاسفة أو علماء الاقتصاد أو الصُنّاع أو رجال القانون إنهم يدعون باتباع من لا تدعون باتباعه.إنهم يتبعون الاقتصاديين والفلاسفة والمقننين، أما أنتم فتطيعون الله تعالى.فلانا ثم يقول الله تعالى (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ..أي تذكروا أن هذا الاختلاف الموجود بين الناس سيستمر إلى يوم القيامة.ستتبع أمتكم أوامر الله تعالى، بينما يتبع الآخرون ما اخترعوه من عند أنفسهم من مبادئ وقوانين.إن هؤلاء يقولون إن فلانًا من علماء النفس يقول كذا فعلينا أن نتبعه، وأن فلانًا من رجال القانون يقول كذا فعلينا أن نسير وراءه، وأن من الفلاسفة يعلن كذا فينبغي لنا اتباعه ولكنا لو أردنا لجعلنا الناس كلهم متفقين على فكرة واحدة.لقد كُنا قادرين على أن تكره الفلاسفة والمخترعين وأساتذة الجامعات ورجال القانون وكبار العلماء على اتباع الإسلام، ولكنا لم نفعل ذلك لأن الشخص المكره المجبور لا يستحق جائزة ولا إنعاما، فمثلاً مهما أسرع القطار الكهربائي فلن نستطيع أن نقول له: خُذْ هذه الجائزة لأنك جريت بسرعة كبيرة؛ ذلك لأنه لا يعمل بإرادته ولكننا نعطى الطفل جائزة إذا ما سبق أقرانه في المدرسة في الجري.ذلك لأنه استعمل عقله وإرادته وبذل جهده إنه لم يكن مُكرَها على بذل الجهد، وإنما كان حرا في أن يتكاسل ويتهاون، ولكنه قدم نموذجًا أحسن من غيره.لقد استيقظ مبكرًا، وتروّض على الجري، ورفع مستوى صحته، وسبق أقرانه.فكل ما فعل إنما فعله بإرادته ورضاه، ولذلك نال الجائزة.وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا ويبين لنا السبب وراء عدم لجوئه إلى الجبر والإكراه
الجزء السادس ۲۳۷ سورة المؤمنون رغم كونه قادرًا على ذلك إنه تعالى يعلن أنه قد خلق الفلاسفة ورجال الاقتصاد والقانون والعلماء لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ..أي لكي يختبركم فيرى مَن يُرضي الله تعالى ومَن يتبع أهل الدنيا.بيد أنه تعالى يقول بعد ذلك فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بمَا كُنتُمْ فيه تختلفُونَ...أي عليكم أن تدخلوا في سباق آخر ضد أهل الدنيا.إن فلاسفة الدنيا ورجال الاقتصاد سيقدمون خططهم إزاء الخطة التي يقدمها القرآن الكريم، وعندها تُختبرون باختبار صعب، لأنكم ستسمعون صوت الفلاسفة والعلماء إزاء نداء الله تعالى وعندها قد تستسلمون لهم معترفين بهزيمتكم و انتصارهم، أو قد تلجأون إلى المكابرة والعناد، فتقولون بلسانكم أن خطة القرآن هي الخطة المثلى دون أن تؤكدوا صدق دعواكم بأعمالكم، وفي هذه الحالة لن تصدقكم الدنيا لأنها ستنظر إلى أعمالكم لا إلى ادعائكم.فإذا لم تعملوا بأنفسكم بأحكام القرآن ولم تسيروا وفق تعاليمه فإن إشادتكم به بلسانكم فقط ستلطخ سمعته أكثر.لذا فَاسْتَبقُوا الْخَيْرَات...أي إذا كنتم مؤمنين صادقين، وإذا كانت قلوبكم عامرة بالإيمان حقا، وإذا كنتم تحبون محمدًا رسول الله ﷺ حبًّا صادقًا، فسارعوا إلى العمل بأفضل ما آتيناكم من تعاليم وأحكام، واجعلوها جزءا من حياتكم العملية.وحيث إنكم تملكون أفضل الخطط وتعملون بحسبها أيضا، فستضطر الدنيا لاتباعكم تاركة ما عندها من خطط ناقصة وقوانين فاسدة.وبتعبير آخر، لا سبيل لجلاء صدق الإسلام وعظمته على الدنيا إلا أن تسعوا جاهدين للعمل بأحكام القرآن وتطبيقها في حياتكم العملية.ثم يقول الله تعالى إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) وَأَن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ..أي يا من تدعون باتباع محمد رسول الله ، إننا نأمركم مرة أخرى بأن تعرضوا على الناس القرآن الذي أنزلنا إليكم، ولا تتبعوا الذين يقدمون للناس خططهم التي نسجتها عقولهم.ثم يقول الله تعالى ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..أي إذا لم تَعُوا رسالة القرآن ولم تعملوا بمنهجه، فإن ضعفاء الإيمان منكم سيأخذون في
الجزء السادس ۲۳۸ سورة المؤمنون اتباع الخطط الناقصة التي تُعرَض عليهم من قبل الدنيا، متخذين القرآن مهجوراً.وبالفعل ترى هذا المشهد ماثلاً أمام أعينك اليوم.لقد كان عند المسلمين تعليم عال، ولكنهم لم يعملوا به، فتولدت بينهم أفكار بأنه لا بد لهم من خطة أخرى إضافة إلى الخطة القرآنية من أجل رقيهم القومي.ولما كان من الوارد أن ينتاب البعض تفكير بأن الآخرين يكونون أحزابا كبيرة لإنجاح خططهم الجديدة، فقد ينجحون ونبوء بالفشل، لذا فقد قال الله تعالى بعد ذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضٍ ذُنُوبِهِمْ وَإِنْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ..أي ما دمتم عاملين بأحكام الإسلام، فإن الله سيسحق هؤلاء القوم بسبب ذنوبهم وإن كانوا أكثر منكم قوة إذ لم يتبعوا تعاليم الإسلام فلا تنخدعوا بخططهم المحكمة في الظاهر، بل لو أمعنتم النظر لوجدتم أنهم إنما يريدون تقوية حزبهم وجماعتهم فقط، ولا يريدون منفعة الخلق كلهم أبدا.ثم يقول الله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ...أي إذا كان هؤلاء يريدون حكم الجاهلية فذاك شأنهم، ولكن المؤمن الصادق يرضى بحكم الله تعالى، ولن يرضى بحكم سواه.ثم يقول الله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ..أي، أيها المؤمنون، إذا كان الله تعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب فمن ذا الذي هو أحكَمُ خطةً وأفضل تعليمًا منه تعالى فإما أن تقولوا أنه ليس هناك إله لهذا الكون، وأن محمدا ليس رسوله وأن هذا الكتاب ليس من عنده تعالى؛ وإذا كنتم غير مستعدين لقبول هذه الأمور، بل تؤمنون حقا بأن القرآن كتاب الله تعالى وأن محمدا رسول الله حقا، فكيف يمكن أن تصدقوا بأن الزعيمين الروسيين لينين وستالين " مثلاً قادران على سن قانون جيد، ولكن الله تعالى ليس بقادر على ذلك، أو أن علما أن هذا التفسير قد تم تأليفه قبل حوالي نصف قرن من الزمان حين كانت الاشتراكية على أوجها.(المترجم)
الجزء السادس ۲۳۹ سورة المؤمنون الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على سن قانون جيد، ولكن الله تعالى لا يستطيع ذلك.إن هذا الزعم يماثل قول شخص يزعم أن بإمكانه أن يشتري بقرش واحد سكرًا أكثر مما يشتريه بجنيه.بل الواقع أن هناك مجالاً للمقارنة بين القرش والجنيه، ولكن لا مقارنة بين الله تعالى وعباده إن الله تعالى عالم الغيب وخبير بأحوال العباد، وعنده العلم الكامل بما هو خير لهم وبما هو ضار بهم؛ فمن المستحيل أن يكون قانونه ناقصاً، وتكون قوانين العباد منزهة عن النقائص والعيوب.بيد أن الله تعالى قد صرح بقوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أن هذا الأمر إنما يفهمه الذين يوقنون بكلام الله تعالى، ولن يستوعبه الذين يرفضون كلامه تعالى بمجرد سماعه.ثم يقول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ..أي أيها المؤمنون تذكروا أن اليهود والنصارى سيكونون غالبين في العالم في الأيام التي ستحل بكم هذه الآفات وسيقومون بنسج خطط جديدة للتصدي للإسلام، فلا تعدوهم أصدقاء لكم أبدا، ولا تظنن أنهم يقدّمون هذه الخطط لصالحكم ورقيكم.وبالفعل ترى أن كل نظرية يتم ترويجها وتطبيقها في العالم اليوم إما هي نظرية يهودية أو مسيحية.فإن لينين..مؤسس الاشتراكية..كان يهوديا، وستالين أيضا كان يهوديا.وكذلك فرويد الذي أضرت فلسفته بالدنيا جدا كان يهوديا.وبعض هؤلاء الذين يقدمون نظرياتهم الفلسفية مسيحيون قصارى القول إن جميع الفلسفات التي نراها اليوم في الغرب إمّا هي من صنع اليهود أو من صنع المسيحيين.ولذلك يقول الله تعالى محذرًا إيانا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ..أي أن اليهود والنصارى في ذلك الزمن الموعود سيعرضون عليكم خططاً رائعة في الظاهر وسيسعون لأن تتبعوهم، ولكنا ننصحكم بألا تتخذوهم أصدقاء أبدًا.بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض...إن خططهم ستجلب لهم بعض المنافع، ولكنها لن تنفعكم شيئًا بحال من الأحوال.وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ منْهُمْ..وتذكروا أن من آثر صداقتهم فلن يُعَدّ مسلما عند الله تعالى، بل سيعد يهوديا أو نصرانيا.إن الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ..أي أن الذين يدخلون في
الجزء السادس ٢٤٠ سورة المؤمنون دين ثم يغدرون به فإنهم ظالمون عند الله تعالى، واعلموا أننا لا نترك الظالم أبدا، بل نعاقبه حتما.والواقع أن هذه الآيات من سورة المائدة تفسير لقول الله تعالى ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بالْحَقِّ، حيث بين الله تعالى فيها أن القرآن ما دام يحتوي على كافة الأحكام، وما دمنا قد ذكرنا فيه كل ما لا بد منه لرقيكم، فأي داع بعد ذلك لأن تتبعوا هؤلاء وتتركوا تعليم الإسلام والقرآن إذا لا يريدون بخططهم إلا مصلحة أقوامهم.وبالفعل ترى أن هناك الكثير من النظريات الغربية التي تُرسل إلى بلادنا لتفرض علينا حينما تصبح بالية عديمة الجدوى.علينا أن نرى أيهما أكثر نفعًا لبلادنا أهي البنادق أم النظريات الفلسفية من البديهي أن النظرات الفلسفية الجيدة خير لبلادنا من البنادق ولكن خبرتي تؤكد أنه كلما رفضت أوروبا فلسفة ما باعتبارها عقيمة غير صالحة للعمل أخذ الأساتذة في كليات بلادنا بعد عشرين سنة بتعليم نفس الفلسفة العقيمة زاعمين أنها نظرية جديدة قدمتها أوروبا.والحق أن مثلهم كمثل ما فعل بأحد البراهمة الهندوس.يقال أن برهمنا زار أحد المهاراجات وطلب منه المعونة - والمفروض في الديانة الهندوسية ألا يُردّ البرهمن بدون عطاء وإلا نزل غضب الله تعالى - وكان المهاراجا شخصًا بخيلا ولم يرد أن يعطي البرهمن شيئًا، ولكنه كان مضطرًا بحسب ما يأمره دينه.فدعا وزيره وقال لـه: أعطه البقرة التي هي مفقودة منذ السنة الماضية.وكان ابن المهاراجا واقفا بجنبه وكان أشد بخلاً من أبيه، ففكر في نفسه أن هذا البرهمن يحترمه الناس، فلعله يعلن بين القوم عن البقرة المفقودة فيتم العثور عليها فيأخذها فعلاً.فقال لأبيه: يا أبت لم تؤتيه تلك البقرة؟ أعطه البقرة التي ماتت قبل سنتين ! هذا ما يفعل بنا أهل أوروبا، حيث يلقون إلينا كل ما أصبح باليًا رديئًا عديم الجدوى، ويقولون خذوا منا إن شئتم هذه البنادق العتيقة التي استعملت قبل خمس عشرة سنة، وهذه الدبابات المصنوعة قبل عشرين سنة، أما البنادق الحديثة والدبابات الحديثة فإننا بحاجة إليها.وكذلك يبيعوننا المدمرات (Destroyer) والسفن الطوافة (CRUSIER) القديمة المصنوعة قبل عشرين سنة مثلاً ويقولون خذوها وعليكم
الجزء السادس ٢٤١ سورة المؤمنون بتصليحها بأنفسكم.ولو طلبت اليوم من الأوروبيين القنبلة الذرية لن يعطوكم إياها أبدا ولكن عندما سيعم في المستقبل استخدام الطاقة الذرية في العالم وستستعملها كل دولة سترون أن أمريكا ستعرض عليكم شراءها قائلة بأن عندها مثلاً ٢٥ قنبلة ذرية قديمة صُنعت في سنة كيت وكيت ويمكنكم شراؤها.إذا، فما دام الغرب مترددًا في أن يبيع لنا سلعه المادية الحديثة فكيف يظن أهل الرأي والفكر عندنا أنه سيعطينا بدون توقف الفلسفات والنظريات التي تبني الشعوب وتنهض بالبلاد وتحقق لها الغلبة والعظمة في العالم؟ الواقع أنهم عندما يملون نظريةً ما ويرون أنها أصبحت عقيمة عديمة الجدوى يقولون لنا خذوها وروجوها عندكم.وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا ويقول للمؤمنين لم لا توقنون أنهم ليسوا لكم من الناصحين الأمناء؟ لم لا ترون أولاً أن القرآن دستور قد سنّه الله تعالى، أما قو قوانينهم فهي من صنع البشر وهيهات أن يستوي قانون الله تعالى وقانون البشر.وثانيًا إن هؤلاء أعداء لكم، ومن المستحيل أن يروا تقدمكم وإحرازكم مكانة مرموقة في العالم.فمتى تريد أمريكا أو روسيا أن تتخلف ولا تتقدم وتسبقها الدول الأخرى؟ فمثلاً لو صارت بلادنا دولة صناعية كبرى فهل تستورد بعد ذلك المنتجات الأمريكية كما تفعل الآن؟ فمتى تريد أمريكا للدول الأخرى التقدم الذي يغنيها عن استيراد المنتجات الأمريكية؟ إنها ستتخذ حتمًا من التدابير ما يساعدها هي الرقي ويخلّف الدول الأخرى.إن أمريكا لن تأخذنا إلى الدرجة الثانية من الرقي إلا إذا وصلت هي إلى الدرجة الثالثة.وسنظن عندها أننا قد قطعنا شوطا كبيرًا من التقدم، والواقع أنها تسمح لنا الوصول إلى الدرجة الثانية لأن تلك الدرجة لم تعد لها ذات جدوى، إذ قد صعدت هي إلى الدرجة الثالثة.أما من الناحية الدينية فترى أن أوروبا تعرض علينا تعليم المسيحية الذي نزل قبل القرآن الكريم بستة قرون، ونُسخ بنزوله، وهكذا فإنهم يريدون أن يجرونا إلى الوراء كي لا نبقى صالحين لشيء.ولكن الغريب أن المسلم إنما ينظر إلى ملبسهم وطعامهم وفيلاتهم وطائراتهم، دون أن يدري أنهم يريدون أن يستعبدوا عقله.على سلم
الجزء السادس ٢٤٢ سورة المؤمنون قصارى القول إن الله تعالى قد أشار بقوله (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ إلى اثنتين من المزايا العظيمة للقرآن الكريم أولاهما أن جميع أحكامه مبنية على الحكمة البالغة، وثانيتهما أنه أكمل وآخر هدي للدنيا من حيث قوانينه.وحيث إن الله تعالى قد راعى في القرآن كافة الطبائع البشرية، وحيث إن أحكامه مبنية على الحكمة، وحيث إن شرعه مكتمل من جميع النواحي، فماذا تحتاج إليه الدنيا بعد ذلك لنجاتها؟ إنما يكمن نجاحها ونجاتها في أن تصدق القرآن وتعمل به مدركة بأن ما ورد في هذا الكتاب هو الحق والصدق.بيد أن الله تعالى يبين في قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُون ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ أنه برغم أن هذا الشرع صالح للعمل ومكتمل من كل الأنبياء لا يسعون للتقدم في مجال الخير بل يظلون نائمين خصوم النواحي إلا أن يغطون في الغفلة إلى أن يأتيهم العذاب ويُدمرون.وهكذا أوضح الله تعالى أن هؤلاء لا يقبلون الحق لسببين أولهما أنهم غافلون ولا يبالون بكلام الله تعالى، وثانيهما أن سوء أعمالهم يحول دون قبولهم الحق.ولو أنهم تركوا الغفلة وعملوا الصالحات بدلاً من السيئات لتيسر لهم الهدى.واعلم أن هذه الآية ترد - ضمنيًّا - على الشيعة أيضًا.يقول الشيعة إن الخلافة كانت حقا لعلي ، وكان من المفروض أن يكون هو الخليفة، ولكن أبا بكر غصبه حقه هذا فالله تعالى يرد عليهم بقوله (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) مبينًا أننا إذا قررنا أن نؤتي أحدًا جائزة فلا يمكن أن يحرمه أحد من حقه هذا لأن ما يقوله القرآن لا بد أن يتحقق.إذا كان القرآن قد قرر بأن الخلافة أو الإمامة حق فكان المحال أن من ينتزع منه هذا الإنعام أي قوة في العالم.ونظرا إلى هذا المعنى سيعني قوله تعالى بَل قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَة مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالُ مِنْ دُون ذَلكَ لَهَا عَامِلُونَ أن الذين يقولون من جهة أن القرآن قد أعطى هذا الحق لعلي ومن جهة أخرى يزعمون أن الناس قد غصبوه حقه هذا فإنهم يجهلون معارف القرآن الكريم، وبما أن ما يعملون به لا يتوافق مع القرآن فلا يمكن أن يتولد في قلوبهم ذلك الإيمان الذي يتولد في الذين يعملون بالقرآن الكريم لعلي حقا.
الجزء السادس ٢٤٣ سورة رة المؤمنون حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْرُونَ * لَا تَجْرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لَا تُنصَرُونَ (3) قَدْ كَانَتْ ءَايَتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ تَنكِصُونَ ) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَمِرًا تَهْجُرُونَ شرح الكلمات:.يجأرون جَارَ الداعي جَارًا: رفع صوته بالدعاء وجَأَرَ إلى الله بدعاء: صَجَّ وتضرع واستغاث (الأقرب).سامرا : اسم فاعل من سَمَرَ فلان أَي لم يَنَمْ وتحدَّثَ ليلاً (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن الذين لا يحققون المشيئة الإلهية ينالون في بعض الأحيان الثروات، ولكنها لا يمكن أن تنقذهم من عذاب الله تعالى.إنهم يظلون مغرورين بثرواتهم حتى يفاجئهم العذاب فيبكون ويصرخون مستغيثين، فنقول لهم عندها لا فائدة الآن من البكاء كيف يمكن أن نساعدكم اليوم وقد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم لا تبالون بها، بل كنتم تولّون عنها الأدبار مستكبرين و لم تتدبروا فيها قط.وكنتم تجعلون تعليمنا عرضة للطعن في مجالسكم ليلاً، فرأيتم نتيجة ذلك، حيث أرداكم كبركم و لم تنفعكم ثرواتكم شيئًا.أي أنه حين يحل العذاب من عند الله تعالى فلا ينفع البكاء والعويل لأن عذابه ينزل بعد إقامة الحجة، ولا فائدة من البكاء على نزول العذاب بعد إقامة الحجة.
الجزء السادس ٢٤٤ سورة المؤمنون أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (3) 79 أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (3) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ وم ج جنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُم لِلْحَقِّ كَرِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ で الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ شرح الكلمات : ۷۲ أنه ذكر : الذكر : التلفظ بالشيء وإحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيت؛ الثناء الشرف؛ الصلاة لله تعالى والدعاءُ؛ الكتاب فيه تفصيلُ الدِّين ووضع الملل؛ والذكر من الرجال: القويُّ الشجاعُ الأَبي؛ والذكر من المطر: الوابل الشديد؛ والذكر من القول: الصلب المتين (الأقرب).التفسير: أي ألم يعرف خصوم محمد الله ورسولهم حتى رفضوه..بمعنى أنه لمن الغريب أنهم عاشروا محمدًا أربعين سنة وشاهدوا أخلاقه وسيرته، واعترفوا اعتراف شاهد عيان أنه إنسان صادق، ولكن هذا الإنسان الصادق عندما أخبرهم مبعوث لهدايتهم من عند الله تعالى انبروا لمعارضته.لو أن شخصا أجنبيًا قال لهم هذا الكلام لعُدّوا من المعذورين إذ يقال إنهم لم يشهدوا حياته فظنوه مفتريا.ولكن كيف يحق لأهل مكة أن يرموا محمدا له بالافتراء وقد كانت حياته كلها كتابًا مفتوحا أمامهم؟ لقد كانوا معترفين بصدقه الدرجة أنه لما ادعى النبوة اجتمعوا للتشاور وتداول الرأي، وقالوا: سيأتي الناس هنا من الخارج في أيام الحج وسيسألوننا عن دعواه فماذا نجيبهم؟ فقال أحدهم لو سألنا عنه أحد سنقول لـه على الفور إنه كاذب.فقام النضر بن الحارث وكان من ألد أعدائه وقال في حماس شديد: كيف تقولون ذلك وقد ولد محمد بين ظهرانيكم وترعرع وشب،
الجزء السادس ٢٤٥ سورة المؤمنون وتعلمون أنه مرضي الأخلاق.لقد كان أصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانةً.لقد عاش بينكم معروفًا بالصلاح والأمانة، حتى إذا رأيتم في صُدُغَيه الشيب، وخرج من شبابه ودخل في أيام كهولته، وجاءكم بما جاءكم به من التعليم، قلتم إنه كاذب.والله إنه ليس بكاذب.ولو قلتم هذا الكلام الهراء للناس فلن يصدقكم أحد *.(الشفاء للقاضي عياض، الجزء الأول ص ٥١).و كم كان أبو جهل يعادي النبي ، ولكنه هو الآخر قال له في إحدى المرات: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئتَ "به" (الترمذي: كتاب التفسير، سورة الأنعام).وهذا يعنى أن قلب هذا العدو اللدود السيئ الباطن أيضًا لم يجرؤ على أن النبي كاذبًا.فكأنه عندما نسب الكذب إلى النبي ﷺ أنبه ضميره وارتعد قلبه لائمًا إياه : ما هذه الفعلة الشنيعة التي ترتكبها.ولكنه احتج وقال إني لا أكذب محمدًا، وإنما أكذب ما جاء به.والحق أن عذره هذا مصداق لقولهم: "العذر أقبحُ الذنب".على أية حال، إن هذا يكشف لنا مدى الأثر الكبير الذي تركه صدق النبي وسداده على قلوب ألد أعدائه.يسمي من وكان أمية بن الخلف من أشد خصومه ، ولكنه لم يملك نفسه ذات مرة فقال "والله ما يكذب محمد إذا حدث" (البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام).يقال: "إن السحر ما يتكلم بنفسه.فترى كم كان سحر الأخلاق النبوية قويًّا حيث جعل أعداءه أيضًا يعترفون بصدقه وأمانته.وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا فيقول أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ...أي ألا يرون إلى حياة محمد الطاهرة المنزهة عن كل عيب؟ بمعنى أنه كان من المفروض أن يعرفوا فورًا أنه صادق، ولا يندفعوا إلى تكذيبه ولكن قد صارت عيونهم في غطاء وهم يبصرون، وتكلموا كالغرباء وهم يعرفون.عنه نص ما ورد في المصدر المشار إليه هو: "قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدُغَيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر.والله إنه ليس بساحر." (المترجم)
الجزء السادس ثم يقول الله تعالى أَمْ يَقُولُونَ به ٢٤٦ سورة المؤمنون جنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ..هل يقولون أن هذا الإنسان على صلة بالجن.كلا، إنما الأمر الواقع أنه قد جاءهم بتعليم يظنون أن العمل به صعب فينظرون إليه كارهين.ذلك لأن العمل بهذا التعليم سيقضي على سيادتهم ومناصبهم، وهذا ما لا يستطيعون قبوله.أن المعارضين لما وجدوا من المستحيل أن يتهموا محمدا رسول الله ﷺ بالكذب غيّروا استراتيجيتهم فأخذوا يقولون إنه لا يكذب، ولكنه على صلة بالجن الذين يعلمونه هذا الكلام.وهذا يعني يُعد يعترض هنا المسيحيون ويقولون ما هذا الكلام الهراء الذي يدل على الغباء والوهم؟ ولكن هؤلاء لا يفكرون أن هذا الوهم هو وهم الكافرين، ومتى الكفار من أهل العقل والدهاء؟ ثم إن الإنجيل نفسه يقول إن خصوم المسيح العليا قالوا عنه: "به شيطان وهو يهذي" (يوحنا ١٠ : ٢٠).فما دام هذا الكلام نفسه قد قيل في زمن المسيح الا و لم يستغربوا منه، فلماذا يستغربون منه إذا ما قيل في زمن الرسول ؟ على كل حال، إن الله تعالى قد رد على اعتراض الكفار بأن به جنّة، بقوله تعالى (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ بينما بين بقوله تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) السبب وراء إنكارهم.فردَّ على اعتراضهم وقال: متى قدّم الذين لهم صلة بالجن تعليمًا للناس فيه حلول لكافة مشاكلهم الأخلاقية والروحانية والاقتصادية والسياسية، وضمان لهم بالترقيات العالية إذا ما عملوا به.وإذا كان هذا لم يحدث في الماضي قط فكيف يمكن أن يكون محمد على صلة بالجن مع أنه يعرض على الناس هذا التعليم العظيم؟ أما قوله تعالى (وَأَكْثَرُهُمْ للْحَقِّ كَارِهُونَ فبين فيه أنهم لا يرفضون ما يقوله محمد لعيب فيه، وإنما السبب الحقيقي أنهم لا يريدون اتباع الحق والعمل به ذلك لأنهم لو آمنوا بمحمد لتعرضوا للتعذيب ولسمعوا أفظع السباب، واضطروا للتضحية بالنفس والنفيس وترك الوطن والتخلي عن السيادة.وهو أمر لا يحبونه أبدًا، فلذا يبحثون عن شتى الحجج والمبررات المعارضة محمد ﷺ فتارة يقولون إنه كذاب، ويزعمون تارة أخرى أنه على صلة بالجن، ويريدون أن لا =
الجزء السادس أسباب ٢٤٧ سورة المؤمنون ينكشف الحق على الدنيا؛ مع أن الحق لو جُعل تابعًا لأهواء الناس لفسدت السماوات والأرض..أي حُرم الناس من التعلق بالله تعالى كما لم تتيسر لهم أي هداية في مجال التعلق بالعباد، وبالتالي عم الظلام والضلال كلّ مكان في العالم.ثم يقول الله تعالى بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ..أي أنّ عزهم وشرفهم تكمن في العمل بتعليم القرآن فالواقع أنهم لا يُعرضون عن القرآن وإنما يُعرضون عن رقيهم وازدهارهم.لقد أشار الله تعالى باعتبار القرآن "ذكرًا" في هذه الآية إلى أن هذا الكتاب ليس متسما بالشرف والعظمة المتناهية من حيث كمالاته الذاتية فحسب، بل إن الذين يعملون به بصدق القلب يصبحون معززين ومكرمين في الدنيا.وهذا ما حدث بالفعل، حيث بعث محمد رسول الله ﷺ في أمة غير متحضرة جاهلة تماما بأصول التهذيب والتحضر.لقد وجدت فيها كل العيوب والمساوئ.كانوا مشهورين بالسرقة والسطو وقطع الطرق، مشغوفين بالفسق والفجور.كان قتل شخص أمرًا عاديًّا عندهم.كانوا يتزوجون أمهاتهم كانوا نشوانين بالخمر كل حين.كانوا يئدون البنات ويعاملون النساء كأنهن حيوانات كانوا يتحاربون على أتفه الأمور وكانت حروبهم هذه تستمر في بعض الأحيان سنوات وسنوات.باختصار لم يكن لهم فضل على غيرهم خلقيًا ولا سياسيا وحضاريًا، كما لم تكن عندهم رغبة في الدين.ولكنهم صاروا أساتذة العالم في أيام معدودات بفضل اتباع محمد رسول الله وببركة القرآن الكريم، ووضعوا الأساس لحضارة جديدة.اصطدمت بهم إمبراطوريات کسری و قیصر فتمزقت إربا.وحيثما ذهبوا أجروا من العلوم والمعارف أنهارا.فقبل بعثة النبي ﷺ لم يكن للعرب أية معرفة بعلم التاريخ والصرف والنحو والفقه وأصول الفقه، ولم يكونوا يعرفون ما هو علم المعاني وعلم البيان، وما هو علم البلاغة أو علم الاقتصاد أو علم الكلام ولكن بعد نزول القرآن الكريم قد نشر الله تعالى في العالم كل هذه العلوم بواسطة هؤلاء البدو ورعاة الإبل.كما تعلمت أوروبا من المسلمين أنفسهم فن العمارة ونسج السجاد والزخرفة المعمارية.بل إن فن الموسيقى التي قد أصبح العالم "المتحضر" كله مشغوفا بها قد
الجزء السادس ٢٤٨ سورة المؤمنون اخترعها المسلمون أنفسهم، وهي حقيقة يعترف بها الكتاب الأوروبيون أنفسهم.و نفس الحال بالنسبة للفلسفة التي يظن الناس أنها من اختراع الأوروبيين، فقد أعلن بعض فلاسفتهم أنه زعم باطل، إذ إنهم مدينون للمسلمين بهذا الصدد أيضًا.قصارى القول إن القرآن الكريم قد منح المسلمين من العز والشرف ما جعلهم معلمين وأساتذة للعالم.في عهد سيدنا عمر له لما تولى العرش يزدجرد" حفيد "خسرو" وأخذ في التجهيزات الحربية على نطاق واسع في العراق ضد المسلمين، وجه إليه عمر الله جيشًا تحت قيادة سعد بن أبي وقاص له فاختار سعد منطقة القادسية للمعركة، وبعث بخريطتها إلى عمر.فأُعجب عمر بهذا الاختيار، ولكنه كتب إلى سعد أن عليه قبل الخوض في الحرب ضد الملك الإيراني أن يبعث إليه وفدًا يدعوه إلى الإسلام.فبعث وفدًا لمقابلة الملك.ولما وصل إليه الوفد قال لترجمانه قل لهؤلاء: لماذا جاؤوا هنا، ولماذا يعيثون في أرضنا فسادًا ؟ فقام رئيس الوفد نعمان بن مقرن وقال في جوابه: إن الله تعالى قد بعث فينا نبيا اسمه محمد.وقد أمرنا بنشر الإسلام ودعوة الناس كلهم إلى الانخراط في هذا الدين وما جئناك إلا لندعوك إلى الإسلام.فغضب الملك يزدجرد من جوابه وقال له: إنكم أمة همجية تأكل الميتة.فإذا كان الجوع قد دفعكم إلى الهجوم علينا فإني معطيكم من الأموال ما يضمن لكم الأكل والشرب والملبس مطمئنين.فخذوا مني هذه الأموال وارجعوا إلى بلادكم، ولا تملكوا أنفسكم بالحرب ضدنا فلما انتهى الملك من كلامه قام المغيرة بن زرارة من قبل الوفد المسلم وقال : إن ما قلت فينا حق وصدق.لا شك أننا كنا أمة وحشية تأكل الميتة والثعابين والعقارب والجراد والسحالي.ولكن الله تعالى قد تفضل علينا برحمته وبعث فينا رسول لهدايتنا، فآمنا به وعملنا بأوامره، فحدث في أنفسنا انقلاب عظيم، و لم تعد فينا تلك المساوئ والنقائص التي أشرت إليها.واعلم أننا لن نتأثر من أي إغراء.لقد بدأت الحرب بينك وبيننا وسيُحسم الأمر الآن في ساحة القتال، ولن تستطيع أن تثنينا عن عزائمنا بإغرائنا بالمال ومتاع الدنيا.فاستشاط الملك غضبًا وقال لمن حوله: اذهبوا وأحضروا كيسا من التراب.فلما أتوا بالتراب
الجزء السادس ٢٤٩ سورة المؤمنون سمع دعا الملك رئيس الوفد المسلم وقال له: لأنك رفضت ما عرضت عليك فلن أعطيك الآن إلا هذا الكيس من التراب.فانحنى الرئيس المسلم وحمل الكيس على ظهره.ثم خرج بسرعة من بلاط الملك وهو يهتف لزملائه بصوت عال: قد آتانا ملك الفرس اليوم أرض بلاده بيده ثم ركبوا جيادهم مسرعين بشدة.فلما الملك هتافهم ارتعدت فرائصه وقال لحاشيته اذهبوا بسرعة واستردوا منهم كيس التراب، فإنه من الشؤم الكبير أن أعطيهم تراب أرضي بيدي.ولكن المسلمين كانوا قد خرجوا بعيدا على متون جيادهم.ثم في نهاية المطاف حصل ما قاله المسلمون حيث وقعت إيران كلها في قبضتهم (محاضرات) تاريخ الأمم الإسلامية الجزء الأول ص ۲۰۹-۲۰۳، ومقدمة ابن خلدون الجزء الثاني: أخبار القادسية ص كيف حصل هذا الانقلاب العظيم في المسلمين؟ إنما سببه أن تعليم القرآن الكريم قد أحدث تغيرًا عظيمًا في أخلاقهم وعاداتهم، قاضيًا على حياتهم السفلية، صاعدا بهم إلى مقام عال من السلوك القويم والخلق العظيم..(٩١-٩٤ ورد في التاريخ أن عمر الله خرج للحج مرة، وتوقف في مكان في الطريق.كانت الشمس شديدة الحرّ وكان العرق يسيل منه، ولكنه ظل واقفا هناك وقتًا طويلاً، ولم يجرؤ أحد من رفقائه على أن يسأله عن سبب وقوفه هناك في الشمس المحرقة.وبعد انقضاء وقت طويل تقدم الناس إلى صحابي كان صديقا حميما لعمر وقالوا له اسأل عمر عن سبب وقوفه هنا.فقال لعمر سيدي لماذا أنت واقف هنا والشمس محرقة والناس يعانون! فقال إنني واقف لأنني كنت ذات مرة أرعى الإبل هنا في صغري، فنمت بعض الوقت تحت شجرة هنا لشدة التعب، فجاء أبي فوجدني نائما فأخذ يضربني ويقول هل بعثتك مع الإبل لتتركها وشأنها وتنام.فاليوم لما مررت بهذا المكان قلت في نفسي كم هي رفيعة هذه المكانة التي منحني الله تعالى إياها ببركة تصديقي محمد رسول الله ﷺ حيث إن مئات الآلاف من الناس جاهزون لإراقة دمائهم من أجلي مع أنني لست إلا ذلك الراعي الذي كان
الجزء السادس ٢٥٠ سورة المؤمنون يرعى الجمال في هذه البرية وحيدا، والذي كان أبوه يضربه لأنه كان ينام في بعض الأحيان لشدة التعب.ثم انظروا إلى أبي بكر الذي كان تاجراً عاديًا.ولولا بعثة النبي ﷺ في مكة لما كتب المؤرخون في تاريخ مكة عن أبي بكر إلا أنه كان واحدا من التجار العرب الشرفاء.ولكن ببركة اتباع محمد رسول الله ﷺ نال أبو بكر ذلك المقام السامي، حيث إن الدنيا كلها تبجله وتحترمه.لما اختاره المسلمون خليفة وقائدًا لهم عند وفاة النبي ، بلغ هذا الخبر أهل مكة.وكان والد أبو بكر ، واسمه أبو قحافة، جالسًا مع القوم حين سمع أن الناس قد بايعوا على يد أبي بكر، فلم يصدق الخبر بتاتا، وقال لصاحب الخبر: من هو أبو بكر هذا؟ قال: ابنك.ثم أخذ يعدّد القبائل العربية ويقول له إن هؤلاء أيضًا قد بايعوا على يد ابنك واختاروه بالإجماع خليفة وسيّدا عليهم.فلم يملك أبو قحافة نفسه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.وذلك برغم أنه كان مسلما من زمان وإنما أعاد كلمة الشهادة وأقر برسالة النبي لا لا لا لا ثانية لأنه حين صار ابنه خليفة انكشفت عليه الحقيقة تماما حيث أدرك أن هذا دليل عظيم على صدق الإسلام إذ لولا ذلك لما كان العرب ليجتمعوا كلهم على يد أبي بكر أبدًا.باختصار، إن الإسلام قد رفع أتباعه من الثرى إلى الثريا، والتاريخ حافل بإنجازاتهم ولا يسع أي إنسان ذي بصيرة أن ينكر أن القرآن قد منح أتباعه صيتًا خالدًا، وزادهم شرفا على شرف.أما الذين لم يقبلوا رسالة القرآن الكريم فإنهم فقدوا عزتهم السابقة وسقطوا في الحضيض حتى لا يعرف الناس اليوم أسماءهم، وأما ورد في الطبقات الكبرى عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: "أقبلنا عمر بن الخطاب قافلين من مكة حتى إذا كنا بشعاب ضحنان وقف الناس، فكان محمد يقول: مكانًا كثير الشجر والأشب.قال فقال: لقد رأيتني في هذا المكان وأنا في إبل للخطاب، وكان فظا غليضًا، أحتطب عليها مرة وأختبط عليها أخرى ثم أصبحت اليوم يضرب الناسُ بجنباتي، ليس فوقي أحد." (الجزء الثالث ص ٢٠٢: عمر بن الخطاب) (المترجم)
الجزء السادس ٢٥١ سورة رة المؤمنون الذين أسماؤهم معروفة بين الناس فلا يذكرهم أحد بخير، بل يذكرونهم بالسوء والذلة والهوان.أَمْ تَسْلُهُمْ حَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (2) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَن الصِّرَاطِ لَتَكِبُونَ ) شرح الكلمات: خَرْجًا: الخَرْج: الخَراج (الأقرب).Vo التفسير: أي ما دمت لا تسأل هؤلاء أي شيء حتى يشق عليهم قبول تعليمك.لو كنت تطالبهم بشيء لنفسك لكان هناك مبرر لما يفعلون، ولكن الله تعالى قد حمل عنك كل أعبائك وهو الذي تكفل ،رزقك، وهذا هو الأفضل، فلم لا يفتحون عيونهم رغم رؤية هذه الآية العظيمة ولا يعترفون بصدقك.بمعنى أن أكبر عائق يصدّهم عن تصديقك إنما هو ظنهم أن محمدًا ربما يعيب آلهتهم لينال السيادة، أنه لو كان هدفه من هذا الكفاح الوصول إلى السيادة لطالب بها أهل مكة ولو مرة واحدة على الأقل.وعلى النقيض إن أهل مكة أنفسهم قالوا لمحمد أنه إذا كان يريد الحكم والسيادة فإنهم مستعدون ليختاروه سيدا عليهم أجمعين، وإذا كان يريد المال فيعطونه من المال ما يجعله أكثر العرب ثراء، وإذا كان يرغب في الزواج من امرأة جميلة فسيزوجونه بأجمل فتاة من أعز بيت؛ وكل ما يريدون منه في المقابل أن لا يعيب آلهتهم.ومع وفي إحدى المرات جاء رؤساء قريش أبا طالب وطالبوه أن يكف ابن أخيه عن أن يعيب آلهتهم، ولما بلغ أبو طالب محمد ا لاله و مطالبهم وقال له ارحمني ونفسك فإني لا أستطيع مقاومة القوم كلهم أجاب : والله لو وضعوا الشمس في يميني
الجزء السادس ٢٥٢ سورة المؤمنون والقمر في يساري لما تركت الرسالة التي أمرني الله تعالى بتبليغها.(المواهب اللدنية الجزء الأول ص ٤٨، والطبري الجزء الثاني، أمر نبي الله ٤٠٧ - ٤١٠: ذكر الخبر عما كان من ص والسيرة النبوية لابن هشام الجزء الأول صفحة :۲۸۲ مباداة رسول الله ﷺ قومه وما كان صفحة :٣١٦ ما دار بين رسول الله ﷺ ورؤساء قريش) منهم، و من كان بوسع أهل مكة أن يدركوا من هذه الواقعة أن محمدا رسول الله ﷺ ما أراد لنفسه شيئًا، وإنما كان يطالبهم بما فيه إصلاحهم وخيرهم ورقيهم.ألم يكن من الأفضل لهم أن ينظروا إلى الآية الإلهية العظيمة بأنه لا لا لو كان وحيدا لا رفيق يؤازره، ولا زميل يؤيده ولا معين يحميه من العدو، ولكن بمجرد أن انطلق الصوت الرباني لسانه أحدث ارتعاشًا في قلوب الناس، فأخذت الملائكة تتنزل على ذوي الطبائع السعيدة، فرغبوا في الإسلام بكل إخلاص ومحبة حتى بلغ عدد المؤمنين، الذين كانوا في أول الأمر يُعَدّون على الأصابع مئات فآلافا فمئات الآلاف، أما اليوم فقد بلغوا الملايين.لقد اجتمع حوله فتية يضحون بالنفس والنفيس، ودخل بين مريديه شيوخ ذوو حكمة وخبرة وأخذ الشباب من عائلات ثرية عالية يضحون لأجله الله بأرواحهم.وبدأ عامة الناس، وهم بمنزلة العمود الفقري للبلاد، يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء مدافعين عنه من يمينه وشماله.وجمعت الثروات على قدمه، ووضع زمام الحكم في قبضته.كل ذلك كان آية بينة أراها الله العلي القدير إياهم دليلاً على صدقه.ومع ذلك لم يعرفه الذين كان سيئًا.لقد صاروا عميانا وعندهم عيون، وصمَّا وعندهم آذان، و لم يفقهوا حظهم وعندهم قلوب.28 ثم يقول الله تعالى إنه إذا كانت هذه الآية لا تكفي لفتح عيونهم فلم لا يفكرون 6 إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وفي هذا مصلحتهم هم، ومع ذلك يتنكبون عن هذا الصراط ويتبعون طريقاً ،خاطئًا، ولن يؤدي ذلك إلا إلى خسرانهم وهلاكهم وهلاك ،قومهم إذ من المحال أن ينجو قوم ينحرفون عن الصراط المستقيم.
الجزء السادس ٢٥٣ سورة المؤمنون إن هذه الآية تمثل دليلاً بينا على صدق النبي ﷺ وسداده بحيث كلما تدبر فيه الإنسان انكشف عليه صدق الإسلام وحقانيته أكثر فأكثر.إن الإسلام يعلن منذ ثلاثة عشر قرنًا أن الصراط المستقيم إنما هو ما يدعو إليه محمد رسول الله ، وأن الدنيا كلما سلكت طريقًا غيره هلكت حتمًا؛ وقد شهدت الوقائع والأحداث على صحة ما يدعيه الإسلام.فترى أن العديد من النظريات الدينية والسياسية والاقتصادية التي قدمتها أوروبا للعالم تتصادم مع الإسلام.وقد لقيت أوروبا بصدد كل هذه النظريات هزيمة نكراء، حيث اضطرت في نهاية المطاف للعودة إلى نفس الطريق الذي قدمه الإسلام فمثلاً إن التوحيد هو أكبر النظريات الدينية.إن المسيحيين لما حققوا الرقي أخذوا يقولون عن عيسى ، الذي لم يكن إلا عبدا من عباد الله تعالى وكان خاضعا للحوائج البشرية بكل أنواعها، أنه إله وابن إله - والعياذ بالله - وشرعوا يخاصمون المسلمين بصدد هذه العقيدة.وكان هذا الهجوم من قبل أوروبا شديدًا لدرجة أن المسلمين أخذوا يصدقونهم في بعض الأمور، فقالوا إن المسيح لم يكن إلها، ولكنه كان يعلم بعض الغيب وكان يحيي الموتى وقد خلق بعض الحيوانات أيضًا.وهكذا عزوا إلى المسيح كثيرًا من صفات الله تعالى شيئًا فشيئًا، وتسببوا في قوة المسيحية.ولكن ماذا كانت النتيجة لهذا الاصطدام بين أوروبا والإسلام؟ لقد اصطدم المسيحيون بالإسلام ليجعلوه فريسة للمسيحية، فكانت النتيجة أن نفس أوروبا التي كانت تهاجم التوحيد، والتي كانت مُغرمة بالتثليث، قد بدأت تعترف بلسانها بالتوحيد وترفض التثليث لا أناقش هنا ما تقوله أوروبا كأمة، إن ما أركز عليه هو أنك لو سألت الفرد هناك هل تؤمن بأن المسيح إله لقال لك صراحة: إننا نؤمن بالتوحيد، وإنما نعني بقولنا أن المسيح ابن الله أنه كان إنسانا صالحا المقربين عند الله تعالى فإن أوروبا لما اصطدمت بالإسلام في قضية التوحيد هزمت وصار الإسلام غالبًا.وأصحاب نظرية التثليث هم نفس أولئك القوم الذين اخترعوا المدافع والقطارات والطائرات وأثبتوا وجودهم للعالم، ولكنهم لما اصطدموا بالإسلام لم يجدوا بدا من الاعتراف بهزيمتهم.ومن
٢٥٤ الجزء السادس سورة المؤمنون ومن النظريات العملية قضية الطلاق الذي قدمه الإسلام، فضحك عليه الغرب سنين طويلة.إن المشاهير من رجال القانون في أوروبا قد استهزؤوا في كتبهم بحكم الطلاق الإسلامي وقالوا إنه لمن العار أن يترك المرء زوجته فتذهب لتعيش في بيت زوج آخر.أما الآن فمنذ ثلاثين سنة أخذوا في كل البلاد الأوروبية يسنّون قانون الطلاق، وهكذا أخذوا في دعم نفس القضية التي كانوا يعارضونها من قبل ساخرين.ثم إن الإسلام لما عرض حكم الطلاق جعله مشروطا بقيود وشروط عديدة تحمي حقوق المرأة.فضحك عليه كبار الفلاسفة ورجال القانون من أوروبا، وسوّدوا آلاف الصفحات معترضين على هذه الشروط زاعمين أن الإسلام يقضي بذلك على حرية الجنسين في مجال الحب ويقتل عواطفهما ويدمر حياتهما.أما اليوم فقد كثر الطلاق في دول هؤلاء الأوروبيين المستهزئين بشكل سخيف.فقد قرأت مرة في جريدة TIMES OF LONDON) خبرًا يقول : اشترك أحد عشر زوجًا في جنازة سيدة في أمريكا.فأخذتني الحيرة بقراءة هذا الخبر، وقلت كيف يكون لامرأة أحد عشر زوجًا.فلما قرأتُ الخبر كله عرفتُ أن تلك السيدة كانت قد تزوجت من ثمانية عشر رجلاً، وطلقت سبعة عشر منهم.فكان سبعة من هؤلاء المطلقين قد توفوا، فاشترك الباقون منهم، البالغ عددهم أحد عشر في جنازة زوجتهم السابقة ، احتراما لها.وكانت أسباب تطليقها لأزواجها أكثر غرابة وحيرة.فمن هذه الأسباب أن المرأة قالت للمحكمة إن زوجي لا يقبلني عندما يدخل البيت، فقال القاضي: هذا ظلم عظيم منه لا يستحق بعده أن يبقى زوجًا لأي امرأة، وها إني أحكم بفصله عنك.ومن الأسباب التي ذكروها لطلاقها أيضًا أنها قالت للقاضي: لقد كتبت رواية، ولكني زوجي هذا يقول إنها رواية تافهة فقال القاضي في حكمه: إنه قد ارتكب جريمة كبيرة بالتفوه بهذا الكلام، وليس أمامي الآن إلا أحكم بفصل الزوجين.وقد ذكروا في الخبر أسبابًا مضحكة أخرى.
الجزء السادس ٢٥٥ سورة المؤمنون هذا، وفي إنجلترا أيضًا جُعل الطلاق سهلاً بالتدريج.أما أمريكا فهي تصرخ اليوم بأن الطلاق قد أصبح رخيصاً وسهلاً لدرجة أنه قد دمر البيوت.يرجع الزوج من مكتبه متعبًا متوتر الأعصاب، فيرفع صوته قليلاً خلال الحديث مع زوجته، فتخرج من البيت بسرعة وعندما تُسأل أين تذهب تقول إنني ذاهبة إلى المحكمة لأني أريد الطلاق من زوجي هذا.إِذًا فإن أوروبا قد لقيت هزيمة نكراء على يد الإسلام عند اصطدامها معه في قضية الطلاق أيضًا.فإذا كان الفلاسفة الأوروبيون قادرين حقا على اختراع فلسفات عظيمة فكان من المفروض أن تكون فلسفتهم البسيطة هذه أفضل لأن الشيء البسيط أسهل صنعا من الشيء العظيم؛ ولكن ليست خافية على العالم الهزيمة التي لقيتها أوروبا على يد الإسلام بصدد فلسفتها البسيطة هذه.لگے ثم خذوا الخمر مثلاً، فإن الإسلام قد نهى عن شربها ، ولكنه أضاف وقال أيضا إننا لا نقول إن الخمر شيء فاسد على الإطلاق كلا، بل إن في الخمر والميسر بعض الفوائد أيضًا، ولكن أضرارهما أكثر من فوائدهما، لذلك نحرمهما عليكم (البقرة: ۲۲۰، والمائدة: (۹۱).فعندما يعطي الأطباء الخمر لبعض المرضى كدواء، لا يلبث بعض أولئك الذين يجهلون أن الإسلام قد اعترف ببعض فوائد الخمر أيضًا، أن يقولوا لماذا حرم الإسلام شيئًا نافعًا كالخمر؛ فقد رأينا أن نبض المريض يكون على وشك أن يتوقف تماما، فإذا سُقي جرعة من الخمر، تحرك نبضه ثانية واستعاد قوته من جديد.فالذين يعترضون بهذا الأسلوب نضع أمامهم القرآن ونقول لهم لقد اطلعت اليوم على فائدة الخمر هذه، ولكن كتابنا القرآن الكريم قد أخبرنا قبل ثلاثة عشر قرنًا من الزمان أن الخمر ليست ضارة فقط، بل فيها بعض المنافع للناس أيضًا، ولكن حيث إن أضرار الخمر أكثر من منافعها، وحيث إن من أكبر عيوبها أن المرء إذا تعاطاها تعطلت قواه العقلية وخربت، كما أنه يصبح مدمنا لها لدرجة أنه لا يقدر على تركها، ومن أجل ذلك قد حرمها الإسلام من الممكن أن واحدا بالمئة من الناس إذا شرب الخمر لا يصاب بإدمانها، ولكن تسعين بالمئة منهم يصابون بإدمانها يقينًا وليس من العقل التضحية بالتسعين من أجل الواحد.فما دام التسعون
الجزء السادس ٢٥٦ سورة المؤمنون بالمئة يصابون بإدمان الخمر فكان لزامًا أن يضحى بالواحد من أجل التسعين، وليس أن يضحى بالتسعين من أجل الواحد فمتى يقدر المقنّن في أي عصر على أن يثبت أن فلانا أقوى من الآخر، وأقدر على تحمل تأثير الخمر من غيره؟ كلا، من المحال هذا التحقيق عن كل شخص، كما أنه لن يكون تحقيقا مؤكدًا؛ ولذا فقد أن يتم من سن الإسلام قانونا بتحريم شرب الخمر إذ إن النتيجة أكدت بإدمان ٩٩ % شاربيها، بحيث إنهم لا يقدرون على تركها.إذا فإن الطريق الذي اتبعه الإسلام بشأن قضية الخمر هو الطريق الصائب وليس ما ابتدعته أوروبا.ثم هناك قضية كثرة الزوجات التي تناولها القرآن الكريم بالبيان، ولكن المسلمين قد أخذوا يقولون اليوم خوفًا من الكتاب المسيحيين والأوروبيين أن هذا التعليم كان خاصا بالعرب وبذلك العصر؛ إذ كان من عادة العرب الزواج من أكثر من امرأة، فأقر النبي هذه العادة تأليفا لقلوب العرب.فذات مرة ذهبت إلى شملة فأقام سكرتيري السيد درد - رحمه الله - مأدبة دعا إليها بعض كبار المسؤولين الحكوميين بهدف مقابلتي.فبينما أنا جالس في مكان المأدبة دخل أحد الرؤساء المسلمين الكبار - وكان قد نال من الحكومة لقب "السير" (SIR) - مع السيد مترا الهندوسي الذي كان من المحامين الكبار، وكانا يتحدثان فيما بينهما.فلما دخلا القاعة تناهى إلى سمعي صوت يقول: لم يكن محمد على علم أن الهندوس سيثورون غضبًا على ذبح البقر، ولو علم ذلك لحرمها في القرآن الكريم.فكان من الطبيعي أن أعرف الحديث الذي يدور بينهما.فلما استقرا على مقاعدهما قلت للسيد مترا الهندوسي لقد سمعت كلمة كهذه، فهل يمكنك أن تخبرني عن الحديث الذي كان يدور بينكما؟ قال: إن صديقي هذا إنسان رائع، فقد أخبرني اليوم أمرًا زادني تعظيما للإسلام واعترافا بصدقه.لقد أخبرني أن الإسلام يراعي مشاعر الأمم الأخرى لدرجة أنه قد حرم الخنزير احتراما لمشاعر اليهود فقط، إذ كانوا مصيف شهير في الهند.(المترجم)
الجزء السادس ٢٥٧ : سورة المؤمنون يكرهون الخنزير فحرمه محمد الا الله ومراعاة لمشاعرهم.ولو أنه علم أن الهندوس يقدسون البقرة جدا لمنع المسلمين في القرآن من أكل لحمها أيضًا، لأن الإسلام دين رفق ولطف ويرعى مشاعر الآخرين.وكنت لا أعرف من قبل أن الإسلام يحترم مشاعر الأمم الأخرى لهذه الدرجة، وإنما عرفت ذلك اليوم لأول مرة من صديقي هذا مما رسخ في قلبي عظمة الإسلام إلى حد كبير.فقلت له : إنني متأسف جدا لأنني سأنقص من هذه العظمة التي قد رسخت في قلبك تجاه الإسلام.أرجوك أن تسأل صديقك هذا ما إذا كان القرآن الكريم من تأليف محمد ﷺ أم أنه نزل من عند الله تعالى.لا شك أن محمدا رسول الله ﷺ لم يكن على علم بأن الهندوس يعظمون البقر جدا، ولكن هل كان الله تعالى أيضًا جاهلاً بهذا الأمر؟ فقال لي ذلك الرئيس المسلم في فزع: إنني آسف، لقد أخطأت.من الممكن أن يكون كلامي هذا قد قلل من عظمة الإسلام في قلب السيد مترا الهندوسي، ولكن الأخطر من ذلك أن يظن أن القرآن الكريم كان من تأليف محمد وأنه كان يضيف إليه من عنده ما يخطر بباله من أفكار.الواقع أن جميع أحكام الإسلام ليست إلا لمنفعتنا.ومن الخطأ الفادح الظن بأن محمدًا لما كان يجهل أحداث المستقبل أو لما كانت بعض العادات شائعة بين العرب، فلذلك قد ذكرها القرآن الكريم أيضًا.خذوا على سبيل المثال قضية تعدد الزوجات، فنحن نسلّم بأنه من الصعب أن يعمل كل الناس بهذا الحكم، إذ يمكن أن يكون عدد الرجال أكثر من عدد النساء في بلاد ما، والنساء أكثر من الرجال في بلاد أخرى، بينما في بعض مناطق أخرى إن عدد الجنسين متساو؛ ولو كان عدد النساء يزيد على عدد الرجال في بعض البلدان بنسبة ٢ بالمئة، فقليل هم الذين يمكن أن يتزوجوا بأكثر من امرأة.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل تعدد الزوجات أمر أم رخصة؟ إن القرآن الكريم لا يعتبره أمرًا، بل رخصة؛ وما دام رخصةً فلن يعمل به إلا الذين هم قادرون على الانتفاع منه.وقد بينت من قبل أن نسبة هؤلاء لا تتجاوز واحدًا أو اثنين بالمئة.بيد أنه من الممكن أن تؤدي تقلبات الزمن إلى ظروف يصبح فيها الزواج بأكثر من امرأة ضروريًا من أجل الرقي
الجزء السادس جدا ٢٥٨ سورة المؤمنون القومي.في مطلع عام ١٩٤٧م لما نشبت الفتن الطائفية في ولاية "بهار" الهندية وقتل المسلمون بلا هوادة وتشرد الكثيرون هنا وهناك، بعضهم إلى مدينة مدراس" وبعضهم إلى "بومباي" وبعضهم إلى "كالكوتا".ولما كانت قاديان مركزنا فجاء إليها بعض أفراد جماعتنا أيضًا.وذات مرة جاء أحدهم للقائي وقال لي: لقد جئتُ من منطقة "بهار"، وحضرتك تعلمون جيدًا ما حل بالمسلمين هناك من دمار وكيف فر مئات الآلاف منهم من الديار.لقد جئتك لأخبرك أنني متألم من هذا الوضع، وأود أن أسألك ماذا على المسلمين أن يفعلوا حتى يتمكنوا من الرقي والازدهار في الهند ثانية فقلت له : إن الحل موجود ولكنكم لن تعملوا به.قال: ما لنا أن لا نعمل به وقد نزل بنا هذا الدمار الرهيب؟ إذا لم نتخذ أي تدبير لبقائنا اليوم فمتى؟ قلت: كان الإسلام قد دعانا إلى تعدد الزوجات من أجل حل هذه الأزمات، ولكن المسلمين أخذوا يقولون : إنه كان حكمًا مؤقتًا لسد الحاجات العابرة، إذ كان العرب شعبًا جاهلا همجيًا صعب الانقياد؛ وكان تعدد الزوجات شائعا بينهم، فأقره الإسلام جبرًا لخاطرهم، وإلا فلم يُرد الإسلام أبدًا للرجال أن يتزوجوا بأكثر من امرأة.إنما يأمر الإسلام بزواج واحد فقط، والتعليم الذي أعطاه الإسلام نظرا إلى ظروف العرب الخاصة يجب أن لا يعمم على كل العصور.فقلت لهذا السائل: إن الوبال الذي قد حل بالمسلمين اليوم إنما هو نتيجة هتكهم لحرمة أحكام الإسلام.دَعْ أحكام القرآن الأخرى جانبًا، فلو أن المسلمين عملوا باثنين من أحكامه فقط، لكانت الهند كلها مليئة بالمسلمين اليوم.وهذان الحكمان هما: التبليغ وتعدد الزوجات.فلو أن المسلمين كلهم اشتغلوا بتبليغ دعوة الإسلام لجعلوا نصف سكان الهند مسلمين، ولو عملوا بتعليم تعدد الزوجات لصار النصف الباقي أيضًا مسلمين، ولم نر في الهند أي هندوسي.ولكنهم لم يعملوا كما أمروا، بل قالوا إن محمدا ل ا ل له لقد أمر بهذا عرضا ؛ فيذوقون اليوم وبال عصيانهم.ثم قلت لهذا السائل ولو أن المسلمين بدأوا العمل بهذا التعليم اليوم فإنني أضمن لهم كذلك بأنه لن يُرى في الهند هندوسي واحد بعد خمسين سنة.إذ من البديهي
الجزء السادس ٢٥٩ سورة المؤمنون هي أنه لو استعد كل واحد من المسلمين للزواج بأربع نسوة فلن يجدوا النساء من العائلات العريقة، فلا بد عندها أن يتوجهوا للزواج من نساء القبائل الهندوسية غير العريقة مثل "غوند" و"بهيل" و"غومل" وما إلى ذلك، وهكذا ستدخل هذه القبائل والعائلات كلها في الإسلام خلال بضع سنين.ثم إنه لو ولد للهندوسي ولد واحد فيولد عند المسلم أربعة ثم إن الهندوس أقل نسبيًّا في مجال التناسل، لذا فإذا ولد عند الهندوسي ولدان، سيولد عند المسلم ستة عشر ولدًا، وتكون النتيجة أنه لن يكون في الهند إلا المسلمون وهم الذين سيشكلون القوة الحاسمة فيها.عندها قال لي هذا السائل: من أين يأكل هؤلاء الأولاد؟ قلت: هذه الحكمة الكامنة في هذا الحكم ولم تستطع استيعابها.ألا وهي أن قوما إذا أصيبوا بالجوع صاروا مستعدين للقتال.سيأتي على هؤلاء الأولاد زمان لا يجدون فيه الخبز لطعامهم ولا اللباس لأجسامهم ولا الدواء لعلاجهم ولا السكن لمبيتهم، فتتولد فيهم الثورة ويقولون: لن نصبر على هذا الوضع أكثر من ذلك؛ فالآن إما أن نموت نحن أو يموت عدونا وعندها يهبون ويسيطرون على البلاد كلها.يظن الناس أن الجوع عذاب، والحق أنه نعمة عظيمة من عند الله تعالى، والأمة التي تصبح جائعة يستحيل أن تظل مستعبدة لمدة طويلة، بل تصبح باسلة كالأسد؛ وحينما يكون كل فرد فيها مستعدًا للموت فلن يقف في وجهها أي قوم.ذلك لأنهم يكونون أكثر من العدو بنسبة ثمانية إزاء واحد، ثم إنهم يكونون كالأسود الجائعة، فيقاتلون مستميتين ويستولون على البلاد وهذا هو السبب أن الشعوب غير العريقة في الهند قد أصبحت أكثر قوة في هذه الأيام، بينما أصبح المسلمون أذلاء مهانين.ذلك لأن الهندوس يرون أنهم مهما ظلموا المسلمين فإنهم لن يلجأوا إلى الثورة خوفا على أموالهم، أما الشعوب الأخرى الفقيرة الحقيرة فلا يظلمونها خوفًا أن تثور بسبب عددًا فقرها.فقلت للسائل إن ما تراه عيبًا فليس في الحقيقة بشيء معيب، بل هو نعمة عظيمة، وهذا هو الحل الذي جعله الله تعالى لمشاكلكم وقلت له مرة أخرى: لقد أخبرتك بالحل ولكنني على علم أنكم لن تعملوا بهذا الحل.
الجزء السادس ٢٦٠ سورة المؤمنون بعد انقضاء ستة أشهر على هذا الحادث جاءتني رسالة من جزر أنديمان من أحد المعلمين أو الأساتذة، فلامني في رسالته كثيرًا وقال إنكم لا تفعلون شيئًا، ولو أن المسلمين عملوا بحكم تعدد الزوجات على الأقل لما كانوا في هذا الوضع المزري.فقلت له في الجواب: لا تَلُمْني أنا فقد كنت دعوتهم إلى ذلك، بل عليك أن تلوم قومك الذين لا يعملون بهذا الحل.: فترى كم هي هامة قضية تعدد الزوجات التي قدمها الإسلام، ولكن المسلمين قد أهملوها، وليس ذلك إلا خوفا من الهندوس والنصارى وأتباع الديانات الأخرى، بينما يعلن القرآن الكريم مراراً وتكرارًا أن اليهود والنصارى أعداء لكم، فلا تقبلوا أقوالهم.إذ كيف يمكن أن تجتمع أمتان تتبعان قانونين مختلفين أحدهما صلب والآخر مجرد هزل.عندما يرى المسيحي حالة قومه سيقول من فوره: يجب أن تسنّوا لهم قانونًا كهذا، فسيقول المسلم: الإنسان لا يسن القوانين من عنده، بل إن الله تعالى هو الذي يسنها وقد سبق أن سنّها، ولا خيار لنا بعد ذلك أن نسن قانونًا إزاءها.فيقول المسيحي إنك مجنون ولا تنظر إلى الظروف المستجدة مصرا على القوانين القديمة البالية.وهكذا سيختلف المسلم والمسيحي عند كل خطوة.فنحن نرى أن إهمال القانون الإلهي غباء، بينما يرى هؤلاء أن العمل بذلك القانون حماقة.إننا نؤمن بأن القانون الإلهي قد سبق أن نزل قبل ثلاثة عشر قرنًا من الزمان، ولن ينزل بعد ذلك أي قانون آخر إلى يوم القيامة، بينما يرى هؤلاء أن هناك حاجة إلى قانون جديد الآن، ويتطلعون إلى نظريات جديدة وفلسفات حديثة.وعندما يرون هذا البون الشائع بيننا وبينهم يصبحون أعداء الموقفنا، وعداؤهم ينكشف عند كل خطوة.فلما ذهبت إلى إنجلترا في عام ١٩٢٤م اشتركت في اجتماع، وقد اشترك فيه أيضا السير توماس أرنولد، الذي كان أستاذا في جامعة "عليغره"، وكان في أيام رحلتي إلى إنجلترا حاكمًا على أفريقيا الشرقية، وكان قد جاء من هناك.فأرادت مجموعة من النساء أن يصافحنني، فاعتذرت وقلت: لا يجوز للرجال مصافحة النساء في الإسلام وكان من الطبيعي أن يستاء السير توماس من تصرفي هذا، فأخذ يقول للناس إنه عالم خبير ومصنف كبير في القضايا الإسلامية؛ وأن
الجزء السادس ٢٦١ سورة المؤمنون الإسلام لا ينهى الرجال عن مصافحة النساء أبدا.فجاءني مجموعة من الطلاب وأخبروني أن الأستاذ أرنولد يقول كذا وكذا، فهل يجيز الإسلام للرجال مصافحة النساء؟ فبينتُ لهم تعليم الإسلام بالتفصيل بأنه ينهى عن مصافحتهن.فأبدى السيد أرنولد تجاهي حقدًا شديدًا، فكان لا يشترك في أي اجتماع أنا فيه.فمرة جاء في اجتماع ولكنه ظل بعيدا عني.فقلت لسكرتيري إنه لا يأتي إلى الأمام لأنه لا يريد مقابلتي.قال: كيف يمكن ذلك، سأدعوه حالاً.قلت: سترى أنه لن يواجهني.وهذا ما حدث فعلاً، حيث ناداه وقال له: تعال هنا.فتقدم إليه ولكنه بمجرد أن رآني تسلل من طريق آخر.إذًا، فهم يبغضون تعاليم الإسلام بغضا لا حدود لـه.يريدون سن القوانين بأنفسهم، ويعرقلون طريقنا، زاعمين أن الإسلام هكذا يقول.فمن المحال إذا، أن تكون بين المسلمين واليهود والنصارى مودة قلبية.نعم إذا ترك المسلم دينه وكفر بمحمد رسول الله له وقال إن الله تعالى قد أخطأ - والعياذ بالله - إذ لم يسن القوانين نظراً إلى حاجات العصور المختلفة عندها يمكن أن تكون المودة بينه وبين أوروبا.أما إذا ظل المسلم مؤمنًا بالله وبأن محمدًا رسول الله ﷺ وبأن القرآن الكريم كتاب الله تعالى فلن تكون بينه وبين أوروبا أي مودة قلبية.ذات مرة قابلت أحد المسلمين وكان في رفقة زملائه وكان مسؤولاً كبيرًا في الخطوط الجوية، فاعترض على الإسلام خلال الحديث، فرددت عليه.ولم يزل يعترض وأنا أرد عليه، وكنت على علم أنني سأستدرجه إلى أن يصطدم مع الله تعالى.وبالفعل ألقيته في الورطة في نهاية المطاف، فقلت له: أخبرني الآن أأنت أعلَمُ أم الله تعالى؟ وكان هذا في عزّ شبابه، ومن المسلمين المثقفين بالثقافة الحديثة الذين يكونون قليلي الأدب تجاه ذات البارئ ،تعالى، فسكت ،مليًّا، ثم قال: أظن أنني أعلم من الله.فضحك زملاؤه كلهم بأن غباءه ألقاه في الورطة فصار الآن عديم الحياء حتى قال أنه أعلَمُ من الله تعالى.فالحق أن المسلم ما دام مؤمنًا بأن القرآن الكريم كتاب الله تعالى، وأن الله تعالى أعلم منه، فلا بد أن يجد المواجهة من قبل أوروبا، ولكن هذه المواجهة ستسفر في نهاية المطاف عن هزيمة أوروبا وغلبة رب الإسلام
الجزء السادس ٢٦٢ سورة المؤمنون خذوا مثلاً قضية شرب الخمر ، فكم كان هؤلاء يعترضون على الإسلام أنه يجهل أهمية علو الهمة في الإنسان، وأنه يجهل ما في الفطرة الإنسانية من أحاسيس مرهفة.يقولون : يظن الإسلام أن الخمر إنما يتعاطاها المرء ليصبح سكرانًا فيهذي.إن الآسيويين هم الذين كانوا يشربون الخمر بهذا الأسلوب، أما نحن الغربيين فلسنا همجيين مثلهم، إنما نشرب كأسًا أو كأسين فلا نصاب بالسكر ولا الهذيان.ولكن ما الذي حدث؟ إن أمريكا نفسها التي كانت تعترض على الإسلام بشأن الخمر اضطرت لسن قانون يفرض الحظر التام على تعاطي الخمر.فإذا كان شرب كأس أو كأسين من الخمر يشحذ عقل شاربها فلم حاولت أمريكا، التي كانت أكثر بلدان العالم شربا للخمر، أن تفرض الحظر التام على شربها؟ ثم لماذا ألغت هذا الحظر بعد أن فرضته هذا أيضًا دليل آخر على أن القوانين الإسلامية أفضل من غيرها.لقد اضطرت أمريكا إلى فرض الحظر على شرب الخمر، ثم أحلت هذا الذي حرمته؛ وإن هزيمتها هذه تدل دلالة واضحة على أن ما يقوله القرآن الكريم مدعوم بالقدرة الإلهية، ولكن ما يقوله الغرب ليس بمدعوم بقدرة الله تعالى.لقد قال الإسلام إن الخمر ،حرام وقالت أمريكا أيضًا أن الخمر حرام، ولكن ما حرمه الإسلام لا يزال حرامًا حتى اليوم، بينما أمريكا اضطرت لأن تحل ما حرمته قبل خمسة عشر عاما.إن هذا التفاوت بين الطرفين يكشف لنا مدى القوة والعظمة التي كان النبي يتمتع بها.كان العرب مغرمين بشرب الخمر لدرجة أنهم كانوا يتفاخرون بشربها وقت الصبح على وجه الخصوص إضافة إلى الأوقات الأخرى (بلوغ الإرب الجزء الأول ص ٣٩٤: تقديم العرب الأيمن في الشرب).ومن أجل ذلك قد جعل الإسلام للمؤمنين صلاة التهجد في ذلك الوقت.وعلاوة على هذا الموعد، فإن أثرياء العرب كانوا يتعاطون الخمر خمس مرات من الصباح إلى وقت النوم، ففرض الإسلام على المؤمنين خمس صلوات إزاء تلك المواعيد.لا شك أن هناك حكمًا كثيرة في الصلوات الخمس إلا أن إحدى هذه الحكم أن العرب كانوا يشربون الخمر في هذه المواعيد نفسها.فذات مرة كان النبي جالسا في مجلسه، فقال لأصحابه إن الله تعالى قد أخبرني اليوم أن شرب الخمر حرام.وكان الناس
الجزء السادس ٢٦٣ سورة المؤمنون حينئذ حاضرين في مأدبة في بيت في المدينة، وكانوا قد أحضروا جرارًا من الخمر العالية الجودة.وكانت جرة من الخمر قد نفدت، وكانوا على وشك أن يشربوا ثانية، حتى نادى مناد في الشارع قائلا: أيها الناس، اسمعوا وعوا.إن محمدا رسول الله قد حرم الخمر اليوم بأمر الله تعالى.وبإمكاننا أن ندرك بكل سهولة مدى السكر والنشوة والهذيان الذي يكون قد أصاب هؤلاء القوم الذين كانوا قد شربوا جرة من الخمر.ولكن عظمة النبي مسئولية على قلوبهم لدرجة أنه بمجرد أن وصل هذا النداء إلى آذانهم حتى أصيبوا بالدهشة، فقال أحدهم لصاحبه: أسمع في الخارج صوتًا يقول إن محمدا رسول الله قد حرم الخمر، فافتح الباب واسأله ما حقيقة هذا الإعلان.فقال لـه صاحبه: ما دام أمر من أوامر النبي ﷺ قد وصل إلى أسماعنا، فلماذا تطلب منى فتح الباب والسؤال عن خلفية الخبر؟ بل سأكسر جرار الخمر أولاً ثم أسأل عن الخلفية.(البخاري: كتاب الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق) مع وعلى النقيض نجد أن أمريكا تصم العرب بالهمجية، حتى يقول بعض المسلمين الأغبياء خوفا منها أن العرب كانوا بالفعل شعبًا همجيًّا غير مهذب، وكانوا لا ينقادون لأحد بسهولة، و لم يأمر محمد رسول الله ﷺ بتعدد الزوجات وما إلى ذلك إلا جبرًا لخاطرهم فحسب ولكن ما حصل في أمريكا كان على عكس ما حصل محمد ، حيث تقرر الأكثرية في أمريكا بما فيها العلماء والأطباء أن الخمر شيء ء ضار، كما تعلن الحكومة بأن الخمر ضار، ثم تسن قانونًا يحظر شرب الخمر؛ فما الذي حصل يا ترى؟ إن ما حصل هو أن الذين ادعوا بكونهم مثقفين ومتحضرين، واتهموا العرب بالجهل والتخلف معترضين على التعليم الذي جاء به محمد رسول الله ، أصبحوا أنفسهم جاهلين لدرجة أنهم لم يمتنعوا بعد هذا القانون عن شرب الخمر، بل ثاروا وأخذوا يشربون الخمور الرديئة جدا، شربوا الكحول المُمَيثَل Methylated Spirit)، فأصيب الكثير منهم بالعمى.والكحول الْمُمَيثَلِ هو نوع من الخمر يمزج فيه الميثيلين لكيلا يشربه الناس، ويُستخدم للإضاءة والتسخين فقط.هذا هو حال هؤلاء العقلاء الذين يدعون في هذا العصر أنهم حتى
الجزء السادس ٢٦٤ ― سورة المؤمنون مثقفون ومتحضرون.أما العرب الذين يرمونهم بالجهل والتخلف حاشا لله - فما أن سمعوا عن حرمة الخمر حتى قال أحدهم لصاحبه حتى في حالة السكر: لماذا تسألني أن أفتح الباب وأتحرى الأمر؟ هل جرار الخمر أغلى ثمنا من محمد رسول الله ؟ فما دام الصوت قد وصل إلى آذاننا فسأكسر أولاً جرار الخمر ثم أتحرى الأمر.ولو تبين بعد ذلك كذب الخبر فنجلب خمراً أخرى، أما إذا كان الخبر صحيحًا فسنمشي مرفوعي الرأس بأننا قد عملنا بأمر محمد رسول الله ﷺ بمجرد أن سمعناه.ثم هناك قضية الميسر ، وقد ضحك الغرب على نهي الإسلام عن لعب الميسر أيضًا، وكان الإنجليز شعبا مقامرًا كلهم.أما اليوم فليدلونا على بلد لا يستون فيه القوانين ضد الميسر.لا شك أنهم لم يستطيعوا بعد الامتناع علنًا عن لعب الميسر، ولكن أليس الأدلة الساطعة على فضل الإسلام أن الغرب بدأ يقترب من الأمر الذي قد دعا إليه الإسلام قبل ثلاثة عشر قرنًا حيث أخذوا يضعون القيود والشروط على لعب الميسر شيئًا فشيئًا، ولكنهم يشعرون بالخجل في فرض الحظر التام المعلن على الميسر.وذلك كما قال الشاعر "ذوق": من بعد مدت کے گلے ملتے ھوئے آتی ھے شرم اب مناسب ہے یہی کچھ تم بڑھو کچھ میں بڑھوں أي كلانا نشعر بالخجل في أن نعانق بعد انقطاع طويل، فالأفضل الآن أن تتقدم أنت قليلاً وأتقدم أنا قليلاً.إنهم لا يفرضون الحظر التام دفعة واحدة خوفًا من أن يقول الناس بأنهم اضطروا في النهاية للعودة إلى ما يقوله الإسلام.ومن أجل ذلك يضعون على الميسر شتى القيود والشروط، فيقولون إن كذا وكذا من أنواع الميسر محظور، وانه لا يجوز لعب الميسر إلا بوساطة مؤسسة كذا وكذا ويجب أن يكون مسجلاً.وكأنهم رضوا في الأخير بما قاله الإسلام، ولكنهم لا يجدون من الشجاعة ما يجعلهم يحظرون الميسر علنًا.ثم هناك عقوبة الإعدام لما فرض القرآن الكريم عقوبة الإعدام على بعض الجرائم قال هؤلاء إن قتل النفس ظلم عظيم، وإن مسيحنا قد علمنا أنه إذا لطمك
الجزء السادس ٢٦٥ سورة المؤمنون أحد على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضًا متى ٥: (۳۹)، وقامت بعض الدول الأوروبية بإلغاء عقوبة الإعدام؛ ولكن بعد مرور حوالي ٣٠ عاما عادوا فسنوا القوانين بفرض عقوبة الإعدام، لأن الأمن بدونها محال إذا، فهناك قضايا عديدة قدمها الإسلام، وضحك عليها الغرب واستهزأ، ولكن بعد اصطدامهم بالإسلام اضطروا في النهاية للاعتراف بأن الطريق الذي يريد الإسلام هداية الدنيا إليه هو الطريق الصحيح.وهذا دليل بين على أن الكتاب الذي عرضه النبي الأُمّي على العالم قبل ثلاثة عشر قرنًا إنما هو قانون ذلك الإله الذي هو خالق الفطرة الإنسانية إنه تعالى كان يعلم كيف تعمل هذه الماكينة البشرية وما هي الأمور اللازمة لصيانتها وإصلاحها ولكن المشكلة أن إيمان المسلمين ليس بإيمان كامل.إنهم يندفعون في حيرة وتعجب وراء كل ما يقدمه الغرب من نظريات وعندما يرون فشل الغرب بسببها يقولون في أنفسهم إن التعليم الحقيقي هو ما قدمه القرآن الكريم.وفي أثناء ذلك يأتي الغرب بنظرية أخرى، فيندفع المسلمون وراءها أيضًا.ومثلهم كمثل طفل معتوه ورد ذكره في القصص العربية.يقال أن طفلاً أحمق كان يتعرض للمضايقة على يد زملائه دوما.وكلما ضاق منهم ذرعًا حاول التخلص منهم بقوله: ألا تعلمون أن فلانا من الأثرياء قد أقام وليمة كبيرة.لقد نحر العديد من الإبل والخرفان ويطعم آلاف الناس، وقد ذهب آباؤكم وإخوانكم كلهم إلى تلك المأدبة، وإن لم تذهبوا فإنهم سيأكلون كل اللحم وتُحرمون هذا الأكل الشهي.فيغترّ الأطفال بحديثه فيهرعون إلى بيت ذلك الثري ليشتركوا في الوليمة وبعد ذهابهم قال الطفل الغبي في نفسه: لقد قلتُ لهم ما قلت كذبًا، ولكن قد تكون هناك وليمة فعلاً، فيأكلون منها وسأظل محروما منها.فأخذ يجري إلى بيت ذلك الثري، وبينما هو في الطريق وجد زملاءه يعودون وهم ثائرون من الغضب.فأخذوه وأوسعوه ضربًا ولكما، وهم يقولون لــه: لقد خدعتنا خدعة كبيرة فيقول لهم: لقد خدعتكم لأنكم تضايقونني بالضرب والإهانة والحق أن الوليمة تقام في مكان كذا.فيتركه الزملاء ويهرعون إلى ذلك المكان.وبعد ذهابهم يقول الطفل الغبي في نفسه: لعل هناك
الجزء السادس ٢٦٦ سورة المؤمنون وليمة بالفعل، فيأكل منها زملائي وسأظل محرومًا.فيجري إلى ذلك المكان، ليجد زملاءه عائدين.فيبطشون به ويضربونه.ومع لقد كان ذلك الطفل التعيس معتوها، ولكن المسلمين يؤمنون بالقرآن الكريم، ذلك قد تردّى حالهم لدرجة أنهم يندفعون لاتباع الغرب في كل قضية، وعندما يرى الغرب فشل نظريته ويأتي بخطة جديدة يجرون وراءها أيضًا، وعندما تفشل خطته الثانية يقدّم خطة ثالثة فيجرون وراءها أيضًا.فالغرب في الأمام والمسلمون وراءه.وبدأوا الآن يجرون وراء ستالين وروسيا ظانين أن العزة كلها والتقدم كله في اتباع روسيا.وإنما يرتكبون هذه الأخطاء والتقصيرات لأنهم لا يؤمنون بالقرآن الكريم على أنه كلام الله الحق، بل يؤمنون به إيمانًا تقليديا فقط.والحق أن المسلمين إذا أرادوا التقدم والرقي فلا سبيل لذلك إلا أن يؤمنوا أن البركات كلها في القرآن الكريم وفي طاعة محمد رسول الله ، وأنهم إذا حادوا عن هذا الطريق قيد شعرة فيلقون خسرانًا ،مبينًا كما تُدمَّر أجيالهم أيضًا، ذلك لأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى غايته المنشودة بدون السير في الصراط المستقيم.وَلَوْ رَحِمْتَهُمْ وَكَشَنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍ لَلَجُوا فِي طُغْيَننِهِمْ يَعْمَهُونَ (2) وَلَقَدْ أَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا - ۷۷ يَتَضَرَّعُونَ ) حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ VA شرح الكلمات: مُبلسون أبلس : قَلَّ خيرُه ؛ انكسر وحزن.أبلس من رحمة الله: يئس.وأبلس في أمره: تحير.أبلس فلانٌ: سكت عمَّا (الأقرب).
الجزء السادس ٢٦٧ سورة المؤمنون التفسير: أي أننا نريد أن نرحمهم ونزيل مصائبهم كما تقتضي صفاتنا، ولكننا نرى أن ذلك سيزيدهم شراً.وادعاؤنا هذا ليس بدون دليل، فقد جاءهم العذاب من قبل مرارًا، ولكنهم لم ينيبوا إلى ربهم و لم يتضرعوا لـه.بيد أنه حين يأتيهم عذابنا الأخير سيصبحون يائسين قانطين.لقد بين الله تعالى في هذه الآيات أن الغاية من إنزال العذاب على قوم أن يتوجهوا إلى ربهم ويرتدعوا عن مساوئهم.ولكن ما أشد شقاءهم للأسف! إذ لا يتوجهون إلى إصلاح أحوالهم حتى عند نزول العذاب، ولا تستولي خشية الله على قلوبهم، مع أنهم لو توجهوا إليه ولو قليلاً لكشف عنهم العذاب.وما حدث مع قوم يونس الخير دليل على ذلك.ورد في التوراة أن يونس الا لما أنذر قومه أن مدينة نينوى ستدمر خلال أربعين يومًا آمنَ أهل نينوى بالله ونادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا من صغيرهم إلى كبيرهم.وبلغ إنذار يونس ملك نينوى، فقام من عرشه وخلع حلته الملكية ولبس المسح وجلس على الرماد.ونودي من قبل الملك ونبلائه وقيل: لا تدق الناسُ والبهائم والغنم والبقر شيئًا لا تَرْعَ ولا تشرب ماء، وأن يلبس الناس والبهائم المسوح متضرعين إلى الله تعالى تائبين عن طرقهم الشريرة وعما ارتكبوه من ظلم لعل الرب يرحم ويبدل إرادته ويعود عن غضبه الشديد فلا يُهلكنا فلما رأى الله أنهم رجعوا عن طريقهم الشريرة لم ينزل عليهم العذاب (انظر سفر یونان ٣: ٤-١٠).وقد ذكر القرآن الكريم نفسه هذه الواقعة فقال فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حين) (يونس: ٩٩).وهذا يبين أن العباد إذا ما تابوا ورجعوا إلى الله تعالى بصدق وامتنعوا عن سيئاتهم لا ينزل الله تعالى عليهم العذاب وإن كان قد أنباً وأنذر به من قبل ذلك لأن الأنباء التحذيرية إنما هدفها الأساس أن تتاح للناس فرصة الإصلاح.فترى أن قوم النبي ﷺ لما تابوا كلهم يوم فتح مكة ودخلوا في طاعته نجاهم الله تعالى من
الجزء السادس ٢٦٨ سورة المؤمنون العقوبة المادية كما منحهم ترقيات روحانية عظيمة، وذلك رغم جرائمهم البشعة التي لو عوقبوا عليها لكان عقابًا صحيحًا من الناحية القانونية.ولكن الله تعالى يبين هنا أن هؤلاء القوم ليسوا كذلك، حيث قال وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لَرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، فتكون النتيجة أنهم يتعرضون للعذاب الشديد الأخير في نهاية المطاف، فلن يجدوا منه مصرفا ويصبحون قانطين ويائسين حين يرون انقطاع أسبابهم المادية.وليكن معلوماً هنا أن القرآن الكريم لم يكتف بذكر أن القوم المجرمين يقعون فريسة لعذاب الله تعالى بل زاد وبين أيضًا الأمور التي يراعيها الله تعالى عند إنزال العقاب حتى لا تُعَدّ عقوبته ظلمًا.فإن مطالعة القرآن تكشف لنا ما يلي: أولاً: أن الله تعالى يفصل بالنظر إلى جميع جوانب القضية، قال الله تعالى وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (الأعراف: ٩).إن الناس إذا ما سمعوا أن فلانا سرق صدقوا = الخبر فوراً وعدوه سارقًا دونما فحص وتحقيق.ولكن الله تعالى عندما يعاقب أحدا على جريمة يضع في الحسبان الظروف التي ارتكب فيها الجريمة، ويرى كم يستوجب عليها من العقاب.وثانيا : أنه تعالى لا يعاقب إلا الجاني، وليس أن يعاقب الأبرياء بدل المجرم.قال الله تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) (الأنعام: ١٦٥)..أي لن تحمل نفس الحمل مكان نفس أخرى، بمعنى أن الذي هو نفسه مسؤول أمام الله تعالى لن يقدر على مساعدة غيره فلن ينزل العقاب إلا بالمجرم، وليس أن يوضع عبؤه على غيره.وأكد الله تعالى هذا المعنى في آية أخرى فقال لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (البقرة: ٤٩)..أي من المستحيل أن ينوب شخص عن غيره في تلقي العقوبة.وثالثا: أنه تعالى إنما يعاقب المرء بقدر جريمته لا أكثر.قال تعالى ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلها (الشورى: ٤١)..أي لا يعاقب المرء على سيئته إلا بقدرها.ورابعا: أن الله تعالى يرى قبل إنزال العقوبة ما أتى العبد من حسنات أيضًا، فإذا كانت حسناته أكثر من سيئاته فيعفو الله عنه قال الله تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ
الجزء السادس ٢٦٩ سورة المؤمنون مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الأعراف:٩)..أي أن الذين زادت حسناتهم على سيئاتهم فإن الله تعالى سيستر هم برداء عفوه، ويغفر لهم أخطاءهم.و خامسا: أن الله تعالى لا يقبل أي شفاعة عند إنزال العقوبة، قال الله تعالى وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) (البقرة : ٤٩)..أي لا تُقبل من نفس أي شفاعة.وسادسا : أن رحمة الله تعالى تكون غالبة عند إنزال العقاب دائما، فلا يعاقب أحدا بحد أقصى من العقاب، بل يعاقبه بما هو أقل من جريمته دومًا.قال الله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف:١٥٧)..والعقاب أو العذاب أيضا يندرج في كُلَّ شَيْءٍ.لقد تبين من.هذا التفصيل مدى التأني الرباني بصدد العقاب.فما أكثره شفقةً ورحمةً بعباده، ولكنهم لا ينتفعون من رحمته للأسف الشديد.إنه تعالى يمد يد المحبة، ولكن الإنسان الجاهل يرفض يد رحمته الله، فيقع فريسة للعذاب نتيجة أعماله السيئة.وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا و تَشْكُرُونَ.وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ ود الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ بَل قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ : قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَعِنَّا لَمَبْعُوثُونَ - لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (3) قُل لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَن Λε
الجزء السادس ۲۷۰ سورة رة المؤمنون فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٨٦.شرح الكلمات Λο أساطير: سطر الكاتب: كتب.سطّر الرجُلَ : صرَعه.وسطره بالسيف: قطعه به الإسطار والأسطار والأسطور والأسطير : المكتوب، وجمعه أساطير: ما يُسطَر أي يُكتب؛ وتُستعمل في الحديث لا نظام لـه والحكايات، والجمع أساطير (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى هنا: هلا فكرتم ما هو العمل الذي أُعطيتم جزاء عليه أسماعكم وأبصاركم وأفئدتكم.لستم الذين خلقتم هذه الأشياء، بل الله تعالى الذي أعطاكم الأسماع والأبصار والأفئدة.هو الذي بدأ خلقكم هنا، وهو الذي سيبدأ خلقكم في الآخرة وهو الذي بيده حياتكم ومماتكم واختلاف الليل والنهار، إذ لا سلطان للإنسان على النظام الشمسي الذي يتولد منه الليل والنهار.لقد نبه الله تعالى هنا بذكر خلق الأسماع والأبصار إلى أن الله الذي وهبكم أيام الآذان والعيون وزودكم بقوة السمع والبصر في حياتكم الدنيا التي هي معدودة، ألا يليق به أن يهيئ الأسباب حتى تسمع آذانكم وعيونكم الروحانية.وكذلك فإنه تعالى قد خلق تلك الأفئدة التي تعتمد عليها حياتكم المادية، فكيف يمكنه أن لا يخلق الأسباب لحياتكم الروحانية ويترككم بدون آذان وعيون وقلوب روحانية؟! وبالمثل فمنه الموت والحياة، فهو الذي يحيي ويميت ونفس الحال بالنسبة للعالم الروحاني.إنه تعالى يحيي الأمم الميتة المنهارة بواسطة الأنبياء، أما الأمم التي تحارب أنبياءه فيلقيها في الحضيض بعد أن تكون قد بلغت أوج الرقي والازدهار.وهذا الدرس نفسه نجده في اختلاف الليل والنهار وبتعبير آخر هناك في الاختلاف الموجود بين ظلمة الليل وضياء النهار آيات عظيمة للمتفكرين.فكثير
الجزء السادس ۲۷۱ سورة المؤمنون من الأمراض تشتد وطأتها في الظلام، وكثير من الحوادث تقع بسبب ظلمة الليل؛ فمعظم حالات السرقة والسطو التي تقع في العالم إنما تقع تحت ظلمة الليل، كما أن الثعابين والعقارب وغيرها من حشرات الأرض تنتشر بالليل.ثم إن الظلام بلاء عظيم، إذ لا يقدر فيه المرء على التمييز بين الجميل وغير الجميل، ويستوي له فيه الأسود والأبيض والأحمر والأصفر.ولكن إذا طلع النهار اتضح جمال الجميل ودمامة الدميم، وتدخل حشرات الأرض في جحورها، ويخاف السارق من السرقة، ويحترز قاطع الطرق من السطو.ثم هناك العديد من الأمراض التي تزول بأشعة الشمس تلقائيا كما تقضي حرارتها على جراثيم شتى الأمراض.إذا فإن اختلاف الليل والنهار أيضًا ينبه الإنسان العاقل إلى أنه كما تأتي على العالم المادي فترة من الظلمة لتليها فترة من الضياء، كذلك يختفي في العالم الروحاني النور الإلهي عن أعين الناس في بعض الأحيان وتفشو أنواع السيئات بين الناس، ولكن حين ينشر الله تعالى نور الهدى على يد أحد مأموريه تنقشع جميع البلايا والآفات المتعلقة بالليل وينال الجنس البشري حياة جديدة.إذا فكما يوجد هناك في العالم الطبيعي اختلاف الليل والنهار كذلك يجب أن يدرك الناس أنه لا بد من أن تأتي في العالم الروحاني ساعات من الليل وساعات من النهار.ولكن المعارضين لا يبرحون يصرون على قولهم: هل نحيا ثانية بعد أن متنا وكنا ترابًا؟ بمعنى أن الكافرين يقولون لدى عجزهم أمام الأدلة: ليس لهذه الحياة من غاية، فما الجدوى من هذا النزاع والخصام؟ إنها أساطير الأولين التي لا نـزال نسمعها من زمان بعيد، ولكن القيامة لا تأتي ! هذا يدل على أن الكون موجود منذ عصور سحيقة، وأن الناس ما برحوا يظنون دائمًا بقرب القيامة.وبالفعل ما زال الأنبياء يثيرون نفس الاعتراض قائلين: لقد سمعنا على مر العصور ضجة عن قرب القيامة، وقد مضت قرون على قرون ولكن لم تقم القيامة بعد! وهذا يدل على خطأ هذه الفكرة.خصوم والحق أن هذا وهم من الكافرين، لأن القيامة ليست اسما ليوم معين، كما أنها لن تقوم في هذه الدنيا، بل المراد منها الحياة التي تكون بعد الموت والتي تجزى فيها
الجزء السادس ۲۷۲ سورة المؤمنون كافة الأرواح جزاء جماعيا.ومثل تلك القيامة لا تُشاهَد في هذه الدنيا ولن تُشاهَد أبدًا.فتساؤلهم عن عدم قيام القيامة إلى الآن ليشكل دليلاً على جهلهم وغبائهم.بيد أنه من الممكن أن يشمل الله تعالى هذا الكون بالفناء التام، ثم يعيد خلقه من جديد.ولكن هذا لا يسمى قيامة في الكتب السماوية.إنما القيامة ما ذكرناه أعلاه، وقد جاء ذكره في قول الله تعالى في القرآن الكريم : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (الرحمن: ۲۷ و ۲۸).على كل حال فإن الله تعالى يرد هنا على اعتراض الخصوم فيسألهم: أليس موت كل من يعيش في الدنيا وحياته في قبضة الله تعالى؟ فهو الذي يخلق في صلب الأب النطفة التي يُخلق منها الطفل، وهو الذي يهيئ في رحم الأم أسباب نماء الجنين، وهو الذي يهيئ له الغذاء بعد ولادته أفليس الله الذي خلق هذه الأشياء كلها بقادر على أن يعيد خلق الإنسان من جزء صغير من جسده؟ ورد في الحديث أن الإنسان سيُخلق بعد الموت ثانية من "عَجب الذُّئب" (البخاري: التفسير، سورة عمَّ يتساءلون)..و"عجب الذنب" هو العظم الذي يكون في مؤخرة الإنسان، والذي العلماء أنه بقية ذَنَب القرد (90) - 89.The descent of man p) يزعم فإذا كان خلق الإنسان من ذرة الحياة التي لا ترى إلا بالمجهر فكيف يستحيل خلقه من جزء من "عجب الذنب" يستبقيه الله تعالى؟ ألا توجد هناك ديدان تخلق في باطن الأرض وفي الصخور؟ إذا أمكن خلق الإنسان في رحم أمه فكيف يستحيل خلقه في مكان آخر؟ إن هذا الظن ليس إلا نتيجة قياسهم قدرة الله تعالى على قدرة الإنسان وإلا فإن الله الذي استطاع أن يخلق الإنسان في المرة الأولى فلا يمكن أن تُستبعد قدرته على خلقه ثانية.أما قول الله تعالى (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فقد نبه به الكفار إلى أن أساس الدين ليس على العالم الأخروي فقط الذي يتحدثون عنه.ألا يضطرون للمعاملة مع الله تعالى في هذه الدنيا؟ فلم صاروا بعيدين وغافلين عن أحكام الله تعالى إلى هذا الحد؟
الجزء السادس ۲۷۳ سورة المؤمنون قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ で ۸۷ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (2) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ، مَلَكُوتُ ۸۸ ۸۹ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجيرُ وَلَا تُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (3) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (3) بَلْ أَتَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ (٢) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ で إِلَهِ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَمٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ رم سُبْحَنَ اللَّهِ عَمَّا يَصِرُونَ (3) عَلِم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ۹۳ ۹۲ で التفسير: أي اسأل هؤلاء القوم من رب السماوات السبع والعرش العظيم؟ سيقولون: الله.فما دام الله تعالى هو الذي خلق جميع أنواع الرفعة هذه فهو الوحيد الذي يجب أن يأتي من عنده التعليم الروحاني العالي أيضًا؛ فهو رب العرش العظيم..أي هو الذي بيده الملك الروحاني، فمن الغباء التوجه إلى العقول البشرية ونظريات الفلاسفة من أجل العلوم الروحانية، إنما تأتي هذه العلوم من عند الله تعالى.ثم يقول الله تعالى: سل هؤلاء القوم من بيده ملكوت الكون كله، ومن ذا الذي يهيئ الملاذ لمن يأتيه هاربًا من وجه الآخرين، وإذا عاقب هو أحدًا فمن المحال أن ينقذه منه أحد؟ سيقولون: الله.فقل لهم : هل فقدتم الصواب، فأنّى تُصرفون خداعًا؟ أي ما دامت أبواب الهدى مفتوحة أمامكم على مصراعيها فكيف يتمكن الشيطان من خداعكم حيث يدفعكم إلى الشرك رغم معرفة هذه الأمور؟ الحق أن
الجزء السادس ٢٧٤ سورة المؤمنون القرآن الكريم يدعو إلى الحق أي إلى التوحيد، أما هؤلاء فيكذبون أي يقعون في الأعمال الوثنية، مع أن الله تعالى لم يتخذ ولدًا قط، ولم يكن معه من إله، وإلا لذهب كل إله بمخلوقاته وحاول إثبات فضله على غيره من الآلهة.ولكن هذا لم يحدث قط، إذ ما زال في الدنيا قانون موحد.فثبت أن الله تعالى منزه عما يصفه به المشركون.إنه عالم الغيب والحاضر.فسريان قانون موحد على جميع التغيرات، سواء ما ظهر منها وما بطن لدليل على كذب المشركين.إذ لو كان هناك أكثر من إله لم يكن بد من أحد الأمرين: أولهما أن تخضع سائر الآلهة لأحد منهم ولا تتدخل في حكمه، وفي هذه الحالة صار وجود الآلهة الأخرى وعدمها سيين، لأن أحد هذه الآلهة ما دام يقوم بالأعمال كلها فما الداعي للآلهة الأخرى؟ وثانيهما أن يكون كل واحد من هؤلاء الآلهة يدير نظامًا خاصا به، وفي هذه الحالة لا بد أن نجد في نظام الكون اختلافا؛ ولكنا نجد أن القانون الطبيعي المشاهد في الكون لا يزال منذ ملايين السنين جاريًا على منوال ،واحد ولم نجد فيه أي اختلاف؛ فثبت أنه لا يدير هذا الكون إلا إله ،واحد ولا شريك له في ذلك.وقوله تعالى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يتضمن الرد على ألوهية المسيح اللي أيضًا، حيث بين الله تعالى أنه لا بد للإله أن يكون عالما بالغيب، ولكن المسيح يقول: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب".(مرقس ۱۳ : ۳۲) فما دام المسيح لا يعلم الغيب فكيف يصح اعتباره إلها.قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِي مَا يُوعَدُونَ (3) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّلِمِينَ ) التفسير: يتضح من دراسة القرآن الكريم أنه أحيانًا يستعمل صيغة الجمع ويقصد بها فردًا واحدا، حيث استخدم الله تعالى لفظ "الرسل" في مواضع شتى مع
الجزء السادس ۲۷۵ سورة المؤمنون أنه يشير إلى رسول واحد؛ وذلك لأن كل رسول يكون مشابها لجميع الرسل السابقين.وفي بعض الأحيان يتحدث القرآن الكريم عن شخص واحد وهو يقصد به قوما، ومثاله هاتان الآيتان، فالدعاء فيهما ليس من الرسول ﷺ بل من أمته.ذلك لأن العذاب إنما كان سينزل على الكافرين بسبب معارضتهم للنبي فيصبح من اللغو، والحال هذه أن يعلم هو دعاء بأن يا رب إذا جاء هذا العذاب الموعود فلا تشركني فيه.فالواقع أن الخطاب في قوله تعالى قل موجه إلى كل قارئ للقرآن الكريم، حيث علّمه الله تعالى أن يدعو دائما أن يا رب إذا حل العذاب بالكافرين فلا تشركني في عذابهم.لقد آمنت بمحمد رسول الله ﷺ، فلا تشمت بي الأعداء ولا تضمّنى إليهم عند العذاب لتقصير مني.أو المعنى: يا رب، إذا جاء العذاب وهلك الكفار وأخذ المسلمون زمام الحكم، فتبتني عندها على العدل والإنصاف، ولا تدعني أصبح في عداد الظالمين.وفي هذه الحالة هذا دعاء يصبح لتجنب الظلم والمعنى أنه إذا ما حل العذاب بالكافرين وزالت دولتهم وصار المسلمون ،حاكمين فلا تدعنا يا رب ننسى العدل والإنصاف في نشوة الحكم، فنظلم الناس وتثير سخطك علينا.وَإِنَّا عَلَى أَن نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَدِرُونَ (3) التفسير: أي أننا قادرون أن نعذبهم أمام عينيك وندمرهم في حياتك.وهذا ما حدث بالفعل حين فتحت مكة ودمرت قوة الكافرين وصار الحكم في أيدي المسلمين، ثم قويت الحكومة الإسلامية في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما- أكثر حتى قضت على إمبراطوريات قيصر وكسرى.ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِرُونَ ) ۹۷
الجزء السادس ٢٧٦ سورة المؤمنون التفسير: لقد علم الله تعالى هنا رسوله أن يرد على ظلم العدو بالعفو والإحسان، لأن رد الشر بالخير من صفة أولي العزم من الأنبياء.فلا يقولن في نفسه أن عدوه ظلم ثم نجا من العقوبة بسبب العفو، فلعله يعود إلى شره ثانية.كلا، فإننا على علم بكل مكر يمكره العدو، ولا شيء هو خارج عن نطاق جزائنا.وقد بين الله تعالى الحكمة وراء هذا الحكم فقال ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (حم السجدة فصلت:٣٥)..أي عليك أن تردّ بالإحسان على شر العدو، فسترى أنه نادمًا سيصبح بسبب حسن معاملتك، فيصبح يتجنب المرء شر غيره ويجعله يهتم بتدارك خطئه، ولكن إنزال العقوبة على الآخر ليس هو الطريق الوحيد لتجنب شر الآخرين، بل إذا كان العفو سيؤدي إلى الإصلاح فالأفضل للمرء أن يعفو عن الجاني ولا يظن بعد ذلك أن العفو ربما يأتي بنتيجة سيئة؛ إذ من المحال أن لا يتأثر الطرف الآخر من هذه المعاملة الحسنة.كلا، بل إنه يمتلئ خجلا وندما، فيصبح من الأصدقاء المحبين.صديقا حميما لك.وكأن الله تعالى يبين هنا أن الهدف من العقوبة أن وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَنطِينِ (3) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن تَحْضُرُونِ ! ۹۹ شرح الكلمات همزات: الهَمْرُ كالعَصر ، يقال : همزتُ الشيء في كفّي (المفردات).وهمز رأسَه: عصره.وهمز الشيطانُ الإنسان همس في قلبه وسواسًا (الأقرب).التفسير: اعلم أن همزات الشياطين" لا تعني هنا وساوس الشيطان، بل المراد من الشياطين هنا أعداء الإسلام الذين كانوا يؤذون الرسول ﷺ بصنوف العذاب.وكما ورد في شرح المفردات فإن الهمز يعني العصر أيضًا، فالمراد من دعاء رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُون أَن يا رب
الجزء السادس ۲۷۷ رة المؤمنون سورة احمني من هجمات إخوان الشيطان هؤلاء الذين يريدون أن يسحقوني سحقا، ويا رب لا أسألك أن تحول دون غلبتهم على فقط، بل أسألك أن تمنعهم من الاقتراب مني، فلا يؤذوني بأي أذى.وهذا المعنى يؤكده قول الله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ، حيث أن هذه الآيات لا تتحدث عن الوساوس الشيطانية بل تتحدث عن شياطين الإنس الذين كانوا يؤذون رسول الله.ولو لم نقبل هذا المعنى لم يعد الكلام اتضح متناسقا.حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (3) لَعَلَّى أَعْمَلُ صَلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَابِلُهَا وَمِن وَرَآبِهِم بَرْزَجُ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) التفسير : لقد بين الله تعالى في هذه الآيات أنه حين يحدق الهلاك بالمشرك ينسى أصنامه وآلهته ويتوجه إلى الله تعالى ويدعوه بكل تواضع وخشوع.إن هذه الآية غاية في الروعة حيث قد جمع الله تعالى معاني واسعة في كلمات وجيزة.فأولاً إن الله تعالى يذكر هنا أن هذا الكافر المشرك يناديه تعالى بلفظ رَبِّ، مما يعني أنه يعترف عندئذ بالتوحيد علنًا.ثم يتوسل المشرك إلى الله تعالى بقوله ارجعون..وهي صيغة الجمع التي تدل على اعترافه بكون الله تعالى عظيمًا وجامعا للكمالات كلها.كما أن لفظ ارجعون..يكشف لنا حيرة الكافر وقلقه، إذ يعني ارْجِعون: أَرْجِعْنِي، أَرْجِعْني أَرْجِعْني، ذلك لأن صيغة الجمع إذا استعملت للمفرد دلّت على التكرار.إذا فالله تعالى قد كشف بهذه الكلمة الواحدة عن شدة حيرة الكافر ومزيد قلقه الذي سيحاول تقديم طلبه الله تعالى في عجلة وتكرار.
الجزء السادس ۲۷۸ رة المؤمنون سورة ثم جملة لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ تشكل اعترافًا أكبر من المشرك بعظمة الله تعالى حيث ينكشف عليه عجزه وضعفه وتتجلى له قدرة الله الكاملة، فإنه رغم توبته الصادقة في زعمه سيقول يا رب لقد ذهب اليوم ما كان لدي من كبر وغرور.فلا أستطيع أن أعدك بيقين أنك لو أرجعتني إلى الدنيا سأعمل أعمالاً صالحة حتمًا، غير أني آمل أن أعمل صالحًا، إذ قد انكشفت علي حقيقة أمري وقلة حيلتي.إلا لقد بين الله تعالى في قوله كَلاً إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا أن الكافر لا بد أن يقول هذا الكلام في يوم القيامة بكل حسرة وندامة ولكن لن ينفعه قوله هذا شيئا، ولن تتحقق رغبته هذه أبدا.غير أن لقوله هذا معنى آخر وهو: ما كلمة يقولها الكافر ولكن لا يستجاب دعاؤه، لأنه سيوضع بينه وبين الدنيا حجاب إلى يوم القيامة، فمن المستحيل أن يرجع إلى الدنيا ثانية.هي فَإِذَا ذُخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَتبِكَ هُمُ الْمُ لِحُونَ (3) وَمَنْ خَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَبِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَلِدُونَ (3) تَلّحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَلِحُونَ ١٠٤ التفسير: من معاني الصور القرن الذي يُنفخ فيه لجمع الجيش، وهذا إشارة إلى أن الكافرين كلهم سيجمعون في ذلك اليوم للحساب والمؤاخذة.غير أن الصور جمعُ الصورة أيضًا، وعليه فالمراد أنه ستنفخ الروح في صور البشر فيعودون إلى الحياة.وهذا يعني أن الناس لا بد أن يُعطوا في الآخرة جسما ما وإن لم يكن جسما ماديا كالذي يكون للناس في هذه الدنيا.
الجزء السادس ۲۷۹ سورة المؤمنون أما قوله تعالى (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ فقد بين الله تعالى فيه أنه لن ينفع أحدًا مساعدة مساعد بل سينفعه عمله فقط.فإذا كانت حسناته أكثر من سيئاته فقد أفلح ونجا، وإن زادت سيئاته عن حسناته فقد خاب وخسر.أما قوله تعالى (وَلا يَتَسَاءَلُونَ فبين فيه أن الناس في ذلك اليوم لن يسألوا عن الآخرين بل يكون لكل امرئ منهم شأن يغنيه عن الآخرين فلن يتوجه إلى غيره.وبين في قوله تعالى تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالحُونَ أن سادة الكفار أيضا سوف يقعون في العذاب.ذلك لأن لفظ الوجه يعني السيد أيضا (الأقرب).إذا فإنهم سيتحسرون على تقصيرهم متأسفين ولكن لن ينفعهم عندها أسفهم شيئا.أَلَمْ تَكُنْ ءَايَنِتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِمَا تُكَذِّبُونَ (3) قَالُوا 1.7 رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِينَ رَبَّنَا ۱۰۷ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَلِمُونَ (3) قَالَ أَخْسَنُوا فِيهَا وَلَا ۱۰۸ تُكَلِّمُونِ : إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا ۱۰۹ فَأَغْرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ (3) فَاتَّخَذْتُمُوهُم سِحْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (٢) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اللَ آبِرُونَ (3) ۱۱۳ التفسير: أي أننا لم ننزل العذاب عليكم بدون إقامة الحجة، ولكنكم ظللتم مصرين على الإنكار رغم قيام الحجة عليكم.
الجزء السادس سورة المؤمنون عندما يسمع الكافرون قول الله تعالى هذا يقولون ربنا قد أحاطتنا شقاوتنا وكنا ضالين فأخرجنا مما نحن فيه ولو عدنا بعد ذلك إلى أعمالنا السابقة فإننا ظالمون بلا شك ويمكن أن تعاقبنا كما تشاء.فيقول الله لهم ابتعدوا عني وادخلوا في الجحيم ولا تتكلموا معي.لقد كان عبادي المؤمنون يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير من يرحم، فاتخذتموهم هدفًا للسخرية وكنتم تجدون في ذلك من المتعة ما أنساكم بطش الله تعالى وكنتم تضحكون على هؤلاء.وقد جزيتهم اليوم على صبرهم أنهم اليوم الفائزون الغالبون.إنه لمن المستغرب أن الله تعالى يقول هنا إنه لا يتكلم مع من يغضب عليه بل لا له أيضا بالكلام معه، ولكن من سوء حظ المسلمين أنه جاء عليهم زمان أخذوا يقولون فيه إن الله تعالى لن يكلم أحدا من الأمة المسلمة لأنها أفضل الأمم.إنا لله وإنا إليه راجعون.يسمح قَلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (3) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَادِينَ ) قَالَ إِن لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ۱۱۵ شرح الكلمات : يوما اليوم يعني الوقت مطلقا.قال الشاعر: يوماه يومُ نَدًى ويومُ طعان (أي يأتي على الممدوح وقتان، فإما هو في سخاء وكرم، أو في قتل أعداء).اليوم: الدهر (لسان العرب)
الجزء السادس ۲۸۱ سورة المؤمنون التفسير: أي عندها سيقول الله للكافرين كم مكثتم في الأرض من السنين.فيقولون: مكثنا يوما أو بعض يوم.وقولهم هذا يدل على عدم علمهم، ولأجل ذلك يقولون في آخر الآية إنْ لَبْتُمْ إلا قليلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).لقد بين الله تعالى في هذه الكلمات أن الكافرين يقضون حياتهم في اللهو واللعب، والوقت الذي يقضيه المرء هكذا يبدو له قليلا جدا.ومن أجل ذلك قال الله تعالى بعد ذلك أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ( فَتَعَالَى اللهُ الْمَلكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أي أيها الناس هل حسبتم خلقناكم بدون غاية فضيعتم أعماركم عبثا، ظانين أنكم لن ترجعوا إلينا لتحاسبوا على ساعات حياتكم المضيئة منها والمظلمة، مع أنه صح ظنكم لما ثبتت وحدانية الله تعالى ولا ملكيّته، إنما تثبت إذا كان لحياة الإنسان ،هدف، ومن لم يحقق هذا لو.الهدف ويضيع عمره في اللهو واللعب فيجب أن يحاسب على ذلك.أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ أننا ١١٦ فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (3) ۱۱۷ التفسير : لقد نبه الله تعالى هنا الجنس البشري إلى أن يتدبروا في غاية خلقهم يعني أنه ويفكروا فيما إذا خُلق الكون بلا هدف أو أنه لعبة يتفرجون عليها فحسب.هل يظنون أننا خلقناهم كلعبة ثم ندمرهم بدون أن يعودوا إلينا كما يفعل الأولاد حيث يصنعون لعبا ثم يفسدونها ويكسرونها؟ إنها فكرة حمقاء تماما ونسبتها إلينا إساءة بالغة في حقنا إذ هذا أن الله تعالى طفل في نظركم مع يتعالى عما تظنون علوا كبيرا.إنه رب كامل الصفات ومن المحال أن يتصور أحد أنه يلعب كالصبيان حيث يخلق الكون ثم يدمره تدميرا؛ ليس له هدف ولا غاية، مثله كمثل الصبيان الذين يبنون من الرمال بيوتا وفي النهاية يهدمونها بأرجلهم عندما يعودون إلى البيوت.يقول الله تعالى هل تظنون أننا خلقنا هذا الكون لاعبين كالصبيان..
الجزء السادس ۲۸۲ سورة المؤمنون أي نخلق الإنسان ثم نهلكه ونميته بعد فترة من الزمان، وهذا يعني أن الأطفال يلعبون بما يصنعونه ساعة أو ساعتين، وأما نحن فنلعب بما نصنعه سنوات عديدة! يقول الله تعالى فَتَعَالَى الله..أي أنكم لا تنسبون مثل هذا العمل إلى أي إنسان عاقل فكيف تنسبونه إلى الله تعالى؟ إن الوقت الذي يلعب فيه الطفل ببيته الرملي أقل كثيرا من الوقت الذي يقضيه في بنائه، أما الشخص العاقل إذا ما بنى بيتا فلا يهدمه إلا إذا كان فيه عيب، أو أراد أن يبني بيتا أفضل منه.أما الله تعالى فليس في ما يصنعه عيب، ثم إنه تعالى هو خالقُ العقل وعظيم الشأن، فكيف يمكنكم القول إنه يلعب.والواقع أنه يوجد في العالم العديد من الفلاسفة الذين يظنون أن هذا الكون لعبة خلقها الله تعالى لنفسه إنه تعالى استوحش الوحدة فقال لنفسه نصنع شيئا نلهو به فخلق الإنسان.وكما يبتهج الولد حين يكسر لعبته بينما يسخط عليه أبواه كذلك عندما يموت أحد من البشر ويبكي عليه أقاربه، يضحك الله ويفرح.وعندما تتأوه الأم من شدة آلام الوضع يضحك الله عليها ويبتهج.وهناك كثير من الناس الذين لا يقولون شيئا من هذا القبيل، ولكن أعمالهم تدل حتما على أنهم يقولون في أنفسهم لماذا جئنا إلى الدنيا؟ ثم يظنون أنهم قد أتوا إلى الدنيا عبثا ولو ناقشت أولئك الذين لا يرون لحياتهم غاية روحانية لوجدت أنهم يعتقدون أن الله تعالى إنما يلعب لعبة فحسب، والعياذ بالله.فالله تعالى يرد عليهم بقوله فَتَعَالَى الله : أي أنه أعظم شأنا وأسمى مقاما أن من يفعل هكذا.إنه لم يخلق الكون لهوا ولعبا، بل لقد اقتضت أربع من صفاته خَلْقَ العالم.لقد اقتضت صفاته الأربع أن تتجلى، فخلق الله تعالى الكون.وهذه الصفات الأربع هي : الْمَلكُ) و الْحَقُّ و لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ).إنه تعالى ملك، ومن مقتضى ملكيته أن يظهر ويتجلى وإنه تعالى الحق وكونه الحق يتطلب أن يتجلى.وإنه تعالى هو ولا إله إلا هو ومن مقتضى وحدانيته تعالى أن يتجلى.وهو تعالى (رَبُّ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم، وهذا يقتضي أن يتجلى.فلما كانت هذه الصفات الإلهية اقتضت ظهورها فخلق الله هذا الكونَ.ولو تدبرنا في هذه الصفات لوجدنا الله: الأربع هذه أنها في الواقع نفس تلك الصفات المذكورة في مستهل سورة الفاتحة، حيث يقول
الجزء السادس ۲۸۳ سورة المؤمنون الله تعالى الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، والفرق الوحيد هو في الترتيب فقط، حيث وردت هذه الصفات كلها في هذه الآية بعكس الترتيب الموجود في سورة الفاتحة.فترى أن قوله تعالى الْمَلكُ يشير إلى صفة مَالك يَوْمِ الدِّينِ، وقوله تعالى (الْحَقُّ يرمز إلى صفة (الرَّحِيمِ، وقوله تعالى لا إِلَهَ إِلا هُوَ يومئ إلى صفة الرَّحْمَنِ، وقوله تعالى رَبُّ الْعَرْشِ الكريم يشير إلى صفة رَبِّ الْعَالَمِينَ).وكأن الصفات الأربع الواردة في قوله تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلَكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيم) قد ذكرها الله تعالى باعتبارها المنبع، بمعنى أنها الصفات التي اقتضت خلق الكون، ولكن عندما خلق الإنسان نتيجة لذلك ذكر تلك الصفات الأربع بأسلوب آخر نظرا لعلاقة الله بالعباد.وبتعبير آخر لما خُلق الكون من قبل رب العرش الكريم العلي سُمي رب العالمين نظرا إلى العالم، ولما أرادت وحدانيته الكاملة أن تتجلى ظهر للناس بصورة الرحمن، فلبى كل حاجة للعالم كدليل على أنه لا إله إلا هو، ثم لما أرادت صفته (الحق) – التي معناها من وعده الحق والذي يقوم على هذا العالم بالحق - أن تتجلى ظهر على صورة الرحيم، ثم لما اقتضت ملكيته أن يسن قانونا سن القوانين والأحكام وقال الآن سأحاسب كل واحد لأرى مدى طاعته لأوامري، فظهر في صورة مالك يوم الدين.فالواقع أن الصفات الأربع الواردة في هذه الآية هي كمنبع للصفات الأربع المذكورة في سورة الفاتحة، بيد أنها وردت في سورة الفاتحة بترتيب يتفق مع موضوعها، أما في هذه الآية فجاءت بترتيب يتناسب مع موضوع خلق الكون، بمعنى أنه لما تجلى الْمَلِكُ ظهرت للناس صفته مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي مالك الجزاء، ولا يمكن أن يترتب الجزاء ما لم يكن هناك قانون من قبل الملك، فثبت أن كون الله تعالى مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ نتيجة لملكيته تعالى بداية.وكذلك لما أرادت وحدانيته تعالى أن تظهر انكشفت صفته الرحمانية، لأن الرحمن هو من يسد كل ضرورة حقيقية لكل مخلوق بغض النظر عن أي عمل يتمّ من قبل ذلك المخلوق وهذا لا يتأتى إلا إذا كان هناك إله واحد، أما إذا كان الماء مثلا سيأتي من إله بينما يومٍ
الجزء السادس ٢٨٤ سورة المؤمنون يأتي الخبز من إله آخر لاستحال التسليم بالوحدانية.ولكن إذا رأينا أن الله تعالى يسد لنا كل حاجة فيقر عقلنا أنه لا حاجة لأي إله سواه فالحق أن صفة الرحمانية هي من أقوى الدلائل على وحدانية البارئ تعالى إذ تسدّ حاجات كافة المخلوقات دون خلل أو انقطاع.ومن أجل ذلك نرى أن عقيدة توحيد البارئ تعالى إنما توجد في الأمم التي تؤمن برحمانية الله تعالى إن الهندوس والمسيحيين أمتان مشركتان وكلتاهما لا تؤمنان برحمانية الله تعالى وقد اضطرت إحداهما بسبب هذا الإنكار إلى اختراع عقيدة التناسخ بينما اضطرت الأخرى إلى اختلاق عقيدة الكفارة! ثم لما أرادت صفة الله الْحَقُّ أن تظهر وهب لطلاب الحق الحياة الأبدية من خلال رحیميته، لأن الرحيم هو من يجزي على الأعمال الحسنة أحسن جزاء ولا يضيع عمل عامل وهذا ما تقتضيه صفته (الحق) أيضًا، لأن (الحق) يريد أن لا يخلف وعده وأن ينال الناس ما وعدهم من جوائز؛ كما أن الحق أيضا القائم بذاته والذي يجعل الآخرين أيضا قائمين ثابتين وصفة الرحيم – أي من يجزي مرة بعد أخرى – ذات صلة بصفة (الحق) لأن (الحق) لا يقوم بنفسه فقط بل يجعل الآخرين أيضا ثابتين كما يجعل جوائزهم قائمة ثابتة والواقع أن لفظ (الحق) مصدر والمصدر يُستعمل بمعنى اسم فاعل مع المبالغة في المعنى مثل لفظ العدل الذي يعني العادل جدا (الأقرب).وبما أن الرحيم عملا حسنا لأحد - أيضا لا يعني من يضيع يعني ويجزي بلا انقطاع لذا فثبت أن هذه الصفة إنما تتعلق بـ (الحق).ثم أراد رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أن يكون هناك مخلوق يقوم بربوبيته، فخلق الكون، وهكذا فظهر على صورة رب العالمين).لقد بين الله تعالى باستعمال رَبُّ الْعَرْشِ الْكَريم أنه مركز للصفات الحسنة كلها وأنه صاحب الحكم وأن عرشه كريم، والكريم هو صاحب العزة والإحسان؛ وهذا هو المراد من (رب العالمين).قصارى القول إن صفة رب العالمين تابعة لصفة رب العرش الكريم، وصفة (مالك يوم الدين تابعة لصفة (الملك)، وصفة (الرحيم) تابعة لصفة (الحق) وصفة
الجزء السادس الفاتحة ٢٨٥ سورة المؤمنون (الرحمن) تابعة لصفة (لا إله إلا هو.إذا فالصفات الأربع المذكورة في سورة هي نفس الصفات التي ذكرها الله تعالى في قوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الكريم، وهكذا نبه الله الناس إلى أنه لم يخلق الكون لهوا ولعبًا بل قد خلقه لأنه الملك ولأنه الحق ولأنه لا إله إلا هو ولأنه يصبح العرش الكريم.إن هذه الصفات الأربع هي التي اقتضت أن يتجلى الله فأظهر نفسه، ولو تدبرنا لوجدنا أن هذه الصفات الأربع توجد في الإنسان أيضا على سبيل المجاز.لقد أودعه الله تعالى صفة الملك التي يصبح بها مظهرا لـ (مالك يوم الدين.وهذه الصفة غالبة على الناس لدرجة أن أفشل الناس أيضا يتمنى أن ملكا ويكون تواقا لتقديم مشورته واقتراحه ثم إن الملكية تقتضي نظاما، والإنسان أيضا يسن القوانين بصفته ملكا، ويفصل بين الناس بصفته مالك يوم الدين.ثم إن الملكية تدل على نظام كامل لأن من واجب الملك أن يحافظ على النظام ولا يدع الناس يظلم بعضهم بعضا.وبما أن الله تعالى الملك فاقتضت ملكيته وجود نظام بين الناس أيضا، ومن أجل ذلك خلق الإنسان بطبع مدني يحب العيش مع الآخرين، وجعل له الزوجات والأبناء والأقارب والأصدقاء.لا شك أن للحيوانات أيضا أولادا وأقارب وما إلى ذلك، ولكنها لا تعيش معها كما يعيش مع الإنسان أقاربه وأولاده.فمثلا ليس عند الحيوانات نظام تربية الأولاد بل بمجرد أن ولدها قادرا على أن يقتات بنفسه تخرجه من البيت.لا يمكن أن تأخذ الحيوانات ولدها معها بعد أن صار كبيرا، بينما نرى في الناس أن الإنسان حتى ولو صار شيخا كبيرا فإن أبويه يهتمان به ويفكران فيه ثم ليس عند الحيوانات أي نظام للقرابة، ولو سمينا نظام التعاون الموجود بين النمل نظام القرابة فليس عندها نظام عائلي كالذي عند الناس فلا ترث بعضها بعضا ولا تتحمل إطلاقا مسؤولية الآخر بدافع القرابة.يصبح فبما أن الملكية تقتضي نظاما كاملا أراد الله تعالى أن يوجد نظاما كاملا في العالم ومن أجل ذلك خلق الإنسان مدني الطبع.
الجزء السادس ٢٨٦ سورة المؤمنون ثم إن صفة الحق، التي تتبعها صفة الرحيمية، تدل على إصلاح الأخلاق الفاضلة والأعمال، ذلك لأن الرحيمية معناها إعطاء أحسن الجزاء على الأعمال وهذا يتعلق بالأخلاق لأن الإنسان إنما يُجزى على عمله إذا كان عملا حسنا وإلا فلا.وكما أن الله تعالى خلق الإنسان مدني الطبع ليكون صالحا لقبول نظام الملكية كذلك إن الحق تعالى زوده بأخلاق فاضلة فكل إنسان، سواء كان تابع دين غيره، مثقفًا أو غير مثقف، كلما يرى أمرا يخدش الأخلاق يحمر وجهه غضبا مما أو يدل على أن فطرته هي التي تتكلم وكلما كذب الإنسان أول كذبة امتقع لونه، وكلما حاول أوّل سرقة اضطربت يده، إلا أن يكون معتادًا على الكذب والسرقة؛ ذلك لأن الأخلاق الفاضلة مودعة في فطرة الإنسان من قبل الله تعالى.وحيث إن الله تعالى رحيم ، فكان لزاما أن تعمل الدنيا أعمالا صالحة لتجزى عليها.ثم إن من معاني الحق من يعد وعدا حقا لأجل ذلك قد خلق الله الإنسان متصفا بصفة الحق والصدق.إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يبلغ في الصدق منتهاه ويقدم في سبيل إعلاء الصدق والحق تضحيات عظيمة لا يوجد لها نظير في أي مخلوق آخر.لقد كان في الأمة المحمدية كثير من الأولياء الذين تحملوا في سبيل الحق مصائب كبرى حتى إنهم رضوا بالموت ولكنهم لم يتخلوا عن الحق.وتوجد في جماعتنا أمثلة شهداء كابول الذين رضوا أن يُقتلوا رجما بالحجارة، ولكنهم لم يرضوا ولا للحظة واحدة بأن يتركوا من أجل الناس الحق الذي اتبعوه.انظر إلى سيدنا ومولانا محمد ، كان عمه أبو طالب يقوم بحمايته في الفترة المكية ولأنه كان رئيسا لقومه فكانت قريش لا تستطيع إيذاء النبي كما كانوا يؤذون صحابته ولكن قريشًا لما سئمت من وعظ النبي الله وأحست بأن الإسلام في تقدم وازدهار وأنه إذا لم يحولوا دونه فسيتعذر عليهم القضاء عليه.فذهب وفد منهم إلى أبي طالب وقالوا له إن ابن أخيك يضايقنا جدا ويسب آلهتنا ويدعو إلى إله واحد، فامنعه من ذلك، وإذا لم يمتنع فخَلّ بيننا وبينه، وإذا لم تتخل عن حمايته فلن نرضى بسيادتك ولن تكون العواقب محمودة.كان أبو طالب سيدا لقبيلته، والشعوب التي تعيش حياة قبلية تكون السيادة عندهم شيئا غالي الثمن جدا.فلما سمع أبو طالب
الجزء السادس ۲۸۷ سورة المؤمنون قول قريش أصابه القلق فدعا رسول الله وقال له يا ابن أخي إن القوم ثائرون وكادوا يقتلونك ،وإياي، لقد سعيت جاهدا لحمايتك ولكن قومي قد حذروني اليوم صراحة بأن أتركك وإذا لم أتركك فسوف يرفضون سيادتي.كان الأمر اختبارا شديدا لأبي طالب فغلبت عليه الرقة عند هذا الكلام فاغرورقت عينا الرسول ﷺ برؤية ما عند عمه من حزن وأسى.ولكنه الا الله قال : يا عم لن أنسى معروفك أبدا.لقد قدمت من أجلي تضحيات جسيمة، ولكن يا عم لقد بعثني الله تعالى لهذه المهمة، فإن كنت تخاف من أذى قريش فخُذُ عني أمانك، لقد أراني الله الحق فلن أتخلى عنه أبدا والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري فلن أترك المنهج الذي وهبني - ٤٠٧ الله إياه.(المواهب اللدنية الجزء الأول ص ٤٨ ، والطبري الجزء الثاني، ص ٤١٠: ذكر الخبر عما كان من أمر نبي الله الله والسيرة النبوية لابن هشام الجزء الأول ص ٢٨٢، مباداة رسول الله ﷺ قومه وما كان منهم، و ص ٣١٦ ما دار بين رسول الله ﷺ ورؤساء قريش) هذه الكلمات ليست بكلمات هيئة عادية إن المؤرخين الأوروبيين المعادين للإسلام عندما يكتبون وقائع حياة الرسول ﷺ ويصلون إلى هذا الحادث ترتعش قلوبهم ويكتبون مكرهين بأن هذا الحادث يدل على أن محمدا رسول الله ﷺ لم يكن يكذب بل كان موقنا بصدق التعليم الذي جاء به.إذا فإن الله تعالى قد جبل الإنسان على الصدق والحق لدرجة أن حياته تنقلب تماما لتمسكه بالصدق.ثم من معاني الحق القيومُ المحافظ على الكون.والأنبياء أفضل نموذج لهذه الصفة الربانية أيضا حينما يكون غضب الله تعالى على وشك الثوران بسبب ذنوب العباد فإن صفته الحق) تتوجه فورًا إلى نبيه فيقول الله تعالى كيف يمكن أن أهلك الدنيا وهذا الشخص موجود بين أهلها.وشخص النبي يصبح بمنزلة التعويذة للدنيا، وينجو الخلق بسببه من غضب الله تعالى وكثير من البلايا الأخرى.ثم إن صفة الله تعالى لا إله إلا هو – التي هي منبع لصفة الرحمانية – وثيقة الصلة بالتضحية والإيثار لأن الرحمانية تقتضي الإحسان دونما عمل أو اجتهاد من الغير.وهذه الصفة أيضا مودعة في فطرة الإنسان، فترى كيف يتفانى الوالدان في
الجزء السادس ۲۸۸ سورة المؤمنون تربية الطفل والعناية به ساهرين على راحته بكل الطرق بغض النظر عما إذا كان سينفعهما أم لا عندما يكبر.لا يكترثان لراحتهما بالنهار ونومهما بالليل جاهدين في حمايته وبقائه.وما هذا إلا انعكاس لصفة الله الرحمانية التي تتجلى في الإنسان.كذلك نرى أن الشخص الذي يشاهد مقام لا إله إلا هو يقف بنفسه موقف التوحيد.والمقصود من الوقوف في مقام التوحيد أن الله تعالى يحب ذلك العبد كحبه تعالى لتوحيده وتفريده ولا يبالي بالدنيا كلها إزاءه.وهذا هو المقام المذكور في الحديث القدسي: "لولاك لما خلقتُ الأفلاك"..(الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة: حرف اللام..أي يا محمد، لولا أنت لما خلقتُ الأرض والسماوات.وأيضا من مواقف التوحيد أن الله تعالى جعل رسولنا الكريم سيد ولد آدم وسيد الأولين والآخرين وقرر ألا تلد بعده أم من الأمهات ولدا يبلغ سمو مكانته.ثم إنه قد بلغ مقام التوحيد من حيث إنه قد تفانى في سعيه لقيام التوحيد لدرجة أن غابت الدنيا وما فيها عن أنظاره فلم ير إلا الله تعالى.ثم إنه الله وقد بلغ مقام التوحيد من حيث إنه تَبوّاً أسمى مقام في التوكل على الله تعالى؛ فكان لا ينظر إلى ما سوى الله تعالى.هذا، ولأن الله تعالى رب العرش الكريم فقد جعل لكل إنسان نصيبا من صفته رب العالمين حتى إن كل أب وأم يقومان بتربية ولدهما.وقد انعكست هذه الصفة في رسول الله ﷺ لدرجة أنه لم يبق شيء من الدنيا خارج نطاق إحسانه من الواضح أن جميع المخلوقات تندرج تحت ربوبية رب العالمين بما فيها الإنسان والحيوان والذكر والأنثى والمؤمن والكافر والغني والفقير وحتى الأنبياء والملائكة.وعندما نمعن النظر في حياة الرسول الله يتبين لنا أنه كان مظهرا كاملا لصفة رب العالمين.حتى لم يبق أي مخلوق خارج نطاق إحسانه.والحيوان من أهم المخلوقات التى أوصى الرسول لم أمته بوصايا عديدة ومتنوعة بصددها.فقال مثلا: لا تحبسوا الحيوانات الطليقة، وإذا حبستموها فأطعموها واسقوها.ولا تذبحوا حيوانا أمام حيوان آخر لكي لا يتأذى.ولا تذبحوا حيوانا إلا بسكين حادة.ولا ترموا بالسهام حيوانا محبوسا ولا تحمّلوه أكثر من طاقته.ولا تكووا الحيوان على
الجزء السادس ۲۸۹ سورة المؤمنون وجهه، وإذا كان لا بد من كيه فعلى ظهره.كما قال الرسول ﷺ إنكم تثابون على إطعام الحيوانات الأليفة.وقال إن إنسانًا كان يطعم بعض الحيوانات فأحب الله عمله فوققه للدخول في الإسلام.(مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم تعذيب الهرة، وابن ماجة: كتاب الذبائح، باب إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، والبخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة، وأبو داود: كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب، وباب النهي عن الوسم في الوجه) وكان شديد الاهتمام بحقوق النساء وفقًا لقول الله تعالى ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف ﴾ (البقرة: (۲۲۹)..أي كما أن على النساء حقوقا للرجال كذلك للنساء حقوق على الرجال، يجب عليهم أن يؤدوها لهنّ.كما أن النبي ﷺ فتح الطريق لرقي النساء في كل شعبة من شعب الحياة.لقد جعلها وارثة في المال والعقار وقام بمراعاة عواطفهن وأحاسيسهن واهتم بتعليمهن وأمر بتربيتهن وأعلن أنه كما للرجال مراتب غير متناهية للرقي في الجنة كذلك للنساء فرص غير متناهية للرقي في الجنة.ثم تقع كثير من الخلافات بين الناس نتيجة اختلافهم كشعوب وأديان وحكومات، وتؤدي هذه النزاعات إلى الحروب في أحيان كثيرة.وحتى في أوقات الحروب الدامية التي لا يبالي فيها إنسان بآخر يرتفع صوت محمد رسول الله يقول : ألا لا تقتلوا من هؤلاء الكفار امرأة ولا طفلا ولا قسيسا ولا راهبا.ولا تحرقوا بستانا ولا تهدموا معبدا ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تكذبوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا من يلقي السلاح أمامكم.ولا تقتلوا جريحا، ولا تعذبوا أحدا بالنار، ولا تمثلوا بقتلى الكفار.* انظر البخاري: كتاب الجهاد باب قتل الصبيان في الحرب وباب قتل النساء في الحرب، وباب لا يعذَّب بعذاب الله، ومسلم: كتاب الجهاد، باب فتح مكة، وأبو داود: كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين، وباب النهي عن المثلة والموطأ لمالك: كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، والسيرة الحلبية الجزء الثالث ص ٩٤: فتح مكة، والطحاوي: كتاب السير، باب الشيخ الكبير هل يُقتل في دار الحرب.(المترجم)
۲۹۰ سورة المؤمنون الجزء السادس ولو أردنا التعبير عن هذه الوصايا نقول إن المسلمين لما خرجوا لصد عدوان الكفار شاهرين سيوفهم بعد تعرضهم لتعذيب الكفار مدة طويلة فإذا هم يجدون محمدا رسول الله الله الذي أمرهم بقتال الكافرين واقفا بينهم وبين العدو يقول لهم: لا تشدّدوا عليهم أبدا وكأن محمدا ﷺ لم يكن قائدا لجيوش المسلمين بل كان يقود جيش الكافرين أيضا ويحميهم من أية تجاوزات محتملة من قبل المسلمين.إذا فنجد أن الرسول ﷺ كان مظهرا لصفة الله رب العالمين حتى في الحروب.ثم إن النبي أحسن إلى العبيد، وقال: إن من ضرب عبده فهو آثم، وكفارته أن يعتقه.وقال : لا تطلب من عبدك من العمل ما لا يطيقه.وإذا كان العمل أكثر من قدرته فساعده، وإذا كنت لا تريد ذلك فلا يحق لك أن تسخره في العمل.وكذلك أوصى النبي الله أن السيد إذا سب عبده فعليه أن يعتقه على الفور.إذًا، فقد ثبت للسيد والأجير بأنه لا الهلال كان مثالاً لصفة الله رب العالمين.لقد قال للأجير من ناحية عليك أن تكسب حلالا وتعمل بجهد وقال للسيد من ناحية أخرى لا تسخره في عمل لا يطيقه، وأد الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.كما أعطى النبي الله التعليمات بصدد التجارة وغيرها من المعاملات، بل ليس هنالك شعبة من شعب الحياة إلا وأعطى النبي بصددها تعليمات واضحة إحسانًا إلى الجنس البشري.قد يقول قائل لا شك أن محمدا قد من وقد أحسن بهذه التعليمات إلى الذين جاءوا بعد بعثته، لكن ما هو المعروف الذي أسداه إلى السابقين؟ فأقول لمثل هؤلاء السائلين إن النبي الله لم يحسن إلى من كان في زمنه أو للأجيال التالية القادمة فقط، بل أحسن أيضا إلى الذين خلوا من قبله.لقد بعث في زمن قد اتهم فيه جميع انظر مسلم: كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، والبخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، والترمذي أبواب الأحكام، باب ما جاء أن الوالد يأخذ مال ولده، وابن ماجة كتاب التجارات، باب الحث على المكاسب، وأبواب الرهون، باب أجر الأجراء.(المترجم) من
الجزء السادس ۲۹۱ سورة المؤمنون الأنبياء بشتى التهم.والغريب أن كل نبي قد تعرّض للتهم على يد أمته المؤمنة به.لقد رُمي عيسى بالتهم وكذلك داود وسليمان عليهم السلام.بل لقد قال النصارى الأنبياء كانوا لصوصا وصعاليك - والعياذ بالله - إلا المسيح (يوحنا ١٠: أن جميع.قد استثنوا المسيح بلسانهم فقط، إذ لم يرتدعوا عن رميه أيضًا بشتى التهم.فقالوا مثلا أنه أخذ حمارًا بدون إذن من صاحبه وظل يتجول هنا وهناك راكبًا على ظهره.(مرقس ۱۱: ۲-۷) وكان المسيح يسب الناس ويسمّيهم جيل" فاسق وشرير.." (متى ۷: ۲۳).لقد مات على الصليب حاملا خطايا الناس، وبالتالي صار ملعونا – والعياذ بالله ومكث في الجحيم ثلاثة أيام.(The lost books of the Bible p.91: the apostles creed) - وكان يقتل قطعان الخنازير بدون أن يدفع ثمنها لأصحابها (متى ٨: ٣٠-٣٤).كل ذلك بحسب ما ورد في الكتب المسيحية نفسها.ثم هناك الهندوس الذين يؤمنون بأن حضرة كرشنا وحضرة رام تشندر من أنبيائهم، ولكنهم يقولون أن رام تشندر تعامل مع "سيتا" معاملة سيئة جدا.ولو أخذنا ما ينسبون إليه من صلاح وخير لاستحال علينا أن نتصور أنه ارتكب هذا الظلم العظيم.أما كريشنا فيقولون عنه أنه كان يسرق الزبدة وهو نبي الله أيضا.مها ريشي ويد وياس شریمد بهاکوت مها پران دوسرا کھنڈ سکنڈھ (۱۲۹) إذًا فكل الأنبياء قد رُموا بشتى التهم ،والمثالب وإن محمدا هو الوحيد الذي قد أعلن براءة جميع الأنبياء من التهم، موضحًا أنهم كلهم – عليهم السلام – كانوا عبادا صالحين طاهرين متقين، ويجب أن لا يتهموا بأي تهمة.فالرسول ﷺ لم يحسن إلى الأجيال الموجودة والقادمة فحسب، بل أحسن أيضا إلى الأنبياء الذين خلوا من قبل، كما أحسن إلى أممهم إذا أخبرت اليهودي أن أسلافكم كانوا صالحين أبرياء من كل هذه النقائص والعيوب يصبح تاريخه السابق نقيا ومنـزها من النقائص وسيحاول بكل سرور اتباع خطوات أسلافه ونفس الحال بالنسبة للمسيحيين وغيرهم من الأمم.فالنبي لم يعمل على رقي قومه فقط، بل قام أيضا بتنقية
الجزء السادس ۲۹۲ سورة المؤمنون روايات الأمم الأخرى، وعرض عليهم النماذج الطيبة لصلحائهم التي لو اتبعوها لحققوا تقدمًا عظيمًا.ثم إن النبي ﷺ أحسن إلى الملائكة أيضا، إذ كانت الملائكة عرضة لتهم عديدة، فجاء الإسلام وبيّن أن الملائكة ليسوا آثمين، بل إن الله تعالى لم يخلق فيهم عادة الرفض والإنكار، وإنما يفعلون ما يُؤمرون (التحريم ( فمن الظلم العظيم اتهامهم بأي تهمة ورميهم بأي إثم.ثم إن النبي ﷺ قد من على كل من الآثمين والمذنبين وملأ نفوسهم فرحة وبهجة.قبل بعثة النبي ﷺ كانت الدنيا كلها تقول بأن الآثمين سوف يُلقون في الجحيم الأبدية ومن دخل في الجحيم مرة لن يخرج منها أبدا وهذا يعني أن الدنيا كانت تجعل الآثمين يائسين من رحمة الله تعالى أو تغلق عليهم باب التوبة.لكن الرسول ﷺ أعلن أنه مهما صار الإنسان آثما فإن الله تعالى مستعدّ للعفو عنه.مهما كبرت ذنوب المذنبين فإن رحمة الله تعالى أكبر من ذنوبهم فلا يأخذكم خوف وقلق بسبب الذنوب.لو تبتم إلى الله فإنه سيعفو عنكم ويغفر لكم في أي وقت.(الترمذي: أبواب الدعوات، باب فضل التوبة) كم هو كبير هذا الأمل الذي خلقه الرسول ﷺ في قلوب المذنبين، فكم هي قوية تلك الأمنية التي نفخها محمد ﷺ في نفوسهم.باختصار لقد ظهرت صفة الله رب العالمين في شخص الرسول الله أكمل ،ظهور ، ثم ظهرت في كثير من أولياء الأمة المحمدية وصلحائها بحسب درجاتهم ولا تزال تظهر.قصارى القول إن الصفات الإلهية الأربع التي بينها الله تعالى هنا هي التي يمكن بها قيام الأمن والسلام في الدنيا، فلولا القانون وتطبيقه لما ساد السلام في الدنيا.ثم لولا التربية الصحيحة والحياة العائلية السليمة لضاع الأمن والسلام أيضا.إنما السبيل لقيام الأمن والسلام في الدنيا أن يدرك الإنسان غاية خلقه.ويستحيل استيعاب هذه الحقيقة ما لم يعرض أمام الإنسان التعليم الذي جاء به محمد رسول الله ، وما لم نضع أمامه نماذج رحمة الله تعالى وما لم نقنعه بأن هذه الحياة الدنيا لیست هدفه وإنما الحياة الحقيقية هي تلك التي يُعرض فيها على ربه، فيقول تعالى له
الجزء السادس ۲۹۳ يصير سورة المؤمنون فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر : ۳۰-٣١)..أي يا عبدي إنني أريد أن أنعم عليك بجوائز لا نهاية لها أود أن أكتب لروحك الخلود.لا شك أن حياتك الدنيوية كانت مليئة بصنوف اليأس والخيبة والمرض، ولكن تذكر أنها لم تكن الحياة كلها، وإنما الحياة الحقيقية التي سوف أهبها لك الآن والتي هي بريئة من كل أذى وذلة وانحطاط وزوال تعال وادخل في جنتي هذه.عندما تتولد هذه الفكرة في قلب المرء وحينما يدرك أن حياته ليست لهوا وعبثا، بل هي تمهيد لحياة أخرى عظيمة، وأن الحياة الحقيقية إنما هي التي تبدأ بعد الموت، عندها يشعر في قلبه بطمأنينة وسلام حقيقيين وعندها لا يفرح هو بولادته فقط بل يفرح بموته أيضا إذ يعلم أن موته لم يأت لكي يهلكه ويدمره بل جاء ليأخذه من مقام أدنى إلى مقام رفيع جدا.هل رأيت أحدا يبكي حينما حاكما للمحافظة بعد أن كان مسؤولا عاديا؟ كذلك المؤمن لا يبكي على موته بل يفرح ويبتهج لإدراكه أنه حان أن ينال الجوائز.أما الذي يبكي لدى اقتراب أجله، فإنما يبكي لأنه ظن أن الحياة الدنيا هي الحياة كلها ووجد أنه قد قضى مُعظم هذه الحياة في الفشل والحسرة والمرارة ولم يجد فيها أي متعة ولكن الذي يعلم أن الحياة الدنيا هي كقاعة الامتحان، فيفرح عند الخروج منها كما يفرح الطالب الذي أجاد الإجابة على الأسئلة عند خروجه من قاعة الامتحان فيخرج المؤمن من غرفة امتحان الدنيا فرحًا مسرورًا بعد أن أجاد الإجابة على الأسئلة ويقول في نفسه سوف أقابل بعد قليل ربا رحيما قد وعدني بجوائز لا نهاية لها.سوف أذهب إليه وأتلقى الجوائز.وكما أن طلاب الجامعات الذين يلبسون ملابس أنيقة وحللا خاصة حين يذهبون لاستلام شهاداتهم كذلك المؤمن الموقن بواسع رحمة عندما يموت يرقص قلبه فرحًا ويقول في نفسه إنني ذاهب لأتلقى من ربي جائزتي.وما لم يعمر قلب الإنسان بهذا الأمل يستحيل أن ينال الراحة الحقيقية.إذا فإن الله تعالى قد زود الإنسان بطاقات كبيرة وقد فرض عليه أن يسعى ليكون مظهرًا لصفاته تعالى، وهذا هو الأمر الذي يبعث الله من أجله أنبياءه ويريد الله وعظيم منه تلك أفضاله، أن يقيم من خلالهم حكومة روحانية يكون جميع أفرادها مظاهر لصفاته تعالى.
الجزء السادس ٢٩٤ سورة المؤمنون فما لم يعتنق المرء الدين مدركًا بكل هذه المسؤوليات فدخوله في الدين وخروجه منه سيّان.إنه يُعلن أنه مسلم ويظن أنه يكفيه لإسلامه أن ينطق "لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يدرك أن القرآن كله إنما هو تفسير لـ "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وأنه لن يكون مسلما حقا ما لم يعمل بكل ما في القرآن الكريم.إن الإنسان ليس اسما لعضو واحد منه، بل هو مجموعة أعضاء كثيرة من أنف وأذن وعين ووجه وعنق ورأس وصدر وأيد وأرجل وما إلى ذلك.ولا يمكن فصل أي عضو من هذه الأعضاء عن غيرها، لا يمكن فصل الرأس ولا الجذع ولا الأيدي ولا الأرجل.وبالمثل ليس قولنا "لا" إلا الله محمد رسول الله شيئا مفردا، بل هو اسم يطلق على مجموعة أربعة أعضاء روحانية.إنه اسم يطلق على من يصير مظهرا لـ (الملك) و(الحق) ولا إله إلا هو و رب العرش الكريم.فالإنسان لن يُعد صادقا في قوله "لا إلا إلا الله" إلا إذا صار مظهرا لصفات الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.فمن لم يتصف بهذه الصفات فمثله كمثل الذي يظن الشيء الذي ليس فيه قلب ولا مخ ولا أيد ولا أرجل إنسانا، إنما الناجحون الذين يجعلون أنفسهم مظاهر لصفات الله تعالى ويُحدثون في أنفسهم تغيرا طيبا، وبالتالي يحققون الهدف الذي خلقوا من أجله.وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَنهَا وَاخَرَ لَا بُرْهَنَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ ج عِندَ رَبِّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُلِحُ الْكَرُونَ * وَقُل رَّبِّ اغْسِرْ وَارْحَمْ ۱۱۸ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّحِمِينَ ۱۱۹ التفسير: أي من دعا أحدا لنصرته باعتباره إلها من دون الله تعالى ليس عنده دليل على كونه إلها فلا بد له من المثول أمام ربه ليحاسبه ومثل هؤلاء الكافرين لن يفلحوا أبدا أي أنهم لن يتغلبوا على المسلمين بل سيكون المسلمون هم الغالبين.بيد أن من واجبك لتحقيق هذا الهدف أن تسأل الله تعالى المغفرة والرحمة، وقل يا
الجزء السادس ۲۹۵ سورة المؤمنون الله رب أنت خير الراحمين.بمعنى أن أنجع سلاح لنشر السلام هو أن تنيبوا إلى الله وتدعوه أن يزيل ضعفكم ويعطيكم نصيبا من رحمته وكرمه، ويهب لكم من الغلبة الروحانية ما تحدثون به في أفكار الناس وميولهم ورغباتهم تغييرًا طيبًا، وتجذبونهم إلى التوحيد، لتضعوا الأساس لحضارة جديدة.وذلك لكي يظهر على الناس جلال وجماله وليقوم ملكوت الله على الأرض كما هو في السماء.وهذا سلاح يستطيع كل إنسان استعماله حتى الضعفاء والمرضى الذين أصبحوا طريحي الفراش فبإمكانهم أن يجلبوا نصر الله بطرق بابه.ويستطيع المساجين الذين يعيشون خلف القضبان أن يستخدموا هذا السلاح لينالوا ثواب خدمة الدين.كما يمكن للفقراء، الذين تعتصر الحسرة قلوبهم ويتمنون أن يملكوا مالاً ينفقونه في سبيل نشر الدين، أن يستخدموا هذا السلاح ليقربوا به يوم غلبة الإسلام، فيشتركوا مع الآخرين في الثواب.إنما المطلوب أن يخر الإنسان على عتبة الله، وأن يدعوه في غاية الخشوع والتواضع: ﴿رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الراحمين.
الجزء السادس ۲۹۷ سورة النور سورة النور مدنية، وهي مع البسملة خمس وستون آية وتسعة ركوعات سورة "النور" مدنيّة بالإجماع، لا يختلف في ذلك المسلمون ولا المستشرقون النصارى (القرطبي، وتفسير القرآن الكريم لـ "ويري") علاقتها بالسورة التي قبلها: تكمن علاقتها القريبة بالسورة التي قبلها في أن الله تعالى قد أنبأ في سورة "المؤمنون" بوجود أناس بين المسلمين يرتقون في الروحانية وينالون نصرة الله تعالى، وقد بين الله تعالى في هذه السورة الطرق التي إذا اتبعها الإنسان نال نصرته تعالى، فأخبر أن سبيله هو إصلاح أخلاق الناس وتنظيم العائلة والمجتمع.فاستهل الله هذه السورة بذكر التدابير التي تُساعد على إصلاح الحالة الأخلاقية للمجتمع، فنبه إلى إصلاح العلاقة بين الرجل والمرأة، وبتعبير آخر قد أخبر الله تعالى أن معارضي الإسلام لم يتردّوا دينيًا فحسب بل ساءت حالتهم الأخلاقية أيضا، فلن يفلحوا أبدا أما المسلمون فسيتقدمون دينا وأخلاقا ويصبحون من خاصة المسيحيون منهم.الفائزين.والحق أن هذا الموضوع نواته موجودة في سورة "المؤمنون" حيث بين الله تعالى أنه من صفات المؤمنين المفلحين أنهم (الفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، فحري بنا أن نقول إن هذه السورة قد تناولت موضوع فلاح المؤمنين بتفصيل أكثر.كما تبين هاتان السورتان - ضمنيًا - أن الناس يظنون أن مجرد الإيمان بدين صادق يضمن لهم الفلاح واستمراره على الدوام.إنه ظنّ خاطئ، إذ لا بد من أجل الفلاح من إصلاح الذهن والأفكار والأخلاق علاوة على صحة العقيدة، كما لا بد لأجل ذلك من أن تتم العلاقات بين الأفراد والمجتمع على أساس الكفاءة
الجزء السادس ۲۹۸ سورة النور والرشد، وأن يكون هناك اهتمام خاص بتنظيم المجتمع، وأن تقدم المصالح العامة على المصالح الفردية.زمن نزولها: لقد سبق أن قلنا إن هذه السورة مدنية، وبقي الآن تحديد تاريخ نزولها.فليكن معلوما أن حادث عائشة رضي الله عنها - الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة قد وقع في السنة الخامسة الهجرية لدى العودة من غزوة بني المصطلق التي وقعت في شهر شعبان من تلك السنة (البداية والنهاية، الجزء الثالث: قصة الإفك)؛ لذا فيمكن القول إن هذه السورة قد نزلت في الشهور الأخيرة من السنة الخامسة الهجرية.ملخصها : تضمنت هذه السورة أحكاما خاصة، كما بين الله تعالى فيها الأمور التي تساعد على رقى المجتمع (الآيتان (۲۱).الفاحشة تخرّب النظام العام وإشاعتها تفسد الأخلاق، فلا بد من تحتبهما.(الآيات ٣-٦).ثم بين الله تعالى أن سوء الظن بين الزوجين يؤدي إلى فساد العلاقات العائلية، لذا فحكمها مختلف عن حكم الآخرين.فإذا حصل بينهما شك وسوء ظن، فيُفصل بينهما بناء على شهاداتهما المقرونة بالقسم لا بناء على شهادات الآخرين.(الآيات ۷-۱۱) ثم بين الله تعالى أن وقوع حالات نادرة فردية من ارتكاب الفاحشة يؤدي في بعض الأحيان إلى مصلحة للمجتمع، إذ يصحو القوم من غفوتهم، فعليهم ألا يتضايقوا من ذلك بل ينتفعوا مما فيه من دروس وعليهم أن يتذكروا دائما أن لا يقولوا بصدد الفاحشة إلا ما هو في نطاق الشهادة القانونية، لأن تبادل التهم بناء على سوء الظن أو على شهادات شهود ضعفاء يؤدي إلى انتشار الفاحشة بين المجتمع، ويظن الشباب أن الفاحشة متفشية في قومهم بكثرة فيستمرئون ممارستها.(الآيات ۱۲-۲۱)
الجزء السادس ۲۹۹ سورة النور ثم يقول الله تعالى أيها المؤمنون إن حماية الأخلاق أمر هام جدا.إن كل الأمور التي تؤدي إلى تردّي أخلاق المجتمع أمور شيطانية.والحفاظ على أخلاق المجتمع يتطلب تيقظًا كبيرًا، لأن التيقظ يحول دون تردي الأخلاق.بيد أن أن أن عليهم يتذكروا أن البعض لو ارتكبوا هذا الخطأ في بعض الأحيان فيجب أن لا يسعى الآخرون لأن يسحقوهم كلية مخافة أن تنتشر الفاحشة بين القوم فتدمرهم.إنما عليهم أن يدركوا أن بعض الناس ضعفاء من الناحية الأخلاقية، فيجب إصلاحهم بعفو كبير.(الآيتان ٢٢-٢٣) أما الذين يحاولون بإصرار إحداث الفرقة بين المجتمع والذين هم معتادون على الأبرياء بالتهم، فتجب معاقبتهم في هذه الدنيا كما سينالون العقاب في الآخرة، وسيذلّهم الله تعالى بكشف فضائحهم وسيذيقهم العقاب الذي يستحقونه.فيجب عدم تصديق القول السيئ ضد إنسان يبدو صالحا في ظاهره، تماما كما يستغرب المرء عند سماع ذكر حسن عن شخص سيء السيرة ولا يكاد يصدق ما رمي يسمع عنه.(الآيات ٢٤-٢٧) ثم بين الله تعالى أن الاتهامات الأخلاقية التي تُوجَّه للأفراد إنما تُثار نتيجة إهمال بعض الاحتياطات، وأكبر إهمال هو الاختلاط الحر بين الجنسين.فلكي يتجنب المؤمنون هذه المتاعب عليهم أن لا يدخل بعضهم في بيوت بعض بحرية، بل عليهم أن يستأذنوا أهل البيت ويسلموا عليهم، فإن لم يتلقوا ردا على سلامهم فلا يدخلوا حتى يؤذن لهم، وإذا قال لهم مَن في البيت أن يرجعوا لأنهم لا يستطيعون مقابلتهم الآن فعليهم أن ينصرفوا وألا يصرّوا على اللقاء.أما البيوت التي فيها متاع لهم، ولا يسكنها أحد فيمكنهم أن يدخلوها بدون إذن.وإذا تقابل الرجل والمرأة فينبغي أن لا ينظر بعضهما إلى بعض بعيون فاحصة على الرجال أن يحفظوا جميع التي تدخل منها السيئة إلى القلوب.وهذا الحكم للنساء أيضا كما هو للرجال، فعليهن سد جميع الطرق والمنافذ التي تدخل منها السيئة إلى الإنسان ولا يبدين لغير المحارم أماكن الزينة من أجسامهن إلا ما ظهر منها تلقائيا مثل القامة وبنية الجسد.وعليهن أن يدنين عليهن من جلابيبهن ويضربن بخمرهن من فوق رؤوسهن إلى صدورهن..المنافذ
الجزء السادس سورة النور أي يحتجبن بحيث يغطي الصدر والجيب والوجه، ولا يبدين زينتهن إلا لأقاربهن الأقربين ولذوي الصلات بهن ممن جاء ذكرهم في الآية.(الآيات ٢٨-٣٢) كما ينبغي لإصلاح المجتمع ألا تبقى الأرامل فيه بدون زواج، بل يجب تزويجهن كما يجب تزويج العبيد والإماء.ويجب عدم الخوف من الضيق المادي عند الزواج.أما الذين لا يستطيعون الزواج فعليهم أن يحافظوا على أخلاقهم بشكل خاص.والطريق الآخر لإرساء الخير في المجتمع هو تحرير أسرى الحرب.وإذا كان بعض الأسرى غير قادر على دفع فدية فاعقدوا معه اتفاقا بأن يدفع فديته بالأقساط فيتحرر، بل ينبغي على الدولة والمسلمين أن يدفعوا عنه الفدية.كذلك لا تفرضوا على أسيرات الحرب اللواتي عندكم ظروفًا تدفعهن إلى الوقوع في الفاحشة، وإلا ستقع عليكم مسؤولية ذنبهن واعلموا أن هذه الأحكام تنطوي على تعليم سام ستنالون بالعمل به مراتب روحانية أرفع من مراتب الأولين.(الآيات ٣٣-٣٥) ثم أخبر الله تعالى أن كل ما في السماوات والأرض من نور وضوء إنما هو من عند الله تعالى ثم بين حقيقة ذلك النور وأخبر أن هذا النور الرباني سوف يتجلى في المسلمين سيؤدي إلى شرفهم.(الآيات (٣٦-٣٩) ثم بين الله تعالى أن الذين لا يؤمنون بالإسلام، تصاغ أخلاقهم من خلال شرائع محرفة (كشريعة المسيحيين)، أو من خلال العقول البشرية فقط، لذا فلن تثمر جهودهم بل ستضيع سدى، وسيجدون عملية إصلاح المجتمع صعبة جدا لأن الإصلاح مستحيل بدون هداية ربانية (أي بدون الشريعة).(الآيتان ٤٠-٤١) ثم قال الله تعالى أفلا يرى الناس أن القانون الطبيعى الذي سنه الله تعالى في الكون يأتي لهم ،بالبركات وأنه رحمة عظيمة لهم، فكيف يظنون أن قانون الشريعة الذي سنه الله تعالى هو لعنة.إذا كان الإنسان أن يختار لنفسه طريقا صحيحا بوسع فكيف يستحيل على الله تعالى اختيار الطريق الصحيح له ولغيره من البشر.(الآيات (٤٢-٤٧ غير أنه يجب على الإنسان أن يتذكر أن الإيمان باللسان وحده لا ينفع صاحبه شيئا، بل عليه أن يسعى للعمل بأحكام الله تعالى ولا ينبغي له أن يعمل بها إذا ما
الجزء السادس سورة ة النور رأى منفعة فقط، وإذا لم يجد هناك منفعة ترك العمل بأحكام الله تعالى.(الآيات V3-00) إننا نعد المسلمين أنهم لو عملوا بأحكامنا لجعلناهم ملوكا في الدين والدنيا (أي أنهم يتولون في وقت مناسب القيادة الدينية والدنيوية كلتيهما معًا أو كل واحدة منهما على حدة وسننشر دينهم في العالم، ونرسي بواسطتهم دعائم التوحيد في الدنيا.لذا فمن واجبهم أن يقيموا عبادة الله تعالى ويساعدوا الفقراء بأموالهم ويطيعوا محمدا رسول الله فيما يأمرهم به.ولا يظنوا أبدا أن أعداءهم سينتصرون عليهم بسبب قوتهم وكثرتهم.كلا إنهم لن يكونوا غالبين عليهم أبدا.(الآيات ٥٦-٥٨).أيها المؤمنون نوصيكم ثانية بإصلاح حياتكم الاجتماعية وعدم الاختلاط الحر بين الجنسين.فلا يدخلن في غرفة الزوجين حَدَمُهما من الأسرى وأولادهما، قبل صلاة الفجر وبعد الظهر وفي وقت متأخر من الليل، أما دون هذه المواعيد فيمكن أن يدخل في غرفتهما كل الذين يُعتبرون أهل البيت فهذا خير لكم من الناحية الأخلاقية.وإذا بلغ الأطفال سن البلوغ فستنطبق عليهم أحكام الكبار.إن الحجاب الإسلامي هو للنساء اللاتي هن في سن الشباب والزواج، أما العجائز فلهن الرخصة من الحجاب ولكن ينبغي أن لا يخرجن متبرجات بزينة.(الآيات ٥٩-٦١) لا حرج في أن يأكل المعاقون من أقاربكم الأقربين في بيوتكم بدون إذن، أما غير الأقارب فيجب أن لا يذهبوا إلى الأكل في بيوت الآخرين دون دعوتهم.(الآية (٦٢ واعلموا أن النظام الاجتماعي هام جدا بعد النظام العائلي، بل هو أهم من النظام العائلي والفردي، لذا فينبغي أن لا تخرجوا من أي مجلس عام دون إذن المسؤول (كما سنّت بعض البرلمانات في هذه الأيام قانونا كهذا).ينبغي أن يُسمح بالخروج عند الضرورة للذين يستأذنون ولا يخالفون القانون.(الآية ٦٣)
الجزء السادس ۳۰۲ سورة ة النور أيها المؤمنون إن النظام الديني أهم من النظام الدنيوي والمادي فلا تعتبروا نداء الرسول كنداء بعضكم بعضا إن الذين يتسللون من مجلس الرسول ﷺ إنما يعصون الله تعالى فليحذروا عذابه.(الآية ٦٤) كل ما في السماوات والأرض هو الله تعالى.إنه يعلم جيدا نوعية أخلاقكم، فاتبعوا الطريق الذي يرشدكم إليه لكي تتلقوا المساعدة من قبل المخلوق ومن قبل الله تعالى.(الآية ٦٥)
الجزء السادس سورة النور حِمِ اللهِ الرَّحمن الرّحي سُورَةُ أَنزَلْنَهَا وَفَرَضْنَهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا وَايَتِ بَيِّنَتٍ لَّعَلَّكُمْ رم تَذَكَّرُونَ )) التفسير: توجد في المصحف ١١٤ سورة بدءا من سورة الفاتحة إلى آخر القرآن الكريم، ولكن لم يستهل الله تعالى أيا منها بلفظ (سورة غير سورة "النور"، وذلك تنبيهًا إلى ما لهذه السورة من أهمية وخصوصية.واعلم أن للفظ "السورة" معاني عديدة في اللغة العربية، وكل هذه المعاني تنطبق على سورة النور" أحسن انطباق.فمن معاني "السورة: (۱) المنزلة (۲) العز والشرف (۳) العلامة (٤) ما طال من البناء إلى السماء وحسن (٥) القطعة المستقلة (انظر الأقرب)، (٦) حصة الشيء وجزؤه (تفسير القرطبي).إذًا، فقد نبه الله تعالى باستعمال لفظ (سُورَةٌ) في مستهل هذه السورة إلى أنها جزء هام من القرآن الكريم حيث حوت تعليما جامعا كاملا لرقي الإنسان حضاريًّا وخلقيًّا وروحانيا.إنه تعليم روحاني راق ورائع، إذا عمل به الإنسان نال عند الله الدرجات العليا كما نال العزّ والشرف في الدنيا.وإن العامل بهذه الوصايا يُحرز امتيازا خاصا إزاء غيره من الناس ويتبوأ مقامًا عاليًا في الأخلاق والروحانية.وللمزيد من التأكيد على أهمية هذه السورة قال الله تعالى أنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا.اعلم أن الله تعالى قد استعمل لفظ "أنزلناها" لعديد من الآيات والسور، ولكنه لم يستعمل كلمة فَرَضْنَاهَا...أي فرضنا على الناس العمل بها..إلا لسورة "النور" دون غيرها من السور.وبما أن القرآن كله قد فرض علينا لقوله تعالى إن الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ (القصص:٨٦)..أي أن الله الذي فرض
الجزء السادس ٣٠٤ سورة النور إليه عليك القرآن يقسم بذاته أنه لا بد أن يعود بك إلى هذا المكان الذي يرجع الناس مرة بعد أخرى أي إلى مكة المكرمة..لذا فهنالك سؤال يفرض نفسه هنا: لماذا زاد الله تعالى هنا كلمة فَرَضْنَاهَا بعد قوله أَنزَلْنَاهَا ؟ فليكن معلوما أن هذه الكلمات لم تأت هنا لبيان فرضية هذه الأحكام إنما مفادها التأكيد، فقد قال بعض المفسرين السابقين أيضا أن معناه "ألزمناكم العمل بها" (فتح البيان).فالله تعالى قد نبه بقوله تعالى (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا إلى أن هذه السورة من الأهمية بمكان، فهي تقدّم للناس منهجًا عظيمًا للحياة الأخلاقية والروحانية، إذا عملوا به نالوا في الدنيا عزا وشرفا كما تبوءوا عند الله تعالى مكانة روحانية عالية.ثم يبين الله تعالى أنه قد أنزل هذه السورة مع التأكيد على أنكم ستعملون بهذا التعليم دائما ولن تنسوه أبدا لأنها تحتوي على أحكام هي وثيقة الصلة بخير الجنس البشري، وإهمال أي من هذه الأحكام يعني الموت والدمار.فينبغي أن لا تنسوا أبدًا أهمية هذه السورة وعظمتها.صلے الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاَخِـ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَابِةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) شرح الكلمات: فاجلدوا: جلده بالسياط : ضربه بها وأصابَ جلْدَه.(الأقرب) رأفة الرأفة الرحمة.(المفردات) لقد استهلت هذه السورة بأحكام يؤدي إهمالها إلى العديد من المساوئ المدنية.فقد بدأ الله هذه السورة بقوانين تتعلق ببقاء النسل الإنساني وحفظه لكي ينتبه الإنسان من خلال عمله بالقوانين المتعلقة بحماية جسده وأخلاقه إلى ترقياته الروحانية.فمن المعروف أن الإنسان إذا لم يراع القواعد المتعلقة بحماية جسده
الجزء السادس الأمر، مع ٣٠٥ سورة النور تعرض جسده للدمار وضاعت ،قواه، كذلك فإن الخطأ في العلاقات الروحانية يؤدي إلى أضرار بالغة ولا تأتي الجهود الروحانية بنتائج مُرضية.فنجد في العلاقات الجسمانية أن الزوجين يتصلان اتصالا مشروعا ويولد الطفل، وكذلك يتصل الرجل والمرأة اتصالاً غير مشروع ويولد الطفل، ولكن الاتصال الأول يؤدي إلى ازدهار التمدن الإنساني بينما يضع الاتصال الثاني الفأس على رأس الحضارة الإنسانية، ويجعل أمر الأولاد مشكوكا فيه ويصعب التمييز بين الولد الحلال والولد الحرام.وبالمثل إذا لم يأخذ الناس الحيطة في العلاقات الروحانية واتبعوا لها طريقا خاطئا، أي لم ينشئوا علاقتهم الروحانية مع من يستحقها بل أنشأوها مع من لا يستحقها، أدى ذلك إلى نتائج وخيمة.ولكن كثيرا من الناس لا يفهمون هذا أن الأرواح توجد بينها أيضا صلات وعلاقات وثيقة، وما لم تتصل بعضها ببعض بطريق مشروع كانت النتيجة فاسدة ولن يجني أحد من ذلك أي فائدة مهما حاول.فمثلاً نجد أن طالبًا لا يتعلم شيئا من معلم بينما يستفيد من معلم آخر استفادة كبيرة.كما نرى أن إنسانًا لا يعمل جيدا تحت مسؤول، لكنه يجيد العمل ويتقنه تحت إشراف مسؤول آخر.ونرى أن تاجرا يمارس تجارته بالاشتراك مع تاجر فيؤدي ذلك إلى خسائر بالغة بينما تزدهر تجارته إذا شارك تاجرا آخر.إذا، فالأرواح لها صلات فيما بينها، ولكن هذه الصلات لا يخلقها إلا الله تعالى، وذلك بطريقين: فإما أن يُعلن الله تعالى عن روح معينة بأن الذين يتصلون بها سيحققون فائدة روحانية، أو أنه تعالى لا يقوم بإعلان كهذا عن الروح بل يتعرف عليها الناس بسعيهم وجهودهم والنوع الأول من الأرواح هم الأنبياء والمأمورون من عند الله وخلفاؤهم، والنوع الثاني من الأرواح هم غير المأمورين من عند الله وخلفاؤهم.فالاتصال الروحاني بهؤلاء هو الذي يأتي بنتائج روحانية، أما بغيرهم فلا.وبما أن الله تعالى يعلن بنفسه عن النوع الأول من الأرواح فلا يصعب على الإنسان البحث عنها، أما النوع الثاني من الأرواح فلا بد للإنسان من البحث هذه
٣٠٦ الجزء السادس سورة النور الحثيث عنها بعقله وفراسته وإذا لم يبحث عنها حق البحث و لم يتصل بها فلن يجني من أناس آخرين أي فائدة روحانية، وإن ظل على اتصال بهم عشرات السنين.مجمل القول إن الله تعالى قد استهل هذه السورة بذكر العلاقة بين الرجل والمرأة تنبيها إلى أخذ الحيطة في العلاقات الروحانية أيضًا.يقول الله تعالى اضربوا كلا من الزانية والزاني مئة سوط، ولا يتولد في قلوبكم أي رفق أو لين تجاههما بصدد تنفيذ هذا الحكم الإلهى، بل عليكم أن تدعوا بعض المؤمنين الآخرين أيضًا عند تنفيذ هذه العقوبة فيهما.ويخبر لقد ثبت من هذه الآية القرآنية جليا أن عقوبة الزانية والزاني هي مئة سوط.الله تعالى في سورة "النساء" أن هذه العقوبة هي للأحرار من الرجال والنساء، أما غير الحرائر فعقوبتهن نصف هذه العقوبة إذا ارتكبن الفاحشة.يقول الله تعالى في سورة النساء: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفَاحِشَة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ منَ الْعَذَاب (النساء: ٢٦)..أي أن غير الحرائر إذا تزوجن ثم ارتكبن هذه الفاحشة فعقوبتهن نصف عقوبة الحرائر.= إذًا، فقد ثبت من هذه الآية أن عقوبة الزنى هي من النوع الذي يمكن أن ينتصف، ونصفُ مئة الجلدة هو خمسون جلدة.ولكن يقول البعض في تفسير هذه الآية أن النبي قد غيّر هذه العقوبة من مئة جلدة إلى الرجم (شرح فتح القدير: الجزء الرابع ص (۱۲٥ ومن الواضح أن قولهم هذا يعني نسخ الآية المذكورة أعلاه من ١٢٥).سورة النور، كما يجعل هذه الآية من سورة "النساء" بلا معنى ولا مغزى، إذا تقول هذه الآية صراحة أن عقوبة الأمة نصف عقوبة الحرّة، في حين أن تنصيف الرجم مستحيل.ففي حالة وجود هذا المفهوم الواضح الصريح لهذه الآية من سورة "النور" الذي تدعمه هذه الآية من سورة النساء" فبإمكاننا القول دون أدنى شك أو شبهة إن عقوبة الزنى للمرأة الحرّة والرجل الحرّ هي مئة جلدة، وأن عقوبة الأمة أو الأسيرة هي خمسون جلدة بحسب القرآن الكريم.أما السؤال: كيف وُجدت عقوبة الرجم بين المسلمين؟ فليكن معلوما أن الأحاديث تؤكد أن الرسول و قد أمر برجم الزانية والزاني (البخاري: كتاب
الجزء السادس ۳۰۷ سورة النور المحاربين، باب رجم المحصن).فلا يمكننا أن ننكر أن حكم الرجم كان موجودا بكل تأكيد بين المسلمين في يوم من الأيام وفي شكل من الأشكال.والآن بقي سؤال يقول: هل الرجم قد نسخ حُكم الجلد أم أن الجلد نسخ حكم الرجم؟ أم أن كلا الحكمين كانا موجودين في وقت واحد؟ وبحسب عقيدتنا، فإن القضية محلولة تماما، إذ نؤمن بخلو القرآن الكريم من أي حكم منسوخ ، فكل الأحكام الموجودة في القرآن الكريم غير منسوخة، فبناء على هذه العقيدة يمكننا أن نقول إنه إذا كان بين المسلمين حكم بالرجم من قبل فقد نسخته هذه الآية، ولكن لا نستطيع أن نقول أن حُكما آخر نزل بعد ذلك ونسخ حكم تلاوةً هذا، الجلد.ولو وُجد أي حديث بهذا المعنى فهو مرفوض لأنه يعارض القرآن الكريم.ولو فرضنا جدلاً أن هذه الآية قد صارت منسوخة فيما بعد لما بقيت في المصحف.علما أن ما يقوله بعض الفقهاء من أن هناك آيات في المصحف هي باقية و منسوخة حُكمًا هو قول مخالف للعقل والمنطق ومخالف للدليل والبرهان ومناف لاحترام القرآن الكريم (الإتقان).إننا لا نقبل هذا الرأي أبدا، بل نقول إنه إذا كانت الآيات المنسوخة لا تزال موجودة في القرآن الكريم لم يبق للقرآن الكريم كله أي اعتبار مطلقًا.فأي دليل يبقى في أيدينا نعرف به كون آية من الآيات صالحةً أو غير صالحة للعمل؟ إن أكبر برهان على عظمة القرآن هو أنه قائم على أساس من اليقين وأن كل لفظ فيه هو وحي الله يقينا.ولو جعلنا قياس العلماء والفقهاء معيارا على صحة أحكامه وكون آياته صالحة للعمل أو غير صالحة لأصبح القرآن نفسه مشكوكا فيه وكتابا مبهما كما هو الحال لقياس العلماء.وإذا كان الأمر كذلك فيحق لنا رفض آيات القرآن الكريم بالدليل والبرهان كما نستطيع رفض قياسات العلماء بالدليل والبرهان ومثل هذه العقيدة مضللة وغير إسلامية على الإطلاق.فلم يبق أمامنا إلا طريق واحد وهو القول بأن حُكم الرجم كان موجودًا في أول الأمر، فنسخته هذه الآية من سورة النور.ولو سلمنا بهذا القول زالت المشكلة كلها، إذ نجد أن حكم الرجم كان موجودا عند اليهود (انظر حزقيال ٤٠:١٦، واللاويين ۲۰ : ۱۰ ، والتثنية ٢٢:٢٢ ويوحنا ٥:٨)
الجزء السادس ٣٠٨ سورة النور وقد نفذ النبي ﷺ هذا الحكم على المسلمين أيضا إذ لم يكن أي حكم قد نزل عليه بهذا الصدد حتى ذلك الوقت.فلما نزل الحكم بهذا الشأن في القرآن الكريم نسخ الحكم السابق الذي لم يكن حكمًا قرآنيا، بل كان النبي يقوم به تقليدا لما يفعله اليهود.غير أن الأخذ بهذا الرأي يحتم على المرء أن يثبت من التاريخ أن المسلمين لم يعملوا بالرجم إلا قبل نزول حكم الجلد فقط.ولكن ما يتضح من التاريخ هو أنهم ما زالوا عاملين بالرجم بعد نزول حكم مئة الجلدة أيضًا حتى يُقال أن عمر قال: لقد كانت في القرآن الكريم آية الرجم لكنها غابت منه فيما بعد، وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة".(كشف الغمة المجلد الثاني: كتاب الحدود، في حد الزنى وما جاء في رجم الزاني المحصن) كذلك ذكر ابن حزم قولاً لعائشة - رضي الله عنها – وهو: "لقد نزلت آية - الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله ﷺ تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها ".المحلى لابن حزم، الجزء ١١: كتاب الحدود، حدّ الحرّ والحرّة والمحصنين) وتظهر هاتين الروايتان أن عمر وعائشة – رضي الله عنهما – كانا يعتقدان أنه قد نزلت بالفعل آية فيها حكم رجم الزاني.ويتضح من رواية عائشة أن هذه الآية المكتوبة كانت تحت وسادتها فجاءت ماعز وأكلتها.أما عمر فهو ساكت عن تلك الآية اللهم إلا ما ورد في الرواية التالية: "كان عمر ه يقول: إياكم أن تهلكوا، فيقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله..فقد رجم رسول الله ، ورجمنا بعده.وإني والذي نفسي بيده لولا أن يقول قائل أحدث عمر عمر بن بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها (كشف الغمة المجلد الثاني).وفي رواية "لكتبتُها على حاشية المصحف." (شرح فتح القدير على الهداية، ج ٤: كتاب الحدود، فصل في كيفية إقامة الحدود).مصير نص قول عمر الله هو : إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا لال لاله بالْحَقِّ وَأَنزلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّحْمِ، فَقَرَأَنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ.وَإِنِّي خَشِيتُ طَالَ بِالنَّاسِ الزَّمَانُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّحْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، كتاب الله، فَيَضلُوا بَتَرْك فَرِيضَة
الجزء السادس ۳۰۹ سورة النور وبما أن من القواعد المسلّم بها عقلا ونقلا أنه إذا وجدت عن حادث روايتان وكانت في إحداهما إضافة اعتبرت تلك الإضافة شرحا حقيقيا لمعنى الرواية الأصلية، لذا لا بد لنا من القول بأن عمر الله - وفقا للرواية – إنما تمنى كتابة هذه العبارة في حاشية المصحف والعبارة المكتوبة على هامش المصحف لا تصبح قرآنا.فحتى عمر الله الذي كان يعتقد بحسب هذه الرواية أن الرجم حكم رباني، لم يتجاسر على إضافة هذه العبارة إلى القرآن الكريم، وذلك برغم أن الكثير من كتاب الوحي القرآني كانوا موجودين في عصره، وكان يستطيع أن يسألهم، ولكن عدم سؤاله إياهم يدل على أنه كان على يقين أن اعتقاده هذا ليس إلا ضربًا من الوهم.والحق أنه كلما نزلت آية من القرآن الكريم دعا النبي ﷺ كاتب الوحي وأمره بكتابتها في مكانها من القرآن الكريم.فإذا كانت هذه العبارة آية قرآنية وحكما ربانيا حقيقة فلماذا لم يأمر الرسول ﷺ بكتابتها في القرآن إذا؟ هذه الرواية مروية بالتفصيل أيضًا عن زيد بن ثابت كاتب الوحي عند الرسول الله وهي تؤكد صراحة أن الرسول الله لم يعتبر هذا الحكم - أيا كان شكله - حكمًا من أحكام القرآن الكريم.ورواية زيد بن ثابت هي:" سمعت رسول ﷺ يقول: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة" (المحلى لابن حزم الجزء الحادي عشر : كتاب الحدود حد الحر والحرة والمحصنين).ويظهر من ههنا أن زيد بن ثابت أيضًا لم يعتبر تلك العبارة وحيا قرآنيًا قط بل اعتبرها قولا للرسول..فلعل عمر الله الله سمعه من الرسول ، فظنه وحيا من أَنزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَالرَّحْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا كَانَ مُحْصَنَّا إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ حَمْلُ أَوِ اعْتِرَافُ وأَيْمُ اللَّهِ، لولا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَ لَكَتَبْتُهَا.(أبو داود: كتاب الحدود) رجم) نص قول زيد له هو : "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: الشَّيْخُ وَالشَّيْحَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ".(مسند أحمد) (المترجم)
الجزء السادس عمر ۳۱۰ سورة النور القرآن بدلاً من أن يعتبره قولا للرسول.ومعروف أن سيدنا عمر له قد حصل منه التسرع في مناسبات أخرى أيضًا.فقد روي عنه أنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة "الفرقان" في الصلاة، فلم يقرأها كما سمع عمرُ النبي ﷺ يقرؤها.فغضب له غضبا شديدا وكاد أن يهاجم هشاما وهو يصلي، ولكنه صبر حتى فرغ من صلاته، فأخذه عمر من تلابيبه وقال له: من علمك هذه السورة بهذا الأسلوب؟ قال : رسول الله قال : إنك تكذب، تعال أخذك إلى رسول الله ﷺ لأن السورة ليست كما تقرأ، فأخذ يجره إلى الرسول الله فقال الرسول الهشام: كيف تقرأ هذه السورة؟ فقرأها عليه، فقال : هذا صحيح.ثم أمر الرسول ﷺ أن يقرأها، فقرأها كما علمه النبي ﷺ فقال : هذا أيضا صحيح.ثم أضاف وقال: لقد نزل القرآن على سبعة أحرف فلا تتنازعوا في مثل هذه الأمور البسيطة.فليقرأه كل إنسان بقراءة تسهل على لسانه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف) عمر فيبدو أن عمر الله كما حصل منه الخطأ في تلك القضية قد حصل أيضًا في قضية عقوبة الزنى بحسب الرواية، فاعتبر قولا للرسول الله وحيا قرآنيا.والحق أن هذه العبارة لو كانت آية قرآنية لأمر الرسول لالالالاله زيد بن ثابت بكتابتها في القرآن الكريم كما كان يأمره بكتابة آيات أخرى من القرآن الكريم قائلا: هذا وحي قرآني فاكتبه في مكان كذا من القرآن الكريم.وما دام زيد بن ثابت لم يكتب هذه العبارة في المصحف الذي أعد في عهد أبي بكر..أي قبل خلافة عمر..فثبت جليا أن عمر ه قد وقع في الخطأ فاعتبر قولا للرسول وحيا قرآنيا.على أية حال، لقد ثبت من هذه الرواية بصورة قطعية أن الرسول ﷺ قد قال بالفعل جملة كهذه ولكنه لم يقل إنها وحى من القرآن الكريم أبدا.ومن الوارد تماما أن يكون النبي ﷺ قد عبّر عن رغبته الشخصية فقال لو ارتكبت هذه الفاحشة في ظروف كيت وكيت فأريد أن أرجم مثل هذا الزاني كما تأمر التوراة.وهناك رواية أخرى بهذا الشأن رواها شعبة قال: قال عمر: لما نزلت أتيتُ رسول الله ﷺ، فقلت: أكتبنيها، قال شعبة: كأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى
الجزء السادس ۳۱۱ سورة النور بن أن الشيخ إذا لم يُحْصن جُلدَ وأن الشاب إذا زنى وقد أحسَنَ رُجم".(مسند أحمد حنبل: مسند الأنصار، حديث رقم ٢٠٦١٣) هذه الرواية تظهر أن عمر الله كان يعتقد أن آية كهذه قد نزلت ولذلك التمس من الرسول ﷺ أن يكتبها له، ولكن النبي رفض طلبه.لقد ثبت من ذلك أن هذه العبارة كانت قولا للنبي الله وليست آية من القرآن الكريم، وإلا فهل كان من الممكن أن يخفي النبي وحي القرآن الكريم مع أن الله تعالى يقول له يا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )) (المائدة: ٦٨) ، ورغم ذلك أنه الله لا يبلغ الناس هذا الحكم بل عندما يسأله عمر أن يكتبه له كره ذلك ولم يكتبه له وهذا يدل دلالة واضحة أن هذه العبارة قول للرسول.والثابت من الأحاديث أن النبي ﷺ كان يتعهد بكتابة القرآن الكريم ولكنه كان يمنع من كتابة حديثه، فقد روى زيد بن ثابت أن الرسول ﷺ كتابة أحاديثه * عن بن حنبل: الحديث رقم ١٠٦٦٣).كما روي عن أبي سعيد قال أمرنا رسول الله ﷺ وقال : لا تكتبوا عني غير القرآن مخافة أن تشتبه نهانا (مسند أحمد على الناس آيات القرآن.(مسند أحمد بن حنبل، الجزء الثالث ص ۱۲) كما أنه من الثابت من الأحاديث أن عبد الله بن كان يعرف الكتابة، عمر فكان يكتب أحاديث الرسول الله ولكنه نهاه عن كتابتها.فاعتبار عمر هذه العبارة آية قرآنية بحسب الرواية، ورفض الرسول ﷺ كتابتها لعمر بل كراهته الله لهذا الطلب، يدل أن النبي لم يكن يعتبرها آية من القرآن الكريم بل اعتبره رأيه الخاص، وبما أن النبي ﷺ كان ينهى عن كتابة أحاديثه فلذا لم يكتب لعمر شيئا.ويبدو أن عمر الله كان قرأ حكم الرجم في التوراة ثم عرضه على الرسول الله فقد روي في الحديث أن عمر الله كان يقرأ التوراة، نص الحديث : عَنْ أَبي سَعِيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ : لا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا سَوَى الْقُرْآنِ، وَمَنْ كَتَبَ شَيْئًا سَوَى الْقُرْآنَ فَلْيَمْحُهُ." (مسند أحمد بن حنبل: مسند أبي سعيد الخدري : رقم الحديث ١٠٦٦٣) (المترجم)
۳۱۲ سورة النور الجزء السادس حيث ورد أنه جاء النبي ﷺ ومعه نسخة من التوراة، وقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة.فسكت النبي ، فجعل يقرأ ووجه رسول الله ﷺ يتغير.فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكلُ ما ترى ما بوجه رسول الله ؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله ، واعتذر منه.(مشكاة المصابيح: كتاب الإيمان، باب الاعتصام بالكتاب والسنة) كما ورد في الروايات أن يرتاد مجلسًا لليهود يتدارسون فيه عمر كان التوراة.فكان اليهود يقولون لعمر الله : "ما من أصحابك أحد أكرم علينا منك، لأنك تأتينا" (كنز العمال المجلد الأول كتاب الأذكار من قسم الأفعال، باب في القرآن، فصل في التفسير).ثم إن الفقرة الأخيرة من رواية شعبة تبيّن أن عمر له نفسه كان يشك في كون هذه العبارة آية من القرآن الكريم لأنه يقول للرسول ﷺ ألست ترى أن الشيخ غير المتزوج إذا زنى جلد وأن الشاب المتزوج إذا زنى رحِم.وقوله هذا يتعارض مع الجملة التي يتوهمونها آية قرآنية.كذلك فإن هذه الآية المزعومة تقول: الشيخ والشيخة إذا زنيا، سواء كانا متزوجين أم غير متزوجين، فارجموهما.فلو كان عمر الله يعتبرها فعلا آية من القرآن الكريم فلم أتى برأي يتعارض معها؟ ولم طلب من النبي ﷺ تأكيد هذا الرأي؟ هذا يدلّ على أن عمر الله كان يشك في كون هذه الجملة آية من القرآن الكريم.أما العلماء القدامى ففريق كبير منهم يرى أن الحكم الحقيقي هو مئة جلدة، إذ إن الرجم ليس ثابتا من القرآن الكريم فيقول الإمام ابن حزم في تفسير قول الله تعالى في سورة "النساء" فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفَاحِشَة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ : : "إن الإحصان اسمٌ يقع على الحرّة المطلقة فقط.فإن كان هذا كما قالوا فالنفي واجب على الإماء المحصنات من هذه الآية لأن معنى الآية: فعليهن نصف ما على الحرائر من العذاب.وعلى الحرائر هنا العذاب جَلْدُ مئة ومعه نفي سنة أو رجم، والرجم لا ينتصف أصلا لأنه موت، والموت لا نصف له أصلا، وكذلك الرجم لأنه قد يموت المرجوم من رمية واحدة وقد لا يموت من ألف رمية، وما كان من
الجزء السادس ۳۱۳ سورة النور هكذا فلا يمكن ضبط نصفه أبدًا، وإذ لا يمكن هذا فقد أمنا أن يكلفنا الله تعالى ما لا نطيق لقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا ولقول رسول ﷺ: "إذا الجَلْدُ أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، أو كما قال الله.فسقط الرجم وبقي والنفي سنة، وكلاهما له نصفُ، وعلى الأمة نصفُ ما على الحرّة منها" (المحلى لابن حزم، الجزء ١١: مسألة حدّ الأمة المحصنة).كذلك يعتقد المعتزلة والخوارج من بين الأمة أن الرجم ليس ثابتا من القرآن الكريم، بل يأمر الإسلام بمئة جلدة، حيث ورد "أما الرجم فهو مجمع عليه.وحكي في "البحر" عن الخوارج أنه غير واجب، وكذلك حكاه عنهم أيضا ابن العربي، وحكاه أيضا عن بعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ولا مستند لهم إلا أنه لم يُذكر في القرآن." (نيل الأوطار الجزء ٧: كتاب الحدود، باب ما جاء في رجم الزاني المحصن وجلد البكر).لقد ثبت من هنا أن الخوارج والمعتزلة أيضًا لا يرون الرجم حكمًا إسلاميًا.ویری صاحب نيل الأوطار أن دليلهم ضعيف لأنه مبني على القرآن فقط !! إنا لله وإنا إليه راجعون.ويقول صاحب "روح المعاني": " ويُعْلَم من قوله المذكور - كرّم الله تعالى وجهه - أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية.فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة، وبذلك قال أهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله : "الثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة.وفي رواية غيره: ورحم بالحجارة.وعند الحنفية لا يُجمع بين الرجم والجلد في المحصن، وهو قول مالك والشافعي".(روح المعاني) أي أن الثابت من قول علي – كرم الله وجهه – أنه قال بعدم نسخ آية الجلد الواردة في سورة "النور"، أما الرجم فهو حكم زائد ثابت بالسنة، و لم ينسخ حكم القرآن عن الجلد.وهذا ما يراه أيضا أهل الظاهر : أي أبو داود وأصحابه الذي هو أحد الفقهاء الخمسة الكبار والذي يفضل أحمد بن حنبل حكمه.
الجزء السادس ٣١٤ سورة النور فهذه الرواية تؤكد أن حكم الجلد قائم عند على..أي أن آية الجلد لم تنسخ أبدا.فهناك رواية تقول إن عليا ه جلد شراحة الهمدانية ورجمها أيضا، وقال: "جلدتُها بكتاب الله ورحمتها بسنة رسول الله " (مسند أحمد: المجلد الأول ١٤١، مسند علي بن أبي طالب).ص لقد اتضح من ذلك تماما أن عليا الله لم يقل بنسخ هذه الآية من سورة النور.وفي رواية عن عبادة بن الصامت أن البكر إذا زنت فعقوبتها جلد مئة ثم نفي سنة، وأن المتزوجة إذا زنت فعقابها جلد مئة ثم رجمٌ بالحجارة.(مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنى) = فهذه الرواية أيضا تؤكد رأي عليه بأن الآية القرآنية لم تنسخ، وإنما أضيف حكم آخر إلى حكم القرآن الكريم.التوراة، إذًا، فمن الحقائق الثابتة أن حكم القرآن إنما هو أن الزانية والزاني يُجلدان مئة جلدة.لقد عمل الرسول الله في البداية، بناء على استدلاله الشخصي بتعليم فنقذ العقوبة الموجودة في التوراة، ولكن بما أن حكم الجلد نزل بعد ذلك في القرآن الكريم، فما عمل به الرسول له من قبل سنعتبره حكما عابرا مؤقتا غير قائم، إذ لا يبقى من أحكام النبي له الشخصية قائما إلا ما لم ينزل فيه حكم في القرآن الكريم.فمثلاً اتخذ النبي البيت المقدس قبلةً في البداية موافقةً لأهل الكتاب، ولكن لما أمره الله تعالى في القرآن الكريم باستقبال الكعبة المشرفة توجه إلى بيت الله الحرام كما هو مذكور في القرآن الكريم :(البقرة : ١٤٥).كذلك يتضح من الأحاديث أيضًا أن النبي لما كان يأمر القوم بشيء في بعض الأحيان، وثبت فيما بعد أن هذا الحكم لم يكن حكما ثابتا بل كان مؤقتا.فمثلا ورد في البخاري أن وفدا لعبد القيس زاروا النبي ﷺ وقالوا له: يا رسول الله، أوصنا بشيء فقال: فنهاهم عن استعمال أربعة أنواع من الأواني (البخاري: كتاب الإيمان، باب أداء الخمس من الإيمان).ولكن جميع المسلمين اليوم يستعملون تلك الأواني، وجميع الفقهاء يجيزون استعمالها بحجة أن أولئك القوم كانوا يصنعون الخمر في تلك الأواني فنهاهم الرسول عن استعمالها تنفيرا لهم من الخمر، فلما امتنعوا عن استعمال
الجزء السادس ٣١٥ سورة النور تلك الأواني تركوا شرب الخمر أيضًا (عمدة القاري : ص ۳۰۳-۳۱۰).ثم أجمع جميع المسلمين على أن العمل بهذا الحكم النبوي لم يعد ضروريا وأجازوا استعمال تلك الأواني.كما أنه من الثابت من الحديث أن النبي الحديث أن النبي ﷺ إنما أمر بالرجم اتباعا للأحكام اليهودية إذ ورد في رواية قول الرسول ﷺ: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم" (مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنى)؛ وذلك حين جيء بيهودي قد زنى واعترف اليهود أمام النبي الله أن عقوبته في كتابهم الرجم، ولكنهم تركوا الرجم من أجل كبرائهم.فقال النبي ﷺ قوله المذكور أعلاه وأمر برجم الزاني فرجم.فثبت من هنا أن النبي ﷺ إنما أمر بالرجم اتباعا للتوراة.وهذا ما يؤكده حادث آخر أيضًا حيث ورد في الحديث أن شخصا أتى النبي وقال: يا رسول الله قد زنيت.فغضب الرسول الله وأعرض عنه.فجاء من الطرف الآخر وقال: يا رسول الله قد زنَيتُ.فلما اعترف بجريمته أربع مرات قال له النبي ﷺ: أبك جنون؟ قال الرجل: لا يا رسول الله.فقال الهلال للقوم : اذهبوا به فارجموه.يقول الصحابة فذهبنا به فلما بدأنا رشقه بالأحجار فرّ، فجرينا وراءه وقتلناه.فلما بلغ ذلك النبي ﷺ سخط وقال إن فراره دليل على تراجعه عن إقراره فهلا تركتموه؟ (مسلم: کتاب الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، والترمذي: أبواب الحدود) لقد تبين من هنا أن حكم الرجم لم يكن من عند الله تعالى، إذ كيف يمكن أن يأمر الله تعالى رسوله بالرجم، ولكنه يعلّم صحابته عكس ذلك، فيقول لهم: هلا تركتموه ما دام قد فرّ.وهناك أمر طريف جدير بالذكر بهذه المناسبة، وهو أن المفسرين يقولون أن أيوب العلما مرض مرضه الشديد أغوى الشيطان زوجته وأعطاها سخلا (أي ولد ماعز وقال لها: لو أن أيوب ذبحه باسمي لشفي.فذكرت ذلك لأيوب العلم، فزجرها وقال لها: فكيف خدعك عدو الله هذا؟ ثم حلف بأنه لو شفاه الله تعالى من مرضه سيضرب زوجته مئة جلدة عقابًا على خطئها، وعندما تماثل للشفاء
الجزء السادس ٣١٦ سورة النور حاول إبرار قسمه بأن أخذ مكنسة فيها مئة عود وضربها بها (تفسير الخازن).فلو كانت هذه الروايات صحيحة عند هؤلاء القوم فمن الأفضل أن يضربوا الزاني والزانية بمكنسة فيها مئة عود كما فعل أيوب، ثم يظنوا أنهم قد نفّذوا العقوبة! وفي هذه الحالة لن تبقى هناك مئة جلدة ولا رجم.لا شك أننا لا نتفق مع المفسرين بصدد هذه الروايات ولكن العلماء الذين يصدقونها تصبح قصة أيوب اللي حجة عليهم، لأنهم ما داموا يعترفون بأن أيوب الأبر قسمه بضرب زوجته بمئة عود فلماذا يصرون هنا على الرجم، إنما ينبغي لهم أن يأخذوا مكنسة فيها مئة عود ويضربوا بها الزاني والزانية مرة واحدة ثم يظنوا أن العقوبة قد نُفّذت كاملة.على أية حال، إن ما أوضحه هنا هو أن الرسول ﷺ إنما رجم البعض اتباعًا للتوراة، ولكن لما نزل في القرآن الكريم حكم واضح بهذا الصدد صار قراره السابق ملغى تلقائيا، أما الحكم القرآني فلا يزال موجودا حتى الآن، وهو جَلْد الزاني بمئة جلدة إذا ثبتت جريمته حسـ الشروط المذكورة في القرآن.واعلم أن القرآن الكريم لم يبين نوعية السوط والضرب، بيد أنه يتضح من كلمات القرآن الكريم أن يُضرب الزاني بسوط يُشعر جسده بالضرب، إذ يقال: جلده بالسياط، أي ضربه بها وأصاب جلده (الأقرب).إن ما يتضح من القرآن الكريم هو أن يعاقب المجرم أمام الناس سواء كان السوط مصنوعا من الجلد أو القماش، وليس ضروريا أن يكون السوط مثل الذي يُستعمل في المحاكم في هذه الأيام، والذي إذا ضُرب به الإنسان مئة مرة مات في أغلب الأحيان.والآية الواردة أن في سورة "النساء" توضح بأن لا يُضرب بالسياط التي تؤدي إلى موته.إنما ينبغي تكون نوعية السوط ونوعية الشدّة مما لا يكون معها احتمال الموت، أي أن لا يكون سوطا يكسر أو يضر العظم؛ إذ سبق أن بينا أن المراد من الجلد بالسياط إيذاء جلده فقط.كما ينبغي أن لا يكون الضرب قاسيًا بحيث يكون هنالك احتمال موته.ولا يغيين عن البال أن الله تعالى لم يستعمل هنا كلمة "زانية وزان"، بل قال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، وزيادة ألف لام تفيد التخصيص، فليس المراد من الزانية والزاني
الجزء السادس ۳۱۷ سورة النور هنا إلا شخصا متعودًا على الزنى أو الذي يزني علنًا وقد أصبح جريئا على ارتكاب هذه الفاحشة لدرجة أنه لا يبالي بأن أحدا يراه أم لا، أو المراد به شخص لیست به قوة في الحقيقة ومع ذلك يحاول أن يزني مثل شيخ عجوز أو امرأة عجوز.وهذا المعنى الأخير يماثل نوعا ما تصديقا لتلك الرواية التي ورد فيها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فكأن الزاني والزانية تعني الشيخ والشيخة.ويبدو أن الرسول عبر عن رأيه بهذه الكلمات، ولكن عمر له ظنه بالخطأ آية من القرآن الكريم.في حين أن القرآن الكريم لم يأمر برجم الشيخ والشيخة، بل أمر بجلد كل واحد منهما مئة جلدة.ولذلك نجد أن عمر لما قال يا رسول الله ﷺ أكتبنيها، كره له طلبه، لأن مفهوم تلك الجملة كان خلافا لحكم القرآن الكريم.النبي قصارى القول إنما المراد من الزاني والزانية هنا من صار معتادا على الزنى، أو جسورا على هذه الفاحشة لدرجة أنه صار يرتكبها علنا، أو المراد منه الزاني المحصن أو الزاني الشيخ الذي يحاول أن يزني رغم كبر سنه؛ فيأمر القرآن الكريم بضرب كل واحد من هؤلاء مئة جلدة إذا ما ثبتت جريمتهم.من عند الله تعالى هي ثم يقول الله تعالى (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله.وليكن معلوما أن العقوبات التي تنزل قسمان: عقوبات تترتب على مخالفة القوانين الطبيعية وعقوبات يتحملها الإنسان نتيجة مخالفته لقوانين الشريعة.والعقوبات التي تنزل نتيجة مخالفة قوانين الطبيعة يجوز فيها للإنسان أن يعامل المتضررين بها بالرحمة والرأفة، أما العقوبات التي تنفذ بسبب مخالفة قوانين الشريعة فلا يجوز فيها إبداء الرحمة نحو المجرمين لأن الله تعالى لا يعاقب العبد إلا إذا استحق العقاب، ومن ترحم على محرم بعد ذلك أي حاول إنقاذه من العقوبة فكأنه يخالف القرار الإلهي.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله..أي يجب أن لا تترحموا عليهما لدى تنفيذ عقوبة دينية.وهكذا قد استثني من العقوبات التي يجب أن لا تأخذنا الرأفة عند تنفيذها ما ينزل نتيجة مخالفة قوانين الطبيعية.فيجوز لنا مثلاً أن نترحم على من سقط فكسرت سنه، ونعامل بالرأفة من يصاب بمرض ، ويجوز لنا أن نبدي مشاعر الرحمة نحو الذين يموتون غرقا
الجزء السادس ۳۱۸ سورة ة النور أو يدمرهم زلزال ونساعد ورثتهم ونعاملهم بالمحبة والمواساة.ذلك لأن هذه الكوارث يموت فيها آلاف لم يهلكوا نتيجة إنكارهم لمأمور من عند الله تعالى؛ فمعاملة ضحايا هذه الكوارث بالرأفة والمواساة ضروري جدا.ولكن الذي يُعاقب نتيجة مخالفته لأحكام الدين وقوانين الشرع فلا يجوز معاملته بالرحمة والرأفة.أي لا يجوز أن نمتنع عن جَلْد من ثبتت عليه جريمة الزنى بحسب قانون الشرع.غير أنه لا بأس أن نتأسف عليه ونقول: ليته لم يرتكبها.وجدير بالذكر أن القرآن الكريم قد ذكر هنا المرأة قبل الرجل خلاف المعتاد، الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جَلْدَة.والحكمة في هذا الأسلوب والتي يجب أن لا ننساها أن النساء هن اللواتي يتخذن هذه الفعلة فقال مهنة وليس الرجال.هي بيد أن هذا لا يعني أبدا، كما ظن البعض خطاً، أن في هذا دليلا على كون الرجال أكثر صلاحًا وورعًا من النساء.وإنما سببه الأول، كما ذكرت من قبل، أن هذه المهنة تختارها النساء فقط، دون الرجال، لمنفعة مادية.والسبب الثاني لاتباع هذا الأسلوب أن المرأة بفطرتها أشد حياء من الرجل.وهذه الظاهرة تُشاهَد في جميع الذكور والإناث من مختلف الأنواع، حيث تجد الجنس المتأثر أشد حياء من الجنس المؤثر، وأن المتأثر يتأخر ويتردد بينما المؤثر يتقدم.وهذا الأمر ليس خاصا بالبشر والحيوانات فقط، بل هو موجود في الأشجار أيضا التي فيها خواص الذكر والأنثى، حيث تجد الشجرة التي تقوم مقام الذكر تتقدم وتميل إلى الشجرة التي تقوم مقام الأنثى.لقد أثبت العلماء هذه الظاهرة في العصر الحاضر بعد البحوث، ولكن الإسلام قد ذكرها منذ زمن، وبين أن النساء لما كن بطبيعتهن أشد حياء من الرجال ويترددن في الوقوع في مثل هذه الأمور، لذا فلو أن امرأة تخلّت عن حيائها الفطري لهذه الدرجة فهي أحق بالملامة، ومن أجل ذلك قد ذكرت المرأة هنا قبل الرجل.
الجزء السادس ۳۱۹ سورة النور الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكُ وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٤) شرح الكلمات " لا ينكح ورد في "السان العرب أن الأزهري الذي هو من أئمة اللغة قال: النكاح في كلام العرب الوَطءُ.* فالمراد من قوله تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أن الزاني لا ينشئ العلاقة مؤمنة شريفة.(الطبري) الجنسية إلا مع زانية.التفسير: لقد استنتج البعض من هذه الآية أنه لا يجوز زواج الزاني إلا بزانية أو مشركة ولا يجوز له أن أية يتزوج ولكن هذا المعنى يتنافى مع التواتر والعقل كل المنافاة، إذ كيف يُعلم أن هذا أو تلك زان أو زانية؟ فلو كان الزاني أو الزانية من المحصنين قبل ارتكاب الفاحشة فيجب أن يكونا قد رجما بحسب الرواية التي سبق ذكرها، وستعني هذه الآية، وفقًا لتلك الرواية، أن المرأة المتزوجة المرجومة لا تتزوج إلا من رجل متزوج مرجوم وحرام على المؤمنين أن يتزوجوا من امرأة متزوجة مرجومة.وهذا المفهوم غاية الحمق والغباء، وكل من عنده مسحة من العقل سيعتبره ه حكما سخيفا.لقد حصل كل هذا الخطأ من المفسرين لعدم إدراكهم لمعنى النكاح.إن النكاح له مدلولان أولهما عقد القران وفق قانون الشرع؛ وهذا المعنى لا ينطبق هنا إذ تصبح الآية عندها لغوا لا معنى لها ولا مغزى وثانيهما العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا، وإذا طبّقت هذا المعنى هنا لوجدت هذه الآية تحتوي على مفاهيم راقية، إذ يقول الله تعالى هنا إن الزاني كلما يباشر إنما يباشر امرأة زانية.ومن الحقائق الثابتة أن الرجل الزاني إنما يسمى زانيا إذا كانت المرأة التي ورد في تاج العروس أيضا: "النكاح بالكسر في كلام العرب الوطء في الأصل." (المترجم)
الجزء السادس ۳۲۰ سورة النور يجامعها أيضا زانية.وإذا كانت المرأة عفيفة فيُسمى الرجل زوجا لها لا زانيا.وكذلك كل امرأة زانية إنما تسمى زانية إذا جامعت رجلا آخر ليس زوجًا لها.والبديهي أن المرأة التي تجامع غير زوجها لن تسمى إلا زانية، ولو كانت عفيفة فلن تجامع إلا زوجها.إذا، فإن الله تعالى قد بيّن في هذه الآية أن أحدًا لا يُدعى زانيا أو زانية إلا إذا كان الطرف الآخر أيضا زانيا.أما المؤمن فكلما جامع إنما يجامع زوجته فلا يمكن استعمال لفظ الزاني أو الزانية للمؤمن أو للمؤمنة.وبما أننا قد فسرنا لفظ النكاح بمعنى الوطء والمجامعة فسيعني قوله تعالى ﴿وَحُرِّمَ ذَلكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أن استعمال لفظ الزاني للمؤمن حرام، وليس المراد منه أن المؤمنين لا يزنون، إذ إن المؤمن لا يزني أصلاً.وهذه الآية تتضمن الرد على سؤال آخر.فكان الله تعالى قد أمر في الآية السالفة بجلد كل من الزانية والزاني مئة جلدة؛ فقد يقول قائل: لماذا لا يُجلد الرجل فقط، لأن المرأة إنما تخضع لتأثير مؤثر ، والرجل هو المؤثر، وما دام يحاول التأثير فيها ستضطر بقبول التأثير.فأجاب الله على ذلك بأن هذا الفعل إنما يتم بتراضي الطرفين، إذ من المحال أن يجامع الرجل الزاني الزانية بدون رضاها.كما يستحيل أن تزني الزانية مع الرجل الزاني بدون رضاه.وهذا الأمر حرام قطعا على المسلمين، ومن أجل ذلك قد فرض الشرع عقوبة على كل من الزاني والزانية.وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا هُمْ شَهَدَةً أَبَدًا وَأُوْلَبِكَ هُمُ السِقُونَ شرح الكلمات : يرمون رمى فلانًا بكذا عابه وقذفه واتهمه (الأقرب).
الجزء السادس ۳۲۱ سورة ة النور التفسير: لقد بيّن الله تعالى هنا طريق الشهادة على وقوع عملية الزنى، وهو كالآتي: إن الذي يتهم غيره يتحتم عليه أن يأتي بأربعة شهداء يشهدون على صدق اتهامه.والثابت من أقوال الرسول الاول والصحابة أن الشهود لو اختلفوا في مكان وقوع الزنى فلن تُقبل شهادتهم أبدا، وستعتبر شهاداتهم شهادة واحدة ولو كانوا أربعة.إذ لا بد من أربعة شهود عيان علاوةً على الشخص المدعي الذي يجب أن يتحدث عن حادث واحد وفي مكان واحد كما لا بد أن تكون شهادة الشهود مكتملة تامة لدرجة أن يشهدوا على أنهم قد شهدوا عملية الفاحشة بشكل تام.وقد قال الفقهاء بهذا الصدد أن على الشهود الأربعة أن يشهدوا أنهم قد رأوا الرجل والمرأة متصلين كما يكون الميل في المكحلة.(مختصر القدوري كتاب الحدود ص ٢١٠) يرى الفقهاء أن حد الزنى يصبح واجبًا على المتهم بثلاث طرق: الأول: علم القاضي بجريمة المجرم، والثاني: اعتراف المجرم، والثالث: شهادة أربعة شهود.ولكني أرى أن وجوب الحد على المجرم بناء على علم القاضي القرآن الكريم، لأن القاضي مجرد شاهد واحد في مثل هذه الحالة؛ بينما يقول القرآن إنه يجب أن يكون هناك خمسة شهود أي المدعي ومعه أربعة شهود عيان.بل في رأيي أن القاضي إذا كان على علم بوقوع الحادث فعليه أن لا يتولى القضاء في مثل هذه القضية بل عليه أن يحولها إلى قاض آخر، ثم يتقدم فيها كشاهد فقط.يمكن للقاضي أن يفصل، بناء على علمه الشخصي في الأمور السياسية فقط، لا في الحدود الشرعية؛ لأن الله تعالى هو الذي فرض الحدود وهو الذي حدد طريقة الشهادة.6 خطأ بحسب أما إقرار المجرم فليكن معلوما أن الإقرار الصحيح إنما هو ذلك الذي يتم دون جبر وإكراه، إذ يحدث في كثير من الأحيان أن الشرطة تكره المرء على الإقرار بالجريمة بضربه وتعذيبه، ولكن هذا الإقرار ليس إلا نتيجة الإكراه فحسب.ثم لا يكفي لثبوت الجريمة أن يقر المجرم بها مرة واحدة بل عليه أن يقرّ بها أربع مرات أمام القاضي وفي غياب الشرطة.ثم يجب أن يكون إقراره هذا مقرونا بالقسم، عندها
الجزء السادس سیجب ۳۲۲ سورة ة النور عليه الحد.ولو أنكر المجرم ارتكاب الجريمة فيما بعد رغم إقراره بها أربع مرات من قبل، فأيضا لن يثبت عليه الحد.ولكنه لو ذكر في شهادته اسم امرأة فسيفرض عليه حد القذف لأنه اتهمها بالزنى.ثم تحدث الفقهاء عن أنواع القذف، فقالوا إذا كان قذفا صريحا فسيفرض عليه الحد، أما إذا كان كلامه من قبيل الكناية والتعريض - كأن يقول للمرأة: أيتها الفاسقة، أيتها المؤاجرة، يا ابنة الحرام - فلن يُعد هذا قذفا ما لم يكن معه نية القذف، بل يُعدّ سبًّا وشتيمة.أما إذا كان قوله تعريضا كأن يقول: أنا لستُ بزان، وهو يقصد بقوله هذا أنك أنت الزاني، أو أن يخاطب شخصا بقوله: يا ابن الحلال، وهو يقصد به أنه ليس ابن الحلال؛ فيرى الإمامان الشافعي وأبو حنيفة أن هذا التعريض ليس قذفًا، بينما يرى الإمام مالك أنه قذف، وأما الإمام أحمد فيعده قذفا إذا ما تفوه بهذا الكلام في حالة الغضب وإلا فلا الرازي ، وأحكام القرآن للجصاص) أن وعندي كل كلام ثبت عنه أنه أريد به تهمة الآخر فهو قذف، وسيعاقب عليه صاحبه بعقوبة القذف وهي ثمانون جلدة للحرّ وأربعون جلدة للعبد.ولكن القاضي هو الذي سيقرر هذا، وليس عامة الناس.وإذا قذف أحد امرأة غير متزوجة أو رجلا غير متزوج فلا حد عليه بحسب القرآن الكريم.بيد أن القانون أو القاضي سيفرض عليه عقوبة مناسبة.وهذا يعني أن مثل هذه القضية إنما تُفصَل إذا عدّه القاضي محرمًا؛ عندها ستعامله الحكومة معاملة المحرم وإلا فلا.وهذا يعني أن الإسلام يُلزم القاضي بالشهادة والحكومة بقرار القاضي.وإذا اتهم أحد امرأةً غير محصنة قد عوقبت في الماضي لارتكابها الزنى، فسيعاقب المدعي عقوبة التعزير لأن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بالحفاظ على شرفها بل بإثارة الفتنة.أما إذا كان الشخص المتهم سيء السمعة وشهيرا بارتكاب الفاحشة، واعتبره القاضي كذلك فلن يُعاقب المدعي إلا بعقوبة إثارة الفتنة.وقد ناقش الفقهاء كلمة الْمُحْصَنَات الواردة في القرآن الكريم، فقالوا: أن الله تعالى قد استعمل هنا الْمُحْصَنَات لا المحصنين، إلا أنها تشمل برغم
الجزء السادس ۳۲۳ سورة النور الرجال والنساء، بدليل أن النساء ما دمن مشمولات في ذكر الرجال فلم لا نعتبر الرجال مشمولين في ذكر النساء.أنه كما قالوا لقد استعمل الله تعالى هنا لفظ الْمُحْصَنَات بدل المحصنين لينبه برغم أن الرجال مشمولون في هذا الحكم إلا أن من واجب المجتمع أن يحافظ على شرف النساء خاصة لأن التهم الباطلة تضرّ بشرفهن أكثر من شرف الرجال.فإذا كان الشهود أقل من أربعة فسيُفرض عليهم الحد ولو كانوا ثلاثة.وإذا كانوا أربعة وكانوا فاسقين فأيضا سيُفرض عليهم الحد عند بعض الفقهاء (فتح البيان، والتفسيرات الأحمدية للجونفوري) ولكني أرى أنه لا يُفرض عليهم الحد لأن اعتبار الشهود فاسقين هو قرار القاضي، ولم يكن لدى الشهود علم بأنهم سيُعَدّون فاسقين أم لا.نعم بإمكان أن يعاقبهم بعقوبة التعزير بحسب الظروف ليأخذوا الحيطة في المستقبل، القاضي وأما المتهم فسيعد بريئا.ويتضح من كلمات القرآن الكريم أنه لا بد من أربعة شهود علاوة على القاذف نفسه، وهكذا يصبح عدد الشهود خمسة بمن فيهم القاذف.وقد اختلفوا فيما إذا كانت الشهادة ستؤخذ في مكان واحد أو في أماكن مختلفة (شرح فتح القدير.وأراه نقاشا لا طائل وراءه، إذ بإمكان القاضي أن يأخذ الشهادة كما يشاء، ولكن لا بد أن يكون الحادث واحدا، حتى وإن أُخذت الشهادات حوله في أماكن مختلفة، لكيلا تضيع الحيطة التي أخذت تجنبا للخطأ ولكيلا تكون هناك إمكانية لأي تخطيط مدبّر.واعلم أن هناك حاجة ماسة للعمل بهذا الحكم القرآني في هذا العصر، إذ لم يُهتك في هذا الزمن أي حكم من أحكام الإسلام كما هتك هذا الحكم.فإن الناس يرمون الآخرين بالتهم تفرجًا بدون أي دليل ولا سبب ولا برهان، ولا يبالون إطلاقا بأنه إثم كبير، وأن الله تعالى قد جعل عليه عقوبة شديدة.فجعل تعالى للمتهمين ثمانين جلدة، وهي عقوبة مقاربة لعقوبة الزنى؛ مئة جلدة.ثم يعاقب المدعي بعقوبة إضافية بعد أن يُضرب ثمانين جلدة، وهي أن شهادته تصبح غير
٣٢٤ الجزء السادس سورة النور مقبولة أبدًا، بل تزداد عقوبته أكثر، حيث يقول الله تعالى إن هؤلاء عند الله تعالى هم الفاسقون.ومن الواضح أن الذي يعده الله تعالى فاسقا، المستحيل أن يقال من أنه مؤمن أو تقي في الحقيقة، وأن الله تعالى سماه فاسقًا بدون داع – والعياذ بالله.يسمي أحدا كلا، بل إن في هذه التسمية إشارة خفية بأن الذي يتهم غيره سيقع في هذه السيئة حتما في يوم من الأيام.ذلك لأن الله تعالى لا باسم دون سبب، بل إذا دعا أحدا باسم، خلق فيه من الصفات ما يطابق اسمه.فمثلاً إذا سمى الله تعالى أحدًا فيصبح شجاعًا بالفعل، وعندما يسميه تقيا فيصبح كذلك حتمًا.وبالمثل إذا شجاعًا فاسقا سمى الله تعالى أحدا فاسقا، فلا بد أن يصبح وسترى الدنيا أنه قد ارتكب نفس التهمة التي اتهم بها غيره.يعني ويحتج البعض في هذا المقام ويقول : إن الله تعالى قد قال هنا (يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ مما أن عقوبة القذف هذه إنما هي على الذين يرمون النساء العفيفات فعلا، وليس على غيرهم (التفسيرات الأحمدية للجونفوري).وهذا زعم باطل، إذ لو صح ذلك فمن ذا الذي يمكن أن يعرف أن المتهمة عفيفة في الواقع أم لا؟ إذ بوسع كل خبيث وقح أن يقول أثبتوا لي أولاً أن التي أتهمها عفيفة بالفعل ثم عاقبوني؛ وهكذا يصبح شرف كل امرأة في خطر.فليس المراد من قوله تعالى يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات) أنه لا يمكن معاقبة المدعي ما لم تثبت عفّة المرأة المتهمة، وإنما المراد أن اللواتي يتهمن بالفاحشة إذا لم تثبت صحة اتهامهن من خلال الشهادات فإنهن عفيفات عند الله تعالى بكل تأكيد، وأن الذي يتهمهن مفتر كذاب يستحق العقوبة؛ ذلك لأن القاعدة أن البينة على من ادعى، كما قال الرسول ﷺ أيضا؛ وبما أن المتهم هو المدعي في هذه الحالة فعليه أن يأتي بالبينة، لا أن تأتي المرأة بالبينة على عفتها، وإذا لم نأخذ بهذا المعنى فبوسع المدعي أن يقول إن ما أقوله حق لا شك في ذلك وإن لم أستطع تقديم البينة على صحة ما أقول..أي إن كنتم لا تصدقونني فأثبتوا لي بأنها من المحصنات.إذا، فإن المدعي إذا لم يأت بأربعة شهداء بحسب الشروط التي وضعها الشرع فسيعد محرمًا.
الجزء السادس ٣٢٥ سورة النور وقد يقول قائل: لماذا اشترط القرآن الكريم أربعة شهود لإثبات تهمة الزنى بينما اكتفى بشاهدين في القضايا الأخرى.فليكن معلومًا أن فرض هذا الشرط يدلّ على أن الله تعالى يرى أن الناس يستسهلون الكذب في اتهام الآخرين بالزنى بكثرة،، فأمر بالإتيان بأربعة شهود لا اثنين.والسبب الآخر هو أن اجتماع خمسة أشخاص - أي المدعي وأربعة شهود - في وقت واحد إن لم يكن حدث بالفعل فإن زيفه سيُكتشف، إذ لن يثبت هؤلاء على موقفهم عند الاستجواب إذا كانوا كاذبين لأن اجتماع خمسة أشخاص في مكان واحد هو أمر يصعب عدم ثبوته، كما أن الصعب جدا أن من ينسج منهم الخمسة كان في معا مثل هذه الفرية، إذ من السهل جدا أن نثبت بالتحقيق أن أحدا مكان آخر وقت الحادث.كذلك فإن الزنى جريمة لا توجد على وقوعها دلائل خارجية كالتي توجد في الجرائم الأخرى.فمثلا لا بد في حالة السرقة أن يغيب المال من بيت أحد، ثم يوجد عند شخص آخر؛ أو لا بد في حالة القتل أن يكون أحد قد قتل فعلا، وأن يكون القاتل موجودا في مكان الحادث ؛ وجمع عدد كبير من الشهود كهذا هو أمر صعب جدا إن لم يكن من المحال.أما في حادث الزنى فلا توجد على وقوعه دلائل خارجية، لذا من السهل جدا اتهام أحد بالزنى، ومن أجل ذلك قد قبل الشرعُ شهادة شاهدين في السرقة أو القتل، ولكنه اشترط الإتيان بأربعة شهود لإثبات تهمة الزنى.كما اعتبر التعاطف مع المدعين جريمة كبيرة، ونصح المؤمنين بتكذيب هذه التهمة بمجرد سماعها.والطريق الآخر لثبوت الجريمة هو أن يقرّ المرء بنفسه بارتكاب الفاحشة، بيد أن الحديث يبين أن عليه أن يشهد أمام القاضي أربع مرات بارتكابها.وفي هذه الحالة سيعد هو محرمًا عند الشرع وليست المرأة.علما أن البعض يظن أن رمي المرء غيره بالفاحشة يختلف عن ادعاء الرجل على نفسه بارتكابها أو اتهام المرأة أحدًا بأنه قد
الجزء السادس ٣٢٦ سورة النور ارتكب معها الفاحشة وأن القضيتان لن تعتبرا متساويتين.بل هناك من يظن أن اعتراف المرء بارتكاب الفاحشة دليل على تقواه وصلاحه.عنه وهذا ليس بصحيح إذ الحق أن ادعاء المرء على نفسه بارتكاب هذه الجريمة ، دليل على وقاحته وعدم حيائه وليس على تقواه وصلاحه.ألم تعترف "زليخا" زوجة عزيز مصر بأنها قد حاولت ارتكاب الفاحشة مع سيدنا يوسف ال، فهل هذا يدل على تقواها أم على مكرها وخبثها.وقد وقع حادث مماثل في عهد الرسول ﷺ حيث جاءه شخص وقال يا رسول الله، لقد زنَيتُ.فأعرض عنه الرسول ل و لم يربت على ظهره مهنئا له بأنه قد أحسن صنعا إذ اعترف بجريمته.كلا، بل أعرض النبي غاضبا فجاءه له من الطرف الآخر وقال: يا رسول الله، قد زنيت.فأعرض عنه الرسول ﷺ ثانية وهو غضبان.ثم جاءه من الناحية الأخرى وقال: يا رسول الله، لقد زنيت.فأعرض النبي أيضا.فلما جاءه المرة الرابعة وقال: يا رسول الله قد زنيت قال له : أبك جنون؟ أي كيف يمكن لإنسان أن يتفوه بهذا الاعتراف وهو في صوابه؟ فقال: يا رسول الله لست بمجنون.عندها قال النبي ﷺ للقوم: ما دام قد أقر بجريمته أربع مرات فاذهبوا به ونفذوا فيه العقوبة (البخاري: كتاب المحاربين، باب رجم المحصن).هذا يدل على أن الرسول ﷺ لم يثن على هذا الرجل بسبب اعترافه بالجريمة، بل اعتبره مجنونًا.ولا يُنسب الجنون إلى أحد إلا إذا فهمنا أن المرء لا يمكن أن يدعي على نفسه ارتكاب هذه الجريمة وهو في صوابه، وإلا فلم نسبه الرسول ﷺ إلى الجنون؟ الغريب أن الناس في هذا الزمن أنه يعتبرون مثل هذا الاعتراف فضيلة بينما يعتبره الرسول ﷺ جنونًا ووقاحة.مجمل القول إنه لن يُعَدّ محرمًا في هذه الحالة إلا المعترف، أما المرأة التي يدعي ارتكب معها الزنى فلن تُعَدّ محرمة.ولو أنه سمى المرأة فسيقال لها بدون أن تُستحلف: أصحيح ما يقول عنك هذا أم كذب؟ فلو كذبته يُخلى سبيلها.إذا، ما أروع ما أمر به الإسلام هنا! إذ من الممكن أن يقوم شخص لا عزة له ولا شرف فيتهم الآخرين بتهمة باطلة تلويثا لسمعتهم ويقول إنني قد ارتكبت هذه الفعلة بفلانة.حيث إنه عديم الشرف فلا يبالي بما يقول، ولكنه سيلطخ سمعة
الجزء السادس ۳۲۷ سورة النور الآخرين.ولو سُمح بهذا الخرج العديد من الأشرار يرمون الآخرين بالتهم الباطلة، وإذا لامهم أحد على ذلك سيقولون: لا داعي للوم والغضب، ألا ترى أنني أعترف بذنبي أيضا؟ فلماذا لا تصدقني؟ فمثلا لو ذهب أحد هؤلاء الأشرار إلى شخص وقال له: لقد زنيت بزوجتك، فهل سيغضب عليه أم سيثني على صلاحه وورعه ويتهم زوجته أيضا؟ افتحوا هذا الطريق ثم انظروا هل يبقى شرف أحد محفوظا؟ ستجدون آلافا ممن لا حياء لهم ولا شرف مستعدين لاتهام غيرهم من الرجال والنساء بارتكاب الفاحشة معهم من جراء حقد أو غضب أو تحريض من أحد.وبالفعل كان التشبيب عادة شائعة بين العرب، حيث كان أحدهم يعلن على الملأ أنه على علاقة غير مشروعة مع فلانة وما كان يقصد من ذلك إظهار تقواه، بل تشويه سمعة تلك السيدة.وقد أفتى الرسول ﷺ بوجوب قتل أهل التشبيب.إذا، هذا الأمر يتنافى مع العقل كلية والسماح به يؤدي إلى فتنة كبيرة؛ ومن أجل ذلك لم يعتبر شرعنا أحد الفريقين محرما باعتراف الفريق الآخر.وهنالك قرار أصدره الرسول الله بهذا الصدد ورد في الحديث أن شخصا جاء النبي وقال له : یا رسول الله، إن ابن فلان هو ابن أخي في الواقع، لأن أخي كان قد أخبرني أنه ابنه فلم يثن عليه الرسول الله له ولو لم يقل له : تعال نطلب من الطرف الآخر أن يحلف على ذلك، بل قال : "الولد للفراش وللعاهر الحَجَرُ" (البخاري: كتاب المحاربين، باب رحم المحصن)..أي أن الولد سيُنسب إلى زوج المتهمة، ولكن الذي يقول إنه قد زنى بها فيُرجم بالأحجار.وكما أثبتنا من قبل أن حكم الرجم كان حكمًا توراتيا ".فترى في هذه الواقعة أن الرسول ﷺ لم يثن على من أقر بجريمته بل ذمه ولامه وقال إن إقراره سيضره هو لا غيره.فثبت من هنا أن كشف أحد عن جريمته أو إقراره بما ليس دليلا على صلاحه وورعه، لأن الشريعة تمنع من ذكر الآثام للآخرين، اللهم إلا إذا كان ذلك ضروريًا عند الشرع من أجل الشهادة أمام القاضي.فالذي ينسب إلى نفسه العيوب * من الواضح أن هذه الحادثة كانت قبل نزول سورة النور التي تضمنت حكم الجلد.(المترجم)
الجزء السادس ۳۲۸ سورة النور والفواحش دونما سبب شرعي، فإن الشريعة لا تعتبره شاهد عدل أيضًا، دَعْك عن أن تقيم لإقراره شيئا من الوزن أو الأهمية، أو تعتبره دليلاً على ورعه وصلاحه.أما إذا اتهم أحد غيره بدلا من أن يقرّ بنفسه فلن يُسأل المتهم ولا يجوز مطالبته بأن يحلف أو يباهل، لأن اليمين أو المباهلة في الحدود خلاف الشريعة، وهذا هو مذهب الفقهاء المتقدمين.فقد قال الإمام محمد - الذي خلف الإمام أبي حنيفة بعد وفاته، والذي يرى العلماء أن قوله أوثق من قول الإمام أبي يوسف الذي هو أول تلاميذ الإمام أبي حنيفة: "الحدود لا تُقام "بالأيمان" (المبسوط مجلد ٩ ص ٥٢: كتاب الحدود)، بل تحب الحدود بناء على شهادة الشهود.وإذا أتى المدعي بثلاثة شهود بدل أربعة فسوف يجلد هو وشهوده ثمانين جلدة، لأنهم أتوا بما لا دليل عليه.ورد في التاريخ أن المغيرة بن شعبة كان حاكما على البصرة في عهد عمر ، فاتهمه البعض بارتكاب الفاحشة وجاء بأربعة شهود فأمر عمر الله الشهود بالإدلاء بشهاداتهم.فتلكاً أحدهم في شهادته وقال لم أر عملية الزنى كما يكون الميل في عمر في الشهود الثلاثة الآخرين حد القذف.(الطبري مجلد ٥ سنة ١٧: المكحلة.فنفّذ.ذكر خبر عزل المغيرة) فترى أنه لم يقل أحد الناس إن الشهود الثلاثة قد أتوا بشهادتهم بما لا اعتراض عليه، وإنما قصر الرابع فقط في شهادته بعض الشيء، فينبغي أن لا يُجلد المدعون على الأقل، وبإمكان عمره أن يأمر المتهم بأن يحلف إذا كان صادقًا.ولكن عمر له لم يطالبه بأي يمين بل جلد المدعين بالسياط كما أعلن بأن لا تُقبل شهادتهم في أي قضية في المستقبل.وبالفعل لم تقبل شهادتهم بعد ذلك قط.
الجزء السادس ۳۲۹ سورة النور إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ التفسير : أي من تاب منهم بعد تنفيذ العقوبة فيه وحاول إصلاح نفسه، فليعلم أن الله تعالى كثير المغفرة واسع الرحمة.قال بعض الفقهاء إن هؤلاء إذا تابوا فيُعفون من العقوبة كلها، بينما قال البعض الآخر إنما يُعفون من العقوبة المتعلقة بشهادتهم وفسوقهم فقط، أي إذا حكم القاضي بأن فلانا نادم على خطئه حقًا وأنه قد أصلح نفسه فيمكن أن تقبل شهادته بعد ذلك، كما سيخرجه الله تعالى بإذنه من زمرة الفاسقين.(روح المعاني) وعندي أن الرأي الأخير هو الصواب..أي أنه لن ينجو من العقوبة البدنية رغم توبته، أما العقوبات الأخرى فيمكن أن يُعفى عنها إذا ثبت أنه قد أصلح نفسه فعلاً.لقد اتضح من هذه الآية أنه لا بد من تنفيذ العقوبة على بعض الذنوب، لأن العقوبة ضرورية لإقامة التمدن إذا ندم المرء على فعلته نجاه الله تعالى من العقاب يوم القيامة ويقبل توبته ولكن هذا لا يعفيه من العقوبة الدنيوية لأنها في يد العباد.وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنسُهُمْ لا فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَدَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ ) رم وَالخَمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَذِبِينَ (3) وَيَدْرَوا عَهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَدَتِ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَذِبِينَ رم
الجزء السادس ٣٣٠ سورة النور : وَالخَمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّدِقِينَ (٢) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابُ حَكِيمُ (3) كان شرح الكلمات: يدراً: دراه دفعه (الأقرب) التفسير: أي أن الذين يتهمون زوجاتهم بالفاحشة وليس لديهم شهود آخرون إلا أنفسهم، فليعملوا في هذه الحالة أن الزوج سيشهد أربع مرات أنه قد رأى امرأته تزني وأنه صادق في هذا القول.ثم يقول في المرة الخامسة إن لعنة الله عليه إن من الكاذبين.ثم بعد ذلك ستحلف المرأة أيضا أربع مرات وتقول إن هذا الشخص يكذب، ثم تقول في المرة الخامسة إن غضب الله عليها إن كان هو من الصادقين.وبعد هذا الحلف من الطرفين سيُفصل بينهما..أي سيتم الخلع بينهما.أما إذا قذف الرجل زوجته، ثم لم يأت بالشهود، ولم يقم باللعان أيضا، فسينفذ فيه الحد..أي يُجلد ثمانين جلدة.أما إذا قام باللعان فلا حد عليه..أي سينجو من ثمانين جلدة.ولو قامت المرأة أيضًا باللعان فلن تثبت عليها تهمة الزنى، وسيُعَدّ أمرهما سواء.ولا يتم اللعان في مكان ،خفي، بل لا بد أن يحلف الزوجان أمام الناس، ولا بد (أولاً) أن يحلف كل من الملاعنين، و(ثانيا) في مكان له حرمة، و(ثالثا) يجب تحذيره قبل أن يلعن على نفسه بأن يفكر جيدا قبل الإقدام على هذه الخطوة، لأن لعنة الله إذا نزلت على أحد دمرته.ثم يقول الله تعالى ﴿وَلَولا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أَي لولا أن رحمة الله تعالى أخذت بيدكم ولولا أنه قد حافظ على شرفكم بمثل هذه الأحكام لصرتم من الهالكين.
الجزء السادس ۳۳۱ سورة النور صلى إِنَّ الَّذِينَ جَاءُ و بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِي مِنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كبرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) شرح الكلمات: الإفك الكذب (الأقرب).عصبة: العصبة والعصابة الجماعة من الرجال؛ وقيل: العشرة؛ وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين (الأقرب، وفتح البيان) التفسير: تتحدث هذه الآية عن تلك الحادثة الشهيرة التي وقعت مع أم المؤمنين عائشة رضي - الله عنها حين تخلفت فرماها المنافقون بتهمة قذرة شنيعة جدا.عن باقي القوم في غزوة بني المصطلق، وبيان ذلك أنه كان من عادة الرسول ﷺ أنه كلما خرج في سفر اصطحب معه بعض أزواجه.ما كان يأخذهن بالتناوب، بل كان يقرع بينهن، فمن خرج سهمها اصطحبها.فخرج سهم عائشة - الله رضي عنها - عند غزوة بني المصطلق، فاصطحبها النبي.وعندما كان راجعا من الغزوة بات في مكان قريب من المدينة.وأرادت عائشة بالليل قضاء حاجتها، فخرجت بعيدا عن الجيش، وعندما عادت عرفت أن قلادتها قد انقطعت وسقطت، فرجعت إلى ذلك المكان تبحث عن قلادتها، وبينما هي تبحث حان رحيل الجيش.وأمر المسؤول عن القافلة بوضع هودجها على الجمل ظنا منه أنها جالسة داخل الهودج إذ كانت في تلك الأيام نحيفة جدا.فلما رجعت وجدت القافلة قد رحلت، فحزنت حزنا شديدا.ثم فكرت أن القوم لا بد أن يرجعوا إلى ذلك المكان إذا علموا بتخلفها، فجلست هناك على الأرض.فغلب عليها النوم فنامت وكان الرسول الله لقد ترك أحد صحابته اسمه صفوان بن المعطل
الجزء السادس ۳۳۲ سورة ة النور ليتفقد المكان الذي بات فيه الجيش إذا طلع الصبح، ليأتي بما قد سقط من متاع القوم.فبينما هو يتفقد مكان الجيش بعد طلوع الصبح إذ رأى امرأة نائمة.فاقترب منها فعرف أنها عائشة.تقول عائشة رضي الله عنها بينما أنا نائمة إذ سمعت صوت "إنا لله وإنا إليه راجعون.وكان حكم الحجاب قد نزل، ولكنني كنت نائمة في تلك البرية وكان وجهي مكشوفًا فعرفني هذا الصحابي لأنه كان قد رآني قبل الحجاب فقال بصوت عال "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فاستيقظت على صوته.ثم أناخ صفوان بعيره قريبا من عائشة دون أن يتكلم فركبت الجمل، فأخذ الصحابي خطامه يمشي إلى المدينة.فلما بلغا المدينة أشاع عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه والعياذ بالله - قصدًا وأنها على صلة مع الله عنها قد تخلفت - بأن عائشة رضي صفوان.وشاعت هذه الإشاعة على نطاق واسع حتى اشترك بعض الصحابة أيضا مع الذين كانوا وراء هذه الأراجيف وهؤلاء الصحابة هم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش التي كانت أختا لإحدى زوجات الرسول.ﷺ.أما عائشة فأصابتها صدمة شديدة لتخلفها عن القوم وحيدةً في تلك السن الصغيرة في صحراء موحشة في ظلام الليل فمرضت بعد وصولها إلى المدينة.وبلغت الرسول ﷺ الأراجيف التي أشاعها المنافقون ضد عائشة، ولكنه لم يسألها عنها بسبب مرضها.وازدادت الأقاويل شدة يومًا فيومًا.تقول عائشة: كنت أستغرب أن أرى الرسول الله يأتي إلى البيت حزينًا ولا يتكلم معي، وإنما يسأل الآخرين عن حالي ويخرج.فاستأذنت عائشة الرسول ﷺ وذهبت إلى بيت أبيها.وذات يوم خرجت مع إحدى قريباتها لقضاء الحاجة إذ لم تكن الكنف قد بنيت في البيوت في تلك الأيام.فأخذت قريبتها تلوم ابنها مسطح.فقالت عائشة: لم تقولين هكذا؟ قالت لم لا ألومه وقد يتكلم بكذا وكذا؟ ويبدو أن تلك السيدة كانت تتحين الفرصة لتخبر عائشة بما حدث.فلما سمعت عائشة - حديثها أصيبت بصدمة شديدة، ووصلت إلى البيت بصعوبة، وعاد إليها مرضها واشتد.فقالت لوالديها: ما هذه الحكاية؟ ولم يتكلم الناس بمثل هذا الكلام؟ فهدأت أمها من روعها وقالت: ليس هذا بأمر غريب بين الضرائر، فلا تحزني.- رضي الله عنها
الجزء السادس ۳۳۳ سورة النور ولكن عائشة أخذت تبكي وتبكي و لم تستطع النوم حتى الصباح.ثم لم تزل تبكي منذ الصباح حتى الظهر.فجاء الرسول ﷺ وسأل عن حالها وخرج.ثم دعا عمر وعليا وأسامة بن زيد واستشارهم في الأمر.فقال عمر وأسامة: إن هي إلا أراجيف أشاعها المنافقون ولا حقيقة فيها.أما علي الله فكانت في طبعه حدة، فقال: مهما يكن، فلست يا رسول الله بحاجة إلى امرأة قد رُميت بهذه التهمة.وأضاف قائلا: اسال خادمتها تصدقك القول.فقال الرسول الله البريرة: هل رأيت في عائشة شيئًا ﷺ مريبا؟ قالت لم أر فيها عيبا إلا أنها لصغر سنها تنام عن عجينها وتأتي الماعز وتأكل العجين.فخرج الرسول ﷺ وجمع أصحابه وقال: من ذا الذي يريحني من زعيم الفتنة بن معاذ هذا الشخص الذي يؤذيني؟ وكان يقصد عبد الله بن أبي سلول.فقام سعد الأوس وقال: إذا كان هذا الشخص من قبيلتنا ضربنا عنقه، وإذا كان من الخزرج فنحن مستعدون لقتله أيضا.وتنبه الشيطان الذي يتربص بالناس لإيقاع بينهم، ووجد الفرصة سانحة فثارت حمية الخزرجيين الذين كانوا غافلين تماما عن مدى وطأة صدمة الرسول ، فقام منهم سعد بن عبادة وقال لسعد معاذ: بن لا تقتدرون على قتل أحد منا ولن تقدروا على ذلك.فقام الواحد من طرف آخر وقال سنقتله وسنرى من ينقذه من أيدينا واحتد الخصام.كان الأوس يقولون: سنقتل من آذى رسول الله ، وكان الخزرج يقولون : إنكم لا تقولون هذا الكلام عن إخلاص وحسن نية، إنما لأنكم تعلمون أن هذا الشخص منا.كان كلا الفريقين يحبّان الرسول ، ولكن الشيطان فتنهم، فأخرجوا السيوف من أغمادها.وبوسع كل إنسان أن يدرك مدى خطورة الموقف.فمن ناحية كان الرسول ﷺ في أذى شديد، ومن ناحية أخرى كاد المسلمون أن يضرب بعضهم رقاب بعض.فقام الرسول بتهدئتهم بصعوبة.ثم دخل البيت ووجد عائشة تبكي.فقال لها: هل سمعت ما يقول الناس؟ نعم.قال: إن الإنسان ضعيف.فإن كنت قد ألممت فاستغفري بشيء تعالى، وإن كنت بريئة فسيظهر الله براءتك.فنظرت عائشة إلى أبيها وقالت له: فقالت الله أجب رسول الله.فقال: أنا لا أعرف جوابا.فقالت لأمها: أجيبيه.فقالت: ليس
الجزء السادس ٣٣٤ سورة النور فجأة وقلت في 2801 عندي أي جواب.تقول عائشة : لما سمعت قولهما توقفت دموعي حماس شديد لو قلت لكم إن هذا الخبر باطل فلن تصدقوني، ولو قلت إنه حق فسأكذب فلا أقول لكم إلا ما قال يعقوب أبو يوسف عليهما السلام: فصبر جَميلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.فتركت مكاني وجئت إلى السرير، فطرأ على الرسول ﷺ ما يطرأ عليه في حالة الوحي.فأنزل الله تعالى قوله إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كَبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ..أي أن الذين لفقوا هذه الفرية طائفة منكم، ولا تحسبوا أن هذه التهمة تؤدي إلى فساد بل هي لكم في الواقع، إذ أدت هذه التهمة إلى نزول العقوبات للذين يرمون الآخرين كذبًا وتيسرت لكم بسببها تعاليم حكيمة سينال كل واحد من المجرمين وبال إثمه، أما الذي هو أكبر مسؤول عن الجريمة فله عذاب عظيم.الخطيرة هم لما نزل هذا الوحي على الرسول استنار وجهه وقال لعائشة: أبشري فإن الله تعالى قد أنزل براءتك.فقالت أم عائشة لها قومي واشكري رسول الله.فقالت: إنما أشكر ربي الذي برأ ساحتي.(السيرة الحلبية، الجزء الثاني ص ٢٠٨-٣١٤: غزوة بني المصطلق والسيرة النبوية لابن هشام الجزء الثالث: واقعة الإفك) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَتُ بِأَذْسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ : لَوْلَا جَآءُ و عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَبِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَذِبُونَ (3) التفسير: أي لا شك أن الله تعالى قد أنزل أحكامه بشأن هذه المسألة فضلا ومنةً عليكم، ولكن كان من واجبكم أن ترفضوا هذا القول بمجرد سماعه وتقولوا:
الجزء السادس ٣٣٥ سورة ة النور لا أساس لهذه الأباطيل، إذ من المحال أن يكون المؤمنون والمؤمنات هكذا، وإذا كان الذين اتهموها صادقين فلم لم يأتوا بأربعة شهداء؟ كانت عائشة – رضي الله عنها - قد تخلفت عن الجيش مضطرة، وكان صفوان قد تُرك وراء الجيش لضرورة حربية فاتهامها بالتهمة الشنيعة بدون أي شهود ليس إلا من عمل الكذابين المفترين.فتذكروا من اليوم أن الذين لا يأتون بأربعة شهداء في المستقبل فأولئك عند الله هم الكاذبون.وإذا رأى المرء من يرتكب هذه الفعلة ولم يكن معه شهود آخرون، فمهما ادعى الصدق، وحتى لو حلف في الحرام، فيُعتبر هو المفتري الكذاب لأنه لم يأت بأربعة شهداء حسب بيت الله حكم الله تعالى.لقد تبين من ذلك أنه ليس من حق أحد أن يقول عن الذي لا يستطيع أن يأتي بأربعة شهداء لعله صادق؛ ذلك لأن الله تعالى يعدّه كاذبًا؛ ومن عدَّهُ الله كاذبا لا يحق لأحد أن صادقًا.يعتبره نستنبط من هذه الآية أن المؤمن إذا سمع شيئًا عن غيره فمن واجبه الأول أن يحسن به الظن، ذلك لأنه لو ثبت فيما بعد أن ما قيل عن أخيه كان صحيحا فإنه ينال ثواب حسن الظن به، وأما إذا ثبت أنه كان كذبًا فتصبح جريمته مزدوجة، لأنه (أولاً) أساء به الظن و(ثانيا) لأنه هتك الشريعة باتهام شخص بريء.إن الشريعة تأمرك أنك إذا سمعت سوءاً عن أحد فعليك أن تحسن به الظن، وتكذب من جاءك بهذا الخبر، لأنه قد مس بشرف الآخر؛ ولكنك إذا صدقته على الفور واعتبرت المتهم محرمًا فقد أسأت الظن.وإذا كان العيب الذي اتهم به مما قد وضع الشرع لإثباته طريقا خاصا للشهادة، فإن من يعيبه لن يُعتبر وحده محرمًا فحسب، بل إن من يصدقه ويؤيده أيضا يُعتبر محرمًا.وفي مثل هذه الحالة يأمرنا الشرع نعتبر الشخص المقذوف بريئًا ونكذب من يعيب الآخر لأن جريمته قد ثبتت.أن
الجزء السادس ٣٣٦ سورة النور وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمُ (3) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ وو عَظِيمٌ (٤) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا يُهْتَنُ عَظِيمٌ (٢) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ ۱۷ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَتِ وَاللَّهُ عَلِيمُ حَكِيمُ ) شرح ۱۹ الكلمات : أفضتم أفاض القوم في الحديث: اندفعوا وأسرعوا وأخذوا فيه (الأقرب).تَلقَّونه: تَلقَّى الشيء منه : تَلقْنَه (الأقرب).هَيِّنٌ : هانَ الأمرُ على فلان: سهل (الأقرب).التفسير : أي أن اتهام القوم الذين خرجوا ليضحوا بأنفسهم في سبيل الله تعالى إثم خطير ولولا أن الله تعالى يريد نجاتكم أيها المسلمون، في الدنيا والآخرة لعاقبكم لاقترافكم هذا الذنب عقابًا شديدًا إذ كنتم ترددون بألسنتكم الأقاويل التي سمعتموها من الآخرين وتشيعونها، مع أنه لا علم لكم بها، وظننتم أن ترديدها ضد الذين هم في خدمة القوم أمر هين، أنه كان جريمة شنيعة عند الله تعالى.لم مع لم تقولوا بمجرد سماع هذا البهتان أنه لا يليق بنا التفوه بمثل هذه الأمور؛ وأن على صاحب هذه الأقاويل أن يأتي بالشهود ويُثبت ما يقول؟ لا يحق لنا أن نسمع هذه
الجزء السادس ۳۳۷ سورة النور الأقاويل ثم نشيعها، إنما هي بهتان عظيم قد رُمي به بعضنا.فالله يعظكم أن لا تتفوهوا بمثل هذا الكلام في المستقبل إن كنتم مؤمنين.إِنَّ الَّذِينَ تُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا هُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (3) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (٢) شرح الكلمات : تشيع شاع الخبر يشيع: ذاع وفشا (الأقرب).الفاحشة الزنى؛ ما يشتد قبحه من الذنوب؛ وقيل: كل ما نهى الله عنه (الأقرب).التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا أن الخوض في مثل هذا الحديث يجعل الناس جريئين على الفاحشة، لأن الشباب إذ سمعوا أن كبارهم أيضا قد يقعون في مثل هذه الأمور فإنهم يتجرؤون على ارتكابها وليس هدف عقوبة هذه الجريمة حماية شرف الفرد فحسب، بل هدفها حماية شرف المجتمع وأخلاقهم كلهم.يتضح من هذه الآية أن خوض الإنسان في مثل هذه الأقاويل يجلب عذاب الله ذلك نجد الكثير يسمعونها ثم ينقلونها إلى الآخرين، وعندما يُسألون يقولون لقد تحدثنا بها دون قصد.بينما يصرح الله تعالى هنا أن مثل هذا الكلام يجعل الإنسان عرضة لعذاب الله تعالى.لذا لا بد لنا من تجنب هذا الإثم العظيم فلا نتفوه بمثل هذا الكلام أبدا.تعالى.ومع لقد بيّن الله تعالى في هذه الآية حقيقة عظيمة من حقائق "علم النفس" وهي تمثل برهانًا عظيمًا على أن القرآن الكريم كلام الله تعالى ذلك أن "علم النفس" لم يكن له وجود في الماضي، إذ بدأت البحوث بهذا الصدد في القرن التاسع عشر، ثم تطورت كعلم من العلوم في القرن العشرين.والحقيقة التي بينها القرآن الكريم في
الجزء السادس 28 ۳۳۸ سورة ة النور هذه الآيات هي أنه يجب تجنب ذكر الأمور السيئة في المجالس وإلا فإن تلك السيئات ستفشو في المجتمع بكثرة.لا شك أن أكثر الناس في الدنيا يكرهون أعمال السرقة والسطو، ولكنها – في رأيي - لو ذُكرت بكثرة بين الناس لرأوا بعد فترة وجيزة أن حالات السطو والسرقة قد ازدادت بشكل ملحوظ.فمثلا تجد عندنا في الهند أن بعض كبار الشرفاء القاطنين في محافظات "غجرات" و"شیخوبوره" و"غوجرانواله" خاصة يصلّون الخمس والتهجد، ومع ذلك يسرقون جواميس الآخرين ويأتون بها إلى بيوتهم دون أن يشعروا بأنهم قد ارتكبوا أمرًا سيئا.فذات مرة سُرقت خيل لي، فأرسل إلي شخص كان يقوم بالسرقات مع اللصوص الآخرين قبل انضمامه إلى الجماعة، فقال لي: اسمح لي أن ألقن أهل هذه المنطقة كلها درسا لن ينسوه أبدًا.فقلت لرسوله : قُلْ له لقد وفقك الله تعالى للتوبة في هذا السن الكبير، فالأفضل أن تثبت على توبتك ولا تنكثها، أما الخيل فسيعطينا الله تعالى غيرها.فثبت من هنا أن أهل بعض المناطق معتادون على السرقة، بل بعضهم يعتبرونه رمزًا للشجاعة والبطولة فمثلا كان عند بعض القبائل في منطقة "غجرات" تقليد غريب، وإن كان قد تلاشى الآن، وهو أن الآباء كانوا لا يضعون العمامة على رأس ولدهم إلا بعد أن يسرق جاموسًا ويهبها لأخته.ولو شب الولد ولم يكن على رأسه عمامة كان أقاربه يعيرونه :قائلين ما أقل حياءك! لقد بلغت هذا السن ولم تستطع أن تسرق جاموسًا لأختك ليُلبسوك العمامة.وهكذا كانوا يدفعون كل شاب إلى السرقة حتى إذا كبر أصبح سارقا للمواشي.هناك جماعتنا وهو أحمدي مخلص ،الآن، عندما جاء هنا لأول مرة كان معه ابن له ولم يكن على رأسه عمامة، فقالت حضرة أم المؤمنين - رضي الله عنها – لزوجة هذا الأخ خلال الحديث في البيت: لماذا لا يلبس ابنك هذا عمامة؟ قالت: لن نضع العمامة على رأسه ما لم يسرق لأخته جاموسا، لأن هذا هو العرف في منطقتنا.وكان هذا الأخ كلما هذه القصة خجل خجلا شديدًا وقال: كلا، ليس الأمر هكذا في الواقع، وإنما قالت زوجتي هذا الكلام على سبيل المزاح.ولكن الحقيقة أن هذه العادة كانت موجودة في منطقتهم، ومن أجل ذلك قالت زوجته هذا الكلام.سمع من
الجزء السادس ۳۳۹ سكان سورة النور وذات مرة سمع جدي حضرة المرحوم مير ناصر نواب هذه القصة، فساء ظنه بأهل "غجرات" جدا حتى إنه قال في مجلس كنت فيه: إن كل شخص من "غجرات" سارق.فغاب عن بالي عندها قول تلك السيدة في بيتنا، فقلت: لجدي هذا غير صحيح، إذ يوجد في جماعتنا أفراد من "غجرات" وهم صالحون جدا.فقال: مهما يكن فإنهم سارقون حتمًا.وعندها أيضًا لم يخطر ببالي قول تلك السيدة في بيتنا، فذكرت الجدي أسماء بعض الأحمديين وقلت: ألا ترى أنهم صلحاء وأتقياء جدا.فقال جدي: إذا كانوا من غجرات فلا بد من أن يكونوا سارقين.وهنا تحول حديثنا إلى المزاح فقلت له: إن الحافظ روشن علي أيضًا من غجرات، فهل هو سارق أيضا؟ فقال: هل الحافظ روشن على من غجرات فعلا؟ قلت: نعم.فتردد في أول أمره ثم قال: إذا كان هو من غجرات فهو سارق أيضا.فقلت له: كيف تقول هذا بهذه الثقة؟ قال: عند أهل غجرات تقليد أنهم لا يلبسون الولد العمامة إلا حين يسرق جاموسا ويهبها لأخته.وليس السبب وراء هذه العادة عند سكان تلك المناطق إلا أن الناس يتحدثون بكثرة عن سرقة المواشي، فصارت سرقتها عادة شائعة بينهم وأمرًا عاديًا بالنسبة لهم.فإنهم يستاءون جدًّا إذا سمعوا أن فلانا سرق روبية من مال فلان، ولكن لا يتولد في قلوبهم أي إحساس بالكراهة عند الحديث عن سرقة المواشي، لأنهم يُكثرون الحديث عن سرقتها.والقاعدة أن السيئة التي تُذكر بين القوم بكثرة تنتشر بينهم.كذلك تكثر حالات القتل بين شعب "الباتان"، ولا يرون في ذلك عيبا، لأنهم يتحدثون دائما عن أحداث القتل.يقال إن ابنا لأحد "الباتان" كان يدرس عند معلم هندوسي، وسخط عليه المعلم ذات يوم، فأخرج الولد سيفه وأراد ضرب عنق معلمه، فهرب المعلم وركض وراءه ابن الباتان.وفي الطريق وجد أبا الولد وقال له: انظر إن ابنك يريد قتلي، فامنعه.فسب الأب المعلم الهندوسي وقال له: ماذا تقول؟ كيف أمنعه إنها أول محاولة منه للقتل ويجب أن لا يفشل فيها.
الجزء السادس ٣٤٠ سورة ة النور إذا، فإذا أشاع الناس بينهم فحش الكلام وذكروا السيئة ذكرا عاما، انتشرت تلك السيئة بينهم، ومن أجل ذلك نهانا الشرع عن ذكر عيوب الناس ذكراً عاما، وأمرنا بأن نرفع الأمر إلى أولي الأمر ثم نسكت.أما لو سمح لكل إنسان أن ينشر كل ما يسمعه من مساوئ الناس، قلت شناعة تلك السيئة في القلوب وتجرأ الناس على ارتكابها.فالإسلام قد قام باستئصال السيئة من جذورها، وأمرنا – عند رؤية أمر سيء - أن نبلغ أولي الأمر الذين عندهم سلطة لإنزال العقاب، والذين أن يتخذوا التدابير لتربية النفوس وإصلاح القلوب؛ وهكذا لن تشيع بوسعهم الفاحشة في القوم، بل سيصبح سلوكهم سليما ويتم إصلاحهم.فاعلموا أن نشر خبر الحسنة وإخفاء خبر السيئة ليس بأمر هين، بل إنه يبني الأمم، أما عكسه فيدمرها.فكلما أكثرتم من ذكر أن فلانا يضحي كثيرا وأن فلانا يصلي بخشوع وأن فلانا يصوم بكثرة، مال الناس إلى التضحية من أجل الدين وإقام الصلاة والصوم.وكلما قلتم بين الناس إن القوم أصبحوا يكذبون ويخونون ويسرقون ويظلمون مالت قلوبهم إلى ارتكاب هذه السيئات.ومن أجل ذلك قد علمنا القرآن الكريم أنكم إذا رأيتم أحدًا يعمل خيرًا فانشروا ذكره كثيرا، وإذا رأيتم عيبا في أحد فاستروه ألا ترى أن القطة إذا تبرزت غطت برازها بالتراب، فكم بالحري للإنسان أن لا يشيع عيب غيره بل يستره ويمتنع عن ذكره للآخرين، وإلا تفشت تلك السيئة كالأمراض المعدية بين باقي أفراد المجتمع، وخاصة بين عائلة من يشيعها حتمًا، لأن القاعدة أن المرء يحتقر الشيء الذي يراه بكثرة ويستهين بما عنه أن الناس يرتكبونه بكثرة وعليه فإن السيئة التي يرد ذكرها في حديث يسمع القوم بكثرة تبدو هيئة عليهم، وإذا كثرت مثل هذه التهم في المجتمع و لم يبال الناس في ترديدها بشرف الآخرين فلا بد أن يستهين بها القوم، وبالتالي يعتبرون ارتكابها أمرا عاديًا.ولذلك يقول الله تعالى إنكم إذا فعلتم ذلك ولم تضعوا الحد لهذه الأراجيف فإن الناس سيستهينون بهذه السيئات وبالتالي يرتكبونها بكثرة؛ فلا تسمحوا بإشاعة هذه الأمور.
الجزء السادس ٣٤١ سورة النور وقد نبهنا رسول الله ﷺ أيضا إلى هذه الحقيقة فقال: "من قال هلك القوم فهو أهلكهم".لقد أخطأ البعض في فهم هذا الحديث، فقالوا كيف يمكن أن يهلك القوم كلهم إذا قال أحد هلك القوم؟ ولأن هؤلاء لم يفهموا هذا الحديث فهما صحيحًا فقالوا أن الحديث لا يقول: فهو أهلَكَهم، بل يقول: "فهو أهلكهم"..أي أنه أكثرهم هلاگا.والحق أن المعنى الذي يذكرونه لا يكون صحيحا في بعض الحالات.و الواقع أن القائلين بهذا لم يفهموا نفسية الشعوب.إنهم لم يدركوا أن اليأس إذا خُلق في قوم حُرموا القيام بإنجازات عظيمة.إن الزعيم الحكيم لا يخلق القنوط في قومه أبدًا ولا يجعلهم يائسين من الرقي في المستقبل، لأنه إذا سرى القنوط في قلوب القوم هلكوا.فمثلاً ترى أن المسلمين لما ظنوا أنه من المستحيل عليهم أن يزيدوا على ما بينه أسلافهم من تفسير القرآن الكريم، أصابهم الانحطاط من حينه، فغارت معرفتهم وحُرموا من العلوم السماوية لدرجة أنه لما ذكر سيدنا المسيح الموعود المعارف القرآن الجديدة، كما فتح الله على يدي أنا أيضًا أسرار القرآن الجديدة، قال المسلمون إنه تفسير بالرأي.مما أسرار المعرفة بعدًا عظيمًا حتى اعتبروا الأمور التي هي من صميم الإسلام كفرا، وبدت لهم معارف القرآن إلحادًا وليس ذلك إلا لأنهم قالوا للقوم إنه من المحال أن يرتقي المسلمون أكثر مما سبق، فلن يولد بعد ذلك من يفهم القرآن أكثر من الأولين.فكأنهم قالوا للقوم : لقد هلك قومنا ولم يبق بينهم حي واحد يستنتج من القرآن الكريم مسألة جديدة فكانت النتيجة أن الناس تركوا التدبر في القرآن الكريم وامتنعوا عن إمعان النظر في الأحاديث، وقالوا ما دمنا لا نستطيع أن نستنتج أمرا جديدا من القرآن الكريم ولا من الحديث فما الداعي للتدبر فيهما، إذ تكفينا التفاسير السابقة.وكانت هذه نتيجة منطقية للفكرة القائلة إن استنتاج أمر جديد يعني أنهم بعدوا عن نص الحديث الذي وجدناه هو كالآتي: قال رسول الله ﷺ: "إذا قال الرجل: هَلَكَ الناس ، فهو أَهْلَكَهم." (مسلم: كتاب البر والصلة باب النهي عن قول هلك الناس) (المترجم)
الجزء السادس ٣٤٢ سورة النور من القرآن الكريم مستحيل الآن، إذ يكفينا ما كتبه الرازي وأبو حيان وغيرهم من المفسرين.ثم اشتدت بهم هذه المأساة لدرجة أنه قبل عقدين أو ثلاثة عقود كان بين كبار المشايخ في بلادنا من يجهل الترجمة الصحيحة لمعاني القرآن الكريم، لأنهم ظنوا أنه لا حاجة بهم لمعرفة ترجمة معاني القرآن الكريم، وإنما يكفيهم إلقاء النظرة على التفاسير القديمة إذا أمكن.لقد حل هذا الدمار بالمسلمين لأن القوم قد جُعلوا يائسين.لقد قيل لهم أن الاطلاع على المزيد من معارف القرآن الكريم قد أصبح مستحيلاً الآن.كذلك لما قيل لهم أن الله تعالى لا يتكلم الآن ولا يحب أحدًا الآن، ولا يوالي أحدا الآن، ولا يردّ على دعاء أحد الآن، فقدت قلوبهم بالتدريج الرغبة في التقرب إلى الله تعالى.ذلك أن الإنسان لن يرغب في الوصال بالله تعالى وفي الكلام وبأن يحبه الله الأمة 28 معه 28 ومع ذلك أنه قد تم تعالى وبأن يصير هو له، إلا إذا اعتقد أن هذا ممكن أما إذا ظنه أمرًا مستحيلاً فكيف يمكن أن يسعى لذلك.فلما جعلهم زعماؤهم يظنون أن من المحال عليهم الآن أن يصبحوا الله تعالى ويصبح هو لهم، وقالوا: "هلك القوم" ولم يبق في أفراد من المواهب والكفاءات ما يستطيعون به أن يحظوا بحب الله تعالى ويجذبوا فضله ويتلقوا وحيه ،وإلهامه غضوا الطرف عن هذه الأمور وأهملوها كلية، وامتنعوا عن قرع باب الله تعالى ظانين أنه مقفل وغبي الذي يرى بابًا عليه قُفل يقف على عتبته وينادي صاحب البيت.ذلك لأنه إذا أُعلن عن بيت إغلاقه بصورة قطعية للأبد، ومع ذلك ذهب أحد ليطرق بابه فسوف يعده الجميع مجنونا إذ يطرق بابا قد أغلق نهائيًا ولا إمكانية لفتحه أبدا.أما إذا كان هناك بيت آخر بابه مقفل ولكن نافذته مفتوحة فالجميع سيتجهون إلى النافذة لا إلى الباب.إنهم يذهبون إلى النافذة لأنها مفتوحة ولا يذهبون إلى الباب لأنه مغلق.وبالمثل لما أُغلق باب محبة الله تعالى في وجه المسلمين، وقيل لهم أنهم لن يسمعوا أي صوت من هذا الباب بعد ذلك مهما صرخوا وبكوا، فكانت النتيجة أنهم تركوا باب الله تعالى وتوجهوا إلى الأولياء والدراويش.لا شك أن هؤلاء الأولياء كانوا بمنزلة النوافذ
الجزء السادس ٣٤٣ سورة ة النور الصغيرة إزاء الله تعالى ولكن الناس لما وجدوا هذه النوافذ الصغيرة مفتوحة ووجدوا الباب الكبير مقفلا تركوا الله تعالى واتبعوا الأولياء والدراويش قائلين في أنفسهم: لا شك أنها نوافذ فقط، ولكنها مفتوحة على الأقل، فتعالوا نطل منها إلى الداخل.ولكن هل تعرف ماذا كانت نتيجة ذلك؟ لقد خلت قلوب المسلمين من حب الله تعالى والشعور بلطفه، وتلاشت الروحانية من نفوسهم، وحُرموا قرب الله تعالى، وفقدت آذانهم متعة سماع كلام الله المتجدد.كما حصل عيب كبير في التمدن الإسلامي والسياسة الإسلامية، لما قيل للمسلمين أنه لا يجوز إدخال أي تغيير في شكل التمدن الإسلامي الذي كان في زمن الصحابة.مع أن شكل التمدن يتغير بتغير الزمن، فيكون شكل للتمدن مناسبًا في زمن بينما يكون شكل آخر له ملائما في زمن آخر.وإنما الدين الحق الذي يتسم بالمرونة، ولذلك فإن الأديان التي تأتي إلى الدنيا لتستمر فترة طويلة يمتاز تعليمها بنوع من المرونة، فيتغير شكله بتغير الظرف والزمان.لقد اتخذ التمدن الإسلامي في عهد الرسول شكلا، أما اليوم فعليه أن يتخذ شكلا آخر.لا شك أن مبادئ هذا التمدن وأصوله ستبقى كما هي، ولكن شكله سيتغير بتغير الظروف والزمان.إنما يمكن الاعتراض لو غيرنا الأصول والمبادئ، ولكنها ستبقى كما هي، وإنما يتغير شكلها بتغير ظروف الزمان.وهذا التغير في الشكل كان جائزا، ولكنهم لما قالوا أن التمدن الإسلامي قد بلغ منتهاه، وأنه لا مرونة في هذا القانون، فعلى الناس أن يتبعوا التمدن الإسلامي بشكله القديم، ولا يجوز لهم أن يقترحوا له شكلا جديدًا آخر؛ فكانت النتيجة أن المسلمين تركوا إعمال الفكر في القضايا التمدنية، فانقلب التمدن الإسلامي كبركة صغيرة لا يجري ماؤها، فأسنت وتعفنت، و لم تعد جميلة جذابة كما كانت من قبل.إذا، فإن رسول الله ﷺ قد بين هنا حقيقة عظيمة من حقائق علم النفس إذ قال: "من قال هلك القوم فهو أَهْلَكَهم.ولو أن زعماء المسلمين وضعوا هذا الحديث في الحسبان ولم يجعلوا قومهم يائسين ،قانطين و لم يقولوا لهم لجهلهم أنه لا إمكانية الآن لرقيهم، لظل المسلمون سبّاقين في مضمار الروحانية وغبائهم
الجزء السادس ٣٤٤ سورة ة النور وميدان الاقتصاد ومجال العلم والتقدم.لقد اشتدت المصيبة بالمسلمين لدرجة أن زعماءهم لم يقولوا بانتهاء العلوم الدينية على الأسلاف فحسب، بل أفتوا بانتهاء العلوم المادية أيضا.فقيل لهم مثلاً أنه لا يمكن الآن الزيادة على ما قاله "أبو علي ابن سينا" في علم الطب، كما تستحيل الإضافة إلى ما كتبه فلان من العلماء في علم المنطق.وهكذا أفتوا عن جميع العلوم.فكان قولهم هذا يماثل قول: "هلك القوم"، فلا يمكن أن ينال اللاحقون ما ناله الأولون وكانت النتيجة أن المسلمين هلكوا أهلُ الله ولا الفقهاء ولا القضاة ولا العارفون بالله ولا المحدثون تماما، فلم يبق بينهم لأنهم ختموا كل شيء على الأولين وجعلوا القوم يائسين قانطين.خلاصة القول إن الله تعالى قد بين هنا حكمة لطيفة بصدد إصلاح المجتمع، وهي أنكم إذا أردتم إيقاف سيئة فعليكم إيقاف إشاعتها ونشرها.لقد قال المسيح الموعود الله في كتبه إن من خصائص القرآن الكريم أنه يضع يده على جذر كل سيئة فيستأصلها من جذورها.وهذا ما يعلّمنا القرآن الكريم هنا أيضًا، فيقول إنكم إذا أردتم إيقاف سيئة فعليكم إيقاف الاتمام بها، وبتعبير آخر إذا أردتم إرساء حسنة من الحسنات فانشروا عظمتها وأهميتها بين المجتمع؛ فتقولون مثلا عن الصلاة: من ذا الذي يمكنه أن يترك هذه الفريضة الهامة؟ وتقولون عن السرقة: لا يمكن أن يرتكب أحد هذا الإثم الخطير.فمن يسمع هذا الكلام يدرك أهمية هذه الأمور ويأخذ الحيطة بشأنها.عليكم بإحداث تغيير في أنفسهم على ضوء هذا التعليم وسترون خلال ثلاث أو أربع سنوات فرقا عظيمًا في مجتمعكم، وستلاحظون في أفراد الجماعة صحوة أكبر وتجدونهم أكثر عملا بالحسنات وأكثر تجنبا للسيئات وأكثر إخلاصا وإيمانا من ذي قبل.فمثلا لو قلتم لهم: لم لا يدفع البعض من جماعتنا التبرعات؟ فلن يكون لقولكم وقع قوي.أما إذا قلتم: من النادر أن تجد في جماعتنا لا يدفع التبرعات فيدرك كل واحد أهمية التبرعات ولن يقصر في أحدا تأديتها.وهذه القاعدة ناجعة في كل النقائص والعيوب، ويمكن بها إصلاح جميع المفاسد.فإذا أردتم إيقاف معصية في المجتمع فعليكم إيقاف الاتهام بها، وعلى
الجزء السادس ٣٤٥ سورة النور النقيض إذا أردتم إرساء حسنة فعليكم إشاعتها والاهتمام بها.ولكن تذكروا أنه يجب أن لا تعظموا أحدا تعظيمًا خاصا لأدائه الفرائض، فمثلا إذا أدى شخص كان فريضة الحج فلا تقولوا إنه رجل صالح جدا لأنه قد قام بالحج، ذلك لأن الحج فرضا عليه فأدّاه.كذلك إذا قام أحد بأداء الصلاة والصوم والزكاة فلا تثنوا عليه بوجه خاص، لأنكم إذا مدحتموه بسببها وقلتم إنه رجل بار وورع فسيقول الذي ليس كذلك: صحيح أنني لست بارا وورعا، ولكنني مسلم على الأقل.أما إذا قلتم إن هذه الأمور فرض على كل مؤمن، فسيدرك هذا أنه لن يبقى حتى مسلمًا عاديًا إذا ترك هذه الفرائض.فلا تنسوا هذا الأمر أبدا، واعتبروا اتهام الناس بالفواحش أمرًا قبيحا جدًّا، ولا تدعوا مثل هذه الأقاويل تنتشر في المجتمع، وعندها سترون فيكم تغيرا عظيما في فترة قصيرة، وتنجحون في مهمة إصلاح المجتمع.يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَنِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْ حْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ © شرح الكلمات : الفحشاء: الفُحش والفحشاء والفاحشة: ما عَظُمَ قُبحه من الأفعال والأقوال (المفردات).المنكر : ما ليس فيه رضى الله من قول أو فعل (الأقرب).زکی: زكى الرجل: صلح وتنعم (الأقرب).
الجزء السادس ٣٤٦ سورة ة النور التفسير: الخطوة معناها القدم، ولكنها إذا استعملت جمعا فمعناها عند المفسرين المسلك والمذهب والأثر (فتح البيان).إذا، فقد نبهنا الله تعالى بقوله لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَان أن لا نتبع مسلك الشيطان ومذهبه وأثره، لأن الذي يتبع طريق الشيطان لا بد أن يتبع السيئات والمنكرات، إذ إن الشيطان يحث دائما على الفحشاء والمنكر.ولكن تذكروا أن الطهارة الكاملة لا تتيسر بدون فضل الله ورحمته، وسبيلها أن تدعوا الله تعالى دائما وتسعوا لتزكية أعمالكم لأنه تعالى حين يراكم تبذلون جهدكم لتتطهروا فسوف يجعلكم طاهرين.لقد اتضح من هذه الآية أن الشيطان لا يبرح يطارد الإنسان دائما.وحتى لو آمن الإنسان بالله تعالى فإن الشيطان لا يتركه، بل يسعى لإغوائه.وكثير من الناس يقعون في خداعه رغم إيمانهم، فيتبعونه فيصبحون مرتدين فاسقين.وهذا الخطر عظيم لدرجة أنه لولا فضل الله تعالى لما استطاع إنسان النجاة منه.والسبيل لجذب الفضل الإلهي أن يستفيد الإنسان بصفة الله السميع ويطرق بابه تعالى، وإذا طرق المرء بابه تعالى واعتاد على الدعاء والابتهال فإن الله العليم بأحوال عباده والخبير بضعفهم سينفخ في قلبه قوة إيمانية يتقى بها من هجمات الشيطان التزكية والطهارة.يقال أن تلميذا لرجل صالح مكث عنده فترة طويلة يتعلم على يده، ولما أكمل تعليمه أراد العودة إلى بلده، فقال له الرجل الصالح أنت راجع الآن إلى بلدك، فهل الشيطان موجود في بلدكم؟ فاحتار التلميذ بسؤاله، وقال الشيطان موجود في كل مكان وسيكون أيضًا في بلدنا الذي أنا ذاهب إليه.فقال: ما دام الشيطان موجودا هناك فلا بد أن يعيق طريقك كلما أردت العمل بما تعلمت مني، فماذا تفعل عندها؟ قال: سأقاومه.قال الرجل الصالح: حسنًا، هَبْ أنك حاربت الشيطان ففرّ من وجهك ثم عدت إلى العمل وبدأت المسير في سبل التقرب إلى الله تعالى، فعاود الشيطان من ورائك وأخذك ومنعك من التقدم، فماذا تفعل إذا؟ قال: سأحاربه وأتخلص منه وأستأنف المسيرة في سبيل التقرب إلى الله تعالى.قال: حسنًا،
٣٤٧ الجزء السادس سورة النور لنفترض أن الشيطان يفرّ من وجهك ثانية نتيجة مقاومتك، فتستأنف جهدك للوصول إلى الله تعالى وإصلاح نفسك، مُعْرضًا عن الشيطان ومتوجها إلى الله تعالى وسائرا على سبيل ،قربه فيعاود الشيطان فيأخذك من ورائك، فماذا تفعل؟ فاحتار التلميذ وقال أنا لا أعرف فأخبرني أنت ماذا علي فعله عندها.قال الرجل الصالح: لو ذهبت إلى بيت صديق لزيارته ووجدت على بابه كلبًا قويا، وإذا هممت بالدخول أتى الكلب وعضك من قدمك، فماذا تفعل؟ قال سأقاومه وسأضربه بعصا أو بحجر.قال: هَبْ أنه فر حين ضربته بالعصا أو بالحجر، ولكنك حين أردت أن تدخل في الدار معرضًا عن الكلب، أتاك من ورائك وأخذك من رجلك، فماذا تفعل؟ قال سأضربه أيضا وأحاول إبعاده عن طريقي لأدخل الدار.قال: لنفترض أن الكلب يهرب فتحاول أن تدخل الدار فيعود الكلب ويأخذك من رجلك، فماذا تفعل ؟ قال سأضربه وسأبعده عن طريقي.قال لو ظلت هذه الحرب بينك وبين الكلب مستمرة هكذا في كل مرة فمتى ستتمكن من زيارة صديقك، ومتى ستحقق هدفك الذي أتيت من أجله؟ قال التلميذ: عندما أرى أن الحرب بيني وبين الكلب لا تنتهي، بل يبطش بي الكلب في كل مرة سأنادي صديقي وأقول: إن كلبك لا يتركني، فازجُره ليخلي سبيلي.فقال الرجل الصالح: هذا بالضبط هو السبيل الذي عليك اتباعه ضد الشيطان أيضًا.إن الشيطان كلب لله تعالى، فإذا هاجمك مرة بعد أخرى ولم يسمح لك الاقتراب من الله تعالى، فعلاجه أن تدعو ربك وتناديه يا رب أريد أن أصل إليك، ولكن كلبك هذا يحول دوني، فادفعه عني حتى أصل إليك.فسيمنعه الله تعالى وتصبح في مأمن من هجمات الشيطان.إذا، فالطهارة الكاملة التى لا ارتداد بعدها ولا فسوق، إنما تتيسر للإنسان الله ورحمته التي تجذبها أدعيته.بفضل هذا، وإن الله تعالى قد بين في هذه الآية طريقا لطيفا آخر لمكافحة السيئة.فقد بين من قبل أن اتهام الآخرين في المجالس بما لا أساس له مدمر لأخلاق القوم، أما الآن فقد نبه الله تعالى المؤمنين إلى أمر آخر فقال : أيها المؤمنون لا تتبعوا خطوات 6 الشيطان لأن من يتبع خطواته يقع في السيئة والفاحشة، لأن الشيطان إنما يأمر
الجزء السادس ٣٤٨ سورة النور بالفحشاء والمنكر.فقد بين الله تعالى هنا أن كل سيئة تنتشر في الدنيا لا تكون بدايتها مخيفة؛ إذ ليس من دأب الشيطان أن يحثّ الإنسان في أول مرة على ارتكاب أمر خطير جدا، لأن الإنسان مفطور على الحياء والخجل فلا يستعد على الفور لارتكاب سيئة مكشوفة.فمثلا لو أراد الشيطان أن يأخذه إلى هوة الهلاك رأسًا فلن يذهب معه، أما إذا أخذه إلى الموت باللف والدوران فسيذهب معه؛ ومن أجل ذلك لا يدعوه الشيطان في أول أمره لارتكاب سيئة كبيرة بل يدعوه إلى معصية صغيرة لا تبدو معصية في الظاهر، ثم يتقدم به أكثر فأكثر حتى يدفعه إلى ارتكاب معصية خطيرة جدا، وبتعبير آخر لا يأخذ الشيطان الإنسان إلى هوة الدمار ليقول له اقفز فيها، بل يأخذه أولا بعيدًا عن داره كما يفعل الصعاليك حيث لا يهاجمون قريبا من البيوت أو كما يفعل قَتَلة الأطفال فإنهم لا يقتلون الطفل قريبا من بيته بل يقومون بمراوغته فيأخذونه أولا بالمكر بعيدا عن بيته؛ فيقولون له مثلاً: تعال أعطك الحلوى؛ فإذا مشى معهم يأخذونه خارج القرية والمدينة ويقتلون الولد خنقا حين يرون أن لا أحد يراقبهم هذا هو دأب الشيطان أيضا فهو أولا يدعو الإنسان ليخرج من حصنه الذي قد حفظه الله فيه..أعني حصن الفطرة الصحيحة، فيخرج الإنسان ظنا منه أن لا بأس في ذلك، ولكنه يبتعد ويبتعد حتى تتعذر عليه منه العودة، فيقع في براثن الشيطان فيهلكه.فبعد أن نهانا الله تعالى عن الاتهام الباطل قد نبهنا الآن بأن لا تستهينوا بهذا الحكم فتقولوا في أنفسكم ما الحرج إذا اتهمنا أحدا بالزني؟ إنا لا نتهمه بالزنى بل ننقل الخبر الذي سمعناه؛ لأن هذا هو أسلوب الشيطان أيضا، فإنه يستدرج الإنسان أولاً ويخرجه من حصن الشرع والروحانية، وإذا خرج الإنسان بعيدا قتله الشيطان.فالشيطان في أول أمره إنما يدعوكم إلى ترديد ما يقوله الآخرون قائلا لكم: ما الحرج في ذلك؛ وإذا اتبعتم أمره هذا جعلكم تتفوهون بأنفسكم بمثل هذه الأقاويل، ثم يدفعكم إلى ارتكاب هذه الفاحشة؛ لذا فعليكم أن لا تتبعوه أصلاً، وأن ترفضوه عند أول خطوة لكي تنجوا من الهلاك.
الجزء السادس ٣٤٩ الله تعالى سورة النور عمله بسبب ثم يقول الله تعالى ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.وليس المراد من قوله تعالى يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أَنه تعالى يزكيه دونما سبب، بل المراد أن الذي صار مرضيا عند بأحكامه تعالى فهو الذي يتخذه الله محبوبا ويزكيه.ثم يقول الله تعالى وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ..أي أن من يدعوه تعالى يستجيب دعاءه، كمثل الذي يضل طريقه فينادي شخصا، فإذا كان من يناديه يقدر على سماع صوته فلا بد من أن يجيبه؛ كذلك عندما يضل الناس الطريق المستقيم الله تعالى وينادونه فإنه تعالى يستجيب لندائهم لأنه سميع؛ ثم إذا ناداهم تعالى ومشوا إليه، فإن صفة الله العليم تهديهم، وهكذا يصلون إليه تعالى.ويدعون الله وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْاَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى صلے وَالْمَسَكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْ ُوا وَلْيَصْحُوا أَلَا قالے تُحِبُّونَ أَن يَغْرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ فورٌ رَّحِيم شرح الكلمات : لا يأتل: ائتلى: حلف (الأقرب) ۲۳ التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن من سبل طهارة مجتمعكم أن لا يُقسم الأثرياء منكم بأنهم لن ينفقوا على أقاربهم والمساكين المهاجرين في سبيل الله.أي لا شك أن الإنسان يتشاجر أحيانا مع أقاربه والمساكين والمهاجرين ولكن ينبغي على الأثرياء أن لا يقسموا نتيجة نزاع معهم أنهم لن ينفقوا على هؤلاء في المستقبل، وإنما عليهم أن يعفوا ويصفحوا رغم غضبهم ، لأنهم إذا غفروا لهم، فهناك أمل بأن يغفر الله لهم.
الجزء السادس ٣٥٠ سورة النور ورد في بعض الأحاديث أن مسطحًا كان متورطًا في إشاعة الفرية التي رميت بها عائشة رضي الله عنها.وكان مسطح ابن أخت أبي بكر وواحدا من صحابة رسول الله ﷺ.كانت أمه امرأة صالحة وهي التي سبت مسطح أمام عائشة في إحدى المرات، فقالت لها عائشة : لماذا تسبّين صحابيا بدريا؟ فقالت: هذا دعي الكلام، فإنه يتكلم بكذا وكذا.وهكذا تناهى خبر الإفك إلى أذن عائشة أول مرة.فلما بلغ ذلك أبا بكر الله أقسم أنه لن يساعد مسطحًا وعائلته بعد ذلك، إذ كان ينفق على أهله ويساعدهم مساعدة كبيرة.(البخاري: كتاب المغازي باب حديث الإفك) ويقول المفسرون إن هذه الآية تشير إلى هذه الواقعة (القرطبي).والحق أننا لسنا بحاجة للقول بأن هذه الآية تشير إلى واقعة معينة، إذ تتضمن هذه الآية درسًا عامًا، حيث يبين الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن الكريم من مساعدة الأقارب والمساكين والمهاجرين ليس أمرا مشروطا بأن ننفق عليهم إذا رضينا بهم وإلا فلا؛ كلا، بل علينا أن ننفق عليهم دائما، وإذا فعلوا ما لا يعجبنا فلا يجوز لنا أن نحلف بأننا لن ننفق عليهم بعد ذلك أي أن المرء لو قصر في الإنفاق على هؤلاء في أيام الغضب فهذا شيء آخر، أما أن يقسم أنه لن ينفق عليهم أبدا فهذا لا يجوز، بل عليه أن يعفو ويصفح عنهم.بيد أنه يجب أن لا ننسى أن هذه الآية تتحدث عن الإنفاق من أموالنا الخاصة وليست من الأموال العامة أو أموال الله تعالى.لو كان الأمر يخص إنفاق أموال العامة أو أموال الله تعالى فلا بد أن تعطى الأولوية للمصلحة العامة أو لحكم الله تعالى.أما قول الله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فقد أوصى فيه المؤمنين وصية عامة بأن يغفروا للآخرين خطاياهم ويصفحوا لهم تقصيراتهم.ولكن قضية العفو معقدة، حيث مال بعض الناس بشأنها إلى الإفراط والبعض الآخر إلى التفريط بسبب جهلهم.فيقول الذين ارتُكبت الجريمة بحقهم: لا بد من عقاب المجرم لكي يكون عبرة للآخرين.وأما الذين يجنون على الآخرين فيقولون: ما دام الله يغفر فعلى العباد أن يغفروا أيضًا.ولكن هذه الأقوال كلها فتاوى
الجزء السادس ٣٥١ سورة النور مغرضة، لأن الذي يقول : على العباد أن يغفروا ما دام الله يغفر، لا يقول هذا القول إلا عندما يكون هو محرما، ولكن إذا أخطأ أحد بحقه فلا يقول هذا الكلام أبدا.أما الذي يدعو إلى عدم العفو وتنفيذ العقوبة فإنه أيضا لا يقول ذلك إلا إذا كان غيره قد أخطأ في حقه أما إذا أخطأ هو في حق غيره فلا يتفوه بمثل هذا : الكلام بل عندها يقول هو الآخر ما دام الله تعالى يغفر فعلى العباد أيضا أن يغفروا.فثبت أن كل هذه فتاوى مغرضة، وليست الفتوى الحقيقية إلا ما هو خال من المنافع الشخصية، وهي تلك التي أتى بها القرآن الكريم، حيث يقول: إذا ارتكب أحد جريمة فعليكم أن تنظروا فيما إذا كان إصلاحه في العقاب أو في العفو.فإذا رأيتم أن العقاب سيؤدي إلى إصلاحه فعاقبوه، وإذا رأيتم أن العفو سيصلح أخلاقه فاعفوا عنه يقول الله تعالى في القرآن الكريم ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالمين (الشورى: ٤١)..أي أن جزاء الجريمة إنما هو بقدر حجمها، ولكن إذا عفا المرء عن المجرم رجاء إصلاحه..أي إذا كان العفو عنه لا يؤدي إلى إفساده أكثر بل يؤدي إلى إصلاحه، فأجر الذي يعفو عنه يقع على الله تعالى.ولكن تذكروا أيضا أن الله لا يحب الظالمين..أي أن أحدا لو عاقب إنسانا أكثر من حجم جريمته، أو عاقبه فقط لإيذائه مع أن عقله يفتي أن عقابه للمجرم يفسد أخلاقه أكثر ويُبعده عن الخير أكثر، أو إذا عفا عن المجرم مع أنه يدرك بناء على علمه الشخصي أن العفو سيجعله أكثر جرأة على الإثم؛ فكل هؤلاء ظالمون عند الله تعالى وسيحاسبهم على أفعالهم.هذا هو التعليم الذي قدمه الإسلام بصدد الجرائم.وإن التدبر القليل يكشف للمرء مدى قدرة هذا التعليم على إرساء الأمن ومحو كل فساد ونزاع.أما التعليم الذي تعرضه المسيحية فهو كالآتي: "وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر أيضا." (متى ٥: ٣٩).ولكنك لو تحولت كل بلاد المسيحية في هذا العصر لن تجد شخصا واحدًا منهم يعمل بهذه التعاليم وحتى لو وجدت أحدًا عاملاً بهذا التعليم فاعلم أن هذا التعليم غير قادر على إرساء السلام في العالم.إن التعليم الذي يقضي على جميع
الجزء السادس ٣٥٢ سورة ة النور ذلك الفتن والمفاسد ويسد الباب في وجه جميع النزاعات والخصومات إنما هو الذي يقدمه الإسلام، والذي يستهدف إصلاح المجرم سواء تحقق هذا الهدف بإنزال العقوبة على المجرم أو بالعفو عنه.وهذا المعنى نفسه قد بينه الله تعالى في الآية التالية أيضا حيث قال في وصف المؤمنين: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: ۱۳۵) والمحسن في العربية من يلتزم بجميع أحكام الشرع.إذا، فقد نبه الله تعالى بقوله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أن المؤمن إنما يكظم غيظه ويعفو حين يرى أن هذا سيؤدي إلى إصلاح المجرم، أما إذا عفا عنه بدون أن يفكر في عواقب العفو فهو ليس بمحسن، لأنه لم يراع القواعد التي وضعها الشرع بصدد العقاب والعفو.لقد وردت في الكتب بهذا الشأن واقعة رائعة للإمام الحسن ، فذات مرة سقط إناء ثمين من يد غلام له وانكسر، فبدت أمارات الغضب في وجهه ، فقرأ الغلام قول الله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.فقال له للغلام: لقد كظمت غيظي.فقرأ الغلام وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ..أي أن المؤمنين لا يكظمون غيظهم فقط بل يعفون أيضا، فقال له له : لقد عفوت عنك.فقرأ الغلام وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسنينَ ، فقال له: لقد أعتقتك، فأنت حر لوجه الله تعالى.(فتح البيان) إذًا، فمن الجهل أن يقال في كل موطن: إن لا بد من عقاب المجرم، كما من الجهل أن يقال في كل مرة: يجب العفو عن المجرم.فإن شرعنا يأمرنا بأن نعاقب إذا كان العقاب مفيدا ، وأن نعفو إذا كان العفو نافعا فمثلا إذا كان الجيش في حرب وقصر البعض في أداء مهامه، فالعفو عنه خطأ لأنه يجعل الآخرين يجرؤون على التكاسل والتقاعس وفي النهاية سيدمر الجيش كله.ولكن إذا ارتكب المرء جريمة لا يتضرر بها إلا شخص واحد ويكون هناك أمل في أن العفو سيؤدي إلى إصلاح المجرم فالأولى أن يعفى عنه.هناك روائي شهير يكتب بالفرنسية ويُعتقد أنه يستقي رواياته من وقائع تاريخية، وقد كتب هذا الروائي القصة التالية باللغة الفرنسية.قال: لما نُفيت عائلة الملك "بوربن" من فرنسا وذهب هو إلى إنجلترا حاول وهو في لندن إشعال حركة
الجزء السادس ٣٥٣ سورة النور من الثورة والتمرد في فرنسا.لم يكن في فرنسا في تلك الأيام حكم ديمقراطي، بل كانت البلاد في فوضى وحرب أهلية.وربما حصلت هذه الواقعة قبل أن يتولى نابليون الحكم أو قريبا من ذلك.المهم أن الملك المنفي أرسل رجاله من لندن في سفينة ليشعلوا حركة تمردية في فرنسا.وكانت في الطابق السفلي للسفينة معدات وأسلحة، وكانت المدافع مربوطة بالسلاسل فنزل أحدهم إلى ذلك الطابق لينظف المكان، فانخلعت إحدى السلاسل، فأخذ المدفع الذي كان مربوطا بتلك السلسلة يتأرجح في السفينة فخافوا أن تصطدم بجدران السفينة فتحطمها وتغرقها.فأسرع الناس لإنقاذ السفينة من الخطر.وكان ممثل الملك يشاهد ما حدث.فقفز الشخص الذي انخلعت السلسلة بخطئه ونجح في ضبطها معرضا نفسه لخطر شديد.فجمع ممثل الملك كل أصحابه، وقال: إن هذا الشخص قد قام بعمل بطولي كما ترون.ثم أخذ بيده أعلى وسام في فرنسا وقال: سأضع الآن هذا الوسام نيابة عن الملك على صدره بسبب عمله البطولي.هذا ثم بعد أن وضع الوسام على صدره أمر قائد جيشه أن يأخذه ويعدمه قتلاً بالرصاص وصادف أنهم حين اقتربوا من المرسى الذي كان عليهم أن ينزلوا فيه جاء الطوفان، وكان هنالك خطر كبير من غرق السفينة هناك.فقال ربّان السفينة : أنا بحاجة الآن إلى شخص مستعد للقاء الموت المحقق.فتقدم أحد الملاحين فأمر الربان أن يأخذ ممثل الملك في قارب إلى ساحل فرنسا.وكان الطوفان على أشده، ولكن الملاح نجح في إيصال ممثل الملك إلى الساحل الفرنسي.وهنالك أخرج الملاح مسدسه وقال لممثل الملك: اعلم أنني لم أعرض نفسي لخطر الموت عبثا، بل فعلت ذلك لآخذ منك ثار أخي الذي أمرت بقتله بالرصاص.فقال ممثل الملك : إنك لم تتدبر في الأمر جيدا.لقد كان أخوك قد عمل عملاً واحدًا جيدًا وعملا واحدا سيئًا، وقد جازيته على عمله الحسن بوضع أفضل وسام فرنسي على صدره ثم أمرت بقتله بالرصاص على عمله السيئ.وأنت تعلم أنني ما جئت هنا إلا من أجل حماية مصلحة الملك، وكان لزاما علي أن أتخذ كل نوع من الحيطة للنجاح في هدفي ولا أكترث لأي شيء يحول دون ذلك.كان أخوك قد ارتكب جريمة وكان ولائي للملك يفرض عليّ أن أقتله عقابًا على ما
الجزء السادس ٣٥٤ سورة النور فعل.فألقى الملاح مسدسه بعيدا وقال : لقد فهمت أن أخي كان على الخطأ وكان يستحق الموت على ما فعل.إذا، فلا بد من عقاب من يرتكب جريمة ذات تأثير بعيد المدى كي لا يركن الناس إلى التهاون والتكاسل؛ ولكن لا بد من العفو أحيانًا.ومن أجل ذلك تجد أن الله تعالى يأمر هنا بالعفو عن المجرم، بل لا يأمر بالعفو فقط بل يأمرنا أيضًا أن نصنع به المعروف، بينما يقول الله تعالى في مستهل هذه السورة نفسها: ألا لا تأخذنكم بالزانية والزاني رأفة عند تنفيذ العقوبة.فاتضح من ذلك أن الإسلام لا يأمرنا بالعفو في كل مناسبة، كما لا يأمرنا بالعقاب في كل مرة بل يأمرنا بإنزال العقوبة أو العفو بحسب مقتضى الظروف، ذلك لكي لا يتجرأ الناس على ارتكاب الجرائم، كما لا تضيع فرص إصلاح البعض إذا كان العفو والصفح يؤديان إلى إصلاحهم.إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَتِ الْغَا لَتِ الْمُؤْمِنَتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (3) شرح الكلمات : لعنوا : لعَنه لعنا طرده وأبعده من الخير وأخزاه وسبه (الأقرب).التفسير: أي أن الذين يتهمون النساء الشريفات البريئات إنما تلحقهم عقوبتهم الحقيقية من عند الله تعالى وهي نزول اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة.واللعنة في البعد، فالمراد من تسمية هؤلاء "ملعونين" أن الشرفاء لن يريدوا أن العربية تعني يبقوا على صلة بهم، ويقولون إنهم يفسدون المجتمع وسيلطخون سمعة عائلاتنا أيضا لو كنا على صلة بهم.كما أن الله تعالى لن يعطيهم يوم القيامة أي إنعام بل يعتبرهم مستوجبين للعقاب.
الجزء السادس ٣٥٥ سورة النور يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (3) يَوْمَبِذٍ يُوَفِّهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ و هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (2) ٢٦ التفسير: لقد اتضح من هذه الآية أن الذي يرمي الناس بالتهم يتجرأ أكثر فيتهم الله تعالى في نهاية المطاف، لتعوده على إلصاق التهم.وستشهد عليهم أعضاؤهم وجوارحهم يوم القيامة وتُخبر الله تعالى عما اقترفوا من سوء الظن ضد الله تعالى وضد الناس.وهذا يعني أنه لكي تنكشف على المجرمين حقيقة أعمالهم فكأن الله تعالى سيضع إبرة الماكنة المسجلة على ألسنتهم، فيأخذ اللسان في الكلام ويقول: يا رب إنه قد سبّك يوم كذا، وسب أنبياءك يوم كذا، وشتم جاره يوم كذا، وشتم زوجته يوم كذا، وذاق طعامًا حراما كذا، واتهم يوم فلانا كذا.يوم فلسانه سينبئ عن كل أخطائه المسجلة فيه.ثم توضع إبرة الماكنة المسجلة على يده، فتأخذ في الكلام، وتقول: إن هذا قد ضرب فلانًا كذا، يوم و سرق مال فلان يوم كذا.ثم توضع الإبرة على قدمه فتقول يا رب، إنه قد مشى ليلة كيت ليسرق من بيت فلان، وأخذ مال فلان وقتل فلانًا وألحق الضرر بفلان.إذا، فالعيون والجلود والألسنة والأيدي والأرجل كل هذه ستتحدث بما هو مسجل فيها.ومن الواضح أنه لن يبقى لهم بعد ذلك مجال للإنكار.وكما يقال "الصديق أعلَمُ بالمضرة"، فإن أيديهم ما دامت ستعترف بأنها قد عملت كذا وكذا، وما دامت ألسنتهم ستشهد بأنها قد ارتكبت كذا وكذا من الأخطاء، فلا يمكن أن يقولوا للملائكة أن أعضاءنا هذه تكذب.قد يقول قائل هنا : لماذا لم يذكر الله تعالى الدماغ هنا مع أنه مصدر جميع الذنوب، وتُعتبر الأيدي والأرجل إزاءه ثانوية.كما أن هناك من الآثام ما يبقى في الرأس ولا تتمكن الجوارح من ارتكابه.
الجزء السادس ٣٥٦ سورة ة النور فليكن معلوما أن في الشريعة الإسلامية قانونا هاما وهو أنه إذا خطر الإثم على بال المرء، ولم يعمل به، فلا يُعَدّ إثما، بل لقد قال الرسول ﷺ: "من هم بسيئة فلم يعمل بها كتبها له عنده حسنةً كاملة" (البخاري: كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو سيئة).فالله تعالى لم يذكر الدماغ هنا لأن الأيدي تكون قد اعترفت بارتكاب الأعمال التي قد تورطت فيها بإملاء من الدماغ، وهكذا فإن تلك الأعمال قد أدرجت فيما سجلته الأيدي.أما الأعمال التي عملها اللسان بتحريض من الدماغ فقد جاء ذكره فيما سجّله اللسان والأعمال التي قد ارتكبتها الأرجل بتحريض من الدماغ فقد شهدت عليها الأرجل.أما الإثم الذي قد خطر بالدماغ فقط، ولم تعمل به الجوارح، فسيكتب حسنة في سجل أعماله بحسب هذا القانون الذي قد بينه الإسلام؛ لأن الجوارح تابعة للدماغ، فإذا هي لم تنفذ ما خطر بالدماغ ثبت أن الدماغ قد عدل عن قراره، ولأنه قد غير قراره الخاطئ فسيكتب هذا في السجل حسنة لا سيئة.وما دام هذا التصرف قد اعتبر حسنة فلن يذكره الله تعالى فيما يسبب الخجل لصاحبه؛ إذ إنه لمما يتنافى مع العدل والإنصاف أن يعتبر الله تعالى تصرُّفه هذا حسنة أولاً، ثم يجعله سببًا لفضيحته أيضًا.فلو أن الله تعالى قد اعتبره سيئة لم يكن هناك بأس في أن يذكره من بين فضائحه، ولكنه تعالى ما دام قد قرر بنفسه أن الفكرة السيئة التي لم توضع قيد التنفيذ ستُعتبر حسنة، فكيف يجعلها سببًا لفضيحته.يثار ضد هذه الآية اعتراض آخر وهو كيف يمكن أن تتكلم الأيدي والأرجل، وكيف تشهد؟ (تفسير الفرقان) والجواب الأول: إن لكل شيء لسانًا خاصا يُعرب عن حاله.فمثلاً إن الجميع يعرفون لغة الأيدي، حيث يرون أن الطبيب إذا ما جس بيده نبض المريض أخبرته يده بمرضه، فيقول إنه مصاب بمرض كذا.والجواب الثاني: لقد أثبتت البحوث الحديثة أن أي حركة يقوم بها أي عضو من الإنسان تترك أثراً عليه كما أنها تترك أثرًا آخر في الجو يظل محفوظا.وقد
الجزء السادس ٣٥٧ سورة النور اخترع اللاسلكي على هذه القاعدة نفسها، حيث يتلقون بالآلة الأثر الذي تركته الحركة في مكان آخر.إذا، فقد تعني هذه الآية أن حركات هذه الأعضاء تترك عليها أثرها، ولكن بصر الإنسان لا يكون قويًا في الدنيا بما يكفي حتى يرى هذه الآثار على هذه الأعضاء، ولكن بصر الإنسان سيُصبح يوم القيامة ثاقبًا جدًا، فيبصر هذه الآثار، وهذه تكون شهادة من هذه الأعضاء ضد أصحابها.أما الذين يتوبون قبل وفاتهم فتمحى الآثار الموجودة على أعضائهم لأن الله تعالى قد غفر لهم ذنوهم.الْخَبِيثَتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَتِ وَالطَّيِّبَتُ صلى لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَتِ أُولَبِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم وو مغْرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ۲۷ التفسير: يفسر البعض هذه الآية أن النساء الخبيثات هن للرجال الخبيثين وأن الرجال الخبيثين هم للنساء الخبيثات (البحر المحيط).ولكن هذا المعنى خلاف للواقع والعقل.فقد عدّ القرآن الكريم زوجة لوط وزوجة نوح - عليهما السلام - من المجرمين، فهل يعني ذلك أن هذين النبيين أيضا كانا من المجرمين؟ الواقع أن المراد من هذه الآية، على ضوء معنى الآية السابقة، أن الأمور الخبيثة هي للأناس الخبيثين وأن الأناس الخبيثين هم للأمور الخبيثة.وهذا المعنى يدعمه الجزء التالي من هذه الآية نفسها حيث قال الله تعالى إن الرجال الطيبين والنساء الطيبات بريئون من هذه التهم.كما ثبت بذلك - ضمنيا - أن كلمة (الْمُحْصَنَات في قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إلى قوله تعالى وَأُولَئِكَ
الجزء السادس ٣٥٨ سورة النور هُمُ الْفَاسِقُونَ) تشمل الرجال مع النساء، ذلك لأن الله تعالى قد جمع الجنسين في النتيجة التي أتى بها في آخر الموضوع.الحقيقة أن هذه الآية تقدّم لنا قاعدة عامة حيث أمرنا الله تعالى أن نفحص حيثية المتهم قبل قبول التهمة ضده، فإذا وجدناه بارا عادة نبطل التهمة على الفور.كذلك يجب أن نفحص سلوك المتهمين ونرى فيما إذا كانوا شهود عدل أم لا؛ فإذا لم يكونوا من أهل الصلاح أو لم تكن حالتهم العقلية صحيحة فلا نقبل شهادتهم أبدا.ورد في كتاب "تاريخ القضاء" أن شخصا رفع قضية ضد الإمام ابن تيمية، فكتب القاضي إلى الإمام يأمره بالمثول أمامه وبالصدفة ذهب القاضي لزيارة الإمام وأخبره أن شخصًا قد رفع قضية ضده في محكمته وأنه قد كتب بالمثول في المحكمة.فقال له الإمام ابن تيمية: لقد خالفت القرآن والسنة.كان عليك أن تفحص الأمر قبل أن تدعوني إلى المحكمة، لأن سمعتي تبطل هذه التهم.فكان من واجبك أن تطالب المدعي بالدليل على صدق ما يقول، فلو كان عنده دليل معقول أمرتني بالمثول في المحكمة لأقدم ما يبرئ ساحتي.فقبل القاضي دليله هذا وألغى أمره بإحضار الإمام إلى المحكمة.يَتَأَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۲۸ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (3) ۲۹
الجزء السادس شرح الكلمات: ٣٥٩ سورة النور حتى تستأنسوا آنستُ منه كذا أي علمتُ واستأنست: استعلمت.وقوله تعالى لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنسُوا وتُسلّموا قال الزجاج معنى تستأنسوا في اللغة تستأذنوا، ولذلك جاء في التفسير "تستأنسوا فتعلموا أيريد أهلها أن تدخلوا أم لا؟" (لسان العرب) التفسير: إن من أساليب القرآن أنه يعرض علينا بصدد إصلاح الخلق تعليما يستأصل السيئة من جذورها.فبما أن بعض الناس يميلون بسرعة إلى سوء الظن فيوصينا الله تعالى ويقول : لا تدخلوا بيوت الآخرين بدون استئذان وبدون سلام لكي لا يسيء أحد بكم الظن فيتّهمكم بالسرقة أو الفاحشة.أما إذا استأذنت وسلّمت على أهل البيت فالجميع يعرفون أن أهل البيت كلهم يعلمون أنك قد دخلت بيتهم فلا يتهمك أحد بعد ذلك بالسرقة أو بالفاحشة.أما إذا لم يكن في البيت أحد فماذا يفعل المرء؟ فأجاب الله تعالى فقال: لا تدخل ذلك البيت ما لم يؤذن لك..أي انتظر حتى يرجع أهل البيت لكي لا تتهم بالسرقة، وإذا أذن لك أهل البيت بعد ذلك فتكون في مأمن من أن تتهم بالفاحشة أيضا.ولو قيل: ماذا يفعل المرء إذا لم يأذن له أهل البيت بالدخول؟ فالجواب أن البيت ملك لأهله فإذا لم يسمحوا له بالدخول فعليه أن يرجع إلى بيته.يفتخر الإنجليز كثيرا بمقولة توجد في لغتهم وهي: "بيت الإنجليزي حصنه"..أي لا يجوز لأحد أن يدخل فيه بدون إذنه.لقد تعلم الإنجليز هذا الأدب في هذا العصر، بينما قد سن لنا القرآن الكريم هذا القانون في زمن كان الإنجليز يعيشون عراة وكان حالهم كحال القرود.هذه الآيات تحوي أحكاما رائعة تتعلق بالحياة المدنية، إذ يوصينا الله تعالى أن نستأذن أهل البيت قبل أن ندخل فيه.علما أن المراد من الاستئناس أن نعلم ما إذا كان أهل البيت يريدون لقاءنا أم لا.كذلك يعني الاستئناس الاستئذان، فقد روي
٣٦٠ سورة ة النور الجزء السادس عن ابن عباس الله أنه قال: "تستأنسوا معناه تستأذنوا" (البحر المحيط).والحق أن العمل بهذا الإرشاد القرآني يقضي على الكثير من المفاسد والنزاعات.إذ نجد البعض يطل في بيوت الآخرين، وإذا سئل عن ذلك قال بكل سذاجة: لقد وقع نظري داخل بيته دون قصد، مع أن مثل هؤلاء المطلين في بيوت الآخرين يتهمونهم بشتى التهم في بعض الأحيان.إن الله تعالى قد أمر بهذا الحكم للقضاء على مثل هذه المساوئ.فلو قال أحد بأني نظرت إلى بيت فلان فوجدته بحالة مشبوهة، فيقول له القاضي: لماذا نظرت داخل بيته ؟ فشهادتك مرفوضة لأنك قد خالفت حكم أن يصبح الشرع.ثم إن العمل بهذا الحكم القرآني يحمي الإنسان من كثير من المواقف التي يمكن فيها عُرضة للاتهام.كما أن هذا الحكم يحمي علاقات الناس من التوتر.فلولا شرط الاستئذان قبل دخول بيت الآخرين فربما دخل المرء بيت شخص فيجد الزوجين في وضع غير مناسب، فيسبب لهما إحراحًا شديدا.ثم لولا شرط الاستئذان لكثرت حالات ،السرقة إذ قد يدخل شخص بيتا بنية السرقة، وعندما يقبض عليه يقول لصاحب البيت إنما أتيت لزيارتك.إذا، فهناك عشرات المصالح في هذه الأحكام ولكن الناس في هذه الأيام قليلا ما يسلّمون على أهل البيت عند الاستئناس، وإن كانوا يستأذنونهم عادة قبل الدخول.إنهم يطرقون الباب بقوة أو يصرخون عاليا أو ينادون صاحب البيت من الخارج بصوت عال، مع أنه لا بد من التسليم على أهل البيت بالإضافة إلى الاستئناس.فقد ورد في الحديث أن رجلا "استأذن على النبي ﷺ وهو في بيته، فقال: أَأَلجُ ؟ فقال النبي الله الخادمه : اخرج إلى هذا، فعلمه الاستيذان، فقُل له: قُلْ "السلام عليكم، أأدخُل" (أبو داود: كتاب الأدب، باب الاستئذان، وتفسير فتح البيان).لقد تبين من هنا أن على المرء أن يسلم أولا ثم يستأذن.كذلك الثابت من الحديث أنه إذا لم يتلق المرء جوابًا من أهل البيت بعد تسليمه الأول، فعليه أن يسلّم ثلاث مرات على فترات.(البخاري: كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان (ثلاثا)
الجزء السادس ٣٦١ سورة النور غير أن البعض قال إن الاستئذان يكون قبل السلام لقوله تعالى تَسْتَأْنسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)).(التفسير المظهري) ولكن هذا الاستدلال ليس صائبا.لا شك أن الاستئناس قد جاء هنا قبل التسليم، ولكن الاستئناس يعني هنا الاستعلام والاستكشاف، أي أن يعلم المرء أيريد أهل البيت لقاءه أم لا وكأن الاستئناس يعني أن يعرف لهم نفسه؛ وليس السبيل لذلك إلا أن يستلفت انتباه أهل البيت إليه أولاً.فالسؤال الآن، كيف يستلفت انتباههم؟ هناك طريقان لذلك أحدهما ما علمناه الرسول ﷺ وهو أن نسلم على أهل البيت أولاً ثم نستأذنهم للدخول.والطريق الآخر ما اخترعه الناس حيث يدقون الباب عاليا أو يحركون سلسلة الباب بشدة، دون أن يقولوا: السلام عليكم.فبما أن الرسول ﷺ قد رأى ضرورة التسليم على أهل البيت فلا بد للقادم من التسليم عليهم سواء أدق الباب أو حرّك السلسلة أم لا.أما الأثرياء الذين يعيشون في بيوت كبيرة فلو أرسل المرء إليهم بيد خادم بطاقته الشخصية أو ورقة التعارف فهذا أيضا يُعتبر نوعا من الاستئناس، لأنه يعرّف بذلك على نفسه.وعندما يدخل على صاحب البيت فمن واجبه أن يسلم عليهم لقوله تعالى ﴿وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلَهَا.فكأن هناك سلامين: سلام عند الاستئناس وسلام وقت اللقاء داخل البيت.ومن الحكم الكامنة في حكم الاستئناس أنه في بعض الأحيان يأتي شخص لا يكون اللقاء به ضروريا فعندما يستلفت باستئناسه انتباه أهل البيت إليه يعرفونه ويرون ما إذا كان اللقاء به ضروريا أم لا.فإذا رأوا لقاءه ضروريا قابلوه أو رفضوا لقاءه.ثم يقول الله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ..أي إذا كان أهل البيت في الخارج فعليكم انتظارهم ولا تدخلوا بيتهم بدون إذن.وإذا قالوا لكم ارجعوا فليس عندنا وقت لمقابلتكم الآن، فمن واجبكم أن ترجعوا وليس أن تقفوا عند بابهم مصرين على الدخول عليهم.
で الجزء السادس ٣٦٢ سورة النور كان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - تواقين للعمل بكل جزئية من أحكام الشرع لدرجة أن أحدهم يقول: لقد تمنيت سنين طويلة أن أذهب إلى أهل بيت للقائهم فيرفضوا لقائي فأرجع لكي أنال ثواب العمل بقول الله تعالى قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ، ولكن أمنيتي هذه لم تتحقق أبدا (فتح البيان).هذا الحادث يكشف لنا مدى الحب الذي كان بين الصحابة، فأحدهم يسعى جاهدا سنين طويلة ليجد فرصة واحدة يُرفَض فيها من اللقاء، ولكن لا أحد من الصحابة يقول له لا.ومن جهة أخرى يكشف لنا هذا الحادث مدى إخلاص هذا الصحابي، حيث قضى سنوات طويلة يبحث عن فرصة تمكنه من العمل بقول الله (فَارْجِعُوا.لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَنعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ التفسير: لقد تحدث الله هنا عن حالة أخرى وهي أن هناك دارًا لشخص لا يسكن فيها أحد، وقد استأجرتها من صاحبها أو منحك إياها لكي تدخر فيها متاعك مجانًا؛ فالحكم بشأنها أنك تستطيع أن تدخل فيها بدون إذن، لأنه عمليا يُعتبر بيتك ما دمت قد استأجرته أو وضعت أثاثك فيه بإذن صاحب البيت.قلے قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَرِهِمْ وَنَحْظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ : وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَرِهِنَّ وَلَىٰ ظَنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ
الجزء السادس صلے ٣٦٣ صلے سورة النور مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآبِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَابِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآبِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُنَّ أَوِ التَّبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ صلى الرّجَالِ أَوِ الطّ بَلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا تُخْرِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُ لِحُونَ ) شرح الكلمات: يغُضُّوا غَضِ بصرَه : منَعه مما لا يحل له رؤيته (الأقرب).ـمُرهن: الحمر جمع الخمار، وهو ما تغطّي به المرأةُ رأسها (الأقرب).جيوبهن الجيوب جمع الجيب، ومن معانيه القلب والصدر (الأقرب).الإربة: الحاجة (الأقرب).وهو أن يغض التفسير: لقد بين الله تعالى هنا طريقا آخر لتجنب الفاحشة المؤمنون والمؤمنات أبصارهم، فهذا يقلل فرص الفاحشة ويصد طرق انتشارها.وهذا يعني أنه برغم حكم الحجاب الوارد في الآيات، قد تكون هناك فرص يجتمع فيها الرجال والنساء، وقد أمر الله تعالى في هذه الحالة أن يغض كلّ من الرجال والنساء أبصارهم لكي لا يهاجمهم الشيطان، ولكي تبقى قلوبهم طاهرة.الغريب أن المسيح ال أيضا قد نهى عن النظر إلى نساء الآخرين في الإنجيل كما نهي الإسلام أيضا، ولكنه العلة يقول: "إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها
الجزء السادس " ٣٦٤ سورة النور فقد زنى بها في قلبه متىه (۲۸)، بينما ينهى الإسلام حتى عن النظر إلى وجه امرأة أجنبية سواء بنية حسنة أو بنية شريرة، لأنك لو نظرت إليها فقد يغويك الشيطان ويبذر في قلبك بذرة السيئة.ثم إن الإسلام حين أمر الرجال بغض البصر فإنه قد أوصى النساء أيضا بمثله.ولكن المسيحية تهتم بالرجال فقط بهذا الصدد، وتقول لهم أنه يجوز لهم أن ينظروا إلى النساء، وكل ما عليهم أن لا ينظروا إليهن بشهوة والحق أن هذا التعليم يماثل قول أحد الشعراء باللغة الفارسية: در میان قــــ دریـا تخـتـه بنـدم کـرده اي باز مي گوئي که دامن تر مکن هشیار باش أي لقد ألقيتني في قعر البحر ثم تقول لي حذار أن تبلل ثيابك.إن هذا خلاف للعقل.كذلك من المحال أن يعمل المرء بتعليم الإنجيل الذي يقول: يمكنك أن تنظر إلى النساء ولكن بدون شهوة؛ ذلك لأن أصل الفاحشة هو الاختلاط الحر بين الجنسين، ولو بقي هذا الأصل فلا مجال للحد من انتشار الفاحشة.إذا، فالمسيحية تأمر بما لا يمكن العمل به، أما الإسلام فيقول : لا ينظر الرجال إلى النساء المحارم، ولا تنظر النساء إلى الرجال المحارم وهكذا كل من الجنسين يحافظ على إيمانه وتقواه.بيد أن بعض الناس الذين لا يتدبرون في الحقائق قد فهموا هذا الحكم القرآني خطأ، فظنوا أن الإسلام يحرم النظر إلى أي جزء من جسد المرأة.والحق أنه لو كان هذا هو قصد الشرع من هذا الحكم فكان من الواجب أن لا يُسمح للمرأة بالخروج من جدران بيتها بتانا، وأن تبنى البيوت بدون نوافذ كالتي كان الملوك الجبابرة يبنونها للأسرى في الزمن القديم، حتى لا ترى المرأة إطلاقًا.كلا، إن المرأة إنسان مثل الرجل، وإن حاجاتها الطبيعية مثل حاجات الرجل أيضا، وإن القانون الطبيعي الإلهي يؤثر على الجنسين تأثيرًا مساويًا.إن هذا القانون يفرض على الإنسان أن يمشي في الهواء الطلق لسلامة جسمه وصحته، حتى لا يؤثر
الجزء السادس ٣٦٥ سورة ة النور الحجاب الإحساس بالبقاء محبوسًا في مكان ضيق على أعصابه تأثيرًا سلبيا فيدمرها.وما دام الشرع يسمح للمرأة أن تمشي في الخارج فلا بد أن تقع نظرتها على أجزاء من جسم الرجال إذا خرجت من البيت كما تقع نظرات الرجال على أجزاء من جسدها وإن كانت مستورة تحت الثياب.وهذا ليس ممنوعا.إن روح وجوهره الذي تأمرنا به هذه الآية إنما هو أن لا تلتقي نظرات الجنسين.والمكان الذي تلتقي فيه النظرات من جسم الإنسان هو الوجه، أما باقي الجسم فما دام مغطّى بالثياب المناسبة فلا داعي لإخفائه، بل يستحيل إخفاؤه، اللهم إلا أن تمتنع النساء من الخروج إلى الشوارع والأسواق، أو أن يسافرن من مكان إلى مكان تحت ظلال الخيام وهذا محال لا شك أن النساء الثريات يمكنهن أن يمشين في فناء دورهن الواسع الفسيح، ولكن هذا غير متيسر للنساء من الطبقة الفقيرة والمتوسطة.ثم إن النساء الثريات لا بد لهن من الخروج من بيوتهن إلى البيوت الأخرى لزيارة الصديقات والمعارف ولا بد أن تقع نظراتهن على أجزاء من أجساد الرجال الموجودين في الشوارع وشرفات البيوت والمحطات والقطارات والسيارات، كما يحصل العكس أيضا، اللهم إلا أن نضع عصابة على عيون الجنسين حتى لا يرى بعضهما بعضًا.ولكن لا أحد من العقلاء يجيز هذا.إذا، فليس المراد من غض البصر أنه حرام على المرأة أو الرجل أن يقع نظره على أي جزء من جسد الجنس الآخر، وإنما غايته أن لا تلتقي نظرات الجنسين.وإلا فكل امرأة إذا خرجت من بيتها لا بد أن يرى الرجال أقدامها ومشيتها وقامتها وحركة أيديها وما إلى ذلك، كما أنها الأخرى سترى هذه الأمور في الرجال.وهذا أمر لا يفرض عليه الشرع أي حظر.ولكن بما أن ظهور المرأة أمام الرجل بلا حجاب واختلاطها معه في حرية لهو مما يثير الغرائز الحيوانية في الإنسان ويدفعه إلى ارتكاب المعصية، لذلك قد فرض الشرع على الجنسين بغض البصر وكما أمر المرأة بالحجاب.وجدير بالذكر هنا أنه ليس من أسلوب القرآن عادة أن يُخاطب النساء على حدة والرجال على حدة، بل إن ما يؤمر به الرجال يكون موجها للنساء أيضًا؛ هي
الجزء السادس ٣٦٦ سورة ة النور ولكن الله تعالى قد أمر هنا المؤمنين أولاً بغض البصر وحماية الفروج، ثم أمر بذلك المؤمنات أمرا منفصلا فقال (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.ومن الحكم الكامنة وراء هذا الأسلوب أن هذه الفاحشة لا تمارس كمهنة إلا من قبل النساء، فكان ضروريًا أن يؤمرن أمرًا منفصلاً بغض البصر مع حفظ الفروج.وهناك حكمة أخرى في ذلك وهي أنه بحسب علم النفس إنما تبدأ العلاقات بين الجنسين بتبادل النظرات دائما، والقاعدة أن أحدًا إذا نظر إلى الجنس الآخر وإن كان الآخر غاضًا لبصره فأيضًا يتأثر هو من نظرته، فما كان الأمر بغض البصر ناجعا إلا إذا أُمر به الطرفان وجعلا ملزمين بألا ينظر أحدهما إلى الآخر، لا الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال.ثم يقول الله تعالى ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي يجب أن لا يخرجن بثياب جذابة وحُلي مكشوفة فيراهن الرجال، ولكن لا جناح عليهن في ما ظهر منها.لقد اختلف المفسرون في معنى مَا ظَهَرَ مِنْهَا، فقال بعضهم: المراد منه الثياب، وقال بعضهم: الحلي، وقال الآخر: الحلي التي تكون في الأيدي والأرجل كالخاتم والسوار والخلخال، وقالت فئة أخرى: الأيدي إلى المرافق، وقال غيرهم: البرقع أو الرداء، وقال غيرهم: "الحنّاء" التي توضع على الأيدي.(فتح البيان) - ولكن ما قاله القرآن الكريم هو إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وهذه الكلمات القرآنية تدل على أن الشرع إنما استثنى من الحجاب ما يظهر تلقائيا وليس ما تظهره المرأة قصدًا.فعندي أن ما يظهر تلقائيا هو شيئان: القامة وحركات الجسم والمشية.بيد - منطقيًا أنه من الواضح أنه لا يدخل في العورة ما يظهر تلقائيا بحكم طبيعة عمل المرأة أو في حالة الاضطرار وبناء على هذه الرخصة نفسها يفحص الطبيب نبض المرأة، لأن المرض حالة اضطرارية.وتكشف المرأة وجهها أيضا للطبيب إذا كان على جلدها مرض، كما ستُري الطبيب لسانها إذا كان بلسانها مرض.فتقول الله عنها: كنا في إحدى الغزوات نحضر الماء وكانت سيقاننا تنكشف عائشة رضي
الجزء السادس ٣٦٧ سورة النور نتيجة الجري (البخاري: كتاب المغازي: باب إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا).فانكشاف سيقان النساء في ذلك الوقت لم يكن خلاف حكم القرآن الكريم، بل كان مطابقا له، إذ كانت الضرورة الحربية تفرض عليهن أن يعملن ،ويجرين، وانكشاف سيقانهن أمر طبيعي، إذ لم يكن في ذلك العصر رواج للسراويل، بل كُن يلبسن الإزار.وبحسب هذه القاعدة إذا كان على المرأة أن تعمل في الحقول أو البرية فيجوز لها كشف العين والأنف من وجهها ولن يُعتبر هذا خلافا للحجاب، لأنها لن تستطيع العمل بدون ذلك.وكشف بعض العورة بحكم ضرورات الحياة أو المعيشة جزء من حكم الحجاب.وكذلك يجوز للنسوة اللاتي يعملن في الماء أن يرفعن السراويل ويكشفن السيقان ولكن المرأة التي لا تجبرها طبيعة عملها على الخروج إلى الحقول، فلا تجوز لها هذه الرخصة.مجمل القول إنه يجوز بموجب قول الله تعالى إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا كشف ما تضطر المرأة لكشفه عند الضرورة.فمثلا إن المرأة العاملة في الحقول لا تستطيع أن تقوم بمختلف أعمال الحقل والنقاب على وجهها، فيجوز أن تكشف أيديها وعيونها حتى الأنف لكي تستطيع العمل.ولكن النسوة اللاتي لا يضطررن لمثل هذه الأعمال وإنما يخرجن للتنزه والتسوق وما إلى ذلك، فإنما حكمهن أن يغطين وجوههن.باختصار إن المراد من قوله تعالى إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أن هو الشرع يسمح للمرأة بكشف ما يظهر تلقائيا أو ما لا يمكن إخفاؤه لاضطرار، سواء أكان هذا الاضطرار عبارة عن طول قامتها إذ القامة أيضا زينة ولكن لا يمكن إخفاؤها، أو كان عبارة عن مرض يضطرها لكشف جزء من جسدها للطبيب.فقد قال المسيح الموعود اللي إن الطبيب لو أمر امرأة بالمشى في الهواء الطلق مكشوفة الوجه وإلا ستتدهور صحتها فيجوز لها كشف وجهها في هذه الحالة.بل لقد قال بعض الفقهاء: إذا كانت المرأة حاملا ولم تتيسر لها قابلة متمرسة ونصحها الأطباء بأن تضع ولدها بمساعدة طبيب ماهر وإلا فهنالك خطر على حياتها، فاستعانت بطبيب عند الولادة فهذا جائز تماما؛ بل لو أنها لم تستعن عند الوضع بطبيب وماتت،
الجزء السادس ٣٦٨ سورة ة النور كانت آثمة عند الله مثل الشخص المنتحر.(موسوعة الفقه الإسلامي ص ١٢٣-١٣١، ومختصر القدوري ص ٢٥٩ وملفوظات المجلد الأول ص ۱۷۱) كما يمكن أن يكون هذا الاضطرار بحكم العمل كما ذكرت مثال نساء الفلاحين حيث يضطررن لمساعدة الرجال في أعمالهم.فكل هذه الأمور تدخل ضمن قوله تعالى إلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا.ثم يقول الله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ.والخمار ليس رداء بل هو قطعة قماش تغطي بها المرأة رأسها عند العمل.ومن معاني الجيب شق القميص وطوقه (الأقرب).وهذا الشق يكون في خلف القميص أو عند الكتف الأيمن أو الكتف الأيسر أو عند الصدر أو على اليمين واليسار كليهما، وكان عند الصدر في قمصان العرب وكانت نساء العرب يغطين الظهر والكتف ويكشفن الصدر كما تفعل الأوروبيات في هذه الأيام.فأمر الله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ.وبما أن جيوبهن كانت من الأمام فالمراد من الآية أن يدنين خمرهن من على الرأس إلى الجيوب وليس المراد أن يأخذن من أطراف الخمر ويضعنها على جيوبهن؛ لأن الخمار يكون قصيرا ولا يكون له أطراف طويلة.فليس المراد إلا أن يدنين من خمرهن حتى يصل إلى الصدر ؛ فلا يرى الوجه من يأتي من أمامها.هذا الحكم يبين أن وجه المرأة عورة، ولكن البعض يظن خطأ أن الوجه ليس بعورة علينا أن نرى ماذا فهم النبي الله من هذه الآيات، وكيف عمل الصحابة والصحابيات بهذا الحكم.عندما نفحص الأحاديث وتاريخ الإسلام يتبين لنا جليا أن الوجه كان يُعَدّ عورة في ذلك الوقت.فقد ورد أن الرسول ﷺ بعث مرة إحدى الصحابيات تدعى أم سُلَيْم إلى فتاة لتراها من أجل الزواج من أحد الصحابة (مسند أحمد بن حنبل مجلد ۳ ص ۲۳۱).فإذا كانت النساء لا يغطين وجوههن في تلك الأيام فلماذا بعث الرسول ﷺ أم سليم لترى شكل الفتاة وما إلى ذلك؟ كما ورد في الحديث أن شابًا في عهد الرسول خطب فتاة من أبيها، وقال له إني راض بكل شيء غير أني أريد أن أنظر إليها مرة ليطمئن قلبي.وبما أن حكم
٣٦٩ الجزء السادس سورة النور الحجاب كان قد نزل فوجد أبوها في طلبه إهانة له فأبى وسخط.فذهب الفتى إلى الرسول ﷺ وحكى له القصة.فقال النبي : لا شك أن حكم الحجاب قد نزل، ولكن هذا لا يعني أنه لا يجوز للمرء النظر إلى امرأة يريد أن يتزوجها.فلو رضي أهل الفتاة بتزويجها من أحد فأراد أن يراها فيمكنه رؤيتها مرة واحدة.فاذهب إلى أبيها فبلغه ما قلتُ.فذهب وبلغهم رسالة الرسول ﷺ، ولكن يبدو أن أبا الفتاة لم يكن قوي الإيمان فقال: لست عديم الغيرة حتى أسمح لك برؤية ابنتي.وكانت الفتاة تسمع هذا الحوار داخل البيت.فلما رفض أبوها ما قاله الرسول ﷺ له، خرجت مكشوفة الوجه وقالت للفتى ما دام الرسول ﷺ سمح لك برؤية فكيف يحق لأبي أن يخالف أمره فها أنا أمامك فانظر إلي.(ابن ماجة: وجهي كتاب النكاح، ومسند أحمد، المجلد ٤ ص ٢٤٤-٢٤٥، مسند أنس بن مالك).فلو كانت تلك الفتاة تمشي مكشوفة الوجه من قبل فما الداعي أن يقول الفتى لأبيها: إني أريد رؤيتها، ولماذا استأذن الرسول ﷺ لرؤيتها؟ رضي الله كذلك ورد في الحديث أن الرسول الله خرج مع زوجته صفية - عنها - وقت المساء.فرأى شخصا قادما من أمامه ففكر لسبب من الأسباب أنه ربما يظن أنني أمشي بامرأة ليست زوجتي، فكشف النقاب عن زوجته وقال: انظر هذه صفية (البخاري: كتاب الصوم، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، ومسند أحمد، الجزء الثالث ص ١٥٦ و ٢٨٥).فإذا كانت النساء يخرجن مكشوفات الوجوه فما كان هناك أي احتمال لأن يشعر الرسول ما شعره من الخطر.نص الحديث :هو : عَن الْمُغيرة بن شُعْبَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبى الله، فَذَكَرْتُ لَهُ امْرَأَةٌ أَحْطُبُهَا، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْدَرُ أَنْ يُؤدَمَ بَيْنَكُمَا.فَأَتَيْتُ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَخَطَبْتُهَا إلَى أَبَوَيْهَا وَأَخبرتُهُمَا بِقَوْل النَّبيِّ ، فَكَأَنَّهُمَا كَرهَا ذَلكَ قَالَ: فَسَمَعَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ هي في خدرهَا، فَقَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّه الله ﷺ أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ وَإِلَا فَأَنْشُدُكَ، كَأَنَّهَا عْظَمَتْ ذَلَكَ.قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا ، فَتَزَوَّجْتُهَا، فَذَكَرَ مِنْ مُوَافَقَتهَا.(ابن ماجة: كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها) (المترجم)
الجزء السادس كذلك ورد عن عائشة - ۳۷۰ سورة النور رضي الله عنها - أنها كانت تقود جيشها في واقعة (079-071 الجمل، فقطع شخص حبال هودجها، فسقطت عن الجمل.فجاء أحد الخوارج الخبثاء وكشف عن هودجها وقال : والله ما أرى إلا حُميراء! (الطبري: سنة ٣٦: شدة القتال يوم الجمل، المجلد الخامس ص فإذا كانت أزواج النبي يخرجن مكشوفات الوجوه فلا بد أن يكون هذا الخارجي قد رأى عائشة وهي جالسة في الهودج تقود جيشها، ولم يكن هناك أي داع ليستغرب عند رؤيتها.والذين يقولون أن الإسلام لا يأمر المرأة بتغطية الوجه نقول لهم إن القرآن يأمرها بإخفاء الزينة، والوجه أكثر الأعضاء زينة، وإذا لم يكن هناك حكم بتغطية الوجه، فما هي الزينة التي أمرت المرأة بإخفائها؟ لا شك أننا ندعو إلى أن لا تغطى المرأة وجهها بحيث يؤثر سلبيا على صحتها، فيمكنها مثلا أن تضع على وجهها قطعة رقيقة من القماش أو أن تضع نقابا كما تفعل نساء العرب حيث تكون العيون والأنف مكشوفة؛ ولكن لا يمكن أن يُترك الوجه خارج الحجاب.ثم يقول الله تعالى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَو التَّابعينَ غَيْرِ أُولي الإربة منَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.يتضح هنا من قوله تعالى (أَوْ نِسَائِهِنَّ أنه لا بد للمرأة أن تحتجب من بعض النساء أيضا.هنالك عادة في كل البلاد، كما كانت عندنا أيضا في الماضي وقد تلاشت الآن بعض الشيء، وهي أن بعض النساء الفاسدات والخبيثات يعملن عند أناس سيئي السيرة فيذهبن إلى البيوت ويغوين النساء شيئًا فشيئًا، حتى يهربن معهن من بيوتهن.ودرءا لهذه الفتنة أمر الشرع بأن لا يُسمح لكل امرأة بدخول البيوت بل يُسمح فقط للنساء اللاتي تعرفونهن معرفة تامة ولا خطر منهن إطلاقا.كل من يطالع التاريخ يعلم أن الدمار لم يحلّ بالمسلمين في إسبانيا ولا الهند إلا النساء.لقد بث النصارى الأسبان نساءهم بين المسلمين ليقمن بشتى بسبب
الجزء السادس ۳۷۱ سورة ة النور الأعمال الخبيثة كما ينشرن دينهم في البيوت المسلمة.فغيّرن أفكار كثير من المسلمات، وكانت النتيجة أن أجيال المسلمين فقدت الحماس ضد المسيحية واختلطت بالنصارى حتى صار النصارى غالبين عليها كما أن النصارى استعملوا نساءهم لجعل المسلمين ينغمسون في الملذات راكنين إلى حياة البذخ والترف والغفلة والكسل.ففقدوا الغيرة على الإسلام والقوة على الحرب (أخبار الأندلس: هشام الثاني ص ٦٩٢).فأخذ المسيحيون يستولون على بلاد المسلمين ويتقدمون حتى وصلوا إلى أسوار غرناطة.ومع ذلك لم ينتبه المسلمون بل ظلوا نشوانين في الملذات، وكأن الجيش الرابض حول مدينتهم ليس عدوا لهم بل هو ضيف جاء ليشترك في العرس.فكانت النتيجة أنهم اضطروا للرحيل من وطنهم إلى إفريقيا، ولكن المسيحيين ما كانوا ليتركوهم يذهبون هكذا، فأحرقوا سفن المسلمين التي ملؤوها بالكتب الإسلامية بإذنهم، وهكذا محا المسيحيون الإسلام والمسلمين في إسبانيا.وفي الهند أيضا دخلت الراهبات المسيحيات في بيوت المسلمين لتنصير المسلمات ونجحن في ذلك.والمؤسف أن المسلمين حتى اليوم يرسلون بناتهم إلى المدارس المسيحية، والنتيجة أن بناتهم ينفرن من الإسلام ويضحكن عليه إلا ما شاء الله.ومن أجل ذلك يأمرنا الله تعالى بالفحص والتحقيق في سلوك النساء وأن لا نسمح لهن بدخول بيوتنا إلا بعد الاطمئنان من جانبهن.وهذا هو المراد من قوله تعالى أو نسائهنَّ أي أن النساء اللواتي يدخلن في بيوتكم يجب أن يكن ممن تعرفونهن جيدًا كما تعرفون قريباتكم.ثم يقول الله تعالى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ..أي يجوز للنساء أن يبدين زينتهن لإمائهن لأن الإماء يعتبرن كأهل البيت.ولكن هذا لا يعني، كما ظن بعض خطاً، أن لا بأس من أن يبدين زينتهن لعبيدهن (القرطبي، والرازي).مع أن المفسرين العبيد لا يجوز أخذهم إلا في حرب دامية سياسية لا دينية كعقوبة لهم، وما دام هؤلاء الأسرى ينتمون إلى أمة معادية وقد أخذوا كعقاب عليهم، فكيف يمكن السؤال: هل تحتجب المرأة من أسيرها أم لا؟ ما دام الشرع يأمر النساء بالحجاب
الجزء السادس ۳۷۲ سورة النور حتى من الرجال الشرفاء من قومهن، فكيف يأمرهن بترك الحجاب أمام أفراد قوم معادين؟ هذه الفكرة لن تخطر إلا على شخص فقد العقل والفهم كلية.فالآية لا تتحدث عن العبيد بل عن الإماء فقط اللواتي هن موضع ثقة كاملة، شأنهن شأن اللواتي ورد ذكرهن في قوله تعالى أَوْ نِسَائِهِنَّ إذ ليس المراد منه كل النساء بمن فيهن سيئات السيرة والأخلاق بل اللواتي هن موضع ثقة، ولا شك في صلاحهن وولائهن.ثم يقول الله تعالى أو التابعينَ غَيْرِ أُولي الإربة منَ الرِّجَال).لقد ظن البعض أن مفهوم هذه الجملة يضم المخنثين أيضا.ولكن هذا خطأ، لأن الرسول ﷺ قد أمر النساء بالحجاب من المخنثين، فقد قال لنسائه ذات مرة: إذا دخل عليكن المخنث فاحتجين منه.وأضاف وقال: إن المخنثين عندما يخرجون من عند النساء يتحدثون عن زينتهن أمام الرجال مما يؤدي إلى إشاعة الفحش.(أبو داود، كتاب اللباس وابن ماجة: كتاب النكاح، ومسند أحمد مجلد ٦ ص ٢٩٠: مسند أم سليم) لقد ثبت من هنا أن قول الله تعالى غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ لا يقصد المخنثين بل يعني الخادمين الذين صاروا شيوخا وفقدوا الرغبة في الشهوة الجنسية بحيث يستحيل أن يفكروا في الفاحشة.أما المخنثون فلا يمكن أن يدخلوا في مفهوم هذه الجملة لأن بعضهم شبان وقد جعلوا مخنثين بطريقة مصطنعة مؤقتة مما يزيدهم شهوة وغضبًا.إضافة إلى أن الثابت من القرآن الكريم أن تغيير صورة الإنسان من عمل الشيطان حيث نقل القرآن الكريم قول الشيطان: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله (النساء: ١٢٠)..أي أنني سأحرّض الناس فسيغيّرون الصورة التي خلقها الله تعالى.والشيء الذي هو غير جائز أصلا لا يمكن أن تصدر الأحكام بصدده.إذًا، فقوله تعالى (غَيْر أُولي الإربة منَ الرِّجَال) إما يعني الشيوخ من الخدم أو المجانين وشبه المجانين من الأقارب الذين ليس عندهم الإحساس بالجنس أو بالأولاد الذين لم يتولد عندهم الإحساس بالشهوة و لم يطلعوا بعد على علاقات الجنسين.
الجزء السادس ۳۷۳ سورة ة النور ثم يقول الله تعالى ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ..أي حتى لو كانت الحلي التي تلبسها النساء غير مكشوفة فعليهن أن لا يضربن بأقدامهن بحيث يسمع الرجال صوت حليهن، ويعلموا أنهن من عائلات غنية وأن الزواج بمن سيكون ذا نفع لهم.كما ثبت من هنا أن الشريعة لا تجيز الرقص وما إلى ذلك، لأنه يدمر حياء الإنسان.إن هذه الأحكام حكيمة لدرجة أن المرء لو تدبر فيها بدون تعصب لما وجد مناصا من الاعتراف بروعتها، لأنها قادرة على القضاء على الكثير من المساوئ في المجتمع.لا جرم أن الناس في بعض الأقطار يتشددون جدًا في أمر الحجاب، حتى إنهم لا يخرجون بالعروس إلا في محفة ثم يغطونها بستائر كثيرة.لقد رأيت بأم عيني أنهم يخرجون بالعروس في محفة ثم إذا أرادوا أن يركبوها في السيارة يسترون كل المكان بالسرادق كي لا يقع نظر أحد حتى على مشهد خروجها من بيتها.وقد تشددت بعض الشعوب في أمر الحجاب لدرجة أنهم يقولون: إذا دخلت العروس في بيت الزوج مرة فيجب أن لا تخرج منه إلا يوم جنازتها.وكل هذه الأنواع من الحجاب إنما اخترعها الناس من عند أنفسهم.وهذا ظلم صريح بالمرأة ويضر بصحتها وبأخلاقها وعلمها ودينها أضرارا بالغة.لا يوجد في القرآن ولا في الحديث أثر لمثل هذا الحجاب، بل يتضح من القرآن بكل جلاء أن خروج النساء من البيوت جائز تماما.فلو كان خروجهن غير جائز لما أمر الله تعالى بغض البصر أيضا.كما أن التاريخ أيضا يبين لنا أن زوجات النبي الله وبناته كن يخرجن من بيوتهن في عهده.واشتراكهن في الحروب وذهابهن للعمل في الحقول وخروجهن للتعلم والتعليم وقضاء الحاجات أمرٌ ثابت مؤكد، وستجد هذه الأمور مذكورة حتى في أي كتاب صغير للتاريخ.إذا، فالإسلام لا يأمر النساء أبدًا أن يجلسن في البيوت كالمحبوسات، إذ لم تكن النساء هكذا في أوائل الإسلام، بل كنّ يخرجن من البيوت ليستمعن لخطب النبي ، وكن يشتركن في الحروب ويعتنين بالجرحى، ويركبن الخيول،
الجزء السادس ص و ۲۳۳-۲۳۰ ٣٧٤ سورة ة النور ويتعلمن من الرجال، بل كنّ يُعلِّمنَهم، إذ كانت عائشة تسمع الرجال حديث الرسول (البخاري: كتاب المغازي، باب إذ همت طائفتان وباب حديث الإفك، وكتاب الوضوء، باب خروج النساء إلى البراز، وكتاب الصوم، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه، والسيرة الحلبية الجزء الثاني: غزوة أحد بل لقد قامت عائشة بقيادة جيش في إحدى الحروب (البداية والنهاية: المجلد السابع : ابتداء وقعة الجمل).فكانت النساء يتمتعن بحرية عملية تامة، وغاية ما طلب منهن هو أن يغطين رؤوسهن وأعناقهن وأماكن الوجه المتصلة بالرأس والعنق سدا لدواعي الإثم.وإذا استطعن أن يأخذن حيطة أكثر من ذلك فليلبسن النقاب.أما أن يحتبسن في البيوت ولا يشتركن في أمور التعليم والتربية، فهذا ما لا يأمر به الإسلام ولم يعمل به المسلمون قط.يوضح لنا الحديث أن النبي ﷺ كان من عادته الشريفة في أيام السلم أن يعقد بين صحابته سباقات ودية للرماية والمصارعة وغيرها من الفنون الحربية.وعقد ذات مرة هذه الألعاب الحربية في المسجد، وقال لعائشة : إذا أردت أن تشاهدي هذه السباقات فتعالي وتفرجي واقفة ورائي.فجاءت ووقفت خلفه وشاهدت الألعاب الحربية (البخاري: كتاب العيدين باب الحراب والدرق يوم العيد).لقد ثبت من هنا أن الإسلام يؤكد على ضرورة تعليم المرأة الفنون الحربية أيضًا لكي تستطيع الدفاع عن نفسها وعن وطنها وقت الحاجة.أما إذا كان قلبها يطير شعاعا برؤية السيف وترتعد فرائصها بسماع صوت المدافع والبنادق فلن تسمح بطيب خاطر لأولادها أن يخرجوا إلى ميادين القتال كما لن تستطيع هي أن تشترك في الدفاع عن وطنها بشجاعة.إذ لم يقض على الإمبراطورية المغولية في الهند إلا جبنُ المرأة ومحبة الرجل المفرطة للمرأة.ذلك أنه في أيام الثورة ضد الإنجليز في الهند لما رأى الموالون للإنجليز من الهنود أن الجيوش المغولية قد جهزوا المدافع في نقطة من الممكن أن تلحق بصفوف الجيوش الإنجليزية خسائر فادحة، أرسلوا إلى "زينت محل" الزوجة المحببة المدللة للملك المغولي والتي كانت متواطئة مع الإنجليز في الخفاء كي يتوجوا ابنها ملكًا على البلاد وليس غیر The Great Mutiny India) (2788314.P، وقالوا لها إنها إذا كانت تريد أن تسدي للإنجليز معروفًا فعليها أن
الجزء السادس ۳۷۵ سورة النور تفعله الآن، وذلك أن تُقنع زوجها أن يزيل المدافع من ذلك المكان.فتمارضت "زينة محل" وقالت لزوجها إنها تشعر بضعف في قلبها وأنها تخاف صوت المدافع وسيغمى عليها إذا هي انطلقت فإما أن يزيل المدافع أو أن يقتلها هي.فأمر الملك بإزالة المدافع من ذلك المكان الحساس، الأمر الذي أدى إلى سيطرة الإنجليز على الموقف وسقوط حكومة "دلهي"، وهكذا خرج الحكم من أيدي الأسرة الملكية والمسلمين.فإذا كانت هذه الحكاية صحيحة، فهذا يعني أن الملك إنما تأثر من قول زوجته لأنه كان يعلم أنها ليست معتادة على سماع زمجرة المدافع.ولكن لو كانت معتادة على مشاهدة القصف المدفعي ولو أنها رأت المناورات الحربية والقتال، لما نجحت في احتيالها على الملك، إذ كان بوسع الملك أن يقول لها بكل بساطة: لقد كنت تسمعين هذه الأصوات من قبل، فكيف تقولين الآن إنك سيغمى عليك بسببها؟ كذلك لو كان الملك نفسه قد قضى عمره في المعارك، وكان ماهرا بفنون الحرب لما اقتنع بقول زوجته.إذا، فعدم خبرة الملك بالحروب وعدم اطلاع نساء الأسرة الملكية على فنون الحرب أدى إلى نجاح زينت" محل" في خداع زوجها.أما النبي ﷺ فكان يأخذ النساء للتفرج على الألعاب الحربية، كما كان يصطحب بعض زوجاته دائمًا في المعارك لكي يكتسبن الجرأة والشجاعة، فما كانت عائشة – رضي الله عنها – مثلا أن تقول للنبي ﷺ عند رؤية معركة إن قلبي ينقبض خوفًا من الحرب.إذا، فبحسب تعاليم الإسلام تستطيع المرأة وهي في حجابها، أن تشترك مع الرجال في كل نوع من الأعمال.فيمكنها أن تتعلم من الرجل وتستمع لخطابه، ويمكن أن تخطب في الاجتماع في موضوع لا يستطيع الرجل أن يخطب فيه.ويمكن أن تجلس في مجالس الوعظ وفي المحاضرات منفصلة غير مختلطة بالرجال.ويمكن أن تدلي برأيها وتشترك في النقاش عند الضرورة، إذ لا بد من استشارة النساء في الأمور الخاصة بهن.كما يمكن لها الجلوس مع الرجل عند الضرورة، حيث نجد أن
الجزء السادس ٣٧٦ سورة النور الرسول ﷺ كان في سفر، فوجد صبية تمشي ، فأردفها وراءه على بعيره (مسند أحمد: مجلد ٦ صفحة ۳۸۰، حديث امرأة بني غفار).وهذا الفعل لو قام به أحد في بلادنا فربما سيقوم كل القوم بمقاطعته، ولكن أحكام الشرع قد نزلت قبل ثلاثة عشر قرنًا ولا يمكن أن تتبدل.فعلى ضوء ما فعل الرسول الله أرى أن النساء إذا كن عرضة لخطر في عربتهن الخاصة في القطار مثلاً، فعلى الرجال أن يُجلسوهن في عربتهم الخاصة، أو تأتي المرأة وحدها فتجلس في عربتهم إذ رأت أن شرفها مصون من الخطر بسبب جلوسها بين الرجال الشرفاء.كذلك بإمكان النساء أن يذهبن للسوق للشراء إذا لم يكن هناك أي خطر.لقد رأيت في البلاد العربية أن النسوة يذهبن إلى السوق للشراء، بل لقد أخبرني الناس هناك أن النساء لا يعجبهن ما يشتري لهن أزواجهن يقلن إن الرجل لا يميز القماش الأفضل، ولا يعرف أي البضائع أجود، لذا سوف نذهب إلى السوق ونشتري بأنفسنا.إن ما ينهى عنه الإسلام هو أن تمشي المرأة مكشوفة الوجه وتختلط بالناس اختلاطًا حرا، أما إذا خرجت في حجابها بحيث تكون أعينها مكشوفة لرؤية الطريق فلا بأس بذلك، إنما الممنوع أن تخرج مكشوفة الوجه أو تشترك في اجتماعات مختلطة فيها الرجال، وتتحدث معهم بدون تكلف حديثًا لا طائل منه.كذلك لا يجوز للمرأة أن تنشد الشعر في مجالس الرجال لأنه لغو.ثم إن الفطرة الإنسانية أيضًا لا تقبل أن يُباح للرجل، وهو أقوى بنية من المرأة، الخروج إلى الهواء الطلق حفاظا على صحته، في حين أن المرأة الأضعف بفطرتها فتحرم من الخروج إلى الهواء الطلق.ورد في الحديث أنه في إحدى المرات تسابق الرسول ﷺ مع عائشة – رضي الله عنها – في الجري أمام الناس في سفر فسبقته، ثم تسابق في مناسبة أخرى فسبقها النبي (أبو داود: كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل) إذا، فهذا النوع من الحجاب الذي يفرض على المرأة أن لا تخرج من بيتها إلا في المحفة لهو ظلم عظيم ومناف للحجاب الإسلامي.
الجزء السادس ۳۷۷ سورة ة النور وهناك نوع آخر من الحجاب في بلادنا حيث تخرج المرأة في برقع من بيتها إلى بيت الجيران ولا يُسمح لها أكثر من ذلك.لا شك أن هذا النوع من الحجاب أفضل من النوع السابق، ولكنه لا يساعد على ارتقاء النساء عقليا ولا يحافظ على صحتهن، حتى نعتبره كافيًا للرقي القومي.ثم إن هذا الحجاب القديم عندنا مدمر لصحة المرأة أو إنه ليس بحجاب وإن كانوا يسمونه حجابًا.إن هذا الحجاب عبارة عن برقع على شكل قبة مضروبة على المرأة من رأسها إلى قدمها حيث لا تستطيع أن تخرج منها يديها وإذا أرادت أن تحمل ولدها مثلاً انكشفت من رأسها إلى قدمها، وهو مشهد منفر من الحجاب نفسه.أما هو نوع الحجاب الذي كان عندنا قبل اختراع هذه البرقع فقد كان أفضل بكثير حيث تغطي المرأة نفسها برداء وتستطيع أن تقوم بأعمالها ملتفة بردائها.وعندي أن البرقع الجديد الذي يسمى عندنا "البرقع التركي" أفضل البراقع كلها من حيث الحجاب، شريطة أن لا يكون ضيقا يلتصق بالجسم، بل يجب أن يكون كما هو عند نسائنا الأحمديات حيث يكون كمعطف طويل يغطي جسم المرأة من الأكتاف حتى الأقدام.ولكن يجب أن لا يكون المعطف ضيقًا بحيث يفصل تقاسيم الجسد، إذ لو كان مثل هذا الحجاب الضيق جائزاً فكانت الكفاية في الملابس العادية، ولما أمر القرآن الكريم النساء أن يلبسن لباسًا فضفاضا فوق ملابسهن العادية.ومن فوائد هذا البرقع أن أيدي المرأة تكون حرة، فتستطيع القيام بكل نوع من الأعمال.ويشبه هذا البرقع ذلك المعطف الفضفاض الذي يلبسه الطبيب عند القيام بالعملية الجراحية.غير أنه من الظلم العظيم عندي أن تلبس البنات البرقع وهن صغيرات السن، لأن هذا يؤثر سلبيا على صحتهن، كما أنه يعيق نمو قامتهن على ما يرام.يجب أن تلبس البنت البرقع عندما تظهر فيها علامات الأنوثة لا قبل ذلك.أما السؤال: لماذا أُمرت المرأة بالحجاب دون الرجل؟ فالجواب أن كلا الجنسين سيان في الحجاب.لم تؤمر المرأة بالحجاب عند الخروج من البيت لأن الحجاب فرض عليها فقط، إنما سببه أن نطاق عمل الرجل هو خارج البيت في الواقع
الجزء السادس ۳۷۸ سورة ة النور ونطاق عمل المرأة هو داخل البيت.فعندما تذهب المرأة إلى النطاق الحقيقي لعمل الرجل تلبس الحجاب، بينما يكون الرجل هناك بدون الحجاب لأنه يكون في النطاق الحقيقي لعمله؛ ولو أُمر بالحجاب في نطاق عمله لصعب عليه العمل؛ تماما كما أن المرأة لو أمرت بلبس الحجاب وهي تعمل داخل البيت لتضايقت ولتعذر عليها العمل.ومن جهة أخرى، قد أُمر الرجل بأن لا يدخل في نطاق عمل المرأة لتعمل في حرية، فإذا ذهب إلى بيت أحد فعليه أن يستأذن قبل الدخول.ولكن المرأة لم تُؤمر بأن تأخذ الإذن من الرجال إذا أرادت أن تذهب إلى نطاق عملهم خارج بيتها، ذلك لأن لها حقوقا في نطاق عمل الرجال، ولها الحق في أن تخرج إلى الشوارع والأسواق، بينما ليس للرجل العادي أي حق في نطاق عمل المرأة، لذلك لم يأمرها الإسلام بأخذ الإذن من الرجال إذا أرادت الدخول في نطاق عملهم، وإنما يكفيها أن تحتجب منهم بردائها، بينما نهى الرجل عن الدخول في نطاق المرأة إلا بإذن.إذًا، فالحجاب ليس إساءة إلى المرأة، إنما هو تقسيم لنطاق عمل كل واحد من الجنسين، ولا يخالف الناس الحجاب إلا بسبب تقاليدهم وعاداتهم.ويقال أيضا أن الحجاب يعيق تقدّم النساء ويضر بصحتهن.ولكنه قول باطل كلية.فما هو الإنجاز الذي تحققه النساء السافرات ولا تحققه النساء المحجبات؟ عندما كانت النساء يلتزمن بالحجاب كما أمرهن الإسلام كن يتمتعن بصحة جيدة، وكن يشتركن في الحروب ويقتلن العدو، ولكن النسوة السافرات لا يفعلن أي شيء.والواقع أن الصحة تكون بالأمل والطموح، ولكن إذا لم يبق عند الإنسان أي أمل فلو ذهبت به إلى قمة الجبل وأوقفته هناك فلا بد أن يسقط.أما إذا كان لديه أمل وطموح فسيصعد ويصعد حتى لو حجبته بألف لحاف.ومن أجل ذلك قد سعيت دائما أن يكون حجاب نسائنا كما يأمر الشرع، وبفضل تعالى قد كان عدد النساء المتعلمات يزيد على غير المتعلمات خلال خلافتي في قاديان وربوة أيضا، بينما كان الأمر على عكس ذلك بالنسبة إلى الرجال.كما أن النساء عندنا يؤدين واجباتهن على أحسن وجه في تنظيمهن الخاص "لجنة إماء الله"، الله
۳۷۹ الجزء السادس سورة النور فيخرجن لزيارة البيوت ويجمعن التبرعات وينفخن الحماس بالأخريات، بل يخرجن إلى المدن الأخرى في بعض الأحيان لإنجاز هذه المهام.فالقول أن الحجاب يعيق تقدم النساء قول باطل تماما.إن النساء يمكن أن يحرزن الرقي بمراعاة الحجاب أيضا.إن ما نحتاجه هو أن تكون النساء متعلمات، وأن يلتزمن بالحجاب الشرعي بأنفسهن، وأن يوضحن لغيرهن أيضا أن إحراز أي نوع من الرقي والتقدم مع الحجاب ممكن لو قال الرجال هذا الكلام للنساء فلن يكون له نفس الوقع، لأن النساء سيقلن في الجواب أنت تتمتع بالحرية في الخارج، فما يدريك ما هي معاناة الحجاب.وَأَنكِحُواْ الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَابِكُمْ قلے إن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَسِعُ عَلِيمٌ ) شرح الكلمات: (3) الأيامى: جمع الأيم، وهي المرأة التي مات زوجها، وقد قيل للرجل الذي لا زوج له (المفردات) التفسير : هنا بين الله تعالى أن من أساليب محاربة السيئة تزويج الأيامي والأرامل وكذلك تزويج العبيد القادرين على الزواج لكي لا ينشر العزب منهم الفساد في المجتمع؛ كذلك أمرنا الله تعالى بتزويج الإماء، وقال إذا كان بعض عبيدكم فقراء فلا تخافوا من تزويجهم لأنه تعالى سيغنيهم بفضله إذا سعوا أن يكونوا صالحين؛ لأن الرزق عند الله العليم بأحوال العباد.ومن المفاسد الكثيرة المنتشرة في بلادنا أن الناس، للأسف، يعتبرون تزويج الأرامل ذنبا كبيرا، وإذا كان البعض لا يعتبرونه ذنبا فيرونه منافيا لحميتهم وغيرتهم.وكأن المرأة عندهم أسوأ من الحيوان، إذ يمكن له أن ينتقل من يد إلى أخرى، ولكن المرأة لا يمكن أن تنتقل من بيت إلى بيت آخر بعد وفاة زوجها؛ ولو أن أحدا قام
الجزء السادس بتزويج أرملة ٣٨٠ سورة ة النور يصبح بيته مأتما، ويأتي الناس يُعزّونه ويواسونه كأنه قد تعرض لظلم عظيم.إنهم يعطون الرجل حق الزواج من امرأة أخرى بعد وفاة زوجته الأولى، ولكنهم غير مستعدين لأن يعطوا نفس الحق للأرملة؛ مع أن القرآن الكريم يقول صراحة (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) (الأعراف: ١٩٠)..وهذا يعني أن المرأة أيضا عندها أحاسيس وعواطف كما هي عند الرجل.فإذا كان الرجل يريد أن يتزوج بعد وفاة زوجته ولكنه يعيق زواج الأرامل فهذا يدل على أنه لا يعتبر المرأة إنسانًا ،مثله ويريد قتل مشاعرها وأحاسيسها.فزواج الأرامل أمر بالغ الأهمية، وقد عدّه القرآن الكريم من الأحكام التي تقضي على المساوئ الأخلاقية، والغفلة في هذا الشأن إنما هي بمثابة تخريب أخلاق القوم ونشر الفاحشة.والأمر الثاني الذي نبهنا الله تعالى إليه هو قضية زواج العبيد.يقول الله تعالى لو كان العبد شابا وصالحا للزواج فعليكم بتزويجه إذ لا يدرى متى سيتحرر ومتى سيتمكن من الحياة الزوجية.هذا التعليم دليل واضح على الصنيع العظيم الذي أسداه الإسلام للعبيد.إن الخصوم الجهلاء يعترضون أن الإسلام أباح الرق.وهذا باطل تماما، لأن الإسلام هو الدين الوحيد على وجه البسيطة الذي قد عمل على القضاء على الرق ما هو موضع فخر له ولا يوجد له مثيل في أي دين في العالم.ولو قرأت تاريخ الرومان واليونان والمصريين والفرس لوجدت أن كل شعب منهم قد أسس رقيه على أساس الرق والعبودية وكان عندهم طريقان لاتخاذ العبيد أولهما أنهم كانوا يُلقون القبض على من يجدونه هنا وهناك من أفراد الشعوب المجاورة المتحاربة.فكان الرومان يأخذون الفرس إلى بلادهم، وكان الفرس يأخذون الرومان كلما سنحت لهم الفرصة لذلك، وكانوا يظنون أن هذا سيلحق بالبلد الآخر أضرارا سياسية.أما الطريق الثاني فهو أنهم كانوا يأخذون نساء الشعوب المجاورة المتخلفة وأطفالها ويتخذونهم عبيدا.كانوا يعملون بالطريق الأول كلما وجدوا لذلك فرصة، أما الطريق الثاني فكان عادة شائعة بينهم، بل ظلوا يعملون به حتى القرن الثامن عشر؛ فجلبوا مئات الآلاف من العبيد من غرب أفريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية
الجزء السادس ۳۸۱ سورة النور ولا يزال هؤلاء موجودين هناك حتى اليوم وإن كانوا قد أصبحوا اليوم أحرارا.ويوجد في أمريكا حتى اليوم حوالي ثلاثين مليون شخص جلبوهم كعبيد من أفريقيا الغربية.وكان هدف الشعوب المتمدنة من اتخاذ العبيد أن يزيدوا في ثروة بلادهم.فكانوا يسخرون هؤلاء العبيد في شتى الأعمال في المصانع والسفن وقطع الأشجار في الغابات، بالإضافة إلى كل الأعمال الشاقة الضرورية لرقي البلاد.فمثلا إذا أرادوا أن يزرعوا الزروع بأقل تكلفة ويجلبوا منها أكبر فائدة، كانوا يسخرون هؤلاء العبيد في الأعمال الزراعية من سقي وري وحراثة وحراسة زرع.وإذا أرادوا عمران المناطق غير المأهولة كانوا يستغلون العبيد في عمرانها، فعمران منطقة "سيبيريا" في روسيا مثلاً يرجع الفضل فيه للعبيد والأسرى السياسيين.وهذا هو الحال بالنسبة لعمران أمريكا فما كان هؤلاء قادرين على عمرانها بأنفسهم، فجلبوا من غرب أفريقيا مئات الآلاف من العبيد الذين عمروا المناطق غير المأهولة في أمريكا.إن أمريكا تفتخر اليوم بثرائها وتزهو بتجارتها وصناعتها، ولكن الواقع أن ثراءها وعمرانها مرهون لأولئك العبيد الأفارقة الذين جلبوهم من أفريقيا الغربية.كما يدل تاريخ اليونان وبلاد الروم ومصر على أن عمران تلك البلاد أيضًا مرهون لخدمات العبيد.وهذا ما يكشفه لنا تاريخ فرنسا وإسبانيا أيضا، فإن ازدهارها مرهون للخدمات التي قام بها العبيد قبل قرنين أو ثلاثة قرون من الزمان، والتي رفعت اقتصاد هذه البلدان بشكل مدهش.إذا، فإن هذه الشعوب تحرم جزءًا من الجنس البشري من حق المساواة من خلال الرق من جهة ومن جهة أخرى يزيدون في ثروة بلادهم.ولكن القرآن الكريم قد نهى عن كلا الطريقين من الرق فقال (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُنْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ (الأنفال: ٦٨)..أي لم نسمح لنبي قبلك ولا نسمح لك أن تتخذ عبيدا من قوم إلا إذا دارت بينك وبينهم حرب دامية شريطة أن تكون هذه الحرب حربا دينية لا سياسية، وأن يُؤخذ هؤلاء الأسرى أثناء الحرب وفي ساحة القتال فقط.ولكن لا يحق لك أن تأسر أفراد قوم بدون الخوض في حرب دينية ضدهم، أو تلقي
الجزء السادس ۳۸۲ سورة ة النور عليهم القبض في وقت غير وقت الحرب.هذا يعني أنه لا يجوز إلقاء القبض على أفراد قوم ما لم يتم إعلان الحرب ضدهم، كما لا يجوز إلقاء القبض عليهم إلا أثناء الحرب وفي ساحة القتال إن إلقاء القبض إنما يجوز أثناء الحرب على الجنود المحاربين أو على الذين يساعدونهم، لأنهم إذا تركوا سيلتحقون إلى جيش آخر للعدو فيضرون المسلمين.ولكن الله تعالى يوصينا في حقهم أيضا فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فداء)) (محمد: ٥)..أي عليكم أن تطلقوا سراح هؤلاء الأسرى بعد الحرب إما إحسانًا إليهم وإما بأخذ الفدية منهم.فالإسلام لا يجيز إطلاقا أن يُتخذ أحد عبدا أنه مستعد أن يقدم الفدية.كلا، بل لا بد من إخلاء سبيله إما إحسانا أو له رغم مقابل فدية.وجدير بالانتباه هنا أن الغرامة تؤخذ في هذا العصر من الأمة المحاربة، بينما قال الإسلام إن الفدية يجب أن تُدفع من قبل الأسير أو أقاربه.وهذا الأمر يبدو غريبا في بادئ الأمر، ولكن سببه أنه لم يكن في زمن نزول القرآن نظام الجيوش الموظفة التي تقاتل لقاء رواتب.بل كان المقاتلون المتطوعون يحاربون من الطرفين، ففرضت الفدية على هؤلاء المتطوعين.أما اليوم فبما أن الحروب قد اتخذت طابعا قوميا فتُفرض الفدية على القوم.إذا، فالزعم أن الإسلام عمل على انتشار الرق كذب صريح.بل الحق أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي عمل على محو الرق من العالم.ولو سلمنا جدلا أن الإسلام قد أجاز الرق فليخبرونا هل القانون العالمي لأسرى الحرب في هذه الأيام يفرض على الطرفين معاملة الأسرى كما فرض الإسلام هنا مثلاً؟ كلا، بل إنهم لا يسمحون لزوجات الأسرى بالاقتراب منهم دعك عن أن يزوجوهم من غيرهن.أما الإسلام فيأمر المسلمين قائلا: أطعموهم مما تأكلون منه واكسوهم مما تلبسون وزَوجوا من هو صالح منهم للزواج لكي ينالوا السكينة ولكي تظل أبواب منه ، الفواحش مسدودة في المجتمع.
الجزء السادس ۳۸۳ سورة ة النور أما قول الله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فنهانا فيه عن التردد في تزويجهم خوفا من فقرهم فقط، لأن الفضل بيد الله تعالى وهو قادر أن يبدل حالاتهم ويبسط عليهم الرزق.وبرغم أن هذه الآية نزلت ضمن أحكام أسرى الحرب إلا أنها تضمنت وصية هامة ألا وهي أن على الإنسان أن ينظر عند الزواج إلى الصلاح والتقوى لا إلى المال والثروة، وأن يبحث عن زوج يتحلّى بالصلاح والورع والطيب، ولا ينظر إلى المال والأقارب فحسب.يعترض البعض على قول الله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه ويقول: إن ما نراه على صعيد الواقع هو أن كثيرا من الناس يتزوجون، ولكن لا تُفتح عليهم أبواب السعة والرخاء طوال العمر، بل يعيشون في فقر وضيق؛ فما بال هذا الوعد الرباني الذي تكذبه أمثلة كثيرة من الواقع؟ والجواب الأول أنه ليس المراد من الغنى هنا كثرة المال فحسب، بل يراد به السكينة وراحة البال أيضا ولا يسع أحدًا الإنكار أنه لو تيسرت للإنسان زوجة مواسية لنال طمأنينة القلب وراحة البال لدرجة أنه لو اضطر للجوع والفاقة فلن يُحرم السكينة والراحة كلية، بل سيجد في ساعة العسر أيضا نوعا من الراحة التي تخفف من معاناته النفسية إلى حد كبير.والجواب الثاني أن الله تعالى يتحدث هنا عن الذين يتوكلون عليه توكلا كاملا ويوقنون بوعده تعالى إيقانا بحيث إنهم يسلّمون بإمكانية طلوع الشمس من المغرب بدلا من الشرق، ولكن لا يمكن أن يسلّموا بعدم تحقق وعد الله تعالى.إنهم يعيشون في كنف الله تعالى، ومهما هبت عليهم عواصف المصائب فإنها لا تقدر على زعزعة أقدامهم.ولو أنهم ألقوا في النار لخرجوا منها سالمين.فلا يتمتع هؤلاء بالنعم الروحانية فحسب، بل يلقي الله تعالى نعم الدنيا أيضًا على أقدامهم ويزيل فقرهم وإفلاسهم.
الجزء السادس ٣٨٤ سورة النور وَلْيَسْتَعْ فِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحَا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ شرح الكلمات وَلْيَستَعْفف: العفّة: ترك الشهوات (الأقرب).والاستعفاف معناه طلب العفة (المفردات).التفسير : هنا يجيب الله تعالى على سؤال آخر وهو: ماذا يفعل أولئك الذين لا يستطيعون أن يتزوجوا؟ فقال تعالى وَلْيَسْتَعْفف الذينَ لَا يَجِدُونَ نَكَاحًا...أي أن الذين لا يتيسر لهم الزواج عليهم بكبت طاقاتهم..أي أن يأخذوا ببعض الحيطات والأسباب التي تخفف من ثوائرهم الجنسية.ولكن عليهم أن لا يزنوا، كما يجب عليهم أن لا يتلفوا طاقاتهم التي تساعد على بقاء النسل، لأنهم في هذه الحالة سيقومون بمسخ فطرتهم ، والله تعالى لا يحب القضاء على مقتضيات الفطرة.لقد واجه المفسرون في تفسير هذه الجملة مشكلة كبيرة فيقولون إن الله تعالى قد أخبر في الآية السابقة أن النكاح سيبدل فقر هؤلاء غنّى، ولكن يبدو من هذه الآية أن هذا لا يحدث إذ لو كان الفقر يتبدّل غنى لأمرهم الله تعالى أن يتزوجوا في كل حال ولكن الله تعالى يقول هنا إن عليهم أن ينتظروا حتى يجعلهم الله أغنياء، فثبت أن النكاح لا يجعل المرء غنيا حتمًا وإلا ستصبح هذه الجملة بلا معنى.(فتح البيان) فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ فضله ، من ولكن استدلالهم هذا ليس صحيحا عندي، ذلك لأن قوله تعالى إنْ يَكُونُوا ، وعد من الله تعالى، ومن الممكن أنه برغم هذا الوعد الإلهي لا يستعد شخص لأن يزوج بنته أو أمته من ذلك العبد، وفي هذه الحالة سيبقى هذا بدون زواج فلذلك ينصح الله تعالى هؤلاء بأنهم إذا لم يجدوا أزواجا فعليهم بالصبر والعفّة إلى أن يغنيهم الله أي أن ييسر لهم الزواج.كالصيام والرياضة مثلاً.(المترجم)
الجزء السادس ٣٨٥ سورة النور وأرى أن أكبر سبب وراء مواجهة المفسرين لهذه المشكلة هو أنهم لم يفهموا قول الله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجدُونَ نكَاحًا حَتَّى يُغْنَيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْله فهما صحيحا؛ إذ من الخطأ أن يفسروه بأن عليهم أن لا يتزوجوا ما لم يجدوا المال، ذلك أن الله تعالى لا يتحدث هنا عن شخص فقير لا يتزوج، وإنما يتحدث عن شخص فقير لا يقبل أحد أن يزوجه بسبب فقره.لقد قال الله تعالى من قبل أنه لو وجد الفقير نكاحا، ولكنه لم يرد أن يتزوج بسبب فقره فهذا غير صحيح، بل عليه أن يتزوج فإن الله تعالى سوف يجعله غنيا.أما هنا فقد بين الله تعالى أن أحدا لو لم بسبب فقره فعليه بالعفة إلى أن الله له الزواج.إذًا، فهذان حكمان يجد نكاحا پیسر منفصلان لأن الآية الأولى تعني أن الذي يتزوج متوكلا على الله حقا فإن الله تعالى يهب له الرخاء والغنى فلا يبقى أسير المشاكل، أما هذه الآية فتعني أن الذين يجدون صعوبة في الزواج لفقرهم فعليهم أن يتخذوا بعض الاحتياطات التي تخفف من شهوتهم، وأن يعيشوا عيشة طاهرة منتظرين أن يفتح الله لهم السبيل للزواج.وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ صلے عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَنكُمْ شرح الكلمات: الكتاب: كتابةُ العبد: ابتياع نفسه من سيده بما يؤديه من كسبه (المفردات).التفسير: فبما أن الله تعالى قد ذكر في الآية السابقة أحكاما تتعلق بزواج أسرى الحرب، فقد أوضح الآن أن لا يظن أحد بسبب هذه الأحكام أنه تعالى يحب الرق ويريد انتشاره في العالم، إنما أعطى هذه الأحكام بسبب اضطرار الإنسان، وإلا فإنه تعالى يفضّل تحرير العبيد سواء على سبيل الإحسان أو مقابل الفدية.فقال الله تعالى وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا...أي من أراد من عبيدكم وإمائكم المكاتبة فعليكم بإطلاق سراحه من خلال المكاتبة إن وجدتم فيه الكفاءة.علما أن قوله تعالى إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا لا يعني
٣٨٦ الجزء السادس سورة النور أن السيد هو الذي يقرر فيما إذا كانت في عبده هذه الكفاءة أم لا، وإنما يقرره القاضي.فإذا قال القاضي إن هذا العبد أو الأمة قادر على أن يعيش بنفسه بعد الحصول على هذه الحرية المشروطة، فيُصدر لسيده الأمر بمكاتبته، وإذا لم يجد في العبد الكفاءة لذلك فسيمنعه من المكاتبة كي لا يفسد.ثم أعطى الله تعالى العبد المزيد من السهولة، فقال لسيده لقد بينا لك طرق الإنفاق في سبيل الله تعالى ونخبرك بطريق آخر بهذا الصدد، وهو أن تنفق على عبدك الذي نال الحرية المشروطة من مالك لينال الحرية كاملة.والحقيقة أن القرآن الكريم قد ذكر طريقين اثنين فقط بشأن العبيد حيث قال الله تعالى ﴿فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فَدَاءً (محمد:ه)..أي إذا وقع أحد أسيرا في أيديكم ب دينية فإما أن تطلقوا سراحه إحسانًا أو تُخلوا سبيله بأخذ الفدية.ولا نتيجة يحل لكم أبدًا أن تُبقوه عبدا عندكم وهو يريد أن يتحرر بأداء الفدية.ولما كان من الوارد أن يكون هناك شخص لا يستطيع دفع الفدية، وتكون حكومته ظالمة فلا تفكر في تحريره، ولا يكون أقاربه أيضًا مكترثين له، أو يكونوا خبثاء يريدون أن يبقى في الأسر ليستولوا على ماله ،وعقاره، وكان سيده فقيرا لا يستطيع أن يحرره بدون أخذ الفدية، إذ يمكن تماما أن تكون نفقاته على الحرب قد أضعفت حالته الاقتصادية جدا، فلذلك كله قال الله تعالى إن الذين جعلناهم عبيدا لكم ومنحنا لكم القدرة والسلطان عليهم، إذا قالوا لكم: لا يوجد هناك من يفتدينا، ونحن فقراء وعديمو الحيلة وليس عندنا ما نقدمه كفدية نظير حريتنا، ولكنا مستعدون أن نعقد معكم اتفاقا بأنكم إن حررتمونا فسنسدد لكم ما يجب علينا من المال خلال كذا من السنين على أقساط شهرية أو سنوية، فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فيهمْ خَيْرًا..أي لا بد لكم من تحريرهم ومن تحديد أقساط الفدية لهم شريطة أن تجدوا فيهم الكفاءة لدفع هذا المبلغ.بل ينبغي لكم أن تساعدوهم في ذلك بما أعطاكم الله من مال..أي أعطوهم بعض المال لكي يقوموا باستثماره ويدفعوا لكم الفدية مما يكسبون وإذا سددوا الأقساط فسيكونون أحرارا في أمورهم وأموالهم كحرية أي إنسان حر آخر، وسيعتبرون مالكين لأموالهم.
الجزء السادس ۳۸۷ سورة النور ولكن كما ذكرنا من قبل أن الناس في الماضي كانوا يشتركون في الحروب كأفراد متطوعين فكانت الغرامة تؤخذ من الأفراد أيضا، أما في هذه العصور فقد أصبحت الحروب قومية فتؤخذ الغرامة من القوم.وبما أنه لم تكن في الماضي جيوش منظمة موظفة بل كان على الأفراد أن يتحملوا نفقات الحرب، فكان أفضل طريق للاحتفاظ بالأسرى أن يوزعوا على الأفراد لكي يأخذوا منهم ما أنفقوا على الحرب، ولكن إذا كانت عند الدولة جيوش موظفة ولا تقع نفقات الحرب على الأفراد، فلا توزع عندئذ أسرى الحرب على الأفراد، بل يبقون عند الدولة.وما دامت الأمة المحاربة هي التي ستدفع غرامة الحرب في هذه الحالة، فلن تؤخذ من هؤلاء الأسرى أي خدمة وإنما يتم تحريرهم.باختصار إن الإسلام ينهى عن اتخاذ الناس عبيدا إلا في الحروب الدينية دون الحروب الدنيوية.ولكنه قد أمر المسلمين بصدد هؤلاء أن عليهم أن يحرروهم إحسانا، وإذا لم يستطيعوا ذلك فمقابل فدية.وليس ضروريا أن يدفع الأسير الفدية، بل يمكن أن يدفعها أقاربه أو حكومته وإذا كانت دولته لا تكترث بتحريره وكان أقاربه ظالمين وكان هو فقيرا فيحق له أن يسأل سيده أن يحدد له مقدار الفدية التي تجب عليه نظير تحريره ثم يسأله أن يعطيه المهلة المناسبة لدفعها، ويعاهده على دفع الفدية بأقساط شهرية أو سنوية.وبعد هذه المعاهدة سيصبح العبد حرا، ولا يحق لسيده أن يحول دونه ودون هذه المعاهدة بأي طريق، إنما يجوز المكاتبة فقط إذا لم يجد فيه خيرا..أي يكون هناك خطر الحرب أو أن يكون العبد مجنونا أو معتوها لا يستطيع أن يكتسب بنفسه، ويكون هناك خطر أنه سيتضرر من المكاتبة بدل أن ينتفع وفي حالة المكاتبة يأمر الإسلام أن يُهيأ له بعض المال سواء من قبل سيده أو من قبل الدولة ليستثمره.له منعه من قد يقول قائل هنا: إذا جاز منع العبد من المكاتبة حالة كونه مجنونا أو معتوها، فإن الناس لن يحرروا عبيدهم بحجة أنهم مجانين، فيظلون عبيدا.
الجزء السادس ۳۸۸ سورة النور والجواب أن القانون الإسلامي في هذه الحالة يأمر العبد أن يتجه إلى الدولة ويخبرها أنه عاقل وقادر على كسب المال، ولكن سيده لا يريد أن يمنحه الحرية من خلال المكاتبة.فيمنحه القاضي حق التحرر.إذا، ليس هناك أي حالة لم يحاول فيها الإسلام تحرير العبيد.فأولاً أمر السيد أن يحرره بإحسان، وثانيًا إذا لم يستطع السيد ذلك قال للعبد أن يتحرر نظير فدية، وإذا لم يستطع دفع الفدية فعليه بالمكاتبة ويقول السيده: سأدفع لك هذا المال بأقساط فأعطني مهلة سنتين أو ثلاثة، وبمجرد أن تتم هذه المعاهدة سيُعدّ حرا.وبعد هذه التسهيلات كلها إذا لم يرد أحد من العبيد أن يتحرر فلا بد من القول إنه يفضل هذا الرق.والحق أن الصحابة كانوا يعتنون بعبيدهم ويعملون على راحتهم نتيجة تعاليم الرسول ﷺ لدرجة أن العبيد كانوا يفضّلون الرق على الحرية.أما قوله تعالى وَآتُوهُمْ مِنْ مَال الله الذي آتَاكُمْ فقد نبه به إلى أمر لطيف أن ما في أيدي الناس من أموال إنما هي أمانة في الحقيقة، إذ فيها حقوق للآخرين أيضا، ومن واجبهم أن يؤدوها لهم.عليهم أن يفرحوا بأن من أكبر الجوائز لهم أن العديد من إخوانهم الذين هم مشتركون معهم في هذه الأموال، يعيشون على ما ينفقون عليهم، وهكذا شرفهم الله تعالى بأن يساهموا في ربوبية خلقه تعالى.للغاية، وهو وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَّا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحيوةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكرههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (2) ΤΕ التفسير: أي لا تكرهوا إماءكم على ارتكاب الفاحشة.وبما أن الحديث يدور هنا عن العبيد الذين يريدون المكاتبة أي الحرية المشروطة لذا فستعني الفتيات هنا
الجزء السادس ۳۸۹ سورة النور الإماء اللاتي يردن الحرية المشروطة.والمراد أن إماءكم اللاتي يردن هذه الحرية المشروطة لا تجبروهن طمعا في بعض المنافع المادية، على ارتكاب الفاحشة بالحيلولة دون حريتهن، بمعنى أن الأمة إذا أرادت تجنب الزواج الجبري منكم بحصولها على الحرية المشروطة وأرادت أن تتزوج بحريتها الكاملة بعد حصولها على الحرية الكاملة؛ فالحيلولة دون رغبتها هذه هي بمنزلة إكراهكم إياها على الفاحشة.رَحِيمٌ)..ثم يقول الله تعالى (وَمَنْ يُكْرِهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ..أي إذا حال أحد دون رغبة المرأة التي تريد أن تتحرر وبالتالي أجبرها على النكاح الذي لا ترغب هي فيه، فهو المسؤول عن البغض والكراهية التي تتولد في قلبها ولا إثم عليها، لأن البغض وعدم الولاء الذي يتولد في قلبها إنما هو نتيجة إكراه الرجل.وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءَايَتِ مُبَيِّنَتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (3) اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ ج وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكُوةٍ فِيهَا مِصْبَاحُ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ ج قل لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورُ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ قلے وَيَضْرِبُ الله الأمثل لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) شرح الكلمات : مشكاة: المشكاة: كلُّ كُوّة غير نافذة (الأقرب).٣٦ で
الجزء السادس ۳۹۰ سورة النور الزجاجة القطعة من الزجاج (الأقرب).دُرِّي: يقال كوكب درّي أي ثاقب مضيء (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى في هذه الآية أن النور السماوي وكذلك النور الأرضي كليهما ينزلان من عند الله تعالى..أي أن الشريعة الحقة تنزل من السماء، وأن نشرها في الأرض يتم أيضا بفضل الله تعالى.إن مثل نور الله تعالى كمشكاة فيها سراج قوي الضوء داخل غطاء زجاجي كأنه كوكب مضيء.ذلك لأن الخبرة الإنسانية تؤكد أن ضوء المصباح أفضل ما يكون حين يكون وراءه حاجز يمنعه من الانتشار في كل جهة ويركزه إلى جهة واحدة، وقد أشير إلى المعنى هنا بلفظ كمشكاة.ثم إن ضوء المصباح يصل بعيدا إذا ما كان المصباح داخل غطاء من زجاج شفاف جدا، وكان الزيت الذي يوقد منه المصباح عالي الجودة.وقد أشير إلى المعنى بقوله تعالى المصبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةِ زَيْتُونَة».ولفظ مُبَارَكَة) مشتق من البركة، وهي المكان المنخفض يجتمع فيه ماء المطر من كل مكان وعليه فالمراد من شَجَرَة مُبَارَكَة أنه قد اجتمعت فيها المزايا والمحاسن كلها.ثم سماها الله تعالى (زَيْتُونَة ليشير إلى أن الوحي الذي ننزله الآن يكون سببًا في انتشار العلوم والمعارف الجديدة في الدنيا.ذلك لأن شجرة الزيتون تعطي الثمار كما أن خشبها وزيتها يُستعملان للوقود والإضاءة، كما أن أوراقها وقشورها مفيدة أيضا.كما يُستعمل زيتها بطرق فمثلا يوضع في المخلّلات ليحافظ عليها لمدة طويلة.لقد بين الله تعالى بهذه اللغة التمثيلية أن التعاليم التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام – كانت لتصبح آسنة غير صالحة للعمل في يوم من الأيام؛ ولكننا قد أنزلنا الآن للناس شرعًا لن يتعرض للعفونة والفساد، بل سيمد العقول الإنسانية بنور يكشف لهم على الدوام علوما جديدة ومعارف حديثة.شتی يقال عن النور عادة أنه اسمٌ لذلك الشيء المادي الذي يتولد باحتكاك جسمين ماديين، فكيف سُمي اللَّهُ نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا؟
الجزء السادس ۳۹۱ سورة النور لقد أجاب النحاة على هذا السؤال بقولهم إن هنالك محذوفا قبل والتقدير : "الله صاحب نور السماوات والأرض" إملاء ما منّ به الرحمن).أي كل نور في السماوات والأرض هو في قبضة الله وسلطانه فمن أراد الرقي فعليه أن يكون على صلة مع الله تعالى.أما أصحاب "علم المعاني" فقالوا: لقد استعمل لفظ النور هنا مجازا واستعارة، والمراد أن المرء كما يميّز بين الجيد والرديء من الأشياء بمساعدة النور كذلك لا يتمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر إلا بهدي الله تعالى، لأنه تعالى منبع أنوار السماوات والأرض.أما علماء اللغة فقالوا: إن هذا الكلام مثل من الأمثال، حيث يقال "نور البلد" لإنسان يعتمد عليه أهل البلد كلهم، ويقال "نور القبائل" لإنسان هو سبب فخر لهم.وبما أن الإنسان لا يمكنه أن ينجح في أي عمل بدون فضل الله تعالى فقيل اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).إن هذه المعاني كلها صحيحة، ولكني أرى أن الله تعالى قد لفت بقوله الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أنظارنا إلى أمر آخر حيث قال إنكم لو أردتم إضاءة أي شيء في السماوات والأرض فأدخلوا فيه نور الله تعالى فيُضيء.فعندما ينزل نوره تعالى على بيت سيستنير، وحين ينزل على قلب سيصبح منورا.ذلك لأن هذا النور لما نزل على بيت الله الحرام صار هذا البيت مركزا لهداية الناس؛ ولما نزل على المسجد النبوي أصبح ذلك المسجد نموذجا يحتذى به في كل المساجد، أنه لم يكن إلا بناء صُنع من طين ولبن.ثم لما نزل هذا النور على القلب المطهر لرسول الله الله صار شمسا للعالم الروحاني وليس القرآن إلا نفس الحروف التي تُستعمل في العربية يوميا، وليس ورقه إلا نفس الورق الذي تُطبع عليه جميع الجرائد والكتب، وليس حبره إلا نفس الحبر الذي يُكتب به شتى الأبيات السيئة والفاحشة؛ ولكن إذا نزل القرآن المكتوب بنفس الكلمات وبنفس الورق وبنفس الحبر صار هداية للدنيا كلها وهذا هو الأمر الذي أشير إليه في قول الله تعالى الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.فلأن الله تعالى قد تجلى في القرآن الكريم فصار هذا مع
الجزء السادس ۳۹۲ سورة النور الكتاب هدى للناس.وحيثما لا يكون هذا النور فلن يُرى هناك إلا الظلام والسواد._ تلك ثم إن الله تعالى قد نبهنا بقوله اللهُ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ إلى أن النور لا يبقى مقيدا في مكان أبدا، بل لا بد أن يخرج وينتشر.لا شك أن نطاق الظلمة والسواد نطاق محدود ولكن النور ينتشر دائما.فمثلا ترى أن اليراعة الدودة المضيئة بالليل - تكون صغيرة الحجم جدا، ولكن ضوءها يُرى في وقت الظلام من مكان بعيد.وعندما يصل المسافر قريبا من القرية يستطيع أن يراها بضوء هذه الحشرة المضيئة على الأشجار والأعشاب من بعيد ويوقن بأنه قريب من القرية.كذلك مثل الإنسان الذي تشتعل في قلبه جذوة من نار حب الله تعالى، فلو كان صغيرا كاليراعة فلا بد أن يضيء الآخرين أيضًا؛ إذ من المحال أن العبد الله يصير تعالى ثم لا يصبح شمسا أو قمرًا أو نجمًا بحسب كفاءته واستعداده.إن الذي ينشئ الله تعالى علاقة صادقة ويستنير بنوره فإنه ينوّر الآخرين أيضا بأنواره.لقد قال سيدنا المسيح الموعود اللي عن نفسه وهو يصف هذه الحالة ما تعريبه: مع الله كان يكفيني أن يرضى عني.إني لم أتمنَّ هذا الأمر أبدا (أي أن أُدعى مسيحا موعودًا، أو أن أُعَدَّ أفضل من المسيح بن مريم.لقد كنت في زاوية الخمول، و لم يكن أحد يعرفني، و لم أرد أن يعرفني أحد هو الذي أخرجني من زاوية الخمول رغما عني.لقد أردت أن أعيش مستورا وأموت مستورا، ولكنه تعالى قال: سأذيع صيتك في كل العالم بالعزة والشرف (حقيقة الوحي، الخزائن الروحانية مجلد ٢٢ ص.(١٥٣ إذا، فمن خواص النور أنه ينكشف ويتجلى ولا يمكن أن يظل مستورا.إذا أشعل الإنسان نارَ حُبِّ الله تعالى في قلبه فلا بد أن يحدث تغير طيب في نفسه، وليس في نفسه فحسب، بل في كل من هو على صلة به.من الممكن أن يكون هذا التغير ناقصا في بعض الناس، ولكن النور لا بد أن يظهر.فمثلاً لو وضعت شمعة مضيئة وراء ثوب أسود فلا بد أن يُرى من ورائه أيضا ضوء ضئيل؛ الممكن أن يكون في قلب المرء جذوة صغيرة من الله تعالى، ولكن الغطاء ، كذلك من
الجزء السادس ۳۹۳ سورة النور الأسود من الذنوب يستر ضوءها ويقلل من نورها، ولكن من المحال أن يطفئها تماما.وكلما أزيل عنه هذا الثوب الأسود من الذنوب تجلى فيه النور الرباني بكل قوة.كما أن الإسلام قد قدّم للناس بقوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قاعدة هامة، وهي أن أساس التمدن يجب أن يُبنى على نور الله تعالى أي على وحيه، ويجب أن تُسنّ القوانين المدنية من قبل الله الذي ليس لأحد معه قرابة ولا صداقة، بل الجميع متساوون عنده فمثلا تكثر النساء الشكوى بأن عملية سن القوانين في أيدي الرجال فيسنون ما يحلو لهم من القوانين.كذلك كان الهنود يقولون في زمن حكم الإنجليز على الهند إنهم يسنّون القوانين بما يتفق مع مصالحهم، لذا سيقومون بعصيان مدني.إذا، فمن المحال أن يطمئن قوم بقوانين يسنّها قوم آخرون، ولكن لا يمكن لأحد أن يقول عن القوانين التي يسنّها الله تعالى إنه قد انحاز فيها إلى قوم دون قوم.إنه تعالى لا يهمه ما إذا كان القماش المصنوع في "لانكاشائر" يباع أم لا؟ وما إذا كان القطن الهندي يباع أم لا.فكل هذه الأمور متساوية عنده إذا فمن المحال صدور قانون سليم من الخطأ عند إلا من الله تعالى، وإلى ذلك يشير قوله تعالى اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)..أي أن كل شيء يكتسب القوة منه تعالى.إن قانونه نابع من عين لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّة..أي أنه تعالى لا ينحاز إلى أهل الشرق ولا إلى أهل الغرب، ولا إلى الرجال ولا إلى النساء، ولا يبخس الضعفاء حقوقهم، ولا يعطي الأقوياء أكثر مما يستحقون.والحق أنه من المحال أن يسود السلام في العالم ما لم نسلّم بحق الله تعالى وحده في وضع أسس التمدن، إذ ليس وراء النزاعات بين العمال وأصحاب العمل إلا قول كل فئة من الناس إن من حقهم هم أن يسنّوا القوانين المدنية بأنفسهم.لقد ظل الغرب يعترض يشير حضرة المفسر الله له له ههنا إلى النزاع الذي كان قد حصل بين أهل الهند والمستعمرين الإنجليز حول أسعار القطن الهندي الذي كان الإنجليز يشترونه بثمن بخس، ثم يصنعون منه النسيج في مصانع "لنكاشائر" بإنجلترا، ويبيعونه في الهند بأثمان باهظة.(المترجم)
الجزء السادس ٣٩٤ سورة النور أخذ يرجع على الإسلام ويقول أنه يجب أن لا يتدخل في الأمور المدنية للناس.ولكنه يرجع اليوم إلى التعاليم الإسلامية بعد أن ظل يتخبّط زمنا طويلا.إن العالم قد إلى تعاليم الإسلام في جميع القضايا؛ سواء ما يخص العلاقات بين الزوجين أو بين الأبوين أو بين الأخوين أو بين الأخ والأخت أو بين الرعية والراعي أو بين حكومة وأخرى.لذلك قد أعلن الله تعالى هنا اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..أي أن على الناس أن يرتكزوا على الوحي في نظامهم المدني وإلا لن تنتهي النزاعات والصراعات بينهم، ولن يقوم في الدنيا سلام دائم.ثم يقول الله تعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ....إلخ.والمشكاة كوة في الجدار لا تنفذ إلى الناحية الأخرى.علما أن الكوة نوعان: أحدهما النافذة أو الشباك التي يمكن أن ينظر المرء من خلالها إلى الخارج، لأن الهدف من الشباك هو النظر إلى الخارج، كما يندرج في هذا النوع أيضًا الطاقة أي الفتحة التي تكون في أعلى الجدار ليدخل منها الهواء والضوء والنوع الآخر من الكوة هي كُوّة ليست نافذة، وكانت تُبنى في جدران المساجد خاصة ليضعوا فيها السراج أو المصاحف.ومثل هذه الكوة تسمى مشكاة.فالله تعالى يبين هنا كيفية نوره فيقول إن مثل نوره ككوة فيها مصباح موضوع داخل غطاء زجاجي عالي الجودة مضىء جدا كأنه نجم ثاقب.حصر الله تعالى نوره هنا في ثلاثة أشياء، مبينًا أن النور يبلغ كماله بثلاث لقد طرق : الأولى المشكاة، والثانية المصباح، والثالثة الزجاجة.وإنه لمن الغريب حقا أن القرآن قد نزل في زمن لم يكن العلم فيه متقدما، وفي بلد يقال عن أهله أنهم لم يكونوا يعرفون ما العلم وما المدنية وما الحضارة، ونزل على رجل أمي، ومع ذلك قد بين موضوع اكتمال الضوء بيانًا يخيل وكأن عالما من القرن العشرين يبين حقيقة الضوء.هي لقد سبق أن قلنا إن المشكاة كوة غير نافذة.أما المصباح فهو في الحقيقة تلك الشعلة التي تصعد من الفتيل، أو هو السلك المتوهّج داخل المصباح الكهربائي.والمصباح في الأصل ما يجعل المكان مضيئًا كالصباح، وعليه فكُلُّ شيء يضيء
الجزء السادس ٣٩٥ سورة ة النور بشدة مصباح.إذا، فالشعلة التي تصعد من الفتيل بعد إشعاله أو السلك المتوهّج هو المصباح.والله تعالى يصف هنا نوره بأن مثله كمصباح فجأةً الذي يضيء مضيء موضوع في كوة داخل زجاجة.وكل واحد منا يعرف نوعية الضوء الذي يخرج من قنديل "هوريكان".فعندما يشعل المرء عود ثقاب ويقربه إلى فتيله تخرج من الفتيل شعلة صفراء تملأ الغرفة بالدخان، ولو وصل هذا الدخان إلى مناخر شخص مرهف الحس عطس بشدة كالمصاب بالزكام.ولكن بمجرد أن يصلح المرء هذا القنديل بوضع الغطاء الزجاجي عليه يتوقف الدخان فورًا ويتغير لون الشعلة ويصبح الضوء أقوى بعشرات الأضعاف بل بألف ضعف في بعض الأحيان، وتضيء الغرفة كلها.وهناك فائدة أخرى لهذا الغطاء الزجاجي وهي أن ضوء القنديل لا ينطفئ بسببه رغم هبوب الرياح الشديدة فلو خرجت بهذا القنديل في ليلة مطيرة في الأمطار الغزيرة وفي عاصفة شديدة تهز السقوف مع المباني وتزعزعك من الأقدام، فإن هذا القنديل لن ينطفئ، لأن غطاءه يحميه من الرياح والأمطار.إذا، موسم فهذا الغطاء لا يزيد القنديل ضوءا فحسب بل يحميه من الانطفاء أيضا.وهناك قناديل هي أقوى من قنديل "هوريكان" أيضًا.ولو رأيت المصابيح الكبيرة التي تضاء بها الغرف لوجدت أنهم يركبون فيها قطعة معدنية مدورة تمنع ضوءها من الانتشار في كل جهة وتوجهه إلى الأمام فقط.وتحقيقا لهذا الهدف نفسه كان الناس في الماضي يضعون المصباح في الكوة ومثاله الآخر في هذا الزمان هو المصباح اليدوي Torch) الذي يعمل بالبطارية، حيث يركبون حول مصباحه الصغير قطعة فضية لامعة فتوجه الضوء للأمام وتوصله بعيدا، ولو أزيلت هذه القطعة الفضية منه لم يصل ضوء المصباح حتى عشرة أقدام.وهذه القطعة الفضية توصل الضوء في بعض الأحيان لخمس مئة قدم بل حتى ألفي قدم.هذه القطعة الفضية تسمى بالإنجليزية (REFLECTOR) أي عاكسا.أما المصابيح الكبيرة جدا فتصل أضواؤها إلى أبعد من ذلك نتيجة هذا العاكس، وهكذا يكتمل الضوء وينتفع به الناس أكبر انتفاع.
الجزء السادس ٣٩٦ هي سورة النور النار الحقيقية التي فهذه هي الأشياء الثلاثة التي يكتمل بها النور.إن الشعلة.لا يمكن بدونها أن يكون أي نور، وتلك الشعلة في العالم الروحاني هي نور الله تعالى.أما الغطاء الزجاجي الذي يزيد الشعلة ضوءا فهو أنبياء الله تعالى.لا شك أن كل ذرة في الكون تعكس نور الله تعالى، ولكن الناس لا يرون ذلك النور، ولكن حين يأتي نبي من عند الله تعالى ويأخذ هذا النور بيده ويعرضه على الناس فالجميع يرونه.ومثله كأن تضيء سراجا، فتأتي نسمة الهواء وتطفئه، ولكنك لو وضعت عليه الغطاء الزجاجي فلا ينطفئ، بل يتلاشى الظلام فورا وتنتفع من ذلك النور.أن الغطاء الزجاجي هو الأصل، وإنما الأصل هو ذلك النور الذي وهذا لا يعني يسطع من السراج.ولكن بعض ذلك النور يضيع على شكل الدخان، لذلك فلا يمكن أن ينتفع منه الناس ما لم يوضع عليه الغطاء الزجاجي، وعندما يوضع هذا الغطاء فإنه يحمي النور من الضياع، فيزداد النور أضعافا كثيرة حتى ألفي ضعف.وتلك الزجاجات هم الأنبياء الذين يأخذون النور الإلهي الموجود في كل مكان فيضعونه تحت زجاجتهم ويجعلونه نافعا للناس، فيبصره الناس كلهم، وتستنير به عيونهم، وينتفع الناس من هذا النور.لقد بين الله تعالى هذا المعنى في مواضع أخرى من القرآن الكريم أيضا، فذكر في سورة طه أن موسی يعني ال لما رأى نور الله تعالى على شكل نار قال إِنِّي آنَسْتُ نَارًا (طه: ۱۱).وقوله هذا أن الآخرين الذين كانوا معه لم يروا تلك النار.وقد بين الله تعالى بذلك أن ظهوره في الدنيا يكون على شكل نار ضئيلة قبل تحليه في شخص نبي، أي لا يتمكن قبل بعثة النبي من رؤيته تعالى إلا البعض من ذوي البصيرة الثاقبة فقط، ولكنه تعالى حين يتجلى على الدنيا من خلال شخص النبي تتحول نارُ تَجلّيه نوراً، أي يشتد ضوؤها ويكتمل من خلال النبوة كما يكتمل ضوء المصباح بالغطاء الزجاجي.بيد أن زمن ذلك النور يكون محدودا لأن النبي ليس محفوظا من الموت، فلكي يدوم هذا النور ويصل إلى أماكن بعيدة لا بد من تدبير؛ وتحقيقا لهذا الهدف جعل الله تعالى أداة عاكسة روحانية وهي وكما أن المشكاة تمنع الضوء من الانتشار في جهات شتى وتوجهه إلى الجهة المطلوبة، الخلافة.
الجزء السادس كذلك يحمي ۳۹۷ سورة ة النور الخلفاء القوة القدسية للنبي المتجلية في جماعته من الضياع ويستغلونها بحسب خطة معينة، الأمر الذي يحمي طاقات الجماعة من التشتت والضياع، فينجزون أعمالا كبيرة باستهلاك طاقة قليلة إذ لا يضيع من طاقاتهم شيء.ولولا الخلافة لاستنزفت طاقات الجماعة في بعض المشاريع أكثر من اللازم، وتبقى هناك مشاريع أخرى من دون اهتمام ولا عناية، ولضاع الكثير من أموال الجماعة وجهودها ووقتها وعلمها؛ إذ لم تبذل تحت نظام يمنع حدوث الفرقة والتشتت.فالنور الإلهى الذي يكتمل من خلال النبوة يمتد ويطول من خلال الخلافة.فترى أن نور الله تعالى لم ينته بوفاة الرسول ﷺ بل طال زمنه من خلال مشكاة خلافة أبي بكر له لعامين وربع.ثم وضع ذلك النور بعد وفاة أبي بكر في مشكاة خلافة عمر له فطالت مدته عشر سنين أخرى.ثم بعد عمر الله وضع ذلك النور في مشكاة بن عفان ه وامتد عمره اثنتي عشرة سنة أخرى.ثم بعد عثمان له وضع ذلك النور في مشكاة علي الله ، فامتد عمره أربعة أعوام وتسعة أشهر أخرى.وهذا يعني أن النور الإلهي امتد من خلال الخلافة ثلاثين سنة أخرى؛ بل لقد ظل هذا النور يتجلى في إسبانيا وبغداد طيلة الأربعة قرون من خلال الخلافة غير الراشدة أيضًا.عثمان باختصار فكما أن العاكس المركب في المصباح اليدوي أو المصابيح الأخرى يوصل الضوء بعيدا، كذلك فإن الخلافة عاكس روحاني في المصباح الروحاني فيمدد زمن نور النبوة والألوهية ويوصله بعيدا.إذا، فإن الله تعالى قد تحدث في هذه الآية عن الخلافة والنبوة والألوهية، وبين أن مثل نوره كمثل شعلة المصباح، وأن هذا النور يتجلى في كل ذرة من الكون، ولكن لا يمكن أن ينتفع منه الناس ما لم يأت تحت زجاجة النبوة.وبالفعل ترى أن الذين يريدون معرفة وجود البارئ تعالى من خلال تدبرهم في الكون، لا يزالون يتخبطون ويتضررون دائما.لا ريب أن قول الله تعالى ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيات لأُولِي الأَلْبَابِ) (آل عمران: ١٩١) قول حق إذ توجد في السماوات والأرض آيات إلهية كثيرة، ولكن التفكير في خلق
الجزء السادس ۳۹۸ سورة النور السماوات والأرض نفسه يجعل الفلاسفة الأوروبين ملاحدة.وهذا يدل على أن النور الإلهي الموجود في خلق السماوات والأرض مثله كمثل شعلة المصباح المصحوبة بالدخان الذي يسبب الزكام ويخرّب العيون، ولا يزول هذا الدخان ما لم توضع عليه زجاجة النبوة، فتتحول الشعلة إلى نور.أما إذا أراد أحد أن يستنير بهذه الشعلة بدون النبوة فسينال بعض النور وأيضًا بعض الدخان الذي سيضر عينه وأنفه.ولذا فإن الذين يريدون أن يصلوا إلى الله تعالى من خلال تدبّرهم في الكون فقط يتخبطون ويتعثرون كثيرا، وفي بعض الأحيان يصبحون ملحدين بدل أن يصلوا إلى الله تعالى.ولكن الذي يريد أن يرى الله تعالى من خلال زجاجة النبوة ستسلم عيونه وأنفه من ضرر الدخان وسيجد نورا لطيفا نقيا من كل الشوائب يسره.وقد أشار المسيح الموعود اللة إلى هذه الحقيقة في بيت شعر له بالفارسية وهو يخاطب ربه الله، فقال: فلسفي كز عقل مي جويد ترا دیوانه هست دور تر است از خردها آن ره پنهان تو (چشمه مسيحي الخزائن الروحانية ج ٢٠ ص ٣٩١) أي أن الفيلسوف الذي يبحث عنك بعقله مجنون، لأن طريقك الخفي بعيد جدا عن العقول.إذا، فإن الذين يريدون الاطلاع على وجود البارئ تعالى من خلال التدبر في الكون فقط قد وُضعت في طريقهم اختبارات وشبهات، وذلك لكي يضطروا لوضع زجاجة النبوة على ذلك النور؛ لأنه كلما وضعت مشكاة النبوة على النور الإلهي تغيّر كلية فلا يُرى إلا نور على نور دون أي أثر للدخان المؤذي.وعندما يؤخذ هذا النور ويوضع في المشكاة يشتد ضوؤه وينتشر بعيدا جدا.مجمل القول إن الله تعالى قد بيّن هنا ما يوجد بين الألوهية والنبوة والخلافة من علاقة وثيقة.
الجزء السادس ۳۹۹ سورة النور ولو قال قائل إن الخلافة أيضا تنتهي في نهاية المطاف، فالجواب أن انتهاء الخلافة واستمرارها منوط بسلوك الناس فلو ظلوا طاهرين وصالحين ولم يتنكروا لنعمة الخلافة فمشكاة الخلافة قادرة أن تمد قوتهم وغلبتهم إلى مئات بل آلاف السنين.أما إذا رفضوا هذه النعمة بأنفسهم فلا يلومن إلا أنفسهم.بعد أن بينت لكم باختصار معنى قول الله تعالى الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض...إلخ)، أخبركم الآن أن هذه السورة كلها تتمحور حول موضوع واحد.فقد بدأ الله تعالى هذه السورة بالحديث عن الفاحشة وعن الذين يتهمون الآخرين بارتكابها.ثم بعد ذكر هذه الأمور مفصلة تحدَّث عن واقعة الإفك التي الله رميت بها عائشة رضي عنها.ثم ذكر أمورا عديدة تتعلق بهذا الموضوع، وأوصى المؤمنين بما يجب عليهم فعله في هذه الأحوال.ثم بين الطرق التي إذا اتبعها الناس تلاشت الفاحشة من بينهم.وكل هذه المواضيع مذكورة حتى الآية رقم ٢٧.فحينا ذكر عقوبة المدعين، وحينا آخر بين طريق التحقيق في هذه التهم، وتارةً أمر المتهمين بأن يأتوا بالبينة حسب الشرع، وتارة أخرى بين السبب وراء انتشار هذه التهم، وتارة ثالثة ذكر المنافذ التي تتسرب من خلالها السيئات.إذن، فكل تلك الآيات كانت تتحدث عن موضوع واحد ولكن بعد ذلك قال الله تعالى فجأة اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...إلخ، ويحتار المرء هنا ويقول: ما العلاقة بين موضوع نور الله تعالى وبين مضمون الآيات السابقة؟ يظن بعض المفسرين أن القرآن الكريم خال من أي ترتيب، وأنه كلام لا ربط فيه – والعياذ بالله – وأن الآيات القرآنية تحتوي على مواضيع مختلفة لا ربط بينها، شأنها شأن حبات تلقى على الأرض فتتناثر هنا وهناك وهؤلاء لا يرون في ذلك بأسا.ولكن الذي هو مطلع على تعليم المسيح الموعود ال يدرك جيدا أن هناك ترتيبا محكما في جميع كلمات القرآن الكريم، لذلك فإنه يحتار حين يرى أن الله تعالى كان يتحدث من قبل عن الفاحشة والامتناع عن اتهام الناس بها، ثم بدأ هنا فجأة يتكلم عن موضوع آخر فقال اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...إلخ، ثم بدءًا من آية رقم ٥٦ من هذه السورة فتح موضوعًا آخر فقال (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
الجزء السادس سورة النور لَا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا يَعْبُدُونَنِي يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الآية: ٥٦)..أي أنه تعالى قد تناول أولاً موضوع اتهام الآخرين بالزنى، ثم تحدث عن حادث الإفك ضد الله عنها - ثم بين موضوع اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...إلخ، عائشة - رضي أمنا، ثم قال إنني أعد المؤمنين من هذه الأمة أني سأجعل من بينهم خلفاء كما جعلت خلفاء في الذين كانوا من قبلهم وسأقيم لهم دينهم في الدنيا، وأبدل خوفهم يعبدونني ولا يشركون بي شيئا.ومن كفر بهؤلاء الخلفاء فهو من الفاسقين.إذا، فكان لا بد أن يتساءل المرء ويقول: لماذا تحدَّث الله أوّلاً عن تهمة الزنى، ثم عن النور، ثم عن الخلافة؟ يجب أن تكون هناك صلة وربط بين هذه المواضيع، وإلا سيقال أن القرآن – حاشا لله - مجموعة من مضامين مبعثرة لا توجد بينها أي صلة على الإطلاق؛ مع أن الكتاب النازل من عند الله العليم الحكيم يجب أن يكون أسمى من هذا العيب.وجدير بالذكر هنا أن الله تعالى حين ذكر الذين يتهمون الآخرين كذبا قال وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).ثم عند الحديث عن الخلافة في نفس هذه السورة قال الله تعالى عن الذين يرفضون الخلفاء..وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).فترى أن الله تعالى قد استعمل هنا لمنكري الخلافة نفس الكلمات ونفس الوصف تقريبًا الذي استعمله في وصف الذين يتهمون الآخرين بالفاحشة.فالذي يؤمن بأن القرآن الكريم كتاب قد أنزله رب حكيم ويكون مطلعا على ما يوجد في مضامينه من ربط محكم وعلاقة وثيقة فلا بد أن يتساءل في قلبه ويقول: ما هي الصلة بين هذه المواضيع الثلاثة؟ وإننا لو تدبرنا في ما بيّنته من قبل بأن الله تعالى قد سلّط بقوله اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...إلخ الضوء على الألوهية والنبوة والخلافة، لانكشفت علينا
الجزء السادس ٤٠١ سورة ة النور الصلة بين المواضيع الثلاثة بكل جلاء.ذلك لأن الله تعالى قد تحدث في قوله تعالى الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...إلخ عن الخلافة حديثا مبدئيا، وبين أنه لا بد للنبوة من خلافة لأنه تعالى يمدّ من خلالها زمن ظهور جلاله ويحفظ بها نوره محفوظا لزمن طويل من أجل منفعة الدنيا.فيتمنى القارئ تلقائيا بأن يوهب هو أيضا هذه النعم، فوعد الله تعالى بتحقيق أمنيته وغيره من المؤمنين فقال (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا...إلخ.مبينا بأنه سيهب لهم هذه النعمة كما وهبها لجماعات الأنبياء السابقين.وهكذا انكشفت علينا صلة طبيعية رائعة بين قوله تعالى الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...إلخ) وقوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا...إلخ)، مما يبعث على الغبطة والسرور ويزيد الإيمان.6 ومع ذلك لا يزال هناك سؤال يحتاج إلى الإجابة ما علاقة موضوع الخلافة بموضوع الفاحشة واتمام الناس بها الذي نوقش في أوائل هذه السورة؟ وما لم نعرف الصلة بين الموضوعين لم يثبت علينا كما ينبغي أن القرآن مرتب ترتيبا محكما.فأبين لكم الآن العلاقة بين أوائل هذه السورة والخلافة.الظاهر أن الموضوع الرئيس في الآيات الأوائل من هذه السورة هو الفاحشة وخاصة إبطال التهمة التي ألصقت بعائشة رضي الله عنها.والآن علينا أن نبحث عن الهدف الذي أراد المتهمون تحقيقه من وراء إلصاقهم هذه التهمة بعائشة؟ طبعا لم يكن وراء ذلك عداء شخصي ضد عائشة، فما مبرّر أن يبغض المرء امرأة جالسة في البيت لا دخل لها في أمور السياسة والحكومة والقضاء وتقسيم المناصب والأموال والحروب والنزاعات والاقتصاد وما إلى ذلك؟ فثبت أنه ليس هناك سبب مباشر لعدائهم عائشة رضي الله عنها.إذا، فهنالك احتمالان فقط وراء إلصاقهم التهمة بعائشة؛ فإما أن تكون هذه للحظة واحدة، ولا حتى التهمة صحيحة، وهو احتمال لا يصدقه أي مؤمن إطلاقًا سيما أن الله تعالى قد فند هذه التهمة الخبيثة من عرشه والاحتمال الآخر أن يكون هؤلاء المنافقون المتهمون يريدون إلحاق الضرر بأناس آخرين.
الجزء السادس ٤٠٢ سورة النور أن والآن علينا أن نفكر في الأشخاص الذين كان بإمكان المنافقين أو كبرائهم ينتقموا منهم بالتشهير بسمعتهم ويحققوا أهدافهم.والقليل من التدبر يكشف لنا أن ثمة شخصين اثنين كان بإمكانهم الانتقام منهما من خلال اتهام ،عائشة وهما الرسول ﷺ وأبو بكر ، إذ كانت زوجة الأول وابنة الثاني.إنهما الشخصان الوحيدان اللذان كان التشهير بسمعتهما يمكن أن ينفع بعض الناس من حيث السياسة أو العداء، أو بتعبير آخر كان بإمكانهم أن يحققوا بعض المآرب والأهداف بالتشهير بهاتين الشخصيتين، إذ لا مبرر أن تكون لهم أي رغبة في التشهير بعائشة رضي الله عنها.لم يكن لها أي خصم إلا ضرائرها، وقد يظن أحد أن ضرائرها قد تآمرن عليها ليُسقطنها في نظر الرسول.ولكن التاريخ يؤكد أن ضرائرها لم يتورطن في هذه القضية إطلاقا، وإذا سئلت إحداهن بهذا الصدد أثنت على عائشة خيرًا.تقول عائشة نفسها كنت أعتبر زينب بنت جحش هي خصمي الوحيد من بين جميع زوجات الرسول ﷺ، ولكني لن أنسى المعروف العظيم الذي صنعته بي زينب، حيث قامت بتفنيد التهمة التي بأشد مما فعلته أي امرأة أخرى (السيرة الحلبية الجزء الثاني ٣١٦-٣١٧: غزوة بني المصطلق).ص لصقت بي إذًا، لم يكن هناك أي سبب أن يعادي هؤلاء المنافقون امرأة، فثبت أنه كان وراء رميهم عائشة بهذه التهمة إما عداؤهم للرسول ﷺ أو بعضهم لأبي بكر.لقد كان الرسول ﷺ يتبوأ منزلة ما كان لهؤلاء أن يطالوها، إنما الخطر الذي كانوا يستشعرونه أنهم ربما لن يستطيعوا تحقيق أهدافهم بعد وفاة الرسول ﷺ أيضًا، إذ كانوا يرون في أبي بكر الله خطرًا يهددهم بعد الرسول ﷺ حيث كان هو الشخص الوحيد الذي كان أهلا لأن يكون خليفة بعده.فاتهموا عائشة رضي الله عنها لتسقط هى في نظر الرسول الله وبالتالي يفقد أبو بكر المكانة المرموقة التي ﷺ يتبوءها في نظر المسلمين فيتبرءون منه ولا يكنون له الحب والاحترام اللذين يبدونهما نحوه وبالتالي لا يبقى هناك أي إمكانية ليخلف هو الرسول ﷺ بعد وفاته.ولهذا السبب قد ذكر القرآن الكريم موضوع الخلافة بعد الحديث عن واقعة الإفك.
الجزء السادس ٤٠٣ سورة النور فقد ورد في الحديث صراحة أن الصحابة كانوا يقولون فيما بينهم خلال حياة الرسول ﷺ إن أبا بكر أفضل الناس بعد الرسول (أبو داود: كتاب السنة، باب في التفضيل).كما ورد أن النبي ﷺ قال لعائشة مرة: يا عائشة لقد وددت أن أعين أبا بكر خليفة بعدي، ولكني أعلم أن الله تعالى والمؤمنون لن يرضوا بسواه، فلم أكتب شيئا.(مسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل أبي بكر ) إذا، فالصحابة كانوا موقنين أن أبا بكر أفضل الناس بعد الرسول وهو الأجدر بخلافته.ذلك أنه لم يكن في الفترة المكية أي حكومة ولا نظام، ولكن بعد هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة قامت الحكومة الإسلامية، وكان طبيعيا أن يخاف المنافقون من أن يخلف أحد بعد الرسول الله فيطول زمن الحكم الإسلامي فيهلكوا للأبد.ذلك لأن هجرة الرسول ﷺ كانت قد خيبت الكثير من آمالهم، إذ الثابت من التاريخ أنه كان في المدينة قبيلتان عربيتان الأوس والخزرج، وكان أبناؤهما يتحاربون ويسفكون الدماء فيما بينهم دائما.فلما رأوا أن الحرب بينهم قد أدت إلى زوال هيبتهم بين الناس قرروا الهدنة والتصالح واتفقوا على أن يتخذوا أحدا من بينهم سيدا عليهم.فقرروا أن يكون عبد الله بن أبي بن سلول ملكا عليهم، فأخذوا يستعدون لذلك وأمروا بصناعة تاج لعبد الله بن أبي بن سلول.وفي تلك الأيام ذهبت قافلة من حجاج المدينة إلى مكة، وعندما عادوا ذكروا أن نبي آخر الزمان قد ظهر بمكة وأنهم قد بايعوه فأخذ الناس يتكلمون حول دعوة الرسول ﷺ وبعد بضعة أيام ذهبت مجموعة أخرى إلى مكة وبايعت على يد الرسول ﷺ والتمسوا منه أن يبعث معهم معلما يقوم بتربيتهم وينشر الدعوة بينهم.فبعث الرسول ﷺ أحد صحابته معهم ليقوم بالدعوة بينهم، فدخل كثير من أهل المدينة في الإسلام.وكان الرسول وصحابته في تلك الأيام عرضة لصنوف التعذيب والاضطهاد، فالتمس منه أهل المدينة أن يهاجر إليهم.فهاجر النبي مع صحابته، وحرم عبد أبي بن سلول من التتويج، إذ قد وجدوا سيد الكونين فلم يعودوا بحاجة إلى أي ملك آخر.فلما رأى عبد الله بن أبي بن سلول أنه لم تعد هناك أي إمكانية لتتويجه استشاط غضبا ورغم أنه أسلم بالظاهر إلا أنه ظل يعمل جاهدا لعرقلة طريق الله بن
الجزء السادس ٤٠٤ سورة النور الإسلام.ولما فشل في ذلك لم يعد أمامه إلا أن يتمنى وفاة الرسول ﷺ فيصبح هو ملكا على المدينة.ولكن الله تعالى خيب أمنيته هذه أيضا لأن ابنه كان مؤمنًا مخلصًا، وهذا يعني أنه لو صار عبد الله ملكا لعاد الحكم بعد موته إلى الإسلام ثانية من خلال ابنه الذي كان مؤمنًا مخلصا.(البخاري: كتاب التفسير، سورة آل عمران، ذلك، والسيرة النبوية لابن هشام الجزء الثاني : نبذ من ذكر المنافقين، وبدء الأنصار، والعقبة الأولى) كما خيب الله تعالى آماله بطريق آخر أيضًا، وذلك أنه بمجرد أن قام بين المسلمين النظام الجديد من خلال النبي أخذوا يسألونه عن شتى الأمور بما فيها كيف يكون نظام الحكم في الإسلام؟ وماذا يحدث بالإسلام بعد وفاته ؟ وماذا على المسلمين فعله بهذا الصدد؟ فأوجس عبد الله بن أبي بن سلول خيفة من ورأى أنه لن يكون له أي نصيب في الحكومة الإسلامية التي ستقوم على هذا المنوال، فأراد أن يغير مجرى الأحداث.فلما أمعن النظر وجد أنه إذا كان أحد أهلاً لإدارة الحكومة وفق المبادئ الإسلامية فهو أبو بكر ، وهو الوحيد الذي تتجه إليه أنظار المسلمين بعد الرسول الله ويحترمونه أكثر من أي شخص آخر.فقرر التشهير بسمعة أبي بكر الله ليسقطه في أعين الناس وفي عين النبي أيضا.فلم يزل يتحين الفرص لتحقيق مآربه الخبيثة حتى وجدها في تخلّف عائشة رضي عنها في تلك الغزوة.فاتهمها بتلك التهمة الشنيعة البشعة التي قد اكتفى القرآن الكريم بالإشارة إليها، ولكنها مذكورة في الأحاديث بالتفصيل.وكما قلت كان هذا يستهدف بذلك أن يهين أبا بكر له في أعين الناس وأن تفسد علاقاته بالنبي ﷺ وبالتالي يحول دون ذلك النظام الذي كان يراه أمرًا يقينيًا والذي يرى في قيامه خيبة لآماله.الله و لم يكن عبد الله بن أبي بن سلول هو الوحيد الذي كان يحلم بتولي الحكم بعد الرسول ، بل كان هناك أناس آخرون مصابون بهذا الهوس.فقد ورد في الحديث أن مسيلمة الكذاب جاء النبي ﷺ وقال له: عندي ألف محارب وأريد أن أبايعك مع هؤلاء.فقال له النبي : إن الإسلام لا يفرّق بين الصغير والكبير، وإذا كان الحق قد انكشف عليك فيمكنك أن تبايع.قال : إنني أريد البيعة ولكن بشرط.قال :
الجزء السادس ٤٠٥ سورة ة النور وما هو؟ قال: إنك اليوم ملك على العرب، ولكن قبيلتي هي أقوى القبائل العربية، لذا فأبايعك على أن يكون لي الحكم بعدك.وكان في يد النبي ﷺ قطعة فقال: تقول إنك تبايع محمدا رسول الله إذا جعلك خليفة بعده؟ ولكني لست جريد، مستعدًا حتى لأعطيك قطعة جريد هذه خلاف حكم الله تعالى.فرجع مسيلمة ساخطا وأخذ يعادي الإسلام بكل قومه.إذًا، فإن مسيلمة الكذاب قد تمنى الملك بعد الرسول ﷺ كما فعل عبد الله أبي بن سلول أيضا والمنافق يرى موته بعيدا وموت الآخرين قريبا، وهذا ما فعل عبد الله بن أبي بن سلول، فرأى موته بعيدا دون أن يدري أن الموت المرير سيفاجئه في حياة الرسول.كان يتمنى أن يموت الرسول ﷺ ليكون له الملك بعده على العرب، ولكنه وجد الآن أن المسلمين يعظمون أبا بكر لصلاحه وتقواه، وأنه يصلي بالناس كلما لم يأت الرسول ﷺ للصلاة، ويستفتونه في المسائل إذا لم يجدوا فرصة سؤال الرسول.فحزن عبد الله بن أبي بن سلول، فأراد أن يضع حدا لهذا الوضع.فاتهم عائشة - رضي الله عنها - بتلك التهمة البشعة ليكرهها النبي ، فيؤدي ذلك إلى سقوط أبي بكر في أعين النبي ﷺ ويحط قدره بين المسلمين أيضًا، فلا يكون هناك أي إمكانية لخلافته بعد الرسول.وقد بين الله تعالى هذا الأمر في قوله إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئَ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ...أي أن الذين رموا عائشة بالتهمة كذبًا هم مجموعة منكم، ولا تظنوا أن هذا الأمر سيأتي بنتيجة سيئة، بل سيؤدي إلى خيركم ورقيكم.فها نحن نبين لكم نص الحديث هو: "قَدمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ، فَجَعَلَ يَقُولُ: جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبَعْتُهُ.وَقَدمَهَا في بَشَر كَثِير مِنْ قَوْمَهُ.فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّه وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسِ وَفِي يَد رَسُول الله ﷺ قِطْعَةٌ جَرِيدٍ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابهِ، فَقَالَ: لَوْ سَأَلْتَني هَذه الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا.وَلَنْ تَعْدُوَ أَمْرَ اللَّه فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرَّتَ لَيَعْقَرَنَّكَ اللَّهُ.وَإِنِّي لأَرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ." (البخاري: كتاب المغازي، باب وفد بني حنيفة) (المترجم)
الجزء السادس ٤٠٦ سورة النور القواعد والضوابط بشأن الخلافة، ونخبركم سلفا أن المنافقين سيسعون جاهدين للحيلولة دون قيام الخلافة، ولكنهم يفشلون فشلا ذريعا، وسنقيم الخلافة فيكم يقينًا، لأنها جزء من النبوة ووسيلة لحماية النور الرباني.وكل من هؤلاء المتهمين سينال العقاب بقدر تورطه في الجريمة.وبالفعل قد جُلد كل واحد من هؤلاء المتورطين في هذه المؤامرة.أما الذي كان له فيها ضلع أكبر وكان الرأس المدبر لها، فلن نكتفي بجلده بالسياط على أيدي الناس، بل سنعذبه أيضا.وبالفعل قد جُلد عبد الله بن أبي أبي بن سلول بالسوط (السيرة الحلبية الجزء الثاني ص: ٣١٨: غزوة بني المصطلق).كما نال العذاب من الله تعالى حيث مات في حياة النبي ﷺ خائبا خاسراً.كما نال هذا العقاب بطريق آخر وهو أنه في غزوة بني المصطلق تنازع الأنصار والمهاجرون على أمر بسيط، فتدخل عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يتحين مثل هذه الفرص دائما، فقال للأنصار : يا أيها الأنصار ، لم يحدث ما حدث إلا بأخطائكم.لقد آويتم هؤلاء المهاجرين، وقد ركبوا الآن أعناقكم.دَعُوني أَصل إلى المدينة، فترون أن أعزّ شخص فيها – يعني نفسه – سيُخرج أذل شخص فيها - رسول الله ﷺ - والعياذ بالله.وكان ابن عبد الله بن أبي بن سلول مؤمنا مخلصا جدًّا، فلما سمع هذه الكلمات ثارت حفيظته، وأسرع إلى النبي وقال : يا رسول الله، لقد قال أبي كذا وكذا، وأرى أن عقابه ليس إلا القتل."فإن يعني محمدا كنت فاعلاً فمُرْني...فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا.وإني لأخشى، يا رسول الله، أن تأمر به غيري فيقتله فلا تَدَعُني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله...فقال رسول الله : ما أردتُ قتله ولا أمرت به"، بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.وبرغم أن النبي قد عفا عنه إلا أن ابنه كان يحترق كمدًا، لأن أباه قد أساء للنبي ﷺ بتلك الكلمة الخبيثة النجسة إساءة كبيرة، فقرر الانتقام من أبيه فلما اقترب الجيش المسلم من المدينة تقدّم ابنه الناس ووقف عند باب المدينة شاهرا السيف وقال لأبيه : والله لن أدعك تدخل المدينة ما لم تعترف بلسانك بأن محمدا رسول الله ﷺ أعز إنسان في المدينة، وأنك أذلُّ شخص فيها، وإذا لم تقرّ بذلك فسأقطعك بسيفي هذا إربا.فلما سمع عبد الله بن
الجزء السادس ٤٠٧ سورة ة النور أبي بن سلول كلام ابنه خاف خوفًا شديدا، فأقرّ عند باب المدينة أمام الناس وقال: أيها الناس ها أنا أعترف أمامكم أني أذل شخص في المدينة وإن محمدا رسول الله ﷺ أعز إنسان فيها.فخلى ابنه سبيله وسمح له بدخول المدينة.(السيرة الحلبية الجزء الثاني ص ٣٠١-٣٠٦ : غزوة بني المصطلق) فهذا عذاب آخر أذاقه الله تعالى هذا الشخص على يد ابنه.الله وبعد ذكر هذه التهمة التي ألصقها عبد الله بن أبي بن سلول بعائشة رضي عنها للحيلولة دون قيام الخلافة قال الله تعالى اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّي....إلخ..أي أن الله نور السماوات والأرض، والنبوة تكمل هذا النور، والخلافة هي السبيل إلى نشر النور الإلهي في العالم والحفاظ عليه فترة طويلة.وكأن النبوة غطاء زجاجي يحمي ذلك النور من العواصف والرياح، أما الخلافة فهي العاكس الذي يوصل هذا النور بعيدا.ثم يقول الله تعالى: لن ندع مكائد المنافقين لتنجح في إفساد هذه الوسيلة العظيمة لنشر النور الإلهي في العالم، بل سنحافظ عليها ليبقى نورنا في الدنيا لمدة طويلة.وهناك دليل آخر على أن النور المذكور في هذه الآية هو نور الخلافة، قال الله تعالى في الآيتين التاليتين عن مكان ذلك النور فقال في بُيُوتِ أَذنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ..أي أن نور الخلافة هذا يوجد في بعض البيوت.إن نور النبوة لم يوجد إلا في بيت واحد، أما نور الخلافة فيوجد في بعض البيوت.إنها بيوت بسيطة في أعين الناس، ولكن الله تعالى قد قرر أن يرفعها، ذلك لأن النبوة بعد الخلافة ترفع العائلة التي يكون منها الخليفة.لقد بينت هذه الآية أن الله تعالى يتحدث هنا عن نور الخلافة، مبينا أن نور الخلافة وثيق الصلة بنور النبوة ونور الألوهية، وأن القضاء على نور الخلافة هو بمثابة القضاء على النورين الآخرين، لذا فلن نسمح لأحد بإطفائه، وسنجلّي هذا النور من خلال بيوت عديدة لكي يمتد زمن نور النبوة وبالتالي زمن ظهور الأنوار الإلهية.وهو ما مكانة
الجزء السادس ٤٠٨ سورة ة النور وبالفعل صارت الخلافة إلى أبي بكر أولاً، ثم إلى عمر، ثم إلى عثمان، ثم إلى الله علي - رضي عنهم - لأن الله تعالى أراد لتلك البيوت أن تُرفع.علما أن كلمة ترفع هنا تدل على أن هؤلاء المتهمين كانوا يستهدفون أساسا الحط من شأن هؤلاء الرجال بين القوم، ولكن الله قرر أن يرفع شأنهم؛ وإذا أراد الله تعالى إعزازهم فلن يضرهم اتهام متهم.هكذا ترى أن الله تعالى قد بيّن في سورة النور من بدايتها إلى نهايتها موضوعًا واحدًا، فأولاً تحدّث عن التهمة التي ألصقت بعائشة، ثم بين هدفهم الأساس وراء هذه التهمة وهو أن يُخزوا أبا بكر ويفسدوا ما بينه وبين الرسول ﷺ من علاقات طيبة، فينحط أبو بكر في أعين المسلمين، وبالتالي لا يستطيع أن يخلف الرسول.ذلك لأن عبد الله بن أبي بن سلول كان قد أدرك أن المسلمين لا يتطلعون إلى أحد بعد الرسول إلا لأبي بكر، ولو أن أبا بكر صار خليفة، فلن تتحقق أحلامه بالملك.ومن أجل ذلك ذكر الله تعالى الخلافة مباشرة بعد ذكر تلك التهمة، موضحًا أن هذه الخلافة ليست ملوكية، إنما هي سبب لقيام نور الله تعالى، وأنه تعالى قد تولى بنفسه إقامة الخلافة، وأن ضياعها هو بمنزلة ضياع نور النبوة ونور الألوهية؛ فلا بد أن يقيم الله تعالى هذا النور ويختار من يشاء خليفة، بل إنه تعالى يعد المسلمين بأنه لن يستخلف منهم خليفة واحدا، بل سيهب هذا المنصب لعدة أشخاص لكي يمتد هذا النور زمانًا.فمهما أثرتم التهم فلن تستطيعوا القضاء على الخلافة، ولن تقدروا على حرمان أبي بكر منها، لأن الخلافة نور، وأنى للإنسان أن يطفئ بمكائده نورا هو وسيلة لظهور الله تعالى.فترى أن هذا الشرح يكشف لنا ارتباطًا محكما بين جميع آيات سورة النور، فنجد بين مضمون الآيات الأوائل من هذه السورة وبين قول الله تعالى اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وبين الآيات التي تليه ترابطًا قويًا، وتتراءى لنا مضامين هذه السورة كالمرآة الصافية.
الجزء السادس = ٤٠٩ سورة النور إذا، فالخلافة إنعام ربّاني ليس بوسع أحد أن يحول دونه.إنها وسيلة لقيام نور الله تعالى في الأرض، ومن أراد القضاء عليها فإنما يريد إطفاء نور الله تعالى.إن قيام الخلافة وعد يتحقق حتمًا، ولكن طول زمنها يتوقف على إخلاص المؤمنين.ثم يقول الله تعالى لا شَرْقِيَّة وَلا غَرْبيَّة.والشجرة الشرقية هي تلك التي تطلع عليها الشمس من المشرق فقط، ولا تصل إليها أشعتها من جهة الغرب لوجود حاجز أو شجرة أخرى.أما الشجرة الغربية هي تلك التي تصل إليها أشعة الشمس من المغرب دون المشرق.وقد بيّن الله تعالى بذلك (أولا) أن الشريعة الإسلامية ذات طابع عالمي، فلا تختص بأهل الشرق وحدهم ولا بأهل الغرب وحدهم، بل هي لكل قوم ولكل زمن وتفتح أبواب الرقي لأبناء الجنس البشري كلهم.فلا يمكن للدنيا أن تتمتع بأمن بدون العمل بتعاليم القرآن الكريم.و(ثانيا) قد نبه الله تعالى إلى أنه يجب على المسلمين أن لا ينحازوا عند انتخاب الخليفة إلى الشرق ولا إلى الغرب، بل ينبغي اختيار أجدر شخص بينهم خليفة لهم.ثم يقول الله تعالى يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ..أي أن زيت هذه الشجرة سريع الاشتعال لدرجة أنه مستعد للاشتعال وحده بدون نار.أما إذا أضيء بالنار فيصبح نوراً على نور.والمراد أن هذا التعليم كامل لدرجة أن الفطرة السليمة تهفو إليه من تلقائها أما إذا ظهر نبي من عند الله تعالى ولمسته نار الوحى فإن الفطرة السليمة تضيء العالم بأسره من خلال العمل بهذه الشريعة وبفضل صحبة النبي.بيد أن الله تعالى يوضح هنا أن هذا النور لا يُكتسب بالجهود البشرية، وإنما يناله المرء بفضل الله تعالى، والله يعطى فضله من يشاء ويفصل دينه دائما لفائدة الإنسانية والله بكل شيء عليم.
الجزء السادس ٤١٠ سورة النور وو في بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِهِمْ تَجَرَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ۳۷ ذِكْر اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَوَة وَإِيتَاءِ الزَّكوة تَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَرُ (٥) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا قالے ۳۹ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ، وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) شرح الكلمات: الغُدُو : جمعُ الغُدوة وهي البكرة.كما أن الغُدُوِّ مصدر (الأقرب) الأصال: جمع الأصيل وهو وقت ما بعد العصر إلى المغرب.(الأقرب) التفسير: يبين الله تعالى هنا أن هذا النور موجود في بيوت أراد الله تعالى أن يرفعها.وطبعا لا يعني رفعها أن الله تعالى سيجعلها عالية معلقة في الفضاء، بل المراد أنه سيرفع درجات أهلها ويكتب لهم عزا وصيتًا أبديين.العجيب أن لفظ الرفع إذا ورد بحق المسيح الناصري اللي يقول المفسرون أنه معناه أن الله تعالى رفعه بجسده العنصري (البحر المحيط).لقد استعمل الله تعالى لفظ الرفع هنا بحق بيوت أصحاب الرسول ولا أحد من هؤلاء المفسرين يقول أنه أن الله تعالى سيحمل تلك البيوت إلى السماء، أو يجعلها معلقة في الفضاء، بل كل واحد يفسره بمعنى رفع درجاتها.إذا، فلا بد من تفسير الرفع الوارد في حق المسيح بنفس المعنى، أي أن الله تعالى أعزّه ونجاه من ميتة اللعنة التي أرادها له يعني اليهود.ثم يقول الله تعالى (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال.والغدو هنا يعني الدخول في الصباح، إذ هناك صلاة واحدة في الصباح وهي الفجر.وقد جاءت مقابل الغدو كلمة الأصال - وهي جمع الأصيل - لأن الصلوات التي هي في المساء أكثر من
الجزء السادس ٤١١ سورة ة النور واحدة، فهناك صلاة الظهر التي وقتها بعد الزوال والعصر والمغرب والعشاء التي مواعيدها قريبة من المساء.يعني أما قول الله تعالى رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وإيتاء الزكاة فبين فيه أن انشغال هؤلاء الرجال بذكر الله تعالى لا أهم لا يباشرون أعمال الدنيا كالزراعة وغيرها، بل المراد أنه برغم أنهم يمارسون التجارة والزراعة والصناعة وغيرها من المهن والحرف ولكن قلوبهم تظل مشغولة بذكر الله تعالى ولا تزال آذانهم بانتظار نداء الصلاة وبمجرد أن يصل صوت المؤذن إلى أسماعهم يتركون تجارتهم وزراعتهم ويسارعون إلى المسجد.وأما بالليل فلا يقول أحدهم لقد كنت أعمل طوال اليوم أعمالا شاقة مثل الحراثة وما إلى ذلك، ولا بأس في أن أظل نائما ولا أستيقظ للصلاة، بل كلما حان وقت صلاة التهجد تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويهبون فورا لذكر الله وعبادته.مما لا شك فيه أن الدين بحاجة إلى الذين ينذرون حياتهم كلية لخدمته، ولكن الذي يقضي جميع أوقاته وفق مشيئة الله تعالى، ويظل مستعدا لتلبية ندائه في كل الله حين وفي أي ساعة فهو الآخر سُيُعَدّ من الذين نذروا حياتهم في سبيل دين تعالى، إذ إنه يمارس التجارة لأن الله تعالى أمره به ويقوم بالزراعة لأن الله تعالى أمره ه به، ويشتغل بأي حرفة أو مهنة أخرى لأن الله تعالى أمره به، فتصبح تجارته وزراعته وصناعته مصداقا لقوله تعالى لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله.إنه ليس كالذين إذا بلغهم نداء من الله تعالى يقول الواحد منهم في نفسه كيف ألبي نداء الله تعالى وهو سيضرّ بتجارتي أو زراعتي؟ كلا، بل لا هم له إلا أن له إلا أن يلبي نداء الله تعالى.فهو لا يفكر عند النداء الإلهي أنه تاجر أو مزارع أو صانع، بل يفكر أنه جندي من جنود الله تعالى من أول يومه، وأنه يعيش على ما يؤتيه من راتب، وقد حان أن يحضر ويقدم نفسه في سبيل الله تعالى، ومن أجل ذلك فإنه برغم قيامه بتجارته أو زراعته أو غيرهما سيُعَدُّ من الذين قد نذروا حياتهم في سبيل الله تعالى.ولكن الذي لا يتصرف هكذا، بل كلما وقع في أذنه النداء من الله تعالى أو ممن ينوب عنه من الذين اختارهم الله تعالى، انقبض صدره لهذا النداء، فلا يقول في
الجزء السادس ٤١٢ سورة النور نفسه: ها قد جاء الوقت الذي كنت أنتظره، بل ينقبض قلبه من التضحية ويستاء منها، ومثل هذا الإنسان لا يُعد من جنود الله تعالى.ولكشف هذه الحقيقة نفسها على الإنسان قد فرض الله عليه الصلوات الخمس.فإنه تعالى يختبره خمس مرات يوميا، ليكشف عليه حقيقة إيمانه في كل مرة.فإذا رفع المؤذن صوته خمس مرات في اليوم قائلا: حَيَّ على الصلاة، حَيَّ على الصلاة، فأخذت أيدي هذا الإنسان ترتعش وجسمه يرتعد ونسي أنه تاجر أو مزارع أو صانع أو موظف أو نجار أو بناء أو حداد، وتذكر شيئا واحدا وهو أنه جندي من جنود الله تعالى؛ فعندها - وعندها فقط – يُعدّ صادقا في دعوى الإيمان.أما إذا لم تستول عليه هذه الحالة، بل سمع نداء الله تعالى "حي على الصلاة"..أي تعال يا عبدي لعبادتي، وسوست إليه نفسه بأن لا بأس في أن يتعامل مع اثنين أو ثلاثة من الزبائن ويكسب المزيد من المال، ويقول كما يقول البعض لا داعي لأن أصلي في المسجد سأصلي هنا، أو بالفعل لا يصلي في المسجد بل يصلي في البيت أو المحل، فليعلم أن الله تعالى قد كلما - امتحنه خمس مرات وقد فشل في الخمس مرات كلها.لقد كان الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين - يسعون للتقدم في ذكر الله تعالى سعيًا بلغ حد الوله والشغف.فقد ورد في الحديث أن بعض فقراء المسلمين جاءوا النبي ﷺ وقالوا له : إن إخواننا الأثرياء يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويحجون كما نحج، ولكنا، يا رسول الله لا نستطيع أن نعطي الزكاة والصدقات والتبرعات كما يفعلون، وهكذا فإنهم يسبقوننا في مجال الحسنات.فدلنا على طريق إذا اتبعناه سبقناهم في الخيرات.فقال النبي : حسنًا، ها إني أدلكم على عمل لو قمتم به دخلتم في الجنة قبل إخوانكم الأثرياء بخمس مئة عام، قالوا: ما هو ؟ قال : قولوا بعد كل فريضة: "سبحان الله" ٣٣ مرة، و"الحمد لله " ٣٣ مرة، و"الله أكبر" ٣٤ مرة.فخرجوا من عند رسول الله ﷺ فرحين بأنهم سيسبقون الآن إخوانهم الأثرياء.ولكن بعد بضعة أيام حضر وفدهم النبي وقالوا: لقد ظُلمنا ظلمًا عظيمًا.قال : كيف؟ قالوا: قد اطلع إخواننا الأثرياء على ما علمتنا وأخذوا يذكرون الله
الجزء السادس ٤١٣ سورة ة النور تعالى بعد كل صلاة كما علمتنا، فماذا نفعل الآن؟ فقال النبي : إذا كان هؤلاء متحمسين لفعل الخير لهذه الدرجة فكيف أمنعهم من ذلك؟ (مسلم: كتاب المساجد) وجدير بالذكر هنا أن الله تعالى قد ذكر هنا التجارة والبيع على حدة، مع أنه ليست هناك تجارة بدون بيع.والحكمة في ذلك أن الإنسان ينتفع في بعض المعاملات من الجهتين أي من التجارة ومن الشراء كليهما، وهذا يسمى تجارة، أما المعاملة التي لا يشتري فيها المرء شيئا بل يعطي ما عنده للطرف الآخر فتسمى بيعا، مثل المزارع أو الصانع الذي يبيع محاصيله ومنتوجاته للطرف الآخر، فالواقع أنه يقوم بالبيع وليس الشراء، ولذلك ذكر البيع هنا مع التجارة؛ وكأن الله تعالى يقول هنا أن هؤلاء قوم لا تلهي التاجر منهم ،تجارته سواء أكان يبيع البضائع المحلية أو يقوم بالاستيراد والتصدير، ولا تمنع المزارع منهم زراعته، ولا الصانع منهم صناعته، ولا الحرفي منهم حرفته عن الصلوات ولا عن أداء الزكاة.إنهم يباشرون التجارة والزراعة ويقومون بأعمالهم ووظائفهم عائشين بين أهل الأرض، ومع ذلك يكونون في السماء أيضا، لأن قلوبهم معلقة بالله تعالى يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، ويوم يفرّ الناس هنا وهناك خائفين مذعورين عندما يرى الجاهل عندهم المال يظن أنهم يحبّون المال حبًّا جما، ولكن الدليل على كونهم من أهل السماء أنه كلما بلغهم نداء الله تعالى تركوا كل عمل وأسرعوا ملبين النداء الرباني؛ وهكذا يؤكدون بعملهم أن الله هو غايتهم الحقيقية وأن دنياهم لا تقف عقبة في سبيل دينهم، وإنما يكسبون الدنيا ليتمكنوا من خدمة دينهم بشكل أفضل وبطمأنينة أكثر.وليكن معلوما أن شتى الطوائف الدينية في العالم تقدم ثلاث نظريات لرقي الناس كالآتي: النظرية الأولى: إن بعض الطوائف ترى أن الدين يعني أن يترك الناس مشاغل الدنيا كلية وأن يقضوا أوقاتهم كلها في أمور الدين.وقد أصبح أصحاب هذه النظرية فرقة من المتصوفين، أو أنهم أصبحوا فاشلين في أن يطبقوا ما يدعون إليه.
الجزء السادس ٤١٤ سورة ة النور فتجد كثيرا من الدراويش من الهندوس ومن غيرهم ينهون الناس عن كسب الدنيا وعن إنشاء المصانع وعن أعمال التجارة والزراعة وغيرها من شؤون الدنيا، ظانين أن على المرء أن يكف عن جميع مشاغل الدنيا ويقضي عمره كله في ذكر الله وحبه تعالى.ولكن أتباع هذه الطوائف لم يتجاوزوا الآلاف أو مئات الآلاف، لأن ما يدعون إليه يتنافى مع الفطرة الإنسانية.وإذا كانت بعض هذه الطوائف قد تقدمت وازدهرت فإنما ازدهرت مُعْرِضةً عن تعاليمها لا عاملة بها.فمثلا يُقال إن المسيح ال قال لرجل: "إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء".(متى ۱۹: ۲۱) ويقال إنه قال لحوارييه: "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله متى (۱۹ (٢٤).وقال لهم في مناسبة أخرى: "لا تكنزوا كنوزا على الأرض حيث يُفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء، حيث لا يُفسد سُوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون".(متى ٦: ١٩-٢٠) هذا هو تعليم المسيح الا كما ورد في الأناجيل الحالية.ومما لا شك فيه أن المسيحيين قد كثروا وازدهروا في الدنيا ازدهارا كبيرا، ولكن علينا أن نرى هل حققوا هذا الازدهار نتيجة عملهم بهذا التعليم أم نتيجة رفضهم له واتخاذهم إياه مهجورًا؟ وكل من عنده ذرة من الفطنة إذا فكر قليلا وجد أن المسيحيين لم يحققوا الرقي عاملين بهذه التعاليم وإنما حققوه معرضين عنها.لا شك أن الشعوب المسيحية الأوروبية هى اليوم أكثر أهل الدنيا مالا وصناعة وتجارة وزراعة وحرفة وفنونا، كما نعترف أن المسيحية قد ازدهرت ازدهارا كبيرا، ولكنهم إنما حققوا كل هذا التقدم ضاربين ما ينسب إلى المسيح الله من تعليم عرض الحائط لا عاملين به إطلاقا.النظرية الثانية: وهناك بعض الطوائف التي تقول أن لا علاقة للدين بكسب المال وجمع الثروة، وإنما ينحصر مجال الدين في العقيدة فقط، ولا يهمه ماذا يكسب
الجزء السادس ٤١٥ سورة النور الناس وبأي طريق يكسبون.لا شك أن هذه الطوائف أيضا قد أحرزت تقدما في الدنيا، ولكن دينها أصبح كعشب ذابل لا شك أن هذه الطوائف قد حققت رقيا ماديا عظيما، ولكن بسب نظريتها لم تبق في أيدي أتباعها إلا الدنيا فقط، و لم يبق لهم أي صلة بالدين.النظرية الثالثة: هناك نظرية ثالثة تتنافى مع النظريتين الأوليين يقدمها الإسلام لأبناء الجنس البشري.فيقول الإسلام إننا لا ننهاكم عن كسب الدنيا، بل إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي سمى المال "فَضل الله" (الجمعة:١١)، موضحًا أن تيسر المال أيضًا فضل من أفضال الله ونعمة من نعمه تعالى.ولو نهي الإسلام عن التجارة والزراعة والصناعة والحرفة، لكان معنى ذلك أنه يريد أن تدخل فئة من الناس في هذا الدين ولا يرى بأسًا إذا لم يدخل باقى الناس.وأبين قصدي بالمثال.لا شك أن الملاحة البحرية هي أهم شعبة في التجارة العالمية، ولو أن الإسلام نهى عن صناعة السفن والإبحار لم يكن هناك بد من أحد الأمرين.فإما تنتهي الرحلات البحرية، فكان ذلك ضربة قاضية على المدنية والحضارة؛ أو أن نسلم أن لا بأس إن لم يدخل في الإسلام الذين يصنعون السفن أو يبحرون بها؛ أو أن لا بأس لو ظل الهندوس والنصارى غير مسلمين، لأنه لا بد لهم من الامتناع عن هذه الصناعة إن أرادوا الدخول في الإسلام.وهذا خلاف للعقل وحرمان متعمد لشريحة من شرائح الناس من قبول الإسلام، وهذا لا يجيزه الدين.ثم هناك أعمال التنقيب والتعدين التي تدعم اقتصاد البلد دعما عظيما، ولو أن الإسلام أراد أن ينهى الناس عن كسب المال لمنعهم من العمل في مجال التنقيب والتعدين أيضًا، إذ يدر هذا العمل عليهم بمال كثير أو قال الإسلام أن لا بأس إن لم يدخل أصحاب المناجم في الإسلام، أو قال أن حفر المناجم ممنوع لأن هذا يضر بالدين.ونفس الحال بالنسبة لاستيراد البضائع من الخارج، وهي تجارة رابحة جدا وبإمكان المرء أن يكسب بها الملايين، ولكن لا يمكن أن يمارسها إلا كبار التجار، فمثلاً لو كان عند المرء خمسون ألف روبية فأيضا لا يمكن أن يمارس هذه التجارة،
الجزء السادس ٤١٦ سورة النور إذ لا يمكنه بهذا المال استيراد البضائع بمقدار كاف من إنجلترا مثلاً أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو الصين أو اليابان لأن كل البضائع المستوردة تأتي على السفن وليس بوسع أي تاجر عادي أن يخاطر بذلك.لذا لا يستورد البضائع من الخارج إلا التجار الكبار الذين عندهم مئات الآلاف والملايين بل أكثر من ذلك من الأموال.فلو حرّم الإسلام كسب المال لم يكن أمامه بد من أحد الأمرين؛ فإما أن يعلن أنه لا بأس إن لم يدخل في هذا الدين من يمارسون هذا النوع من التجارة لأنها محرمة عند الإسلام أو يعلن أن على جميع الناس أن يدخلوا في الإسلام وينتهوا عن هذه التجارات، فلا يستوردوا أي بضائع من الخارج لأن هذا خلاف الإسلام.ولكن هذين الأمرين كليهما خلاف للعقل، إذ لا يمكن أن تتوقف هذه التجارات، كما لا يمكن أن يقال للذين يمارسونها أن لا حاجة بهم أن يدخلوا في الإسلام بل أن يظلوا على دينهم هندوسا كانوا أو سيخا أو نصارى.فمثلا لو جاءنا بوسعهم - صاحب مصنع يريد قبول الإسلام، فإما أن نقول له في هذه الحالة – أن يغلق مصنعه ليدخل في الإسلام، أو نقول له أن لا يدخل في الإسلام بل يظل هندوسيا أو سيخا أو مسيحيا لأن إغلاق مصنعه سيؤدي إلى كثير من المشاكل.خذوا مثلا مصنع السيارات، فإن صنع سيارة واحدة يكلف ما بين أربعة آلاف إلى عشرين ألف روبية، ولا يمكن لأحد أن يدير مصنع سيارات إلا إذا كان عنده عشرات الملايين.ولو أن الإسلام لم يسمح بكسب المال وجاء إلينا صاحب مصنع سيارات يريد الدخول في الإسلام لما كان لنا بد من أن نقول له: لا تُسلم لأنك إذا أسلمت اضطررت لإغلاق مصنعك وهذا سيضر بالناس كثيرا؛ أو نقول له: عليك أن تتوقف عن صنع السيارات وتغلق مصنعك وكلا الأمرين غير جائز في الإسلام.وعليه فلا بد لنا من الاعتراف بأن إيقاف الصنعة والحرفة والتجارة أمر مستحيل، كما لا يجوز لنا الحيلولة دون قبول الناس للإسلام؛ فلا بد من أن نختار طريقا وسطا لكي تزول هذه المشاكل، فلا يتضرر تمدن الناس ولا حضارتهم، كما لا يُحرم أحد من الدخول في الإسلام.ومن أجل ذلك قدّم الإسلام قواعد معينة فيما يتعلق بكسب المال، موضحا أننا لا نمنع الناس من كسبه، بل بإمكانهم أن يمارسوا
٤١٧ الجزء السادس سورة النور تجاراتهم ويباشروا صناعاتهم ويشتغلوا بحرفهم ولكن لا بد لهم من الالتزام ببعض القواعد والشروط، لكي لا يتضرر الدين كما لا تزداد مشاكل الناس.إن التعليمات التي يعطيها الإسلام بصدد كسب المال أو الاحتفاظ به بعضها يتعلق بالتجارة والصناعة بشكل خاص، وبعضها يتعلق بأي نوع من المال يكون عند المرء اكتسبه بالتجارة والصناعة وبغيرهما.والشرط الأول الذي يضعه القرآن الكريم هو أن الناس إذا أرادوا كسب المال مع إسلامهم فيجب أن لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذكر الله..أي يجب أن لا تحول هذه المشاغل دون العمل بدينهم.فيقول الإسلام للإنسان بوسعك أن تكسب المال وتباشر صناعتك وحرفتك، ولكن عليك أن تتذكر أنه لا بد لك من أن تحضر المسجد خمس مرات للصلاة.ويقول لمن أراد أن يمارس التجارة: لا مانع لك من ممارسة التجارة، ولكن عليك أن تتذكر أنه لا بد لك أن تغلق محلك خمس مرات يوميا لتأتي إلى المسجد للصلاة.وفي أيام الصيام يجب أن تصوم ولا تقول إن الصوم صعب على لأني أشتغل بالتجارة والصناعة والحرفة إذا كانت هذه الأعمال تحول بين صلاتك وصيامك أو خدمة الدين فاتركها، واحفظ دينك من الفساد، أما إذا كانت هذه المشاغل لا تعيق طريق دينك فلك أن تكسب الدنيا، لأن الإسلام لا يمنعك ذلك.من و نفس الحال بالنسبة لذكر الله تعالى، فيقول لك الإسلام: إضافة إلى الصلوات الخمس، عليك أن تقضي بعض أوقات خلوتك في ذكر الله تعالى و تسبيحه وتحميده وتكبيره.عليك أن تتدبر في صفات الله تعالى وتسعى لاتباع أوامر الله تعالى، وتنقي قلبك من كل دنس ووسخ حتى يصبح كمرآة صافية ينعكس فيها وجه الله تعالى فتتجلى صفات الله من خلال أعمالك وشمائلك.ولو فعلت ذلك فلا مانع في أن تكون حدادا ماهرا أو تاجرا ناجحا أو صانعا بارعا، أو تملك مصنعًا كبيرا، وتكسب مالا كثيرًا، إذ لم تمنعك مشاغلك هذه من ديننا وذكرنا.فالشرط الأول الذي يشترطه الإسلام هو رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ..أي أن المؤمنين يمارسون التجارة ويباشرون الصناعة والحرفة
الجزء السادس ٤١٨ سورة النور ويشتغلون بالبيع والشراء، ولكنهم يضعون في الحسبان أيضا أن لا تحول هذه الأعمال بينهم وبين ذكر الله ونصرة دينه.إذًا، فالفرق بين المؤمن والكافر أنه برغم أن كل واحد منهما يمارس التجارة ويباشر مختلف الصناعات والحرف إلا أن الكافر إذا كان مشغولا بأعماله نسي الله تعالى كلية، أما المؤمن فيمارس هذه الأعمال بحيث لا تمنعه من ذكر الله تعالى، بل إنه لا ینسی الله تعالى أبدًا برغم انشغاله بها.فبرغم مشاغله الدنيوية يظل يذكر الله تعالى ويواظب على الصلاة، ويؤدي الزكاة النصاب، ويصوم بكل احتياط، ويحج إذا استطاع إليه سبيلا.فلا تحول مشاغل الدنيا دون قيامه بخدمة الدين، بل يبقى جانبه الديني قويا، لذا يقول له الإسلام : لا اعتراض عندنا على اكتسابك المال.ولكن إذا مست الحاجة إلى الدعوة والتبليغ مثلاً، وأمر كل فرد من الجماعة أن يقضي بعض وقته في التبليغ، فقال التاجر كيف يمكن أن أتفرغ للتبليغ فهذا سيضر بتجارتي، فإن الإسلام سيقول له: لن نسمح لك بهذه التجارة.أو قال صاحب مصنع كيف يمكنني أن أخرج للتبليغ لأن ذلك سيعيق العمل في مصنعي، فيقول له الإسلام لا يجوز لك الاحتفاظ بهذا حسب المصنع.إذًا، إنما المؤمنون الذين لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله، بل كلما رفع نداء من عند الله تعالى فإن المؤمن التاجر يترك تجارته، والمؤمن الذي يملك مصنعًا يترك مصنعه، والمؤمن الصانع يترك عمله، ليلبي نداء الله تعالى ويهب للعمل بأحكام الله تعالى.الشرط الثاني والأمر الآخر الذي ذكره الإسلام هو قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أليم (التوبة: ٣٤).لقد اتضح من هنا أن الذي يكسب المال ثم يدخره في الخزينة ولا ينفقه في سبيل الله تعالى فهو ليس بمؤمن بحسب الإسلام.لا شك أن المؤمن أيضًا يوسع تجارته، إذ لو لم يفعل ذلك فمن أين تأتي الأموال، فلا بد له من كسب المال وتوسيع تجارته أو صناعته، ولكن لو دفعته التجارة أو الصناعة إلى ادخار المال
٤١٩ الجزء السادس سورة النور وأصابته بالبخل بحيث يشق عليه الإنفاق في سبيل الله، فتجارته أو صناعته حرام بحسب الإسلام إنما تجوز التجارة والصناعة ما لم تؤد إلى جمع المال بدون ضرورة.إذ يجوز للإنسان أن يجمع المال لضرورة، لسدّ خسارة مثلاً، أو لبناء بيت أو تزويج أولاد أو لسد حاجات يومية أخرى.فمثلا إن صاحب مصنع الدقيق بحاجة إلى مال يشتري به ما يحتاجه لإدارة المصنع، فيحتاج حينًا لشراء الحديد، وحينًا لشراء الفحم، وتارةً لشراء الوقود، وتارةً أخرى لشراء القمح ليصنع منه الدقيق وما إلى ذلك؛ أو إذا كان عنده مثلا مصنع أحذية فعليه أن يشتري الماكينات والمسامير والجلود وما شابه ذلك.وأحيانًا تتكسر قطع الماكينات أو تخرب الماكينة كلية، فيحتاج إلى قطع غيار أو إلى ماكينة جديدة؛ ولو لم يكن عنده مال كاف لكل هذه النفقات ما استطاع إدارة المصنع، لذا فيجوز له أن يحتفظ عنده بما يحتاج إليه من المال لسد هذه الضرورات.أو هناك شخص يريد بناء بيت مثلاً، فيدخر بعض المال شيئًا فشيئًا من دخله الذي لا يكفى لبناء البيت مرة واحدة، فادخاره للمال ليس خلاف تعاليم الإسلام، كما لا يُعَدّ هذا النوع من الادخار للمال ما نهى الإسلام؛ إذ ليس هذا إلا محاولة لسد النفقات الضرورية المستقبلية أو هو توفير للنفقات القادمة.فبما أن هذا الإنسان لا يجمع المال لمحض الادخار وإنما يجمعه للإنفاق في وقت لاحق عند الضرورة، فيجيز له الإسلام تماما جمع المال لمثل هذه الضرورات.أما الذين يكون عندهم أموال أكثر من ضروراتهم، فيدخرونه فلا يسمح لهم الإسلام بذلك.فمثلاً لو أن المرء أنفق مليون روبية على إنشاء مصنع فهو جائز عند الإسلام تماما، ولكن لو وضع غيرُه عشرة آلاف روبية في الخزينة مثلاً وأقفلها فهذا لا يجوز؛ ذلك لأن الذي أنشأ المصنع بمليون روبية قد أنفق آلافا على شراء الماكينات واستئجار الفنيين والمتخصصين الذين يركبونها ويديرونها، وعلى مسؤولين وموظفين وعمال وحمالين ،وغيرهم وهكذا فإنه قد هيأ العمل لآلاف الناس، بل هناك من المصانع الكبيرة التي يعمل فيها أكثر من عشرين ألف شخص.إذا، فإن ماله لا يبقى مكنوزاً، بل ينتفع به الناس.وبالمثل إن الذي يمارس عنه
الجزء السادس ٤٢٠ سورة النور حق الله التجارة بماله سينفع به الناس.ولكن الذي يدخر ماله ويكنـزه لا يستطيع الناس الانتفاع من ماله، لذا فقد حرم الإسلام هذا النوع من الادخار.الشرط الثالث والأمر الثالث الذي قد ركز عليه الإسلام كثيرا والذي قد نبه إليه القرآن الكريم مرارا هو أن على المرء أن يؤدي الزكاة على ما يكسبه من المال.لقد نهى الإسلام عن ادخار المال واكتنازه، ولكنه أجاز كسب المال، فإذا كسب المرء المال وادخر بعضه لحاجاته، فإن مضى عليه عام فعليه أداء الزكاة عليه.فإذا أدى الزكاة من ماله دائما كان هذا دليلاً على أنه إنما يكسب الدنيا من أجل الدين.ولكن المرء إذا لم يدفع الزكاة على ماله دل ذلك على أنه يكسب المال لدنياه فقط، وأنه لا يرغب في أن يفوز برضى الله تعالى، إذ لو كان في قلبه رغبة في قرب الله تعالى وحبه ولو كان يكسب المال من أجل دينه، لأخرج من ماله تعالى وأداه بكل أمانة، ولكن عدم تأديته الزكاة دليل على أنه لا يتبع أحكام الله تعالى وإنما يتبع أوامر الشيطان.لقد رأيت أن التجار عندنا مقصرون جدا بشأن الزكاة.كان التجار من غير جماعتنا يتحايلون في الماضى على فريضة الزكاة بطرق سخيفة للغاية.فقد حكى الخليفة الأول للمسيح الموعود اللي أنه كان في مدينة "بهيره" تاجر مسلم كبير، وكان يؤدي الزكاة كل سنة بلا انقطاع، ولكن بطريق عجيب.إذ كان يضع أموال الزكاة في جرة ثم يغلقها.فمثلا لو كان عنده مئة ألف روبية أخرج منه ألفين وخمس مئة روبية كزكاة، ووضعها في جرة، ثم وضع عليها القمح.ثم كان يدعو أحد المشايخ إلى مأدبة فاخرة.فإذا فرغ من الطعام قال له: أيها الشيخ، أود أن أهب لك هذه الجرة بما فيها.وكان الناس يعرفون بأنه قد وضع في الجرة مال الزكاة، ولكنهم كانوا لا يستطيعون أن يتكلموا.وبعد وقت قصير كان هذا التاجر يقول للشيخ ستتكبد العناء في حمل الجرة إلى البيت، فمن الأفضل أن تبيعها لي.فبكم تبيعها لي؟ فكان الشيخ يقول له بتردد: أعطني خمسة عشر روبية مثلا.فكان
الجزء السادس التاجر يخرج جميع ٤٢١ سورة النور بعتني هذه هذا المبلغ من جيبه على الفور ويضعه أمام الشيخ قائلا: لقد الجرة بما فيها، ثم كان يأخذ الجرة داخل البيت ويظن أنه أدى الزكاة على ماله! إذا، فيوجد في الدنيا خداعون ماكرون كهؤلاء الذين يتحايلون على أحكام الله تعالى ثم يظنون أنهم قد أدوا ما فرضه الله عليهم.لا شك أنه لا يوجد في جماعتنا مثل هؤلاء المتحايلين على أحكام الله تعالى ولكني أرى أن أفراد جماعتنا لا يؤدون الزكاة بحيطة كاملة حتى الآن، ولا سيما التجار منهم؛ فإنهم يقصرون جدا في أداء الزكاة؛ برغم أن الشريعة الإسلامية قد أصدرت أوامر صارمة بشأن الزكاة، حتى قال الصحابة إن الذي لا يؤدي الزكاة لا يبقى مسلما.ذلك لأن الله تعالى قد أوضح لنا في القرآن الكريم أن هناك نصيببًا للآخرين في ما تكسبونه مال، لأن من الأشياء التي يُكسَبُ بها المال ليست بملك لشخص معين، بل فيها حق للناس أجمعين.خذوا مثلاً ،التجارة، سواء أكانت تجارة حديد أو خشب أو غيرهما، فهل خلق التاجر الحديد أو الخشب؟ كلا، بل إن الله تعالى هو الذي خلق الخشب والفحم والوقود والقطن والقمح وما إلى ذلك، وخلقها للناس كافة.فإذا اكتسب المرء المال من هذه الأشياء، فإن الله تعالى يوصيه أن يدفع الضريبة لمالك هذه الأشياء إذ هي ملك للناس كلهم.فكما أن المزارع يدفع ضريبة الأرض لصاحبها كذلك يأمر الله تعالى هذا الشخص بدفع ضريبة على هذه الأشياء.فيقول الله تعالى للمزارع: لقد زرعت هذه الأرض التي هي ملك للجميع، فمن واجبك الآن أن تدفع لصاحبها ضريبة؛ فتؤخذ منه ضريبة مقدارها ٢,٥ % من ريع تلك الأرض.فينفق النظام ذلك المال على الفقراء.ولكن الذي لا يدفع هذه الضريبة المفروضة الله تعالى أو يؤديها بصورة ناقصة، فهو بمنزلة السارق عند الإسلام.فقد يكون تاجر نسيج في الظاهر، ولكنه سارق في الحقيقة لأن النسيج يُصنع من القطن، والقطن يُزرع في الأرض، والأرض لم يخلقها الله تعالى لشخص معين، بل خلقها للعالم كله فالذي يمارس تجارة النسيج المصنوع من القطن المزروع في هذه الأرض فمن واجبه أن يدفع الضريبة المفروضة عليه لأنه انتفع من الشيء الذي فيه نصيب للناس كلهم.عند من
الجزء السادس ٤٢٢ سورة النور كذلك قد فرض الإسلام الزكاة على ريع الأراضي، لأن الأرض ليست ملكا لشخص معين بل قد خُلقت للناس كافة، وإذا كانت قطعة من هذه الأرض قد صارت تحت قبضة إنسان لبعض الأسباب، فعليه أن يؤدي حق الفقراء في تلك الأرض، ولا يجوز له الهروب من دفع هذه الضريبة بحجة أنه قد كسب هذا المال بجهوده فلماذا يعطي الفقراء جزءا منه إن عليه أن يعطي جزءا من ريع هذه الأرض لأنه، وإن كان كسبه ،بجهوده ، إلا أنه قد كسبه من شيء هو ملك مشترك للناس كلهم والذي فيه حق الفقراء أيضا، فلا بد أن يؤخذ منه مال الزكاة ويُنفق على الفقراء.إذًا، فكل من لا يدفع الزكاة فهو سارق يقينًا وإن احتج بأنه قد كسب هذا المال ببذل مجهود مضن ليل نهار بتجارته أو من مصنعه.فأيا كان نوع العمل الذي کسب به المال ففيه نصيب للناس كلهم لذا فمن واجبه أن يؤدي لهم نصيبهم.إذا أخذ ذلك المال إلى بيته بدون أن يدفع هذه الضريبة عليه فإن الإسلام لا يعتبره أما مسلما بتاتًا.بيد أن هنالك أمرًا لا بد من توضيحه وهو أن الضريبة على المال قد أصبحت مزدوجة في هذا العصر..أعني أن الحكومة تأخذ الضريبة على المال كما أن الإسلام يريد أن يأخذ الضريبة عليه.فهناك سؤال يفرض نفسه هنا وهو: ماذا يفعل المرء في هذه الحالة؟ والجواب أنه إذا أخذت الحكومة الضريبة على شيء وكان مقدارها مساويا لمقدار الزكاة على ذلك الشيء أو أكثر منه فلن تؤخذ منه الزكاة عليه.ولكن يجب أن نتذكر أيضا أن الحكومة لا تفرض الضريبة على المال المدخر وإنما تأخذها على الدخل فقط، ولكن الإسلام يفرض الزكاة على المال المدخر إذا حال عليه الحول.فمثلاً لنفترض أن أحدًا كسب عشرة آلاف سنويا، فأخذت الحكومة ضريبتها على هذا المال، وكانت هذه الضريبة أكثر من مقدار الزكاة عليه، فنقول أن لا زكاة على هذا المال بعد ذلك.ومثاله الآخر الضريبة التي تأخذها الحكومة من صاحب الأرض على ريعها، فلو كانت هذه الضريبة بمقدار الزكاة أو أكثر فلا زكاة عليه.
الجزء السادس ٤٢٣ سورة النور ولكن صاحب الأرض لو وفّر مالاً من ريع أرضه، بعد دفع الضريبة الحكومية، ثم ينقضي على هذا المال المدخر عنده عام، فسوف تجب الزكاة على هذا المال.لنفترض أنه وفّر خمسة آلاف روبية، ومضت سنة كاملة وهذا المال مدخر عنده، فسوف تجب عليه الزكاة إذا بلغ النصاب بحسب تعليم الإسلام.فكل مال مدخر إذا بلغ النصاب ثم حال عليه الحول فالشريعة تفرض عليه الزكاة سواء أكان صاحب المال تاجرا أو مزارعا أو غيره.أما المال الذي أخذت عليه الحكومة الضريبة بقدر الزكاة أو أكثر فلا زكاة عليه؛ غير أنه من الأفضل أن يتطوع المرء بإخراج بعض المبلغ كزكاة على ذلك المال من أجل الثواب.أما إذا كانت الضريبة الحكومية أقل من مقدار الزكاة أو العُشرِ على ذلك المال فعلى المرء أن يدفع عليه الزكاة بقدر المبلغ الناقص ولنفترض أن مقدار الزكاة التي تجب على ذلك المال هو ٢٠ روبية، بينما أخذت الحكومة عليه ١٥ روبية كضريبة، فعلى المرء أن يدفع خمس الروبيات الناقصة للنظام الإسلامي.أما إذا كانت الضريبة التي أخذتها الحكومة على ذلك المال ۲۱ روبية فلا زكاة عليه إنما تجب الزكاة على هذا الإنسان إذا قام بالتوفير من دخله هذا، ثم بلغ هذا المال الموفر حدَّ النصاب وحال عليه الحول أيضا.الشرط الرابع: بالإضافة إلى الزكاة يأمر الإسلام بالإنفاق في سبيل الله تعالى في السراء والضراء، فيقول تعالى في وصف المؤمنين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) (آل عمران: ١٣٥).لقد تبين من هذه الآية أن الإنفاق المذكور هنا هو غير الزكاة، لأن الله يقول هنا إن المؤمنين ينفقون في الرخاء والضيق لمساعدة الفقراء أنه لا زكاة على من هو في ضيق مالي؛ فثبت أن المراد هنا صدقة والمساكين، مع يتطوع بها المرء لا الزكاة.الواقع أنه مهما كان المرء ثريا فقد تأتي عليه أوقات من الشدة والرخاء، لذا فيأمر الإسلام المؤمن أن يستمر في الحالتين في الإنفاق في سبيل الله تعالى.بيد أن هذا لا يعني أن على المرء العادي أن ينفق وإن لم يملك شيئا، وإنما حث الله تعالى
الجزء السادس ٤٢٤ سورة ة النور ذلك هنا على الإنفاق في الضرّاء أيضًا بالنظر إلى الذين يملكون المال دائما.فإن كبار التجار أيضا يمرون بالضوائق المالية أحيانا، فمثلا يملك أحدهم مصنعا قيمته عشرة ملايين، ولكن بضائعه لا تباع لسبب من الأسباب، فقد يقول هذا: إني في مشكلة كبيرة وليست حالتي المادية على ما يرام كالسابق، فلا أستطيع أن أنفق.فيأمره الله تعالى أن ينفق في هذه الحالة أيضا، لأنه رغم ضيقه المالي يملك نصف مليون في البيت حتمًا، فعليه أن يعتبر بالشخص الآخر الذي دخله ١٥ روبية ومع يضحي في سبيل الله تعالى، أما هو فلا يزال يملك نصف المليون رغم أزمته المالية الشديدة، فكم بالحري أن ينفق في سبيل الله تعالى.إذا، فليس المراد من هذه الآية أن المؤمنين ينفقون في حالتي الشدة والرخاء فحسب، بل هي تحث أيضا الأثرياء الذين قد تأتي عليهم ساعات العسر والضيق أحيانًا أن ينفقوا على الفقراء والمساكين في وقت العسر أيضا ولا يقولوا كيف ننفق وتجارتنا عرضة للكساد في هذه الأيام؛ إذ ما دام الشخص الفقير يضحي من أجل الدين رغم أنه لا يملك شيئا بالمقارنة مع الأموال التي يملكها الأثرياء، فلماذا يترددون في الإنفاق في سبيل الدين وهم يملكون مئات الآلاف.وَفِي لقد نبهنا الله تعالى إلى هذا الأمر في مكان آخر من القرآن الكريم أيضا فقال أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (الذاريات: ٢٠)..أي في أموال المؤمنين حق للذين يسألونهم وللذين لا يسألونهم.واعلم أن عدم السؤال يكون بطرق شتى، منها شخص أبكم لا يقدر على = الكلام أصلا، وهناك حيوانات لا تقدر على السؤال.فنرى مثلا أن الحيوان إذا كبر وأصبح عاجزا و لم يصلح لشيء يخرجه صاحبه من البيت فلا يعتني به أحد.فمن واجب الدولة أن تعتنى بمثل هذه الحيوانات أو تجبر صاحبها على الاعتناء بها في البيت، إذ ليس من العدل أن يطعم الإنسان حيوانًا ويسقيه ما دام يساعده على كسب المال، أما إذا أصبح عاجزا طرده من البيت.إن الناس يذبحون البقرة أو الثور إذا كبرت ولكن الحصان والحمار وما شابههما من الحيوانات إذ كبرت لا تذبح، ولذلك يقول وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ..أي في أموال الناس حق
الجزء السادس ٤٢٥ سورة النور لمن يسأل ولمن هو محروم من النطق.وبحسب هذا الحكم الرباني ينبغي على المؤمن أن يهتم بإطعام الحيوانات وأن لا يحمّلها فوق طاقتها وأن يطعم الحيوانات التي لم تعد صالحة للعمل، وأن يطعم الطيور ويقيها الحر والقر، وأن يراعي غرائزها الشهوانية ويعتني بأولادها.الشرط الخامس والقاعدة الخامسة التي ذكرها الإسلام تخص جميع الناس من التجار والصناع والحرفيين وبالذين يكسبون بأي طريق آخر، فقال الله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (المائدة:3)..أي على كل إنسان، أيا كان عمله وحرفته، أن يتعاون مع الآخرين على البر والتقوى فإنما التجارة الصحيحة عند الإسلام التي يتعاون صاحبها مع الآخرين على البر والتقوى.إن التجار والصناع يكون نطاق تعاونهم واسعًا جدًا، فمثلاً لو أن أهل الصناعة عملوا على إنتاج بضائع تؤدي إلى انتشار الدين وتقويته، فلا بد أن تُعتبر هذه الصناعات جزءا من دينهم.أو إذا كان هناك شخص يستطيع أن يقوم بعملين، أحدهما يؤدي إلى نصرة دينه أكثر من العمل الآخر، فعليه أن يباشر العمل الذي فيه نصرة الدين، إذا لم يكن هناك فرق كبير بين العملين من حيث الربح.فإذا فعل ذلك نال الثواب يقينًا، ولن يُعد عمله كسبًا للدنيا بل يُعتبر جزءا من دينه.كما أن قوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) يعني أيضًا أن على أرباب التجارة والصناعة أن يتعاونوا فيما بينهم.فمثلاً إننا نرى هذا التاجر ناجحا وذلك فاشلاً.لماذا يحدث ذلك؟ إنما سببه أن الأول مطلع على أسرار التجارة الناجحة بينما الآخر يجهلها.فيعرف الأول من أين يحصل على البضائع بثمن رخيص، وكيف وأين يبيعها بربح وافر.ولكن الآخر يجهل هذه الأمور كلها.لذلك فهو يفشل.فإذا باشر التاجر تجارته كما علم شخصًا آخر طريق التجارة الناجحة، فهذا أيضا يعتبر منه تعاونًا في البر والتقوى على نطاق المجتمع وسينال عليه ثوابا كبيرا.وكذلك إذا كان هناك شخص يتقن حرفة ما فعليه أن يعلمها الآخرين وأن لا يحتكرها لنفسه.
الجزء السادس ٤٢٦ سورة النور كان الناس في الماضي يحتكرون بعض المهارات والأسرار المهنية لأنفسهم، وإذا ماتوا دُفنت هذه الأسرار معهم.كان سيدنا المسيح الموعود اللي يحكي لنا أن حجامًا كان يعلم وصفة متميزة لمعالجة الجروح، وكان الناس يقصدونه من أماكن نائية، فيستفيدون منه.ولكنه كان شديد البخل حتى إنه لم يعلم ابنه هذه الوصفة، وكان يقول له: إنها وصفة متميزة جدًا فلا ينبغي أن يطلع عليها أكثر من شخص واحد وكلما توسل إليه ابنه أن يعلّمه إياها قال له: سأعلمك قبيل موتى لا الآن.فيقول له ابنه لا أحد يعلم متى يحين ،أجله، فعلّمني الوصفة، ولكن أباه كان يرفض طلبه.فمرض ذات مرة وتدهورت صحته فقال له ابنه: علمني الآن يا أبي.فقال أبوه: سأتماثل للشفاء ولن أموت فساءت حالته أكثر، فعاد ابنه يتوسل إليه، فأعاد الأب جوابه السابق، حتى مات ومات معه سره.فبقي الابن جاهلا بتلك الوصفة.إن الإسلام لا يجيز هذا أبدًا، بل يقول : لا تحتكر علمك لنفسك بل انشره بين الناس.لا شك أن هناك بعض الحرف والمهن التي يجوز فيها الإخفاء إلى حد معقول، ولكن لا يجوز إخفاؤها إلى الأبد.وهذه هي الطريقة التي يتبعها الأوروبيون لجعل الأدوية - مثلاً - امتيازا خاصا بهم فيقولون إن المرء إذا اخترع شيئا نرخص له أن ينتفع باختراعه أربعين سنة، ولا نسمح لأحد تقليد هذا الاختراع، ولكن بعد انقضاء هذه الفترة يُسمح للجميع الانتفاع من اختراعه.هذه الطريقة التي ابتكرها الأوربيون رائعة، حيث يعطون المخترع الرئيس حق الانتفاع من اختراعه، ثم ينشرونه في العالم كله، كي ينتفع به الناس جميعًا.فلو أن أهل الصناعة والتجارة مارسوا أعمالهم بأنفسهم، وقاموا بتعليم حرفهم للآخرين، أو ساعدوهم على إتقانها كي يكون لها رواج في المدن والأقطار الأخرى، كان هذا نوعًا من الزكاة التي تطهر تجارتهم وصناعتهم.إذن، فقوله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى يشمل النقابات الصناعية والتجارية، فمن واجب المسؤولين في تلك النقابات أن يساعد بعضهم بعضا في الترويج لسلعهم وتقوية تجارتهم.
الجزء السادس ٤٢٧ سورة ة النور هي إن المسلمين يتضررون عادة في تجارتهم لأنهم لا يتلقون دعمًا من التجار الآخرين ولا من زبائنهم، أما التجار الهندوس فيتلقون الدعم من إخوانهم التجار والزبائن، لذلك تزدهر تجاراتهم.الشرط السادس والقاعدة السادسة التي أمر القرآن الكريم بمراعاتها دائمًا قوله تعالى ﴿وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: ١٤٥)..أي، أيا كان عملك، عليك أن تضع غاية واحدة نصب عيينك وهي أن تسعى دائمًا لغلبة الدين ورقيه.فعلى المرء أن يضع هذا المبدأ في الحسبان دائما في تجارته أو صناعته.ولو جعل المرء تجارته أو صناعته سببًا لغلبة الإسلام وشوكته فإنه لا يكسب الدنيا، بل يُعتبر ناصرًا لدينه أيضًا، وإن حقق في عمله مئات الآلاف من الأرباح.الشرط السابع يأمرنا القرآن الكريم بأن نزن بالقسطاس المستقيم وأن نكيل بالمكيال الصحيح.إن التجار عامة يكسبون المال بطريق مشروع، ولكنهم ينقصون المكيال والميزان كثيرًا أو قليلاً.فأحيانًا ينقصون المكيال بالتلاعب في الميزان وأحيانًا يستخدمون مكاييل وعيارات مختلفة.وهذا العيب كان قد تسرب إلى المسلمين بعد أن كانت تجارتهم في أوجها.فقد ورد في الكتب أنهم كانوا يستخدمون ثلاثة أنواع من العيارات والمكاييل، أحدها للشراء، والآخر للبيع، والثالث لتقديمه للمسؤولين المراقبين إذا ما جاءوا للفحص.وقد انتشر هذا العيب في هذا الزمن على أوسع نطاق.ولكن الإسلام يأمر المؤمن ألا ينقص المكيال والميزان بأي شكل من الأشكال.فلا يأخذ الشيء من أحد ولا يعطيه إياه إلا بعد أن يكيله أو يزنه بطريق صحيح.إن الإسلام لا يجيز أي نوع من الخداع.فإذا وقع تاجر أو صانع في هذا العيب فإنما يكسب الدنيا ولن يحظى برضوان الله تعالى بل سيثير سخطه وغضبه تعالى.فالمال الذي يأتي به إلى بيته بالخداع مال حرام، وإنه كمثل مال قد سرقه أو أحد، وإن كان قد ربحه في د دکانه.سلبه من الشرط الثامن : لقد نهانا الإسلام عن الغش أيضًا فيقول: يمكنكم أن تقوموا بالتجارة لكن لا تغشوا فيها.
الجزء السادس ٤٢٨ سورة ة النور يجب إزالة هذا العيب أيضًا من تجارتنا، إذ قد انتشر هذا المرض في بلادنا بشكل مخيف، فلن تجد سلعة ليست بمغشوشة.فإذا باعوا السمن خلطوه بالشحم.وإذا باعوا الزيت أضافوا إليه زيوتا أخرى من نوعية أدنى.هذه النقائص ليست وليدة هذا العصر، بل وُجدت في الماضي أيضا، ومن أجل ذلك كانت الحكومات الإسلامية قد أقامت نظام الحسبة لمراقبة الجودة.إنه عيب كبير لا بد من إزالته.الشرط التاسع: وينهانا الإسلام عن أن نحتكر ما ننتجه أو نشتريه من الآخرين من بضائع وسلع لنبيعها عند ارتفاع الأسعار.فإذا احتكر التاجر البضاعة لكي يرتفع سعرها فيكسب أرباحًا طائلة فقد عمل عملاً غير مشروع عند الإسلام.لقد ورد في الحديث بكل وضوح أن من يحتكر الغلال أي يشتري الغلال ثم يحتكرها لترتفع الأسعار فيبيعها هو آثم.(مسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات) وقد ظن البعض أن هذا الحكم يخص الغلال فقط دون السلع الأخرى.ولكن هذا خطأ إذ ليس التفقه إلا البحث عن الهدف والحكمة وراء حكم نؤمر به في مناسبة معينة، وحيثما وجدنا ذلك الهدف يتحقق فعلينا بتطبيق ذلك الحكم على ذلك الوضع.لذا لذا فبرغم أن النبي ﷺ قد نهى هنا عن احتكار الغلال حيث قال لتجارها فقط أنهم إذا احتكروها بنية أن يبيعوها إذا ارتفعت أسعارها فهذا ممنوع، ولكن بوسعنا أن نستدل من ذلك استدلالاً واسعًا عاما ، لأن الغرض من هذا الحكم ألا يمنع التجارُ الناس من حاجاتهم فيقعوا في المعاناة.إذًا، فكما أن محتكر الغلال محرم عند الشرع كذلك فإن محتكر القماش والثياب أيضًا محرم أو إذا احتكر تاجر الخشب أو الحديد عنده ليبيعه حين ترتفع الأسعار فهو يخالف تعليم الإسلام حتمًا.فلا يجوز الاحتكار في التجارة في الشريعة الإسلامية، أي لا يجوز أن يحتكر أحد البضائع حتى يبيعها عند ارتفاع الأسعار ولا يبيعها قبل ذلك.إن التجار في هذه الأيام يلجئون إلى الاحتكار بشكل خاص فيكون القماش – مثلا – موجودًا عندهم، ولكنهم يرفضون بيعه للناس، ويقولون: لقد نفد عندنا القماش؛ ولا يهدفون من ذلك إلا أن يبيعوه إذا ارتفعت الأسعار.ويكون الخشب موجودًا عند -
الجزء السادس ٤٢٩ سورة النور تاجر الخشب، ولكن إذا جاءه أحد ليشتريه منه رفض طلبه زاعمًا أن ليس عنده أي خشب.ويكون الفحم موجودًا عند تاجر الفحم، ولكن كلما طلب منه أحد الفحم رفض بيعه له قائلا: لقد نفد الفحم عندنا.إن هذا التصرف ممنوع في شريعتنا منعاً باتا.وكل من يكسب بالاحتكار عليه أن يتذكر أنه يأكل الحرام ويستثير غضب الله عليه.ينبغي للمرء أن يكسب الدنيا بالطرق التي شرعها الله تعالى فقط، لأن اتباع الطرق الممنوعة الخبيثة النجسة التي يحاربها الإسلام والتي ينهانا عنها بشدة وصرامة يُعتبر هتكًا للدين وإثارةً لغضب الله تعالى.الشرط العاشر : ثم يأمرنا الإسلام أن نعطى العامل أو الأجير أجره كاملاً وبدون تأخير (ابن ماجة كتاب الأحكام باب أجر الأجراء.وكأن الإسلام يأمرنا في حق الأجير بأمرين: الأول أن نعطيه أجرته بحسب عمله كاملاً، والثاني أن نعطيه أجرته دون تأخير وتسويف.لقد رأيت أن الناس لا يبالون بهذا الحكم عادةً.فإنهم يستغلون الأجير استغلالاً كاملاً، ولكن إذا جاء وقت دفع الأجرة له يتهاونون في أدائه، فيضطر أن يأتي إلى بابهم مرة تلو أخرى لكي يتقاضى أجرته، ومع ذلك لا يدفعون له حقه، بل يقولون له في كل مرة: تعال غدًا.وإذا جاء في الغد أعادوا له نفس الكلام.وهكذا يضطرونه لأن يتردد إليهم مرة بعد أخرى.ثم يعطونه جزءا من أجرته يوما والجزء الآخر في المرة الأخرى، فيدفعون له الأجرة بعد مضايقات كثيرة.فلا ينتفع من أجرته حق الانتفاع، إذ لو أنه تلقى أجرته دفعة واحدة لسد حاجاته مرة واحدة وكسب بعض الفوائد ولكنهم يعطونهم بدفعات قليلة فيعاني من جهة، ومن جهة أخرى يُحرم الفائدة التي يمكن أن يجلبها إذا ما أعطي أجرته دفعة واحدة.فالإسلام يأمرنا ألا نعامل الأجير هذه المعاملة القاسية بل نعطيه حقه كاملاً ودون تأخير حتى لا يضطر لطرق أبوابنا من أجل حقه فنماطله ونسوّفه في كل مرة.الشرط الحادي عشر: يوضح لنا الإسلام ويقول : يمكنكم أن تكسبوا المال لكن يجب ألا يولد ثراؤكم فيكم الكبرياء، ولا يؤدي إلى التمييز بين الغني والفقير.
الجزء السادس ألا تعرف من ٤٣٠ سورة النور ذلك لأنه إذا باعد الثراء بين الثري والفقير بحيث لا يجلس الثري مع أخيه الفقير ولا يأكل معه على خوان واحد ويعرض عنه إذا أراد لقاءه أو يغضب عليه وينهره ه قائلاً أنا؛ فليعلم هذا الثري أنه لم يعد بعد كسب المال إنسانا، بل صار حيوانًا، والمال إنما هو للإنسان لا الحيوان.أما إذا أصبح المرء ثريا ومع ذلك لا يضع ثراؤه بينه وبين إخوانه الفقراء حاجزًا من الكبرياء والتفرقة والتميز، فلا يفرق بينه وبين بني جنسه ولا ينظر إليهم باحتقار وازدراء بل يحدثهم بلطف ومحبة ويشاركهم في أفراحهم وأتراحهم، ولا يميز بينه وبين الفقراء، فيجوز لمثل هذا الإنسان أن يكسب المال والثراء.الشرط الثاني عشر: يأمر الإسلام الغني أن يوصي أقاربه عند موته بأن ينفقوا من ماله على الفقراء والمساكين ابتغاء وجه الله تعالى.قال تعالى عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة : ۱۸۱)..أي إذا اقترب أجل أحدكم وكان عنده مال، فعليه أن ينذر بعض أمواله من أجل النهوض بالفقراء وخدمة الدين، أقاربه بذلك.لا شك أن لهذه الآية مفهومًا آخر أيضًا، ويوصي أقاربه بتوزيع ماله وعقاره بحسب أحكام الشرع، ولكنها يمكن أن تُفسّر أيضًا بالمفهوم الذي بيّنته ،آنفا، وإذا أمكن تفسير آية بأكثر من مفهوم فعلينا أن يوصي نأخذ بجميع المفاهيم، وليس أن نأخذ البعض ونترك الآخر.هذه وهو أن عليه هي عشر حُكما بارزا نجدها في القرآن الكريم والحديث الشريف.فلو اثنا أن التاجر أو الصانع مارس عمله واضعًا هذه الأحكام في الحسبان فإنه سيتاجر في الظاهر بالثياب أو الحديد أو الوقود ،وغيرها، ولكنه سيعتبر خادمًا للدين عند الله تعالى، ولا يعود إلى بيته بالمال فحسب، بل يعود حاملا في يده أيضًا تحفة رضوان الله وحبه.
الجزء السادس ٤٣١ سورة النور وَالَّذِينَ كَرُوَا أَعْمَلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ تَحْسَبُهُ الظَّمْنَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّنهُ قلے حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (3) شرح الكلمات : سراب السراب ما تراه نصف النهار من اشتداد الحر كالماء يلصق بالأرض.والسراب فيما لا حقيقة له كالشراب فيما له حقيقة (الأقرب).قيعة: جمع قاع، والقاع: أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والأكام (الأقرب).التفسير: السراب هو ما يرى في ميدان واسع شاسع من الرمال إذا وقعت عليها أشعة الشمس القوية حيث تتراءى فيه حركة وكأن هناك نهراً يموج موجا.وقد حدث في كثير من الأحيان في الميادين الصحراوية بالجزيرة العربية وأفريقيا أن الناس لما لم يجدوا الماء جروا وراء السراب الذي رأوه، ولكنهم كلما اقتربوا منه ابتعد عنهم أكثر ، فسعوا وراءه أميالا وماتوا ميتة مريرة.لقد بين الله تعالى هنا أن الذين يرفضون نور الله تعالى مثل أعمالهم كسراب..أي أنهم يعملون وفق أحكام دياناتهم الباطلة ظانين أنهم سيرتقون بذلك في الروحانية، ولكن ليست أعمالهم إلا سرابا خاليًا من ماء الروحانية إطلاقا.إنهم يتقدمون في هذا الطريق على أمل موهوم باطل، وكل خطوة يتخذونها تُبعدهم عن الماء الروحاني أكثر فأكثر، فيموتون ميتة روحانية، ويظلون محرومين من الفيوض الروحانية للأبد.وكأن الله تعالى قد بين هنا أن المؤمنين يستنيرون بالنور الإلهي فيصبحون نورا متجسدًا، أما الكافر فيضل في صحراء الضلال هائما على وجهه، ولكن لا ينفعه هيمانه شيئا إنه يرجو مما يفعل فائدة ولكنه لا يصل إلى الله تعالى أبدا.
الجزء السادس ٤٣٢ سورة النور كما أن الله تعالى قد نبه هنا بمثال السراب إلى أن المؤمن حين يعمل بأحكام الإسلام فلا يعتقد فقط بأن هذا سيوصله إلى الماء الروحاني، بل إنه بالفعل يشرب هذا الماء ويتمتع بالفيوض الربانية والبركات السماوية أما أتباع الديانات الباطلة فلو سألت أحدا منهم هل جلبت أي نفع روحاني وهل وجدت شيئا باتباع ديانتك، قال لك: لم أجد شيئا بعد ولكني سأجده في الآخرة؛ ومن أجل ذلك تجد أتباع جميع الأديان سوى الإسلام يقولون سنجد جزاءنا بعد الموت، ولكن الذي يتبع دينا صادقا فإنه يري الناس ما وجده في هذه الدنيا.يقول الله تعالى في القرآن الكريم إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزِلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (فصلت:٣١)..أي أن الذين قالوا ربنا الله ثم تثبتوا بإيمانهم بقوة بحيث لا تزعزعهم عواصف الشدائد والمحن، تنزل عليهم ملائكة الله وتبشرهم قائلة: لا تخافوا ولا تحزنوا على ما سلف منكم من تقصير، بل افرحوا بالفوز الكبير الذي ستحققونه قريبا، والذي وعدكم الله به.به.نحن أصدقاؤكم في هذه الدنيا وسنكون كذلك في الآخرة، وستجدون في الجنة كل ما تتمنونه، بل ستجدون كل ما تطلبونه.لقد تبين من هنا أن الإسلام يَعِدُ المؤمنين بأنهم لو آمنوا بصدق وعملوا بأحكامه حق العمل فإن الله تعالى سيشرفهم بكلامه.فينزل السكينة على قلوبهم في أيام المحن والمصائب بواسطة ملائكته ويبشرهم بالنجاح العظيم الذي يحققونه في المستقبل.بينما الديانات الأخرى إنما تعد أتباعها بأنهم سينالون النجاة في الآخرة فقط.وكأنها تريد أن تسر الناس بوعود وردية فقط.وكما أن الإنسان العطشان يتوهم برؤية السراب أنه يقترب من النهر مع أنه يقترب من موته ودماره كذلك فإن سائر الديانات الأخرى تعد أتباعها بنعم الآخرة فقط، ذلك لأنها غير قادرة على أن تقدم أمام العالم أحدًا من أتباعها تنزل عليه البركات الربانية في هذه الدنيا؛ فلا ينزل الوحي الرباني على أتباعها كما لا تؤيدهم المعجزات ولا الآيات، ولا يوجد عندهم أي مثال لاستجابة الدعاء.وهكذا فكل خطوة يتخذها
الجزء السادس ٤٣٣ سورة النور أتباعها تقربهم من السراب إلى أن يتخطفهم الموت، عندها يدركون أنهم قد ابتعدوا جدا عن ماء الحياة الروحانية وأن الأماني الزائفة دمرتهم تدميرا.إذا، فإن هذه الميزة هي من أهم محاسن الإسلام وفضائله التي تميزه عن الأديان الأخرى والتي تشكل برهانا ساطعا على أنه من عند الله تعالى.أَوْ كَظُلُمَت في نَحْرِ لُجَى يَغْشَدَهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ ج يَكَدْ يَرَنهَا وَمَن لَّمْ تَجْعَل الله له نُورًا فَمَا لَهُ مِن نور ) شرح الكلمات : ٤١ لُجِّي: اللج: معظم الماء (الأقرب).فاللجي : الكثيرُ الماء.التفسير: أي أن مثل أعمال الكافرين كمثل الظلمات في بحر عميق يغشاه موج من فوقه موج، وتظله من فوقه غيوم.إنها ظلمات بعضها فوق بعض وحينما يُخرج شخص يده لا يستطيع أن يراها رغم المحاولة اليائسة، لأن الله تعالى يسلب نوره فلا يبقى عنده أي نور، بمعنى أن أمة تتمتع بالنور الرباني ما داموا عاملين بشريعة الله تعالى، ولكنهم إذا أعرضوا عن شريعته ثارت ظلماتهم النفسانية من ناحية، ومن ناحية أخرى يسلبهم الله نوره وتزداد مصائبهم كل حين، فلا يستطيعون رؤية أيديهم أي يصبحون محرومين من أسبابهم المادية.وهذا مصير لا بد أن يراه من لم يتيسر له نور الله تعالى إذ لا بديل لشريعته تعالى.لقد ذكر الله تعالى هنا شتى الظلمات التي تخيم على البر والبحر وتدمر الناس، لينبه المسلمين أن لا ينخدعوا فيظنوا أنه لن يأتي عليهم زمن الانحطاط والظلام بعد أن ظهر فيهم نور القرآن الكريم ونور محمد المصطفى.كلا بل سيأتي عليهم أيضا عصر الظلمات، وسيتخذ الله تعالى لإزالتها نفس التدبير الذي ثبت نجاحه
الجزء السادس ٤٣٤ سورة النور على مر العصور..أي أن الله تعالى سيرسل مصلحًا من السماء، فيزيل هذه الظلمة، ثم تحيط بهم الظلمة مجددًا، ويصلحهم مصلح من السماء في كل مرة، وهكذا يدفع هذه الظلمات دائما.أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَاتٍ كُلِّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا قل صلے يَعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( ٤٣ ٤٢ شرح الكلمات : صلاته الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء، ومن الطير والهوام التسبيح (الأقرب).التفسير: ليس المراد من ذلك كل شيء في الكون يسبح الله تعالى بلسانه، بل المراد أنه يدل من خلال وجوده على كون الله تعالى منزها عن كل عيب إذ قد الله تعالى كل شيء بما يحتاج إليه.فمثلاً كانت الحيوانات المفترسة بحاجة إلى الأسنان التي تأكل بها اللحوم فزودها الله بها، كما كانت بحاجة إلى الأمعاء الطويلة القادرة على هضم اللحم فزودها الله بها أيضًا.أما الحيوانات التي تأكل الكلأ والعشب فقد خلق الله لها أسنانا قادرة على أكل الكلأ وأمعاء هاضمة له.كما خلق الله تعالى الطيور خلقا يساعدها على الطيران باسطة أجنحتها، إذ كان لا بد أجل غذائها وعيشها؛ فهي، إذًا، تسبح الله تعالى من خلال لها.الطيران من من هيئتها وخلقتها.وهذا هو معنى الصلاة بالنسبة إلى الطيور ولا يملك الإنسان برؤية هذه الأمور إلا أن يعترف بأن الله تعالى هو مالك السماوات والأرض، وأنه لا بد للإنسان من العودة إلى الله تعالى من أجل الحساب.
الجزء السادس ٤٣٥ سورة النور أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ، وَيُنَزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا صلے مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مِّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَرِ (3) يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لعترة الأولى الأنصر شرح الكلمات: ٤٥ ٤٤ يُزجي: زجاه وأزجاه: ساقه؛ دفعه برفق (الأقرب).ركامًا : الركام الشيء المتراكم بعضُه فوق بعض (الأقرب).الوَدْق : المطرُ (الأقرب).سنا: السني: البرق (الأقرب) التفسير: أي ألا تعلم أن الله تعالى يسيّر السحب ببطء على شكل ذرات مائية، ثم يجمعها ويركمها، ثم ترى المطر الخفيف أو الغزير يخرج من خلالها.كذلك يرفع الله نوره أيضا، فهو يبدو في بدايته كغبار خفيف مثل ذرة من الماء، ويكون خفيفا في البداية ثم يزيده الله ويُنزل على الناس كما ينزل المطر الغزير.ثم يقول الله تعالى (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالِ فِيهَا مِنْ بَرَد.ولفظ الجبال هنا يفيد الكثرة حيث يقال "فلان يملك جبالا من فضة وذهب"..أي يملكهما بكثرة.وعليه فالمراد أن الله تعالى ينزل أحيانًا من السماء مطرا غزيرا فيه البرد الكثيرُ ، فيصيب بالبَرَد من يشاء وينقذ منه من يشاء..بمعنى أن البرد كما يدمر الزروع كذلك تؤدي شريعة الله إلى هداية البعض ورقيهم وإلى دمار البعض الآخر؛ وكما أن ضوء البرق يعمي العيون أحيانًا كذلك فإن نور الشريعة يعمي الكافرين أحيانا، فيصيبهم بالضرر بدلا من النفع.
الجزء السادس ٤٣٦ سورة النور ثم يقول الله تعالى يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةٌ لِأُولِي الأَبْصَار..أي أن العاقل يدرك بظاهرة اختلاف الليل والنهار أنه لا بد أن يأتي على الناس أدوار من الهدى وأدوار من الكفر.وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَمِنْهُم مِّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مِّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ خَلْقُ اللَّهُ مَا ج يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ٤٦ التفسير: قوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء يعني أنه تعالى قد خلق كل حي من الماء.وقد بين الله تعالى في هذه الآية أن الناس يستفيدون من الماء الروحاني أيضا بحسب استعداداتهم، فمنهم من يمشي على بطنه..أي أنه يبقى مع الله تعالى ما دام بطنه يُملأ وما دام يُعطى النعم.ومنهم من يمشي على رجلين كالإنسان..أي يحقق رقيا روحانيا عاليا.ومنهم من يكون كالأنعام أي يكون قليل العقل فلا يتوجه إلى الله تعالى بل يصرف همه كله إلى الأكل والشرب.لقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَتِ مُبَيِّنَتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ٤٧ التفسير: لما كان الدين يدعو إلى الأمور الغيبية فلا يمكن أن ينفع ويهدي الإنسان إلا الدين الذي فيه آيات وبينات ومعجزات تكشف الغيب وتجعل خفايا الأمور واضحة جلية.أما إذا ظل الغيب غيبا والخفي خفيا فلا يكون هناك حافز للإيمان بالدين، ذلك لأنه لو لم يأت الدين لظل الغيب غيبا.وعلى سبيل المثال، إن الله تعالى غيب من الغيوب، ولولا الدين لظل وجوده تعالى وراء الغيب، ولكن أهمية الدين ونفعه لا يَثْبُتان إلا إذا أظهر لنا الدين الله تعالى من الغيب من وجود
٤٣٧ سورة النور الجزء السادس خلال المعجزات والبراهين وكأننا نراه عيانا، ولو حصل ذلك فلا شك أنه دين حق وإلا فهو شيء رديء لا ينفعنا وجوده ولا يضرنا عدمه.تعالوا نر الآن كيف حقق الله وعده هذا لرسولنا الكريم.كانت هند من أشد الناس بغضا وعداء للرسول ، وكانت تحرض الكافرين بالشعر على قتال المسلمين في غزوة أحد.ولما أصيب المسلمون بنكسة مؤقتة في القتال أعلنت هند بين الكافرين أن من يجدع أنف وأذن حمزة عم الرسول الا ويأتيها بكبده ستكافئه بجائزة كبيرة.فذهب الكافرون ومثلوا بجثة حمزة.وعندما انتهت الحرب وعلم النبي بما فعل بحثة عمه أخذه حزن شديد، فحلف أنه سيفعل بحثث الأعداء بمثل ما فعلوا بجثة عمه السيرة النبوية لابن هشام الجزء الثالث: غزوة أحد، تحريض هند والنسوة معها، وحزن الرسول ﷺ على حمزة).فنهاه الله تعالى عن ذلك وأمره بأن يعفو عن الكفار ويصفح عنهم رغم كل ما فعلوه آل عمران: ۱۲۹-۱۳۰) وقد تجلت فيما بعد الحكمة البالغة وراء هذا الحكم الرباني.لا شك أن هندا لم تكن من المقاتلين بل كانت من النسوة اللاتي حرّضن الرجال على القتال، لكن كان من بين هؤلاء الكافرين من دخل في الإسلام فيما بعد وخاض الحروب دفاعا عن الإسلام حتى مات أو أصيب بجراح شديدة حتى أوشك على الموت.ولو أن هؤلاء قتلوا في الحرب ضد المسلمين وفعل بهم ما فعلت هند بجثة حمزة لما ظهرت تلك الآيات الإلهية التي ظهرت فيما بعد على أيديهم.وكان من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي فكأن الله تعالى عندما نهى النبي الله عن الانتقام منهم إنما قال له في الواقع: إنك لا تعلم المستقبل، بل نحن نعلم الغيب ونعلم أن الذين تغتاظ منهم الآن سيخرج منهم من سيقدمون تضحيات عظيمة في سبيل الإسلام، لذا فنُبقيهم أحياء لنحقق على أيديهم ما نريد، ولن نحقق لك ما تريد منهم من الانتقام الشديد.خذوا مثلا عكرمة الله ابن أبي جهل.لقد رأى النبي في المنام أن ملاكا جاءه بعنقود من العنب، فسأله: لمن هذا؟ قال الملاك: هو لأبي جهل؟ ففزع من جوابه واستيقظ (المستدرك للحاكم: كتاب معرفة الصحابة، باب رؤيا رسول الله ﷺ الله عنهم.النبي
الجزء السادس ٤٣٨ سورة ة النور الله في إسلام عكرمة).لقد قال في نفسه : كيف يمكن أن يقف رسول الله وعدو هذا في صف واحد، وكيف يتلقى الاثنان عنب الجنة؟ ولكن لما دخل عكرمة في الإسلام فهم النبي تأويل رؤياه، إذ كان المراد من أبي جهل ابنه عكرمة الذي أسلم.وقد حسن إسلامه جدًّا، حيث اشترك في الحروب التي نشبت بين المسلمين والمسيحيين فيما بعد.وفي إحدى هذه المعارك قرر الصحابة مرة أن يهجموا على قلب جيش العدو فجأة لكي لا يتجاسروا على الهجوم على المسلمين.وكان عكرمة من بين الذين تم اختيارهم لهذه الحملة ويذكر التاريخ أن هذه الكوكبة من المسلمين انقضت على قلب الجيش الكافر كما ينقض الصقر على العصفور.كانوا ستين شخصا، وكان عدد العدو ستين ألف مقاتل.وكان الملك الرومي المسيحي قد وعد قائده أنه لو انتصر على المسلمين سيهب له نصف ملكه، كما يزوجه من ابنته.ولكن هؤلاء الستين شقوا صفوف الأعداء ووصلوا إلى قلب الجيش وقتلوا قائدهم.فاستولى الرعب على قلوب الجيوش المسيحية، فلاذوا بالفرار.ولما كان هؤلاء الستين قد شقوا طريقهم إلى قلب جيش العدو من بين ستين ألف سيف ووصلوا إلى غايتهم، فقد سقط بعضهم جرحى.وحين وصل إليهم المسلمون وجدوهم مطروحين على الأرض.ولما كان البلد حارا ، وربما كان الفصل صيفًا، وكان هؤلاء قد شقوا طريقهم بين القوم ضاربين إياهم بسيوفهم، فلا بد أن يكون العرق قد خرج من أبدانهم بكثرة، فاشتد بهم العطش وكانوا يتلهفون لشرب الماء.فمر أحد المسلمين الذين خرجوا يتفقدون إخوانهم الجرحى بعكرمة وعرفه، فأسرع إليه بالماء وقدّمه إليه، فنظر عكرمة في من حوله، فوجد مسلما جريحًا يضطرب من شدة العطش.فلم يشرب عكرمة قطرة من الماء، بل قال لهذا المسلم: انظر هناك أخ من المسلمين القدامى يضطرب من شدة العطش إنه أحق مني بالماء، فاذهب إليه واسقه.فأسرع هذا المسلم إلى ذلك الجريح وقدم إليه الماء.فرفض أن يشربه وقال: هناك مسلم جريح آخر، ، فاذهب إليه واسقه، فهو أحق مني به.فذهب إليه ولكنه أيضا رفض شرب الماء: وقال له اسق أخا لي آخر.فلما ذهب إليه وجده قد فارق الحياة.فرجع هذا المسلم إلى هؤلاء الجرحى واحدا واحدا، فوجدهم قد فارقوا
الجزء السادس ٤٣٩ سورة النور الحياة.ولما عاد إلى عكرمة وجده أيضا قد فاضت روحه (الاستيعاب في معرفة الأصحاب مجلد ٢ ص ٥٢٠: باب عكرمة، والكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد ٢: سنة ١٣، ذكر وقعة اليرموك، ومحاضرات الأمم الإسلامية مجلد ۱ ص ۲۸۸-۲۸۹).عدو الله فما أعظم التضحية التي قدّمها عكرمة ، وما أعظم الآية التي رآها الناس.كان المسلمون قد سمعوا من الرسول أنه قد رأى في المنام ملاكا بيده عنقود عنب فسأله: لمن هذا؟ قال لأبي جهل فاستيقظ فرعًا وقال: كيف يمكن أن يكون ورسوله سواء.فلما رأوا بأعينهم كيف ضحى عكرمة بنفسه في سبيل الإسلام في وقت حرج، وكيف كان متعطشا لقطرة من الماء، ومع ذلك رفض أن يتذوقها ما لم يشرب إخوانه الآخرون ويرتووا، فلا شك أن هذا المشهد قد زادهم إيمانا مع إيمانهم، ولا جرم أنهم قالوا في أنفسهم إن إسلام عكرمة كان بحد ذاته أمرًا شبه مستحيل، أما أن يبلغ بعد إسلامه هذه الدرجة العالية من الإيمان والإخلاص والتضحية فكان أمرًا مستحيلا آخر، ولكن الله تعالى حقق في عكرمة ما كشف على نبيه في الرؤيا.كانت هذه الرؤيا تعني أن عكرمة لله سيموت عطشان كما يشير إلى ذلك الماء الموجود في العنب، ولكن ملائكة الله سيسقونه عصير عنب الجنة.فلا غرو أن هذه الواقعة كانت من الآيات المبينات والتي لا بد أن يكون المسلمون قد ازدادوا برؤيتها إيمانا مع إيمانهم بالله تعالى وبالإسلام.وهذه هي الآيات التي قد أشار إليها الله تعالى بقوله لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَات مُبيِّنات...أي أننا قد أنزلنا من خلال القرآن الكريم آيات كاشفة لوجه الله تعالى وكأنها تري الإنسانَ ربَّه عيانًا.إن الله تعالى شيء غائب بالنسبة للآخرين، ولكنه تعالى ليس بغيب للمسلمين إذ يتجلى لهم من خلال الآيات المبينات.الله عليهم أجمعين - والمثال الآخر لهذه الآيات المبينات هو مثال عمرو بن العاص.كان ابنه عبد الله من الرعيل الأول من الصحابة الكرام – رضوان حيث أسلم قبل أبيه بفترة طويلة وهاجر مع النبي الله إلى المدينة.وكان يعرف الكتابة، ويكتب أحاديث الرسول ﷺ كان يجلس في المسجد ينتظر خروج النبي ﷺ من بيته، فإذا
الجزء السادس ٤٤٠ سورة النور تكلم بشيء كتبه.ولكن النبي ﷺ نهاه فيما بعد عن كتابة أحاديثه وقال له: إني أملي على الكتبة وحي القرآن الكريم، فلا تكتب ،أقوالي، لأني أخاف أن يرى الناس شيئا مكتوبا من كلامي فيظنوه من وحي القرآن الكريم.فلما دنا أجل أبيه عمرو بن العاص ذهب ليزوره، فوجده في غاية الكرب والاضطراب، يتقلب يمينا وشمالا ويقول: رب اغفر لي، فذنوبي كثيرة.فقال له ابنه عبد الله : لماذا تحزن.كنت على خير، وستكون عاقبتك أيضا خيرًا، إن شاء الله.فقد آمنت برسول الله ، وما عيني زلت ثابتا على الإسلام، فلا داعي للقلق.فقال عمرو بن العاص: يا بني، صحيح تقول.فقد وفقني الله تعالى للإيمان بمحمد رسول الله ، ولكن ليتني مت عندها شهيدا في سبيل الله تعالى.يا بني، لقد نشبت بعد النبي ﷺ حروب بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد اشتركت فيها إلى جانب معاوية، ولا أدري كم ارتكبت من الأخطاء.فالتفكير في هذه الأمور يزعجني.ثم قال: يا بني، عندما كنت أعادي الإسلام لم يكن أحد أبغض إلي من محمد رسول الله ، حتى كنت لا أُطيق النظر إليه، فكنت أغمض عيني كلما عرفت أنه قادم، ولو سألني عندها أحد أن أصف له النبي ﷺ ما استطعت.فلما شرفني الله بالإيمان لم أُطق أن أملاً إجلالاً له إيمانا منى بأنه لا يحق لشخص آثم مثلي النظر إلى وجه هذا الشخص العظيم؛ ولو سئلتُ اليوم أن أصف وجهه الله المبارك لما استطعت أن أصفه، إذ لم أره ﷺ في حالة الكفر بغضا وحقدا، كما لم أره أيضًا في حالة الإيمان حبا وإجلالا له (أسد الغابة : عمرو بن العاص، والطبقات الكبرى لابن سعد، المجلد الرابع: عمرو بن العاص) فترى كيف وفق الله تعالى عَمرًا للإسلام رغم كونه هو وأبوه العاص من أعداء الإسلام، ثم شرفه بمكانة مرموقة إذ قاد المسلمين في حروب عظيمة ضد أعداء الإسلام، حيث كان فاتح مصر.يمكنك أن تتصور حالة إيمان المسلمين عندما كانوا يقرؤون أن أعداء الإسلام كمثل الوليد والعاص وغيرهما قد دخل أولادهم في الإسلام وقدموا في سبيله تضحيات عظيمة رائعة.ألد
الجزء السادس ٤٤١ سورة النور ثم هناك هند التي ذكرتُ من قبل أنها كانت تبغض النبي ﷺ لدرجة أنها أمرت الكافرين بالتمثيل بجثة حمزة له عم النبي ، فبقروا بطنه وجدعوا أنفه وقطعوا آذانه.ولما فتح النبي مكة أمر بأسر بعض الناس وقتلهم وكانت هند من بين هؤلاء.ولما أرادت النساء أن يبايعن النبي ﷺ ذهبت هند متنقبة متنكرة وجلست بينهن.فأمر هن النبي الا الله أن يعاهدنه - كما ورد في القرآن الكريم - على أن لا – يسرقن ولا يزنين ولا يفترين ببهتان ولا يشركن بالله تعالى.فلما ردد النبي قوله "ولا" يشركن "بالله" لم تملك هند نفسها وقالت : ماذا تقول يا رسول الله، هل لم تظن أننا سنشرك بعد كل ما حدث؟ لقد حاربناك نحن أهل مكة والعرب كلهم، وكنت وحيدا وقلت إن الله معي وسينصرني، فقلنا: إن إلهك باطل زائف ولن ينصرك أبدا، وأن آلهتنا أقوى من إلهك وستنصرنا ضدك.ومع ذلك انتصرت وانهزمنا.فلو كانت بآلهتنا قوة ولو كان إلهك كاذبا لانتصرنا عليك حتما.فكيف نشرك بالله تعالى بعد رؤية هذه الآية العظيمة؟ فلما سمع النبي ﷺ صوت هند قال: وإنك لهند؟ فقالت من فورها: نعم أنا هند، ولكني قد أسلمت الآن وقد غفر الله تعالى ذنوبي كلها بسبب إسلامي، ولا يمكنك الآن أن تعاقبني.فقال النبي : * صدقت یا هند؟ (البداية والنهاية، الجزء الرابع: فصل مبايعة رسول الله الناس يوم الفتح على الإسلام، والدر المنثور: سورة الممتحنة) فكما أن فتح مكة كان من "الآيات "المبينات فكان حوارها هذا أيضا بمنزلة "الآيات المبينات" لنا، حيث هدى الله تعالى هذه المرأة التي كانت تعادي الإسلام عداء شديدا، فشرح صدرها للإيمان تمامًا حتى إنها اشتركت في حروب المسلمين * ورد في المصدر المشار إليه قول هند: "والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال؟" أما الكلمات التي تحتها الخط فلم نعثر عليها في أي مصدر، غير أن هناك قولاً مشابها لزوج هند أبي سفيان حيث ورد أن الزبير بن العوام قال له يوم الفتح حين كُسر صنم هبل: "يا أبا سفيان، قد كُسر هبل! أما إنك قد كنتَ منه يومَ أُحُد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أَرَى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان." (كتاب المغازي للواقدي: شأن غزوة الفتح ج ۲ ص ۸۳۲) (المترجم)
الجزء السادس ٤٤٢ سورة النور ضد المسيحيين.كان لها ابن يدعى يزيد وكان أكبر من معاوية وكان مسلما مخلصا جدا.فخرج ابنها يزيد هذا وزوجها أبو سفيان الذي كان عدوا شديد العداء للإسلام في أول الأمر، واشتركا في حرب ضد المسيحيين.وكان عدد المسيحيين أكثر من عدد المسلمين بكثير، وفي إحدى المعارك فر بعض المسلمين من ساحة القتال، وكان ابن هند يزيد وزوجها أبو سفيان من بين هؤلاء الهاربين، فلما ولوا الدبر وجدوا النساء المسلمات وراءهم.والحق أن المسلمين لو لم يتثبتوا في تلك المعركة لم يجد العدو في طريقه أي عائق ولوصل إلى المدينة.فلما رأت هند المسلمين الهاربين جمعت المسلمات الأخريات وقالت لهن: تعالين نقاتل اليوم في سبيل الإسلام.فقلن لها: بماذا نحارب؟ قالت: هناك شيء يمكن أن نستخدمه كسلاح.تعالين نمسك أوتاد الخيام بأيدينا ونتصدى بها المسلمين الفارين ومطاياهم ونقول لهم: يا عديمي الحياء، تفرون من وجه الكافرين.فتصدت هند معهن لهؤلاء الهاربين الذين كان يتقدمهم زوجها أبو سفيان وابنها يزيد.فقالت لزوجها: يا للعار يا أبا سفيان.أنت الذي كنت تخرج في أيام كفرك على بعيرك بكل شجاعة لمحاربة النبي ، وأما اليوم فتولي الدبر للكافرين المسيحيين وقد أصبحت مسلما؟ ألا تخجل ألا تستحي ؟ ثم توجهت هند إلى ابنها وقالت له: يا بني، إن عصي هذه المسلمات أشد ضربًا من سيوف المسيحيين، فارجع حالاً، ولا تبال بالموت؟ فعادا إلى ساحة القتال على الفور، ورجع معهم كل المسلمين الهاربين، وانقلبت الهزيمة فتحا عظيمًا.* فهذه هي هند، التي كانت تعادي الإسلام عداء شديدا، وكانت تحرض الكفار على قتال المسلمين بشعرها، فصدرت الأوامر بقتلها يوم فتح مكة، ولكن قبل أن يُلقى عليها القبض تنضم إلى مجموعة النساء اللواتي جئن يبايعن الرسول ﷺ! فهل كان بوسع أي إنسان أن يتصور قبل هذا الحادث أن هذه المرأة ستعتنق الإسلام في هذا الحادث مذكور في "فتوح الشام للواقدي: وقعة اليرموك : تحريض النساء للمسلمين على القتال"، غير أنه لم يُذكر فيه ابن هند.(المترجم)
الجزء السادس ٤٤٣ سورة ة النور يوم من الأيام وتقدم في سبيله تلك التضحيات الجسيمة، وسيكون لها حظ عظيم في الفتوحات الإسلامية.إذا، فلو قرأت التاريخ الإسلامي لشعرت أن كل واقعة من وقائعه كانت آية مبينة بحسب قوله تعالى (لَقَدْ أَنزَلْنَا آيات مُبيِّنات، وكأنها تقول للمسلمين: إن دخول الناس في دينكم ليس بصعب، لأن الله تعالى مجرد غيب بالنسبة للأديان الأخرى، ولكن دينكم يُري الإنسان قدرات الله الغيبية، فلا يمكن أن تقف أية ديانة في وجه الإسلام.وهذه الظاهرة لم تنته قط بل هي مستمرة حتى اليوم، حيث وجد في الإسلام في كل عصر أناس ما زالوا يكشفون نور الإسلام للعالم وفق قوله تعالى القد أنزلنا آيات مُبَيِّنات.فقد جاء في القرون الإسلامية الأولى الجنيد البغدادي، وعبد القادر الجيلاني، والشبلي وإبراهيم الأدهم ومحيي الدين ابن عربي وآلاف غيرهم من أولياء الله تعالى رحمة الله عليهم أجمعين.ثم في القرون الأخيرة جاء المحدث الشاه ولي الله ،الدهلوي، والخواجه الباقي بالله، ومعين الدين الجشي، وشهاب الدين السهرودي، والخواجه بهاء الدين النقشبندي، ونظام الدين أولياء، والخواجة قطب الدين بختيار الكعكي، وفريد الدين غنج شكر، وسيد أحمد البريلوي، وأحمد السرهندي، رحمهم الله تعالى أجمعين.فكل هؤلاء كانوا من المقربين لدى الله تعالى وآيات مُبيِّنات، حيث جدد الناس إيمانهم برؤية كل واحد منهم.ثم لما تضاءل نورهم في العصر الحاضر بعث الله تعالى سيدنا المسيح الموعود ال، فكان واحدة من آيات مُبَيِّنات.فكل من جلس في صحبته تجلى عليه صدق القرآن الكريم وانكشف عليه صدق محمد رسول الله ﷺ، ولم تستطع " قوة إبعاده عن الإسلام ذات مرة رفعت ضده الا قضية من قبل "كرم" دين وكان القاضي هندوسيا، فقام الآريا الهندوس بتحريضه على المسيح الموعود اللة وألحوا عليه أن لا يدعه اللي ينفلت من يده بدون عقاب؛ فوعدهم بذلك.وبلغ الخبر الخواجه كمال الدين فخاف خوفا شديدًا وجاء إلى المسيح الموعود اللي في غورداسبور حيث
الجزء السادس ٤٤٤ سورة ة النور كانت المحكمة وكان حضرته مقيما هناك مضطرًا.فقال الخواجه المحترم لحضرته العلي: سيدي هناك أمر جدا مزعج فإن الآريا الهندوس قد أخذوا من القاضي وعدًا بأنه سيحكم عليكم بنوع من العقوبة في كل حال.وكان المسيح الموعود العليا عندها مستلقياً، فهب من فوره وقال للخواجه المحترم: من ذا الذي يستطيع أن يتشابك مع أسد الله؟ إنني أسد الله ، فسأرى كيف يتشابك هذا الهندوسي معي.فحدث كما قال حضرته العل.لقد رفعت هذه القضية أمام قاضيين مختلفين في محكمتين مختلفتين، وكلاهما قد نزل عليه نكال شديد من الله تعالى.فأحدهما طرد من وظيفته، وأما الآخر فمات ابنه غرقًا في النهر، فصار شبه مجنون حزنًا عليه.وذات مرة رآني في محطة القطار بمدينة "لدهيانه" خلال سفري إلى "دلهي"، فجاءني وقال لي بإلحاح شديد أرجوك أن تدعو لي بأن يعطيني الله الصبر، فقد ارتكبت أخطاء كبرى، وأخاف أن أصبح مجنونًا.لقد بقي لي ولد آخر، فادع الله تعالى أن ينجيني وإياه من المزيد من الدمار.إذا، فقد تحقق بكل جلاء قول المسيح الموعود ال: من ذا الذي يستطيع أن أسد الله؟ وفشل الآريا الهندوس فشلاً ذريعاً.يتشابك مع هي هذه الآيات المبينات التي يكشف الله تعالى بها صدق أنبيائه.ولكنه تعالى يوضح ويقول وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ..أي لا شك أن الله تعالى يُري وجهه للناس من خلال الآيات المبينات، ولكن لا يتيسر الصراط المستقيم لأحد إلا بفضل الله تعالى؛ فعلى المرء أن لا يبرح يدعو الله تعالى في تواضع وخشوع بأن يهديه بنفسه إلى الصراط المستقيم، ثم يثبته عليه دوما؛ ذلك لأن سورة الفاتحة قد صرحت أنه لا يزال هناك خطر ليصبح المرء من الضالين والمغضوب عليهم رغم اطلاعه على الصراط المستقيم، وليس السبيل للخلاص من هذا الخطر إلا أن يخرّ المرء على العتبة الإلهية ويستعين به بالدعاء على الدوام.
الجزء السادس ٤٤٥ سورة النور وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم で مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَتَبِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (3) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ ٤٨ وَرَسُولِهِ، لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (٤) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٢) أفي قلوبهم مَرَضٌ أَم أَرْتَابُوا أَمْ يخَافُونَ أَن تَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أَوْلَتَبِكَ هُمُ ج الظَّلِمُونَ (٢) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللَّهِ درو で وَرَسُولِهِ، لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُ لِحُونَ (3) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَتَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِبِكَ هُمُ الَّا آبِرُونَ ) شرح الكلمات : مذعنين: أذعنَ الرجلُ: أسرع الطاعة؛ وخضع وذل وانقاد (الأقرب).يحيف: حاف عليه : جار وظلم (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن بعض الناس يدعون بأنهم مع الله والرسول، ولكنهم يولون الدبر وقت الاختبار ؛ وهذا يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين بل هم كالشيء الرديء.إنهم إذا كانوا موقنين بتلقي عطاء أو منفعة أتوا مسرعين، وإذا لم يتوقعوا شيئا فرّوا مستعجلين.مما يدل على أن في قلوبهم مرضا، أو أنهم لم يؤمنوا أصلاً، أو يخافون أن طاعتهم لله تعالى ورسوله ستؤدي بهم إلى الخسران وعلى النقيض تجد المؤمنين أنهم كلما دعوا إلى حكم الله ورسوله قالوا سمعنا وأطعنا،
الجزء السادس ٤٤٦ سورة ة النور مؤكدين طاعتهم بعملهم، فيصبحون في نهاية المطاف من المفلحين لأن المرء يفوز دائما نتيجة طاعته لله ورسوله وخشيته وتقواه.الله الله تعالى إن هذه الآيات تقدّم لنا قاعدة هامة جدًا بخصوص الرقي القومي، حيث بين تعالى أن المسلمين لن يحرزوا الرقي القومي ما لم يحكّموا الله ورسوله في النزاعات التي تنشأ فيما بينهم.إن من علامات نفاق المرء وعدم إيمانه أن يطيع ورسوله إذا رأى في ذلك نفعًا، وإذا خاف ضرراً رفض حكم الله ورسوله.والإسلام لا يجيز هذا النفاق أبدًا، ويوضح للمؤمنين أنهم لن يكونوا صادقين في إيمانهم إلا إذا أطاعوا محمدًا رسول الله ﷺ في الأمور الدينية، وليس هذا فحسب، بل عليهم أن يطيعوه في الأمور السياسية والاجتماعية أيضًا، ويجعلوه حَكَمًا فيها.والواقع أن الإسلام ليس من الأديان التي تحصر نطاق الدين في العبادات والعقائد والأفكار فقط، دون أن تتدخل في الأمور الدنيوية للناس باعتبارها خارجة عن نطاق الدين.إن مثل هذه الأديان تعلّم الناس كيف يعبدون ويصومون ويتصدقون، ويؤدون حقوق الناس، ولكنها لا تأمرهم فيما يتعلق مثلا بالنظام والاقتصاد والمعاملات والإرث والعلاقات الدولية وما إلى ذلك.والمسيحية واحدة من هذه الديانات.والواقع أن من أهم الأسباب التي أدت إلى اعتبار أهلها الشرع لعنة (رسالة بولس الأولى إلى أهل غلاطية (۳ (۱۳، أنهم يريدون فصل أعمال العباد عما يفرضه الدين من شروط وقيود.يقولون إنما ينحصر واجب الدين في أن يأمر العباد بأن يعبدوا ويصوموا ويعتنوا بالفقراء ويؤلهوا المسيح، ولا علاقة للشرع بالقضايا الأخرى من قتل وفساد وسرقة وسطو واقتصاد ومعاهدات بين الشعوب وما إلى ذلك.فترى أنهم إذا سُئلوا عن نصيب الذكور والإناث في أموال الإرث قالوا لا علاقة للشرع بهذه الأمور، إنما هو من مسؤولية برلمانات القوم أن تسن القوانين حسبما ترى فيه المصلحة القومية.ونفس الحال بالنسبة إلى الربا؛ حيث يقولون إنهم ما داموا قد قرروا التعامل بالربا سواء في صورة المال أو السلع فلا يحق للدين أن يحرّم علينا ذلك.إذا، فإنهم يكرهون الأحكام التي يصدرها الدين فيما يتعلق بنظام حياة الناس كراهة شديدة، ويعتبرون الشرع لعنة.
الجزء السادس ٤٤٧ - سورة النور وعلى النقيض هناك أديان أخرى قد وسعت نطاق نفوذ الدين، وبينت القواعد والقوانين المتعلقة بشتى أعمال البشر وعلاقاتهم ونظام الحكم وما إلى ذلك.والذين يعتنقون هذه الديانات لا بد لهم من الاعتراف بأن من حق الدين أن يتدخل في معاملات الناس وحكم البلاد، وأن عليهم - أفراداً وجماعات – أن يطيعوا ما يأمر به الدين بهذا الصدد تماما كما يطيعونه فيما يتعلق بالعقائد والأحكام الفردية.ويمكن أن نقدم الدين اليهودي كمثال على ذلك فكل دارس للشرع اليهودي سيجد فيه مثل هذه الأحكام بكثرة، فقد ذكر عقوبة القتل مثلاً، وكذلك عقوبة السرقة وقواعد الحرب وتعاليم تقديم القرابين، وشتى الأحكام الأخرى بصدد المعاملات من بيع وتجارة وما إلى ذلك.باختصار إن الدين اليهودي يتدخل في أمور الحكومة والسياسة.هلم الآن لنر فيما إذا كان الإسلام من النوع الأول من الأديان أم من النوع الثاني.إن النظرة العابرة في القرآن الكريم والحديث الشريف تكشف لنا أن الإسلام هو من النوع الثاني من الأديان، إذ لم يكتف ببيان بعض العقائد والأعمال المتعلقة بالأفراد فحسب، بل تناول أيضًا الأحكام التي تتعلق بالحكومة والقوانين.فلم يأمر بالصلاة والصيام والحج والزكاة فقط، بل أصدر أيضًا الأوامر التي تتعلق بالحكومة وقانون البلاد فتحدّث مثلاً عن علاقات الزوجين، وبين ماذا على الزوجين أن يفعلا إذا تشاجرا، وما هي التدابير التي يجب اتخاذها للصلح بينهما، وما هي نوعية العقاب إذا اضطر المرء ليعاقب زوجته عقابًا ،بدنيًا، وإلى أي مدى يعاقبها.كما تحدث القرآن الكريم عن القرض والدين، فبين عدد الشهود الذين لا بد من الدين، وفصل أنواع الاقتراض ما يجوز منها وما لا يجوز.كما ذكر قوانين التجارة والمعيشة التي عليها بناء القضاء، فأخبرنا نوعية الشهود وعددهم، وما هي الأمور التي يجب اعتبارها عند الشهادة.كما أعطى الإسلام عدة أحكام بصدد القضاء، وبين للقضاة طريق فصل القضايا.ثم إنه فرض عقوبات بدنية على الأفعال التي تتعلق بالناس عادة مثل القتل والسرقة.كما بين قوانين الميراث وتفاصيل الضرائب والشروط المتعلقة بالضرائب الحكومية، مع بيان الخيارات التي عند توافرهم
الجزء السادس ٤٤٨ سورة النور تُمنح للحكومة بصدد إنفاق الضرائب.كما بين الإسلام قواعد المعاهدات التي يجب على الطرفين مراعاتها.كما وضع الضوابط للعلاقات الدولية.ثم بين حقوق العمال وأصحاب الأعمال.وذكر القواعد والآداب المتعلقة بالطرق والشوارع، وبحسب هذه القاعدة لما عُمّرت بغداد جُعلت الطرق الرئيسية بعرض ٦٠ قدما والشوارع بعرض ۳۰ قدمًا.وباختصار فإن الإسلام قد بين جميع الأمور التي تتعلق بالحكم والسياسة.ثم إنه بين قانون التفقه أيضًا الذي يرشد الناس في سن القوانين.إذا، فالذي يدخل في الإسلام ويعلم أنه قد أصدر الأحكام المفصلة بصدد السياسة والحكم، فلا يمكنه أن يقول ما علاقة الدين بهذه الأمور؟ بل لا بد له من اتباع الرسول ﷺ فيما فعله وقاله بصدد الحكم والسياسة مثلما يتبع أحكامه حول الصلاة والزكاة وغيرهما ذلك لأن الله الذي أمرنا بالصلاة والصيام والحج والزكاة، هو الذي أنزل هذه الأحكام المتعلقة بالسياسة والنظام فقال إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: (٥٢).وحيث إن الله تعالى قد اشترط هنا لصحة الإيمان قبول قرار الرسول الله من جهة، ومن جهة أخرى قال إنما المفلحون الذين يقولون سمعنا وأطعنا ولا يخالفون قرار الرسول ال؛ فهذا يعني أن الذي لا يطيع أوامره فإن الله تعالى سيؤاخذه.وقد أكد الله تعالى هذا المعنى نفسه في قوله فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسهمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسليمًا ) (النساء: ٦٦)..أي أن هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مؤمنين حقا ما لم يتخذوك، يا محمد حَكَمًا في النزاعات التي تقع بينهم، وما لم يرضوا بقضائك بقلوب صادقة.لقد بين الله تعالى هنا أمرين غاية في الأهمية : أولهما أن الله تعالى قد اعتبر الرسول الله هنا القاضي النهائي، مبينًا أنه بعد قضاء الرسول ﷺ لن يكون لأحد الحق في استئناف الدعوى، ومن الواضح أن إيتاء الله رسوله حق اتخاذ القرار النهائي يدل على أنه قد مُنح سلطة الحكم؛ وثانيهما أن قول الله تعالى فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا
الجزء السادس ويدعي ٤٤٩ سورة النور ممَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا يؤكد أن الرضا والتسليم بقرار الرسول ﷺ جزء من الإيمان كالصلاة والصيام والحج والزكاة.لنفترض أن زيدًا وعمرا يتشاجران، أحدهما بأن له على الآخر كذا من المال، فيرفض الآخر ادعاءه؛ فيذهبان إلى الرسول ليحكم بينهما، فيحكم لصالح زيد.فإذا لم يرض عمرو بحكمه فإن الله تعالى سيقول له لم تعد مؤمنًا.فبرغم أن زيداً كان يصلي ويصوم ويؤدي الزكاة يحج البيت فإنه إذا لم يقبل حكم الرسول ﷺ في قضيته فإن الله تعالى سيفتي عليه بعدم الإيمان.إذا فكلمة لا يُؤْمِنُونَ أوضحت أن الله تعالى يعتبر طاعة الرسول لال أيضًا جزءاً من الدين وليس خارجه.وهذا الموضوع نفسه قد بينه الله تعالى في الآيات التي هي قيد التفسير من سورة النور"، حيث أوضح للمؤمنين أنه لا قيمة لمجرد ادعائكم بالإيمان بالله ورسوله، وإنما يحظى إيمانكم بالقبول عندنا إذا جعلتم الله ورسوله حكمًا في كل أمر ، ثم لا تتجاسروا على مخالفة حكمه في أية قضية.صلے وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِهِمْ لَبِنْ أَمَرَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُوا ) اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِلَ وَعَلَيْكُم で ما حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَا ) الْمُبِينُ التفسير: أي أن هؤلاء يحلفون لك بكل شدة أنك إذا أمرتهم بالقتال فسيقاتلون حتما، فقُلْ لهم : لا فائدة من هذه الأيمان المؤكدة، إنما المطلوب منهم هو الطاعة كطاعة المؤمنين، إذ بإمكان كل منافق أن يحلف كذبًا فأطيعوا الله ورسوله ولا تتكلموا بجرأة وجسارة.إن المؤمن يؤكد بعمله طاعته الله ورسوله، ولا يكتفى
الجزء السادس ٤٥٠ اتخاذ سورة النور بادعاء الإيمان بلسانه فقط.وإذا ما أعرض هؤلاء عن هذا النصح فليس الرسول بمسؤول عن ذلك، إنما هو مسؤول عن تبليغ الرسالة فقط، وهم الذين تقع عليهم مسؤولية العمل بهذه الرسالة.وإننا نؤكد لهم أنهم إذا أطاعوا محمدا رسول الله ﷺ في هذه الأمور فلن يتضرروا أبدًا، بل سيحققون الفلاح والنصر.وها إننا نوضح لهم ثانية أنه ليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وأنهم هم المسؤولون عن الخطوة العملية وبذل المجهود وتقديم التضحيات فلا يفرحوا بأنهم قد جاءهم رسول من عند الله تعالى فوضعوا أيديهم في يده في الظاهر.كلا، بل إن الله تعالى ينظر إلى أعمالهم وسيعاملهم بحسبها.أما إذا قالوا بأفواههم بأنهم مستعدون لقتال العدو مع الرسول ﷺ في كل موطن، ولكن تزعزعت أقدامهم عند الاختبار العملي وشق عليهم أن يضحوا بأنفسهم في سبيل الله تعالى فليعلموا أن إيمانهم لا يساوي عند الله تعالى حبة خردل.إن مثل موسى وأصحابه أمامهم، لقد ادعوا بطاعة موسى، ولكنه لما أمرهم بالهجوم على أرض كنعان قالوا إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ (المائدة:٢٥).فهل تعرفون نتيجة ذلك؟ لقد ظل قومه تائهين في الصحراء أربعين سنة ولم يستطيعوا الدخول في أرض كنعان إلا بعد أن صاروا مستعدين فعلاً لتقديم التضحيات.فالأصل هو طاعة الله ورسوله لأن جميع أنواع الفلاح منوطة بذلك.والأمة التي تتمتع بروح الطاعة تنجح رغم ضعفها، أما الأمة التي لم تبق فيها فتفشل رغم كثرة عددها.روح الطاعة وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ لَيَسْتَحْلِ نَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ همْ دِيهُمُ الَّذِي ارْتَضَى هُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا ج
الجزء السادس ٤٥١ سورة النور ج يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَتِبِكَ و هُمُ الَّسِقُونَ (3) وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَنَهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (3) ۵۸ التفسير: بدءا من هذا الآيات يتحدث الله تعالى عن المكافآت والنعم التي ينالها المسلمون إذا أطاعوا محمدا ﷺ فقال إن الذين آمنوا بالخلافة وعملوا بما يجعلهم صالحين للخلافة فإن الله تعالى يعدهم بأنه سيجعلهم خلفاء في الأرض كما جعل الذين كانوا من قبلهم، وسيوطد الدين الذي رضي به لهم، وسيبدل كل خوفهم أمنًا، فيعبدونني ولا يشركون بي شيئًا ولكن الذين يكفرون بالخلافة فيما بعد، فلن يتمتعوا بهذه النعمة بل سيُعَدّون خارجين على النظام.لقد أصدر الله تعالى في هذه الآية قراره النهائي فيما يتعلق بمصير المسلمين، الله فوعدهم أنهم لو آمنوا بوجود الخلافة، ساعين لذلك كما ينبغي عليهم، فسيقيم الخلافة كما أقامها في الذين خلوا من قبل وسيثبتهم من خلال الخلافة على بينهم دينهم عابدین الذي اختاره لهم، وسيقوّي هذا الدين، وسيبدل خوفهم أمنًا، مما يجعلهم لله الأحد دائما ولا يشركون به شيئا.ولا يغيبن عن البال أن هذا وعد وليس نبوءة.فلو أن المسلمين لم يثبتوا على إيمانهم بالخلافة وتركوا العمل الصالح الذي هو ضروري لقيام الخلافة، فلن يعودوا مستحقين لهذا الإنعام، ولن يليق بهم عندها أن يقولوا بأن الله تعالى لم ينجز وعده.ثم يقول الله تعالى للمؤمنين بعد ذكر موضوع الخلافة مباشرة وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ))..أي حينما نقيم بينكم نظام الخلافة فمن واجبكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتطيعوا رسول الله.وكأنهم إذا ساعدوا الخلفاء في تمكين الدين فقد أطاعوا الرسول وهذا هو نفس الموضوع
الجزء السادس ٤٥٢ سورة النور الذي قد بينه النبي له بقوله : "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني".(مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية) كما أن الله تعالى قد نبه بقوله وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إلى أن السبيل لطاعة الرسول الله عند قيام الخلافة أن تقيموا الصلاة من أجل تمكين الدين ونشره، وتؤتوا الزكاة وتطيعوا الخلفاء طاعة كاملة.كما لفت الله تعالى بذلك نظر المسلمين إلى أنه لمن المحال بدون الخلافة إقامة لگ الصلاة وإيتاء الزكاة حقا.فقد كان في عهد النبي ﷺ نظام لجمع الزكاة، ولما توفي وصار أبو بكر خليفة، وامتنع معظم العرب عن أدائها بحجة أن حكم الزكاة كان خاصا بالنبي الله وليس الخلفائه، رفض أبو بكر الله الله دعواهم هذه وقال: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدّونه لرسول الله القاتلتهم على منعه" (تاريخ الخميس، الجزء الثاني : ذكر بدء الردّة، والطبري الجزء الرابع بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي).ونجح أبو بكر في هذه المهمة فقام نظام الزكاة على قواعده من جديد، وظل قائمًا في زمن الخلفاء الراشدين الآخرين بعده.ولكن لما انتهت الخلافة الراشدة بين المسلمين لم يعد هناك نظام الجمع الزكاة وهذا ما نبهنا الله إليه في هذه الآية أيضًا بأن المسلمين لا يمكنهم العمل بهذا الأمر بدون نظام الخلافة بينهم.ذلك لأن الزكاة بحسب تعاليم الإسلام تؤخذ من أغنيائهم، وتُوزَّع على الفقراء بواسطة النظام؛ ولا يمكن أن يتم ذلك إلا إذا كان هناك نظام، لأن الشخص الواحد لو أنفق مال زكاته على بعض الفقراء فلن يأتي إنفاقه بنتائج طيبة كالتي يمكن أن تأتي إذا جمعت أموال الزكاة من المسلمين كلهم ثم وزعت على فقرائهم كلهم.وبناء على هذه المسألة، فإن كلّ الملوك المسلمين الذين أنفقوا من بيت المال على أنفسهم من أجل حياة البذخ والترف، وشيدوا قصورا فخمة، وبنوا متنزهات عظيمة، يُصبحون مجرمين.ولو أن الجماهير هي التي طالبتهم ببنائها لجاز لهم ذلك، شريطة أن يكون دون حد الإسراف، ولكن الجماهير لم تطالبهم بذلك، كما أن هذه النفقات تجاوزت حد الإسراف أيضا؛ لذلك فكل هذه الأعمال كانت غير مباحة وتجعل أصحابها ،آثمين إذ لم يكن الإسلام بحاجة إلى
الجزء السادس " ٤٥٣ سورة النور العرش الطاووس" ولا إلى "تاج" "محل" ولا إلى قصر الزهراء" ولا إلى القصور الفخمة التي بناها هارون الرشيد في بغداد.إن كل هذه الأشياء لم تظهر عظمة الإسلام، بل دلّت على مجد شخصيات وعائلات معينة، ولذلك أدت إلى هلاك تلك العائلات.كذلك لا يمكن إقامة الصلاة بدون الخلافة حقًّا، ذلك لأن أهم الصلوات هي صلاة الجمعة التي تكون فيها الخطبة التي يتم بها تذكير الناس بمصالح الأمة وضروراتها.فإذا لم يكن ثمة نظام الخلافة فكيف يطلع الناس على تلك الأمور.فمثلاً كيف يمكن لفروع جماعتنا في باكستان أن تعرف ما يتم في الصين واليابان وغيرها من البلاد من أعمال ونشاطات بصدد إشاعة الإسلام؟ وما هي التضحيات التي يطالبهم الإسلام بها؟ إذا كان للمسلمين جميعا مركز أو خليفة واجب الطاعة، فإنه سيتلقى التقارير من شتى أنحاء العالم حول ما يتم هناك من أعمال ونشاطات لنشر الإسلام، فيُخبر الناس بأن الإسلام اليوم بحاجة إلى كذا وكذا من التضحيات والخدمات.ولذلك فقد أفتى الأحناف أن الجمعة لا تجوز بدون سلطان مسلم (المختصر للقدوري: باب صلاة الجمعة).والحكمة في هذه الفتوى هي ونفس الحال بالنسبة لصلاة العيدين، إذ الثابت من سنّة الرسول أنه كان يلقي خطبة العيد فيما يتعلق بما تحتاج إليه الأمة دومًا.ولكن إذا لم يكن ثمة نظام ما قد بينته."عرش الطاووس": اتخذه "شاه "جهان" الإمبراطور المغولي في الهند، فأخذه "نادر شاه" ملك الأفغان عندما غزا الهند ثم ظل هذا العرش عند الملوك الإيرانيين."تاج محل ": ضريح فخم في مدينة "أغرة بالهند أقامه الإمبراطور المغولى "شاه جهان" لزوجته الملقبة بـ "ممتاز محل"."قصر الزهراء": أنشأه عبد الرحمن الناصر الأموي باسم جارية كان يهواها في مدينة "الزهراء" قريبا من قرطبة بالأندلس بمبالغ كبيرة جلب لبنائه الرخام الأبيض والأخضر والوردي من أفريقيا وبلاد الإفرنج.وقد أحرقت المدينة بما فيها حوالي سنة أربعمئة هجرية على أيدي البربر واندثرت معالمها ورسومها.(المترجم)
الجزء السادس ٤٥٤ سورة ة النور الخلافة فكيف يعرف الفرد الواحد ما هي تلك الضرورات، وكيف يمكن ذكرها في خطبه؟ كلا، بل من الممكن تماما أن يظل بنفسه منخدعا لجهله بالظروف المتجددة، فيدفع الآخرين أيضا إلى الجهل.لقد قرأت في بعض الكتب أنه قبل سبعين أو ثمانين سنة خرج أحد المسلمين سائحًا في منطقة "بيكانير"، ودخل مسجدًا في يوم جمعة، فوجد أن الإمام بعد أن قرأ في البداية شيئا من الخطب الجاهزة المتداولة باللغة الفارسية قال للمصلين: تعالوا الآن نرفع الأيدي لندعو لأمير المؤمنين ملكنا "جهانغير".فكان هذا الإمام المسكين لا يعرف أن "جهانغير" قد توفي قبل مئات السنين، وأن الإنجليز يحكمون الهند الآن! فالجمعة التي هي أهم الصلوات إنما يتمّ أداؤها على أحسن وجه إذا كان بين المسلمين نظام الخلافة.ولما كانت جماعتنا تتمتع بنظام الخلافة فترى أن خطبي تكون بفضل الله تعالى بحسب مقتضيات الظروف السائدة دائما، وهناك كثير من المسلمين من غير جماعتنا الذين يتأثرون من هذه الخطب كثيرا.والواقع أن من واجب القائد توجيه الناس وإرشادهم، ولكن لا يمكن أن يقوم بهذا التوجيه إلا الذي يتلقى الأخبار من شتى أقطار العالم، ويكون مطلعا على مجريات الأحداث ولا يتيسر مثل هذا العلم من خلال الجرائد فقط، لأنها تنشر أخبارا كاذبة أحيانًا، كما أن الصحفيين لا يلتزمون ببيان الأحداث كاملة.ولكن دعاتنا منتشرون في معظم أنحاء العالم، كما أن أفراد جماعتنا موجودون في كل بقعة من بقاع الأرض؛ ولذلك أتلقى منهم أخبارا مؤكدة دائما، فأستفيد منها وأقوم بتوجيه الجماعة بطريق سليم بفضل الله تعالى فثبت أن إقامة الصلاة أيضا لا يتم بدون الخليفة على ما يرام.كذلك إن طاعة الرسول الله أيضا مستحيلة بدون الخلافة، لأن الغرض الحقيقي الرسول ﷺ أن ينخرط الجميع في سلك الوحدة.لقد كان الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين - يصلّون، ومسلمو اليوم أيضا يصلّون، وكان الصحابة يحجون وكذلك مسلمو اليوم أيضا يحجون، فما الفرق بين الصحابة ومسلمي اليوم يا ترى؟ إنما الفرق أن روح الطاعة كانت قد بلغت حد الكمال في الصحابة طاعة من
الجزء السادس روح ٤٥٥ سورة النور أن لكونهم تابعين للنظام.فكلما أمرهم النبي الله بشيء عملوا به دونما تردد.ولكن الطاعة هذه مفقودة في المسلمين اليوم.إنهم يصلون ويصومون ويحجون، ولكن لا توجد فيهم الطاعة، لأنها لا تتأتى بدون النظام.إذا، فكلما تكون هناك خلافة تكون هناك طاعة الرسول أيضا، لأن طاعة الرسول لا تعني أن نصلّي ونصوم ونحج، إذ تدخل هذه الأحكام في طاعة الله تعالى، إنما المراد من طاعة الرسول أنه إذا أعلن أن هذا أوان التركيز على الصلوات فعلى الجميع يركزوا على الصلوات خاصة، وإذا قال إننا الآن بحاجة إلى التركيز على أداء الزكاة والتبرعات فعلى الجميع أن يركزوا على ذلك، وإذا قال إن هذا وقت التضحية بالنفس والوطن فعلى الجميع أن يهبوا للتضحية بنفوسهم وأوطانهم.إذًا، فهذه الأمور الثلاثة هي جزء لا يتجزأ عن الخلافة.ويقول الله تعالى لنا: إذا لم تكن هناك خلافة فستضيع صلاتكم، وتضيع زكاتكم، وتخلو قلوبكم من طاعة الرسول.وبما أن جماعتنا معتادة على العيش تحت النظام، وأفرادها مطيعون بفضل الله تعالى، فلو تم نقلهم إلى عهد محمد رسول الله ﷺ لوجدتهم يتحلون بطاعة كطاعة الصحابة، ولكنك لو نقلت – في عالم تصورك وخيالك – أحدًا من المسلمين غير الأحمديين إلى العهد النبوي لوجدته متعثرًا عند كل خطوة، ويقول مهلاً، فأنا لم أفهم هذا الأمر، بل سيقول كما قال أحد الأفغان: "انظروا، لقد نقض محمد ( صلاته، إذ قد ورد في كتاب "القدوري" أن الحركة الكبيرة تفسد (المرجع السابق).وهكذا سيرفض الطاعة في بعض الأمور.ولكنك لو أخذت أحدًا من المسلمين الأحمديين إلى العهد النبوي فلن يجد نفسه غريبا عن الصلاة" الله يشير هنا حضرة المفسر الله الله إلى طريفة شائعة في بلادنا وهي أن أحد الأفغان كان قد قرأ في كتاب "القدروي" – وهو كتاب في الفقه – أن المصلي إذا قام بحركة كبيرة في الصلاة، علاوة على ما يوجد فيها من حركات، فسدت صلاته.ثم ذات يوم سمع خطيبًا يقول: كان النبي يصلي وحفيده الحسن الله يلعب بجنبه، فأخذ يبكي، فحمله النبي ، فلم يملك الأفغاني نفسه لدى سماع قول الخطيب وقال بصوت عال: انظروا، قد أفسد محمد (ﷺ) صلاته! (المترجم)
الجزء السادس ٤٥٦ سورة النور الناس، بل سينسجم مع المحيط فورًا كما تنسجم قطعة الماكينة في مكانها، من وسيصبح بمجرد وصوله هناك كواحد من الصحابة، فيطيع النبي ﷺ في كل ما يأمره به بدون تردد وسؤال ولن يسبب له ما قاله بعض من الأئمة الأربعة أي عثار، لأنه يدرك أن الحكم الحقيقي ما قاله وفعله الرسول ﷺ، وليس الأئمة الأربعة إلا غلمانًا له بل هم تلاميذ تلاميذه.هذه الآية التي تسمى "آية الاستخلاف" تبين الأمور التالية: الأول : إن الإنعام المذكور فيها إنما هو وعد بحت.والثاني: إن هذا الوعد مقطوع للأمة ما دامت مؤمنة تعمل الصالح والثالث: إن هذا الوعد يهدف إلى التالي: (۱) أن يتلقى المسلمون نفس المكافآت والنعم التي قد تلقتها الأمم السابقة لقوله تعالى اليَسْتَخْلفَنَّهُمْ في الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ.(۲) وأن يمكّن الله تعالى لهم دينهم.(۳) وأن يبدل الله تعالى خوفهم أمنًا.(٤) وأن يتم القضاء على الشرك وتقام عبادة الله تعالى.وقد قال الله تعالى في آخر هذه الآية (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وذلك ليؤكد تحقيق وعده للمؤمنين، وأيضا لينبههم أنهم إذا صاروا ناكرين لهذه النعمة فسينالون عقابًا شديدًا، لقوله تعالى في مكان آخر ولئن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (إبراهيم:(۸)، فبما أن الخلافة نعمة عظيمة فالذين يجحدونها يُعَدُّون من الفاسقين.إن هذه الآية شهادة عظيمة على صدق الخلافة الراشدة، حيث بين الله تعالى فيها أنه سيقيم نظام الخلافة بين المسلمين منّةً عليهم، وسيكون هؤلاء الخلفاء مؤيدين من عنده تعالى، حيث قال (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُمْ، فينال المسلمون ما نالته الأمم السابقة من النعم والمكافآت.ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية علامات يُعرف بها الخليفة الحق من الخليفة الباطل، وهي كالآتي:
الجزء السادس ٤٥٧ سورة ة النور العلامة الأولى: إن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة أي لا يكون في اختيار ذلك الخليفة مكيدة من المكائد البشرية.فلا هو يتمنى الخلافة ولا يُختار بحسب مخطط سابق، بل في بعض الأحيان يتم اختياره في ظروف يبدو اختياره فيها مستحيلا.فكلمات (وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلفَنَّهُمْ) نفسها تدل على أن الله تعالى هو الذي يختار الخليفة، لأن الذي يعد هو الذي يُنجز ما وعد لا أحد غيره.إذًا، فأوّل ما بين الله تعالى في هذه الآية أن الخلفاء الصادقين يأتون من عند الله تعالى، ولا يمكن أن يصبح أحد خليفة بحسب أمنيته أو بحسب مخطط، إذ يكون من أراد الله تعالى أن يجعله خليفة، بل أحيانا سيقع الخيار الرباني على شخص لا تتصور الدنيا أنه سيصبح خليفة.خليفة والعلامة الثانية التي ذكرها الله تعالى للخليفة الصادق أنه تعالى سينصره كنصرته للأنبياء لقوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..أي أن هؤلاء الخلفاء سيستحقون نصرتنا كما استحقها الخلفاء في الماضي.28 علما أننا حين ننظر إلى الخلافة في الذين خلوا من قبل نجدها ثلاثة أنواع تالية: النوع الأول من الخلافة هو "خلافة نبوة" كخلافة آدم الي لقوله تعالى إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة: ۳۱).والظاهر أنه لم يتم انتخاب لآدم، كما لم یکن ملكا، إنما وعد الله الملائكة بإقامة خليفة له في الأرض، فأقام آدم الا بحسب هذا الوعد، وعاقب الذين كفروا به.لا شك أن آدم كان خليفة من حيث إنه هو وقومه خلفوا جيلاً هلكوا، كما كان خليفة من حيث إن الله تعالى قد أخرج نسلا كثيرًا؛ ولكن أكبر ما يميّزه هو أنه كان نبيًا ومأمورًا من عند الله تعالى كما تدل على ذلك الآية المذكورة أعلاه.وبهذا المعنى نفسه قد سمي داود ال خليفة حيث قال الله تعالى (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ منه
الجزء السادس ٤٥٨ سورة النور عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (ص: ۲۷).ولما كان داود ال نبيا فثبت أن المراد من الخلافة هو خلافة نبوة.علما أن البعض قد فسر قوله تعالى ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) بأنه عليك يا داود ألا تتبع أهواء الناس لكن ليس هذا هو المراد، بل لقد نبه الله تعالى هنا داود الا أنه إذا أشارت عليه أغلبية الناس بشيء، فعليه أن لا ينظر إلى الأغلبية فقط، بل يرى فيما إذا كان اقتراحهم مفيدًا أم لا، فإذا كان مفيدًا رضي به، وإلا رفضه خاصة إذا كان فيه إثم وضلال، دون أن يبالي بأنه اقتراح الأكثرية، وإنما عليه أن يعمل بما يهديه الله إليه.وكأن هذه الآية تتضمن نفس المعنى الذي بينه الله تعالى في قوله فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله (آل عمران: ١٦٠).عليهما إذا، فخلافة السابقين كانت "خلافة نبوة" كخلافة آدم وداود السلام - حيث سمى القرآن كليهما خليفة.ولكن كل واحد منهما قد سُمّي خليفة لكونه نبيًا ومأمورًا حيث تسبّب في انجلاء صفات الله في الدنيا وصار مظهرًا الله يا الله في العالم.والنوع الثاني من الخلافة هو "خلافةُ مُلك" كما هو ثابت من قول الله تعالى على لسان هود الله (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمٍ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي العلية الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأعراف:٧٠)، وكذلك من قول صالح ال لقومه في القرآن الكريم وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عاد (الأعراف: ٧٥).فالمراد من الخلفاء هنا مجرد ملوك ،ماديين، وكما أن المراد من النعمة أيضًا مجرد نعمة الحكم والملك.وقال الله تعالى عن اليهود مشيرا إلى هذه النعمة نفسها وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُوْتِ أَحَدًا مِنَ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة: ٢١).فترى أن الله تعالى قد بين هنا أنه جعل اليهود خلفاء بطريقتين أولاهما إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبَيَاءَ أي أعطاهم "خلافة نبوة"، وثانيتهما وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا أي أعطاهم "خلافة ملك".وبما أنه لم يكن في زمن موسى أيُّ ملك يهودي آخر، فالمراد من
الجزء السادس ٤٥٩ سورة النور الخلافة هنا نبوة موسى ومَلَكيّته، حيث صار ملكا عليهم بعد عبور نهر النيل، شأنه شأن النبي الذي كان بعد فتح.ملكيته كانت تابعة لأحكام الله تعالى ولم يكن كالملوك الماديين المستبدين.والنوع الثالث من الخلافة هو أناس يخلفون النبي بعده ويتبعون خطواته أي أنهم نبيا من جهة وملكا من جهة أخرى، ولكن يدعون قومه إلى شرعه ويعملون على اتحادهم، سواء كانوا أنبياء أو غير أنبياء.فمثلا لما ذهب موسى ال إلى الطور في الليالي الموعودة أمر هارون بالإشراف على قومه وقال اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (الأعراف:١٤٣).ولما كان هارون قد وهب النبوة قبل هذه الواقعة، فالخلافة التي وهبها موسى إياه لم تكن خلافة نبوة، بل كانت "خلافة نظام"، إذ لم يكن المراد منها إلا أن يتولى هارون نظام قوم موسى في غيابه ويحافظ على وحدتهم ويجنبهم الفساد.فكان هارون نبيًا تابعًا وخليفة لنبي مَلك أيضًا، ولكن خلافته لم تكن "خلافة نبوة، بل كانت "خلافة نظام".بيد أن الله تعالى قد يجمع في شخص "خلافة نظام" مع خلافة" "نبوة" أي أنه تعالى يبعث لإصلاح أمة نبي سابق نبيا آخر لا يأتي بشرع جديد إنما ينفّذ شرع النبي السابق، وبتعبير آخر إنه يعمل على تكميل مهمة النبي السابق فيما يتعلق بالشرع؛ فيكون خليفة له من هذه الناحية، ولكن فيما يتعلق بمنصبه فيعطيه الله تعالى إياه مباشرة.وقد جاء في بني إسرائيل خلفاء كثيرون من هذا النوع، بل كل أنبياء بني إسرائيل بعد موسى العلة كانوا خلفاء من هذا النوع؛ أعني أنهم كانوا أنبياء، ولكنهم لم يأتوا بشرع جديد، بل عملوا على إقامة شرع موسى ال نفسه.يقول الله تعالى في القرآن الكريم إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارَ بمَا اسْتَحْفِظُوا منْ كتاب الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة: ٤٥)..أي لا شك أننا أنزلنا التوراة وكان كتاباً مليئًا بالهداية والنور يحكم بها لليهود الأنبياء الذين كانوا مطيعين لنا وكذلك العارفون والعلماء الربانيون لأنهم كانوا مطالبين بالحفاظ على كتاب الله تعالى.
الجزء السادس = ٤٦٠ سورة النور إذًا، فإن الله تعالى قد بعث بعد موسى أنبياء كثيرين ليعملوا على إقامة الشرع الموسوي، أي كانوا خلفاء لموسى.وبالإضافة إلى هؤلاء الأنبياء قد عُهدت مهمة جدید إقامة الشرع الموسوي إلى أناس آخرين يمكن أن نسميهم ربانيين وأحبارا.لقد اتضح من ذلك أنه قد جاء بعد موسى الأنبياء ومجددون لفترة طويلة كخلفاء له، وكانت مهمتهم تكميل الشرع الموسوي، وكان آخرهم المسيح الناصري اللي الذي يعتقد كثير من المسلمين خطأ أنه كان نبيا ذا شرعِ (البحر المحيط)، كما يظن المسيحيون من هذه العصور أنه جاء بقانون جديد ولذلك سموا كتابه "العهد الجديد".ولكن القرآن الكريم يعتبر المسيح الناصري خليفة لموسى - عليهما السلام - جاء لإقامة دينه فحسب، حيث أوضح القرآن الكريم بعد الآيات المذكورة أعلاه فقال وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارهم بعيسَى ابْن مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة وَهُدًى وَمَوْعِظَةً للْمُتَّقِينَ) (المائدة : ٤٧) أي بعد النبيين المذكورين أعلاه الذين جاؤوا لإقامة التوراة، قد أرسلنا عيسى بن مريم الله الذي كان متبعا لخطواتهم ومحققا لنبوءات التوراة.ويقول المسيح نفسه: "لا تظنوا أنني جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء.ما جئتُ لأنقض، بل لأكمّل.فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى ٥: ١٧-١٨).باختصار فكل الأنبياء والمجددين الذين جاؤوا بعد موسى الة - بدءا من يوشع الذي خلفه فور وفاته وانتهاء بالمسيح بن مريم - كانوا خلفاء لموسى ومقيمين لشرعه.إذا، فوعد الله تعالى للمسلمين ليستخلفنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ منْ قَبْلِهِمْ يعني أنه تعالى سيمنح هؤلاء الخلفاء البركات كما منحها الخلفاء الأولين وسيعاملهم كمعاملته ل مع الأولين، أي أنهم سيتلقون التأييد الرباني كما تلقاه الأنبياء وخلفاؤهم السابقون.
الجزء السادس ٤٦١ سورة ة النور ولو قال قائل: لقد ذكر الله تعالى في القرآن أن الأولين قد منحوا "خلافة الملك" أيضًا، فلماذا شبهت الخلافة الإسلامية بخلافة النبوة بشكل خاص دون خلافة الملك؟ والجواب أنه مما لا شك فيه أن الله تعالى قد وعد المسلمين بالملوكية أيضا، ولكن الله تعالى لا يتحدث هنا عن الملك المادي بل يتحدث عن النعم الدينية فقط.والدليل الأول على ذلك هو قول الله تعالى ( وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُمْ..أي أن الله تعالى سيقيم الدين الذي ينتمي إليه هؤلاء الخلفاء.وهذا الأمر لا ينطبق على الملوك الماديين، إذ لا يقيم الله تعالى دينهم؛ بل هذا خاص بالخلفاء الروحانيين فقط.فثبت أن الخلافة الإسلامية تشبه "خلافة النبوة" لا "خلافة الملوكية".والدليل الثاني هو قول الله تعالى وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَا..إذ لا تتوافر هذه الميزة في الملوك الدنيويين أبدا، حيث تجدهم اليوم جالسين على عروشهم لابسين تيجانهم، بينما تجدهم غدًا مخلوعين عن عروشهم يتسولون الناس في الشوارع.كما ليس هناك أي وعد لهم من الله تعالى بأنه سيبدل خوفهم أمنًا، بل الواقع أن هممهم تنهار في كثير من الأحيان إذا داهمهم خطر كبير.والدليل الثالث هو قول الله تعالى يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..أي أن هؤلاء الخلفاء يكونون موحدين خالصين وأكبر أعداء للشرك.أما ملوك الدنيا فيقعون في الشرك أيضا حتى قال الرسول ﷺ إنهم قد يقعون في الكفر البواح المكشوف (البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ سترون بعدي أمورًا تنكرونها).فلا يمكن، والحال هذه، أن يكون هؤلاء مصداقا لآية الاستخلاف.والدليل الرابع على أنه ليس المراد من الخلفاء المذكورين هنا ملوكا دنيويين هو قول الله تعالى (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ..أي الذين يكفرون بهؤلاء الخلفاء سيصبحون فاسقين فكيف يا ترى يمكن أن يصير الإنسان فاسقا إذا رفض طاعة ملك يمكن أن يقع في الكفر البواح؟ كلا، لا يمكن أبدًا أن يصبح
الجزء السادس ٤٦٢ سورة ة النور المرء فاسقا لإنكاره طاعة الملوك الماديين كهؤلاء.إنما تصدر فتوى الفسوق ضد الإنسان إذا ما رفض الطاعة للخلفاء الروحانيين.فهذه الأدلة الأربعة المذكورة في آية الاستخلاف تؤكد أن الخلافة المذكورة هنا ليست "خلافة الملوكية".فقول الله تعالى (لَيَسْتَخْلفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...إلخ يؤكد أن الخلافة الموعودة في هذه الآية تشبه "خلافة النبوة" لا "خلافة الملك".والعلامة الثالثة لهذه الخلافة هي أن استمرارها منوط بإيمان الأمة وعملها الصالح، فالله تعالى سيفي لهم وعده ما داموا مؤمنين يعملون الصالحات.وهذا يعني أن من أكبر ما يميّز النبوة عن الخلافة أن النبوة تقام حين تمتلئ الدنيا سوءًا وفسادًا كما قال الله تعالى ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر (الروم:٤٢)..أي أن من سنة الله تعالى، حين ينتشر الفساد في البر والبحر وينسى الناس ربهم ويُعرضون عن أحكامه ويتمادون في الغي والضلال وتحيط الظلمة بكل شبر من الأرض، أن يبعث نبيا لإصلاح الناس، فيعود بنور الإيمان من السماء إلى الأرض، ويهدي الناس إلى الدين الحق.أما الخلافة فتقام حين تكون الأغلبية من القوم مؤمنين يعملون الصالحات.فالخليفة لا يأتي ليثبت الناس على العقائد الصحيحة بل يأتي لتكميل النظام.تأتي النبوة عندما لا يكون عند الناس إيمان ولا عمل صالح، بينما تأتي الخلافة حين يكون جميع الناس - تقريبًا - مؤمنين يعملون الصالحات؛ ومن أجل ذلك لا تبدأ الخلافة إلا عند انتهاء النبوة، لأن النبوة تكون قد ثبتت الناس على الإيمان والعمل الصالح، ولأن أكثريتهم تكون مؤمنة تعمل الصالحات فيُعطيهم الله تعالى نعمة الخلافة.أما العصر الذي لا يخلو من الصالحين كما لا يكون مليئا بالأشرار، فلا تكون فيه النبوة ولا الخلافة؛ إذ لا يكون مرض الناس قد بلغ الشدة في ذلك الوقت حتى يتطلب مجيء نبي، كما لا تكون صحتهم على ما يرام حتى يقام بينهم خليفة يستعين بهم لخدمة الدين.
الجزء السادس فثبت من ٤٦٣ سورة هنا أن الخلافة لا تغيب نتيجة كون الخليفة ناقصا، بل تنتهي ة النور الخلافة نتيجة كون الجماعة ناقصة، وانتهاء الخلافة ليس دليلا على كون الخليفة آثما، بل هو دليل على كون الأمة آثمة، لأن الله تعالى قد وعد صراحة أنه سيختار الخلفاء ما دامت أغلبية الجماعة مؤمنين يعملون الصالحات، أما إذا تردّت حالتها ولم تعد أغلبيتها مؤمنين يعملون الصالحات، فيقول الله تعالى لهم: لقد تغيرتم، فأنا أيضا أنزع منكم نعمتي.ومع ذلك لو شاء الله تعالى فقد يقيم بين مثل هذه الجماعة أيضًا خلفاء لفترة من الزمن إحسانًا ومنّة.فالذي يقول أن الخليفة قد صار فاسدًا فكأنما يعلن أن أغلبية الجماعة قد حُرمت الإيمان والعمل الصالح؛ ذلك لأن الله تعالى قد وعد بأنه سيقيم في الأمة خلفاء ما دامت متمسكة بالإيمان والعمل الصالح، أما إذا لم يعد فيها الإيمان والعمل الصالح فسينقطع مجيء الخلفاء بينها.إذا، فلا إمكانية لفساد الخليفة الراشد، لكن هناك إمكانية في كل وقت أن تفسد أكثرية الجماعة وتصبح محرومة من الإيمان والعمل الصالح.والعلامة الرابعة التي ذكرها الله تعالى أنه سينشر في الدنيا ما يأتي به هؤلاء الخلفاء من أحكام وأفكار دينية رغم الظروف غير المواتية لقوله تعالى (وَلِيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ.وهذا برهان عظيم على صدق الخلافة الحقة، وإذا تدبّر فيه المرء وجده آية عظيمة على صدق الخلفاء.الغريب أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما كانا نفوذ ولا قوة بين العرب، بينما كان عثمان وعلي - من عائلات لم يكن لها الله عنهما رضي - من عائلات ذات نفوذ وقوة بين العرب، إذ كان بنو عبد شمس موالين لعثمان له، وكانت بنو عبد المطلب موالين لعلي الله ، وكلتا القبيلتين كانت تتمتع بنفوذ كبير بين العرب.ولما أصيبت الخلافة بالنكسة ولم تعد أغلبية المسلمين مؤمنين يعملون الصالحات فرض بنو عبد شمس الموالون لعثمان الله حُكمهم على المسلمين، فظلّوا خلال حكمهم يُثنون على عثمان خيرا ويذمون عليًّا، وقلما تجد في عهدهم من يُثني على أبي بكر وعمر ويذكر محاسنهما رضي الله عنهم جميعًا (البداية والنهاية، المجلد
الجزء السادس ٤٦٤ سورة النور التاسع ص ٢٣٤ : ثم دخلت سنة ست ومئة).ثم تغيرت الظروف وانتزع بنو عبد المطلب الحكم من بني عبد شمس وقامت الدولة العباسية في بغداد، فبذلوا جهدهم في مدح علي.و بيان مناقبه لانتمائهم إلى أهل البيت (الطبري: المجلد الثامن، خلافة أبي العباس، ذكر الخبر عن سبب خلافته.وهكذا ظلت فئة من المسلمين تذكر مناقب عثمان به لمئات السنين، بينما ظلت فئة أخرى تبين مناقب علي الله في فترة أخرى، وبرغم أنه لم يوجد في تلك الأيام أنصار كثيرون لأبي بكر وعمر إلا أن الله تعالى كتب لأحكام وفتاوى أبي بكر وعمر من العزة والقبول ما لم يكتب لفتاوى عثمان وعلى أجمعين.وهذا دليل ساطع على صدق قول الله تعالى وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، حيث أقام الله تعالى دينهم وكتب لهم العزة رضي الله عنهم والقبول في قلوب الناس؛ فلو سألت أي مسلم اليوم من هو أعز الخلفاء عنده لقال الله عنهم.فبرغم أنه قد جاءت فترة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي – رضي قرون لم يكن أحد فيها يذكر أبا بكر وعمر بخير، وبرغم أن الناس ينسون كبار مشاهيرهم في مثل تلك الحقبة الطويلة إلا أن الله تعالى كتب لهما الخلود وكتب لفتاويهم وأقوالهم عزا وشهرة أكثر مما كتبه لفتاوى وأقوال عثمان وعلي – رضي الله أجمعين.عنهم ثم إن بني عبد شمس قد حاولوا جاهدين في زمن حكمهم تشويه سمعة علي ثم في عهد الدولة العباسية تعرض عثمان الله لحملة من المطاعن الكثيرة، وكانت هناك محاولات من الحكومات لمحو اسم هذين الخليفتين، إلا أن الله تعالى قد هي عنه ) أخرجهما نقيين طاهرين وكتب لهما العزة والشرف في العالم الإسلامي كله.ثم إن من معاني الدين الحكم والسياسة، وعليه فقوله تعالى ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ أن علامات الخلفاء الصادقين أن الله تعالى يعني من كتب النجاح لسياستهم وإستراتيجيتهم.من الممكن أن يخطئ الخليفة في الأمور الشخصية أحيانًا، ولكنه لو أخطأ في ما يخص الجماعة ورقيها ماديًا وروحيًا فإن الله من مغبة خطئه ويطلعه على خطئه بطريق آخر فيتداركه.وهذا "العصمة الصغرى" بحسب مصطلح الصوفية.وهذا يعني أن الأنبياء تعالى يحمي ما يسمى جماعته
الجزء السادس ٤٦٥ سورة ة النور يدعهم الله يتمتعون بــ "العصمة الكبرى"، أما الخلفاء فيتمتعون بـ " العصمة الصغرى"، فلا تعالى يرتكبون خطأ فادحا يؤدي إلى هلاك الجماعة.من الممكن أن تحدث في قراراتهم أخطاء جزئية طفيفة، ولكن العاقبة تكون خيرا، فيجعل الله على أيديهم الإسلام غالبًا وأعداءه ،مغلوبين، وبتعبير آخر إن سياستهم تصبح سياسة الله تعالى لكونهم يتمتعون بـ "العصمة الصغرى" من عنده تعالى.لا شك أنهم هم الذين يتكلمون وأن ألسنتهم هي التي تتحرك، وأن أيديهم هي التي تعمل، وأن عقولهم هي التي تعمل، ولكن يد الله تعالى هي التي تعمل وراء كل هذا.فمن الممكن أن يقعوا في أخطاء جزئية في قراراتهم، كما يمكن أن يُقدّم إليهم المستشارون مشورة خاطئة، ولكن الله تعالى يأخذ بهم سالمين من بين هذه العوائق والعقبات، ويكتب لهم النجاح؛ وكلما اكتملت حلقات قراراتهم جاءت سلسلة أحكامهم سليمة محكمة بحيث لا تقدر قوة على كسرها.والعلامة الخامسة التي بينها الله تعالى للخلفاء الصادقين هي قوله وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا..أي كلما هدد خطر ما الخلافة الإسلامية على نطاق الأمة هيا الله الأسباب التي تُبدّل هذا الخطر أمنًا للأمة شريطة أن تكون قلوبهم عامرة بنور الإيمان.فترى أنه لما عمت الفوضى عند استشهاد عثمان له جمع الله تعالى طائفة كبيرة من المسلمين على يد علي الله.ولما قام معاوية ضد علي – رضي الله عنهما خلق الله تعالى الخشية في قلب معاوية الله كما اقتضتها الظروف، فبعث إلى ملك الروم المسيحي – الذي أراد أن يستغل النزاع بين المسلمين وقرر الهجوم على المملكة الإسلامية - رسالة ينذره فيها بقوله : لا يغرنك الخلاف الموجود بيننا نحن المسلمين.واعلم أنك لو هاجمت الدولة الإسلامية فسأكون أول قائد يخرج لمحاربتك دفاعا عن على.فخاف الملك الروماني، وانقلب خوف المسلمين نص ما ورد في بعض المصادر هو أن معاوية له كتب للملك المسيحي: "والله، لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، يا لعين، لأصطلحنّ أنا وابن عمي عليك، ولأُخرجنّك من جميع بلادك، ولأضيّقن عليك الأرض بما رحبت.فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف".(البداية والنهاية المجلد التاسع ص ١١٩: وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه).(المترجم)
الجزء السادس ٤٦٦ سورة النور أمنًا.لقد كان هذا التصرف من معاوية الا الله دليلا على أن قلبه كان عامرًا بالإيمان لو جزئيا، ولو أن معاوية تصالح مع عليّ وأطاعه طاعة كاملةً لزال الخلاف بين المسلمين للأبد، وكانت لذلك نتائج طيبة جدا تجعل مسلم اليوم يرفع رأسه بكل فخر.ولكن المؤسف أن معاوية الا الله أعلن طاعة مؤقتة و لم يعلن طاعة كاملة.يظن البعض خطاً أن المراد من هذه الآية أن الخلفاء الراشدين يكونون محفوظين من كل تخويف، فيستنتجون بناء على ظنهم هذا أن عمر وعثمان وعلي لم يكونوا خلفاء راشدين إذ قد تعرضوا لشتى القلاقل حتى قُتلوا، فليس هناك خليفة راشد صادق إلا أبا بكر فقط.لقد وقع هؤلاء في هذا الخطأ لأنهم لم يتدبّروا ألفاظ القرآن الكريم.لا شك أن تبدل الخوف أمنًا نعمة عظمية، ولكن الله تعالى لم يقل هنا "وليبدلنهم من بعد الخوف أمنًا"، بل قال وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا..أي أنه تعالى يزيل الخوف الذي تستشعر به قلوبهم ويدفع ما يسبب لهم الخوف ويبدله أمنًا.إذًا، فليس الله تعالى أن الخلفاء لا يتعرّضون لما يُعَدُّ في نظر غيرهم من الناس شيء هناك وعد من خوفا، وإنما يعد الله تعالى بإزالة ما يسبّب الخوف للخلفاء.فالثعبان مثلاً مخيف عادة، ولكنه لا يسبب أدنى خوف لكثير من الناس الذين يأخذونه بأيديهم - ويلعبون به كذلك فإن الفقر شيء مخيف، ولكن الرسول و لم يحفل به بل قال : "الفقر فخري"..أي أن الفقر لا يسبب لي ذلة ولا مهانة، بل هو مبعث فخر لي.فلو كان أحد يعتقد أن عدم تير وجبة من وجبات الطعام أمر مخز للمرء، فهل نقول أن هذا الأمر كان حاشا لله – خزيًا وعارًا للنبي ﷺ أيضًا؟ كلا، بل إن الذي يعتبر الفقر مفخرة ويفضّل الأسمال البالية على الثياب الفاخرة، ويعد متاع الدنيا أحقر من النجاسة فلا يمكن أن يسبب له الفقر أي خوف.كذلك فإن الله تعالى لم يقل هنا "وليبدلنهم من بعد الخوف أمنا"، بل قال وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خوفهمْ أَمنا..أي لن يكون هناك ما يخيفهم.ولو وضعنا هذا الأمر في الحسبان لتبين لنا أنه لم تأت على الخلفاء أي مصيبة خافوها، وإذا حلّت بهم بالفعل مصيبة كهذه أزالها الله تعالى.لا شك أن عمر الله
الجزء السادس ٤٦٧ سورة النور أسألك قد استشهد، ولكن واقع الأمر يكشف لنا أن عمر الله لم يكن يخاف الشهادة، بل كان يتمنى الشهادة في سبيل الله تعالى، حيث كان يدعو: "اللهم إني الشهادة في سبيلك، وموتًا في بلد رسولك" (البداية والنهاية المجلد السابع ص : ١٣٧: خبر سلمة).فإذا استُشهد من كان يدعو الله تعالى طوال عمره بأن يُستشهد في المدينة، فكيف نقول عنه حين استشهد أنه جاء عليه وقت من الخوف ومع ذلك لم يبدل الله تعالى خوفه أمنًا؟ لو كان عمر الله خائفا من الشهادة ثم استشهد لجاز لأحد القول إن الله لم يبدل خوفه أمنًا، ولكنه ما دام يدعو الله تعالى أن يكتب له الشهادة في المدينة، فكيف نقول أنه كان يخاف الشهادة؟ وما دام عمر له غير خائف من الشهادة، بل كان يدعو لها حتى استجاب الله له دعاءه، فثبت أنه لم يأت عليه خوف يستشعره في قلبه ثم لم يدفعه الله عنه.فإن هذه الآية إنما تقول إن ما يخافه الخلفاء لن يقع أبدا، حيث وعدهم الله تعالى بتبديل خوفهم أمنًا.فإذا كانوا لا يخافون أمراً، بل رأوا فيه عزّتهم ورفع درجاتهم، فلا يصح أن يعتبره أحد خوفًا لهم، ثم يقول : لماذا لم يبدل الله تعالى خوفهم أمنًا؟ عندما قرأت دعاء عمر الله قلت في نفسي إن دعاءه هذا كان يعني في الظاهر أن يشن الأعداء على المدينة هجوما شديدا يقضي على جميع المسلمين حتى يصل الأعداء إلى عمر ويقتلوه.ولكن الله تعالى قد استجاب دعاءه من جهة، ومن جهة أخرى قد هيأ الأسباب لحماية شرف الإسلام وعزته أيضًا، فبدلاً من أن يهاجم عدو من الخارج قام أحد الخبثاء من داخل المدينة نفسها وقتل عمر الله بالخنجر.(البداية والنهاية المجلد السابع ص ۱۳۷) ثم إن الأحداث التي وقعت مع عثمان له تؤكد أنه لم يكن خائفا منها، إذ الثابت من التاريخ أن المتمردين لما استولوا على المدينة كانوا ينتشرون قبل الصلاة في المسجد ليفصلوا أهل المدينة بعضهم عن بعض، حتى لا يجتمعوا ولا يهبوا للمقاومة.وبرغم هذا الجو المشحون بالفتنة والخطر كان عثمان له يحضر المسجد للصلاة وحده دون خوف وظل يحضره إلى أن منعه الناس من ذلك.ولما تفاقمت الفتنة وأراد المتمردون الهجوم على بيت عثمان له ناشد الصحابة أن لا يعرّضوا
الجزء السادس ٤٦٨ سورة النور من أجله أرواحهم للخطر، بل عليهم أن يرجعوا إلى بيوتهم بدلاً من حراسة بيته.(المرجع السابق ص ١٧٦-١٧٧) فهل يتصرف الخائف من الشهادة هكذا؟ وهل يقول للناس: لا تحرسوني بل ارجعوا إلى بيوتكم.ومن الأدلة الدامغة على أن عثمان الله لم يكن خائفا من هذه الأحداث أن معاوية للله جاء للحج أيام تلك الفتنة، وعندما أراد العودة إلى الشام ذهب إلى المدينة للقاء عثمان ، وعرض عليه أن يخرج معه إلى الشام ليكون في مأمن من الفتن.فقال له عثمان : "لا أختار بجوار رسول الله ﷺ سواه".فقال معاوية: إذا كنت لا ترضى بذلك فإني أبعث لك من الشام جنودًا يحمونك من الثوار.فقال عثمان الله: "لا أريد أن أقتر على جيران رسول الله الأرزاق بجند تساكنهم".قال معاوية : إن هؤلاء سيقتلونك غدرًا أو يخرجون لمحاربتك.قال: "حسبي الله ونعم الوكيل".(الكامل في التاريخ: المجلد الثالث ص ١٥٧: ثم دخلت سنة خمس وثلاثين، والبداية والنهاية المجلد السابع ص ١٦٩: ثم دخلت سنة أربع وثلاثين، والطبري: الجزء الخامس ص ٣٥٣: ثم دخلت سنة خمس وثلاثين) فقال: إذا كنت لا ترضى بأي شيء فإني أخبرك أن هؤلاء الأشرار مغترون أن بعض كبار الصحابة سيديرون الأمور بعدك على ما يرام، وإن هؤلاء الأشرار يخدعون الناس بذكر أسماء هؤلاء الصحابة الكبار، فأرجوك أن تأمر هؤلاء الصحابة بأن يتركوا المدينة وينتشروا إلى مختلف الأقطار، فهذا سيثبط من همم المتمردين إذ يقولون في أنفسهم ما الفائدة من التعرض لعثمان ما دام لا يوجد في المدينة من يستطيع إدارة الأمور.ولكن عثمان رفض اقتراحه وقال: كيف يمكن أن أنفي من المدينة قومًا جمعهم الرسول ﷺ هنا.فبكى معاوية وقال: إذا كنت لا تريد أن تفعل أي شيء فأعلن بين الناس أن معاوية سيأخذ بثأرك لو قتلت.فقال عثمان الله: لن أقوم بهذا الإعلان لأن في طبعك حدّة وأخاف أن تقسو على المسلمين.يزعم البعض أن عثمان له كان ضعيف القلب.ولكن كم من الناس يمكن أن يُبدوا الشجاعة كالتي تحلى بها عثمان ، وكيف يمكن أن يقال بعد ذلك أنه كان
الجزء السادس ٤٦٩ سورة النور يخاف؟ لو كان خائفا لقال لمعاوية : نعم ابعث إلي كتيبة من جيشك لحراستي وأنا سأنفق عليهم.لو كان عثمان الله خائفا لأعلن بين الناس أن أحدا لو تعرّض له فإن معاوية سيأخذ منه بثأره، ولكنه لم يجب معاوية لا لا لا اله إلا بقوله: إن فيك حدة اله وأخاف أن تشدد على المسلمين إذا أعطيتك هذا الخيار.نادما فتقدم.ثم لما هاجم الأشرار عثمان الله وتَسوّروا عليه بيته لم يخف منهم أبدا، بل ظل يقرأ القرآن بسكينة.فتقدم ابن لأبي بكر الله يدعى محمد بن أبي بكر - سامحه الله - وأخذ بلحية عثمان الله وهزّها بشدة.فرفع عثمان له بصره وقال: يا ابن أخي، لو كان أبوك هنا لما سمح لك بذلك.فارتعدت فرائصه ورجع شخص آخر وضرب رأس عثمان له بقضيب من حديد، ثم ركل برجله المصحف الموجود د أمامه الله ورماه بعيدا.ثم جاء شخص ثالث وضرب عثمان بسيفه وقطع يده.ثم ضربه ضربة أخرى، فحالت دونه زوجة عثمان اسمها نائلة فقطعت أصابعها.ثم ضربه ضربة ثالثة فسقط عثمان جريحا، وأغمي عليه.ثم فكر هذا أنه الشقي ربما لم يمت فخنقه و لم يتركه حتى فاضت روحه (البداية والنهاية المجلد السابع ص ١٨٤ - ١٨٥ : صفة قتله – أي عثمان - ه) من ذا الذي يمكنه بعد معرفة هذه الأمور أن يقول أن عثمان له كان خائفا مما وقع به؟ وما دام غير خائف من هذه الأمور، فكيف يقال إن ما وقع كان خلافا لقوله تعالى وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.لقد كان يخاف أن يتضاءل نور الإسلام، فتحقق ما أراد تحقيقه رغم وقوع هذه الأحداث، وبدل الله خوفه أمنًا.ونفس الحال بالنسبة لعلي ، فكان يخاف أن يتوقف انتشار الصدق والروحانية، فبدل الله خوفه أمنًا.ولكنه الله ما خاف من معاملة الناس له، حيث كان جيش معاوية له في بعض الأحيان يزيد على جيش عليه، ولكنه لم يكترث لذلك أبدا، وظل يقول إنه لن يرضى إلا بما يقوله القرآن الكريم.ولو ظننا أن هؤلاء الخلفاء الراشدين كانوا يخافون المعارضة لوجب التسليم بأن أنبياء الله تعالى - والعياذ بالله - أيضًا كانوا يخافون الناس دائما، إذ لا يتعرض أحد للمعارضة الشديدة كما يتعرض لها الأنبياء.فثبت أن معارضة أهل الدنيا ليست
الجزء السادس ٤٧٠ يعني منه ذلك أنهم يشعرون سورة النور بشيء في أعين الخلفاء حتى يخافوا منها، كما أن الله تعالى لم يقل هنا "وليبدلنهم من بعد الخوف أمنا"، بل قال وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمنا..أي سيدفع عنهم ما يخافونه.وكما بينت من قبل أنهم ما كانوا يخافون إلا أن تقع الأمة في الغى والضلال.ولكن ببركة اهتمامهم ودعائهم حفظ الله تعالى معظم الأمة الإسلامية من الضلال، فظل مذهب أهل السنة والجماعة هو المذهب الغالب على سائر المذاهب الأخرى في العالم.وعندما أقول إن الخوف هنا لا يعني الخوف العادي، وإنما المراد الخوف الذي تستشعره قلوب هؤلاء الخلفاء، فقولي هذا لا بالخوف العادي بالضرورة، بل إن الله تعالى يبعد عنهم هذا النوع من الخوف أيضا، إلا أن تكون هناك مصلحة ربانية؛ ومثاله الخوف الذي كان في عهد علي له، وكان سبب ذلك أن حالة المسلمين عموما كانت قد تردَّت لدرجة أنهم لم يعودوا عندها مستحقين لنعمة الخلافة فأنا لا أقصد مما قلت أن الله تعالى لا يحفظهم من الخوف العادي، إنما أركز هنا على أن الوعد الإلهي المذكور في هذه الآية إنما يخص ذلك الخوف الذي يعتبره الخلفاء خوفا، والواضح أنهم ما كانوا يخافون إلا أن تقع الأمة الإسلامية في الغي والضلال، فبدل الله تعالى خوفهم هذا أمنًا حيث حفظ الأمة من الضلال فضلا منه، وظلّت الهداية الإلهية ميسرة للمسلمين بعد وفاة الخلفاء أيضا رغم الفتن الكبيرة.والحق أن المعجزة الحقيقية إنما هي أن تظل أعمال المرء وأمانيه تتحقق بعد وفاته أيضًا، إذ لو تحقق له في حياته ما أراد فقد يرجع الناس نجاحه إلى التدابير المادية.أما إذا تحققت أهدافه بعد وفاته أيضا فلا يمكن لأحد أن يرجع نجاحه إلى التدابير المادية بل كان هذا دليلا على كونه محبوبا ومقربًا عند الله تعالى.وعلى سبيل المثال لقد رأى النبي الله في الكشف أن سراقة بن مالك يلبس الأسورة الذهبية لكسرى فارس.فمعجزة النبي ﷺ لا تكمن في رؤيته أسورة كسرى في يد سراقة، وإنما معجزته أن هذا الكشف قد تحقق بعد وفاته ، حيث جاءت تلك الأسورة في أموال الغنائم بعد وفاته بفترة طويلة.وبرغم أن الشرع يحرم على الرجال لبس الذهب إلا أن الله تعالى ألقى في قلب عمر له أن يُلبس
سرا ٤٧١ الجزء السادس سورة النور اقة تلك الأسورة الذهبية تحقيقا لكشف الرسول ، وبالفعل ألبسه إياها.والمعجزة الأخرى في ذلك أن عمر ه كان قد بلغه خبر هذا الكشف النبوي فحققه؛ إذ كان من المستحيل أن يسمع عمر له كل ما قاله الرسول ﷺ في مختلف المناسبات، ثم كان هناك احتمال كبير أن ينسى من سمع قول النبي ﷺ هذا ولا يذكره لغيره؛ إذًا، فمن المعجزة أيضا أن عمر الله الذي وصلته هذه الأسورة الذهبية كان قد بلغه هذا القول النبوي والجزئية الأخرى من هذه المعجزة أنه برغم أن الإسلام يحرم على الرجال لبس الذهب لبعض الحكم، إلا أن الله تعالى أراد تحقيق نبوءة لرسوله ، فألقى في روع عمر أنه لا بأس في أن يُلبس الأسورة الذهبية هذا الصحابي لبعض الوقت تحقيقا لنبوءة الرسول ﷺ، ففعل.(أسد الغابة: المجلد الثاني ص ٢٦٥ - ٢٦٦: سراقة بن مالك) ثم إننا نرى أن الله تعالى ظل يبدل خوف الخلفاء الراشدين أمنًا بعد وفاتهم أيضا، حينًا بعد قرن، وحينًا بعد قرنين وحينًا بعد ثلاثة قرون، وحينًا بعد أربعة قرون، وحينا بعد خمسة قرون، وذلك ليكشف الله تعالى للعالم أنه يحبهم ولا يريد أن يخيب آمالهم.بيد أنه لو اعتبر الخطاب موجهًا إلى الأمة كلها، فلا بأس أيضًا، لأن الخوف الذي تشعر به الأمة إنما هو أن لا يتغلب الكافرون على الإسلام.ذلك لأن الفرد الواحد إنما يخاف من موت ابنه أو كساد تجارته مثلاً ، ولكن خوف القوم يحمل طابعا عاما، وما هو إلا الخوف من غلبة الكافرين على الإسلام.وقد بدل الله تعالى هذا الخوف العام للمسلمين أيضًا حيث كتب للإسلام غلبة لم يسبق لها نظير في أي مكان.والعلامة السادسة التي بينها الله تعالى للخلفاء الصادقين هي يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا...أي هؤلاء الخلفاء سيقومون بعبادتي دون أن يشركوا بي شيئًا..بمعنى أن الله تعالى سيشحنهم بالشجاعة والجرأة فلا يخافون في الله تعالى لومة لائم.إنهم لن يعملوا أي شيء خوفًا من المخلوق، بل يتوكلون على الله تعالى ويعملون كل شيء ابتغاء وجه الله ورضوانه تعالى وليس المراد من قوله تعالى لا
الجزء السادس يُشْرِكُونَ بِي ٤٧٢ سورة النور شيئا أنهم لن يعبدوا الأصنام، ذلك لأن المسلم العادي أيضا لا يعبدها فما بالك بالخلفاء.إنما المراد من قوله تعالى لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا) أنهم لن يتنازلوا عن أي موقف خوفًا من المخلوق، بل سيقومون بكل عمل تحقيقًا لمشيئة الله وابتغاء مرضاته تعالى غير مكترثين للمحن والمصائب التي قد تصيبهم في هذه = السبيل؛ ذلك أننا نرى أن أكبر الشجعان أيضًا يغير في بعض الأحيان موقفه خوفًا من الناس، فمع أنه لا يريد الانحراف عن الحق إلا أنه يتمنى في قلبه أن يقوم بعمله بحيث لا يعترض عليه أحد، فيحاول إرضاء الجميع.قول كان الشيخ غلام علي من الوهابيين المتشددين وكان الوهابيون قد أفتوا بجواز أداء صلاة الجمعة في الهند زمن حكم الإنجليز، بينما كان الأحناف يرونه غير جائز إذ يقولون إنما تجوز صلاة الجمعة إذا كان السلطان مسلما، وحين يكون الإمام قاضيًا، وإذا كان مكان الجمعة مدينة من المدن إمداد الفتاوى – مختصر سوانح حيات أشرف علي تهانوي - المجلد الأول، باب صلاة الجمعة والعيدين : ص ٤٥٩، وفتاوى نذيرية: مجلد أول: كتاب الجمعة ص ٥٧٥.لما كان الإنجليز مستولين على الهند آنذاك فلم يكن هناك سلطان مسلم ،ولا ،قاض، فكان الشيخ غلام علي الوهابي لا يرى جواز أداء صلاة الجمعة في الهند من جهة، ولكنه من جهة أخرى كان يقرأ في القرآن الكريم الله تعالى إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البيع (الجمعة: ١٠)، فكان لا يشعر براحة البال، إذ كان يود أن يصلي الجمعة، ولكنه كان يخاف من أن يفتي الأحناف ضده؛ فلكي يحل هذه المعضلة كان يصلي الجمعة في قريته أولاً، ثم يصلي الظهر أيضًا، ظنا منه أنه إذا كانت فتوى أداء الجمعة صحيحة فلا يخسر، وإذا كانت فتوى أداء صلاة الظهر مكان الجمعة صحيحة فأيضا يفوز.فكان يسمي صلاة الظهر التي كان يصليها "الصلاة الاحتياطية"، وكان يقول إذا رفض الله تعالى صلاة الظهر نضع أمامه صلاة الجمعة، وإذا رفض صلاة الجمعة سنقدم إليه صلاة الظهر.والذي كان لا يصلي هذه "الصلاة الاحتياطية" كان يُعتبر من الوهابيين.
الجزء السادس ٤٧٣ سورة ة النور وكان المسيح الموعود اللي يحكي لنا أنه سافر ذات مرة مع الشيخ غلام علي إلى مدينة غورداسبور، وحانت صلاة الجمعة في الطريق، فدخل الجميع بمن فيهم الشيخ غلام علي في مسجد لأداء الجمعة.علما أن مذهب المسيح الموعود الله كان مشابها بمذهب الوهابيين الذين يرون أنه لا بد للنجاة من العمل بأحاديث الرسول ﷺ واتباع أسوته.وبعد أن فرغ الجميع من الجمعة، صلى الشيخ غلام علي أربع ركعات كصلاة الظهر.يقول المسيح الموعود اللي فسألته: ما هذه الركعات بعد صلاة الجمعة؟ قال : إنها "الصلاة الاحتياطية.قلت: إنك من الوهابين، ومذهبك مخالف لذلك، فلم صليت "الصلاة الاحتياطية" إذا؟ قال: لا أصلي "الصلاة "الاحتياطية لأني لا أعرف ما إذا كان الله تعالى سيتقبل مني صلاة الظهر أو صلاة الجمعة وإنما أصليها كي لا يعترض علي أحد.الأربع فترى أن بعض الناس يلجأون إلى الحيل كما فعل الشيخ غلام علي حيث كان مطمئنا بأدائه صلاة الجمعة، ومع ذلك كان يصلي الظهر أيضًا لكي يرضي الناس.وهناك طريفة شهيرة أن أحد الصالحين من أهل السنة كان يعيش في بلد للشيعة، وضيّق عليه الفقر جدًّا، وألجأه للذهاب إلى الملك ليطلب منه المعونة.وكان الملك من الشيعة، فلما رأى وزيره الرجل الصالح قال: يبدو من مظهر هذا الشخص أنه من أهل السنة.فقال الملك: كيف عرفت ذلك؟ قال: هكذا يبدو لي من هيئته.قال الملك: هذا ليس دليلاً، عليك أن تختبره أمامي.فأثنى الوزير على علي له خيرًا ، فأخذ الرجل أيضًا يثني على عليه فقال الملك للوزير: لقد خاب ظنك، فإنه شيعي وإلا لما مدح عليًّا هكذا؟ فقال الوزير: مهما يكن فإني أراه سنيا.قال الملك حسنًا، فاختبره بطريق آخر.فأمر الوزير الرجل بأن يلعن الثلاثة وكان يعني أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.فقال الرجل: لعن الله الثلاثة.فقال الملك: ألم تعلم حتى الآن أن الرجل ليس سنيا؟ فقال الوزير: هكذا يبدو من الظاهر، ومع ذلك إن قلبي يفتي أنه ليس من الشيعة ثم أخذ الرجل ناحية وسأله: ما هو مذهبك؟ قال: أنا من أهل السنة.قال: فلم لعنت على الثلاثة؟ فأجاب الرجل الصالح: أنت تعني من الثلاثة أبا بكر وعمر وعثمان، أما أنا فأعني بالثلاثة
الجزء السادس ٤٧٤ سورة النور أنت والملك وأنا.لقد لعنت عليكما لأنكما تلعنان كبار الصالحين، وقد لعنت على نفسي إذ ألجأتني شقوتي للاستعانة بكما.باختصار، فإن المرء يلجأ أحيانًا إلى مثل هذه الحيل خوفًا من الناس، ويظن أنه لم يرتكب بذلك أي إثم، ولكن الله تعالى يصرح بقوله (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا أن هؤلاء الخلفاء يكونون مثالاً للشجاعة في سبيل الله تعالى، فلا يصيبهم و خوف وذعر، بل يفعلون ما يفعلون لوجه الله تعالى غير خائفين لومة لائم.هذه العلامة أيضًا كانت متوفرة في الخلفاء الراشدين على أكمل وجه.فلما توفي النبي الله وانتخب أبو بكر خليفة ارتدت الجزيرة العربية كلها، واستفحلت الفتنة حتى لم يصل الناس جماعة إلا في مكة والمدينة ورفض أهل البلد كلهم أداء الزكاة إلا أهل مكة والمدينة وقرية أخرى محتجين بأن قول الله تعالى (خُذ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً (التوبة: ١٠٣) كان خاصا بالنبي ، فلا يحق لأحد بعده أن يطالبنا بالزكاة على أموالنا وثار العرب كلهم على الدولة الإسلامية وخرجوا بجيوشهم لمحاربتها.لا شك أن الإسلام كان ضعيفا في عهد النبي ، ولكن الأعداء كانوا يهاجمونه متفرقين، إذ كانت طائفة تحارب المسلمين في وقت، بينما تحاربهم طائفة أخرى في وقت آخر.أما في غزوة الأحزاب حين جاءت جيوش الكفار متجمعة متحدة فكان الإسلام قد اكتسب القوة إلى حد ما، ولكنه لم يكن قويًا بحيث لا يخاف أي هجوم بعد ذلك في المستقبل.ثم لما خرج النبي ﷺ لفتح مكة انضمت إليه بعض القبائل لنصرته.وهكذا ترى أن الله تعالى قد جعل أعداء الإسلام ينبرون لمحاربته بالتدريج حتى لا يكتسبوا القوة فيستولوا على البلاد كلها.ولكن عند خلافة أبي بكر له ارتدت القبائل العربية كلها دفعة واحدة إلا في مكة والمدينة وقرية أخرى، وخرجت كلها بجيوشها لمحاربة المسلمين.وقد بلغ عدد جيش بعض القبائل مئة ألف مقاتل بينما كان عدد الجيش المسلم عشرة آلاف فقط، وكان هذا الجيش على وشك الرحيل ناحية الشام.وهو نفس الجيش الذي قد جهزه النبي قبل وفاته تحت قيادة أسامة بن زيد لمحاربة الرومان على حدود الدولة الرومانية.أما باقي المسلمين فكانوا ضعفاء وشيوحًا ما عدا بعض الفتيان القلائل.ونظرا إلى
الجزء السادس ٤٧٥ سورة النور الظروف الحرجة المحدقة بالمسلمين فكر الصحابة أنه لو خرج جيش أسامة فلن يبقى في المدينة أحد للدفاع عنها ضد الثوار المتمردين فذهب إلى أبي بكر وفد يضم كبار الصحابة بمن فيهم عمر وعلي المشهورين بشجاعتهما، فالتمسوا منه تأجيل رحيل الجيش إلى حين قمع الثورة، إذ ليس هناك سبيل آخر للدفاع عن المدينة وقد أخذ العدو يتقدم إليها بجنوده فغضب أبو بكر مما أشاروا عليه وقال: هل تريدون أن يكون أول عمل يقوم به ابن أبي قحافة بعد وفاة النبي ﷺ هو أن يمنع الجيش الذي أمر النبي ﷺ برحيله.والله لن أوقف هذا الجيش أبدا، ولا أبالي بتمرد العرب كلهم ولا يهمني إذا لم يبق هناك أحد للدفاع عن المدينة.والله، سأبعث هذا الجيش الذي أمرني النبي بتسييره وإن دخل العدو علينا في المدينة وأخذت الكلاب تحر جثث المسلمات في شوارعها.إذا كنتم تخافون جيوش الأعداء فيمكنكم أن تتركوني ، وسأخرج للقاء الأعداء وحدي.(البداية والنهاية: المجلد الخامس ص ٣٠٤ : في تنفيذ جيش أسامة بن زيد) فما أعظم هذا المشهد دليلاً على صدق قول الله تعالى ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ شَيْئًا! أما القضية الأخرى أعني الزكاة، فقال الصحابة لأبي بكر إن كنت لا تريد منع الجيش المسلم من الخروج فعليك أن تتصالح مع الثوار على أن لا نأخذ منهم الزكاة هذه السنة، وذلك لكي تهدأ الثورة خلال هذه الفترة ونجد سبيلا للقضاء على هذه الفوضى.إنهم ثائرون ومستعدون للقتال والموت وليس من الحكمة، والحال هذه أن تطالبهم بأداء الزكاة فرفض أبو بكر هذا الاقتراح أيضا بشدة وقال: "والله لو عقالاً.منعوني كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعه" (البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ.فقال الصحابة: لو خرج جيش أسامة ولو لم نعقد مع الثوار هدنة مؤقتة فمن يتصدى للأعداء، إذ لن يبقى بعد ذلك في المدينة إلا الشيوخ والضعفاء أو بعض الشباب، وكيف يمكنهم أن يقفوا في وجه الأعداء الذين يبلغ عددهم مئات الآلاف؟ فقال أبو بكر: إذا كنتم لا تقدرون على التصدي للعدو، فسأخرج لمحاربته وحدي.
٤٧٦ الجزء السادس سورة النور لقد خرجت هذه الكلمات من فم شخص لم تكن عنده خبرة عالية بفنون الحرب والقتال، وكان يقال إنه رقيق القلب.فمن أين استمد هذه الشجاعة انه أعني والبسالة وهذه الثقة واليقين يا ترى؟ إنما سببه أنه هو كان مدركا أن الله تعالى هو الذي أقامه على منصب الخلافة، وأنه هو المسؤول عن كل الأمور، فمن واجبه أن يواجه التحدي، أما النجاح فبيد الله تعالى.فلو أراد الله له النجاح فسيجعله غالبًا، أما إذا لم يرد الله له النجاح فلن تحققه له جيوش الدنيا كلها.(تاريخ الخميس المجلد الثاني ص ۲۰۱: ذكر بدء الردة، والطبري المجلد الرابع ص ٦٣: بقية الخبر عن أمر الكذاب العنسي) ومن المواقف الأخرى الدالة على عظيم شجاعة أبي بكر أنه خاض الحرب في وقت واحد ضد اثنتين من أقوى الدول في عصره، ضد إمبراطورية قيصر وإمبراطورية كسرى، وذلك برغم أن خروجه لله لمحاربة قيصر وحده كان يماثل خروج أفغانستان اليوم لمحاربة أمريكا أو إنجلترا.وبينما هو خائض في الحرب ضد تلك القوة العظيمة، بلغه أن الجيوش الفارسية تتأهب للهجوم على المسلمين، وأن أمارات الثورة والتمرد تلوح في المناطق الفارسية الخاضعة للدول الإسلامية، فأمر بشن الهجوم على الدولة الفارسية بدون تأخير.ولما قال له الصحابة كيف نقاتل هاتين القوتين العملاقتين في وقت واحد قال لهم : لا تكترثوا لذلك أبدا، بل اذهبوا وقاتلوهم.وبما أن المسلمين كانوا مشغولين بقتال الجيوش الرومانية، فبدا هجومهم على المناطق الفارسية أمرًا مستبعدا لدرجة أنه لما بلغت الملك الفارسي أخبار تقدم الجيوش الإسلامية لم يكترث لها مطلقًا، وقال إنما هي أراجيف، إذ كيف يمكن أن يفكر المسلمون في الهجوم علينا وهم لا يزالون متشابكين مع عدو قوي في حرب خطيرة.فكان من أكبر دواعي هزيمة الفرس في المعارك الأولى أنهم لم يبعثوا من عاصمتهم أي جيش لمقاومة المسلمين، بل ظل ملكهم يظن أن هذه الأخبار ليست إلا أراجيف وإشاعات باطلة.ولكن لما بلغته الأخبار بشكل مكثف ومتواصل بعث قائدا له ليستطلع الأخبار ويخبره بالخبر اليقين.فكتب إليه في تقريره أن المسلمين قد شنوا الهجوم بالفعل، وأنهم قد استولوا على مناطق كثيرة.عندها بعث الملك جيشا لمحاربة المسلمين.الفارسي
الجزء السادس ٤٧٧ سورة النور وبوسعك أن تدرك من هنا مدى خطورة أن يفتح المسلمون جبهة جديدة للحرب ضد الفرس، وهم لا يزالون يحاربون الجيش الروماني على الجبهة الأخرى.ولكن هذه الأخطار لم تكن ذات شأن تجاه القوة التي شحن الله تعالى بها أبا بكر بعد أن أقامه على منصب الخلافة.فإنه لم يفكر من أين يأتي بالمسلمين لمحاربة الجيوش الفارسية، ولم يفكر كيف يمدهم بالعدّة والعتاد لحرب الفرس، بل إنه بمجرد أن سمع خبر تمرد الفرس أمر المسلمين بالقفز في نيران الحرب وفتح جبهة جديدة للحرب ضد كسرى الفخري ص ۷۸: شرح الحال في تجهيز الجيش إلى العراق واستخلاص الملك من ،فارس، ومحاضرات الأمم والملوك : المجلد الثاني ص ١٨٤-١٨٥ و ١٩٠- ۱۹۱ ، الطبري المجلد الرابع ١٥٩ سنة ١٢ الهجرية مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة) ثم لما صار عمره خليفة أبدى نفس التوكل الذي تحلّى به أبو بكر ، مع أنه هو الذي كان يقول لأبي بكر من قبل كيف نحارب هذه الجيوش الجرارة التي أكثر منا عددا وعتادًا؟ عليك أن توقف جيش أسامة من الخروج ليساعدونا هي ص ضد الثوار المتمردين.فإن عمر له نفسه فتح للحرب جبهتين: جبهة ضد قيصر وجبهة ضد كسرى، ولم يبرح حتى أطاح بعرشيهما.ولما فتحت فارس حملت إلى عمر له خزائن كسرى وكان فيها منديل لكسرى، فأعطاه أبا هريرة.وذات أُصيب أبو هريرة بالسعال، فأخرج منديل كسرى ملك فارس وبصق فيه، يوم وقال: بخ بخ أبو هريرة..أي ما أعظم شأنك يا أبا هريرة، حيث تبصق في منديل کسری فسأله الناس : لماذا تقول هكذا؟ فأجاب : لقد كنت في عهد النبي يغمى علي من شدة الجوع أحيانًا، فكان الناس يظنون أنه قد أصابتني نوبة من الصرع، فكانوا يضربون رأسي بالنعال أما اليوم فترون أني أبصق في منديل ملك الفرس ! ممشقان * أقرب رواية وجدناها بهذا المعنى هي: عن محمد قال: كنا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان من كتان، فتمخط، فقال: بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان.لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله ﷺ إلى حجرة عائشة مغشيا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي، ويرى أني مجنون، وما بي من جنون، ما بي إلا الجوع.(البخاري: كتاب الاعتصام ا بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي الله وحصّ على اتفاق أهل العلم...) (المترجم)
الجزء السادس ٤٧٨ سورة النور أما عثمان فكان معروفًا بالحياء ورقة القلب بل كان عند الناس اعتقاد بأنه ضعيف، ولكنه لما تولى الخلافة أبدى شجاعة نادرة حتى يندهش المرء برؤية مواقفه الجريئة.لقد تصدّى للمعارضة الداخلية بثقة تحير العقول.وكذلك كان علي ، إذ لم يبال بأي معارضة أو خطر.وبرغم أنه كان محاطا بالأخطار من الداخل والخارج، إلا أنه آثر مرضاة الله تعالى عند كل موقف ولم ينحرف قيد شعرة عن المشيئة الإلهية كما فهمها دون أي خوف من أي مخلوق.جميع إذًا، فإن الله تعالى قد حقق علامة يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا على يد الخلفاء الراشدين بشكل واضح ورائع ما يشكل دليلا قاطعا على أن الله تعالى هو الذي أقامهم على منصب الخلافة، وهو الذي كفل لهم التأييد والنصرة.أتناول الآن الاعتراضات التي تُثار عادة بصدد هذه الآية.مع الأمة الاعتراض الأول: يُقال أن الوعد الموجود في هذه الآية قد قطع الإسلامية كلها وليس مع بعض أفرادها، أي أن الله تعالى سيجعل هذه الأمة كلها خليفة وليس بأنه سيختار بعض أفرادها خلفاء، والمراد أن الله تعالى سيُعطي المسلمين كلهم الحكم والغلبة وليس بأنه يجعل بعضا منهم خلفاء.والجواب الأول هو أنه مما لا شك فيه أن هذا الوعد قد قطع للأمة كلها، ولكن هذا لا يمنع أن يتحقق هذا الوعد على يد بعض أفرادها.فهناك وعود تكون للأمة كلها، ولكنها تتم على يد الأفراد، ومع ذلك يقال إن الوعد الذي قطع للأمة كلها قد تحقق.وهناك أمثلة كثيرة على هذا الأسلوب الكلامي في كل لسان في العالم.فمثلا يقال في لغتنا: إن الإنجليز ملوك.فهل يعني هذا أن كل واحد من الإنجليز ملك؟ كلا، لا يكون كل شخص إنجليزي ملكًا ولا يمكن أن يكون، ومع ذلك يقال إن الإنجليز ملوك.وكذلك يقال إن الشعب الفلاني حاكم، مع أن كل : الشعب لا يكون حاكما بل بعض أفراده يتولّون الحكم بينما يكون الباقون كلهم تابعين لهم.كذلك يقال إن الأمة الفلانية ثرية جدا، ولكن هذا لا يعني أن كل فرد
الجزء السادس ٤٧٩ سورة النور منها يكون ثريا.فمثلا يقال إن الإنجليز أثرياء، مع أنه يوجد بينهم من يعيشون في فقر مدقع.لقد حكى لي أخي الأكبر المرحوم ميرزا سلطان أحمد ذات مرة أنه خلال أيام إقامته في لندن رأى في أحد الأيام أن خادمة البيت الذي كان مقيما فيه ألقت القمامة خارج البيت فجاء أحد الإنجليز يفتش القاذورات، فوجد فيها قطعة خبز فأكلها.كذلك رأيت أنا أيضًا نساءهم في منطقة "براند زي" وقد خرجن حاملات الأواني على رؤوسهن ليأتين بالماء من مكان بعيد، وقد رأيتُ معهن أولادهن في ثياب مرقعة بقطع قماشية ذات ألوان مختلفة.وبرغم هذا الأمر الواقع يقال إن الأوروبيين أثرياء جدًا.فثبت أنه إذا قطع وعد لقوم فلا يعني ذلك أنه لا يمكن أن يتم على يد بعض أفراد منهم، بل هنالك كثير من الوعود التي تُقطع مع الأمم وتتم على يد بعض أفرادها.ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة:٢١).فهل بوسع أحد أن يثبت أن كل بني إسرائيل صاروا أنبياء؟ ثم هل يمكن أن يشك أحد في وجود فقراء كثيرين بين بني إسرائيل، ومع ذلك يقول لهم موسى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.إِذًا، إنما المراد من هذا التعبير أنه إذا كان الملك من قوم فكل القوم ينتفعون من النعم والمنافع المتعلقة بالملك، ولذا يجوز القول إن القوم كلهم ملوك.إذا ، فما دام هؤلاء المعترضون لا يعنون بهذه الآية، رغم وجود كلمة (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، أن كل يهودي صار ملكا، فلماذا يستنتجون من قول الله تعالى ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..أَن هَذا الوعد لا يمكن أن يتحقق من خلال بعض أفراد الأمة، وإنما المراد منه أن الأمة كلها تعتبر خليفة.ثم لو كانت الخلافة بمعنى الغلبة القومية التي ينالها المسلمون فمتى تتيسر هذه الغلبة لكل مؤمن؟ كلا، بل إن بعض أفراد الأمة ينالون الحكم والغلبة دون الآخرين.فقد وُجد بين الصحابة فقراء كثيرون عاشوا في ضيق شديد حتى أيام غلبة المسلمين.فهناك قصة طريفة لأبي هريرة الله وهي أنه خلال المعركة بين علي
الجزء السادس الله ٤٨٠ سورة النور ومعاوية رضي عنهما نزل الفريقان في موقع يسمى "صفين"، وكانت المسافة بين المعسكرين قرابة ميل.وكلما حانت الصلاة ذهب أبو هريرة إلى معسكر علي ه، وكلما حان موعد الطعام ذهب إلى معسكر معاوية له.فقيل له: أنت شخص عجيب، تذهب مرة إلى معسكر عليه، ثم تذهب إلى معسكر معاوية.فأجاب أبو هريرة أجد الصلاة عند علي جيدة، بينما أجد الطعام عند معاوية جيدا، فأذهب إلى عليه وقت الصلاة، وأذهب إلى معاوية وقت الطعام.ونفس الحال لغير المبايعين ، فذات مرة كنت في منزل شودري ظفر الله خان المحترم، فأخبرني أحد الإخوة أن بعض غير المبايعين قال له: فيما يتعلق بالعقائد فإن المولوي محمد علي هو على الحق، وفيما يتعلق بالدعاء فإن أدعية حضرتك تستجاب عند الله تعالى أكثر.فترى أن قوله هذا يشبه قول أبي هريرة ه تماما.إذا، فإن الناس يقولون إن الأمة الفلانية هي الحاكمة، وذلك برغم وجود الكثير من الفقراء بينها، ولا يقال هكذا إلا لأن الأمة التي يكون الملك منها تنتفع أفرادها كلهم من منافع ملكه على وجه الخصوص.وبالمثل تماما إذا نال بعض أفراد الأمة الخلافة فيقال إن الأمة كلها قد نالت نعمة الخلافة، ولا يستلزم ذلك أن ينال كل فرد منها هذا الإنعام.وهناك مثال آخر على هذا الاستعمال حيث قال الله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمَنُوا بمَا أُنزِلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ)) (البقرة: ٩٢)..أي حين يقال لليهود آمنوا بما نزل في القرآن الكريم يقولون نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا.ومن الواضح أن الله تعالى لم ينزل الشرع اليهودي على اليهود وإنما أوحى به إلى موسى ال، ومع ذلك قيل نُؤْمِنُ بمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا.كذلك إذا يشير حضرة المفسر له الله هنا إلى بعض الأفراد الذين لم يبايعوا على يده بصفته الخليفة الثاني للمسيح الموعود الله، وانشقوا عن الجماعة تحت قيادة المولوي محمد علي، وذهبوا إلى لاهور واتخذوها مركزا لهم، وسموا أنفسهم "أنجمن إشاعت إسلام لاهور"، ويطلقون على أنفسهم في هذه الأيام تسمية عربية هي "الجمعية الأحمدية اللاهورية".(المترجم).
الجزء السادس ٤٨١ سورة النور نزلت نعمة ربانية على بعض أفراد القوم فانتفعوا بها كلهم فيقال إن هؤلاء القوم كلهم قد نالوا تلك النعمة.ولما كان الملك ينفع القوم كلهم فقال الله تعالى عن اليهود (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، وكذلك لما كانت الخلافة تنفع المسلمين كلهم قال الله تعالى لهم لَيَسْتَخْلفَنَّهُمْ في الأَرْضِ).والجواب الثاني هو أن فعل الله تعالى نفسه قد كشف المعنى الحقيقي لهذه الآية.إن الله تعالى يقول هنا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...، فلو كان المراد من الخلافة هنا الديموقراطية فعلينا أن نرى أقامت الديموقراطية بعد الرسول ﷺ أم لم تقم؟ أما لو كان المراد الرباني من ذلك أن يشرف بعض أفراد الأمة بالخلافة، فيقال إن الأمة كلها قد تمتعت ببركات الخلافة فعلينا أن نرى فيما إذا قامت الخلافة على هذا المنوال بين المسلمين.وعندما ننظر إلى الأمر الواقع بعد وفاة الرسول نجد أن بعض أفراد الأمة نالوا الخلافة وليس كلّهم.إذًا، فإما أن يقول هؤلاء المعترضون أن المسلمين لم يعودوا بعد الرسول من الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحات، بل صار الجميع منافقين والعياذ بالله - كما يزعم الشيعة بأنه لم يبق من الأمة إلا اثنان ونصف من المؤمنين - ولذلك لم يتحقق لهم وعد الخلافة في الأمة، وإما أن يعترفوا بأن الطريق الصحيح للخلافة إنما هو ذلك الذي قامت عليه الخلافة بالفعل بعد وفاة الرسول.إذًا، فإن المنوال الذي أقام الله عليه الخلافة في المسلمين بعد الرسول ﷺ هو بمثابة شهادة ربانية فعلية وهذه الشهادة الربانية الفعلية تؤكد أن الله تعالى سيحقق وعد الخلافة للأمة في المستقبل أيضًا على نفس المنوال أي من خلال بعض أفراد الأمة.أما الاعتراض الثاني الذي يُثار حول هذه الآية فهو قول البعض: لنفترض أن هذه الآية تعني أن بعض أفراد الأمة سينالون الخلافة، ولكنك تسلّم بأن الخلافة في
الجزء السادس ٤٨٢ سورة ة النور الأولين كانت خلافة نبوة وخلافة ملكيّة، ولكنك لا تعتبر الخلفاء الأربعة لا من الأنبياء ولا من الملوك؛ فكيف تحقق هذا الوعد؟ وكيف صاروا مصداقا لهذه الآية؟ والجواب أنه مما لا شك فيه أن الخلافة في السابقين كانت على شكل نبوة أو ملكيّة، ولكن المشابهة بين شيئين لا تكون بالضرورة في كل النواحي، بل في الأمر الأساس.مثلا لو شبّهنا شخصا طويلا بشخص طويل ،آخر، وكان الأول صالحا وعالما والآخر سارقا وجاهلا، فلا يجوز لأحد أن يقول كيف يصح هذا التشبيه أن أحدهما سارق والآخر صالح ذلك لأننا شبهنا الواحد بالآخر من بينهما مع حيث الطول وليس في كل شيء.وهناك مثال لذلك في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (المزمل: (١٦).فأنت ترى أن الله تعالى قد شبه النبي موسى العلي، برغم )) أن موسى كان قد أرسل إلى فرعون فقط، بينما لم يُبعث النبي ﷺ إلى ملك واحد بل إلى ملوك الدنيا كلهم.كما أن موسى ال قد بعث لهداية بني إسرائيل فقط، بينما بعث النبي لا الهلال الهداية العالم كله ثم لم يكن عهد نبوة موسى ال إلا تسعة عشر قرنًا أما النبي الله فرسالته ممتدة إلى يوم القيامة.هذه هي أهم الفروق بين ﷺ موسى ال والنبي ، ومع ذلك يقول المسلمون إن النبي ﷺ جاء مثيلا لموسى.العليا فإذا كانت كل هذه الفروق لا تقدح في المشابهة بين هذين النبيين فلم يعترض هؤلاء على بعض الفروق الجزئية بين أحوال خلفاء الأمم السابقة وأحوال خلفاء الإسلام؟ إن الأمر الأساس الذي تؤكده هذه الآية هو أن الله تعالى كما اختار بحكمته الخاصة بعض الأفراد بعد موسى الجمع شمل أمته ولخدمتها، كذلك العليا سيقيم الله تعالى بعد وفاة الرسول ﷺ أشخاصا لجمع شمل أمته.وهذا الهدف قد حققه خلفاء الرسول ﷺ بشكل أفضل من خلفاء الأمم السابقة.ثم كما أن الله تعالى بعث المسيح الناصري بعد موسى عليهما السلام – بثلاثة عشر قرنًا كنبي تابع خادم للشرع الموسوي، كذلك قد بعث الله تعالى المسيح الموعود الله بعد النبي بثلاثة عشر قرنًا وفتح باب النبوة التابعة للنبي الله واللائقة بمكانته السامية والمنحصرة في أمته كما أحيا من خلاله الخلافة في أتباعه من جديد.فبدأت -
الجزء السادس ٤٨٣ سورة ة النور هذه الخلافة بعد وفاته الا وهي مستمرة حتى زمن خليفته الثاني؛ ولو أن الجماعة الإسلامية الأحمدية ظلت مؤمنة بالخلافة وساعية لاستمرارها كما ينبغي فسوف يطول تحقيق هذا الوعد بإذن الله تعالى.وهناك في هذه الآية إشارة ربانية بالغة الأهمية يجب أن لا تنساها الجماعة الإسلامية الأحمدية وهي أن الله تعالى قد قال هنا لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))..أي لكي تمتد الخلافة في المسلمين عليهم باتباع طريق الذين من قبلهم عند انتخاب الخلفاء.ومن بين - :710 الأمم السابقة كانت المسيحية – دون اليهودية – هي الأمة التي لم تكن فيها الخلافة ملكية، بل كانت خلافةً دينية بحتة.وهناك إلهام للمسيح الموعود العليا باللغة الأردية يؤكد ما قلت وهو: "كليسا كي طاقت" (تذكرة ص وجريدة "بدر" يوم ۱۹ مايو ١٩٠٦)..أي قوة الكنيسة، والمراد من هذا الإلهام أن وراء قوة الكنيسة سببًا خاصا، فخذوا هذا السبب والسر في الاعتبار والحسبان دائما.وكأن هذا الإلهام يوجه أنظارنا إلى اتباع الطريق الذي بينه الله تعالى لانتخاب الخليفة في القرآن الكريم بقوله تعالى كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ..حيث أمرنا الله تعالى أن نتبع لدى انتخاب الخلفاء الطريق الذي كان يتبعه الذين كانوا من قبلنا أو طريقًا مشابها لذلك.وأنت تعلم أن الخلافة المسيحية مستمرة منذ تسعة عشر قرنا نتيجة اتباع المسيحيين هذا الطريق الخاص.لا شك أن المسيحيين لا يستمدون من خلافتهم ذلك النور الذي كانوا يستمدونه في بداية أمرهم لكون المسيحية الحالية قد انحرفت وفسدت؛ ولكن بوسع الجماعة الإسلامية الأحمدية أن تصوغ هذا القانون والطريق بحسب تعليم الإسلام حتى تستمر الخلافة بينهم مئات بل آلاف من السنين.ولذلك قد قمتُ بسنّ قواعد حول انتخاب الخلفاء في المستقبل، وأُؤمن بأن الجماعة الإسلامية الأحمدية لو ظلت مؤمنة بالخلافة وساعيةً لاستمرارها كما ينبغي، ، فإن الخلافة ستستمر بينها إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى، ولن يستطيع أي شيطان أن يفسدها.
الجزء السادس قد ΕΛΕ سورة ة النور والاعتراض الثالث الذي يُثار ضد الخلافة هو قول البعض: إذا كان الله تعالى وعد المسلمين بالخلافة فلماذا انقطعت الخلافة بعد علي ؟ والجواب أن هذا الوعد كان مشروطًا، إذ تُصرّح كلمات الآية بكل وضوح وجلاء أن الله تعالى يقطع هذا الوعد لأولئك الذين يؤمنون بالخلافة ويقومون - بأعمال تساعد على استمرار الخلافة ذلك لأن الله تعالى يقول كجماعة هنا بينهم.الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، والعمل الصالح في العربية هو ما يكون بحسب مقتضى الحال؛ وبما أن هذه الآية تتحدث عن الخلافة فالمراد من آمنوا أنهم يكونون مؤمنين بالخلافة، والمراد من وَعَمِلُوا الصَّالِحَات أهم يعملون أعمالاً يستحقون بها استمرار الخلافة بينهم.فإذا لم يتوافر فيهم هذا الشرط لن يحقق لهم الله تعالى هذا الوعد.والواقع أن الخلافة بعد عليه لم تكن إلا خلافة شكلية، إذ تحوّلت إلى الملكية عمليا، و لم تهتم تلك الخلافة الشكلية بتبليغ دعوة الإسلام ونشره مع أنه شرط أساس للخلافة، فلما فات الشرط فات المشروط، وألغى الله تعالى وعده للمسلمين.والاعتراض الرابع الذي يُثار ضد الخلافة هو قول البعض: ما دامت الأمة هي التي تختار الخليفة بطريق بالانتخاب فيجب أن يجوز لها عزله أيضا.(An Interpretation of Islam, P.84-85) والجواب الأول هو أنه مما لا شك فيه أن الخليفة يُختار بالانتخاب من قبل الأمة، ولكن في هذه الآية نص صريح على أن الله تعالى يتخذ الأمة أداة لتنفيذ قراره فحسب، وينوّر عقولهم عند الانتخاب بوجه خاص، بينما الواقع أن الله تعالى هو الذي يقيم الخليفة، لقوله تعالى ليستخلفنَّهُمْ.فبرغم أن انتخاب الخليفة يتمّ عن طريق المؤمنين، ولكن الإلهام الرباني يجعل قلوب القوم تميل إلى من يستحق الخلافة حقا عند الله تعالى كما أنه تعالى يتين هنا أنه يخلق في الخلفاء خصوصيات مميزة، وأنهم يكونون نعمة ربانية عظيمة.وعلى هذا سيكون تفصيل هذا الاعتراض كالآتي : ألا يحق للأمة أن تعزل شخصا هو من الموحدين الكاملين، وأراد الله تعالى أن يُقيم دينه، ويدفع كل الأخطار عن الأمة من أجله، ويمحو الشرك على يده،
الجزء السادس ٤٨٥ سورة النور ويحفظ الإسلام بجهوده؟ ومن الواضح أنه من المحال أن تعزل الأمة مثل هذا الإنسان، ولن يريد عزله إلا إخوان الشيطان.والجواب الثاني هو أن الله تعالى قد استعمل هنا لفظ الوعد، والوعد يدل على الإحسان والإنعام، إذا ، فإن اعتراضهم هذا يعني أن الله تعالى ما دام قد جعل أمر انتخاب هذا الإنعام في يد الأمة، فيجب أن يكون من حقها أيضًا أن ترفض هذا الإنعام وكل عاقل يدرك أنه استنباط بالغ الإساءة، لأن المرء إذا رفض نعمة عُرضت عليه بدون أن يسألها أصبح أشدَّ جريمة وأقام الحجة على نفسه.لأن الله تعالى سيقول في هذه الحالة: أيها الناس قد خيّرتكم في أن تأخذوا هذا الإنعام من خلال أي إنسان فقلتم نريد أن نتلقى هذا الإنعام في شكل فلان، فجعلتُ أفضالي مرتبطة بالشخص الذي اخترتموه؛ وبعد أن رضيت بقولكم أي بانتخابكم إياه رحتم تقولون لسنا براضين بهذا الإنعام وماذا عسى أن أجيبكم على رفضكم هذه النعمة إلا أن أقول وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنْ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (إبراهيم:۸).وإلى هذا المعنى نفسه قد أشار الله تعالى هنا في آية الاستخلاف أيضًا حيث قال وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ..أي لقد خيّرنا الأمة عند انتخاب الخليفة، كما قمنا بإرشادها لتختار الشخص المناسب عند الانتخاب، ثم اصطفينا هذا الإنسان المنتخب واخترناه لنا، فلا يبقى بعد ذلك للأمة أي خيار في عزله.ومن أراد أن يأخذ هذا الخيار بيده فعليه أن يعلم أنه لا يعارض الخليفة بل يكفر بنعمتنا؛ فإذا كان هو لدى انتخاب الخليفة في عداد الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحات )) من قائمة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وندرجه في زمرة اسمه فإننا سنمحو الفاسقين من جراء هذه الخطوة الخاطئة من قبله.ثم يقول الله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.بعد أن أوضح الله تعالى في آخر الآية السابقة (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ حثّ هنا فورًا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول وذلك لينبه المسلمين أنهم إذا وجدوا نقصانًا في نزول بركات
الجزء السادس ΣΤ سورة النور الخلافة، فعليهم كقوم أن ينهمكوا في إقامة الصلاة وينشطوا في أداء الزكاة ويطيعوا الله تعالى الله الرسول الله طاعة كاملة، وإذا فعلوا ذلك شملتهم الرحمة الإلهية، فسيقيم نائبا لرسوله يجمع المسلمين على يد واحدة مرة أخرى.باختصار لن يدع تعالى منكري الخلافة غالبين على الأرض أبدا، بل سيقيم من عنده أناسا يؤمنون بالخلافة ولو كان إيمانا جزئيا.وبالفعل ترى أن الخوارج الذين قد أنكروا الخلافة لم ينالوا الحكم في الأرض أبدا، بل كانت الغلبة دائما لأهل السنة الذين آمنوا بالخلافة ولو بلسانهم، وأقول "ولو بلسانهم" لأنهم لم يضحوا بأرواحهم في عهد عثمان وعلي - رضي الله عنهما - دفاعا عن الخلافة.
الجزء السادس ٤٨٦ سورة النور يَتَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَعْذِنَكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَنُكُمْ ج وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا احْلُمَ مِنكُمْ ثَلَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَوَةِ الْفَجْرِ で وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَوَةِ الْعِشَاءِ ثَلَتُ عَوْرَاتِ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٤) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَلُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَكْذِنُوا كَمَا اسْتَعْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ قلے وَايَتِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ شرح الكلمات : الحلم: قال الإمام الراغب في قوله تعالى ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ : أَي زمان البلوغ.(المفردات)
٤٨٧ الجزء السادس سورة النور التفسير: تبدو هذه الآية مقطوعة السياق لأول وهلة، حيث تناول الله تعالى قبلها موضوع الخلافة، بينما يبيّن الآن كيف يجب أن تكون المعاشرة في البيت.ولكن التدبر يكشف أنها ليست مقطوعة السياق، بل تتحدث عن موضوع تقوية نظام القوم نفسه.فقد أوصانا الله تعالى فيها بأن يستأذن العبيد والأطفال قبل الدخول إلى البيوت في ثلاثة أوقات قبل صلاة الفجر، ووقت الظهر وبعد صلاة العشاء، لأن الناس يضعون ثيابهم في هذه الأوقات للاستراحة.أما في الأوقات الأخرى فيجوز لهم الدخول في البيوت دون إذن.لقد أشار الله تعالى بذلك إلى أنه تأتي على الإنسان أوقات من الغفلة، فعلى المرء أن يكون عندها شديد الحذر، ولا يسمح للعبيد والصغار أيضا بالدخول إلى البيوت بدون إذن فكأن هذه الآية تتضمن نبأ بأن المسلمين سيتخذون العبيد بكثرة في أيام غلبتهم.وقد حدث هذا بالفعل، إذ قد استعمل المسلمون العبيد في إدارة الأمور بكثرة في الأندلس وبغداد، فأدى ذلك إلى دمار المسلمين.وعندي أن المسلمين لو أدركوا أن هذه الآية لا تقتصر في موضوعها على العشرة البيتية فحسب، بل تتناول موضوع توطيد نظام الأمة أيضًا، لأخذوا حذرهم في أيام ضعفهم، ومهما بدا لهم أحد من الغرباء عديم الضرر لما سمحوا له الله بالاقتراب من نظامهم.ولو أنهم فعلوا ذلك لما استُشهد عثمان وعلي رضي عنهما.فقد استشهد عليه عند صلاة الفجر بيد أحد الخوارج (البداية والنهاية، الجزء السابع ص ۳۲۷ صفة مقتله.ولو أن المسلمين قاموا بحراسة بيته وفق هذه الآية لما تجرأ ذلك الخارجي الفاسق على الهجوم عليه الله وربما قد اختار ذلك الشقي وقت الصبح للهجوم على عليه بالنظر إلى قوله تعالى مِنْ قَبْلِ صَلاة الْفَحْر مدركًا أن هذا الوقت عورة ولا تكون هناك أي حراسة.ووقت الظهر أيضا كبير الأهمية من الناحية الأمنية لأن الناس يصبحون غافلين في ذلك الوقت عادة، والعدو يتحين الفرص التي يكون فيها الناس غافلين نائمين.وذات مرة ارتكب الصحابة أيضًا خطأ مماثلا وقت الظهر وكانت النتيجة أن العدو
الجزء السادس ٤٨٨ منهم، سورة النور جاء ووقف على رأس رسول الله الله شاهرًا سيفه ليقتله، ولكن عناية الله التي كانت تكلؤه خيبت العدو في نيته الخبيثة.لقد حصل هذا الحادث عندما كان النبي راجعا من غزوة ذات الرقاع.لقد انتشر الصحابة وقت الظهر للاستراحة هنا وهناك في مكان كثير الشجر، واستلقى النبي تحت شجرة.وكان هذا المكان قريبا من المدينة، فظن الصحابة أن لا خطر هناك من العدو، ولكن العدو كان متربصا بهم، فلما وجد الصحابة منتشرين وأنه ليس عند الرسول ﷺ أحد تقدم وأخذ سيف رسول الله ﷺ وأيقظه، وقال: من يمنعك مني؟ فأجابه الرسول ﷺ بكل هدوء: الله.فما أن سمع العدو هذا الجواب حتى أخذته الرعدة وسقط السيف من يده فأخذ النبي الله السيف فورا وسأله من يمنعك مني الآن؟ قال: أنت.فقال النبي ويلك، ألم تستطع أن تقول كما قلت: الله.ثم نادى النبي ﷺ صحابته وقال: لقد جاء هذا ليقتلني، ولكن الله تعالى منعني منه.(البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع، والسيرة الحلبية المجلد الثاني ٢٢٥و٢٨٧).فترى أن العدو قد جاء للهجوم على النبي وقت الظهر نفسه.ص ثم أوصانا الله تعالى بأخذ الحذر من بَعْد صلاة العشاء، ومن أجل ذلك نجد أن الأنصار كانوا يأتون لحراسة بيت النبي الله في الليل.فذات مرة سمع النبي ﷺ صوت سلاح خارج بيته ليلاً.فخرج يستطلع الخبر، فقال له أحد أسياد الأنصار: یا رسول الله، لقد رأيت أن الأعداء قد اشتدوا عداوةً في هذه الأيام، فقلت لأصحابي تعالوا نخرج بسلاحنا ونحرس رسول الله ﷺ، ففرح النبي ﷺ ودعا لهم.(البخاري: كتاب الجهاد باب الحراسة في الغزو في سبيل الله) فهذه الأوقات الثلاثة هي أوقات الضعف والغفلة ويأمر الإسلام المسلمين أن يأخذوا فيها الحيطة والحذر على وجه الخصوص.ثم يقول الله تعالى إن الأطفال إذا وصلوا سن البلوغ فيجب أن يستأذنوا عند الدخول إلى البيوت في كل وقت وليس في هذه الأوقات الثلاثة من الضعف والغفلة فقط.أي أن المسلمين إذا نالوا الحكم فعليهم أن يهتموا بحماية بلادهم في كل وقت ولا يتهاونوا في ذلك أبدًا.
الجزء السادس ٤٨٩ سورة النور ولكن المؤسف أن المسلمين لم يعملوا بهذا النصح زمن قوتهم، فغفلوا عن حماية بلادهم، فتمكن العدو من القضاء عليهم.فترى أن الناس في زمن الرسول ﷺ أيضًا كانوا يتخذون لبيوتهم أبوابا ، فما كان بوسع أحد أن يقتحم البيوت بدون فتح هذه الأبواب.ولكن في زمن الخلافة العباسية والخلافة الأندلسية والخلافة الفاطمية لم يتخذوا لبيوتهم أبوابا، بل اتخذوا ستائر من أجل الزينة، وكأنهم فضلوا الزينة على حماية النفس، فكانت النتيجة أن العديد من الخلفاء قتلوا على أيدي بعض عبيدهم.وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحَا فَلَيْسَ عَلَيْهِن جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُن من غَير غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْن خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (3) شرح الكلمات : القواعد: هي جمع القاعد وهي المرأة التي قعدت عن الولد وعن الزوج (الأقرب).ثياب جمع ثوب ويستعار الثوب للأهل والأصدقاء أيضًا (القرطبي).متبرجات تبرّجت المرأة: أظهرت زينتها للأجانب (الأقرب).التفسير: لقد بيّن الله هنا أن النسوة اللاتي يصبحن طاعنات في السن ويتجاوزن سن الزواج، فيجوز لهن ترك الحجاب المعروف، غير أنه يجب أن لا يخرجن بالماكياج والحلي وما إلى ذلك؛ بمعنى أن الحجاب يكون إلى عمر معين ثم يسقط بعد ذلك.ولكن في بلادنا يعملون بحكم الحجاب بطريق خاطئ جدا، حيث تجد الفتيات يتحررن من الحجاب كلية، بينما تُجبر العجائز على القعود في البيوت.والقواعد تعني العجائز، ويكون مفردها القاعد والقاعدة أيضًا، ولكنها جمع القاعد هنا.والمراد قعودها في البيت لكبر سنها وعدم قدرتها على الإنجاب.علما أن
الجزء السادس ٤٩٠ سورة النور من قواعد اللغة العربية أنه إذا كان الفعل خاصا بالنساء ولا يكون هناك اشتباه لوقوعه من قبل الرجال، فيستعملون صيغة اسم الفاعل للمذكر دون إضافة التاء المربوطة للتأنيث، ومثاله "امرأة حامل".فالقواعد ليس جمعًا للقاعدة بل للقاعد.لقد تبين من هنا - ضمنيًا - أن الوجه أيضا ،عورة وإلا فسيعني قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ أنهن كن لا يسترن وجوههن وأيديهن من قبل، أما الآن فيجوز لهن أن يكشفن ذراعهن وصدورهن أيضا، بل وكل أجسامهن.ومن ذا الذي سيقبل هذا المعنى؟ ثم يقول الله تعالى (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ.وقد فسره البعض أنهن إن يتجنّبن ترك الحجاب فهو أفضل لهن.ولكن هذا المعنى ليس صحيحًا، لأن الله تعالى لم يقل هنا "وإن يستعففن خير لهن" بل قال وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ، و"إن" شرطية بينما "أن" مصدرية، فالمعنى أن تحنُّبهن تَرْكَ الحجاب خير لهن في كل حال، أي أنه برغم جواز ترك الحجاب لهن في تلك السن، إلا أن استمرارهن في الحجاب أيضًا يكون خيرًا لهن من عدة نواح.فمثلا إن هذا سيحول دون تحرُّر الشابات من النساء من الحجاب.علما أن هذه الرخصة هي للمرأة التي يكون سنها حوالي ستين سنة في بلادنا، وسبعين أو خمسة وسبعين سنة في البلاد الأوروبية، إذ تجد العجائز في هذه السن صعوبة في المشي، فيصبح الاعتناء بلباس الحجاب أصعب عليهن.ومع ينصحهن الشرع بالاستمرار في الحجاب في تلك السن أيضا لأن هذا سيأتي بنتائج أفضل.ذلك ليْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَن سِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أو
الجزء السادس وو ٤٩١ سورة النور وو بُيُوتِ ءَابَابِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ وو وو وو أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَمكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَلَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَانًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَرَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ التفسير: يقول المفسرون كان المسلمون قبل نزول هذه الآية إذا خرجوا للغزو لم يبق في بيوت بعضهم أحد، فكانوا يعطون مفاتيح بيوتهم إلى المعذورين الذين لم يستطيعوا الخروج للجهاد، ليحرسوا بيوتهم ويأكلوا منها إذا شاؤوا.ولكن هؤلاء المعذورين كانوا يتحرّزون من الأكل في بيوت إخوانهم بسبب ورعهم وصلاحهم، ويقولون إنما علينا حراسة بيوتهم وليس أن نأكل منها.فأنزل الله تعالى هذه الآية ليبين لهم أنه لا حرج عليهم أن يأكلوا في بيوت إخوانهم وأقاربهم ما داموا قد سلّموا لهم مفاتيح بيوتهم وخرجوا للجهاد.وعن ابن عباس وسعيد بن جبير قال: لما أنزل الله وعمل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: ٣٠) قال الأنصار إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بالباطل، والطعام أفضل الأموال، ولو أكلنا مع الأعمى أو الأعرج أو المريض فقد نأكل نصيبهم ونكون آئمين عند الله تعالى، لأن الأعمى لا يدري ما أمامه، فقد نأكل أفضل الطعام ونحرمه منه كذلك من الممكن أن يصل الأعرج
الجزء السادس ٤٩٢ سورة ة النور متأخرا للطعام أو يجلس في الخلف، فلا نعدل معه عند توزيع الطعام.ونفس الحال بالنسبة إلى المريض إذ يمكن أن لا يتناول بعض الأطعمة بسبب مرضه بينما يأكلها غيره؛ لذا فيجب أن لا نأكل مع العُمي والعُرج والمرضى.كما امتنعوا عن الأكل في بيوت أقاربهم مخافة الإثم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال: لا حرج عليكم أن تأكلوا مع هؤلاء، ولا حرج أن تذهبوا إلى بيوت أقاربكم وتأكلوا معهم جميعًا أو أشتاتا، ولا داعي لقطع صلات المحبة فيما بينكم بناء على هذه الوساوس.بينما قال البعض أن العُمي والعُرج والمرضى أنفسهم كانوا لا يحبّون أن يأكلوا الآخرين، مخافة أن يتضايق من مرضهم من يأكل معهم، فأنـزل الله تعالى هذه الآية وسمح لهم بالأكل مع الأصحاء.مع وقال البعض الآخر أن بعض الفقراء الذين لم يكن عندهم طعام كاف كانوا يأخذون المعذورين إلى بيوت أقاربهم ليأكلوا هناك.ولكن المعذورين كانوا يتحرجون من ذلك؟ فأنزل الله تعالى أن لا حرج من الأكل في بيوت الأقارب والأصدقاء.بينما قال الضحاك: كان أهل المدينة قبل بعثة النبي يكرهون الأكل مع العُمي والعُرج والمرضى، فأنزل الله تعالى أنه لا حرج أن تأكلوا معهم.كما تحدث المفسرون عما إذا كانت هذه الآية من الآيات المنسوخة أم من المحكمات، فقال البعض أنها منسوخة، إذ لم تكن للبيوت قبل الإسلام أبواب، إنما كان الناس يُسدلون الستائر أمام بيوتهم، فربما دخل الرجل البيت وهو جائع، فلا يجد فيها أحدا، فأجاز الله له في هذه الآية أن يأكل هكذا.ولكن الناس اتخذوا لبيوتهم أبوابا فيما بعد، كما أمر الله تعالى في القرآن الكريم أن لا يدخل أحد في بيوت الآخرين بدون إذن أهلها، فحُرّم الدخول في بيت أحد والأكل منه بدون إذن صاحبه، فصارت هذه الآية منسوخة.ويقول البعض أن هذه الآية ليست منسوخة بل هي ناسخة نزل قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل منهم أن هذا يؤدي إلى (النساء: ٣٠) امتنع الصحابة أن يأكل بعضهم مع بعض ظنا وحجتهم أنه لما
الجزء السادس ٤٩٣ سورة النور حرمان العُمي والعُرج والمرضى من حقوقهم فأنزل الله تعالى هذه الآية من سورة النور.فيرون أن قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل صار منسوخا بهذه الآية من سورة النور.ولكن هناك طائفة أخرى من المفسرين تقول إن هذه الآية ليست ناسخة ولا الله منسوخة، بل هي من الآيات المحكمات.وحجتهم ما رَوَتْهُ عائشة – رضي عنها - أن الصحابة إذا خرجوا للجهاد تركوا مفاتيح بيوتهم عند البعض، ولكن هؤلاء كانوا لا يأكلون من بيوتهم في غيابهم، فنزلت هذه الآية فهي منسوخة بل مُحكمة.لیست وقالت طائفة منهم: كان العرب وأهل المدينة يتجنبون الأكل مع المعوقين لأنهم كانوا يتقززون من جولان يد الأعمى هنا وهناك، وينقبضون من جلسة الأعرج، ولا يطيقون رائحة المريض وعلاته وكل هذا يدل على كبرهم لذلك أنزل الله تعالى أن لا حرج في الأكل مع هؤلاء المعذورين والأقارب.كما قد تحدث المفسرون عما إذا كانت هذه الآية تحتوي على موضوع واحد أم أكثر.وقد صاروا فئتين بهذا الصدد، فئة تقول إن كل الآية من قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَج إلى قوله تعالى كَذَلكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تتحدث عن موضوع واحد..أي آداب المعاشرة والأكل.بينما تقول فئة أخرى إن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يحتوي على موضوع، أما باقي الآية فتتحدث عن موضـ الآية فتتحدث عن موضوع آخر.ويقول هؤلاء إن قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ يعني أن هؤلاء لا يستطيعون أن يشتركوا في الجهاد بسبب عذرهم، فلا لوم عليهم.وقد فضل العلامة القرطبي هذا المعنى وقال إن الله تعالى قد رخص للعُمي والعرج والمرضى في جميع الأحكام التي لا يستطيعون القيام بها بسبب عذرهم..أي أن لا لوم على العمي إذا لم يستطيعوا القيام بعمل يتطلب البصر ، ولا لوم على العرج إذا لم يقوموا بعمل يتطلب رجلين سليمتين، ولا لوم على المريض إذا لم يستطع القيام بما يتطلب قوة بدنية.6
الجزء السادس ٤٩٤ سورة النور وقد أيّد ابن عطية هذا المعنى فقال: المراد من الحرج هنا كل عذر يكون بالأعمى أو الأعرج أو المريض، فمثلا ليس بوسع المريض أن يصوم، ولا يستطيع الأعمى والأعرج أن يشتركا في الجهاد وما إلى ذلك؛ فإن الله تعالى سيضع أعذارهم في الحسبان ولن يحرمهم من الثواب.أما باقي الآية أي قوله تعالى وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ...إلخ) فيتعلق بآداب المعاشرة.(انظر القرطبي) لقد تبين من هنا أن المفسرين قد عانوا كثيرا في بيان معنى هذه الآية حتى إن بعضهم قد اعتبرها منسوخة.ولكن عقيدة النسخ في القرآن الكريم عقيدة ومخالفة للإسلام تماماً، إذ يستحيل بعد ذلك أن يثق الإنسان بأي آية من القرآن الكريم.فلو سلّمنا بوجود آيات منسوخة في القرآن الكريم من ناحية ومن ناحية أخرى لم يخبرنا الله تعالى أي الآيات منسوخة في القرآن الكريم وأيها صالحة للعمل، فإن المرء يظل في ريبة وشك، حيث يقول في نفسه لعل الآية التي أعمل بها منسوخة، وهكذا سيفقد ثقته بالكتاب كلية فمن الخطأ تماما أن نعتبر هذه الآية منسوخة، إذ لا يوجد في القرآن الكريم أي حرف منسوخ ولا حركة واحدة من جد سيئة بدءًا الله منسوخة، بله أن توجد فيه آية منسوخة، بل إن هذا الكتاب كله قابل للعمل كلمة بسم الله التي التي يبتدأ بها إلى كلمة وَالنَّاسِ التي ينتهي بها.فمن واجبنا إذا لم نعلم معنى آية من آياته أن نمعن النظر فيها ونتدبرها لمعرفة معناها، وليس أن نعتبرها منسوخة، ونسيء إلى كلام الله تعالى.والحق أن هذه الآية تدل على ميزة عظيمة من مزايا الإسلام التي يتفوق بها على الديانة اليهودية وهذه الميزة برهان ساطع على أن الإسلام قد جاء من عند تعالى كمطر ،رحمة فهطل بغزارة على زروع القلوب الذابلة، فجعلها خضرة نضرة؛ فرقصت الابتسامة على شفاه المنكوبين المظلومين من زمان.لقد كانت اليهودية قبل الإسلام هي الدين الوحيد الذي جاء بشرع مفصل وفق مقتضيات ذلك العصر، وكانت نسبة كبيرة من الناس ترى خلاصها في العمل بالشرع اليهودي ولكن ما هي نوعية التعاليم التي كانت اليهودية تقدمها للناس فيمكن للمرء أن يعرفها إلى حد ما، بقراءة الفقرات التالية:
الجزء السادس "I ٤٩٥ 28 سورة النور من نسلك في عيوبه وكلَّم الربُّ موسى قائلا: كَلَّمْ هارون قائلا: إذا كان رجلٌ أجيالهم فيه عيب فلا يتقدّم ليقرب خُبْزَ إلهه، لأن كل رجُل فيه عيب لا يتقدّم.لا رجل أعمى، ولا أعرَجُ، ولا أفطس، ولا زوائدي، ولا رجُلٌ فيه كَسْرُ رِجلٍ أو كَسْرُ يد، ولا أحدَبُ ، ولا أكثَمُ، ولا مَن في عينه بياض، ولا أجرَبُ ولا أكلف، ولا مرضوض الخصى.كلُّ رجُل فيه عيب من نسل هارون الكاهن لا يتقدّم ليقرّبَ وقائد الربِّ.فيه عيب لا يتقدّم ليقرّب خبر إلهه من قُدس الأقداس.القدس ومن يأكل، لكن إلى الحجاب لا يأتي، وإلى المذبح لا يقترب، لأن فيه عيبا، لئلا يدنّس مقدسي." (اللاويين ٢١: ١٦-٢٣) فترى كم هي مزرية هذه التعاليم للعُمي والعُرج والمرضى والمعذورين، وكيف أنها تنهاهم عن الاقتراب من الأماكن المقدسة، وكيف تعدّهم نجسين وتعتبرهم عضوا غير صالح في المجتمع.فهل من الممكن أن يفرح بهذا التعليم أي مريض أو معذور؟ وهل يعتبر اليهودية كفيلة لنجاته؟ إن الديانة التي تعتبره نجسا بسب الخلقية كيف يمكن أن ترضى بإعطائه أي درجة في الروحانية؟ لقد استمر هذا الظلم زمنا طويلا، وظلّت آهات المرضى والمعوقين تصعد إلى السماء تسعة عشر قرنًا وتستجدي رحمة تعالى، فاستجاب الله لها وبعث رحمة للعالمين، وأعلن على لسانه لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ..أي لا تحتقروا المعذورين ولا تزدروهم.إنهم إخوانكم في الدين، وجزء هام من مجتمعكم، فازدراؤهم ونبذهم بعيدا عن نطاق علاقاتكم الاجتماعية والمدنية إهانة كبيرة لشرف الإنسانية، لذا فنأمركم أن تعتبروهم جزءا من المجتمع ولا تجعلوهم منبوذين، وإلا ستحدث شقة واسعة بين المعوقين والضعفاء وبين أصحاب الثروة والأسر الكبيرة، وستصاب طائفة من القوم بعقدة "الدونية" التي تدمرهم تدميرا، فلن تستطيعوا التقدم كقوم أبدًا.ومن أجل ذلك قال لنا الإسلام وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات: ٢٠)..أي من يأخذ منكم حقه بالمطالبة ليس وحده شريكا في أموالكم فحسب، بل إن المرضى والضعفاء والمعذورين أيضا شركاء في أموالكم.الله محمدا
الجزء السادس الواقع ٤٩٦ سورة النور أن الدنيا ظلت تهين وتزدري فئة كبيرة من الجنس البشري قرونًا طويلة، فمثلاً كانت الهندوسية قد قسمت شرائح المجتمع إلى "برهمن" و"كاشتر" و" ويش" و"شودر" * ، وفرضت على الشودر أن يخدم البرهمن، وأن لا يطالبه بأي حق.بل قد قال "منوجي "لو لو جمع أحد من الشوادر مالاً فعلى البرهمن أن يسلبه إياه، لأن الشودر إذا صار ذا مال سيؤذي البراهمة.منو سمرتي (ترجمة أردية): أدهياء ۱۹ شلوك (۱۲۹) كذلك علمهم ما يلي: "يجب أن يسلب البرهمن الشودر ماله بدون تردد، لأن المال الذي جمعه الشودر ليس له بل هو "للبرهمن (المرجع السابق: أدهياء ٨ شلوك ٤١٧) أن وهذا يعني شرع الهندوس يبيح للبراهمة أنهم إذا رأوا عند الشودر مالاً يسلبونه إياه فورا بدون أن يظنوا هذا العمل إثما، إذ المال مالهم وليس للشودر.ثم لما جاءت اليهودية فإنها نبذت العُمي والعرج والمرضى خارج المجتمع معتبرةً إياهم أنجاسًا (العدد) ٥ ٢ واللاويين (۱۳) وبما أن عدد اليهود المقيمين في المدينة وضواحيها كان أكثر قبل الإسلام، فكان العرب القاطنون في هذه المناطق متأثرين بهذه العادة اليهودية، فكانوا يعاملون العمي والعرج والمرضى معاملة شاذة، فكانوا يتحرزون من الأكل معهم ولا يدعونهم إلى مآدبهم وغيرها.واعلم أن هذا التأثير اليهودي كان قويًا جدًّا حتى إنهم اعترضوا على المسيح الا لما جاءهم وقالوا: لماذا الحباة؟ فقد ورد في الإنجيل: "وبينما هو متكئ في البيت إذا يأكل الطعام مع فمه منهم تقسم الديانة الهندوسية أتباعها على أربع طبقات: ١- البراهمة: وهم الذين خلقهم الإله " براهما" من المعلم والكاهن والقاضي، وإليهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم.٢- الكاشتر (أو "كهتري" ) : وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه: يتعلمون ويقدمون القرابين ويحملون السلاح للدفاع ۳ - الوَيش: وهم الذين خلقهم الإله فخذه: يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال وينفقون على المعاهد الدينية.٤- الشودر: وهم الذين خلقهم الإله من رجليه، وهم يشكلون طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة الشريفة ويمتهنون المهن الحقيرة والقذرة.(المترجم) "منوجي" هو الشارح الثقة للتاريخ الهندوسي باعتراف جميع الهندوس.(المترجم) من
الجزء السادس ٤٩٧ سورة ة النور عشارون وخطاةٌ كثيرون قد جاءوا واتكأوا مع يسوع وتلاميذه.فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلّمكم مع العشارين والخطاة؟" (مت۹: ۱۰-۱۱).يمكن للمرء أن يدرك من هنا كم كان اليهود قد وسعوا فجوة التنافر بين القوم، حتى إنهم كانوا يعافون الأكل مع العُمي والعُرج والمرضى وأصحاب المهن البسيطة.ولكن محمدا رسول الله ﷺ جاء بتعاليم تساعد على الأخوة العالمية وتبني صرح الإنسانية على أسس متينة؛ فكسر بها كل طوق وغل قد وضعته الأديان السابقة في رقاب الناس، وفَكَ أصفاد التقاليد والعادات التي كانت في أعناقهم.وأمرهم أن يعتبروا التمييز العنصري لعنةً، ويزدادوا أُخوة، ويأتوا بأبناء الجنس البشري في صف واحد، ويسعوا حتى تزداد علاقات المحبة بين الأقارب على أوسع نطاق.وقد ذكر الأقارب خاصة هنا لأن طائفة من الناس ترى الأكل في بيوت الأقارب عيبًا.فإن الهندوس مثلا يعتبرون حتى شرب الماء من بيت بنتهم إثم وقد تسربت بعض هذه التقاليد الهندوسية إلى المسلمين بحكم عيشهم بينهم فترة طويلة.بل إنك لتجد في هذا العصر الذي يسمى عصر التحضر عادة غريبة عند الشعوب الأوروبية حيث تجد الابن إذا ذهب لزيارة أبويه في بيتهما يأمرانه بالمبيت في الفندق بدلاً أن يبيت عندهما.وهذا يعني أنه برغم بلوغ هذه الشعوب أوج المدنية في هذه الأيام، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى أن تتعلم الكثير والكثير من تعاليم الإسلام فيما يتعلق بآداب التحضر والاجتماع لما كانت هذه العادات تؤدي إلى تنافر القلوب وانقطاع أواصر المحبة بين الناس، فقد رخص الإسلام في أن يأكل الإنسان من بيوت أقاربه وأصدقائه، ليزدادوا حبًّا، ولا يتولد في قلوبهم شعور بالغربة والتنافر.مجمل القول إن الله تعالى يبيّن هنا أن لا بأس في أن يقيم الأعمى أو الأعرج أو المريض في بيته أو بيت أقاربه أو أن يأكل في بيوتهم بدون أن يُدعى إلى الطعام ما دام لا يتجاوز حد المعروف كما لا حرج في أن يأكل الشخص البريء من هذه العاهات في بيوت أقاربه الأقربين.كما لا عيب على الذي قد عهد إليه البعض
الجزء السادس ٤٩٨ سورة ة النور حفظ ماله وبيته في أن يأكل من ماله أو بيته إلى حد المعروف.فهذا أمر يتعلق بالعرف العام ولا اعتراض على العُرف العام.واعلم أن الأكل مع المرضى هنا لا يعني أن يأكل الإنسان مع المرضى المصابين بأمراض معدية وخطيرة أيضًا.إن الإسلام قد وضع مثل هذه الحالات أيضا في الاعتبار، وأمر بأخذ الحيطة المناسبة من المصابين بأمراض معدية.فقد أمرنا النبي ﷺ في حديث له بتجنّب المجذوم حتى لا نصاب بهذا المرض (البخاري: كتاب الطب، باب الجذام).وقد أعطانا القرآن الكريم تعليمًا أساسيًا بهذا الصدد فقال وَلا تُلْقُوا بأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة) (البقرة : ١٩٦).إذًا، فالمراد من المرض في الآية قيد التفسير الأمراض العادية التي يصاب بها الناس عادة ولا يتضرر منها الناس إذا اختلطوا بالمصابين بها كالصداع مثلاً أو التهاب الحلق والحمى العادية ومرض الأعصاب وما الأمراض، لأن المصاب بها يمكن أن يشترك مع الآخرين في الطعام بدون شابهها من أن يشق عليهم ويسبب لهم أي أذى.أما قوله تعالى أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) فقد قال البعض بصدده: إن كل إنسان يأكل من بيته فلماذا قال الله تعالى إنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم؟ ومن ذا الذي لا يأكل من بيته؟ وهل يحتاج إلى الإذن لذلك؟ فاعلم أن المراد من بيوتكم بوتكُمْ هنا بيوت الأبناء والأزواج.ولما كان الابن غير منفصل عن أبيه ولا الزوجة منفصلة عن زوجها، فإن الله تعالى قد اعتبر بيوت الأبناء والزوجات بمنزلة بيوت المرء، والدليل على ذلك أن الله تعالى حين ذكر بعد ذلك بيوتا أخرى لم يذكر فيها بيوت الأولاد والأزواج.ثم يقول الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَانًا.ولفظ أشتانًا يدل بكل جلاء على أن القرآن كتاب الله تعالى الذي كان يعلم عادات أهل الهند حيث لا يأكلون مع الأقارب أيضا وإنما يأكلون أشتاتا.غير أن كلمة جَميعًا أَوْ أَشتَانًا تتضمن أيضا الإشارة إلى أنه يجوز لكم أن تأكلوا من بيوت أقاربكم الأقربين وأصدقائكم، سواء بإذنهم أو بدون أن تدعوا للطعام.علما أن الإذن مستنبط من لفظ جَميعًا))، لأنهم إذا أكلوا معا فالمفهوم أن
الجزء السادس ٤٩٩ سورة ة النور فمستنبط من الجميع مدعوون للطعام، أما جواز الأكل بدون إذن أو دعوة منهم لفظ أشتانًا ، لأن المرء إذا أكل في بيوتهم وحده فيُفهم منه أنه يأكل دون أن يُدعى.= إذا، فإن الله تعالى يخبرنا هنا أنه يجوز لكم أن تأكلوا معًا..أي بإذن أصحاب هذه البيوت، كما يجوز لكم أن تأكلوا أشتاتًا..أي بدون إذن منهم، لكي تقوي هذه البساطة أواصر المحبة بينكم ، فتعيشوا في حب ووئام.أهم ثم يوصينا الله تعالى بشيء آخر فيقول فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحيَّةً مِنْ عند الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةٌ..أي إذا دخلتم بيوتا فسلّموا على أنفسكم أي على أقاربكم وأصدقائكم الذين يسكنون فيها، ولا تظنوا هذا السلام الذي يخرج من أفواهكم أنه منكم، وإنما هو هدية عظيمة من عند الله تعالى؛ بمعنى أن لفظ السلام وإن كان يبدو لفظا عاديًا إلا أنه عظيم من حيث النتائج.ذلك لأن لفظ السلام يتضمن وعدًا من الله تعالى بالسلامة، فالحق أنك حين تسلّم على أخيك فلا تسلّم أنت وإنما تبلغه وعد السلام من الله تعالى.لقد رأيت أن الناس في بلادنا يدخلون في بيوتهم بدون السلام، وهذا يعني يعتبرون السلام دعاء للآخرين ولكن ليس فيه أي دعاء لآبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم.بينما يأمر الله تعالى جميع المسلمين أن يسلّموا كلما دخلوا في بيوتهم.بل لقد قال الرسول الله أن يسلّم المرء على كل إنسان يلقاه عرفه أم لم يعرفه (النسائي: كتاب الإيمان، باب أي الإسلام خير ولكن المؤسف أن فئة من المسلمين في بلادنا قد تركوا التسليم كلية واخترعوا مكانه كلمات أخرى مثل لفظ "آداب" وما إلى ذلك، ولو سلم عليهم أحد ظنوا أنه قد رماهم بحجر، مع أنهم بتركهم حكمًا من أحكام الإسلام وتعليما من تعاليم الرسول ﷺ يلقون الأحجار على أنفسهم 28/0/ بأنفسهم، ويعتبرون السلام الذي هو مَرْهَمٌ حجرًا.إن قولنا لأحد "السلام عليكم" ندعو أن يشمله السلام من عند الله تعالى فتندمل جروحه، ولكن هؤلاء الأغبياء يقولون لمن يسلّم عليهم إنه يجرحنا بحجر.فهل هناك أحد أكثر حمقا ممن يعني أننا يسمي المرهم حجرا؟
۵۰۰ هي الجزء السادس سورة النور إذا، فهناك فئة من المسلمين تركت السلام كلية، بينما هناك فئة أخرى التي لم تترك السلام ولكنها تجهل حقيقته.إنهم يأتون إلى المجالس صامتين، ويدخلون في البيوت صامتين، دون أن يفكروا في ما أمرنا به الرسول ﷺ في مثل هذه المناسبات، ولو نبههم أحد إلى ذلك يقولون: ما الحرج في ترك السلام، إنه أمر بسيط.بينما يقول بعضهم: لم نسلّم خجلا وحياء.ويقول الآخرون: لسنا متعودين على السلام.والحق أن هذه الفئة الثالثة حمقاء مثل الفئتين الأوليين، ذلك أن الحياء يعني الامتناع من شيء، وعلى المرء أن يمتنع عما هو ضار وليس عما هو نافع.ثم إن القرآن الكريم لم يطلق اسم "التحفة" على أي شيء آخر كما أطلقها على السلام، حتى إن التحفة التي يتلقاها المرء من الله تعالى بعد موته السلام نفسه الذي يهديه له الملائكة من قبل الله تعالى.فلو أن أكبر شخص في العالم قال: ما الحاجة أن أسلّم على أحد؟ قلنا له: ما دام الله تعالى نفسه يسلّم على عباده المؤمنين، فكيف يمكن بعد ذلك أن يعتبر أحد نفسه أسمى من أن يسلّم على الآخرين؟ حتى إن أول ما يتلقاه المرء من ربه عند لقائه هو السلام نفسه.كما ورد في الحديث أن جبريل ال كلما زار النبي ال سلم عليه، فيرد عليه بالسلام (تاريخ الخميس: الجزء الثاني ص ١٤٧: طلوع جبريل المجلس النبي.فمن ذا الذي هو من النبي حتى يتسامى عن التسليم على الآخرين؟ ولكن المؤسف أننا نجد كثيرا من الناس يحتقرون إلقاء السلام على الآخرين ولا سيما المثقفين منهم بالثقافة الإنجليزية.إن هؤلاء يؤكدون بعملهم هذا أنهم يظنون أنهم أكبر من الرسول ﷺ ومن جبريل العليا وحتى من الله تعالى حيث يرون أنهم في غنى عما فرضه الله تعالى على الناس لحكم كثيرة، بل قد فرضه على نفسه كما أوصى به الرسول ﷺ أيضا.إنهم إما أن يكتفوا بالإشارة باليد، أو يقول أحدهم للآخر: حضرة الشيخ، فيجيبه: حضرة الأخ؛ أو يقول بعضهم: كيف حالك؟ ولكن الشرع لا يريد منا هذا، بل أوجب علينا أن نقول للآخر: السلام عليكم.وقد اعتبر النبي هذا الأمر عاملاً على وحدة الأمة، وكان الصحابة ملتزمين به جدًا.فمرة قال أحد لصاحبه: تعال نذهب إلى السوق.فظن صاحبه أنه ربما يأخذه لأمر هام، ولكنه ذهب به وتمشى أكبر
الجزء السادس ۵۰۱ سورة النور بالسوق ورجع دون أن يعمل شيئًا أو يشتري حاجة.وبعد يومين أو ثلاثة جاءه مرة أخرى وقال له : تعال نذهب إلى السوق.فقال له: لقد ذهبت إلى السوق ذلك اليوم ولم تشتر شيئا ولم تعمل عملا أفتريد اليوم أن تذهب لأمر هام أم لمجرد المشي؟ فقال: إنما أخرج إلى السوق لأني أقابل هناك كثيرًا من أصدقائي، فيسلمون عليّ وأسلّم عليهم الأدب المفرد للبخاري: باب من خرج يسلّم ويسلم عليه).وهذا يعني أن الصحابة كانوا يخرجون إلى السوق فقط ليتبادلوا السلام فيما بينهم.فمن واجبكم أيضًا أن تسلّموا على الناس في الأسواق والشوارع والمجالس والبيوت عرفتموهم أم لم تعرفوهم، إذ يقول رسول الله عليك أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".(البخاري: كتاب الاستئذان، باب السلام للمعرفة وغير المعرفة) فإلقاء السلام على الآخرين حسنة كبيرة، وقد عده الرسول ﷺ ضروريًا من أجل الأخوة الإسلامية.فلا تتركوا التسليم مستهينين به، بل واظبوا عليه دوما، لأن الشرع قد عده شعار الإسلام.فعلى الكبار أن يسلّموا على من دونهم، وعلى الآخرين أن يسلموا على الكبار، وليس أن يمر بعضهم ببعض صامتًا دون سلام.بل أرى أن من واجب الكبار أن يكونوا سبّاقين إلى السلام لكي يتأسى بهم الآخرون ويعملوا بحسب هذا الشعار القومي.إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا و لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَغْذِنُوهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ يَسْتَكْذِنُونَكَ أُوْلَبِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ فَإِذَا
الجزء السادس ٥٠٢ سورة النور اسْتَكْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأَذَن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْسِرْهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ٦٣ التفسير : لقد أمر الله تعالى في هذه الآية أن على المؤمنين من أجل الحفاظ على النظام القومي أن لا يخرجوا من المجلس بدون إذن إذا اجتمعوا عند رئيس القوم لمشورة قومية، وإذا خرجوا من مجلسه بغير إذنه فلن يعتبروا من المؤمنين.ثم أمر الله تعالى رئيس القوم أن المؤمنين إذا كانوا مجتمعين عنده للشورى واستأذن بعضهم لحاجة ما فليأذن له إذا رأى ذلك مناسبًا.ولكن عليهم أن يعلموا أن الخروج من مجلس الشورى، ولو لحاجة، نتيجة لبعض ما اكتسبوه، وبرغم أن الله تعالى أمر رئيس القوم أن يأذن لهم، إلا أنه تعالى يخبره أن خروجهم من الشورى وبال لبعض ما اكتسبوا من قبل، ثم إن خروجهم من مجلس الرئيس سيحرمهم من صحبته ومشورته ومن العمل معه، مما يؤدي إلى قلة علمهم وخبرتهم، لذا فعليه أن يدعو لهم بأن يحميهم الله تعالى من مغبة غيابهم عن الشورى وعن صحبته ويتدارك هذا.تقصيرهم و كان النبي ﷺ شديد الحرص على أن يعمل صحابته بهذا الأمر الرباني، فكان غير المسموح لهم أن يخرجوا من مجلسه حتى للحاجات الطبيعية إلا بإذنه، بل إذا احتاج أحدهم للخروج تحرك من مكانه بحيث يراه النبي ﷺ فيشير إليه بإصبعه أو بيده، فكان يأذن له بإشارة يده.(الدر المنثور) من ولكن الناس في هذا العصر لا يدركون أهمية هذا الأمر عادة.إنني أتذكر جيدا أن الخليفة الأول له للمسيح الموعود الذهب مرة إلى لاهور، ولما أراد العودة إلى قاديان أمرني أن أمكث في لاهور لأعود فيما بعد مع والدتي أم المؤمنين الله تعالى عنها - التي كان عليها أن تمكث هناك لأيام أخرى.ولما رجعتُ إلى قاديان ذهبت لزيارته ، ولما سلمت عليه قال لي على الفور: هل تعرف ماذا رضي
الجزء السادس ٥٠٣ سورة النور حدث معنا؟ قلت لا قال كل الذين كانوا معنا رجعوا وتركونا وحدنا في مدينة " بطاله".بحثا ما يعني أن هؤلاء القوم لم يعملوا بما أمر به الله تعالى في القرآن الكريم بخصوص الأمر الجامع.إن شخص الخليفة بالغ الأهمية وشديد التأثير على العالم كله.ولو حصل به مكروه – لا قدر الله - لكان له تأثير على الجماعة كلها.لذا يجب أخذ كل الحيطة والحذر بشأنه.لقد كان الصحابة حريصين جدًا على العمل بهذا الأمر، وكان غياب النبي ﷺ عنهم، ولو لوقت قصير، شاقا عليهم.فذات مرة كان النبي يتكلم مع نفر من أصحابه، ثم تركهم فجأة و لم يرجع لبعض الوقت، فخرج الصحابة مسرعين عنه.وكان النبي ﷺ قد ذهب إلى بستان فذهبوا كلهم وراءه، وقد بلغ بهم القلق كل مبلغ حتى يقول أبو هريرة – الذي يظن الناسُ أنه كان ضعيف القلب – إنني لم أستطع معرفة مدخل البستان لشدة القلق، فدخلته عبر أحد مجاري المياه.(مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة) الواقع أن أحكام الدين نوعان: نوع يتعلق بالأفراد كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، ونوع آخر يتعلق بالقوم كلهم مثل الجهاد واجتماع القوم للشورى أو أي أمر آخر صادر بناء على حاجة قومية والأمور التي لها صلة بكل الجماعة لا ببعض أفرادها، يجب على الجميع أن يكونوا بصددها كحبات السبحة المنظومة في خيط واحد، ولا يجوز لأحد أن يتخلف عنها؛ ولو اضطر المرء للخروج من مثل هذه المجالس لضرورة فلا يذهب إلا بإذن الإمام.وتبيانًا لهذه الحقيقة نفسها بلغة الرمز والتصوير فإنهم ينظمون في الخيط حبات السبحة كلها أولاً، ثم يجمعون طرفَي الخيط ويركبون عليهما حبة كبيرة طويلة يسمّونها الإمام.والحق أن هذا إشارة إلى أهمية نظام القوم، حيث يعبرون بذلك أن الناس بحاجة إلى إمام دائما يتبعونه كما يكون لحبات المسبحة إمام، وإلا فلن يأتي تسبيحهم بالنتائج التي يمكن أن يأتي بها التسبيح الجماعي.والمؤسف أن قليلاً هم الذين يفهمون هذا السر، برغم أن القرآن الكريم يعلن أن الذي يعمل برأيه وحده في أمر يخص الجماعة كلها، ولا يبالي
الجزء السادس ٥٠٤ سورة النور بالإمام، فهو ليس بمؤمن على المؤمن أن يستأذن الإمام إذا عنّت له حاجة وهو في مجلس يناقش فيه أمر هام يخص القوم أو إذا أراد القيام بأمر دنيوي هام يمكن أن يؤثر على الجماعة كلها، فعليه أن يستشير الإمام قبل الشروع فيه.المهم أن يستأذن الإمام إذا أراد الخروج من أمر جامع.وبما أن خروج المرء ء عن أمر جامع يكون بسبب بعض ما اكتسبه من الإثم، لذا فإن الله تعالى يأمر الإمام أن يأذن له عند الاستئذان، ولكن عليه أن يدعو له أيضًا بأن يغفر الله له زلته ويزيل تقصيره.لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ خَالِ ونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةً أَوْ يُصِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (3) شرح الكلمات : ٦٤ يتسللون: تسلل من الزحام انطلق في استخفاء (الأقرب).فالمراد من يَتَسَلَّلُونَ أنهم يخرجون من المجلس سرا.لواذًا: لاذَ الرجل بالجبل لواذًا: استتر به (الأقرب) سمعتم نداء یک التفسير: أي لا حقيقة لنداء الآخرين أمام نداء الإمام.فكلما الرسول فيجب أن تلبوه فورًا وتسرعوا للعمل بحسب أوامره، لأن في هذا سر رقيكم وازدهاركم.بل حتى ولو كان المرء في الصلاة فعليه أن يترك صلاته ويلبي نداء الرسول وهناك أمثلة في جماعتنا على ذلك بفضل الله تعالى.فذات مرة كان الخليفة الأول له يصلي، فناداه سيدنا المسيح الموعود العلي، فترك صلاته على الفور وحضر عند المسيح الموعود ال.ولعل حادثا مماثلاً وقع مع مير مهدي حسين وميان عبد الله السنوري أيضا، ففعلا كما فعل الخليفة الأول – رضي الله
الجزء السادس 0.0 سورة ة النور عنهم.فاعترض البعض على تصرفهم، فقرأ المسيح الموعود الله هذه الآية نفسها في الجواب.المهم الله تعالى.أن تلبية نداء النبي أمر غاية في الأهمية، بل هو من أكبر علامات إيمان المرء.وبما أن الآيات السابقة تتحدث عن موضوع الخلافة الإسلامية وتحتوي على أحكام تؤدي إلى تقوية نظام الإسلام، لذا فقد استأنف الله هنا الموضوع نفسه ثانية، وأوصى المؤمنين بأن لا يظنوا نداء الرسول كنداء الآخرين، بل عليهم بتلبية ندائه على الفور إذا ما دعاهم وكأن الله تعالى قد بين هنا أن محمدا رسول الله ﷺ يتبوأ منصبين رئيس دنيوي ونبي الله ولا غبار على ضرورة طاعة أوامره كرئيس دنيوي، ولكن طاعة أوامره وتلبية ندائه تصبح ضروريةً جدا بصفته نبي وإن نفس الحكم ينطبق على خليفة رسول الله بحسب درجته، ولا بد من تلبية ندائه، ويكون الخروج من مجلسه خفية إثما كبيرا.ورد في التاريخ أن كثيرًا من مسلمي مكة حديثي العهد بالإيمان انضموا إلى الجيش المسلم في غزوة حنين، ليبدوا فيها للناس شجاعتهم وفنونهم القتالية.ولكنهم لم يثبتوا في ساحة القتال أمام هجوم بني ثقيف وفروا حتى لم يبق حول النبي ﷺ إلا اثنا عشر صحابيًا.لقد فرّ وتشتّت الجيش المسلم المكون من عشرة الآف مقاتل في حين كان جيش الكفار المكون من ثلاثة آلاف رام يرشقون النبي ﷺ عن يمينه وشماله بالنبال من على الجبال.ولكن النبي ﷺ رفض أن يتأخر، وظل يتقدم إلى الكافرين.فأخذ أبو بكر لجام راحلة النبي من شدة القلق عليه، وقال يا رسول الله، فداك نفسي، هذا ليس أوان المضي قدمًا.أرجو أن تنتظر حتى يجتمع المسلمون.ولكن النبي الله قال له في حماس شديد: اترك لجام بغلتي.ثم تقدم النبي راكضا بغلته وهو يرتجز: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب أي أنا ذلك النبي الموعود الذي وعد الله بعصمته، ولست بكذاب.فلا أبالي برماتكم سواء أكانوا ثلاثة آلاف أو ثلاثين ألف ويا أيها المشركون، لا تغتروا برؤية شجاعتي، فإني لست بإله كلا بل أنا بشر وأنا حفيد رئيسكم عبد المطلب.
الجزء السادس ٥٠٦ سورة النور وكان عم النبي الله العباس جهير الصوت فأمره النبي أن ينادي بأعلى - - صوته: يا أصحاب الشجرة – يعني شجرة بيعة الرضوان عند الحديبية – ويا أصحاب سورة البقرة - أي الذين قد حفظوا سورة البقرة عن ظهر قلب – إن رسول الله يدعوكم.يقول أحد الصحابة لما فر مقدمة جيش المسلمين إلى الوراء نتيجة جبن مسلمي مكة حديثي العهد بالإسلام نفرت ،رواحلنا وكلما حاولنا إيقافها اشتدت عدواً.وبينما نحن في ذلك إذ سمعنا دوي صوت العباس في ساحة القتال وهو يقول: يا أصحاب سورة البقرة، يا من بايعوا النبي الا الله عند الحديبية تحت الشجرة، إن رسول الله يدعوكم.ولما وقع هذا الصوت في سمعي.ظننت أنني لست حيًّا، بل أنا ميت، وأن صور إسرافيل يدوّي في أذني.فجذبت خطام بعيري بشدة لأوقفه، فالتصق رأسه بظهره، ولكنه كان مذعورًا جدًا، وبمجرد أن أرخيت له الخطام بدأ يعدو إلى الناحية الأخرى عدوًا شديدًا.فأخرجتُ أنا وكثير من أصحابي سيوفنا، وبعضنا قفزوا من رواحلهم وبعضنا قطعوا أعناقها وأخذوا يعدون إلى رسول الله.فعادوا إليه لله واجتمع حوله في لحظات الجيش المكون من سبعة الآف صحابي الذي كان يعدو من قبل إلى مكة بشدة.فصعدوا بسرعة على الجبال وقتلوا الأعداء، فانقلبت الهزيمة الخطيرة فتحا عظيمًا.عمدة القارئ كتاب المغازي، باب قول الله وعجل : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم، والسيرة الحلبية، الجزء الثالث: غزوة حنين) وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم مشيرًا إلى هذه الواقعة لَقَدْ نَصَرَ مَوَاطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْنِ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزِلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلكَ جَزَاءُ الكافرين (التوبة: ٢٥-٢٦).ثم بعد ذلك قال الله تعالى هنا في هذه السورة مركزا على هذا الأمر أكثر فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).وليس خافيًا على أحد كم تضرر الجيش المسلم في غزوة أحد نتيجة مخالفة بعض المسلمين
الجزء السادس ۵۰۷ سورة ة النور لهذا الحكم الرباني.كان الرسول قد عين خمسين من الرماة على ممر هام في الجبل، ولحساسية الممر دعا النبي رئيس هذه الكتيبة عبد الله بن جبير الأنصاري وأوصاه وأصحابه وقال: لا تتركوا هذا الممر سواء انتصرنا أو متنا.ولكن لما هزم الكفار وبدأ المسلمون يطاردونهم قال أصحاب الكتيبة لقائدهم لقد تم الفتح للمسلمين، وبقاؤنا هنا الآن عبث، فدعنا ننضم إليهم لنأخذ ثواب الجهاد.فقال قائدهم: لا تخالفوا أمر الرسول..لقد أمرنا ألا نترك هذا المكان سواء انتصر المسلمون أو هزموا.لذا فلن أسمح لكم بترك الممر.فقالوا: لم يقصد الرسول ﷺ بقوله أن لا نتحرك من هنا رغم انتصار المسلمين، وإنما كان يريد بذلك التأكيد على حماية الممر.لقد انتصر جيش المسلمين الآن وقد انتهى عملنا، فماذا نفعل هنا.وهكذا قدموا رأيهم الشخصي على ما أمرهم به رسول الله ﷺ وتركوا الممر ولم يبق فيه إلا قائدهم وبضعة من أصحابه.وبينما كان الجيش الكافر يهرب من ساحة القتال إلى مكة نظر خالد ابن الوليد إلى الممر فوجده خاليا، فقال لعمرو بن العاص - وكانا لم يُسلما بعد انظر هناك فرصة سانحة تعال نرجع وننقض على المسلمين من هذا الممر.فجمعا الكتائب الكافرة الفارّة، وصعدا على الجبل من جانب الجيش الإسلامي ومزقوا كل من بقي من جنود المسلمين على الممر إربا، إذ لم يقدر هؤلاء البضعة على مقاومة الجيش الكافر فحمل الكافرون على الجيش المسلم من خلفه بغتة.وكان هذا الهجوم المفاجئ شديدًا على المسلمين الفرحين بالفتح والمنتشرين هنا وهناك في ساحة القتال، فلم يثبت أمام هذا الهجوم إلا قرابة عشرين صحابيًا، حيث أسرعوا والتفوا حول الرسول يدافعون عنه.ولكن إلى متى كان بوسع هؤلاء الحفنة من الصحابة أن يتصدّوا أمام هجمات العدو المتكررة؟ فقام الكافرون بهجمة شديدة ودفعوهم إلى الوراء، وفرّقوهم عن النبي حتى صار وحيدا في ساحة القتال.فأصابه حجرٌ في رأسه، فدخلت مسامير مغفره في رأسه، وسقط مغشيا عليه في إحدى الحفر التي كان الأعداء حفروها وغطوها من قبل كيدًا بالمسلمين.كما استشهد بعض الصحابة الآخرين وسقطت جثثهم في الحفرة على جسد النبي ، وأُشيع بين القوم أن رسول الله قد استشهد.ولكن الصحابة
0.1 الجزء السادس سورة النور الذين كانوا تقهقروا نتيجة هجمات الكفار المكثفة اجتمعوا ثانية حول الرسول ﷺ عندما انكشف العدو، فأخرجوه من الحفرة.فأفاق النبي ﷺ بعد قليل، وأرسل رجاله في كل طرف ليجمعوا المسلمين مرة أخرى، ثم أخذهم إلى سفح الجبل.(البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة أحد، والطبقات الكبرى لابن سعد، الجزء الثاني: غزوة رسول الله أحدا) الشخصي فأنت ترى أن الجيش الإسلامى لم يلق تلك الهزيمة المؤقتة بعد أن انتصر على الكافرين إلا لأن بعض المسلمين خالفوا حكم الرسول واتبعوا اجتهادهم بدلاً من العمل بأوامره.ولو أنهم اتبعوا النبي ﷺ كما يتبع النبض حركة القلب مدركين أن الناس كلهم لو قدموا أرواحهم في سبيل اتباع أمر الرسول لما كانت هذه التضحية أيضا ذات بال ولو أنهم لم يتبعوا اجتهادهم الشخصى ولم يتركوا الممر الذي أمرهم الرسول له بحمايته بقوله: لا تتحركوا من هذا المكان سواء انتصرنا أو متنا، لما وجد العدو فرصة للهجوم ثانية، ولما أصيب الرسول الله ولا أصحابه بأي أذى.لذا فإن الله تعالى قد لفت أنظار المسلمين في هذه الآية وأوضح لهم أن الذين لا يطيعون أحكام رسول الله ﷺ طاعة كاملة، أو يفضلون اجتهاداتهم الشخصية على أوامره عليهم أن يخافوا أن تنزل عليهم آفة أو عذاب شديد.وكأن الله تعالى يقول لنا: إذا أردتم النجاح فعليكم أن تهبوا قائمين إذا ارتفعت يده ، وأن تجلسوا إذا انخفضت يده.وسيظل المسلمون أحياء ما بقيت فيهم هذه الروح، وإذا ماتت هذه الروح فيهم فلا شك أن الإسلام سيبقى حيا، ولكن يد الله تعالى ستهلك القوم الذين يخالفون أوامر محمد.صلے أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
الجزء السادس ۵۰۹ سورة النور التفسير: أي لا تظنوا أن بوسعكم أن تحرزوا التقدم والرقي رغم مخالفتكم أحكام الله تعالى.لا شك أن هناك - منطقيًا - بعض الطرق الأخرى للرقي في الدنيا، ولكن اعلموا أن كل ما في السماوات والأرض هو ملك لله تعالى، ولو أصبحتم الله تعالى لوضع كل ما في السماوات في قبضتكم، أما إذا لم تتبعوا أحكامه، فاعلموا أنكم لن تستطيعوا إحراز الرقي بمحاربة الله تعالى.ولا تظنوا أنه تعالى يصدر أحكامه دونما حكمة.كلا بل إنه خبير بأحوالكم، ولا ينزل أوامره إلا بحسب ما تحتاجون إليه فالعمل بها يضمن لكم النجاح والتقدم حتما.أما خوفكم أنكم إذا اتبعتم أحكام الله تعالى فتتعرضون لاضطهاد الناس وتلقون معارضة الأقارب، وتفقدون الوظائف، وتخسرون التجارات، وتصبح عزتكم وشرفكم في خطر، فاعلموا أن الله تعالى قد جعل يوما للجزاء، فلمَ الخوف إِذًا؟ فإن الله تعالى سيهبكم نعما عظيمة، ويشرّفكم بقربه.أما إذا عصيتم أوامره فلن تنجوا من عقابه وعل.
الجزء السادس ۵۱۱ سورة الفرقان سورة الفرقان مكية، وهي مع البسملة ثمان وسبعون آية وستة ركوعات زمن نزولها سورة "الفرقان" مكية عند معظم المفسرين، حيث نزلت قبل الهجرة (البحر المحيط).قال القرطبي في تفسيره عن ابن عباس وقتادة أن ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قول الله تعالى (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إلى قوله تعالى وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا )) (القرطبي)..أي الآيات رقم ٦٨ إلى ٧٠ عندهم، والآيات رقم ٦٩ إلى ۷۱ عندنا إذ نعتبر البسملة آية من كل سورة.وليس عندهم أي دليل على كون هذه الآيات مدنية إلا قولهم إن الله تعالى قد فهى في هذه الآيات عن قتل النفس والفاحشة، وبما أن التعاليم المفصلة عما يتعلق بالتمدن والمعاشرة والسياسة إنما نزلت بالمدينة، فثبت أنها آيات مدنية.ولكن قولهم هذا ليس بدليل إذ كان الصحابة عاملين بهذا التعليم أيضًا وهم في مكة.إذ تدل سيرتهم وسلوكهم صراحة على أن هذه الأحكام كانت في حسبانهم في تلك الفترة أيضًا.فليس من المعقول أبدًا أن نعدّ هذه الآيات مدنية لمجرد أنها تنهى عن القتل والفاحشة.إن المستشرقين المسيحيين أيضا قد عدّوا هذه السورة مكية، ولكنهم يقولون إنها نزلت في أوائل البعثة النبوة (تفسير القرآن ويري مجلد ۳ صفحة ٢٠٧).ولكن قول "ويري" هذا غير صحيح، إذ يحتج على قوله بأن هذه السورة لا تتحدث عن المعارضة الشديدة من قبل الكفار وحجته مرفوضة لأن هناك سورا مدنية ليس فيها أي ذكر للكفار ، فهل نستنتج من ذلك أنه لم تقع أي حرب ضد الكفار في المدينة.الحق أن محتوى هذه السورة أيضًا يدل على أنها مكية إذ تعلن صراحة أن الكافرين لن يرضوا بدين محمد رسول الله ﷺ (انظر الآية رقم ٥٣).وهذا
الجزء السادس ۵۱۲ سورة الفرقان يعني أن الشجار مع الكفار كان قد بدأ عندئذ.فبوسعنا القول إن هذه السورة مما نزل بين السنة الثانية والثالثة من البعثة.وقد روى البخاري ومسلم ومالك والشافعي وابن حبان والبيهقي عن عمر بن الخطاب له يقول: "سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرننيها رسولُ الله ، فكدتُ أساوره في الصلاة.فتصبرتُ حتى سلّم.فلبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله ﷺ فقلت: كذبت، فإن رسول الله ﷺ قد أقرأنيها على غير ما قرأت.فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله ﷺ.فقلتُ إني سمعتُ هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها.فقال رسول الله أَرْسله اقْرَأْ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ.فقال رسول الله : كذلك أنزلت.ثم قال: اقرأ يا عمرُ.فقرأتُ القراءة التي أقرأني.فقال رسول الله كذلك أنزلت إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه." (البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب أُنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم: كتاب فضائل القرآن، باب بيان القرآن أُنزل على سبعة أحرف، وتفسير فتح البيان مجلد ٦ ص ٣٥٤).لقد تبين من هنا أن القراءات - التي يؤسس عليها المستشرقون والقسيسون مطاعنهم في القرآن الكريم بشكل كبير - ليست إلا الفروق الموجودة بين لهجات شتى القبائل العربية.وقد كثرت هذه الفروق في اللهجات في اللغة العربية بحكم كون الشعب العربي محاصرًا بين العديد من الشعوب التي لها لغات مستقلة، إذ كانت حدود الجزيرة العربية تتصل بالحبشة من ناحية وبفارس من ناحية أخرى، وكانت لهم علاقات باليهود والآراميين من ناحية ثالثة، وكانت لهم صلات بالهند من ناحية رابعة فكان من المحتم أن تتأثر وتتفاعل لغة قوم تحاصرهم كل هذه الشعوب ذوات اللغات المختلفة من شتى الجهات.فكانت النتيجة أن بعض العرب كانوا لا ينطقون بعض الحروف نطقا سليما.فمثلا كان بعضهم لا ينطق "ر" بل ينطقه "ل".أو إذا وجدوا بعض الصعوبة في نطق لفظ استخدموا مكانه لفظا آخر.والواضح أن المؤلف إذا أجاز قراءة لفظ مكان لفظ في كتابه سهل على جميع القوم
الجزء السادس ۵۱۳ سورة الفرقان قراءة الكتاب، ولكنه إذا لم يجز ذلك سهلت قراءة كتابه على بعض وصعبت على بعض.أما إذا قرؤوا كتابه بأسلوبهم فإنما يفعلون ذلك باختيارهم وليس بإذن من المؤلف.ولقد أوجد القرآن الكريم حلاً لهذه المعضلة حيث اختار حروفًا أو ألفاظا بديلة نظرا إلى الاختلافات الموجودة في لهجات القبائل العربية المختلفة، مما مكن جميع العرب من قراءة القرآن الكريم بيسر وسهولة.وبما أنه كان أسلوبا جديدا نادرا لم يفطن إليه أحد قبل القرآن الكريم، فشق ذلك على الناس في أول الأمر، فكان كل فريق يظن أن القرآن الكريم قد نزل بلهجة قبيلته، وإذا قام أحد بقراءة آية من القرآن الكريم بحسب لغة قبيلته ولهجتها بشيء من التغيير في الحرف أو اللفظ، ظن الآخرون أنه يحرّف القرآن الكريم، فكان الرسول ﷺ يضطر لشرح الأمر لهم مرة بعد أخرى.ولكن لما فهم الناس الأمر جيدًا أدركوا أنه لا حرج في هذا الأسلوب، إذ لا يؤدي إلى تغيير في المعنى، بل يؤدي في بعض الأحيان إلى توسيع معاني القرآن الكريم، ويساعد كل قبيلة على قراءة هذا الكتاب.لقد كتب بعض الأدباء العرب المشاهير أنه كان لملك وزير لا يستطيع نطق الراء لاختلاف لهجة قبيلته، وكان الملك لا يعلم ذلك.فشكاه أحدهم للملك قائلا: إن هذا الوزير لا يعرف حتى نطق الراء بل يحوّلها لاما.فقال الملك: لا علم لي بذلك، ولكن ما دمتم قد أخبرتموني فسوف أفحص الأمر لأعرف مدى صدقكم.فدعا وزيره وأمره بأن يملي على سكرتيره الأمر التالي: "أمر أمير الأمراء أن يُحفر البئر في الطريق ليشرب منه الماء الصادر والوارد".لقد تكرر حرف الراء في هذه الجملة كثيرًا.ولكن الوزير كان عالما شديد الذكاء، فلم يلبث أن أملى على سكرتيره ما يلي: حكم حاكمُ الحكّام أن يُقلب القليبُ في السبيل لينتفع منه الصادي والبادي".فتحاشيًا لنطق الراء استعمل كلمات مرادفة في المعنى مكان الكلمات التي فيها الراء، بدون أن يغير المعنى الذي أراده الملك.فتأثر الملك بذكائه الخارق، وقال للواشي: لقد شكوته إلى لأطرده من منصبه، ولكنه قد ازداد رفعة عندي، لأنه
الجزء السادس ٥١٤ سورة الفرقان بمجرد أن سمع كلامي صاغه في جملة خالية من حرف الراء، بدون أن يغير المفهوم الذي قصدته.وهذا دليل على عظيم علمه وذكائه وهذا يوجب علي أن أقدره أكثر من ذي قبل.فبوسع المرء أن يدرك من ذلك بسهولة أنه كما كان من الصعب على الوزير نطق الراء فكان يحوّلها ،لامًا، كذلك كان هناك اختلاف بين لهجات القبائل العربية المختلفة، فكان بعضهم لا يحسنون نطق بعض الحروف المعينة، فقضى الرسول ﷺ على هذه الاختلافات كلها بسماحه لهم بقراءة القرآن الكريم بقراءات مختلفة، وهكذا صار القرآن الكريم كتابًا عالميًا يستطيع كافة العرب ذوي اللهجات المختلفة قراءته بسهولة، وكان بوسعهم أن يقولوا إن القرآن الكريم قد نزل بلغتنا.ومن أجل ذلك قال النبي ﷺ " اقرؤوا ما تيسر لكم"..أي اقرءوه بحسب اللهجة الرائجة عندكم التي تسهل على لسانكم لو كانت القراءة بتغيير بعض الحروف وبعض الحركات تغيّر معنى القرآن الكريم لما سمح لهم النبي ﷺ بقراءته باللهجة التي هي سهلة عليهم.إن هذه الجملة توضح بجلاء أن القراءات المختلفة تتعلق بالنطق فقط لا بالمعاني.فإذا كانت هناك قراءات فإنها توسع دائرة النطق فقط دون أن تغير المعنى الحقيقي على الإطلاق بل يبقى الحكم الأصلي في مكانه كما يريده القرآن الكريم.الترتيب والترابط تكمن الصلة القريبة لهذه السورة بسورة "النور" في أن الله تعالى قد تحدث في آخر سورة "النور" عن النظام الإسلامي، موضحًا أن بعض الناس لا يعرفون حقيقة هذا النظام ويخافون من نظام الكافرين الذي قد أصبح منخوراً من داخله وإن خوفهم وضعفهم هذا لن ينقذهم من الهلاك بل سيدفعهم إلى الدمار أكثر.أما سورة الفرقان" فقد بين الله فيها سبب ذلك، فقال إن القرآن الكريم يعلن أنه جاء نذيراً للعالمين، وأن الذين يخالفون تعاليمه إنما يخالفون الطبيعة؛ إذ إن تعاليمه مطابقة لقانون الفطرة والطبيعة فمخالفة التعاليم القرآنية ليست مخالفة للأحكام السماوية فحسب، بل هي مخالفة للقوانين الطبيعية أيضًا؛ لذا فلا يمكن لأحد من أتباع أي دين وأهل أي قطر أن يصمد أمام من يؤمن بالقرآن
الجزء السادس ٥١٥ سورة الفرقان الكريم ويعمل به.إذا، فالذين يخافون نظام الكافرين إنما يخافون الوهم والخيال، إذ لا يتأسس خوفهم على الحقيقة مطلقًا.هذا فيما يتعلق بالصلة القريبة بين السورتين.أما علاقة هذه السورة بالتي قبلها من حيث مضمونهما الشامل فتكمن في أن الله تعالى قد ركز في سورة "النور" على أهمية إصلاح أخلاق القوم وتنظيم العائلة وتنظيم القوم، مبينًا أنه لا بد للنجاح من التركيز الخاص على تنظيم القوم وتفضيل حقوق الجماعة على حقوق الفرد، إضافةً إلى إصلاح عقائد القوم وأفكارهم وأخلاقهم وهذا الموضوع نفسه تتناوله سورة "الفرقان"، ولكنها تبين كيف تستمر المواجهة بين الخير والشر بشكل خاص، وكأن هذه السورة تعقد المقارنة بين رقي الإيمان ورقي الكفر، معتبرة إياهما نهرين جاريين متحاذيين.كما بين الله تعالى في هذه السورة حال رقي الإسلام وانحطاطه حتى زمن المسيح الموعود الله، وهكذا ذكر أخبار رقي المسلمين إلى جانب أخبار الرقي الزماني أيضًا.ملخص محتوى هذه السورة: لقد بين الله تعالى في هذه السورة أن هذا القرآن سيف ذو حدين، فهو رحمة للمؤمنين وإنذار للكافرين، لأن منزله مالك السماوات والأرض دون شراكة شريك.وكل ذرة في الكون من خلقه، لذلك فإن وحيه يكون مطابقًا للطبيعة، وأن إنكار وحيه تعالى أو إقراره ليس مجرد إنكار أو إقرار للوحي فحسب، بل هو إنكار أو إقرار لقانون الطبيعة أيضًا، إذ ما دام مالك الشرع وخالقُ الطبيعة واحدًا فلا يمكن أن يكون بينهما اختلاف.(الآيات ١-٤) إن معارضي القرآن الكريم حين يرون فضله يقولون مضطرين إن هذا الكلام ليس من شخص واحد، بل قد لفّقه مجموعة من الناس، أو يقولون إنه قد سرقه من صحف الأولين.(الآيتان ٥-٦) ولكن ادعاءهم هذا باطل، إذ لو كان القرآن الكريم من اختراع بشر لما اتسم بسمات ومزايا تفوق قدرات البشر.ولو كان سرقة من الصحف الأولى لوجب أن تتوافر مزاياه في الكتب السابقة أيضًا.(الآية ٧)
الجزء السادس سورة الفرقان ويقول بعض المعارضين إن محمدًا ( بشر مثلنا، يأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب، ويخالط الناس.ولو أراد الله تعالى أن ينزل هذا الكلام، فلم لم يُنزل ملاكًا، أو لم لم يُنزل مع محمد كنزا، أو لم لم يعطه البساتين التي يأكل من ثمراتها؟ بينما يقول البعض الآخر : لماذا تتبعون رجلا مفتريا؟ فانظر كيف يثيرون أمورًا متناقضة، ولا يتمسكون بموقف واحد.(الآيات (٨-١٠) إن الله تعالى لقادر على أن يعطيك، يا محمد، ما هو أفضل من البساتين، وسيعطيك حتمًا؛ ولكن هؤلاء القوم ينكرون تلك الساعة ولا ينتظرونها، ولكنها إذا جاءت فسيستولي عليهم الذعر واليأس.(الآيات ١١-١٥) هل البستان الذي يطالبونك به أفضل من البستان الذي سيعطى للمسلمين؟ كلا.(الآيتان ١٦-١٧) عندما تُسأل آلهتهم يوم القيامة فستنكر كل ما يعزون إليها من الأمور.(الآيات (۲۰-۱۸ الحق أن اعتراضهم ليس بذي قيمة.أليست كل أمة تدعي بمجيء أنبياء فيها؟ ألم يكن هؤلاء الأنبياء بشرًا محتاجين إلى كل ما يحتاج إليه البشر؟ والحق أن هؤلاء مصابون بالزهو بأن الناس يؤيدونهم وأن بوسعهم أن يخدعوهم.والحق أن أقوالهم ليست إلا هراء في هراء (الآية: (۲۱) ويقول بعضهم لم لا تنزل الملائكة علينا، أو لم لا يكلمنا ربنا؟ الحق أنهم مصابون بالغرور والكبرياء، وأنهم حين يرون الملائكة يرون أيام العذاب بما اقترفوا من الأعمال.أما المؤمنون فسيرون الملائكة مسرورين (الآيات (٢٢-٢٥) ستنزل الملائكة في يوم من الأيام يقينًا، ولكن ذلك اليوم يكون يوم الجزاء، يوم يشهد الرسول أن الناس قد رفضوا القانونين؛ قانون الطبيعة وقانون الشرع الرباني (الآيات (٢٦-٣١) وهذا ليس ببدع، بل قد تعرض جميع الأنبياء للإنكار.(الآية رقم (٣٢)
الجزء السادس ۵۱۷ سورة الفرقان ويقول بعضهم: لم لم ينزل القرآن دفعة واحدة؟ فليعترضوا كما يحلو لهم، فعندنا جواب كل اعتراض.إنه لا بأس بالاعتراض، ولكن البأس كل البأس أن يثير المرء اعتراضا يسبب له الخزي والندامة أمام الله تعالى.(الآيات ٣٣-٣٥) لقد جاء قبلك أنبياء كثيرون، وقد هلك أعداؤهم.(الآيات ٣٦-٤١) إنهم يستهزئون بك أيضًا، وكان هذا لزامًا، لأن قلوبهم قد خلت من المثل العليا.(الآيات ٤٢-٤٥) قد ليتهم يرون أن الله تعالى يكتب للأمم الازدهار ثم الانحطاط، وتأتي عليها ساعات من الليل بعد ساعات من النهار.فلم لا يدركون من ذلك أن زوالهم حان، وأن أوان غلبة المسلمين قد أتى.(الآيات ٤٦-٥٠) إن القرآن الكريم لا يعرض عليهم إلا ما فيه خيرهم، ولا يطالبهم بأي شيء، فلم يصرون على الإنكار (الآية: ٥١) إن أكبر ما يتضايقون منه هو مجيء نبي من العرب حسنًا، فليدلوا على مكان إذا بُعث فيه نبي آمن به الناس كلهم؟ فهل يريدون أن يأتي نبي في كل قوم في وقت واحد؟ ولو حصل ذلك لاشتد الخلاف بين الناس أكثر.فلا تكترث لقولهم، واستمر في تبليغ رسالة القرآن.(الآيتان ٥٢-٥٣) أو لم يروا أن الله تعالى قد أجرى نهرين أحدهما حلو، والآخر مالح، ومع ذلك لا يلتقيان.كذلك سيظل هذان المنهجان مستمرين متحاذيين، وسيظل الناس يميزون بين الحلو والمالح.(الآية:٥٤) أولا يرون أن الإنسان قد خُلق من الماء، كذلك فإن خلقه الروحاني أيضا بحاجة إلى الماء.(الآية (٥٥) إنهم معتادون على الشرك والوثنية، وما عليك إلا النصح والتبليغ بدون أجر، والتوكل على الله وحده.(الآيات ٥٦-٦٠) عندما يقال لهم أن يعبدوا الله الأحد الذي يدل الكون كله على وحدانيته يكفرون.(الآية ٦١)
۵۱۸ الجزء السادس سورة الفرقان أولا يرون أن هناك نظاماً ماديا يتلقون منه الضياء والحياة؛ كذلك يتناوب الخير والشر في الدنيا.فإن المؤمنين يقيمون السلام في الدنيا دائمًا، ويردّون على الشرور بالدعاء، ويعبدون الله تعالى ويدعونه في جوف الليل، وينفقون أموالهم لإصلاح الدنيا بدون رياء ولا يشركون، ولا يقتلون ولا يزنون؛ ومن فعل ذلك نال عقابه.بيد أن إله الإسلام يقبل التوبة، وعلامة التوبة الصادقة أن المرء يوفق لفعل الخيرات.(الآيات ٦٢-٧٢) إنما المؤمنون الذين لا يكذبون ولا يرغبون في اللغو، وتستولي عليهم خشية الله تعالى بسماع كلامه، ويدعونه تعالى لإصلاح أزواجهم وأولادهم، ولا يريدون الإمامة والقيادة فحسب بل يريدون أن يكونوا أئمة للصالحين.هؤلاء هم الذين سيرثون نعم الله تعالى التي لا انقطاع لها.(الآيات ۷۳-۷۷) اعلموا أن الله تعالى قد خلقكم لغاية معينة، وإذا لم تحققوا تلك الغاية فلن تستحقوا رحمته تعالى.(الآية (۷۸)
الجزء السادس ۵۱۹ سورة الفرقان م الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَلَمِينَ نَذِيرًا (3) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا شرح الكلمات: تبارك: تبارك الله تعالى: تقدَّسَ وتنزة (الأقرب)..أي أن الله تعالى جامع لكل الصفات الحسنة، ومنزه عن جميع العيوب والنقائص.الفُرقان: كلُّ ما فُرِقَ با به بين الحق والباطل.(الأقرب) وقال الإمام الراغب: "الفرقان: كلامُ الله تعالى لفَرْقه بين الحق والباطل في الاعتقاد والصدق والكذب.(المفردات) العالمين: جمعُ العالم وهو : الخَلقُ كله؛ كلُّ صنف من أصناف الخلق؛ وقيل: يختص بمن يعقل؛ وقال بعضهم : هو اسم لما يُعلم به شيء، ثم سُمّي الخالق (الأقرب).به ولمعرفة المزيد راجع شرح لفظ العالمين في المجلد الأول من هذا التفسير.نذيرا : النذير : الإنذار؛ المنذر؛ الرسولُ.(الأقرب) به قدَّر قدَّره على شيء جعَله قادرًا.وقدَّر الشيء بالشيء: قاسه به وجعله على مقداره.وقدَّر فلانٌ: تروى وفكر في تسوية أمره.(الأقرب) التفسير: لقد نبهنا الله تعالى هنا أن الإله الذي نزل القرآن الكريم جامع للمحاسن كلها ومنزه عن العيوب كلها، وأن هذا الكتاب الذي قد أنزله
الجزء السادس ۵۲۰ سورة الفرقان يفرّق بين الحق والباطل، وأنه للعباد كلهم أيا كان مستوى عقلهم أو ميولهم.فقد ورد في رواية عن عبد الله ابن الزبير أن النبي ﷺ قرأ قول الله تعالى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْده بقراءة أخرى هي: "نزل الفرقان على عباده" (البحر المحيط).وهذه القراءة تشير الى نفس المعنى أي أنه تعالى قد أنزل الكتاب الذي يميز بين الحق والباطل على عباده الذين لهم طبائع مختلفة لكي يكون هذا الكتاب إنذارًا للخلق كلهم، وبتعبير آخر إنه كتاب يمكن أن يتعظ وينتفع به كل إنسان أيا كان مزاجه وطبعه.إن هذه الآية التي استهلت بها سورة الفرقان آية وجيزة في ظاهرها، ولكن التدبر يكشف لنا أنها رغم إيجازها تقدم للمسلمين خطة عمل واسعة وكاملة.لا شك أنه يوجد في الدنيا ملايين يسمون أنفسهم مسلمين، ولكن مجرد تسمية شيء باسم لا يولّد فيه الحقيقة الكامنة في ذلك الاسم.يقول الشاعر باللغة الفارسية: "بر" عکس نهند نام زنگی کافور..أي قد سموا الحبشي كافوراً.وهذا يقال حين يكون الأمر خلاف الحقيقة تماما..ذلك لأن الحبشي يكون شديد السواد كما يكون الكافور شديد البياض.وقد قال شاعر آخر من بلادنا باللغة الأردية مبينًا أن الدنيا مكان العجائب إذ تجد كل شيء فيها مقلوبًا: رنگی کو نارنگی کہیں، بنےدودھ کو کھویا چلتی ھوئی کو گاڑی کہيں ، ديكم كبيرا رويا أي أن البرتقال ثمر جميل اللون، ولكنهم قد يسمونه " نامرنكي" أي عديم اللون؛ ويطلقون على الحلوى المصنوعة من الحليب المركز اسم "كهويا"..أي "المفقود"، أن المفقود هو الشيء الضائع؛ كذلك يسمون السيارة "كامي"..مع أن معناه مع - الحرفي الشيء الثابت في مكانه لا يتحرك.لقد أبكاني – يقول الشاعر واسمه "كبيرا" - رؤية كل هذه الأمور المقلوبة في الدنيا رأسًا على عقب.فما أشدَّ هذه
الجزء السادس ۵۲۱ سورة الفرقان الدنيا غباء، حيث تسمي كل شيء على عكس حقيقته.فهل أصابها مرض الحول حيث ترى كل شيء مقلوبًا.فبوسع المرء أن يسمي نفسه بأي اسم شاء، إسلامي أو هندوسي أو بوذي أو زرادشتي، ولكن الاسم وحده لا يخلق في المرء جوهر دينه.فهناك ملايين من الناس ينتمون إلى الهندوسية أو الإسلام أو البوذية أو الزرادشتية، ولكنهم يبدون لك مسيحيين من هيئتهم ولباسهم وأسلوب حياتهم وأفكارهم، وإذا تحققت وعرفت أسماءهم وجدت أنهم قد ولدوا في بيوت هندوسية أو مسلمة أو بوذية أو زرادشتية.فالاسم وحده ليس بشيء، بل إن ما يزيد قيمة الشيء هو صفاته ومحاسنه، وإلا فلا فرق من حيث الاسم بين موز طيني وموز حقيقي، وبين تفاح طيني وتفاح حقيقي، وبين مانجو طيني ومانجو حقيقي.إن تسمية هذه الأشكال الطينية بأسماء هذه الفواكه لا تولّد فيها خواصها، ومن المستحيل أن ينتفع أحد منها كما ينتفع من الثمار الحقيقية.بالاختصار، لن ينفع الناس من الأشياء إلا ما يتصف بالصفات التي تتفق مع - يسمى اسمه، فإذا كان يسمى ترياقًا فيجب أن توجد فيه خواص الترياق، وإذا كان شفاءً فيجب أن يتوافر فيه الشفاء.وهذه هي الحقيقة التي قد بينها الله تعالى في قوله تَبَارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْده.فإن أول ما أعلنه الله تعالى هنا للناس هو أنه تعالى بريء من كل نقص ومنزه عن كل عيب.ثم بين الله تعالى أن هذا ليس ادعاء فارغا فحسب، بل هو إعلان حق تماما، والدليل على ذلك هو أنه تعالى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ...أي أنه أنزل الوحي الذي كل كلمة فيه تميز بين الحق والباطل، وتبين للناس ما هو مفيد حتى يأخذوه، وما هو ضار حتى يتركوه.فإنك تجد التعاليم المسيحية - مثلاً - جميلة جدا في ظاهرها، كقول المسيح ال: "مَن لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر أيضا" (متى ٥: ٣٩).وعندما يقرأ أحد القسيسين هذا التعليم الإنجيلي واقفا أمام الناس في أماكن مختلفة تجد العديد من المسلمين الضعفاء يقولون : سبحان الله ما أروعه من تعليم! ولكن حين يأتي الوقت للعمل بهذا التعليم يتبين لك أنه غير صالح للعمل.بل إنك تجد أن
الجزء السادس ۵۲۲ سورة الفرقان المسيح اللي نفسه لم يستطع العمل بهذا التعليم في حياته.فها هو نفس المسيح الذي كان يعلم الآخرين أن "من لطمك على خدك الأيمن فحَوِّل له الآخر أيضا" يقول في موضع آخر: "ما جئتُ لأُلقي سلاما بل سيفا" (متى ١٠: ٣٤)، بل إنه أمر حوارييه وقال: "ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا" (لوقا ٢٢: ٣٦).إذا، فقد ثبت أن العالم المسيحي لم يعمل بهذا التعليم أبدًا.ولكن القرآن الكريم يعلن أنه يميز بين الحق والباطل بحيث يتضح للمرء كيف يتصرف، وينكشف عليه طريق الخير من طريق الشر.وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أيضًا أن من أهم مزايا القرآن الكريم أنه فرقان حيث قال شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ (البقرة: ١٨٦)..أي أن شهر رمضان هو ذلك الشهر المقدس المبارك الذي قد نزل القرآن الكريم بشأنه..الذي هو سبب لهداية الناس كافة، ويحتوي على دلائل ساطعة تساعد على الهدى، كما أنه فرقان أيضا..أي توجد فيه آيات تميز بين الحق والباطل.لا جرم أن كل نبي بعث من عند الله تعالى قد أُعطي الفرقان أيضًا..أي آيات معجزات تفرق بين الحق والباطل؛ ولكن نبينا محمدا لله ممتاز عن باقي الأنبياء، وذلك أن غيره من الأنبياء قد أعطوا الكتاب ومعه الفرقان، أما رسول الله ﷺ فإن الكتاب الذي نزل عليه كان في حد ذاته فرقانًا.فقد كانت التوراة تحتاج، لبيان صدقها، إلى معجزات أخرى لموسى ال، كما أن الوحي الذي نزل على العلي كان بحاجة إلى التصديق والدعم من معجزاته الأخرى؛ ولكن الكتاب الذي نزل على محمد و و و و و و بحد ذاته فرقان..أعني أنه كتاب كامل وحى ، ولو أن الناس نسوا معجزاته الأخرى فإن في القرآن الكريم من البراهين التي تثبت صدقه، وتميز الحق من الباطل.المسيح ثم يقول الله تعالى إنه ذو بركات لكونه قد أنزل كلامه على عبده..أي من خضع لله تعالى وانقاد له كلية، ولا يبرح في طاعة أوامره ليل نهار.لا شك أن مئات الناس يدعون إصلاح القوم، ولكن الواقع أنهم لا يعملون بما يقولون للآخرين.إنهم يُدعون زعماء وهداة ولكن أفعالهم تتنافى مع ما يدعون إليه،
۵۲۳ سورة الفرقان الجزء السادس فيسببون العثار للآخرين.فالناس يُعجبون بالتعليم الذي يدعون إليه، ولكنهم حين يرون إلى أعمالهم من نفاق وخيانة يكرهونهم؛ أو يقولون في أنفسهم: ما الحرج لو لجأنا إلى النفاق والخيانة مثلهم.أما النبي فيقدّم للناس نموذجًا عمليًا لما يدعوهم إليه.لا شك أن الحقائق تكون موجودة في الدنيا قبل بعثة النبي، ولكن الناس ولكن الناس لقلة إيمانهم يرمونها وراء ظهورهم ولا جرم أيضًا أن النبي يأمر الناس بأن يصدقوا القول، كما يقول لهم زعماؤهم الدنيويون وينهاهم النبي عن السرقة، وكذلك يمنعهم الزعماء الماديون أيضًا من السرقة.وينصحهم النبي: أن لا يظلموا وكذلك يقول لهم هؤلاء الزعماء أن لا يظلموا؛ ومع ذلك تظل الدنيا بحاجة إلى الأنبياء؛ ذلك لأن الأنبياء يؤكدون بأسوتهم أن هذه الحقائق والتعاليم صالحة للعمل بها.لا شك أن زعماء الدنيا أيضًا ينهون الناس عن الظلم، ولكنهم عندما يقومون بتعريف الظلم يسوغون لأنفسهم كل أنواع الظلم ولا غرو أن الناس يقولون بأفواههم: لا تكذبوا، ولكنهم لا يتورعون بأنفسهم عن قول الكذب عند الحاجة.لا شك أنهم ينهون الآخرين عن غصب أموال الناس، ولكنهم عند الحاجة يسلبون الناس أموالهم ويأكلونها.إذا تصبح تعريفات هذه المعاصي عند زعماء الدنيا محدودة جدًا.أما فلا يأتي الناس بالتعريف الكامل لهذه الأعمال فحسب، بل يُريهم أيضا من خلال أسوته كيف يتم العمل بهذه التعاليم لا شك أن الناس قبل مجيء الأنبياء أيضا يقولون إن على المرء أن يصدق القول، ومع ذلك هم يكذبون، وإذا قيل لهم: لم تكذبون؟ قالوا: لا تسير الأمور على ما يرام بقول الحق.ورغم أن الناس يقرون بأن الغش والخداع أمر سيء، ومع ذلك يغشون ويخدعون، وإذا قيل لهم لم تغشون، يقولون إن العيش محال في الدنيا بدون الغش؛ لأن كل شخص في الدنيا ذئب، ولا بد له من أكل لحم الخروف ليعيش؟ وهذا التصرف منهم قد جعل أجيالهم تظنّ أن الأعمال الحسنة إنما هي للكلام فقط، إذ العمل بها مستحيل.ولكن النبي يكون أسوةً للدنيا، ويريهم كيف يمكن العمل بهذه الحقائق التي يتصورونها غير قابلة للعمل.فالذين يكذبون ظانين أن قول الصدق أمر مستحيل، والذين يظلمون ظنَّا أن العمل بالرحمة محال، فإنهم حين يرون أسوة الأنبياء يدركون النبي الناس منهم
الجزء السادس ٥٢٤ سورة الفرقان خطأهم، وعندما يرون أن النبي أيضًا بشر مثلنا ومع ذلك يصدق في كلامه، ولا يظلم أحدًا، ولا يبخس أحدًا حقه، ويتجنب كل نوع من المعاصي، فإن هممهم تسمو وتعلو فيستعدون للقيام بالأعمال الصالحة.إذا، فهناك غرضان من بعثة الأنبياء: أولهما أنهم يكملون التعليم الروحاني من الناحية العلمية، وثانيهما أنهم يقومون بالشرح الصحيح للعلم الروحاني من خلال عملهم وأسوتهم.لا شك أن الناس قبل بعثة النبي أيضًا يدركون ضرورة قول الصدق، ولكنهم يعرفون الصدق تعريفا ناقصا جدًّا.ولا جرم أنهم يقولون أن على المرء أن لا يظلم أحدا، ولكنهم يعرفون الظلم تعريفا خاطئًا.كما أن عملهم يكون أشد نقصا من تعريفهم أيضًا، حيث لا يعملون بما يسمونه صدقًا، ولا يتجنبون ما يسمونه ظلمًا.ولكن حين يأتي النبي يقدّم أمام الناس تعريفا جامعا كاملاً لكل حسنة وكل سيئة، ثم يُريهم بعمله كيف يمكن العمل بهذه الأحكام، وهكذا بتقديم أسوته يرفع همم الناس.فالله تعالى يلفت أنظارنا إلى هذه الحقيقة ويقول: مبارك الله الذي أنزل وحيه الذي يبين الأمور بكل دقة، ويميز بين الحق والباطل.ومبارك الله الذي لم من يفوّض هذا الوحي المبارك إلى شخص سيء العمل، ينفر الناس عن الدين بدلاً.أن يرغبهم فيه، بل قد أنزله على شخص قد أورد الموت على نفسه وعلى حياته المادية، وتخلق بأخلاق الله كلية، وجذب الناس إلى الخير بأسوته الحسنة.ثم لو وضعنا في الاعتبار الرواية التي تقول إن النبي ﷺ قد سمح لعبد الله بن الزبير أن يقرأ قول الله تعالى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْده بقراءة أخرى وهي "نَزَّلَ الفرقان على عباده...فستعني هذه الآية: تبارك الذي نزل الفرقان لعباده أجمعين على اختلاف طبائعهم وميولهم ورغباتهم.والحق أن هذا الأمر يشكل برهانا ساطعا على صدق الإسلام وعلى كونه دينًا عالميًا.فإن التدبر في تعاليم الإسلام يكشف لنا أنه قد راعى في أحكامه الطبائع الإنسانية بجميع أنواعها لكي لا يشق العمل بها على النفس البشرية.فقد أمر بالاعتدال في الأكل والشرب، بل في كل شيء.فقال إذا صليتم فصلوا بالاعتدال، وإذا صمتم فصوموا بالاعتدال، وإذا أنفقتم فأنفقوا
الجزء السادس ٥٢٥ سورة الفرقان بالاعتدال ورد في الحديث أن النبي ﷺدخل بيته مرة، فوجد في السقف حبلا كانت أم المؤمنين زينب – رضي الله عنها - قد علقته، فسأل: ما هذا الحبل؟ فقيل له إن زينب تمسك بالحبل إذا تعبت في الصلاة.فقال النبي : انزلوا هذا الحبل، هذه ليست بصلاة، إنما على المرء أن يصلي وهو نشيط، فإذا تعب في الصلاة استراح.(البخاري: كتاب التهجد، باب ما يكره في التشديد في العبادة) كذلك ورد في الحديث أن عبد الله بن عمرو قرر مرة أن يصوم كل يوم، فنهاه النبي الله عن ذلك وقال : هذا غير مناسب.إذا كنت تحب الصوم كثيرًا فصم يوما وأفطر يوما.(البخاري: كتاب الصوم، باب صوم الدهر) وكما قلت إننا مأمورون بالاعتدال في الأحكام الأخرى أيضًا.فمثلا إذا أمرنا الإسلام بالإنفاق فإنه قد نصحنا أيضًا وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلِّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ (الإسراء: ٣٠)..أي لا تبخل عند الإنفاق، ولا تبذر أيضًا بحيث تضيع كل ما تملك، فيلومك الناس، كما تحرم من كسب المال في المستقبل.فالإسلام لم يأمر بما يشق على الفطرة الإنسانية، بل إن أوامره صالحة للعمل سواء للمريض والضعيف، والصحيح والقوي، والنساء والرجال، والشيوخ والصغار، والأثرياء والفقراء جميعًا.لم تبق نفس محرومةً من فيوضه ولم تبق أمة ولا بلد خارج نطاق هديه بل كما أن الشمس التي خلقها الله تعالى تشرق على قصور ملك وعلى كوخ فقير، كذلك فإن الهدي الإسلامي الروحاني ينفع الفقير والغني على حد سواء، ويمتع الجميع بقرب الله تعالى، ويحمل رسالة أمن وسلام ورقي وراحة لكافة الناس؛ الصغير منهم والكبير، والغني والفقير، والذكر والأنثى، والشرقي والغربي والضعيف والقوي والحاكم والرعية والسيد والخادم، والزوج والزوجة، والآباء والأبناء، والبائع والمشتري، والجار والمسافر وما إلى ذلك.إن الإسلام لا يحرم أي فئة من الجنس البشري من توجيهه ورسالته، بل هو هدى للأولين والآخرين وكما أن الله عالم الغيب يرى الذرات المخفية تحت الصخور والنجوم المتلألئة في كبد السماء، كذلك فإن تعليم الإسلام لا يستثني أحدا، بل
الجزء السادس حلقة ٥٢٦ سورة الفرقان يسد حاجات الجميع حتى أشد الناس فقرًا أو ضعفًا في العالم، كما يهتم بتلبية حاجات أغنى أو أقوى الناس في الدنيا.إنه ليس تقليدًا للأديان السابقة، بل إنه آخر من سلسلة الديانات وشمس النظام الروحاني.لا شك أن جميع الأديان في العالم تشترك في اسم الدين ولكن اشتراكها مع الإسلام في الاسم يماثل اشتراك الفحم والألماس في اسم الكاربون، وشتان بين الألماس والحجر.أو يماثل هذا الاشتراك في الاسم كإطلاقنا اسم الحجر على أي حجر صلب عادي وأيضا على الرخام ولكن شتان بين الحجر الصلب والرخام.ثم يقول الله تعالى لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).لم يرد هنا فاعلُ فعل لِيَكُونَ ظاهرا، لذا فيمكن إرجاع ضمير الغائب في ليَكُونَ إلى كل مرجع ممكن.ويمكن إرجاع الضمير هنا إلى ثلاثة مراجع: الله والقرآن الكريم والرسول ﷺ حيث الله تعالى قبل ذلك في قوله تَبَارَكَ الَّذي ، كما ذكر القرآن الكريم أيضًا من قبل حيث جاء نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ، وذكر الرسول أيضا من قبل حيث قيل عَلَى عَبْده.وعليه فالمعنى أنه قد نزل هذا الفرقان ليكون الله تعالى نذيرا للعالمين، أو ليكون القرآن الكريم نذيرًا للدنيا كلها، أو ليكون الرسول ﷺ نذيرا للعالم كله.وبما أن أيا من هذه المعاني ليس متعذراً هنا، فيمكن الأخذ بها كلها.واعلم أن من مزايا القرآن الكريم أنه يستخدم الضمائر أحيانًا بأسلوب خاص لأداء معاني واسعة بكلمات وجيزة.فمثلاً لو قال الله تعالى هنا "ليكون الله للعالمين نذيرا" لم يتم التعبير عن ثلثي المعاني، وبالمثل لو قال ليكون الفرقان للعالمين نذيرا" أو قال ليكون الرسول للعالمين نذيراً لضاعت ثلثا المفاهيم.أما لو قال الله تعالى " ليكون الله والفرقان ورسوله للعالمين نذيرا لطال الكلام، ولو اتبع القرآن الكريم هذا الأسلوب في كل مكان لزاد حجمه أضعافا كثيرة.ومن أجل ذلك استعمل تعالى في القرآن الكريم الضمائر والمصادر بأسلوب معين، فبين المعاني الواسعة، كما حافظ على سمة الإيجاز أيضًا.وأفصل الآن هذه المعاني بالنظر إلى هذه المراجع الثلاثة للضمير هنا.إن المعنى الأول لقوله تعالى اليَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيرًا) هو أن الله تعالى لما كان إلها للعالم كله الله
الجزء السادس ۵۲۷ سورة الفرقان فكان لزاما أن تشمل مشيئته العالم كله فيهيئ الهدى والرشد للناس أجمعين.قبل النبي ﷺ كان كل نبي يُبعث إلى قطره الخاص.ولما كان تعليم كل نبي موجها إلى قومه، فلا شك أن قوم كل نبي حظوا بقرب الله تعالى بالعمل بتعليم نبيهم، ولكنهم ظنوا بمرور الأيام أن الله تعالى إلههم فقط، وليس إها للأمم الأخرى.بيد أن القرآن - الكريم قد سعى إلى تبرئة ساحة التوراة – مثلا – من هذا التهمة، فعند الحديث عن حادث موسى وفرعون أخبر أن الله تعالى أمر موسى وهارون وقال فَأْتِيَا فَرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ).فقال فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) الذي تدّعون أنه بعثكما لإصلاحنا؟ قال لهم موسى رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنتُم مُوقنينَ) (الشعراء: ١٧ و ٢٤ و ٢٥.فالله تعالى يخبرنا هنا أن موسى العلم إنما وصف الله تعالى بأنه رَبُّ الْعَالَمينَ، وهذا يدل على أن موسى إنما علم الناس أن الله تعالى ليس رب بني إسرائيل وحدهم، بل هو رب العالمين كلهم.ولكن المؤسف أنه برغم أن القرآن الكريم قد أكد هذا الأمر إلا أن اليهود والنصارى لم يعتبروا الله تعالى رب العالمين، بل جعلوه ربًا لأمم معينة فقط.فتجد أن كلمة "رب بني إسرائيل" قد وردت في التوراة مراراً وتكرارًا، مما يدل على أن اليهود ظنوا أن الإله الذي تقدمه التوراة إنما هو إله بني إسرائيل، دون الأمم الأخرى.فقد ورد: "مبارك الربُّ إلهُ إسرائيل الذي أرسلك هذا اليوم لاستقبالي." (صموئيل الأول٢٥: (۳۲ وأيضًا ورد: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي أعطاني اليوم من يجلس على كرسيي وعيناي تبصران." (الملوك الأول ١: ٤٨) كما ورد أيضًا "مبارك" الربُّ إلهُ إسرائيل من الأزل وإلى الأبد" (أخبار الأيام الأول ١٦: ٣٦) ثم ورد: "مبارك الرب إله إسرائيل الذي كلّم بفمه داود أبي." (أخبار الأيام الثاني (2:7 وجاء: "مبارك الربُّ الله إله إسرائيل." (المزامير ۷۲: ۱۸)
۵۲۸ سورة الفرقان الجزء السادس فالتوراة لا تقدّم إلا إله بني إسرائيل.ولكن قراءة القرآن الكريم تكشف لك أن الله تعالى يصف نفسه في كل مكان فيه بأنه رب العالمين، ورب الإنس والجن كلهم، ورب الخلق كلهم، سواء المسلم أو الهندوسي أو المسيحي أو اليهودي أو غيرهم.ولو قرأ أحد اليهود هذا التعليم القرآني سيشعر في قلبه أن منزل هذا الكلام هو إلهه كما هو إله للمسلمين.وإذا قرأ أحد المسيحيين هذا الكتاب سيشعر في قلبه أن منزل القرآن الكريم هو إلهه تماماً كما هو إله للمسلمين.وإذا قرأ أحد الهندوس هذا الكلام سيشعر في قلبه أن منزل هذه الوحى إلهه كما هو إله للمسلمين.ولكنك لن تجد هذا الأمر الذي ركز عليه القرآن الكريم مذكورًا في أي كتاب آخر.كذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم كُلًّا تُمَدُّ هَؤُلاء وَهَؤلاء) (الإسراء: (۲۱)..أي أن من الخطأ الظنَّ أن الله تعالى يمد المسلمين فقط.كلا، بل إنه تعالى يُعين هؤلاء القوم وأولئك القوم أيضًا..بمعنى أنه تعالى يعين الأمم والشعوب كلها، فرحمته ليست مخصوصة بقوم دون قوم، بل كل من يعمل بالقوانين التي سنها تعالى سيحرز الرقي والتقدم، سواء أكان مؤمنًا أو كافرًا.وهذا ما تراه على صعيد الواقع أيضًا، حيث تجد أن فضل الله تعالى المتمثل في المنافع الدنيوية والتقدم المادي يصل إلى المسيحيين كما يصل إلى الهندوس والبوذيين والزرادشتيين واليهود والمسلمين أيضًا.بيد أن الفيوض الروحانية إنما تصيب قومًا يكونون على صلة روحانية حقيقية مع الله تعالى.أما فيما يتعلق بأمور الدنيا فكل من اجتهد نال جزاء اجتهاده، سواء أكان مؤمنًا أو كافرًا، ولا يُشترط لذلك الدين أو الإيمان.كذلك إن مطالعة كتاب الفيدا الهندوسي تكشف لك أن منزله إلة للهندوس فقط، ولا صلة له بالشعوب الأخرى.بل الواقع أن الذين يؤمنون بكتاب الفيدا جعلوه كتابًا خاصا بالطبقات العليا من الهندوس، حتى كتب "منو جي" الذي هو الشارح الثقة للتاريخ الهندوسي باعتراف جميع الهندوس سواء "الآريا" منهم أو "سناتن دھرم" :
الجزء السادس ۵۲۹ سورة الفرقان "لو أن الشورد سمع الفيدا فعلى الراجا (أي الملك) أن يضع في أذنه الرصاص والشمع ويسدّها.ولو قام بترديد فقرات من الفيدا فعلى الراجا أن يقطع لسانه، أما إذا قرأ الفيدا فعلاً فعليه أن يقطع جسمه إربا." (غوتم سمرتي: أدهياء ١٢) أما الأحكام التي أصدرها الفيدا بخصوص الأمم الأخرى فهي غاية في الخطورة.فمثلاً سُمّي معارضو الديانة الفيدية في كتاب الهندوس كلابا، حيث ورد ضدهم هذا الدعاء: "يا أيتها الإلهة إلهة النار ، اذهبي وصفّدي هؤلاء الكلاب." (رغفَيدا) أما كتابهم "أثر فيدا" فيعلم الهندوس أن يصفّدوا معارضي ديانة الفيدا بالقيود ثم يسلبوا بيوتهم، حيث ورد: "يا أتباع الديانة الفيدية، افترسوا المعارضين افتراس النمور ، ثم اسلبوهم حتى طعامهم" أثر فيدا كاند ٤ سوكت ٢٢ فقرة ٧) (The Atharva Veda, Vol.1 Book 4 P.216) كذلك وردت في الفيدا أدعية ابتهلوا بها أمام الشمس والنار والماء وإلههم "إندر" الكلأ والحشيش لهلاك الذين لا يؤمنون بالديانة الفيدية، حيث جاء فيه: وحتى "أيتها النار، احرقي معارضينا واجعليهم رمادًا".(يجرفيدا : أدهياء ۱۸ فقرة (۱۱-۱۳) (192.The Yajur Veda, Chapter 13 P) وورد أيضا : "يا "إندر، افترس ومَزَّق أعداءنا، وشَتّت شمل الذين يكرهوننا".(سامفيدا الجزء الثاني كانڈ ۹ سوکت ۲ فقرة ٩) (Sama Veda Sanhita, Chapter 21 P.839), وأيضًا جاء: "أيها المعارضون فلتكونوا بدون رؤوس، وعميا كالأفاعي المقطوعة الرؤوس، وليدمر الإله "إندر" "كبراء كم." (سامفيدا الجزء الثاني كاند ۹ سوكت ٣ فقرة ٩، والمرجع السابق ص ٨٥١) وأيضًا ورد: "يا أيها "الداب" الكاةُ احرق أعداءنا ودمرهم.وكما أنك تشق سطح الأرض عندما تخرج وتنبت، كذلك نرجوك أن تشق رؤوس أعدائنا وتصعد عاليًا وتدمرهم تدميرًا".أثر فيدا كاند ١٩ سوكت ٢٨ فقرة (٤) (The Atharva Veda, Vol.2 Book 19 P.285-286), كما تنهى الديانة الهندوسية حتى عن الكلام مع أحد ممن لا يؤمن بالديانة الفيدية الهندوسية.(غوتم دهرم سوتر، أدهياء ٥)
الجزء السادس ٥٣٠ سورة الفرقان وكذلك قيل لهم: "إذا اعترض أحد على ديانتكم فانفوه من الأرض".(هندو دهرم شاستر) ومن المستحيل بعد قراءة هذا التعليم أن تتولد في قلب الإنسان مشاعر المحبة تجاه الديانة الفيدية الهندوسية، ولن يراها كفيلة بنجاته.أي ونفس الحال بالنسبة للديانتين الكونفوشيوسية والزرادشتية، إذ لم تتوجه منهما بتعاليمها إلى الناس أجمعين، كما لم تَسْعَ بتبليغ دعوتها إلى الشعوب كلها، بل قالت الكونفوشيوسية إن بلاد الصين وحدها مَظْهَرٌ لملكوت الله تعالى، مثلما أعلنت الهندوسية أن الهند هي بلاد الخواص من عباد الله، بينما قالت الزرادشتية إن بلاد فارس هي وحدها مظهر لملكوت السماء.باختصار، كانت كل ديانة تعتبر الله تعالى إلها لشعبها الخاص دون الشعوب الأخرى، وكأنها كانت تنكر كونه تعالى ربا للعالمين كلها التي تتمتع بفيوض ربوبيته تعالى؛ فكان لزاما أن يُعرض وجود البارئ تعالى على العالم بكامل حسنه الحقيقي وبأنه رب العالمين، وبأنه ليس إلها لشعب معين أو بلد خاص، بل هو إله العالمين كلهم.وهذا هو المعنى الذي أكده الله تعالى هنا بقوله ليَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيرًا))، فبين أنني أنا ذلك الإله الذي هو إله للهندوس والمسيحيين والآريين الهندوس والفرس واليونان والدهريين كلهم أجمعين.إنني إله أهل كل بلد وإله أهل كل لغة.إنني إله البيض وإله السود، وإله جميع الشعوب، وكلهم عبادي، وقد أنزلت هذا الكتاب لإنذار الجميع وإيقاظهم.كم هو رائع هذا التعليم الذي يقدّمه القرآن الكريم وكم هو متلائم مع الفطرة الإنسانية! إن قراءة هذا التعليم تولّد في قلب الإنسان مشاعر عميقة لحب الله تعالى بينما تولّد التعاليم السابقة في قلب المرء النفور والكراهية.ولكن الله تعالى لو أنزل هذا التعليم العالمي الصالح لشعوب العالم كله، في وقت لم تكن الدنيا فيه قد اجتمعت بعد، بل كان أهل قطر يعيشون منفصلين عن أهل قطر ،آخر لظل كثير من أقطار الأرض محرومة من الانتفاع منه؛ ومن أجل ذلك قد أنزل الله تعالى شرائع مختلفة في عصور مختلفة، وكان كل شرع منها مكتمل بحسب متطلبات عصره، ولم تزل شتى الشعوب تنال به الهدى.ولكن لما
۵۳۱ الجزء السادس سورة الفرقان كثرت وسائل اللقاء والاختلاط بين الناس وانفتحت طرق الاتصال والمراسلة أنزل الله تعالى للعالم كله شرعًا كفيلاً بسد حاجات العالم كله.إن جميع المؤرخين مجمعون على تسمية عصر ما قبل النبي ﷺ عصر ما قبل التاريخ إذ يبدأ عصر التاريخ قبيل العصر النبوي.فكأن الله تعالى حين خلق الكثير من ذرائع الاختلاط والاتصال والمراسلة فقد أعلن للناس أنه قد أوشك الزمن الذي يتحقق فيه قوله تعالى اليَكُونَ للْعَالَمينَ نَذِيرًا، حين يجتمع العالم كله على مركز واحد حتما.سمي كل عصر مجمل القول إن الله تعالى قد أكد بذلك أنه صاحب بركات كثيرة، والدليل على ذلك أنه قد أنزل الآن كتابًا سيهدي العالم كله، ويميز بين الحق والباطل.ومن الواضح أن الوحي القادر على هداية الناس في كل العصور، يشكل في حد ذاته دليلاً ساطعًا على عظمة من أنزله.فبما أنه كان من المقدر أن يهدي القرآن فقد الكريم أهل كل عصر، عالما، حيث بين الله تعالى أن هذا الكتاب وسيلة قطعية لهداية كافة الأجيال إلى يوم القيامة.لا شك أن الصحف السابقة كانت هداية للناس في عصورها ولكنها لم تأت بشرع عالمي، أعني أن تعاليمها لم تكن لكل الشعوب ولكل العصور، ولكن عند نزول القرآن الكريم كانت الدنيا قد بلغت من الارتقاء والتطور بحيث اقتضت بعثة نذير واحد للعالم كله.فأنزل الله صاحب البركة كتابًا مدعمًا بالأدلة والبراهين على عبده المطيع صاحب الأسوة السامية، لكي ينذر الناس كلهم، الأبيض والأسود والشرقي والغربي، وأن يستمر في هذا الإنذار دومًا.هذه الدعوى نفسها قد ذكرها الله تعالى أيضا في قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (سبأ:٢٩)..أي يا أيها النبي، إنا أرسلناك إلى العالم كله كبشير ونذير، ولكن أكثر الناس لا يفهمون هذا.ذلك لأن كل نبي من قبل كان يُبعث إلى قومه فقط، وكان تعليمه خاصا بقومه فقط.فمثلاً إذا كان" "كرشنا" و "راما" و"بوذا" يحكمون المملكة الروحانية في الهند، فكان زرادشت" يحكم مملكة روحانية أخرى في إيران، بينما كان "كونفوشيوس" يحكم
الجزء السادس ۵۳۲ ، سورة الفرقان الصين، وكانت هناك أمة لموسى وأمة لعيسى؛ ولكن الله تعالى حين أنــزل القرآن الكريم أعلن أنه لن يكون الآن في العالم إلا حكومة دين واحد، وستجتمع الدنيا كلها تحت راية واحدة ماديًا وروحانيا.وكأن الله تعالى قد نبه بقوله ليَكُونَ للْعَالَمينَ نَذيرا إلى أن الغاية الحقيقية لظهور الإسلام هي إخبار الناس جميعا، سواء كانوا هندوسا أو مسيحيين أو يهودًا أو زرادشتيين أو محوسًا أو أهل أي دين ،آخر أن الإله الذي هو خالق هذا الكون يريد أن يجمع العالم كله على كتاب واحد ورسول واحد.وهكذا فإن الله تعالى قد نصح المسلمين بذلك أن يشنوا هجوم الدعوة والتبليغ على كافة الأديان، وفي وقت واحد، إذ لن يثبت للناس أن الإسلام ذو بركات إلا إذا أثبت المسلمون عمليًا أن دينهم بالفعل ذو بركات ،وفيوض وكشفوا محاسنه وكمالاته للعالم كله.فإن الله تعالى لا ينزل من السماء لإنجاز مهمات دينه بل إن عباده هم الذين يباشرون هذه الأعمال.إذًا، فلن يثبت صدق قول الله تعالى ليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ما لم تصل رسالة الإسلام إلى الناس كلهم، وما لم يدخل الذين قد ابتعدوا عن الله تعالى بعدا عظيما في زمرة عباده المطيعين.ألا ترى أن صحابة الرسول ﷺ لما أعلنوا للعالم أن القرآن الكريم قد نزل للدنيا كلها، وأن الرسول ﷺ مبعوث إلى الأمم كلها، فإنهم قد أكدوا بعملهم صدق هذا الإعلان فنشروا الإسلام في جميع أنحاء العالم.فإذا لم تصل دعوة الإسلام الآن إلى كل قوم وإلى كل فئة وإلى أهل كل لغة وإلى أهل كل قطر فسوف تعدّ جماعتنا مسؤولة عن هذا التقصير، لأن الله تعالى إنما أقامنا لنجعل الإسلام غالبًا على العالم كله، ونوصل اسم الله تعالى إلى كل بقاع الأرض.إذًا، فقوله تعالى ليَكُونَ للْعَالَمينَ نَذِيرًا إذ يعلن فضل القرآن الكريم على الكتب الأخرى، فإنه يلفت نظر المسلمين إلى أهمية قيامهم بتبليغ الإسلام أيضا، لأن كل نجاحهم منوط بهذا الأمر.لقد ذكرتُ من قبل أن المرجع الثاني لضمير الغائب في قوله تعالى ليَكُونَ للْعَالَمينَ نَذِيرًا هو القرآن الكريم.وهذا يعني أنه ليس بوسعنا أن نكون نذيرا للعالمين، بل إن القرآن الكريم هو الذي يمكن أن يكون نذيرا، وبتعبير آخر: إننا لا
الجزء السادس ٥٣٣ سورة الفرقان نستطيع أن نهدي الناس، بل القرآن الكريم هو الذي سيهديهم، إذ لو كان بوسعنا أو بوسع غيرنا أن يهدي الناس لقال الله تعالى "ليكونوا للعالمين نذيراً"، عوضاً عن أن يقول اليَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيرًا.إذا، فليس هناك شيء يمكن أن ينذر الدنيا ويهديها إلا القرآن الكريم.وإذا كان الأمر هكذا فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل كل واحد منا قد قرأ القرآن الكريم حقا؟ وهل يسعى حق السعي لفهمه ونشره في الدنيا؟ وإذا كان الجواب بالنفي فهذا يعني أننا لسنا من جنود الإسلام، إذ لم نحمل بأيدينا السلاح الذي يمكن به فتح العالم.إذا، فإن الله تعالى حين وصف القرآن نذيراً فقد أمرنا وقال: اقرأوا القرآن الكريم كثيرًا، واسعوا لاستيعاب معانيه ولنشر رسالته حتى يجري القرآن الكريم على ألسنتكم إذا تكلمتم وعلى أقلامكم إذا كتبتم وتصبح أفكاركم وأحاسيسكم ورغباتكم وميولكم كلها خاضعة للقرآن الكريم.فما لم يتكلم القرآن بلسانكم، وما لم ينبثق القرآن من أقلامكم لن تهتدي الدنيا على أيديكم.والمرجع الثالث للضمير المذكور في قوله تعالى ليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا هو الرسول ، وعليه فالمعنى: تبارك الذي قد اختار لنزول الفرقان إنسانًا هو طاهر في ظاهره وباطنه وهو أسوة حسنة للعالم كله..ليكون للدنيا كلها نذيراً.وبما أن "محمدا" الرسول ﷺ ما كان ليحيا للأبد حياة مادية، فقد نبه الله تعالى المسلمين بوصفه للعالَمينَ نَذِيرًا أنهم لن ينجحوا في إنذار الدنيا ما لم يصبح كل واحد منهم صغيرا، وما لم يتبوء مكانة روحانية راقية بحيث إذا رآه أحد وجد فيه صورة مصغرة لمحمد الله واعلم أن الإنسان يعرف برؤية الصورة ما في صاحب الصورة من محاسن وعيوب، وما إذا كانت عيونه واسعة جميلة أم ضيقة، وهل هو جميل الطلعة أم ،دميمها وهل أعضاؤه متناسقة أم لا، وهل هو كبير الرأس أم صغيره؟ وإذا نظر شخص إلى صورة إنسان صغير الرأس وقال إنه صغير الرأس فلا يجوز لك أن تقول له : إنك مخطئ لأنها صورة وليست أصلا.ولو قلت له هذا الكلام فسيعتبرك الجميع مجنونا؛ ذلك لأن الصورة إنما هي انعكاس للإنسان
الجزء السادس ٥٣٤ سورة الفرقان الحقيقي.للرسول ﷺ ستتيحون للدنيا فرصة الاعتراض عليه ، أما إذا صغتم حياتكم على منوال حياة الرسول ﷺ صار كل واحد منكم للعالمين نذيرا، وعندها لن يفكر الناس فيما إذا كنتم مثقفين أم أميين، وهل كنتم أهل كفاءة وجدارة أم لا، بل لذا فكأن الله تعالى يقول للمسلمين: إذا لم تصبحوا صورة صحيحة سيرون في شخصكم أسوة المصطفى ، فتصبحون غالبين على الدنيا حتمًا.مجمل القول إن الله تعالى قد بين في قوله اليَكُونَ للْعَالَمِينَ نَذِيرًا ثلاثة أمور لا يمكن أن ننجح بدونها أبدًا وهي: أولها: يريد الله تعالى منا أن يكون إنذارنا موجهًا إلى كل قوم وشعب، فنخاطب المسيحيين واليهود والهندوس والسيخ والبوذيين والزرادشتيين كلهم، ونعود إلى الله بعباده الذين قد نسوا طريقه ثانية.ذلك لأن الأُمّ لو فقدت ثلاثة من أولادها، فذهبت وأتيتها باثنين منهم، فلن تفرح فرحة كاملة، بل ستقول لك: إني أحب ولدي الثالث أيضًا مثلهما فأرجوك أن تذهب وتحاول البحث عنه أيضا.كذلك لو كان عدد سكان العالم مليارين وأتيت بجميعهم إلى طريق الهدى إلا واحدا منهم، فيقول الله لك : إنه أيضًا عبدي ولم لا تحاول أن تأتي به إلي؟ وثانيها: يجب أن يكون القرآن الكريم مسيطرا على قلوبكم ومستوليا على عقولكم، لأن الفتح مقدر للقرآن الكريم، ولو ربطتم أنفسكم بالقرآن الكريم لكان الفتح حليفكم حتمًا.وثالثها: إنكم لن تنجحوا في العالم ما لم تسعوا للتأسي بأسوة محمد رسول الله و اتباع خطواته، وما لم يحاول كل واحد منكم أن يكون محمدا صغيرًا بقدر كفاءاته ومواهبه.ثم يقول الله تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكَ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا..أي أن الذي أنزل هذا الكتاب العظيم لنجاة الناس وفلاحهم في الآخرة هو ذلك الإله العظيم الذي في يده ملك السماوات والأرض، والذي لم يتخذ له ولدًا، وليس له شريك في ملكوته.
الجزء السادس ٥٣٥ سورة الفرقان هو الذي خلق كل شيء، وجعل له قدرًا معينًا ينكشف به دوما أن الله تعالى ذو بركات كثيرة ومنزه عن كل نقص وعيب.وبما أن الإسلام دين كان عليه أن يخاطب أهل كل ديانة وكل شعب طبقًا لقوله تعالى ليَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، فقد نبه الله تعالى بقوله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أن على علماء المسلمين أن يتعلموا كل لغات العالم.ولكن المؤسف أن المسلمين لا يهتمون بتعلم اللغات عدا ما يتعلمه الطلاب في الكليات، وهؤلاء الطلاب أيضًا لا يتعلمون إلا الإنجليزية وهي ليست لغة كل العالم.كان ينبغي على علماء الإسلام أن يتقنوا الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والبرتغالية والأسبانية واللاتينية والهولندية والفيتنامية واليابانية والفيليبينية وغيرها من لغات العالم، لكي يتمكنوا من نشر رسالة القرآن في الدنيا كلها.فعلى دعاتنا أن يولوا هذا الأمر اهتماماً خاصاً.إن بعض دعاتنا يعملون في أفريقيا الغربية طيلة عشرة أعوام ومع ذلك لا يتقنون لغة تلك البلاد كما ينبغي؛ مع أن إتقان اللغات ضروري جدا لنشر رسالة القرآن الكريم.إن الداعية الذي لا يهتم بهذا الأمر لا يستحق أن يسمى داعية، بل إنه جندي غدار بين صفوف جنود الإسلام.كان العرب يتقنون لغات العالم كلها في عصر رقي الإسلام.ثم لما كان من المحتم أن تشتد المعارضة نتيجة قيام الإسلام بجهاد التبليغ ضد الأديان الأخرى، فأعلن الله تعالى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، ليحذر معارضي الإسلام بأن لا يتباهوا بقوتهم.لا شك أن عندهم جموعًا كبيرة، وأن وراءهم دولاً قوية وحكومات كبيرة، ولكن عليهم أن يعلموا أن مُلك السماوات والأرض هو في قبضة الله في الحقيقة وليس حكمهم إلا أمانة مودعة في أيديهم من قبل هذا المالك؛ فإذا خانوا هذه الأمانة ورفضوا رسالته تعالى، فليعلموا أن مالك السماوات والأرض لن يسكت على رفضهم، بل ستثور غيرته وسيعاقبهم لا محالة.كما أن قوله الله تعالى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض بشارة ربانية للذين يؤمنون بمحمد والقرآن الكريم بأن لا يتضايقوا من اضطهاد الكافرين.إنهم يُخرجونهم من أوطانهم، ويسلبونهم أموالهم، ويستولون على عقاراتهم، ولكن على
الجزء السادس ٥٣٦ سورة الفرقان المؤمنين أن يدركوا أن تضحياتهم لن تذهب سدى، بل إن رب السماوات والأرض سيجعلهم وارثين للحكم والملك، ليبرهن للعالم على أنه هو صاحب مُلك السماوات والأرض في الواقع، حيث جعل الذين خافوا من إنذاره العالمي ملوكًا على العالم، وجعل الملوك الذين رفضوا إنذاره شحاذين يتسولون الناس.ثم إن الله تعالى قد أشار بقوله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلى أمر آخر، وذلك أن مُلك الله ورحمته ليست مختصة بشعب دون شعب أو قطر دون قطر، بل إنه تعالى يحكم كل ذرة من الكون، فكان لزاما عليه أن يهيئ الأسباب لجمع كل الشعوب وكل الأفراد على مركز واحد؛ لكي تجتمع الدنيا كلها على مركز روحاني واحد كما أن هناك ربًّا واحدا للسماوات والأرض.فلو لم ينزل القرآن الكريم و لم يخاطب الإنسانية جمعاء، لما قام ملكوت روحاني عالمي أبدا.لا شك أن العصور القديمة التي كانت فيها وسائل الاتصال والمواصلات محدودة، وكان وصول الدعوة من بلد إلى آخر متعذرًا جدًّا، كان من الضروري في تلك العصور أن يُبعث هداة لشعوب معينة وأقطار محدودة، لكي لا يبقى أي قطر من أقطار العالم محروما الهدى ولكن لما عمرت البلدان، وقلّت المسافات بين سكان مختلف الأقطار من والبقاع نتيجة كثرة العمران وارتقى الجنس البشري عقلاً وذكاء، وكثرت وسائل الاتصال والمواصلات وأخذت السيارات والقطارات مكان الثيران والحمير، ثم أخذت الطائرات مكان السيارات والقطارات ثم تطورت الطائرات أكثر حتى استطاع الإنسان أن يدور حول الأرض في الطائرة في اثنتي عشرة ساعة، بل تؤكد المعلومات الحديثة أنه قد تم الآن اختراع طائرة سرعتها خمسة عشرة ميلا في الثانية..أي تسعمئة ميل في الدقيقة، و ٥٤ ألف ميل في الساعة، وستمئة ألف وثمانية وأربعين ألف ميل في اثنتي عشرة ساعة؛ وهذا يعني أن تلك الطائرة يمكن أن تدور حول الأرض مرارا في ساعة واحدة.وفي هذه الظروف التي قد انكمشت فيها رقعة الأرض وتقلصت هيأ الله الأسباب لقيام دولة روحانية عالمية بواسطة مع محمد رسول الله ﷺ.ولولا نزول القرآن لم ينكشف على العالم ملكوت الله كل عظمته وجلاله واعلم أن عظمة النهر إنما تنكشف حين تنصب فيه القنوات
الجزء السادس ۵۳۷ سورة الفرقان والجداول فيصبح كالبحر الزاخر.لقد كان موسى وعيسى وزرادشت وكرشنا وغيرهم من أنبياء الله تعالى - عليهم السلام - كالقنوات والجدوال الصغيرة، فكانت بعض هذه القنوات تروي بني إسرائيل، وبعضها تشفي غليل الفرس، وبعضها تزيل ظماً أهل الهند وبضعها تسقي أهل الصين؛ ولكن كان لزاما أن تنصب كل هذه القنوات والجدوال الصغيرة في نهر عظيم، ليرى الناس مملكة روحانية عالمية موحدة ويؤتى بهم إلى عتبة رب العالمين كما أن ملك السماوات والأرض أيضًا بيد الله رب العالمين.فالواقع أن قوله تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جاء دليلا على قوله تعالى ليَكُونَ لِلْعَالَمينَ نَذِيرًا، حيث بين الله تعالى أنه لم ينزل القرآن الكريم بدون سبب، بل كان نزوله جزءا هاما الخطة الإلهية لا يمكن إغفاله أبدًا.كان الله تعالى يريد أن ينسخ الشرائع السابقة كلها لينزل مكانها شريعة قادرة على جمع الإنسانية كلها على مركز واحد؛ وكان هذا يستلزم أن يتم اختراع وسائل الاتصال والمواصلات التي تجعل الدنيا تنكمش وتتقلص.ولأجل ذلك تجد أن القرآن الكريم بعد أن ذكر الخيل والبغال والحمير قال وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (النحل: ٩)..أي أنه تعالى سيخلق في المستقبل مطايا ومراكب تفوق تصوراتكم أيضًا، وبالتالي سيجمع الإنسانية كلها على مركز واحد.من وكانت فكرة الدين العالمي وعقيدة إقامة ملكوت الإله الواحد على كل ذرة من السماوات والأرض لتدق ناقوس الخطر في الديانات التي تقول بوجود ابن الله تعالى أو تقول بكون الأنبياء شركاء معه تعالى، لذا فقد قام الله تعالى بتفنيد أفكار الأديان الباطلة فقال بعد ذلك وَلَمْ يَتَّخذ وَلَدًا..أي لا ريب أن ملك السماوات والأرض هو بيد الله وحده ولكن ليس صحيحًا أنه قد اتخذ ولدا يساعده في إدارة هذا الملك، بل الحق إنه تعالى لا يعطي أحدًا مقام الابن دعك أن يتخذ ابنًا بالفعل..أي أنه تعالى لا يرضى أن يجعل بينه وبين غيره من المشابهة حتى بقدر ما يكون بين الوالد وولده.
الجزء السادس نگ ٥٣٨ سورة الفرقان لا جرم أن المسيحيين يقدمون المسيح الله للعالم على أنه ابن الله تعالى، ولكن تاريخ حياة المسيح يكتنفه من الغموض والإبهام ما يصبح به معرفة صدق تعليم المسيحية من المستحيل عقلاً، اللهم إلا أن يوجد بين المسيحيين من عملوا بتعليمها حقا حتى يتمكن المرء برؤية هذه النماذج العملية من معرفة صدق هذا التعليم.ولكن هذه النماذج لا توجد للأسف في العالم المسيحي، ولن توجد في المستقبل أبدًا.فعلى سبيل المثال يقول المسيح العلم : "فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم." (متى ١٧: ٢٠) يحيي الموتى حقا كما يزعم فإذا كان المسيح العلمية الا المسيحيون (يوحنا ١١: ٤٣- ٤٤)..وإذا كان في قلوبهم إيمان بالمسيح مثل حبة خردل، فمن واجبهم أن يحيوا الموتى لإثبات بنوة المسيح.وإذا كان المسيح يمشي على الماء بدون قارب أو سفينة (متى ١٤: ٢٥)، فعلى المسيحيين أن يمشوا على البحار بدون سفن.ولكنهم لن يستطيعوا ذلك أبدًا، ما يدل دلالة واضحة على أن قلوبهم خالية من الإيمان بالمسيح.كما أنهم لا يستطيعون تقديم أي نموذج حي على صدق التعليم الإنجيلي.فثبت أن قولهم إن المسيح ابن الله ليس إلا ادعاء فارغا لا حقيقة له.غير أن هذا الاعتقاد مناف لعظمة الله وجلاله تعالى أيضا، إذ لا يمكن التسليم بضرورة ابن الله تعالى ما لم نسلّم بإمكانية تعرُّض الله تعالى للفناء، وحيث إن الله تعالى أسمى من الفناء فكيف تصح عقيدة بُنوّة المسيح الله تعالى؟ إنك ترى في العالم المادي أنه ليس هناك أي أبناء للشمس والقمر والجبال والأنهار وما شابه ذلك، لأن هذه الأشياء باقية بقاء حاجة الإنسان إليها، ولكن الإنسان فان، فكان بحاجة إلى زوجة ثم إن الإنسان يتمنى أن يكون له أولاد فتجد الناس يهنئونه إذا رزق مولودًا لإدراكهم أن الله تعالى قد كتب لاسمه الخلود من خلال ابنه.ولكن لا يمكن التسليم بهذا الأمر في الله تعالى، لأنه حي قيوم، فنسبة الابن إليه جهالة بل إساءة بالغة إليه تعالى.
الجزء السادس ۵۳۹ سورة الفرقان ثم يقول الله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك..أي أن من مزايا ملكوت الله تعالى أنه لا شريك له في مُلكه، ولكن الملك المادي ليس كذلك، حيث تحد الملوك الماديين عرضة لشتى المؤامرت، فزوجاتهم يتآمرن عليهم، وأبناؤهم يحاولون قتلهم ليجلسوا مكانهم على العرش، ويتواطأ وزراؤهم وأمراؤهم للإطاحة بعروشهم كلما سنحت لهم الفرصة.ولكن الله تعالى الذي أنزل الفرقان على محمد ﷺ قد بشر الناس بأن ربهم يملك كل ذرة في السماوات والأرض، وليس له ولد ولا شريك له في الملك، كي لا يضطر الناس للتملق لابن أو زوجة أو وزير أو أمير له.بل إن إلههم أحدٌ لا شريك له، وحبّهم له ليس مقسوما بينه وبين غيره.كما ليس هناك أحد شريك مع الله تعالى في ملك حتى يفكروا في إرضائه، بل إن الناس مأمورون بعبادة رب واحد أحد فقط.فيجب أن يظل جبين الإنسان ساجدًا على عتبة باب ربه وحده، وأن يلبي نداءه دومًا.ثم يقدّم الله تعالى قانونه الجاري في الكون كله كدليل على وحدانيته فقال وَخَلَقَ كُلِّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا..أي أنه تعالى جعل لكل شيء قدرا يتطور بحسبه.والحق أن الله تعالى لو لم يجعل لكل شيء قدرًا معينًا لم يحقق الإنسان رقيًا في أمور دنياه و لم يجد راحة في أمور دينه ذلك أن الفلاح الذي يأخذ الحبات من بيته ويبذرها في الأرض، إنما يفعل ذلك لأن الله تعالى قد جعل قانونًا بأن الحبة إذا ألقيت في الأرض أنبتت حبات كثيرة.ولكن لولا هذا القانون المحدد، بل إذا زرع الفلاح القمح، نبت القمح مرة، والعنب مرة أخرى، والحسك مرة ثالثة، فلا بد أن يترك الفلاح زرع أي شيء بعد مدة من الزمن معتبرًا فعله هذا عبثا ومضيعة لجهوده.كذلك فإن الصائغ يعرف أنه إذا وضع الذهب في النار فإنه سيذوب فيصوغ منه الحلي كيفما يشاء.ولكن لولا هذا القانون المعين والقاعدة المحددة، بل تحول الذهب فضةً كلما وُضع في النار، أو تحولت الفضة نحاسًا إذا وضعت في النار، لامتنع الصائغ عن هذا العمل حتمًا.كذلك لو أن الحداد إذا سخن الحديد ليصنع منه مغْفَراً، فلما ضربه بالمطرقة أخذ شكل سندان مرة وشكل معول مرة أخرى، أو أراد أن يصنع معولاً فتحول سيفًا، لعانى الحداد معاناة كبيرة.ولو أن
الجزء السادس ٥٤٠ سورة الفرقان الطبيب أعطى المريض دواء للحمى فسبّب له السعال، فمن ذا الذي كان سيذهب إلى الأطباء.فبسبب القانون المحدد والخبرة الطويلة يعرف الفلاح البسيط أيضا أن شراب البنفسجة يفيد في السعال، ولكن لولا هذه القاعدة، ولو شرب الإنسان شراب البنفسجة فسبب له السعال حينًا، والحمى حينًا، والإمساك حينًا، والإسهال حينًا، وفقدان شهية الطعام حينًا، والجوع الشديد حينًا، فمنذا الذي كان سيسقي المريض هذا المشروب بعد ذلك؟ إن الناس إنما يسقون المريض مشروب البنفسجة لأن الله تعالى قد جعل قاعدة محددة بأن هذا المشروب يفيد في نوع معين من السعال.وإن الفلاح إنما يحمل الغلال من بيته ويبذرها في الأرض لأنه موقن بأنه هذا سيخرج من القمح المزيد من القمح، ولو شك في هذا الأمر لقال: لماذا أضيع هذه الغلال؟ ولكنك تراه يلقي في الأرض أطنانا من القمح لعلمه أن الله تعالى قد جعل قدرًا ثابتًا بأن القمح ينبت من القمح، وأن حبة واحدة تتحول إلى مئة حبة، بل أكثر.كذلك إن المرء إذا أكل الطعام شبع، ولكنه لو شبع بلقمة حينًا، ولم بألف لقمة حينًا آخر، فلماذا يأكل؟ ولماذا يضيع المال على الطعام؟ وبالمثل إن النار تنضج الطعام، ولكن لو أن الرغيف بقي في التنور طوال النهار ولم ينضج، أو احترق بمجرد أن وضع في التنور، لما خبز أحد شيئا.أو لو نضج الطبيخ بالنار مرة، و لم ينضج مرة أخرى، لما صنع أحد أي طبيخ.وكل إنسان يعرف أن السكر يحلي المشروب والطعام، ولكنه لو جعل الطعام حلوا مرة، ومُرَّاً مرة أخرى، ومالحا مرة ثالثة، وحامضا رديء الطعم مرة رابعة، لما استعمل أحد السكر.باختصار، إن كل الكون جار بسبب واحد وهو قاعدة التقدير، فإن قد قدر قانونا محددًا بأن الحلو سيعطى طعم الحلاوة، وأن الحامض سيعطي طعم الحموضة، وأن النار ستحرق وستنضج، وأن الطعام سيُشبع، وقد جرب الناس هذه الأمور فوجدوها صحيحة، ولذلك ينفقون أموالهم وجهودهم لاقتناء هذه الأشياء.ولو لم يكن الإنسان موقنا بخواص الأشياء لامتنع عن بذل المجهود في أي شيء، ولبطل الكون كله.يشبع الله تعالى
الجزء السادس ٥٤١ سورة الفرقان من تلقائه ثم إن قضية التقدير هذه برهان عظيم على وجود البارئ تعالى أيضًا.ذلك أن أي صنعة لا يمكن وجودها بغير صانع.فإنك إذا رأيت صورة جميلة تعرف أن رساما مبدعًا قد قام برسمها أو إذا قرأت عبارة رائعة أدركت أن كاتبا شهيرًا قد كتبها.وكلما اطلع المرء على محاسن شيء اطلع على عظمة مخترعه.فكيف يصح الظن، والحال هذه، أن هذا الكون ذا النظام المعقد المدهش قد وجد وبدون أي غاية؟ خذوا مثلاً الإنسان فإنه إذا كان مزودا بطاقات للتقدم والرقي، فإنه مزود أيضا بعقل يصوغ أفكاره إلى العمل، كما أُعطي جسما مناسبًا لذلك.وبما أن عليه أن يكتسب رزقه بالكد والجهد فقد أعطي أرجلاً تساعده على المشي هنا وهناك طلبًا للرزق.أما الشجرة التي رزقها في الأرض فقد زودت بجذور تتغذى خلالها.أما الأسد الذي يعيش على اللحم، فأعطاه البراثن للصيد.وأما الفرس أو الثور طعامه الكلأ فخلق له عنق تمكنه من رعي الكلأ على الأرض.أما الجمل الذي طعامه أوراق الشجر وأشواكها، فقد أعطي عنقا طويلة تساعده على فهل كل هذا قد حدث صدفة؟ وهل الصدفة التي أدركت أن عليها أن تعطي الجمل عنقا طويلة والأسد براثن والشجر جذورًا والإنسان أرجلاً؟ هل من المعقول يوجد هذا النظام الهائل في الأشياء التي قد خلقت تلقائها صدفة.من أن هي من أكلها.من ثم إنك ترى أن الله تعالى إذ خلق في الإنسان الرئة خلق لها الهواء أيضا.وإذ جعل حياة الإنسان متوقفة على الماء مَدَّه بالماء أيضًا من خلال الشمس والسحاب.وإذ وهب له العيون خلق لها ضوء الشمس ليرى بمساعدته.وإذ وهب له الآذان خلق إزاءها أصواتاً جميلة مطربة.وإذ وهب له لسانًا خلق له طعامًا لذيدا.كان الممكن أن تخلق الصدفة الرئة في الإنسان ولكن كيف خُلق لرئته الهواء؟ وكان من الممكن أن تخلق الصدفة العيون في الإنسان، ولكن أليس غريبا أن تخلق الشمس على بعد ملايين الأميال لتساعد بضوئها العيون على الرؤية؟ وإذا كانت الصدفة قد خلقت للإنسان ،آذانا فمن ذا الذي خلق الأصوات إزاءها؟ وإذا كانت الصدفة خلقت الكلاب والدبب فمن ذا الذي خلق للكلاب والدبب التي تعيش في المناطق الثلجية شعراً طويلا يقيها من البرد؟ هل الصدفة هي التي خلقت الأمراض وخلقت
الجزء السادس ٥٤٢ سورة الفرقان إزاءها شفاءها؟ وهل الصدفة هي التي أنبتت العشبة القارصة التي يصيب الإنسان لمسها بحكة شديدة، ثم أنبتت إزاءها نبات السبانخ الذي فيه شفاء ذلك؟ إن أمر لگی هذه الصدفة – التي يحتج بها الدهريون دائمًا – لغريب حقا، حيث زودت الأشياء التي مآلها الفناء بظاهرة التوالد والتناسل، بينما لم تجعل للأشياء التي لا تفنى أي توالد ولا تناسل؟ فمثلاً إن الإنسان فان فجعلت لها الصدفة توالدا وتناسلا، وأما الشمس والقمر والأرض فهي باقية لا تفنى كالإنسان فلم تجعل الصدفة لها التوالد والتناسل ! ثم أليس من المحير المذهل أن الأرض والشمس اللتين توجد فيهما قوة الجاذبية، قد جعل بينهما بعد شاسع حتى لا تصطدما؟ ألا تدل هذه الأمور كلها على أن هناك خالقًا لكل هذه الأشياء، وأنه ليس بعليم فحسب، بل عنده علم غير محدود، وأن قوانينه غاية في الإحكام، فلا ترى فيها فتورًا ولا خللا.هناك آلاف من الرؤوس البشرية المفكرة التي تعمل ليل نهار على إدارة دولة من ذلك تجد أن الحكومات ترتكب أخطاء فادحة تهدد بقاءها، بل إنها تقضي عليها في بعض الأحيان فعلاً.فإذا كان هذا الكون يدار بيد الصدفة فقط، أفليس غريبًا بالفعل أن آلاف العقول المدبرة في الحكومات ترتكب الأخطاء، بينما لا يصدر أي خطأ عن هذه "الصدفة" أبدًا؟ الدول، ومع الواقع أن ما يقوله القرآن الكريم هو الحق، أي أن لهذا الكون خالقا خلقه بهذا النظام المحكم المدهش.فحيثما أَجَلْتَ النظر وجدت كل شيء يؤدي واجبه على أحسن وجه؛ وهذا هو التقدير الذي يشكل برهانا عظيمًا على وجود البارئ تعالى.وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ وَالِهَةً لَا تَخلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْسِهِمْ ضَرًّا وَلَا ذَعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوةً وَلَا نُشُورًا (1) شرح الكلمات : نشورا: نشَر الله الموتى: أحياهم.(الأقرب)
الجزء السادس ٥٤٣ سورة الفرقان أن التفسير : أي أن الكافرين قد فقدوا صوابهم لدرجة أنهم قد اتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئا بل هم أنفسهم مخلوقون وليست عندهم أية قدرة على يجلبوا نفعًا أو يتجنبوا ضررًا، وليس لهم أي خيار على الموت أو الحياة أو البعث بعد الموت.لقد ذكر الله تعالى هنا المزيد من الأدلة على بطلان آلهتهم.فبين أن على الكفار أن أن يدركوا أنه لا بد للإله أن يكون متصفًا بصفة الخلق، ولكن ليس بوسعهم يثبتوا لأي من آلهتهم أنه خالق.لا شك أن المسيحيين قد نسبوا إلى المسيح العلي معجزة إحياء الموتى، ومع ذلك لم يتجاسروا على أن يقولوا إنه كان خالقًا، ولكن بعض المسلمين الجهلة أخذوا يقولون أن المسيح كان يخلق الطيور (الطبري).ونحن نقول: إذا كان المسيح اللي يخلق الطيور فعلاً فأين تلك الطيور؟ وهل استمر نسلها أم لا؟ وإذا كان لها نسل فكيف نعرف أن هذه الطيور من خلق المسيح وتلك من خلق الله تعالى؟ ومن أجل ذلك يؤكد الله تعالى هنا أن هذا الكلام مجرد هراء، إذ ليس في هذه الآلهة الباطلة من خلق شيئا، فاتخاذها آلهة جهالة وحماقة.والدليل الآخر الذي بينه الله تعالى هنا على بطلان آلهتهم هو أنها مخلوقة.وكيف يمارس الألوهية من كان محتاجًا لغيره لدرجة أنه لولاه لما كان له وجود في الدنيا؟ وهل يُخلَق الإله بيد غيره؟ فكيف جاز للإنسان أن يشرك بالله تعالى هؤلاء الآلهة مع أن كل واحد منها مخلوق، فكان المسيح مولودًا من بطن أمه، كما أن "بهاء الله" - الذي يرى أتباعه أنه ادعى الألوهية – أيضًا كان مولودًا من بطن أمه، وكذلك جميع أولياء الله والدراويش من أصحاب الزوايا الذين يسجد البعض على قبورهم..كل أولئك كانوا مولودين من بطون أمهاتهم؟ فكيف يمكن أن يكونوا آلهة، وكيف جاز السجود لقبورهم؟ ثم يذكر الله تعالى دليلاً ثالثًا ضد آلهتهم، فيقول إن الذين تتخذونهم آلهة لم يكونوا قادرين على تجنب ضرر أو جلب نفع، وإنما تجنبوا الأضرار أو جلبوا المنافع بمساعدة الآخرين، فاتخاذهم الضعفاء آلهة جهل وغباء.خذوا المسيح الناصري
الجزء السادس ٥٤٤ سورة الفرقان مثلاً، فلو كان قادرًا على النجاة من الصليب بقوته لما نجح العدو على تعليقه عليه، ولما اضطر لأن يصرخ وهو معلق على الصليب "إيلي إيلي لما شبَقْتَني"..أي إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (متى ٢٧: ٤٦) ولو كان المسيح اللي قادرًا على جلب أي راحة ومنفعة لنفسه لماذا قال حين أخذه الشيطان إلى البرية يختبره : "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله متى (٤ ٤، ولماذا تحمَّل الجوع والفاقة طيلة أربعين يوما؟ والحق أن هذا الحادث كان كشفا من الكشوف الروحانية حمله المسيحيون على الظاهر، إذ لو كان الشيطان قد أخذ المسيح الله إلى الجبل بالفعل لرآه الناس يصعد إلى الجبل بصحبة الشيطان، ولما تركه الحواريون وحده بل رافقوه.فثبت أنه كان كشفًا أو حُلمًا، ولكن المسيحيين حملوه على الظاهر، وجعلوا منه مهزلة كذلك قال المسيح اللي في مناسبة أخرى: "للثعالب أوجرَةٌ ولطيور السماء أو كار، وأما ابنُ الإنسان فليس له أَيْنَ يُسند رأسه".(متى ٨: ٢٠) وهنا أيضًا قد أقرَّ المسيح الا بعجزه وقلة حيلته، وأخبر أنه لا يجد مكانا آمنا لة.يلجأ إليه.فمن كانت هذه حاله كيف يُتصور أنه متصف بصفات الإله؟ ثم يقول الله تعالى (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْنَا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا).واعلم أن للأشياء ثلاث درجات من حيث الموت والحياة أولها العدم أي الموت، وثانيها الحياة بالقوة، وثالثها الحياة بالفعل أي النشور.ولما كان الموضوع هنا تفنيد الآلهة الباطلة فقد نبه الله تعالى بقوله (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْنَا وَلا حَيَاةً إلى أن هؤلاء الآلهة لو كانت تملك شيئا من القدرة الإلهية لأنقذوا أنفسهم من الموت؛ ولكن الواقع يكشف أن كل من يُدعَى إلها من دون الله تعالى صار فريسة للموت.فالمسيحيون قد جعلوا من عقائدهم الحيوية أن المسيح اللي مات وظل في جهنم ثلاثة أيام (غلاطية ٣: ١٣)، وتفسير الكتاب المقدس لميثيو بول مجلد ۳ ص ٩١١).وما دامت أرواح هؤلاء الآلهة ليست في مأمن من قبضة الموت القوية فكيف صاروا آلهة؟ ثم لو أنك رأيت إلى وقائع حياة هؤلاء الذين اتخذوا آلهة من دون الله تعالى لوجدت أنهم كانوا خاضعين لقانون أعلى عند كل خطوة من حياتهم.فكانوا
الجزء السادس ٥٤٥ سورة الفرقان بحاجة إلى الطعام كسائر البشر، وكانوا يصابون بالأمراض ويقعون في المحن والمصائب.وما دامت حياتهم تشهد على أنهم قضوا حياتهم كلها في احتياج وعوز فكيف يصح اعتبارهم آلهة؟ ثم يقول الله تعالى أنهم لا يملكون نُشُورًا..أي أنهم لا يدرون متى يُبعثون ثانية..بمعنى أنهم لا يعرفون الغيب.وها هو المسيح الله يقول: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب".(مرقس ۱۳: ۳۲) وحيث إن المسيح الله لا توجد فيه حتى صفة واحدة من صفات الله تعالى، فكيف جاز اعتباره إلها خلافا لوحدانية الله تعالى؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَرُوَاْ إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكُ افْتَرَنهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمُ وَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُ و ظُلْمًا وَزُورًا (3) وَقَالُواْ أَسَطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (3) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (3) شرح الكلمات : إفك: الإفك: الكذب (الأقرب) زورا: الزور الكذب؛ الباطل (الأقرب) أساطير : جمع أسطور، وهو ما يُسطّر أي يُكتب؛ وتستعمل في الحديث لا نظام له والحكايات (الأقرب) اكتتبها : اكتتب الكتاب: حَطَّه ؛ وقيل : استملاه؛ أَمَرَ أَن يُكتب له (الأقرب).
الجزء السادس ك الله ٥٤٦ سورة الفرقان التفسير: أي يزعم الكافرون أن القرآن كتاب مزوّر، وأن محمدا قد ألفه مستعينًا ببعض البشر؛ والحقيقة أنهم قد ارتكبوا بذلك ظلما وزورا.ولكي يدعموا اعتراضهم هذا يقولون : ليس هذا القرآن إلا سرقة لأقوال الأولين، حيث إن محمدًا يسأل البعض أن يكتب له هذه الأقاويل، فتقرأ عليه في الصباح والمساء لكي يحفظه هو ومن معه جيدا.فيرد الله تعالى على قولهم ويأمر نبيه: قل لهم، يا محمد، إن القرآن الكريم قد أنزله الذي يعلم أسرار السماوات والأرض، والذي هو كثير المغفرة والرحمة.يتضح من كلمات هذه الآية أن صحابة الرسول ﷺ كانوا يجتمعون عنده صباحا ومساء لأداء الصلوات وقراءة القرآن، فظن الكفار لغبائهم أن بعض العبيد المسيحيين يجتمعون مع المسلمين ويعلمونهم ما ورد في كتبهم، أو يذهب الصحابة إلى هؤلاء العبيد ويكتبون ما يسمعونه منهم، ثم يجتمعون ليحفظوه صباحا ومساء.وما كان بوسع هؤلاء الكافرين الجاهلين أن يخطر ببالهم أن الصحابة إنما يجتمعون لأداء الصلوات صباحًا ومساء، بل ظنوا أنهم يجتمعون بهدف نسج المؤامرات والمخططات.ولقد مررت أنا أيضًا بتجربة مماثلة تبين مدى سوء ظن المعارضين.فقبل سنوات كثيرة ذهبتُ إلى مدينة لاهور، فجاء لزيارتي زعيم هندوسي يدعى "لاله بهجدت رام".وكانت في رفقته أناس آخرون منهم محرر جريدة السيخ الشهيرة "شير بنجاب".وتصادف أنه كانت لي محاضرة في مساء نفس اليوم، فمكث هؤلاء القوم للاستماع لمحاضرتي.و لم أتمكن من استخراج المراجع من قبيل آيات القرآن الكريم لكثرة مشاغلي طوال النهار.فأمرتُ الحافظ روشن عليه أن يجلس قريبا مني على المنصة، لأني سأخبره خلال إلقائي المحاضرة مفهوم بعض الآيات القرآنية، فعليه أن يقرأ لي الآية كلها لأقرأها مستعينًا بقراءته.فبدأتُ في إلقاء المحاضرة، وكلما احتجت إلى قراءة آية قرأتُ على الحافظ روشن على" كلمةً أو كلمتين من الآية
الجزء السادس ٥٤٧ سورة الفرقان بصوت خفي، أو ذكرت له معناها، فكان يقرأ الآية كاملة، فأقرأها بقراءته، ثم أقوم بالاستدال الذي أريده من تلك الآية.وفي اليوم التالي كتب محرر جريدة "شير "بنجاب" مقالاً قال فيه: لقد استمعنا أمس إلى محاضرة إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية.لقد كانت محاضرة جيدة، ولكنا ذهبنا وراء المنصة لتحري الأمر، فوجدنا هناك عالما كبيرا كان حضرة الإمام قد أخفاه هناك، فهو الذي كان يملى على الإمام كل الكلام، فكان الإمام يردده أمام الناس.فظل معارفي يضحكون على هذه الطريفة أيامًا.وذهب أحدهم إلى محرر الجريدة وأخبره الحقيقة.فخجل جدًا، وقال: لقد كنت أظن أن ذكائي قد أعثرني على سر كبير.ويبدو أن أهل مكة أيضًا أبدوا للناس مثل هذا الذكاء.لقد كان الصحابة يكدحون في أعمالهم طوال اليوم ولا يجدون وقت الفراغ إلا صباحًا ومساء، فكانوا يحضرون عند النبي ﷺ في دار الأرقم في هذه الأوقات لأداء صلاتي الفجر والمساء ولقراءة القرآن الكريم؛ فظن "الأذكياء" من الكفار أنهم قد اطلعوا على سر كبير، حيث قالوا إنهم يجتمعون هناك لتأليف القرآن.والحق أن قولهم يشكل آية عظيمة للإنسان العاقل، لأن قولهم هذا اعتراف منهم بأن تأليف هذا القرآن الكريم من قبل شخص واحد مستحيل، ومن أجل ذلك قالوا إن مجموعة من الناس تعين محمدا لله على تأليف القرآن، فبعضهم يجمع له المسائل المنطقية، وبعضهم يجمع تعاليم الصحف السابقة.وأتناول الآن الرد الذي تضمنته هذه الآية على اعتراض الكافرين.للرد على اعتراض الكافرين لا بد لنا من أخذ سؤالين هامين في الاعتبار: أولهما: هل هؤلاء العبيد الذين يقال أنهم أعانوا النبي ﷺ في تأليف القرآن الكريم كانوا قادرين على ذلك فعلاً؟ وثانيهما: هل البشر قادرون على الأمور التي قيل أنهم قد أمدوا النبي ﷺ بها؟ وردا على السؤال الأول قال القرآن الكريم فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا)...أي أن ادعاء الكافرين بأن أناسًا أعانوا محمدا ) على تأليف القرآن الكريم يفند نفسه
الجزء السادس ٥٤٨ سورة الفرقان بنفسه.ذلك أن القرآن الكريم يعلن بطلان كل ديانة يقول المعترضون أن بعض أتباعها أعانوا النبي على تأليف القرآن فمثلا يقال أن هؤلاء المساعدين كانوا مسيحيين وليس خفيًا أن القرآن الكريم قد أبطل العقائد المسيحية بكل شدة وقوة؛ فكيف يُصدَّق إذا أن يعلّم المسيحيون النبي ﷺ ما يهدم ديانتهم؟ ولو قيل أن مجموعة من اليهود كانوا يعلمون النبي ، فإن القرآن الكريم يفند الديانة اليهودية أيضًا أيما تفنيد.فثبت أن هذا الادعاء يشكل بحد ذاته دليلاً بينا على بطلانه بحيث أغنانا عن البحث عن أي دليل آخر لإبطاله.وقد احتج المسيح الله أيضًا بهذا الدليل ردا على اليهود الذين قالوا إنه يطرد الأرواح الشريرة بمساعدة رئيس الأرواح الشريرة الذي يدعى بعلزبول، فقال لهم: "فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته، فكيف تثبت مملكته (متى ١٢ ٢٦)..أي إن كنتم تظنون أني أستعين بالشيطان فكيف يمكن أن يعينني الشيطان ضده هو؟ فلو كان الشيطان يعلّمني فيجب أن لا يعلمني ما يضره.ولكنكم تزعمون أن الشيطان يعلّمني ما فيه هلاكه، وهذا يعني أنه قد أصبح عدوا لنفسه! وبالمثل نقول: إذا كان العبيد المسيحيون يؤلفون القرآن الكريم للنبي الله فكان من المفروض أن لا يعلموه ما يبطل ديانتهم.فثبت أن في هذا الاعتراض ما يؤكد بطلانه، وليس أساسه إلا الكذب والافتراء.ثم إن قوله تعالى (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا يعني أيضًا أنهم يزعمون أن جماعة قامت بتأليف هذا الكتاب لمحمد ، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو : لم لم يؤلّفوا هذا الكتاب القيم لأنفسهم؟ فثبت أن هذا الاعتراض ظلم وزور بحق هؤلاء الذين يعزى إليهم تأليف القرآن، إذ كيف يمكن أن يهبوا إبداعهم لشخص بسيط؟ كما أن قوله تعالى فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا إشارة إلى أن أولئك العبيد الذين يعزى إليهم تأليف القرآن الكريم للرسول ﷺ، كانوا يتحملون اضطهاد الكافرين ليل نهار في سبيل الإسلام حتى استُشهد بعضهم؛ فكيف يصح القول أنهم كانوا يؤلفون القرآن للنبي ﷺ ، إذ كيف يمكن أن يلفقوا القرآن للناس ثم يقدموا في سبيل هذا الكلام المزور المزيف تضحيات عظيمة؟ فمن الظلم العظيم أن يتهم الكافرون
الجزء السادس ٥٤٩ سورة الفرقان هؤلاء الصحابة والصحابيات من العبيد الذين سقوا شجرة الإسلام بدمائهم الزكية بتأليف القرآن لمحمد ! إن المرء ليبكي بمجرد تصور ذلك الاضطهاد الذي تعرض له هؤلاء العبيد في سبيل الإسلام لم يكن للعبيد أي احترام في المجتمع العربي، ولم يكن لهم أي حقوق اجتماعية.ولو قتل السيد عبده لم يسأله أحد عن قتله، إذ كان يُعتبر ملكا لسيده، ولم يكن هناك قانون يحميه.وعندما آمن بعض العبيد برسول الله ﷺ سامهم الكافرون أشد العذاب فكانوا يلقونهم في الشمس على الرمال المحرقة، ويجرونهم على أرض ذات أحجار، فكانت أبدانهم تجرح وتدمى وكلما اندملت جروحهم جروهم على الأحجار ،ثانية، وظلوا يؤذونهم بهذه الوحشية طويلا.ورد في التاريخ عن بلال الله أن سيده كان يلقيه على الأرض ثم يقفز بنعاله على صدره، ويلح عليه أن يقرّ بوجود آلهة أخرى مع الله تعالى.وكان بلال له عبدا حبشيًا لا يستطيع نطق العربية نطقا سليمًا، فكلما شدد عليه سيده الكافر وأصر عليه أن يتفوه بكلام يتنافى مع التوحيد، كان بلال يقول في حماس شديد: أحد، أحد..أى أن الله تعالى أحد لا شريك له فكان الكافر يصب عليه المزيد من العذاب.وكان خباب بن الأرت أيضًا عبدًا يعمل حدادًا.وقد آمن بالنبي ﷺ في بداية الإسلام المبكرة.كان الكافرون يؤذونه أذى كبيرًا فكانوا يخرجون الجمر من موقده، ويلقونه عليه، ثم يلقون على صدره حجرا كبيرا حتى لا يستطيع الحراك.كما كانوا يرفضون أن يؤتوه أجرته.ورغم ذلك لم يتزعزع خباب عن إيمانه لحظة واحدة، بل ظل ثابتًا عليه بكل قوة وشجاعة.وظلت آثار الحرق على ظهره معه طول عمره، ففي خلافة عمر له ذكر المصائب التي تحملها في سبيل الإسلام ذات مرة، فقال له عمر: أرنا ظهرك، فكشف ظهره فإذا به آثار بيضاء تشبه البرص.وكانت سُميّة – رضي الله عنها - من الإماء المسلمات، وكان أبو جهل يؤذيها أذى شديدًا لترتد عن الإسلام، ولكنها ظلت متمسكة بإيمانها.فطعنها أبو جهل في فرجها وهو في ثورة الغضب فاستُشهدت
الجزء السادس 00.سورة الفرقان أما عمار وكان ابنا لسُميّة هذه - رضى الله عنهما - فكانوا يُلقونه في الرمال المحرقة ويعذبونه أشد التعذيب.وكان من هؤلاء العبيد صهيب، وكان قد أُخذ من بلاد الروم، كان عبدا لعبد جدعان الذي أعتقه فيما بعد.لقد تعرّض صهيب لبلاء شديد بسبب إيمانه الله بن بالرسول.ثم هناك عبد آخر يُدعى أبو فكيهة، لقد آمن بالنبي في أوائل الإسلام.فكان الكافرون يلقونه على الرمال المحرقة وذات مرة كان سيده يجره على الرمال، فمر به بعض الحيوانات، فأشار إليه سيده وقال هذا هو إلهك يمر.فأجابه: ربي وربك واحد.فغضب وخنقه خنقا شديدا، ثم ألقى على صدره حجرا كبيرا حتى خرج لسانه من فمه وأُغمي عليه.فظن الناس أنه قد مات فتركوه، ولكنه أفاق فيما بعد.وكان عامر بن فهيرة عبدا آخر أعتقه أبو بكر الله وكان قد أوذي بسبب إسلامه إيذاء شديدا.وكانت هناك أمة أخرى اسمها لبينة - رضي الله عنها – وكانت من أوائل المسلمين.كان عمره قبل إسلامه يسومها أشد العذاب، ولكنها تثبتت على الإيمان.وكانت هناك أمة أخرى اسمها زنيرة، وقد آمنت في بداية الإسلام.فضربها أبو جهل ضربًا شديدًا حتى أفقأ عينيها، ومع ذلك لم تكفر برسول الله ﷺ.وكان أبو جهل كلما رآها قال لها في غضب : هل تَردَّينا لدرجة أن تكون زنيرة قد آمنت بالدين الحق ونحن لم نؤمن؟ وكان هناك أمتان أخريان إحداهما نهدية والأخرى أم عبيس، وقد أسلمتا في الفترة المكية، وقد تحملتا بسبب إسلامهما مصائب كثيرة.وكانت حمامة والدة بلال والا الله أيضا من المسلمات اللاتي صرن عرضة للاضطهاد الشديد نتيجة إسلامهن.لقد قتل المكيون بعض هؤلاء العبيد شر قتلة حيث ربطوا إحدى رجليه ببعير وأخرى ببعير آخر، ثم ساقوهما في اتجاهين متعاكسين، فانشق المسكين قطعتين.
الجزء السادس ٥٥١ سورة الفرقان (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى أطلع الغيب، وأسد الغابة المجلد الثاني، والسيرة النبوية لابن هشام: ذكر عدوان المشركين على المستضعفين والسيرة الحلبية المجلد الأول ص ٣٣٤: باب استخفائه أصحابه، والكامل في التاريخ ذكر تعذيب المسلمين، والاستيعاب في معرفة الأصحاب: باب صهيب، وأبو فكيهة) فلو كان الرسول ﷺ يفتري على الله الكذب، ولو كان هؤلاء العبيد يؤلفون له القرآن، فكان من المفروض أن يكونوا أعداء ،له لا أن يؤمنوا به ويضحوا أرواحهم في سبيله.وكان السؤال الثاني ضد هذا الاعتراض هو : هل هناك أي إمكانية أن يكون القرآن مما علمه هؤلاء العبيد للرسول ﷺ فردّ الله على ذلك وقال إن ما يعدونه أساطير ليس أساطير، بل هي أنباء قد أنبأ بها الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض، والذي قد هيأ لهم علاجًا لمرضهم لأنه غفور رحيم.أي أن هذا الكتاب يبين أسراراً سماوية أي روحانية وكذلك أسرارًا أرضية أي مادية.فإنه يبين بالتفصيل معاملة الله مع العباد، كما يلقي الضوء على ما يبديه العباد من أفكار ومشاعر في شتى الظروف والمناسبات.فالتعليم الذي يبيّن أسرار الفطرة الإنسانية على تفاوت أنواعها ومراتبها، سواء أكانوا من العرب أو الهنود أو الأمريكان أو الأوروبيين، ويسدّ كل ضرورة طبيعية للناس، ويبين معاملة الله مع العباد بكل أنواعها، كيف يمكن أن يُعتبر ذلك التعليم تقليدًا وسرقة للتعاليم السابقة؟ فليدلونا على شرع يتسم بكل هذه المزايا.إن الصحف السابقة كان نطاق هديها محدودًا جدا، إذ كان زمنها محدودًا وكانت ذات طابع محلي غير عالمي؛ لذلك لم تُراع تلك الكتب حاجات الفطرة الإنسانية بكل أنواعها وعلى سبيل المثال، كانت التوراة تهدف إلى إصلاح اليهود فقط دون الأمم الأخرى، كما أنها لم تنزل لكل العصور.ولكن القرآن كتاب لكل الشعوب ولكل العصور.إنه لليهود وللنصارى وللمسلمين وللهندوس وللأوروبيين وللصينيين ولليابانيين وللشعوب المتخلفة وغير المتخلفة.ليس هناك شعب لا يخاطبه هدي ،القرآن وليس ثمة عصر لا يحتاج أهله إلى القرآن وما دام القرآن الكريم يتبوء هذه الدرجة الرفيعة السامية، فكيف يمكن
الجزء السادس أن يسمى ٥٥٢ سورة الفرقان تقليدا ونسحًا لكتب الأمم السابقة.إن أحوال الأمم السابقة يمكن أن يعرفها كل واحد من كتب التاريخ، ولكن القرآن الكريم مليء بأسرار وأنباء يستحيل أن يعلمها أحد من البشر؛ فكيف يصح تسمية ما فيه من علوم الغيب أساطير الأولين؟ ففي الفترة التي كان الإسلام فيها لا يزال محدودا داخل مكة، وكان المسلمون يُعذبون بسبب إسلامهم، فيتعرضون للضرب والقتل والمقاطعة والنفي من أموالهم وديارهم وكان من المستحيل أن يتصوّر أهل مكة أنهم سيُدمرون في يوم من الأيام وأن زمام الحكم سيوضع في أيدي المسلمين، أقول في تلك الفترة أخبر الله تعالى وقال وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلَّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخَذَ عَزِيزِ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزبر أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَل السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) (القمر : ٤٢ - ٤٧)..أي أن فرعون ملك مصر الذي كان يضطهد بني إسرائيل أنذرناه على لسان موسى بأن لا يحارب عبدنا وإلا فسيلقى الخسران ولكنه لم يحفل بإنذارنا، فأخذناه بسبب تكذيبه أخذ مقتدر.عزیز وقد قال الله تعالى فَأَخَذْنَاهُمْ أَحْذَ عَزِيزِ مُقْتَدِر لأن بعض الناس يأخذون عدوهم، ولكنه يفلت من أيديهم، ولكن الله تعالى يعلن أننا بطشنا بفرعون بطشا لا يمكن أن ينفلت منه أحد، وعاقبناه عقابًا لا ينجو منه أحد.كما أن هذا التعبير الرباني إشارة إلى رحمته أيضا، ذلك لأن الإنسان المقتدر لا يشدد في العقاب بما يكون فوق الاحتمال لعلمه أنه قادر على إنزال العقاب فيما بعد أيضا.بينما نرى أن الحكومات الدنيوية حين تحكم بعقاب الناس فبعضهم ينجو من عقابها.فمثلا هناك شخص تحكم الحكومة بإعدامه ولكنه يتواطأ مع رجال السجن، فيحضرون له السم بأنفسهم أو من قبل أقاربه، فيشرب السم وينتحر قبل أن ينفذ فيه الإعدام.فعندما هزم الحلفاء ألمانيا في الحرب العالمية ألقوا القبض على "غورينغ" (GORING) وأعلنوا بكل زهو عن اليوم الذي يقتلونه فيه شنقا، ظانين أن تصرفهم هذا سيهين الألمان في أعين العالم إهانة شديدة.ولكنهم لما دخلوا غرفته قبل موعد =
الجزء السادس ٥٥٣ سورة الفرقان الإعدام وجدوه ميتًا، وعلموا فيما بعد أن الألمان أوصلوا إليه السمّ سرا، فتناوله ومات.(Encyclopedia Of The Second World War, P.172:"Goring) فترى أن الحلفاء قد أخذوه فعلاً، ولكنهم لم ينجحوا فيما خططوا له من عقاب، فكان أخذهم أخذ عزيز، ولكنه لم يكن أخذ عزيز مقتدر.ثم إن بعض المجرمين يهرب من السجن قبل تنفيذ العقوبة حينا، أو حتى قبل أن تكبّل يداه.وفي بعض الأحيان لا تتمكن الحكومة من إلقاء القبض عليه طول حياته.ولذا يبين الله تعالى هنا أمرين: إذا كان بعض المجرمين يهرب من أيدي السلطات الحكومية، فإننا سنأخذ الكافرين أخذا لن يستطيعوا الهروب بعده.وإذا كانت الحكومة الدنيوية لا تستطيع معاقبة المجرم رغم إلقاء القبض عليه، أو لا تنجح في تنفيذ الإعدام فيه بعد أن حكمت به عليه، إذ يموت قبل الإعدام بتناوله سما أو بسكتة قلبية مثلا، فإننا نبطش بالمجرمين بحيث لا يفلتون من أيدينا، كما ننفذ فيهم العقوبة التي نريدها.ثم يقول الله تعالى في هذه الآيات من سورة القمر أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ..أي يا أهل مكة، أأنتم أفضَلُ من الذين كفروا بموسى؟ فما دمنا قد عاقبنا الذين كفروا بموسى، فكيف ظننتم أنكم بمنجاة من عقابنا؟ أم أن هناك ضمانًا في الكتب السابقة بأن أهل مكة لن يتعرضوا للعقاب؟ لا شك أن الله تعالى قد وعد بحماية الكعبة المشرفة، ولكنه لم يقل أنه لن يعاقبكم أبدا.ثم يقول الله تعالى أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْرَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدبر..أي هل يظنون أنهم حزب كبير، وأنهم سيقضون على المسلمين؟ فليعلموا أنهم سيشنون الغارات على المسلمين، ويضمون إليهم أحزابا أخرى للهجوم على محمد ﷺ وأصحابه، ولكن جموعهم ستهزم ويولون الدبر.ثم يقول الله تعالى بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ..أي يا أهل مكة، إن ساعة الدمار التي ستأتي عليكم هي أشد دمارًا من ساعة فرعون.واعلم أن الساعة التي أتت على فرعون تبدو أول وهلة أشد دمارا، إذ قد غرق مع جنوده، ولكن التدبر سيكشف لنا أن كفار مكة قد عوقبوا بأشد مما عوقب به
الجزء السادس أشد موسی ٥٥٤ سورة الفرقان فرعون وقومه ذلك لأن موسى لم يستطع أن يستولي على مصر، بل إن أتباعه رفضوا الهجوم على أرض كنعان أيضًا (الخروج ٣٣: ١-٤)، أما محمد رسول الله فلم يهزم عدوه فحسب، بل قد فتح مكة.فثبت أن عقاب أهل مكة كان من عقاب أعداء العليا، إذ اضطروا كقوم للانقياد لمحمد.فهل كان بوسع إنسان أن يختلق هذا الخبر ويدلي به من عنده في ذلك الوقت؟ أو هل كان قادرا على تحقيقه؟ لقد أدلي بهذا النبأ حين كان المسلمون مستضعفين مضطهدين، ولم يكن لأحد أن يتصور عندها أن القبائل العربية كلها ستشن عليهم هجوما موحدًا؛ ولكن الله تعالى قد أخبر عندئذ بأن المسلمين سينالون القوة حتى يتحد الكافرون كلهم ليقضوا عليهم، ولكن الله تعالى سيأتي لنصرة رسوله مسرعًا.وعندما يصل الأعداء إلى ساحة القتال سيجدون الله هناك، فيصابون بالذهول وينبهرون وبالفعل اتحد الأعداء للهجوم على المدينة في غزوة الأحزاب حتى بلغ عددهم عشرين ألف مقاتل التنبيه والإشراف : ذكر السنة الخامسة من الهجرة)، بينما كان عدد المسلمين ألفا ومئتي شخص، وقد عُيّن خمسمئة منهم لحماية النساء، وبقي في الجيش المسلم سبعمئة جندي فقط.ولكن الله تعالى أيدهم بنصره، فاندحر العدو ذليلاً مهانًا أمام هؤلاء السبعمئة ،مسلم وكتب الله الفتح لرسوله.فالله تعالى يعرض على الكافرين هذه الأسرار السماوية والأنباء الغيبية تفنيدا بأن هذا القرآن قد اختلقه بعض الناس وهو ليس من عند الله تعالى، لاعتراضهم فيقول إن قولكم هذا كذب وزور، لأن هذا الكتاب يتضمن أنباء يستحيل على عقل الإنسان أن يخترعها من عنده مما يدل دلالة واضحة أنه من وحي الله تعالى.والغريب أن أعداء الإسلام يعترضون على النبي الله أنه قد استكتب من بعض العبيد المسيحيين حالات الأنبياء السابقين وأممهم، ثم كان يقرؤها أمام المسلمين صباحا ومساءً لكي لا ينساها ولكن ليس بوسعهم أبدا أن يُثبتوا وجود نسخة عربية للتوراة والإنجيل في ذلك الزمن ليستعين بها ويؤلف القرآن.والواقع أن أهل الكتاب في ذلك الزمن لم يهتموا بترجمة الكتاب المقدس إلى العربية، حتى لم تكن عند اليهود القاطنين في المدينة وما حولها أي نسخة عربية لكتابهم، بل كلما احتاج
الجزء السادس ٥٥٥ سورة الفرقان النبي إلى معرفة شيء من كتابهم كان يسأل عنه عبد الله بن سلام الذي كان عالما بالعبرانية، فكان ينظر في النسخة العبرانية للتوراة ويخبره بما فيها.(البخاري: كتاب التفسير سورة آل عمران قوله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها....) وهذه الحقيقة واضحة وجلية بحيث إن الكتاب المسيحيين أنفسهم يعترفون بها.فمثلا يقول الكاتب المسيحي الشهير الدكتور ألكسندر إن أقدم نسخة عربية للكتاب المقدس لا ترقى إلى ما بعد القرن الثامن الميلادي.(The text & cannon of the New Testament P.74 & Encyclopedia of religion & Ethics, Vol.9 P.481) علما أن الرسول الله قد بعث في القرن السادس الميلادي.وحيث إنه لم توجد يزعمه أي ترجمة عربية للتوراة أو الإنجيل في ذلك الوقت، فكيف كان العبيد النصارى يقرأون على النبي لا ما ورد في كتابهم من أحداث قديمة، حتى يحفظها ؟ هذا هو الجواب الذي ردّ به القرآن الكريم على اعتراضهم في هذه الآيات.ولكن هناك جوابًا آخر قد ذكره القرآن الكريم وهو أنه إذا كان صحيحا ما الكافرون بأن مجموعة من الناس قد قاموا بتأليف هذا الكتاب، فلم لا يتقدمون ليؤلّفوا كتابًا فيه ما في القرآن من مزايا ومحاسن حتى تعلم الدنيا صحة ادعائهم؟ ذلك لأن العمل الذي يمكن أن يقوم به بضعة أشخاص سيقوم به حتما مئة وألف من الناس الآخرين أيضًا.ولكنهم إذا لم يؤلفوا كتابا مثل القرآن ثبت للناس بطلان ادعائهم.وقد ذكر الله تعالى هذا الجواب في مكان آخر من القرآن الكريم أيضا حيث قال قُلْ لَئن اجتمعت الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآن لا يَأْتُونَ بمثله وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا (الإسراء : ۸۹)..أي قل لهم، يا محمد، لئن اجتمع كبارهم وصغارهم، وعلماؤهم وجهلاؤهم، وأغنياؤهم وفقراؤهم جميعا، لتأليف كتاب مثيل للقرآن الكريم، فلن يستطيعوا تأليفه ولو ساعد بعضهم بعضا، فترى أن الله تعالى قد تحداهم هنا أنهم إذا كانوا يزعمون أن القرآن الكريم من تأليف البشر، فلم لا يؤلفون كتابا يماثله في مزاياه ومحاسنه؟ فكما أن القرآن قد سلط الضوء على كل قضية دينية ضرورية عليهم أن يعدّوا كتابًا يقدّم للإنسانية تعليما جامعا
الجزء السادس سورة الفرقان مكتملا فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات والأخلاق والاقتصاد والسياسة وغيرها، تعليما لا يفرّق بين شعب وآخر وبين طبقة وأخرى من الناس، بل يقدّم للنهوض بالإنسانية كلها في مجال الدين والدنيا قانونا مكتملا خاليا من كل نقص وعيب يسد كل حاجاتهم ويضمن منافع لهم.فلو فعلوا ذلك ثبتت دعواهم بأن القرآن الكريم قد أُعد بمساعدة مجموعة من الناس.وإن لم يفعلوا ذلك ولن يفعلوه إلى يوم القيامة فثبت أنهم كاذبون فيما يقولون.وبالفعل ترى أنه قد انقضت على هذا التحدي القرآني أربعة عشر قرنًا، وبرغم أن الأعداء لم يستطيعوا حتى اليوم قبول هذا التحدي مع أنهم لم يدّخروا وسعًا في معارضة القرآن الكريم، فإن عجزهم وقلة حيلتهم أمام هذا التحدي يؤكد أن هذا القرآن ليس من صنع البشر، بل إنه منزل من عند الله تعالى ولا يستطيع الإنسان أن يتحداه.
الجزء السادس ٥٥٦ سورة الفرقان وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَك فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا نَ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَثرُ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا (3) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَلَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً شرح الكلمات: كنز: الكنز: المال المدفون في الأرض؛ وقيل: اسم للمال إذا أُخْرِزَ في وعاء؛ الذهب الفضةُ؛ ما يُحْرَزُ فيه المال كالمخزن والصندوق.(الأقرب) مسحورا: سحَره: عمل له السحر وخدعه وسحر عنه: تباعد.وسحر فلانا عن الأمر: صرفه (الأقرب)
الجزء السادس ٥٥٧ سورة الفرقان وورد في المفردات: "وسمُّوا الغذاء سحرًا من حيث إنه يَدقُ ويلطف تأثيره".فالمسحور يعني: (۱) الذي سُحر وخُدع (۲) الذي أبعد (۳) الذي أُعطي الطعام والرشوة.التفسير: أي انظر كيف يتكلمون عنك بكلام واه، فحينا يقولون: ما هذا الرسول الذي يأكل كما نأكل ويمشي في الأسواق كما نمشي؟ لو كان رسولاً صادقًا لملك بساتين عظيمة يأكل منها، وعندها يمكن أن نؤمن به.مع أن الطعام لو كان منافيًا للنبوة فكيف يكون أكل أحد من ثمار بستانه وفواكهه دليلا على صدق ادعائه النبوة.فثبت أن اعتراضاتهم ليست مبنية على أساس معقول، فلذا يتكلمون بشيء مرة وبنقيضه مرة أخرى.إن اعتراض الكفار على أكل الرسول ﷺ وشربه يدلّ بوضوح على بعدهم عن الدين والروحانية، ولذلك اعتقدوا أن الواصلين بالله تعالى يظلون عاكفين على عبادة الله ليل نهار مستغنين عن الأكل والشرب وغيرهما من الحاجات الطبيعية.وهذه الفكرة نجدها عند الهندوس أيضًا، فمن القصص الشهيرة عندهم أن بوذا ظلّ تأملاته عند شجرة الخيزران في مدينة "غايا" سنوات طويلة حتى نبتت فسيلة جديدة من شجرة الخيزران ودخلت من تحته وخرجت من رأسه، دون أن يشعر بما حدث لشدة تركيزه في تأملاته وكأنهم يعتقدون أن بوذا قضى سنوات وسنوات دون أكل أو شرب.عاكفا على وقد تسربت مثل هذه الأفكار في طائفة من المسلمين أيضًا لسوء حظهم، فظنوا أن الواصلين بالله تعالى يجب أن يكونوا من أشد الناس وسخا وقذارةً، فيجب أن لا يستعملوا الطيبات من الأشياء والأطعمة، وإذا أكلوا طعاما أضافوا إليه شيئًا من القاذورات، ويجب أن يمتنعوا عن تقليم أظافرهم وتنظيف أسنانهم.وقد رسخت هذه الأوهام عند هؤلاء الناس حتى بدأوا يعتبرون بعض الفقراء والمجانين الذين يمشون عراة تماما من أولياء الله تعالى.وستجد بين المسلمين اليوم أيضا آلافا ممن يظن مثل هؤلاء المجانين واصلين بالله تعالى، ويعتبر أكل الحلال والاهتمام بالنظافة
الجزء السادس ٥٥٨ سورة الفرقان " منافيًا للصلاح والورع فيقولون مثلاً: إن فلانًا من أولياء الله تعالى جلس في مكان كذا و لم يرفع رأسه أربعين سنة حتى صارت حفرة في الأرض في مكان جلوسه.ولما كان مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ال أيضا قد ادعى النبوة التابعة للرسول ﷺ فقد اعترضوا على طعامه أيضًا.كان حضرته اللي يستعمل المسك والعنبر وزيت اللوز وغيرها من الطيبات لأمراض كان يصاب بها كثيرا، فكان هؤلاء الذين يعتقدون استعمال الطيبات منافيًا للروحانية يستغربون من ذلك.فذات مرة كان الخليفة الأول للهلهلهله راجعًا من المسجد الأقصى بقاديان بعد إلقاء درس للقرآن الكريم فيه، فلقيه في الطريق أحد كبار الهندوس – وكان قد تقاعد من منصب حاكم المحافظة، وكان بيته قد اشترته الجماعة فيما بعد وجعلته مكتبا لـ صدر أنجمن أحمدية" * - فوقف أمام حضرته له بكل احترام وقال: حضرة الشيخ، أريد أن أسألك سؤالاً أرجو ألا تتحرج منه.فقال حضرته: ولماذا أتضايق؟ تفضل.قال : لقد سمعتُ أن حضرة الميرزا يستعمل المسك والعنبر وزيت اللوز، ويأكل الأرز المطبوخ مع اللحم هل هذا صحيح؟ قال حضرته: نعم.فأصابته دهشة كبيرة بسماع هذا الجواب الذي لم يتوقعه وقال: هل يجوز لأهل الله تعالى أن يأكلوا مثل هذه الأشياء؟ قال: إن ديننا يأمر أهل الله أيضا بأكل الطيبات.فاشتد الهندوسي حيرة وذهب.هذا ما أجاب به الخليفة الأول لله الذي كان يتكلم دائما كلامًا مهذبا شريفا.ولكن كان لنا أخ من مدينة "أمرتسر" وكان جريئا في كلامه، فلقيه أحد الهندوس الذي كان قاضيا وقال له : كيف تزعم أن مؤسس جماعتكم مأمور الله تعالى وتنسب إليه ألقابًا عديدة، مع أننا سمعنا أنه يأكل اللوز والفستق ولحم الفراخ من " صدر أنجمن "أحمدية هي أكبر مؤسسة إدارية في الجماعة وقد أسسها المسيح الموعود العلمية.(المترجم)
الجزء السادس ٥٥٩ سورة الفرقان وغيرها من الأطعمة؟ فأجابه هذا الأخ وقال : لن أعترض عليك أبدًا إذا بدأت تأكل البراز سخطا على ما يأكله مؤسس جماعتنا.فكما أن الناس يظنون في هذه الأيام أن استعمال الجيد من الطعام والثياب والعطور يتنافى مع سيرة أهل الصلاح، كذلك ظن الكافرون في ذلك الزمن فقالوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ.إن هؤلاء الجهلة لم يفهموا أن الرسول يكون هاديا لأمته، فإذا هو لم يأكل الطعام كيف تعرف أُمته آداب الأكل والشرب؟ وماذا يجب أن يؤكل وماذا يجب أن لا يؤكل؟ إن الطعام أهم جزء من التمدن الإنساني، وكان لا بد من تعليم جامع ونموذج كامل بصدد الأكل والشرب؛ فجعل الله تعالى نبيه ﷺ أسوة للدنيا في هذا المجال أيضا.فأعطى الناس من خلال أسوته الا الله تعليمًا حول الأكل والشرب يُعتبر أفضل منهج عمل للإنسانية حتى اليوم، ولا يمكن لإنسان أن يلقى العز والاحترام في المجتمع بإهمال هذه التعاليم والآداب.و اعتراضهم على المشي الرسول الله في الأسواق يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن الإنسان إذا صار من أهل الله تعالى فيجب أن يتكفل الله حاجاته، ويجب أن لا يحتاج بعد ذلك إلى الأسباب المادية من أجل معيشته كغيره من الناس.وهذه الفكرة أيضا موجودة لسوء الحظ عند فئة من المسلمين في هذه الأيام، حيث يقولون أن فلانا من أهل الله تعالى يسيطر على بعض الجن التي تحضر له أنواع الثمار في أي وقت شاء.وكأنهم لا يبذلون جهدًا لكسب قوتهم، بل يسخرون بعض الكائنات غير المرئية فتقوم لهم بما يحتاجونه ونتيجة لهذه الأفكار الخاطئة نشأ عند هؤلاء القوم مفهوم خاطئ عن التوكل، فيظنون أن التوكل أن يفوّض المرء أمره إلى الله كلية بدون أن يأخذ بالأسباب.وكأنهم يحملون نفس النظرية التي كان يحملها كفار مكة، أي أن أهل الله تعالى يجب أن يكونوا في غنى عن بذل الجهد من كسب الرزق وغيره من حاجات الحياة، بل يجب أن يأتيهم رزقهم من الغيب.ثم إن الكفّار يتقدمون خطوة أخرى ويقولون إذا كان الله تعالى قد بعث هذا الإنسان لهداية الدنيا فلم لم يرسل معه ملكًا؟ وقولهم هذا يماثل قول المسلمين اليوم
الجزء السادس سورة الفرقان بأن المسيح الله ينزل من السماء واضعًا يديه على كتفي ملكين، وبرؤيتهما معه يدرك الناس أنه هو المسيح الحق، فيؤمنون به.ثم يقول الكافرون إذا لم ينزل مع هذا الرسول مَلَكٌ، فكان يجب على الأقل أن يكون معه كنز نراه فننضم إليه ولكنه يطلب من الناس الصدقات والتبرعات بدلاً من أن يوزع عليهم مالاً، فكيف نصدقه؟ وللأسف أنه برغم أن الله تعالى قد سجل في القرآن الكريم هذا الاعتراض الذي تفوه به الكافرون ونبههم إلى خطئهم إلا أن المسلمين لم ينتبهوا إلى هذا الأمر، فاعتقدوا أن المسيح والمهدي الموعود ال سيوزع على الناس الأموال المادية حتى لن يبقى في الدنيا فقير واحد.فكأنهم يقولون إنه سيملك خزائن الأرض كلها ويوزع على الناس قناطير مقنطرة من الذهب والفضة! ثم قال الكفار : إذا لم ينزل عليه أي ،كنز فكان من المفروض على الأقل أن يكون عنده بستان يأكل من ثماره؛ ولكنه لا يملك أي ،بستان، في حين أن رؤساءنا - الذين يعادونه من مكة والطائف وغيرهما من المدن - يملكون بساتين كبيرة.وكانت هذه الحجج قوية في زعم الكافرين لدرجة أنهم كانوا يقولون كيف يكون هذا الشخص صادقا، وكيف يصلح لهداية من يتبعه ما دام لا يملك هذه الأشياء؟ فثبت من ذلك أن الذين يتبعونه مخدوعون من كذبه وافترائه – والعياذ بالله.لقد رد الله تعالى على مطاعنهم هذه في الآية التالية وأعلن أنهم لن يستطيعوا بهذه الاعتراضات أن يحولوا دون غلبة الرسول الله، بل سيأتي يوم يتغلب عليهم محمد ﷺ حتما، ولن تنفعهم مطاعنهم هذه شيئا.تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّتِ تجرى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَتَجْعَل لَّكَ قُصُورًا (2)
الجزء السادس ٥٦١ سورة الفرقان التفسير : أي أنهم يطالبونك ببستان ،واحد ولكن هؤلاء الجهلة لا يعلمون أننا قد أعددنا لك الكثير والكثير من البساتين الغنّاء والقصور الفخمة.إنهم ينظرون إلى حالة ضعف المسلمين وقلة حيلتهم فيعترضون عليك لأن المستقبل غائب عن أنظارهم.إنهم لا يدرون أن الله تعالى سينزع منهم البساتين التي يملكونها والكنوز التي يتباهون بها، ويعطيها محمد ا وأصحابه.وبالفعل أنجز الله تعالى وعده هذا، ووهب المسلمين ببركة تصديقهم بمحمد ﷺ بساتين عظيمة وقصورا فخمة.فملكوا بساتين الطائف والنخلة، كما وقع في أيديهم ما كان يملكه قيصر وكسرى من خزائن ولآلئ وجواهر.وقد وقع كل ذلك بحسب ما أنبأ به الرسول.فأثناء حفر الخندق حول المدينة عند غزوة الأحزاب وجد الصحابة صخرة لم يستطيعوا كسرها.فشكوا إلى رسول الله ﷺ فأتى وأخذ المعول وضرب الصخرة بقوة، فخرجت منها شرارة، فكبّر بصوت عال، فكبّر الصحابة وراءه.ثم ضربها ضربة أخرى، فخرجت شرارة أخرى، فكبر النبي ، فكبّر الصحابة وراءه.ثم ضربها ضربة ثالثة، فخرجت منها شرارة، فكبر وكبر وراءه الصحابة، وانكسرت الصخرة.فقال الصحابة: يا رسول الله، لماذا كبرت ثلاثا أثناء ضربك الصخرة بالمعول ؟ قال : لقد رأيت عند الشرارة الأولى في حالة من الكشف قصور قيصر الرومي، ووُضعت مفاتيحها في يدي.ولما ضربت الصخرة ثانية أُريتُ قصور المدائن، ووضعت مفاتيح دولة الفرس في يدي.وعندما ضربتها للمرة الثالثة أُريتُ أبواب صنعاء، ووضعت مفاتيح دولة اليمن في يدي.فآمنوا بما يعدكم الله تعالى به، وأيقنوا بأن العدو لن يضركم شيئا، فإن الله تعالى سيهزمه، ويكتب لكم الفتح يقينا.*.ورد في الحديث: "عن البراء ابن عازب قال : أمرنا رسول الله ﷺ بحفر الخندق.قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاولُ.قال: فشكوها إلى رسول الله ، فجاء رسول الله ﷺ وقال : عوفٌ وأحسبه قال: وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال: بسم الله، فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام.والله إني لأبصر قصورها الحمرَ من مكاني هذا ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى،
الجزء السادس ٥٦٢ سورة الفرقان وبحسب هذا الوعد كتب الله للمسلمين فتوحات كثيرة، فدكوا ممالك قيصر وكسرى دكا، وأخذوا قصورهم وبساتينهم وجواهرهم وكنوزهم النادرة.وكان 28 من بين غنائم هذه الفتوحات منديل كان كسرى ملك الفرس يستعمله وهو جالس على العرش.فأعطي أبو هريرة له هذا المنديل.وذات يوم كان له مصابًا بالزكام فسعل، فأخرج منديل كسرى من جيبه وبصق فيه، ثم لم يملك نفسه وقال: بَحْ بَحْ أبو هريرة..أي ما أعظمك شأنا يا أبا هريرة فسأله بعض من حوله من المسلمين الجدد لما قلت هكذا يا أبا هريرة؟ فقال: تذكرتُ ذلك الزمن الذي كنتُ لا أجد ما أكله أيامًا، فكان يغمى عليّ من شدة الجوع، وكان الناس يظنون أنه قد أصابتني نوبة من الصرع فكانوا يضربون رأسي بالنعال وفق عادة العرب علاجًا أنه لم يكن بي صرع ولا أي مرض آخر، إنما كان وراءه الجوع الشديد.أما اليوم فببركة تصديقي للرسول تراني فيما أنا فيه، حيث أسعل في منديل كسرى ملك الفرس.(البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي وحض على اتفاق أهل العلم) وعندما خرج مع أبي بكر مهاجرًا إلى المدينة، جعل أهل مكة جائزة مئة لهذا المرض، مع النبي ناقة لمن يلقي القبض على النبي.فخرج كثير من الناس يبحثون عن النبي ﷺ طمعا في الجائزة، وكان من بينهم رئيس بدوي يدعى سراقة بن مالك.فلما رأى النبي لم يملك نفسه من شدة الفرحة ظنا منه أنه سيلقي الآن القبض على النبي ولكن الله تعالى أراد أن يُري سراقة آيةً، فلما اقترب منه كبا فرسه وسقط بسم فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس.والله إني لأُبصر المدائن وأبصرُ قصرها الأبيض من مكاني هذا.ثم قال: الله، وضرب ضربة أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن.والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا".(مسند أحمد، المجلد الرابع ص ۳۰۳).وفي رواية: "رأيناك" تكبّر فكبّرنا بتكبيرك؟ قال: إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام...إلخ ".(شرح الزرقاني على المواهب اللدنية مجلد ٢: غزوة الخندق) (المترجم)
الجزء السادس ٥٦٣ سورة الفرقان على الأرض.ويحكي سراقة قصته بنفسه بعد أن أسلم فيقول: لما كبا فرسي تفاءلت بالسهام كعادة العرب لأعرف هل أستمر في مطاردته أم لا؟ فخرج السهم يأمرني بترك مطاردته.ولكني ركبتُ الفرس ثانية طمعًا في الجائزة، وركضت وراء النبي ، ولما دنوت منه كبا فرسي ثانية وسقطتُ، ووجدت الفرس قد غاص في الرمال حتى صعب علي إخراجه.فأدركتُ أن الله مع هذا الإنسان.كنتُ خرجتُ لألقي القبض على النبي الله ولكني الآن صرتُ أسير حبّه.فتقدمت إليه بكل احترام وتواضع وقلت له: لقد جئتُ وراءكم بنية سيئة، ولكني قد تراجعتُ الآن عما أردتُ، وها أنا راجع لأني على يقين أن الله معكم.ولما هم بالعودة كشف الله على النبي ما سيقع بسراقة في المستقبل فقال له يا سراقة، كيف أنت إذا وضعت سوار كسرى الذهبية في معصمك؟ فقال سراقة في حيرة: سوار كسرى بن هرمز ملك الفرس؟ قال النبي : نعم.فرجع وقد بلغت منه الحيرة كل مبلغ.ولكن انظر إلى قدرة الله تعالى، فإن خيول المسلمين داست عاصمة كسرى بسنابكها في عهد عمر الله ووقعت كنوز كسرى في أيديهم بما فيها تلك الأسورة الذهبية المرصعة باللآليء والجواهر التي كان كسرى يلبسها وقت جلوسه على العرش.ولما جيء بها إلى عمر تذكر ما أنبأ به الرسول ، وأمر بإحضار سراقة.فلما جاءه قال له البس أسورة كسرى هذه قال سراقة: أليس لبس الذهب حرامًا على الرجال يا أمير المؤمنين قال بلى، ولكن ليس في هذه المناسبة.لقد أرى الله تعالى نبينا المصطفى الله هذه الأسورة في معصمك، فلا بد لك أن تلبسها ولو لدقيقة ليتحقق نبأ رسولنا الكريم..فأخذ سراقة السوار ووضعها في يده وهكذا رأى المسلمون هذه النبوءة العظيمة للرسول تتحقق أمام أعينهم (أسد الغابة المجلد الثاني ص ٢٦٥-٢٦٦: سراقة بن مالك، والسيرة الحلبية الجزء الثاني: باب الهجرة إلى المدينة) إذا، فإن الله تعالى قد وهب للمسلمين بساتين وقصور الجزيرة العربية والعراق والشام وفارس، وفق ما أنبأ في قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا.
الجزء السادس سورة الفرقان بيد أن هناك ظاهرًا لكل باطن.فكما أن هذه الآية تضمنت وعدًا بأن المسلمين سينالون البساتين والقصور المادية، كذلك كان فيها وعدٌ بأن الله تعالى سيهب لهم بساتين وقصورا روحانية أيضًا فتحقق هذا الوعد في ظاهره في عهد حكمهم بشكل رائع، حيث بنوا زمن ازدهارهم قصورا فخمة وبساتين عظيمة لا تزال تذكارًا لهم في الدنيا حتى اليوم.أما البساتين الروحانية فكان الله تعالى قد قال لرسوله بصددها إن هؤلاء يطالبونك اليوم ببستان خضر نضر، ولكن البستان المادي يجف ويذبل ويصبح خرابا ؛ فتارةً لا يُثمر لعدم صلاح التربة، وتارة أخرى تحف أشجاره لشح الماء، وحينًا تهاجمه الأمراض فتتلف أثماره، وحينا آخر تهب عليه العواصف فتسقط أزهاره.ولكنا سنعطيك بساتين تجري من تحتها الأنهار..أي أنها لن تحف أبدا، بل ستظل مخضرة نضرة تهيء للعيون طلاوة وللقلوب بهجة، فتكشف على العالم دوماً حقانية الإسلام وصدقك.والتدبر في القرآن يكشف لنا أن الله تعالى قد جعل نبينا مثيلا لموسى العلي حيث قال إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فَرْعَوْنَ رَسُولاً (المزمل: ١٦).فالرسول لا مثيل لموسى وأمته مثيلة للأمة الموسوية.ويتضح من دراسة القرآن الكريم أن الله تعالى قد وهب لبني إسرائيل بستانين؛ بستانا موسويًا وبستانا عيسويا، وقد أشار الله إليهما في قوله تعالى ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَحْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) كلْتَا الْجَنَّتَيْن انت أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالُهُمَا نَهَرًا) (الكهف: ٣٣- ٣٤)..أي اذكر أمامهم مثال رجلين - أي مثال المسلمين وأهل الكتاب - أعطينا أحدهما أي موسى بستانين من أعناب وجعلنا حولهما سياجًا من نخل، وجعلنا بين هذين البستانين زرعا وبالفعل قد ازدهر البستان الموسوي والبستان العيسوي ولكن كانت بينهما فترة هي بمثابة زرع حيث دمر "نبوخذنصر" اليهود وهدم وأخذهم معابدهم أسرى.فكان في هذه الفترة خطر القضاء على قوم موسى حيث كانت تماثل زرعا مهددًا بأن تأكله غنم القوم، أي أن تهجم عليه الأمم وتسلبه.معه مَثَلاً
الجزء السادس ٥٦٥ سورة الفرقان وقد أخبر الرسول ﷺ بأنه سيأتي على أمته أيضا ما أتى على هؤلاء القوم، ذلك لأن كون الرسول ﷺ مثيلا لموسى الله يتضمن إشارةً إلى أن أمته ستمرّ بمثل ال..أي أن النبي أيضا سيُعطى بستانين: أحدهما ذلك ظروف أمة موسی البستان الذي ستنتشر فيه فيوض نبوة محمد في الدنيا مباشرة بدون الاستعانة بأي مأمور آخر، ولكن عندما يصاب المسلمون بالضعف سيقيم الله تعالى فيهم مسيحا محمديا كما أقام مسيحا موسويا في أمة موسى؛ وستكون جماعة المسيح المحمدي بمثابة بستان ثان لمحمد رسول الله.بيد أن جماعته ستُدعى أمة المصطفى كما أن بستانه يسمى أيضا بستان محمد.ولكن هناك فرق وهو أن المسيح الناصري الذي وضع به الأساس للبستان الثاني (المسيحية) من الأمة الموسوية، كان نبيا مستقلا، ولكن لما كان محمد الله أفضل من موسى فالمسيح الموعود الذي يوضع به الأساس للبستان المحمدي الثاني سيكون نبيا تابعًا من أمة المصطفى ، كما أن أتباعه سيكونون ضمن أمة المصطفى.وبالفعل قد أُعطي الرسول ﷺ بستانين: بستانا بظهوره هو ، وبستانا بظهور خادمه المسيح الموعود الل.ومن الناحية المادية أيضا قد أعطي النبي ﷺ في العصر الإسلامي الأول نفس البستان الذي سبق أن أُعطي لأمة موسى الا أعني بلاد فلسطين وكشمير، وكلتا المنطقتين شهيرتان بكثرة البساتين.فعندما ذهبتُ إلى أوروبا عام ١٩٢٤م زرت فلسطين أيضًا، وذهبت من دمشق إلى بيروت بالقطار أيضًا.ولما مرّ القطار داخل بيروت رأيتُ حدائق صغيرة في كل بيت.كما رأيت في دمشق أيضا جداول وحدائق صغيرة في كل بيت ونفس الحال بالنسبة لكشمير حيث تجد البساتين في كل مكان بعضها بريّة وبعضها قد زرعها الملوك المغول.لا شك أن البستان المحمدي المادي الأول - أي كشمير – يقع حاليًا في قبضة الهندوس، والبستان المحمدي المادي الثاني - أي فلسطين أي فلسطين - يقع في قبضة اليهود ولكن الله تعالى سيرجعهما بفضله إلى محمد رسول الله ﷺ تارة أخرى، كما أن الله تعالى سيُرجع هذين البستانين إليه ﷺ من الناحية الروحانية أيضا، أعني سيجعل الله تعالى اليهود أيضا مسلمين، وسيدخلون في جماعة أتباع محمد رسول الله ، وبدلاً من أن
الجزء السادس ٥٦٦ سورة الفرقان يضطر المسلمون للهجوم على فلسطين بالمدافع والبنادق سيفتح اليهود بأنفسهم أبواب بيت المقدس للمسلمين، ويقولون أيها المسلمون نحن أيضا إخوانكم، تعالوا إلينا، مرحبا بكم.وستنضم إلينا أمة المسيح الموسوي أيضا وتدخل في الإسلام، وتصبح جزءا من البستان المحمدي.موسی الطريف في الأمر أن الناس ظلوا يزرعون البساتين ولكنها صارت للرسول في نهاية المطاف.لقد صنع موسى ال الأمة اليهودية ببذل جهد كبير، وأسكنهم في فلسطين، فوهب الله تعالى فلسطين مع أهلها لمحمد رسول الله ﷺ.ثم هاجر قوم العلم إلى كشمير فأعطى الله محمد ﷺ کشمير مع أهلها.والآن هذا البستان الذي أعده المسيح الموعود اللي هو للرسول ﷺ أيضا، حيث لا يقوم الدعاة الأحمديون بالدعوة في كل أنحاء العالم ولا يضمّون الناس إليهم إلا تحت شعار "لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يقولون لهم أبدا أن يقولوا لا إله إلا الله المسيح الموعود رسول الله"، ذلك لأنهم يدركون أن المسيح الموعود ال ليس إلا خادمًا تابعا لمحمد ، وليس بنبي مستقل، بل إن اعتباره نبيا مستقلا كفر.وهذا يعني أن الدعاة الأحمديين كلما وجدوا شجرة روحانية أتوا بها وغرسوها في بستان محمد.لقد نبتت في البستان الموسوي شجرة كبيرة واحدة اسمها داود العليا، ولكن هذه الشجرة من البستان المحمدي - أعني المسيح الموعود الله – يعلن أنني لست بشجرة داوودية وحيدة في بستان محمد فحسب، بل سيخرج من ثماري بذور كثيرة تتحول إلى أشجار داوودية كثيرة؛ وهكذا يمتلئ البستان المحمدي بآلاف الأشجار الداوودية.يقول المسيح الموعود ال في بيت شعر له بالأردية: اک شجر ھوں جس کو داؤدی صفت کے پھل لگے ميـــــس هــوا داؤد اور جالوت هے میرا شکار (براهين أحمدية، الجزء الخامس، الخزائن الروحانية المجلد ٢١ ص ١٣٣) أي أني شجرة من بستان محمد رسول الله ، وأحمل ثمارًا داوودية الصفة..بمعنى أني لست أنا داود فقط، بل سيخرج من أتباعي آلاف مثل داوود ال.
الجزء السادس ويقول الع أيضا 07V سورة الفرقان میں کبھی آدم کبھی موسی کبھی یعقوب ھوں نیز ابراهیم هوں نسلیں ہیں میری بے شمار - (المرجع السابق) أي إذا كان موسى وعيسى – عليهما السلام – يفخران بعدد بني إسرائيل، فإن الله تعالى سيهب لمحمد ﷺ بواسطتي أجيالاً كثيرة لينتشر بستان محمد ﷺ في كل شير من الأرض.لقد أرانا الله تعالى سنته هذه في زمن الرسول الا الله ، أيضًا، فنزع الأشجار التي ﷺ زرعها الآخرون وغرسها في بستانه.فمثلا نزع عكرمة الذي كان شجرة في بستان أبي جهل وزرعها في بستان محمد ﷺ كذلك كان الوليد والعاص بن وائل من كبار أعداء النبي ﷺ، فنـــزع الله خالد بن الوليد من بستان أبيه وغرسه في بستان محمد الله حتى يفتخر العالم الإسلامي كله اليوم بالمواقف البطولية لهذا القائد الباسل العظيم خالد بن الوليد.لقد كان شجرةً في بستان عدو لمحمد ، ولكنها أثمرت في بستان محمد.لقد كان من قبل ابنا لأحد رؤساء مكة، ولكن ملوك الروم والفرس أخذوا يستظلون بظله بعد أن زرع في بستان محمد.وكانت في بستان محمد أشجار أخرى قد غرسها بنفسه مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين.كان هؤلاء يجلسون في حجرة طينية صغيرة، ولكن قيصر كان يصاب في قصره بذعر شديد بسماع أسمائهم، كما كانت فرائص كسرى ترتعد خوفا منهم وهو على مسافة آلاف الأميال منهم.كذلك زرعت في البستان المحمدي شجرة الحسن البصري، وشجرة الجنيد البغدادي، وشجرة سيد عبد القادر الجيلاني، وشجرة ،شبلي، وشجرة محيي الدين يبدو أن حضرة أيضا مع ذكر خالد ة المفسر كان يريد أن يذكر هنا الصحابي الجليل عمرو بن العاص الله عنهما – ولذلك ذكر اسم العاص بن وائل والد - الوليد – رضي بن ،عمرو، ولكن فاته ذلك.والله أعلم بالصواب.(المترجم)
الجزء السادس ٥٦٨ سورة الفرقان ابن عربي، وشجرة الإمام الغزالي، وشجرة ابن القيم، وشجرة شهاب الدين السهروردي وشجرة بهاء الدين النقشبندي، وشجرة معين الدين الجشي، وشجرة سليم الـچشتي، وشجرة قطب الدين البختيار كعكي، وشجرة فريد الدين شكر غنج، وشجرة نظام الدين ،أولياء وشجرة الباقي بالله، وشجرة داتا غنج بخش، وشجرة أحمد السرهندي، وشجرة الشاه ولي الله الدهلوي، وشجرة الخواجه محمد مير ناصر وشجرة السيد أحمد البريلوي رحمة الله عليهم أجمعين.وفي الأخير ولحماية البستان المحمدي غُرست فيه شجرة المسيح الموعود ال التي أراد المسلمون لسوء حظهم أن يقطعوها لكي يجوس العدو خلال البستان المحمدي ويدمره، ولكن هذه الشجرة كانت عظيمة جدا فقالت: اے آنکه سوۓ من بدویدی بصد تبر از باغبان بـــس کـــه من شاخ مثمرم (إزالة ،أوهام الخزائن الروحانية المجلد الثالث ص ١٨١) الله أي يا من تعدو إلى حاملاً مئات الفؤوس، خَف الله صاحب البستان، لأننى غصن مثمر، ولو قطعتني سيصبح بستان محمد دون ثمار وبدون سياج.فاعلم أنك لا تحاول قطعي، بل تحاول تخريب بستان محمد.و إن الله لن يتحمل تخريب بستان محمد بل سوف يحميه يقينًا.وبالفعل قد نزل من السماء لحماية المسيح الموعود اللي.وبرغم أن المشايخ كلهم صالوا عليه كصولة رجل واحد، إلا أن الله تعالى وقف أمامه كالترس وقال : لن أسمح لأحد بتخريب بستان محمد.فأفشل هجمات المعارضين كلها.فتبارك الله الذي وهب لمحمد رسول الله ﷺ خادما مثل المسيح الموعود الذي عندما وجد بستان محمد عرضة للتخريب حتى كاد يصبح كزرع صغير، فإنه بدله إلى بستان مخضر نَضر مرة أخرى، ونشر حُماة هذا البستان في كل أنحاء العالم، لكي يذهبوا إلى كل بلد وقطر وقوم وينزعوا أشجار البستان العيسوي من كل بقعة من بقاع الأرض ويغرسوها في بستان محمد وينزعوا أشجار بستان موسى ويزرعوها في بستان محمد ، لتزرع بساتينه
الجزء السادس ٥٦٩ سورة الفرقان في كل مكان من الأرض، ولكي يوفّق بنو إسرائيل – الذين لم يُسلموا في العهد الأول للإسلام - للدخول فيه على يد هذا الموعود الأخير، وينتهي نزاع اليهودية والمسيحية للأبد، فلن يكون في العالم إلا الإسلام أو محمد ﷺ فقط.ثم يقول الله تعالى ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا..أي لا يعطيك قصرا واحدا، بل يعطيك قصورا كثيرة، أي يهب لك تلاميذ يردّون هجمات الأعداء عن حياض الإسلام، ويكشفون جماله للعالم ورد في التاريخ أنه لما توفي الجنيد البغدادي - رحمة الله عليه - حضر جنازته أحد المجاذيب من الصوفية، وأخذ يبكي ويردد الأبيات التالية: والأسفا من فراق قوم هُمُ المصابيح والحصون والمدن والمزن والرواسي والخيرُ والأمن والسكونُ لم تتغير لنـــا الليالي حتى توفّــتهـم المنـــونُ فكلُّ جَمْرٍ لنا قلوب وكل مــــــاء لنــا عـــيـونُ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي المجلد السابع: ذكر من اسمه الجنيد) أي أن الموت قد فصل عنا قوما كانوا نبراس الهدى لنا في الظلمات، وحصونًا لنا وقت المصائب، ومدنًا لنا لكونهم مجمع الفيوض والبركات، ومطرا من الأنوار الربانية والنعم الروحانية وكانوا جبالاً شامخات لعلوّ عزائمهم وصمودهم أمام عواصف المحن، وكانوا سبب خير وأمن وراحة للعالم كله.لقد هاجمنا الدهر بقلاقله بعد أن فرَّقَ الموتُ بيننا وبينهم، فقلوبنا تحترق كالجمر، وعيوننا تسيل كالماء المنهمر حزنًا على فراقهم.هذه الأبيات تبين لنا أن الإنسان الكامل أيضًا يسمى حصنًا وقصراً لأنه سبب حماية للعالمين.إذًا، فالله تعالى يقول هنا لرسوله إن هؤلاء يطالبونك بكنوز الدنيا والقصور المادية والشوكة الظاهرة، وإننا قد أعددنا لك قصورا عالية تفوق أي جعلنا لك تلاميذ أفذاذا وأولياء كبارًا سيتقدمون المسلمون دائما تصورهم.تحت رعايتهم.
الجزء السادس ۵۷۰ سورة الفرقان وقد بعث الله تعالى بحسب هذا الوعد على رأس كل مئة سنة صلحاء وأولياء وأبدالاً وأقطابًا ومجددين، فذادوا عن حياض الإسلام ضد أنواع الهجمات الداخلية والخارجية، وتعهدوا بستان محمد المصطفى كخدام متواضعين، وقضوا أعمارهم في العناية بأزهاره.وأثماره فحتى اليوم تجد في مقابر كل قرية أو مدينة إسلامية مزارا لأحد أولياء الله تعالى الذي أقام في منطقته عظمة الإسلام ومحمد ، ومتع أهلها بالبركات الإسلامية ولو أحصينا هؤلاء الأبرار لتجاوز عددهم مئات الآلاف يقينًا.ولكنك لن تجد أي ديانة في العالم اليوم يستطيع أتباعها أن يقدموا من بينهم أحدًا حظي بقرب الله تعالى عملاً بدينه، أو بعثه الله تعالى لتجديد دينه وإشاعته.وهذه الشهادة الإلهية العملية لدليل ساطع على أن الله تعالى قد تخلى عن جميع الأديان الأخرى، وقد خص الإسلام وحده لمحبته وقربه فلن يحظى الآن أحد بقرب الله تعالى إلا إذا اقتطف الثمار من بستان محمد الله ولن يختار تعالى لإصلاح خلقه إلا من يقوم بحماية بستان محمد الله الله كخادم متواضع، لأن جميع البساتين الأخرى قد جفت ويبست، فلم تعد هناك حاجة إلى أي بستاني يعتني بها، إلا بستان محمد فلا توجد الآن الأشجار الخضراء التي تحمل كل نوع من الأزهار والأثمار إلا في بستان محمد ، الذي قد أراد الله تعالى له أن يبقى مخضرا نضرا على الدوام، وأن يبعث تعالى من عنده من يعتنون به ويحمونه إلى يوم القيامة.صلے بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (3) إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (3) وَإِذَا أُلْقُواْ
الجزء السادس ۵۷۱ سورة الفرقان مِنْهَا مَكَانًا ضَيّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (3) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُواْ ثُبُورًا كَثِيرًا شرح الكلمات: زفيرا : الزفير تردُّدُ النفس حتى تنفتح الضلوع منه (المفردات).الزفير الداهية؛ وأوّلُ صوت الحمار، والشهيق آخره (الأقرب).مقرنين: قُرنت الأسارى في الحبال أي جُمعت (الأقرب).ثُبورا ثبر تُبورًا: هلك وثبر الله زيدًا أهلكه إهلاكا دائما لا ينتعش بعده.والنصب في قوله دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا على المصدر كأنهم قالوا ثَبَرنا ثبورًا (الأقرب).التفسير: يبين الله تعالى هنا أن هؤلاء لا يؤمنون بالثواب والعقاب أصلاً، وإلا لَمْ يشكّوا في غلبة محمد الله مع رؤية أحواله والآن سيرون ازدهاره ويحترقون كَمَدًا.عندما ستراهم - من مكان بعيد - الجحيم التي سيشعلها الله تعالى في قلوبهم يدركون أنه لا مهرب لهم منها.لقد نسب الله تعالى في قوله إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فِعْلَ الرؤية إلى الجحيم، ولكن المراد أنهم يرونها من مكان بعيد.وهذا الأسلوب يسمى في العربية "تقليب النسبة"، ومثاله قولنا "النهر يجري"، مع أن الماء هو الذي يجري في النهر، أو يقولون: تدور الشمس حول الأرض، مع أن الأرم أن الأرض هي التي تدور حول الشمس.فالمراد من قول الله تعالى إذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَان بَعيد سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا أنه حين تتهيأ لهم أسباب الجحيم سيدركون أن فرارهم منها مستحيل، وعندما يُلقون فيها..أي حين يلتاعون ويتحسّرون برؤية رقي المسلمين يصبحون وكأن أيديهم وأرجلهم مكبلة ولن يقووا على المقاومة، وستضيق عليهم الأرض بما رحبت فيحاولون الفرار كما حاول عكرمة الفرار إلى الحبشة عند فتح مكة (الطبري: ذكر الخبر عن فتح مكة)،
الجزء السادس ۵۷۲ سورة الفرقان ولكنهم لن يجدوا مهربا، لأنهم حيثما يذهبون يجدون المسلمين غالبين.فيدعون الله تعالى قائلين: يا رب أمتنا حتى لا نرى غلبة المسلمين، فتقول لهم ملائكة السماء: تطلبون موتًا واحدا، ولكنكم ستذوقون مونا تلو الموت..أي ستتعرضون للمزيد من العذاب وتتضايقون أكثر وأكثر ، لأن الله تعالى قد قرر أن ينال المسلمون رقيا بعد رقي، ويصاب الكافرون بضعف بعد ضعف.واعلم أن المراد من الساعة في هذه الآيات هو ساعة غلبة محمد ﷺ ونجاحه، ذلك لأن أولي العزم من الرسل كلهم يكونون بمنزلة القيامة للدنيا، إذ يأتون بنظام جديد مكان النظام السابق، ويهدمون البناء القديم ليبنوا عليه بناء جديدا، يوم القيامة وهما: هلاك أهل زمنهم من علامات وتظهر في زمنهم علامتان وإحياؤهم من جديد بشكل رائع.فتقوم القيامة على أيدي هؤلاء الأنبياء من حيث إن الله تعالى يكتب الجماعتهم الغلبة والرقي في الدنيا ويحييهم حياة جديدة، كما تقوم هذه القيامة من حيث إن الله يُهلك على أيديهم أعداءهم.فكأن الله تعالى يقيم على أيدي أنبيائه حشرًا في الدنيا، فيحيي الأموات من جهة، ويهلك الآخرين بعذابه من جهة أخرى.وهذا هو معنى القيامة في الحقيقة: أي حشر وهلاك، إذ ليست القيامة إلا أن الناس سيهلكون في يوم من الأيام، ثم يُبعثون إلى الحياة ثانية.وكلما بعث في الدنيا نبي ظهرت على يده كلتا العلامتين، حيث هلکت فئة بسببه كما أُعيدت الحياة إلى فئة أخرى.فالذين كانوا أعداء للأنبياء هلكوا كقوم، أما أتباع الرسل فتقدموا وازدهروا كشعب.إذا، فالمراد من الساعة هنا هو ذلك اليوم الذي انتصر فيه النبي والهزم الكافرون، وحين رأت الدنيا مشهدا عجيبا، فإن الذي كان يمشي في شوارع مكة وحيدا طريدا عديم الحيلة قد أصبح حاكمًا وملكا، بينما أصبح الملوك عبيدا من الناس، محكومين.ثم يقول الله تعالى وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا..أي قد أعددنا للذين يكفرون بمحمد ويستبعدون نجاحه نارًا ستحوّلهم رمادا.وقد أعد الله تعالى لهم هذه النار من حيث إن الدين الذي كانوا يسعون للقضاء عليه ليل نهار، قد دخل
الجزء السادس ۵۷۳ سورة الفرقان فيه أبناؤهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم، حتى خرج الإسلام من مكة وانتشر في أنحاء الجزيرة العربية كلها، ثم خرج منها وشاع في العالم كله.فبإمكانك تقدير مشاعر الغضب والحسرة والألم التي كانت تحرق قلوبهم وتحولها رمادًا حين كانوا يرون أبناءهم وأحفادهم يدخلون في الإسلام شاهدين أن "لا إله إلا الله محمد رسول الله".وقد أحرقت النيران قلوبهم بطريق آخر وهو أن يد القدرة الربانية القوية أخرجت كبار زعمائهم من بيوتهم إلى ميدان بدر، وأهلكتهم على يد فتية من المسلمين الذين لم تكن عندهم خبرة قتالية ولا أسلحة تذكر.حتى صار كل بيت في مكة مأتما، وانكسر العمود الفقري للكافرين كان أبو جهل قائدهم الشهير فهجم عليه ولدان أنصاريان، فأصاباه بجراح بالغة، فسقط في ميدان بدر، فاستولى الرعب على الكافرين ففروا إلى مكة تاركين وراءهم قائدهم مضرجًا بدمائه.يقول عبد الله بن مسعود : لقد رأيت بعد المعركة أبا جهل يئن من جروحه، فذهبت إليه وقلت: كيف تجدك الآن؟ قال: إني لا أحزن لموتي إذ لا بد لكل محارب من الموت في يوم من الأيام، إن ما يحزنني أن ولدين أنصاريين من المدينة صرعاني.فاعمل بي معروفا واقطَعْ رقبتي بسيفك لتنتهي معاناتي.ولكن اقطع رقبتي طويلا لأن رقاب القوّاد هكذا تُقطع.يقول ابن مسعود ه فقلت له: لن أحقق لك حسرتك هذه أيضا، بل سأقطع رقبتك قريبا من الذقن.فحزّ رأسه بالسيف السيرة الحلبية الجزء الثاني: غزوة بدر الكبرى) فترى كم كانت شديدةً تلك الجحيم التي كان أبو جهل يحترق فيها حيث قتله صبيان مدَنيان عديمي الخبرة في القتال.ثم لم تتحقق أمنيته الأخيرة قبل الموت، وقطعت رقبته قريبا من الذقن.شدة ولم تحرق هذه النار أبا جهل فحسب بل وصل لهيبها إلى كل بيت في مكة، وأحرقت كل كافر عابد للأصنام.فلقد ورد في التاريخ أن الحزن والألم قد بلغ بأهل مكة مبلغا عظيمًا، حتى فكروا أن إقامة المأتم لقتلاهم سيلطخ سمعتهم كلية.فقرر زعماؤهم بالتشاور بأن لا يقيم أحد من أهل مكة مأتما على قتلى بدر وإلا سيقاطعونه ويطردونه من بينهم ويغرمونه.علما أن العرب كانوا شعبا قَبَليًّا،
٥٧٤ سورة الفرقان الجزء السادس والمعروف أن الحمية القومية تكون على ذروتها عند الشعوب القبلية، فكان من المستحيل أن يخالفوا هذا القرار.فتوقفت الثكالى عن البكاء والحزن يفلق أكبادهن، وكبت الآباء مشاعرهم والألم يعتصر قلوبهم، وجلس الصغار واجمين دون البكاء والعويل.ذلك لأن شعبهم قد قرر أن لا يبكي أحد على قتلاه لئلا يشمت بهم محمد (ﷺ) وأصحابه، ولا يقولوا أنهم قد ألحقوا بهم هزيمة نكراء.كانت قلوبهم تحترق كمدا، وكانت صدورهم تلتهب ،نارا وكانت أكبادهم تنفلق ،حزنًا، وكان الواحد منهم يغلق على نفسه الباب ويندب موتاه بصوت خفي كي لا يطلع الآخرون على بكائه، ولكن أنى لهذا البكاء أن يجلب له السكينة.ذلك أن الإنسان إذا أصابه خطب يريد أن يعزيه غيره؛ فتحب الزوجة أن يعزيها زوجها، ويحب الأب أن يشاطره ابنه حزنه، ويحب الابن أن يواسيه أبوه في مصابه، ويود الجار أن يشترك جاره في همومه، وأن يقام هناك مأتم كبير يثير مشاعر المئات والآلاف.فكان الجميع يريدون أن يواسي بعضهم بعضا، حتى تخف صدمتهم وآلامهم، فما كان بكاء الواحد منهم في انفراد بعيدا عن أعين الآخرين يجلب له أي سكينة وسلوان ولكن القرار الذي اتخذه زعماؤهم ظل قائما ولم تزل النيران المكبوتة في صدورهم تضطرم وتضطرم.وبعد انقضاء شهر على هذا الوضع مرَّ بهم أحد المسافرين قد ماتت ناقته في الطريق، فكان يصرخ ويبكي حزنًا عليها ويقول: يا ويلتاها، يا ناقتاها.ففتح شخص عجوز باب بيته وخرج إلى الشارع، وأخذ يصرخ ويقول: تسمحون لهذا أن يبكي على موت ناقته، ولا تسمحون أن أبكي على موت اثنين من أولادي قتلا في بدر؟ وكان هتاف هذا العجوز بمثابة شرارة أضرمت النار في قلوب أهل مكة.فلم يبال أحد منهم بالقانون ولا القرار ولا بالتهديد بالمقاطعة الاجتماعية، وفتح الجميع فأخذت نساؤهم وأطفالهم يبكون ويندبون موتاهم في شوارع مكة.مكة.(السيرة النبوية: الجزء الثاني : غزوة بدر نواح قريش على قتلاهم) كانت مخيفة هذه النيران التي شوت أكباد أعداء الرسول ﷺ، وكسرت أبوابهم، كم شوكتهم وهيبتهم ورعبهم !
الجزء السادس OVO سورة الفرقان وقد أعد الله تعالى هذه النار للكافرين بشكل آخر، وذلك أن الإسلام جاء بشرع متكامل جامع، وكان الكفار محرومين كلية من أي شرع مثله.وعندما كانوا يرون البون الشاسع بين دينهم والإسلام كانوا يحترقون كمدا ويقولون: لا يوجد في ديننا أي شيء يُذكر ليت عندنا مثل تعليم الإسلام لنفتخر به.فقد ورد أن يهوديا جاء عمر الله وقال : لو أنزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يوم نزولها عيدا يعني قول الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.فقال له عمر ه: كان لنا يوم نزول هذه الآية عيدان: يوم الجمعة ويوم الحج (الترمذي: أبواب التفسير سورة المائدة.وهناك رواية تشير إلى أن حادثا مماثلا حدث مع ابن عباس، فأجاب نفس الجواب.(المرجع السابق) مجمل القول إن الكافرين حين يرون شمولية تعاليم الإسلام فلا يملكون إلا أن يحترقوا حسدًا وعداءً وحسرةً.وهذه النيران نفسها تحرق أعداء الإسلام اليوم أيضًا.وعلى سبيل المثال لو قال يهودي لبعض المسيحيين اليوم: أليس إلهك الذي ألبسناه إكليلا من الشوك وعلقناه على الصليب ذليلاً مهانًا؟ فبوسع المرء أن يقدر النيران التي ستشتعل في قلب هذا المسيحي والآلام التي سيقاسيها كذلك عندما ينكشف على عبدة الأصنام عَجْزُها فإنهم يلعنون أنفسهم ويقولون كيف نسجد أمام هذه الأصنام ونحن أشرف المخلوقات وهي جماد محض.كذلك حين يقرأ المسلم في القرآن الكريم أن الذين يؤمنون بالله تتنزل عليهم الملائكة ويُشرفهم الله تعالى بكلامه، فلا بد وأن يقفز قلبه فرحًا بأن طاعته لأحكام الإسلام ستجعله مقربا لدى الله تعالى.ولكن المؤمن بكتاب الفيدا الهندوسي حين يعلم بقراءة كتابه بأن الله لن
الجزء السادس ٥٧٦ سورة الفرقان يشرفه بكلامه أبدًا، فلا بد أن يصاب بإحباط شديد ويقول في نفسه: لماذا لا يكلمني الله تعالى كما كان يكلم "الريشيين" * ؟ لماذا يعاملني كما يعامل أحد ربيبه؟ ونفس الحال بالنسبة لعقيدة الفداء المسيحية وعقيدة "نيوك" الهندوسية، فإنهم يتعرضون لحرج وندم شديدين كلما انتقدناهما خلال المناظرات، حيث تستيقن قلوبهم بفضل تعاليم الإسلام وإن لم يعترفوا بذلك بأفواههم.وقد أشار الله تعالى إلى حالة قلوبهم في مكان آخر من القرآن الكريم حيث قال رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلَمينَ) (الحجر:٣)..أي يقول الكافرون مرارا بكل حسرة: يا ليتهم كانوا من المؤمنين بهذه الأحكام حتى لا يتعرضوا للندامة التي تلازمهم دائما.وعندما تحيط بهم المشاكل بشأن الطلاق والخلع وزواج الأرامل وتقسيم الإرث وغيرها من القضايا ويعانون من المفاسد المدنية والاجتماعية، فلا يملكون إلا أن يعترفوا بفضل تعاليم الإسلام.كان السيد وليام ميور عدوا لدودًا للإسلام، ولكنه يكتب بكل حسرة وهو يتحدث حول إمكانية المقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس: "إن المقارنة بين كتاب المسلمين غير المحرّف وبين النسخ المختلفة لأسفارنا تماثل المقارنة بين شيئين لا مماثلة بينهما.558.The Life Of Mahomet, p) قصارى القول إن الله تعالى قد أعد للذين يكفرون بتعاليم الرسول محمد ﷺ نارا يحرقهم لهيبها كل حين.وكلما يرون رقيًا جديدًا للإسلام تزداد هذه النار في قلوبهم اشتعالا وحرقة.الريشيون هم أربع شخصيات نزل عليها كتاب الهندوس "الفيدا" في بداية الكون اعتقادهم.(المترجم) "نیوگ تعليم هندوسي يأمر الزوج غير القادر على إنجاب الأولاد الذكور أن يبعث زوجته إلى أحد البراهمة – وهم رجال دينهم – ليباشر زوجته حتى تلد له الأولاد الذكور، وعلى الهندوسي أن يدفع نفقات الأكل والشرب للبرهمن في تلك الفترة.(المترجم)
الجزء السادس ۵۷۷ سورة الفرقان قُلْ أَذَالِكَ خَيْرُ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ هُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا (3) هُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَلِدِينَ ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولاً * ۱۷ التفسير: أي قل لهؤلاء الكافرين: هل مصيركم هذا أفضل أم تلك الجنة التي وعد المتقون والتي تكون لهم مصيرًا وجزاء أو فى؟ إنهم سوف ينالون في تلك الجنة كل ما يشاؤون وسيعيشون فيها للأبد.وهذا وعد لهم من الله ولن يُخلف أبدا.إن كل شخص عنده إلمام بسيط بتاريخ الإسلام يعرف كيف تحقق هذا الوعد بشكل رائع، وكيف أن الجزيرة العربية وبلاد فارس والروم والشام ومصر لم تستطع الصمود أمام صولة الإسلام، بل وقعت تحت سيطرته في سنوات قليلة.وكيف أن العمال الكادحين صاروا ملوكا للعالم ببركة كونهم خدامًا لمحمد.ثم تمكنوا من إقامة النظام الذي أراده الإسلام للعالم.لم يكن عبدة الأصنام في مكة يسمحون للمسلمين بعبادة الله علنا في أوائل الإسلام، فكانوا يصلون خفية، ويتصل بعضهم ببعض سرًّا.لم تكن لهم حرّيّةٌ لتعلم الدين ونشره، بل لو جاء إلى مكة أحد ممن يبحث عن الحق لوجد صعوبة بالغة في الوصول إلى الرسول ، إذ كان الكافرون لا يدلونه على بيته.ومع ذلك صار المسلمون حكاما وملوكا على العالم حتى خافت حكومات ودول كبيرة في العالم.فكان المسلم يفعل ما يشاء، ولم يكن بوسع أحد أن يحول دون إرادته.ذلك لأن المسلمين كانوا هم القوة الفعالة في ذلك الزمن وكان زمام الدنيا في أيديهم ولكن المسلمين للأسف الشديد فقدوا هذه الجنة لسوء أعمالهم فيما بعد، وصاروا أذلاء مهانين.لقد ظنوا أنهم قد وهبوا هذه الجنة للأبد لمجرد أنهم يدّعون أنهم مسلمون، مع أن الله تعالى حيثما وعدهم بالجنة جعل وعده مشروطا بالإيمان والعمل الصالح، بل لقد قال الله تعالى هنا أيضا كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولاً، مؤكدًا أنه مجرد وعد وهو مشروط
الجزء السادس ۵۷۸ سورة الفرقان بإيمانكم وعملكم الصالح؛ فلو لم تكونوا مؤمنين و لم تعملوا الصالحات ألغيناه.وقد أكد الله هذا الأمر أيضا في قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فأوضح للمسلمين بقوله إن شاء أنهم سينالون هذه الجنات بلا ريب ولكن لن ينالوها كحق لهم أو لن ينالوها بقوتهم، وإنما ينالونها وفق مشيئة الله تعالى، أي أنه تعالى إذا رأى أن أعمالهم جديرة بتلقي هذا الإنعام فسينعم به عليهم.ولكنه إذا وجدها غير صالحة لتلقي هذا الإنعام، فسينزعه منهم.وبالفعل ترى أن المسلمين ما داموا ثابتين على الإيمان والعمل الصالح، وهبهم الله نعما عظيمة، فحكموا العالم لقرون.ولكنهم لما نسوا حب تعالى وانغمسوا في الملذات، قطع الله صلته هذه الجنات.بهم وحرمهم من فالشيء الأساس الذي يجب الاهتمام به هو الإيمان والعمل الصالح.ولو أن المسلمين غيّروا ما بأنفسهم اليوم وأطاعوا الله ورسوله حق الطاعة، لجعلهم وارثين لهذه النعم مرةً أخرى كما ورثها المسلمون الأولون، وسيدخلهم الجنة التي طُردوا منها بسبب عصيانهم.الله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ وَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبِيلَ (3) قَالُوا سُبْحَنَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَعْتَهُمْ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (3) فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقَهُ عَذَابًا كَبِيرًا )
الجزء السادس شرح الكلمات : ۵۷۹ سورة الفرقان بُوراً : البور : الرجل الفاسد والهالك لا خير فيه بلفظ واحد مع الجميع، يقال: امرأةٌ بُورٌ وقومٌ بور (الأقرب).التفسير: أي أن الكافرين عندما يُحشرون يوم القيامة مع آلهتهم سيسأل الله تعالى هذه الآلهة: أأنتم أضللتم عبادي أم أنهم قد ضلّوا بأنفسهم؟ فيقولون له: سبحانك يا رب، كيف يمكن أن نتخذ أولياء وآلهة من دونك.لقد متعت هؤلاء وآباءهم بنعم الدنيا وأموالها بكثرة حتى نسوا هديك وصاروا من الهالكين.فيقال للمشركين، لقد كذبتكم آلهتكم فيما تقولون، فلن تنجوا من العذاب اليوم ولن تتلقوا أي نصرة من أحد وتذكروا أن الظالم يعذَّب عذابا شديدا.واعلم أن المراد من الآلهة الزائفة المذكورة في هذه الآية هو رسل الله الذين اتخذتهم أممهم فيما بعد شركاء الله بسبب جهلها، وأخذت تعبدهم.مثلما حصل مع المسيح الناصري الليل، فبرغم أنه لم يزل طيلة عمره يسمي نفسه ابن الإنسان، ولكن المسيحيين جعلوه ابنا لله تعالى، وعرضوا على العالم عقيدة ألوهيته.كذلك الهندوس يعبدون "راما" و"كرشنا"، مع أن كليهما كانا من رسل الله الأطهار الذين بعثوا في الهند لهداية الشعب الهندوسي.ويندرج في قائمة هؤلاء الآلهة المزعومة حضرة سيد عبد القادر الجيلاني حيث يتوسل إليه أهل الطريقة القادرية لحاجاتهم، ويظنون أنه كان يحيي الموتى، وقد أشاعوا بهذا الصدد خرافات سخيفة بين الجاهلين.فيقولون مثلا أن بعض مريديه أقام له مأدبة وطبخ له ديكا.ولما فرغ من الطعام جاءت إحدى جارات مريديه وقالت له: سيدي، إن مريدك قد أطعمك لحم ديك لي جاء به إلى بيته فذبحه.قال لها لا تحزني، اجمعي عظام الديك.فجمعت العظام، فأخذها في يده وضغطها، فتحولت العظام ديكا فأخذته المرأة ورجعت إلى بيتها مسرورة.وكذلك يقولون أن أحد مريديه جاءه ذات يوم وقال سيدي، إن ابني مريض، يصيح.رحمه الله - فادع له بالشفاء.فقال: سندعو وسوف يشفى ولكن ابنه مات.فرجع إلى السيد
01.سورة الفرقان الجزء السادس عبد القادر الجيلاني وقال له: سيدي لقد مات ابني! قال: هل مات؟ هل بلغت الجرأة بعزرائيل أنه بدأ يخالف أوامري؟ ثم أخذ عصاه وبدأ يصعد إلى السماء.فكان عزرائيل في الأمام والسيد عبد القادر وراءه حاملا عصاه، وأدركه قبيل دخوله في السماء، وضربه بعصاه، فأصيب عزرائيل في رجله وصار أعرج.وانتزع السيد عبد القادر منه كيس الأرواح التي قبضها في ذلك اليوم.وفتح فم الكيس، فعادت الحياة إلى جميع تلك الأرواح.فحضر عزرائيل إلى الله تعالى باكيا وقال: رب، قد ذهبتُ لأنفذ أوامرك، ولكن عبد القادر الجيلاني ضربني بالعصا، وانتزع مني كيس الأرواح، وحرّرها كلها.فماذا أفعل الآن؟ أرجوك أن تبعث غيري لهذه المهمة.وإنه لم يحرر مني روح ابن مريده فقط، بل أطلق جميع الأرواح التي قبضتها اليوم.فقال الله لعزرائيل: اسكت، لو سمع عبد القادر قولك، فإنه سيحرر أرواح الأولين والآخرين كلهم، ولن أستطيع أن أفعل حياله شيئًا! فالله تعالى يبين هنا أنه سيجمع كل هؤلاء الشركاء مع من يعبدهم، وإتماما للحجة على المجرمين سيسأل شركاءهم هل أنتم علّمتموهم الشرك؟ فيقولون: سبحانك ربنا ما يكون لنا أن نقول لهم ما ليس لنا ،بحق، إنما أمرناهم أن يعبدوك وحدك، ولكن طال عليهم الزمن، فنسوا ما علمناهم واتخذونا شركاء معك، مع أننا بريئون من عقائدهم هذه.وهذا ما أكده المسيح الناصري اللي أيضا في الإنجيل حيث قال: كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا؟ وباسمك أخرجنا شياطين؟ وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: أني لم أعرفكم قط.اذهبوا عني يا فاعلي الإثم." (متى ٧: ۲۲-۲۳) ۱: " وكذلك ورد عن المسيح ال: واجتاز في مُدن وقرى يعلّم ويسافر نحو أورشليم.فقال له واحد يا سيدي، أقليل هم الذين يخلصون؟ فقال لهم: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق، فإني أقول لكم: إن كثيرين سيطلبون أن يدخلوا ولا يقدرون.من بعد ما يكون ربُّ البيت قد قام وأغلق الباب وابتدأتم تقفون خارجًا وتقرعون الباب قائلين: يا رب،
الجزء السادس ۵۸۱ سورة الفرقان يا رب، افتح لنا، يجيب ويقول لكم لا أعرفكم؛ من أين أنتم؟ حينئذ تبتدئون تقولون : أكلنا قدامك وشربنا، وعلّمت في شوارعنا فيقول أقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم.هنالك يكون البكاء وصرير الأسنان" (لوقا ۱۳: ۲۲-۲۸).لقد أشار المسيح الا هنا إلى أن الذين يتبعونه بالاسم فقط كثيرون، ولكن الذين ينالون النجاة قليلون.سأقول لهم يوم القيامة صراحة: أيها الآثمون، ابتعدوا كلكم.أنا لا أعرفكم مطلقًا.إذا، فحين يكشف الآلهة الباطلة للمشركين حقيقة الأمر سينكشف عليهم عني بطلان عقائدهم، فيدركون أنهم قد ارتكبوا إنما عظيمًا بإشراكهم بالله تعالى.لقد اتضح من هذه الآيات أن الأمم إذا طال عليهم الزمن وابتعدوا عن عصر أنبيائهم وانغمسوا في ملذات الدنيا ومتعها، تسربت إليهم مساوئ كثيرة بالتدريج، وأكبر هذه المفاسد خطاً عَقدي، حيث يُغالون في حب رسلهم الذين أتوا لهدايتهم ويشر كونهم بالله تعالى.وهذا الشرك يكون علانية في بعض الأحيان، ومثاله ما فعل المسيحيون بالمسيح فقالوا إنه إله، وأخذوا يقولون بأزلية الإله الأب وأزلية الإله الابن وأزلية الروح القدس.وأحيانًا يتخذ الناس قبور صلحائهم مسجدًا وسيتوسلون إليهم ويدعونهم لحاجاتهم، وبالتالي يشركونهم بالله تعالى.ومثاله ما يفعل بعض المسلمين في هذه الأيام، حيث يعقدون أعراسًا سنوية على مقابر كبار صلحاء الأمة، وآلاف منهم يسجدون على قبورهم ويسألونهم حاجاتهم.كل هذه الأمور إشراك بالله تعالى وتثير غضبه.ولكن المؤمن الحق يتمسك بتوحيد الله الخالص ويتجنب كل نوع من الأفكار والأعمال الوثنية.
الجزء السادس ۵۸۲ سورة الفرقان وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ * وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (3) التفسير: لقد بيّن الله تعالى هنا أن أنبياءه الذين يتخذهم الناس شركاء معه تعالى ليسوا في غنى عن الحاجات البشرية.إنهم بحاجة للطعام والشرب مثلهم، ويمشون في الأسواق مثلهم، ويشترون حاجاتهم مثلهم.فما بال هؤلاء القوم يتخذون بشرا مثلهم آلهة ويتوسلون إليهم ويدعونهم لحاجاتهم؟ وكأن الله تعالى يبين هنا أنه لا بد للإله أن يكون متصفا بصفة الصمدية، أي أن لا يكون محتاجًا لأحد بينما يكون الجميع محتاجين إليه.بينما كان جميع هذه الآلهة الباطلة بحاجة إلى الأكل والشرب وكانوا محتاجين إلى تعاون الآخرين من أجل أسباب معيشتهم.فهل من العقل أن يتخذ هؤلاء شركاء مع الله تعالى مع أنهم جاؤوا بأجساد فانية، وقد افترسهم الموت بالفعل، وإن أحوالهم تدل أنهم كانوا بشرا مثل أناس آخرين.لا شك أنهم كانوا رسل الله تعالى، ولكن إشراكهم بالله تعالى إثم كبير.إن أكبر فتنة في هذا العصر هى فتنة المسيحية حيث دفعت معظم أهل الدنيا إلى الشرك باعتبارها المسيح إلها.ولكن دراسة الإنجيل تكشف لنا بكل جلاء أن المسيح العلي كان محتاجا إلى الطعام كغيره من البشر.فقد ورد في الإنجيل: "أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس، وكان يُقتاد بالروح في البرية أربعين يوما يجرَّب من إبليس، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام.ولما تــمت جاع أخيرًا".(لوقا ٤: ١-٢).وبرغم أن المسيحيين قد كتبوا هنا على سبيل المبالغة أن المسيح الا لم يأكل شيئا أربعين يوما إلا أنه لا بد لهم من الاعتراف بأنه جاع بعد أربعين يوما، وأراد أن يأكل شيئًا؛ الأمر الذي يدل على احتياجه.
الجزء السادس عليها ۵۸۳ سورة الفرقان ثم ورد: "وفي الغد لما خرجوا من بيت عَنْيا جاعَ، فنظر شجرة تين من بعيد ورق، وجاء لعله يجد فيها شيئًا.فلما جاء إليها لم يجد شيئًا إلا ورقا لأنه لم يكن وقت التين.فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد.وكان تلاميذه يسمعون." (مرقس ١١: ١٢-١٤) لقد ثبت من هذه الفقرة أيضا أن المسيح اللي كان يشعر بالجوع كما يشعر به باقي البشر.فجاع ذات مرة، فلم يجد شيئا.فذهب إلى شجرة تين لعله يجد عليها ثمرا يأكله ولكنه نسي لسوء حظه أن الموسم ليس موسم ثمر التين.فرجع من عندها وقد خاب ظنه.ولما كان يتأذى من شدة الجوع فغضب على خيبة أمله، ودعا على الشجرة بأن لا يأكل منها أحد في المستقبل.إن هذه الواقعة أيضا تُبطل ألوهية المسيح اللي لأنها لا تؤكد أنه كان يشعر بالجوع كغيره من البشر فقط، بل تثبت أيضا أنه كان لا يعلم الموسم الذي تثمر فيه شجرة التين، دَعْك أن يعلم الغيب.لو كان يعلم الغيب لما سارع إلى الشجرة في الأيام التي لا تحمل فيها أشجار التين ثمارا.ثم لم يكن من المعقول أن يدعو على تلك الشجرة، لأن الخطأ كان خطأه لا خطأ الشجرة.إن المسيحيين يتشدقون كثيرا بأن الله عادل، ولكن عدل إلههم عجيب؛ فقد ارتكب الخطأ بنفسه ومع ذلك أخذ يدعو على الشجرة! ثم ورد في الإنجيل: "وبينما هو متكئ في البيت إذا عَشارون وخطاة كثيرون قد جاءوا واتكأوا مع يسوع وتلاميذه.فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟" (متى ٩: ١٠-١١) فترى أن هذه الفقرة أيضًا صريحة في أن المسيح كان يأكل الطعام.ثم يقول المسيح الا عن نفسه: "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكولٌ وشِرِّيبُ حمر محب للعشارين والخطاة.والحكمة تبرّرت مــــن بنيها." (متی ۱۱: ۱۹) كذلك ورد: "ولما كان المساء انكاً مع الاثني عشر.وفيما هم يأكلون قــــال: الحق أقول لكم: إن واحدًا منكم يسلّمني.فحزنوا جدًّا، وابتدأ كل واحد منهم
الجزء السادس ٥٨٤ سورة الفرقان يقول له: هل أنا هو يا ربُّ؟ فأجاب وقال: الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلّمني.إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويلٌ لذلك الرجــــل الذي به يسلَّم ابنُ الإنسان.كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد.فأجاب يهـــوذا مُسلّمُه وقال: هل أنا هو يا سيدي؟ قال له: أنت قلت.وفيما هم يأكلون أخــــذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا، هذا هو جــــــدي.وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلُّكم، لأن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديـــــدًا في ملكوت أبي".(متى ٢٦: ٢٠-٢٩) هذه الفقرة أيضًا تدل دلالة واضحة على أن المسيح اللي كان يأكل الطعام مع حوارييه، بل في بعض الأحيان قد أكل هو وتلاميذه من إناء واحد.كذلك الذي ورد أن المسيح اللي لما ظهر على تلاميذه بعد حادثة الصليب قال لهم: "أعندكم ههنا طعام؟ فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل.فأخذ وأكل قدامهم".(لوقا ٢٤: ٤١-٤٣) لقد تبين من هذه الفقرات كلها أن المسيح ال كان يشعر بالجوع كما يشعر به سائر البشر ، وكان يأكل الطعام كما كان يأكل تلاميذه وغيرهم من البشر.بل إنه سأل تلاميذه بعد حادثة الصليب أن يعطوه بعض الطعام، فقدموا له قطعة سمك فأكل أمام تلاميذه.ثم يخبرنا الإنجيل أن المسيح كان يمشي في الأسواق ويعلم الناس دينهم.فبين لهم ذات مرة أن النجاة متوقفة على التضحية والعمل، فقال: "حينئذ تبتدئون وتقولون: أكلنا قدامك وشربنا، وعلّمت في شوارعنا، فيقول : أقول لكم: لا أعرفكم من أين أنتم.تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم." (لوقا ١٣: ٢٦-٢٧) كما ورد أيضا: "وحيثما دخل إلى قرى أو مدن أو ضياع وضعوا المرضى في الأسواق وطلبوا إليه أن يلمسوا ولو هُدْبَ ثوبه.وكلُّ مَن لمسه شفي "(مرقس ٦ : ٥٦)
الجزء السادس ٥٨٥ سورة الفرقان إذًا، فإن المسيح الي الذي يتخذ شريكا مع الله تعالى في ألوهيته يؤكد الإنجيل أنه كان بحاجة إلى الأكل والشرب كغيره من البشر، وكان يمشي في الأسواق قط لم كغيره من البشر.ونفس الحال بالنسبة لجميع الأنبياء الآخرين.لم يُبعث نبي یكن بحاجة إلى الأكل والشرب.فكيف يجوز اعتبار أي واحد منهم إلها؟ كما أن هذه الآية ترد على قول الكافرين ضد الرسول ﷺ إذ قالوا مَال هَذَا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشي في الأسواق، حيث بين الله تعالى أن جميع الأنبياء السابقين كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، فكيف يصح اعتراضكم ضد محمد ؟ إنما يصح اعتراضكم لو وجد في محمد ما يخالف سنة الأنبياء والرسل السابقين، ولكنه ما دام سائرًا على نهجهم وسنتهم فاعتراضهم عليه دليل على أنهم لا يؤمنون بالأنبياء السابقين في الواقع.ثم يقول الله تعالى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتنة..أي على المسلمين أن لا يضيقوا ذرعا من معارضة المعارضين ومطاعنهم، لأن الله تعالى يميز من خلال الابتلاءات بين الصحيح والزائف ففي زمن الأنبياء يترك الأب ابنه عادة، والابن أباه، ويترك الزوج زوجته والزوجة زوجها، ويترك الأخ أخته والأخت أخاها، وهكذا يصبح بعضهم اختبارًا لبعض في دينهم.ثم إن هذا الاختبار لا ينحصر في العائلات فقط، بل كل القوم يمرون بهذا الاختبار، ويصبح الكافرون ابتلاء للمؤمنين والمؤمنون للكافرين.فلما بعث النبي اختبر الصحابة بسبب إيمانهم بنار من البلايا والمحن من جهة، ومن جهة أخرى قد كشفت هذه المعارضة عيوب المعارضين التي كانت خافية من قبل.فلولا بعثة النبي ﷺ لما تجلت على الدنيا محاسن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضوان الله عليهم أجمعين – كما لم تنكشف على الناس مثالب أبي جهل وعتبة وشيبة.إنما هو ذلك الاختبار الذي أظهر على الناس مواهب الصحابة، كما كشف عليهم ما كان عند الكافرين من مرض الجذام الروحاني.ولو لم يُبعث النبي لال لقال الناس إن أبا الحكم كان سيدا حكيمًا وداهية من دواهي مكة، وكان أبو بكر أحد التجار الأمناء الشرفاء من مكة، ولكن نيران المعارضة حوّلت الصحابة كالذهب الخالص، كما أزالت ما كان على الكافرين من
الجزء السادس ٥٨٦ سورة الفرقان لمعان زائف وأثبتت أنهم ليسوا ذهبًا خالصا بل هم كالنحاس.إذا، فكان الصحابة اختبارًا للكافرين، كما كان الكافرون اختبارا للصحابة.ثم يبين الله تعالى للمسلمين أنه لا بد لهم من أن يتمسكوا بالإيمان بصبر وثبات لكي تتجلى عظمتهم على الناس.يجب أن لا يخافوا الاختبارات فيظنوا أنها ستهلكهم لو استمرت على هذا المنوال.كلا بل إن الله تعالى البصير يبصر أحوالهم كلها، ويعلم أنها لن تقضي عليهم، بل تزيدهم قوة على قوتهم.وهذا المعنى قد بينه حضرة الشيخ روم – رحمة الله عليه – في بيت شعر له هو: هر بلا کیں قوم را حق داده است زیر آن گنج کرم بنهاده است (مثنوي مولوي رومي ص ۱۱۳) أي أن كل اختبار يأتي على الجماعات الإلهية ينطوي على كنز كبير من رحمة الله تعالى، ويزيدها قوة وازدهاراً.فترى كيف صب رؤساء مكة على النبي ظلمًا عظيمًا، ولكن هذا الاضطهاد نفسه أحدث ثورة في أصحاب الطبائع السعيدة من أهل مكة، فوصلوا إلى باب محمد سابحين في أنهار من الدماء، وانقادوا له في طاعة كاملة.ولولا الابتلاءات فلربما لم يخرج صوت الإسلام من حدود مكة، ولكن الابتلاءات تسببت في وصول صوته إلى كل شبر من الجزيرة العربية.إذا، فالابتلاءات أهم ركيزة للرقي القومي؛ إذ لم يأت نبي قط لم تمر جماعته بالاختبارات.بل يقول القرآن الكريم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة: ٢١٥)..أي قد أصابتهم المحن والشدائد حتى زُلزلوا كلية حتى خرّ الرسول وعباد الله المؤمنون كلهم ساجدين تعالى يدعونه ويسألونه متى ينزل نصره؟ فاستجاب الله دعاءهم، فنزل نصر الله من السماء وجعلهم غالبين.
الجزء السادس ۵۸۷ سورة الفرقان فعلى المرء أن لا يخاف الابتلاءات وإنما علينا أن نعتبرها من أهم دواعي رقي الجماعة وازدهارها ونستنزل نصر الله وعونه تعالى بالبكاء والابتهال وبصالح الأعمال.قلے وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَبِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوا كَبِيرًا (3) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِبِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَبِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا تَحْجُورًا (3) وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْتَهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ٢٤ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ يَوْمَبِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (3) شرح الكلمات : ۲۵ حجرًا محجورًا حجره منَعه (الأقرب).وفي "المفردات" عن قوله تعالى حجرًا مَحْجُورًا: "كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك.فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنَّا أن ذلك ينفعهم." هباء: الهباء: الغبار أو يشبه الدخانَ وهو ما ينبث في ضوء الشمس؛ ودقاق التراب ساطعةً ومنثورة على وجه الأرض (الأقرب) مقيلاً: قال يقيل مقيلا: نامَ في القائلة أي نصف النهار.وقال فلان قيلاً: شرب في نصف النهار.(الأقرب) والمقيل: موضع القيلولة.(المفردات) التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن الذين لا يرجون لقاءنا أو لا يخافون عقابنا وعذابنا يتصرفون بشكل غريب فتارة يقولون: لماذا لا نرى الملائكة، وتارة أخرى
الجزء السادس ۵۸۸ سورة الفرقان يقولون: لماذا لا نرى ربنا؟ إن هؤلاء الأغبياء لا يرون مدى سوئهم وخبثهم، ويتجاسرون على هذه المطالبات مستكبرين.علما أن الرجاء يعني الأمل عادة، ولكنه يعني الخوف أيضا.كما أن اللقاء يعني المقابلة والحرب أيضًا (انظر أقرب الموارد).وعليه فقوله تعالى الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لقَاءَنَا يمكن أن يفسر بمفهومين؛ أي الذين لا يأملون لقاءنا، أو الذين لا يخافون عقابنا.ذلك أن من الناس من إذا أملته استعد للعمل بكل شوق ورغبة، ومنهم من لا يعمل إلا إذا خوفته.وبالنظر إلى هذين النوعين من الناس قال الله تعالى هنا وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لقَاءَنَا...أي أن هؤلاء القوم لم ينتفعوا، للأسف، بما وعدناهم من جوائز وبركات كما لم يغيروا ما بأنفسهم خوفا من تهديد العذاب، بل ظلوا يقولون أن هذا الرسول إذا كان حقًا فلم لم تنزل الملائكة علينا، أو لم لم نحظ برؤية الله تعالى؟ لقد اختلف المفسرون في بيان معنى قوله تعالى القَاءَنَا ، فقال بعضهم إن معناه أنهم لا يكترثون لعذاب الله تعالى ولا يخافونه وقال بعضهم معناه أنهم لا يأملون في رؤية البارئ، أو أنهم لا يرجون من الله جزاء خيرا (فتح البيان).ولكن الحق أن اللقاء مرتبة روحانية يتبوءها من يتبع الإسلام حقا.أما رؤية البارئ فإنما المراد منها أن يحظى المرء بجلوة ربانية وهو شيء مؤقت، بينما اللقاء اسم لمقام ثابت إذ يعني أن المرء قد وجد الله تعالى.ولذلك تسمى الرؤية حالاً، واللقاء مقامًا ثابتا في اصطلاح الصوفية.والحق أن هذا هو الشيء المميز بين الإسلام وغيره من الأديان إن الديانات الأخرى إنما تعد أتباعها بوصال الله تعالى يوم القيامة، ولكن القرآن الكريم يرفض هذه النظرية معلنًا أن بإمكان الإنسان أن يتبوء مقام لقاء الله تعالى وهو في هذه الدنيا أيضًا، بل لقد ركز القرآن الكريم على ذلك تركيرًا شديدًا فقال وَمَنْ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)) (الإسراء: (۷۳)..أي أن الذي لم تتيسر له معرفة الله تعالى ولم يره بعيون قلبه كَانَ في هذه الدنيا، فلن يستطيع رؤيته يوم القيامة كذلك، وسيكون أشد الناس ضلالا.
الجزء السادس ۵۸۹ سورة الفرقان ويقول الله تعالى أيضًا كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ (المطففين : ١٦)..أي أن الكافرين سيمنعون من أن يأتوا أمام الله تعالى بمعنى أنهم لن يحظوا برؤيته إذ كانوا محرومين منها في الدنيا.بينما يعلن القرآن الكريم عن المؤمنين (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا ناظرة (القيامة: ٢٣-٢٤)..أي أن المؤمنين حين يحضرون عند ربهم تعلو وجوههم نضرة وبشاشة وجمال لأنهم يرون ربهم.يرجو كما بين القرآن الكريم أهمية لقاء البارئ في الدنيا فقال إن الذين لا لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (يونس: (۸-۹.أي أن الذين ليس عندهم لوعة للقاء الله تعالى، وإنما رضوا بالحياة الدنيا مطمئنين بها والذين هم غافلون عن آياتنا، هي سيكون مصيرهم جهنم.لقد تبين من هنا أن القرآن الكريم يعد لقاء الله جوهر الروحانية ولب الإسلام، ويوضح أن الذين ينكرون لقاء الله تعالى ويقولون أن باب لقائه مسدود الآن، سنعاقبهم وتلقيهم في جهنم ولكن المؤسف أن المسلمين أيضا قد أخذوا يقولون في هذا العصر أن باب كلام الله تعالى ووحيه مسدود ،الآن، ومن المحال الآن أن يوجد في أمة المصطفى من يرتقي في الروحانية بحيث يكلمه الله تعالى.مع أن هذه القضية الجوهرية التي تؤكد فضل الإسلام على الديانات الأخرى، أما القضايا الأخرى فيمكن لأهل الأديان الأخرى أن يقدموا شيئا بصددها عند التحدي، كما فعل السحرة مع موسى العلي حين ألقوا حبالهم عند المواجهة؛ فلا شك أن السحرة فشلوا والهزموا، ولكنهم جاؤوا بشيء على الأقل.كذلك فإن أهل الديانات الأخرى يقدمون حول المسائل الأخرى شيئا ضد الإسلام، وإن كان ما يقدمونه خطأ، ولكن فيما يتعلق بلقاء الله تعالى فليس بوسع أي دين أن يباري الإسلام في هذا المضمار ذلك لأنهم لو ادعوا ذلك لم يجدوا بدا من الاعتراف بإمكانية لقاء الله تعالى في هذه الدنيا أيضا، ولكنهم لا يستطيعون أن يقدموا على ذلك مثالاً حيًّا من دينهم، وبالتالي لا
الجزء السادس ۵۹۰ سورة الفرقان بد لهم من الاعتراف بفضل الإسلام الذي لا يدعي بلقاء الله تعالى فحسب، بل يبرهن على ذلك بالأمثلة الحية.فهروبًا من الخزي والهوان يقول أهل الديانات الأخرى أنه من المستحيل أن يحظى أحد من ديانتهم أو من الإسلام بلقاء الله في الدنيا.إنهم لا يقولون إن لقاء الله تعالى ممكن في ديانتنا ومحال في ديانتكم، لأنهم يدركون أنهم لو ادعوا بذلك فلن يستطيعوا أن يبرهنوا عليه.أما وكيف يتيسر لقاء الله تعالى للإنسان، فقد بين القرآن الكريم قاعدة أساسية بهذا الصدد فقال يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه (الانشقاق:)..أي أيها الإنسان، إن طريق لقاء الله تعالى مفتوح أمامك في كل حين بشرط أن تكدح لذلك.والكدح هو: "جهد النفس في العمل والكدُّ فيه يؤثر فيها" (الأقرب).وهكذا فقد أوضح الله تعالى أن على المرء أن لا يظن خطأ أن بوسعه إحراز الكمال في الروحانية بمجرد إيمانه، بل لا بد له من الكفاح المتواصل حتى ولا مناص له من المرور بنيران التضحيات، وعندها ستتيسر له نعمة لقاء الله تعالى.باختصار، إن الله تعالى قد بين في هذه الآيات أن أكبر سبب لجسارة الكافرين هو إنكارهم للقاء الله تعالى، إذ لا يوجد في قلوبهم الحب الله تعالى ولا الخوف من عذابه.قبل ثم ذكر الله تعالى مطالبتهم بأنه إذا كان محمد (ﷺ) صادقًا فلم لا تنـــزل عليهم أيضا ملائكة الله، أو لم لا يرون ربهم بعيونهم.وقد سبق أن اعترضوا من بأنه لو كان رسولاً حقاً فكان ينبغي أن تكون له جنة مليئة بالفواكه والثمار كبرهان على صدق دعواه.وهذا يدل على أن الكافرين يرون أنه لا بد لمعرفة صدق أي نبي من أمرين اثنين: أن يكون عنده الغلبة المادية، وأن يأتي بأمور محيرة سنة الله الجارية.وبما أنهم لم يروا هذين الأمرين في النبي ، إذ لم تتعارض مع يجدوا عنده كنوزا، ولم يروا منه شيئًا خارقا لسنة الله الجارية ولا ما يفوق قدرة البشر، فكانوا يسخرون من دعواه فردَّ الله تعالى على مطاعنهم بقوله لقد اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوا كَبِيرًا..أي أنهم يظنون أن هذين الأمرين..أي رؤية الله ونزول الملائكة..أمر مستحيل، وأنهم قد تمادوا في شرورهم، بمعنى أنهم
الجزء السادس ۰۹۱ سورة رة الفرقان يقولون بأفواههم أن محمدا ( كذاب وعدو للقوم ، ولكن الواقع أنهم يظنون في أنفسهم أنه من المستحيل أن يصل قومنا إلى المقام الذي يدعي محمد أنه سيأخذهم إليه.وبتعبير آخر، إنهم يقولون في الظاهر أنهم لا يعارضونه إلا لأنه خائن للشعب = ولأنه يدعو إلى عبادة الإله الواحد بدلاً من عبادة آلهتنا، ولكن الواقع أنهم لا يعارضونه إلا لأنهم يظنون في قرارة أنفسهم أنهم يرون ما يدعيه محمد (ﷺ) أمرًا مستحيلاً، وبسبب هذا القنوط يعادونه ولا يجدون في أنفسهم شجاعة لتقديم التضحيات التي يجب أن يقدموها معه.أما مطالبتهم بأن تأتيهم أيضًا الملائكة فيقول الله تعالى إن عليهم أن يعلموا أن ملائكتنا لا تنزل إلا بالوحي أو بالعذاب للكافرين.أما الوحي فلا يستحقونه، وأما العذاب فإنه عندما يحل بهم فسيقولون ربنا اكشف عنا العذاب، أو سيحاولون الفرار منه عبثا وكأنه تعالى يعلن هنا أن نزول الملائكة لن ينفعهم، بل سيؤدي إلى هلاكهم ودمارهم وليعلموا أن عذابنا لا يأتي بدون سبب؛ وسننزله بهم لأنهم يريدون القضاء على الحق، ولن نسمح لهم بذلك أبدًا.فكلما سعوا للهجوم على الحق والصدق سندمرهم ،تدميرا ونجعلهم هباء منثورا، ونسحقهم سحقا، حتى لن يقدر أصدقاؤهم وأعوانهم على جمع ذراتهم وعلى النقيض سنبوء المؤمنين أرفع المقامات وأسماها، وستكون أماكن قيلولتهم رائعة..بمعنى أن ما ينجزونه في الصباح سيهيئ لهم راحة مريحة وقت الظهيرة وأن ما يقدمونه من تضحيات ستؤدي إلى نزول بركات الله ونعمه عليهم وعلى أجيالهم لزمن طويل.وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَيمِ وَنُزِّلَ الْمَلَتَبِكَةُ تَنزِيلاً (3) で ٢٦ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَدِرِينَ عَسِيرًا وَيَوْمَ ۲۷ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَنلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً
الجزء السادس ۲۸ ۵۹۲ سورة الفرقان يَنوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (3) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ ۲۹ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَنُ لِلْإِنسَنِ خَدُولاً ) شرح الكلمات: خذولا : حذَله ترك نصرته وإعانته (الأقرب).فالخذول: من يترك صاحبه ولا ينصره.التفسير : لقد بين الله تعالى هنا تفصيل العذاب المقدر في السماء للكافرين؟ وبما أنهم قالوا من قبل لو أن هذا الرسول كان صادقًا فلم لا تنزل الملائكة علينا كما فأجابهم الله تعالى هنا أنه سيأتي يوم تتنزل فيه الملائكة، ولكن ذلك اليوم يزعم، الله لن يكون يوم فرحة لهم، بل يكون يوم ندامة وحسرة لهم، لأن الملائكة تنزل لإهلاكم.إنهم يقولون اليوم بكل جسارة أين الملائكة التي يتحدث عنها محمد (ﷺ) كل يوم؟ فلتنزل هذه الملائكة علينا أيضًا حتى نعلم أنه صادق فيما يقول؛ ولكنها إذا نزلت سيقولون بكل حسرة، ليتهم لم يطلع عليهم ذلك اليوم ويكونون في منجاة من تلك البلايا والآفات.فقال الله تعالى ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ...أي سيأتي يوم تنشق السماء فيه.وانشقاق السماء يعني نزول العذاب ونزول الرحمة أيضًا.يقول الله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (الأنبياء: ٣١)..أي أما يفكر الكافرون في أن السماوات والأرض كانتا مغلقتين، فما كانت البركات الإلهية تنزل من السماء ولا كانت الطاقات الكامنة في الأرض تظهر، فشققناهما ببعثة محمد ﷺ، وأحيينا بوحينا كل شيء.فالمراد من انشقاق السماء هنا نـزول مطر الرحمة الإلهية.بينما قال الله تعالى في موضع آخر (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَذَا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)) (مريم: ۹۱-۹۲)..أي قرب أن تنشق السماوات وتنشق الأرض وتتمزق الجبال لأن المسيحيين قد اتخذوا الله ولدًا.فانشقاق السماء هنا هو نزول البلايا والآفات والعذاب الشديد
الجزء السادس من ۵۹۳ سورة الفرقان السماء.وانشقاق السماء في الآية التي هي قيد التفسير أيضًا يعني نزول عذاب الله تعالى، إذ يقول الله تعالى بعد ذلك فورًا وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عسيراً ؛ فلو كان انشقاق السماء هنا نزول رحمة الله تعالى ما ذكر الله تعالى هنا فشل الكافرين وحسرتهم.أي وأكبر علامات ذلك اليوم التي ذكرها الله تعالى هي أولاً: ظهور الغيوم نزول المطر الغزير وثانيًا: نزول ملائكة الله بكثرة لعذاب الكافرين، وثالثًا: أن لله تعالى، وأن الكافرين سيصرخون يومئذ لما يحل بهم من 6 الحكومة يومئذ ستصبح هلاك ودمار.وبالفعل قد حل هذا العذاب بأهل مكة يوم بدر كما تؤكد الوقائع التاريخية، وقد سماه القرآن الكريم (يَوْمَ الْفُرْقَانِ)) (الأنفال: ٤٢).فهو اليوم الذي أخرج الله تعالى فيه صناديد مكة إلى معركة بدر وأهلكهم على يد حفنة من المسلمين الضعفاء.فقد ورد أن النبي الله لما علم أن رؤساء مكة مثل عتبة وشيبة وأبي جهل وعقبة بن المعيط وأمية بن خلف والنضر بن الحارث قد وصلوا إلى بدر، قال لأصحابه: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذَ كبدها" (السيرة النبوية الجزء الثاني: رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب).وبلغ جيش الكافرين وادي بدر قبل المسلمين، فاختاروا لأنفسهم أرضًا صلبة مستوية ذات ماء وكلأ، فاضطر المسلمون للنزول في أرض رملية لم يوجد فيها ماء ولا كلاً للمواشي.وقد اختار الكافرون لأنفسهم أرضًا صلبة ليسهل عليهم التحرك خلال المعركة، وتركوا للمسلمين أرضا رملية لتغوص أقدامهم في الرمال أثناء الحرب، فيصعب عليهم القتال.ولكن الله تعالى الذي كان أنبأ من قبل وقال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ قلب الوضع بالليل تماما حيث هطلت أمطار غزيرة، فجمع المسلمون الماء في الحفر، وأكبر ما نفعهم المطر هو أنه حوّل الأرض الرملية صلبة متماسكة، وصيّر الميدان الصلب الذي اختاره الكافرون زلقا، فصعب عليهم وعلى خيلهم الثبات عليه بسهولة أثناء القتال.ثم إن الله تعالى أنزل ملائكته لنصرة المسلمين حسبما أنبأ به النبي بوحيه من قبل حيث قال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفِ مِنَ
الجزء السادس ٥٩٤ سورة الفرقان الْمَلائِكَة مُردفِينَ) (الأنفال : ١٠)..أي تذكروا ذلك الوقت الذي كنتم تدعون الله تعالى بإلحاح أن ينصركم من السماء، فاستجاب دعاءكم وبشركم بأنه سيؤيدكم بألف من الملائكة التي تأتيكم فوجًا بعد فوج.ولما كان عدد جيش الكافرين أيضا ألف مقاتل بشر الله تعالى المسلمين بنزول ألف ملك.ويبدو من هذا العدد أن هذه الملائكة كانت تلك التي تكون مع البشر في كل وقت.فلما تمت المواجهة بين أصحاب النبي الذين كان عددهم ۳۱۳ فقط ولم تكن عندهم عدة وعتاد وخبرة قتالية ألقى الله تعالى في قلب كل كافر الرعب بأنه سيُقتل في هذه الحرب.بل إن بعض الكافرين قد رأوا هؤلاء الملائكة بالفعل كما ورد في بعض الروايات.ذلك أنهم لما فروا من القتال ورماهم الناس بالجبن قالوا وما يدريكم ما الذي حدث معنا؟ لقد رأينا في القتال محاربين غريبين راكبين متون خيول بيضاء بلقاء، وكانت بأيديهم السيوف، وكلُّ من ضربوه صار قطعتين.فلم نحارب أناسًا بل حاربنا جنَّا.إذًا، فقد هزم الكفار رغم كثرة العدد والعتاد بسبب هذا التأييد الذي نزل للمسلمين على شكل الملائكة.ثم إن الملائكة قد نزلت بشكل آخر أيضًا، وهو أنه لما بدأ القتال خر النبي ﷺ ساجدًا على عتبة الله تعالى يدعوه ويبتهل إليه وبعد دعاء طويل رفع رأسه من السجود وخرج من خيمته وحثا حثوة من الرمل والأحجار ورماها إلى الكافرين بقوة وقال في حماس شديد: "شاهت الوجوه"..أي اسودت وجوه الأعداء.ثم أمر المسلمين بشن الهجوم دفعة واحدة.وبمجرد أن رمى النبي هذه الحثوة من التراب أخذت الرياح تجري بشدة بأمر الله تعالى فدخلت الرمال في أعين الكفار وأفواههم، فلاذوا بالفرار، وخلت ساحة القتال في وقت قصير جدا.ولما رآهم النبي هاربين قال: إنه كان جيشا من الملائكة التي أنزلها الله تعالى لنصرتنا.(البخاري كتاب المغازي واقعات بدر، والسيرة النبوية الجزء الثاني: غزوة بدر).وقد أشار القرآن الكريم في موضع منه إلى هذه الآية التي أظهرها الله تعالى عندها فقال وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكنَّ اللهَ رَمَى (الأنفال:١٨)..أي يا محمد، لما رميت حثوة من الرمال والأحجار ناحية الكافرين فلم ترمها أنت بل نحن رميناها.
الجزء السادس ۵۹۵ سورة الفرقان وأما الصحابة فقال الله تعالى عنهم فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ (الأنفال : ١٨)..﴾ أي لا شك أن أيديكم وسيوفكم هي التي قتلت الكافرين في الظاهر، ولكنكم تعلمون، كما يعلم الناس أيضًا، أنكم لم تكونوا قادرين على الصمود أمام ذلك الجيش الكبير، إذ كنتم أقل منهم قوة وعتادًا وخبرة، ومع ذلك انتصرتم عليهم، حتى قتلتم كبار قوادهم.وما كان ذلك إلا لأن نصرة الله تعالى كانت تساندكم، ولأن فوجًا من الملائكة كان يؤيدكم.الله ثم يقول الله تعالى بعد ذلك الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ للرَّحْمَنِ..أي عندها سيُرى الملك بالفعل في يد الرحمن، إذ سيتحقق في ذلك اليوم ما أنبأ الله به قبل سنوات عديدة في مكة حين قال كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَه لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَة نَاصِيَة كَاذبة حَاطة (العلق : ۱٦-۱۷).أي أن الكافرين إذا لم ينتهوا عن عداء الإسلام، وظلوا يضطهدون ويجرون في شوارع مكة أصحاب الرسول..الذين تظل جباههم ساجدة على العتبة الربانية كل حين فليعلم هؤلاء الكافرون أننا أيضًا سنجرهم من نواصيهم الكاذبة الخاطئة بكل شدة.وبالفعل لما قتل أبو جهل وغيره من صناديد قريش في معركة بدر على يد المسلمين شر قتلة، أخذوا أخذوا من نواصيهم وأُلقوا في قليب بدر، وصار عَبَدةُ اللات ومناة وهُبل هدفًا لسيف الغضب الإلهي.ثم يقول الله تعالى ﴿وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا.وبالفعل ترى أنه قد قتل عتبة وشيبة والوليد بيد حمزة وعلي – رضي الله عنهما – ووقعوا صرعى في ميدان بدر مضرجين بالدماء حتى قبل أن تبدأ المعركة الحقيقية.وبعد أن انتهت الحرب هرب الكافرون تاركين وراءهم أبا جهل الذي قال بكل حسرة: "لو غيرُ أَكَّار قتلني" (البخاري، كتاب المغازي: باب شهود الملائكة بدرًا)..أي ليتني لم يقتلني فلاح.ذلك لأن اثنين من أولاد الأنصار قد انقضا على أبي جهل بمجرد أن بدأت الحرب، فألقياه جريحًا.ولما كان أهل مكة يحتقرون الأنصار لكونهم أهل زراعة وباعة فواكه وخضار، فلذا قال أبو جهل بكل :حسرة ليت شخصا معززا قتله.ولم يقتلني ولدان للفلاحين!
الجزء السادس = ٥٩٦ سورة الفرقان إذا ما حدث بالكفار كان كارثة كبيرة أرغمت أنوفهم وكسرت كبرياءهم.كما كان هذا تحقيقا جليًّا لنبوءة لإشعياء النبي حيث ورد: 28011 من جهة بلاد العرب.في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدَّدَانيين.هاتوا الماء لملاقاة العطشان يا سكَانَ أرض تيماء، وافُوا الهارب بخبزه، فإنهم من أمام السيوف قد هربوا من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة، ومن أمام شدة الحرب.فإنه هكذا قال لي السيد: في مُدّة سَنة كسنة الأجير يفنى كـــل مجـــد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدارَ تَقِلُّ، لأن الرب إلهَ إسرائيل قد تكلم".(إشعياء ۲۱: ۱۳-۱۷) الواقع أن إشعياء النبي قد أنبأ هنا عن غزوة بدر حيث قال إنه بعد انقضاء سنة واحدة بعد الهجرة إلى المدينة ستنشب حرب في العرب تقضي على كل شوكة لقيدار وعظمتهم، فيولون الدبر من ساحة القتال.وهذا ما حدث بالفعل، حيث لاذ الكافرون بالفرار تاركين وراءهم جثث كبار رؤسائهم واستولى رعب المسلمين على كل العرب.ثم بعد ذلك يذكر الله تعالى أسباب هذا الدمار، مبينًا أن الإنسان يهلك بسبب أصحابه.إنه يتفاخر بأصدقائه دائمًا، ولكن حين تواجهه مصيبة يقول يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذ فلانا خليلاً لَقَدْ أَضَلَّني.ومن أجل ذلك يوصي الله تعالى المؤمنين خاصة ويقول كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:١١٩).والحق أنه لمن المستحيل أن يعيش الإنسان بدون أن يتأثر فيمن حوله.فلو اختار للصداقة أناسا ذوي أخلاق حميدة وذوي طموحات سامية فلا بد أن يسعى هو الآخر لتدارك أخطائه ويتحلى بالتدريج بالأخلاق الفاضلة ولكنه لو اختار لصداقته أناسًا سيئين فلن يأخذوه إلى الطريق السوي، بل سيدفعونه إلى انحطاط خلقي.كان هناك طالب في الكلية الحكومية بمدينة لاهور، وكان من أتباع الديانة السيخية، ولكنه كان يكن الاحترام والحب لسيدنا المسيح الموعود الل.فأرسل إلى حضرته ذات مرة أنه كان مؤمنا بالله إيمانًا ،راسحًا، ولكنه منذ فترة بدأت الشكوك تساوره حول وجود الله تعالى، فطلب من حضرته العلي الدعاء ليزيل الله
الجزء السادس يبدو ۵۹۷ سورة الفرقان تعالى تلك الوساوس والشبهات.فأرسل إليه سيدنا المسيح الموعود اللة وقال: أن بعض أصحابك يحمل أفكارًا ملحدة، وهي التي تولد فيك هذه الشبهات.فعليك أن تغير مكانك في الصف.فغيّر مكانه فتخلص من تلك الوساوس بعد فترة تلقائيا.(حقائق الفرقان مجلد ۳ ص ٣٢٠) من هنا يمكن أن يقدر المرء مدى التأثير الضار الذي يتركه على المرء أصدقاؤه سيئو السيرة.ولذلك كان الرسول الله الله يكثر من الاستغفار إذا جلس في مجلس حتى لا يتأثر قلبه المطهر من أي تيار فكري سيء.ثم يذكر الله تعالى أن الكافر سيقول لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي.به والمراد من الذكر هنا القرآن الكريم، لأن الله تعالى قد أنزله لكي يعمل الناس.كما أن الله تعالى قد سمى القرآن الكريم الذكر حيث قال تعالى إنَّا نَحْنُ نَزِلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ١٠)، وأيضًا قال تعالى (وَهَذَا ذَكَرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكَرُونَ) (الأنبياء: (٥)..أي أن هذا القرآن صحيفة نصح وتذكير قد جمع مزايا الصحف السابقة كلها، وأننا قد أنزلناه لحكم معينة، أفأنتم تنكرون هذا الكتاب العظيم؟ وأيضًا قال الله تعالى أيضًا وَإِنَّهُ لَذَكْرٌ لَكَ وَلَقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف:٤٥)..أي أن القرآن الكريم مدعاة شرف لك ولقومك، بمعنى أن الذين يعملون به سيكتب الله تعالى لهم عزا وشرفًا.وأيضا قال الله تعالى في آخر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتيه الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكيم حميد (فصلت: ٤٢-٤٣)..أي أن الذين كفروا بالقرآن الكريم، مع أنه كتاب معزز جدا، إنما يرتكبون الانتحار.إنه الكتاب الذي لا يمكن أن يهاجمه الباطل من أمامه ولا من خلفه، وأنه قد نزل الله عند من ذي الحكمة العظيمة والمحامد الكثيرة.فمن أعرض عن هذا الكتاب العظيم المبارك الذي هو مدعاة لشرف الإنسانية والذي لم تقدر العلوم السابقة ولا المعارف الحديثة على إبطال أي شيء منه، فلا شك أنه يهلك نفسه بيده.لقد أنزل الله تعالى هذا الكتاب ليقرأه الناس ويتعلموه ويعلموه أهلهم وأولادهم، ثم ينشروا علومه في العالم باستمرار حتى يقوم ملكوت الله في كل شبر من الأرض، موضع
الجزء السادس ۵۹۸ سورة الفرقان ويصل اسمه ورسالته الا الله إلى الأسود والأحمر.إن الذين يتخذون هذا الكتاب دستوراً للعمل سينالون العزة في الدنيا، ويرثون أفضال الله تعالى في الآخرة.أما الذين يرمونه وراء ظهورهم سيلعنون عند حلول العذاب أصدقاءهم وزملاءهم السوء الذين أضلوهم؛ ولكن لن ينفعهم عندها الندم ولا الأسف، ولن ينقذهم لعنهم على الأصدقاء من العذاب لأنهم هم المسؤولون عن مآلهم لا غيرهم.وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَتِ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا (3) شرح الكلمات : ۳۱ مهجورا هجره أعرض عنه (الأقرب).والهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب، وقوله تعالى إِنْ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا فهذا هجر بالقلب (المفردات).النبي التفسير : أي سيقول الرسول الله يوم القيامة متأسفا: يا رب إن قومي قد تركوا هذا القرآن كلية، وألقوه وراء ظهورهم.إنها كلمة وجيزة، ولكنها مليئة بالألم وكلما قرأتها ارتعد قلبي هولاً.فترى أن لا يقول هنا: "يا رب إن قومي اتخذوا القرآن مهجورا ، بل يقول يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا.فكلمة (هذا)) تدل على شدة حزنه أسفه حيث يقول: رب لقد أعطيت قومي كتابًا عظيمًا مباركا منقطع النظير، ولكن قومي تركوا هذا الكتاب العظيم أيضًا.الناس لا يتركون قرشًا واحدًا، ولكنهم تركوا هذا القرآن وأعرضوا عنه، مع أن متاع الدنيا كله لا يساوي أمام هذا القرآن شيئا.وبالغ واعلم أنه مما لا شك فيه أن المراد من قَوْمي هنا أولئك القوم الذين لم يصدقوا النبي ﷺ زمن بعثته، ولكن هذه الكلمة تشمل أيضا مسلمي هذا العصر الذين تركوا العمل بالقرآن ،كلية رغم انتمائهم إلى أمته..إن هذا القرآن الذي جاء لهدايتهم، والذي قال الله تعالى عنه إنه أنزله ليأخذهم إلى الدرجات العلى،
الجزء السادس ۵۹۹ سورة الفرقان فإنهم يستعملونه بطريق مشين جدًّا، حيث لا يسمع أحدهم ولا يقرأ كلمة واحدة من القرآن في حياته، ولكنهم يُسمعونه القرآن إذا مات مع أنه لن يُسأل بعد الموت كم مرة ختم الناس القرآن على قبرك إنما يُسأل هل عملت بهذا القرآن أم لا؟ ومن استعمالاتهم المشينة للقرآن الكريم أنهم يحلفون به كذبًا ليأكلوا أموال الناس ويهضموا حقوقهم.ومن سوء استعمالهم للقرآن الكريم ما يفعله بعض المشايخ.فإنه إذا مات أحد الناس يحضر أهله بالمصحف إلى جماعة من المشايخ الذين قد حضروا في بيته وجلسوا في شكل حلقة، فيأخذ أحدهم المصحف ويناوله للآخر قائلاً للميت: لقد وهبت لك هذا القرآن وهم يظنون أن هذا سيؤدي إلى سقوط ذنوب الميت وغفرانه! والحق أن هذا لا يحط أي ذنب من ذنوب الميت، وإنما يحبط إيمان هؤلاء المشايخ وأقارب الميت.ومن استعمالاتهم السخيفة للقرآن الكريم أن بعض المشايخ يشتري المصاحف من السوق بثمن رخيص، ثم إذا أتاه أقارب الميت لشراء المصاحف للقيام بالبدعة التي قد أشرتُ إليها أعلاه، يطالبهم بسعر عال جدا، فيقولون له: ليس المصحف غاليًا لهذا الحد، فيقول له الشيخ: هل يمكن أن يُشترى القرآن بثمن قليل؛ ألم تعلم أن الله تعالى قد نهى عن ذلك في قوله ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً)) (البقرة: ٤٢)؛ فكيف يمكن أن نأخذ ثمنا قليلاً للقرآن الكريم.ولكن هذا الشيخ الجاهل لا يعلم أن القرآن الكريم قد صرح وقال مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (النساء: ۷۸)، فكيف يجوز بيع القرآن ثَمَنا الكريم مقابل مال الدنيا ومتاعها؟ الواقع أن قوله تعالى ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي أن لا تشتروا بآياتي متاع الدنيا، وليس المراد أن لا تأخذوا ثمنًا قليلاً قليلا إنما يعني عند بيع المصاحف.ومن استعمالاتهم السخيفة للقرآن الكريم أنهم يغلّفونه في غلاف ثمين جميل، ثم يعلّقونه على الجدار في البيت.أو يعلّقونه في العنق لكي يظن الناس أنهم من أهل الصلاح والورع حيث لا يفارقه القرآن في أي وقت.
الجزء السادس ٦٠٠ سورة الفرقان مجمل القول إن ما تراه اليوم من الوضع ينطبق عليه قول البعض: "لقد أصبح المسلم في القبر والإسلام في الكتاب فقط." فآثار الإسلام موجودة في القرآن الكريم وكتب الأحاديث الصحيحة أو كتب الأئمة، ولكنها لا توجد في حياة المسلمين.فإن ٧٥% منهم لا يصلون.أما الزكاة فلا يؤديها إلا قليلون منهم؛ وهؤلاء القلة أيضًا لا يؤدونها عن طيب خاطر إلا اثنين بالمئة منهم ثم لا يحجون إذا وجب عليهم الحج.أما الذين ليس الحج فرضا عليهم، أو لا يجوز لهم أن يحجوا لبعض الظروف، فيذهبون هناك للحج ليهينوا أنفسهم ويفضحوا الإسلام أيضًا.أما معاني الصلاة فلا يعلمها ربما أكثر من أربعة بالمئة من المسلمين خارج البلاد الناطقة بالعربية.وهذه الصلاة التى يؤدونها بدون فهم وإدراك لمعانيها فأيضًا يؤدونها في عجلة بحيث لا يستطيع المرء أن يميز بين سجودهم وركوعهم.ويعتبرون دعاء المرء بلسانه في الصلاة كفرًا.أما الصيام فكثير منهم لا يصومون بتاتا.ومن صام منهم يمتنع عن قول الزور والغيبة وبالتالي يجعل صومه سببًا للعذاب بدلاً من الثواب.لقد نسوا أحكام الإرث تماما.وأما الربا الذي عدّه الله تعالى حربًا ضده، فقد احتالوا في تعريفة بمساندة المشايخ وبشتى الحيل والأعذار بحيث ربما لا يوجد أحد يتورط في التعامل الربوي.أما الأخلاق الفاضلة التي كانت تعتبر في الماضى إرثًا وحقا للمسلم، فقد تباعد عنها المسلمون كبعد الكفر عن الإسلام.كان قول المسلم في الماضي يُعَدُّ كتابةً لا تتبدل، وكان وعده قانونًا لا يتغير، أما اليوم فلا ء هو أكثر زوراً من قول المسلم، ولا شيء هو أكثر زيفا من وعده.شيء منهم لا لا و لم يحل هذا الدمار بالمسلمين في أعمالهم وعقائدهم إلا لأنهم تركوا القرآن الكريم ولا يعملون به ولو أنهم عملوا بالقرآن الكريم لصاروا كالصحابة غالبين على العالم كله ولما بقى في الدنيا أثر للكفر والشيطان.لقد نصحتُ أفراد جماعتنا مرارا وتكرارًا بعقد دروس القرآن في كل فرع من فروعها بدون انقطاع، ولكنهم، للأسف الشديد لم يهتموا بذلك كما ينبغي، مع أن في القرآن الكريم بركات كثيرة حتى إن الرسول سيشكو إلى الله تعالى يوم القيامة، ويقول: يا رب كيف أسى على قومي الذين قد بلغتهم رسالتك المفعمة
الجزء السادس ٦٠١ سورة الفرقان بالحب، ولكنهم عوضا عن أن يفرحوا ويبتهجوا ويكونوا شاكرين لك، ويهتز كل وتر من أوتار قلوبهم، وتنحني رؤوسهم لدى سماع هذه البشرى حبًا وإخلاصا، قد اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا، وقالوا لا حاجة بنا إليه ! لا جرم أن الدنيا العمياء لا تزال تعامل رسالة الله تعالى هكذا، لأنها لا تعرف عظمة الله وعظمة رسوله، فلتفعل ما تشاء؛ وإنما أسأل المؤمن الذي يؤمن بأن الله موجود، ويعرف أن كلام الله عظيم ويدرك أن كلامه مع العبد سواء بطريق مباشر أو غير مباشر لنعمة عظيمة، كيف لا يلبي نداء الله تعالى حين يسمع كلامه، وكيف لا يتولد في قلبه شوق وحماس للعمل برسالته تعالى؛ مع أن كل كلمة وكل لفظ وكل حرف من القرآن الكريم من باء بسم الله إلى سين وَالنَّاسِ ينطوي على رسالة الله تعالى إلى الناس، وهو يبلغ من القوة بحيث لو أن المسلمين استجابوا لرسالة الله تعالى وفتحوا قلوبهم لطاعته، لتحسنت دنياهم الآن أيضًا.وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِي عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (3) ۳۲ التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن معارضة النبي ليست بأمر غريب، إذ لم ﷺ يأت في الدنيا نبي قط لم يتعرض لمعارضة ولم يدخر أعداؤه وسعًا في القضاء عليه، ولكن التاريخ شاهد على أنه لم ينجح إلا النبي وأتباعه رغم معارضة المعارضين، أما أعداؤهم فهلكوا وبادوا مهما بلغوا من القوة والشوكة.وهذه قاعدة كلية لا نجد فيها أي استثناء في العالم.فلا يمكن لأحد أن يقول أن آدم لم ينتصر على أعدائه، أو أن نوحا لم ينجح ضد خصومه، أو أن إبراهيم لم ينجح في مهمته، أو أن موسى لم يتغلب على أعدائه، أو أن عيسى لم ينتصر على اليهود، أو أن محمدًا لم يكن لقد غالبًا على خصومه.الشيطان على الجماعات الإلهية في عصر كل واحد من هؤلاء الأنبياء بكل ما أوتي من قوه وعتاد، وحاول محو الحق بكل طريق شرير، هجم
الجزء السادس ٦٠٢ سورة الفرقان ولكن لم يحدث قط أن هُزم أي من هؤلاء وانتصر الشيطان.لا شك أن الأعداء قد هددوا أنبياءهم وقالوا لَنُحْرِ جَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنَا (إبراهيم: ١٤)، حتى قيل لهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (يس:١٩)، ولكن رغم هذا التهديد، بل ورغم تنفيذ هذا التهديد، لم تر الدنيا إلا مشهدًا واحدًا دائمًا، وهو أنها وجدت الكفر ملقى على الأرض والحق واقف بجانبه يبستم منتصرا.والواقع أن معارضة الأنبياء هي من أهم الوسائل الخفية التي يوسع الله تعالى بها نطاق رسالته.فعندما تهب عاصفة المعارضة تقع بين الناس هزة، فيقول أصحاب الفطرة الطاهرة في أنفسهم ماذا يقول صاحب هذه الدعوة، ولماذا يلقى المعارضة؟ وعندما يتحرون الأمر يشرح الله تعالى صدروهم لقبول الحق، فيؤمنون به.فثبت أن المعارضة وسيلة قوية لإيصال صوت الأنبياء إلى آذان القوم.والمتنبئون الكذابون يكونون محرومين تماما من هذه الوسيلة لا شك أنهم أيضًا يدعون دعاوي غريبة، ولكن الناس لا يكترثون لهم، بل يعتبرون دعواهم ضربًا من الجنون فحسب.إن هؤلاء المفترين يتمنون أحيانًا أن يعارضهم الناس حتى يتحدث عنهم كل صغير وكبير ويذيع صيتهم بين القوم، ولكن لا أحد يلتفت إليهم، فيعيشون في زاوية الخمول ويموتون في زاوية الخمول.ولكن الله تعالى إذا بعث أحدًا من عنده انبرى لمعارضته كل القوم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وقويهم وضعيفهم، وكل واحد من القوم يطلق إليه سهامه ظنًا منه أنه يعمل عملاً يثاب عليه، ولكن هذه المعارضة نفسها تهز ذوي الفطرة السعيدة في الأخير هزَّا، وتوصلهم إلى باب الله تعالى.ألم تر أن المعارضة الشديدة من قبل أهل مكة هي التي نشرت الإسلام في الحبشة.وهي التي أوصلت رسالة الإسلام إلى المدينة المنورة.وهي التي دفعت أولاد كبار أعداء الإسلام من مكة وإخوانهم وأقاربهم إلى أحضان الإسلام، فأخذوا يفدون الرسول ﷺ بأرواحهم.وبرغم أن المكيين قد اتخذوهم عرضة لصنوف التعذيب، حتى جروهم على أرض ذات أحجار وألقوهم في الرمال المحرقة في الشمس، وكبلوا أيدي المسلمين وأرجلهم بالأصفاد، وأخرجوهم من ديارهم
الجزء السادس ٦٠٣ سورة الفرقان وأوطانهم، وقتلوا المسلمات طعنًا في فروجهن، وقتلوا بعض المسلمين بربط إحدى رجليه ببعير ورجله الأخرى ببعير آخر، ثم ساقوهما في جهتين متعاكستين، ومع ذلك ظل هؤلاء القوم هائمين حول الرسول ﷺ كالفراش ويضحون بأرواحهم من أجله.فرغم أن الشيطان عدو للحق منذ الأزل، ويسعى جاهدًا للقضاء عليه، ولكنه يصبح وسيلة لانتشار الحق في واقع الأمر، ويتسبب في وصول التائهين في الضلال إلى العتبة الإلهية.ولذلك عزا الله تعالى هذا التدبير إلى نفسه فقال جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ﴾ (الأنعام: ۱۱۳)، موضحًا أنه قد خلَق لَمّة الشيطان عن قصد ولحكمة بالغة.ولما كان الوارد أن من يعترض أحد ويقول: لماذا يبعث الله عباده المحبوبين لهداية الناس، ثم يسلط عليهم أعداءهم كالكلاب المسعورة؟ فأجاب الله عن ذلك وقال وَكَفَى بِرَبِّكَ هَاديًا وَنَصِيرًا..أي أن ربك كاف لهداية الناس ولنصرة أنبيائه نصرا معجزا.بمعنى أنه مما لا شك فيه أن المعارضة مدعاة للاعتراض في الظاهر، ولكنها هي التي تصبح في نهاية المطاف دليلاً على أن الله تعالى هاد ونصير.فإذا اشتدت المعارضة ازدهرت الجماعة الإلهية أيضًا، واذا ازدادت المعارضة ازداد معها التأييد الإلهى والنصرة الربانية أيضًا.ولذلك كلما كان بعض أتباع سيدنا المسيح الموعود يشتكي إليه باشتداد المعارضة في منطقته كان يقول له: هذا دليل على رقي جماعتكم، لأنه حيثما تكون المعارضة تزدهر جماعتنا أيضًا، لأن كثيرًا من الناس الذين لا يعرفون جماعتنا يطلعون عليها من خلال ما يقول الخصوم، فيرغبون في قراءة كتبنا شيئا فشيئا، فيقبلون الحق.: حضر شخص ذات مرة إلى سيدنا المسيح الموعود ال وبايع على يده.فسأله حضرته من بلغك الدعوة؟ فقال بدون توقف الشيخ ثناء الأمر تسري.فقال الله في حيرة: كيف؟ قال: كنت أقرأ الجريدة الأردية للشيخ الأمرتسري، وكنت ألاحظ دائمًا أنه شديد الطعن في جماعتكم.فقلت في نفسي يومًا: لم لا أرى بنفسي ما ورد في كتب هذه الجماعة؟ فبدأت مطالعة كتبكم، فانشرح صدري ورغبت في بيعتكم.
الجزء السادس المنعة ٦٠٤ سورة الفرقان إذا، فالفائدة الأولى في المعارضة أنها تؤدي إلى ازدهار الجماعة الإلهية وتتسبب في هداية الكثير من الناس والفائدة الثانية أن الله تعالى يظهر بسبب عداء الخصوم آيات معجزة لتأييد جماعته ونصرتها.عندما تبلغ المعارضة ذروتها تجذب أدعية المؤمنين وابتهالاتهم نصرة الله من السماء، فيُهلك الله تعالى بقهره أعداءهم ذوي والقوة.فمثلا حين قام فرعون وجنوده بمطاردة بني إسرائيل ظن قبل غرقه بدقائق أنه قد نجح في قصده، حتى ظن بنو إسرائيل أيضا أنهم هالكون، فصرخوا قائلين إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء: ٦٢)، ولكن موسى العلم الذي كان يتوكل على ربه توكلاً كاملا أجابهم وقال كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (الشعراء: ٦٣)..أي سيهديني إلى مخرج من هذه الورطة الهائلة.فما إلا دقائق حتى وصل موسى مع قومه إلى الشاطئ الآخر من البحر، بينما أخذ فرعون وجنوده يغرقون في أمواجه.مجمل القول إن المعارضة وسيلة كبيرة لنشر الهدى، وتؤكد كون الله تعالى هاديًا هي ونصيرا.
الجزء السادس ٦٠٤ سورة الفرقان وَقَالَ الَّذِينَ كَرُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً صلے كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَهُ تَرْتِيلًا (3) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جعْتكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَسِيرًا ) شرح الكلمات: ٣٤ رَتَّلْناه: ربَّل الكلام أحسن تأليفه ورتَّل القرآن: تأنق في تلاوته.(الأقرب) التفسير : لقد ردّ الله تعالى هنا على اعتراض آخر للكافرين.لقد قالوا حيث إن القرآن لم ينزل على محمد (ﷺ) جملة واحدة، فهذا يدل على أنه لم ينزل من الله تعالى، بل قد اختلقه محمد من عنده حسب الظروف والحاجة.فيجيب الله تعالى ويقول : صحيح أن القرآن الكريم لم ينزل دفعة واحدة، بل نزل بالتدريج عند
الجزء السادس ٦٠٥ سورة الفرقان ومن فوائد في مدة طويلة، ولكن كان في هذا الأسلوب من النزول هدف معين، وهو أن نقوي بذلك قلبك يا محمد (ﷺ).ثم إننا قد أحكمنا تأليفه وترتيبه أيضًا.إنزال القرآن بالتدريج أنهم كلما أثاروا اعتراضًا أتينا في القرآن الكريم بالحق إزاءه وبتفسير أفضل.- الغريب أن المستشرقين المسيحيين لا يزالون يرددون هذا الاعتراض حتى اليوم، ويقولون إن في نزول القرآن بالتدريج دليلا على أنه ليس من عند الله تعالى.فما الداعي أن ينزل الله كلامه بشكل متقطع، مع أنه يعلم أحوال المستقبل أيضا، فكان قادراً على أن ينزل الوحي مرة واحدة؟ إن في تأليف هذا الكتاب بالتدريج دليلاً على أن محمدًا كان حاشا لله يختلق القرآن من عنده بحسب الأحداث والظروف.(تفسير القرآن الكريم للقسيس "ويري" المجلد الأول ص ١٠٧-١٠٨) فيرد الله تعالى على هذا الاعتراض ويقول ليس في نزول القرآن الكريم على فترات دليل على ضعف في الله تعالى، وإنما الغرض منه تثبيت فؤاد النبي.أما كيف كان النزول التدريجي للقرآن الكريم يؤدي إلى تقوية قلب النبي ، فبيانه كالآتي: - أوّلاً: لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة، وظل النبي يستدل به بنفسه ويجتهد عند كل قضية، لما كان لهذا على قلبه نفس التأثير الذي يمكن أن يكون لوحي الله النازل على قلبه وقت الحاجة فوراً.فمثلا إن المتعة التي كان يجدها النبي عند نزول الوحي عليه فورا عند الحاجة واطلاعه على مشيئة الله تعالى في قضية من القضايا كيف يمكن أن نجدها حين لا يكون عندنا إلا الاجتهاد والاستدلال في قضية ما؟ ثانيًا: إن الكتاب الذي يكون للعالم كله لا بد من حفظه، ولكن لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لما تمكن من حفظه عن ظهر قلب إلا الذي ينذر كل حياته لهذا الغرض، ولكن نزوله بالتدريج جعل مئات الناس يتقدمون لحفظه عن ظهر قلب.فكانوا يقومون بمشاغل الحياة المختلفة كما يحفظون القرآن الكريم،
الجزء السادس ٦٠٦ سورة الفرقان فاطمأن النبي بالاً وأيقن بأن هذا الكتاب لن يضيع الآن، بل صار محفوظًا إلى يوم القيامة.ولهذا السبب نفسه قد وجد في عهد النبي ﷺ حفاظ كثيرون للقرآن الكريم، ولكن لا يوجد حفاظ الآن بنفس الكثرة، وليس ذلك إلا لأنه كان ينزل قليلا قليلا، فكان الناس يحفظونه عن ظهر قلب بسهولة.والحكمة الثالثة أن القرآن لو نزل دفعة واحدة لما رسخ تعليمه في قلوب ثالثا: الناس كما ينبغي.فمثلاً عندما يدخل أحد من الهندوس في الإسلام اليوم يجد حوله أناسًا مسلمين يعملون بأحكام الإسلام، فلا يجد قلقا ولا مشقة في العمل بالقرآن الكريم، ولكن لو ألفنا كتابًا جديدًا دفعة واحدة، وسألناه أن يعمل به بدون أن يكون أمامه نموذج للعاملين به يحتذي بهم لما استطاع العمل به حتى في قرن من الزمان.إذا، فقد كان ضروريًا لترسيخ تعليم القرآن الكريم في القلوب أن ينــزل تدريجيا، وأن لا ينزل حكم ثان إلا بعد أن يتعلم الناس العمل بحكمه الأول، وهلم جرا، وهكذا يتم تدريبهم على الأحكام كلها.رابعًا لو نزل كل القرآن الكريم دفعة واحدة لجعل الله تعالى له نفس الترتيب الموجود حاليا، ولكن إنزاله على الترتيب الحالي كان خطيرًا في تلك الظروف، تماما كما أن الترتيب الذي نزل به القرآن خطير لنا اليوم.فمثلا لو بدأ القرآن بأحكام الصلاة دون أن يثبت صدق نبوة الرسول ل لم يستوعب المسلمون تلك الأحكام، لذا كانت الحاجة عندئذ إثبات ألوهية الله تعالى وتوحيده ونبوة الرسول أولاً، وكان ضروريًا أن يبين الله تعالى لهم أنه موجود، وأنه واحد أحد، وأن محمدا رسوله الحق ثم بعد ذلك كان من المناسب أن يُدعوا إلى شتى الأعمال والأحكام من صلاة وغيرها ولكن ذلك الترتيب ليس ضروريا الآن إذ توجد هناك جماعة كبيرة من المؤمنين بالله ورسوله، وكل من يدخل في الإسلام يدخل بعد الاطلاع على صدق النبي ﷺ ومحاسن الإسلام، لذا فهو بحاجة إلى الترتيب الحالي للقرآن.
٦٠٧ الجزء السادس سورة الفرقان إذا، فلو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لم يستوعب الناس في ذلك الزمن ترتيبه الحالي، فمثلا لو نزلت سورة البقرة في بداية الإسلام لم يفهم المسلم عندئذ الله معنى قوله تعالى ذلكَ الْكِتَابُ ، بل قال في حيرة: أين الكتاب الذي يشير إليه، بيد أن كل مسلم كان قادرًا عندئذ أن يستوعب جيدًا قول الله تعالى قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، تماما كما أن كل مسلم اليوم يفهم معنى قوله تعالى ﴿ذَلكَ الْكِتَابُ، إذ يوجد أمامه كتاب سماوي متكامل.خامسا : لو نزل القرآن الكريم دفعة واحدة لما كان من الممكن الإشارة إلى بعض الأنباء.فمثلاً هناك نبوءة في القرآن الكريم بأن الله تعالى سيعصم رسوله ﷺ ويخرجه من حصار الأعداء سالما، وعندما أخذ الله نبيه إلى المدينة بحسب هذه النبوءة لتعذر عندها الإشارة إلى ذلك في القرآن لو كان قد نزل كله من قبل دفعة واحدة ولاستحال القول ها قد أخرجنا رسولنا من بين أعدائه تحقيقا لوعدنا بعصمته.إنما كان ذلك ممكنا فقط لو نزل جزء من القرآن أولاً يتضمن نبوءة إنقاذ الرسول ﷺ من أعدائه سالما ثم ينزل عند تحقق هذه النبوءة جزء آخر من القرآن مشيرًا إلى تحقق هذه النبوءة.سادسا : وعندي أن هناك سببًا هاما آخر وراء ذلك، وهو أنه لو نزل القرآن ك الله الكريم دفعة واحدة لقال المعارضون أن أحدًا قد قام بتأليفه وأعطاه لمحمد (ﷺ) ولكن الأمر الواقع أن بعض القرآن قد نزل بمكة وبعضه في المدينة.فلو صح قول أهل مكة أن أحدًا يؤلف القرآن لمحمد في مكة فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: فمن ذا الذي كان يؤلف له القرآن في المدينة إذن؟ ثم إن بعض القرآن الكريم قد نزل في السفر وبعضه في الحضر، وبعضه في المجلس وبعضه في الخلوة أيضا، وبعضه في ظلام الليل وبعضه في وضح النهار أيضًا؛ وهكذا أبطل الله تعالى زعم الكافرين بأن جماعة من الناس تعين محمدًا على تأليف القرآن الكريم.لو نــزل الكتاب دفعة واحدة فكان بوسع المعترضين أن يقولوا إن بعض الناس قام بتأليفه فقرأه محمد على الناس.ولكن ما دامت آيات القرآن الكريم تنــزل بحسب كل
الجزء السادس 7.1 سورة الفرقان مناسبة وبمقتضى كل ظرف فكيف يصح القول أن أحدًا كان يختلق آية جديدة في كل مناسبة.فثبت أن نزول القرآن الكريم بالتدريج قد كان تثبيتًا لفؤاد الرسول حقا، وكل يوم جديد يطلع عليه ﷺ كان يزيده إيمانا وعرفانًا.ثم يقول الله تعالى وَرَتَّلْنَاهُ تَرتيلاً..أي أننا قد جعلنا للقرآن الكريم ترتيبا رائعا أيضًا..بمعنى أن القرآن الكريم قد نزل بترتيب كان ضروريًا لأهل عصر الرسول ﷺ، ولكنا قد جعلنا له ترتيبًا آخر ينفع الناس في المستقبل حسب ظروفهم.إن هذا الترتيب أيضًا دليل على أن القرآن الكريم ليس من تأليف بشر، بل هو تنزيل من الله تعالى؛ إذ لو كان القرآن الكريم من تأليف بشر لجعل له ترتيبا واحدًا وألّفه بحسب ترتيب تقتضيه الظروف التي يمر بها، ولكن لما كان القرآن الكريم تنزيلا من الله عالم الغيب، وكان هداية للناس إلى يوم القيامة، فجعل تعالى بحكمته الكاملة ترتيبًا لنزوله وترتيبًا آخر لتدوينه وتحريره.لقد كان ترتيبه النزولي بالنظر إلى حاجات القوم المعاصرين للقرآن الكريم دفعا لشبهاتهم وحلاً لمسائلهم، أما ترتيبه من ناحية التدوين فكان بالنظر إلى حاجات الأجيال المسلمة التالية التي يجب أن تكون مطلعة على مسائل الدين إلى حد كبير، لكونها قد ولدت في بيوت مسلمة، أو لتواجدهم بين جماعة من المسلمين فما كانت المسائل التي نقاشها ضروريًا في أوائل قيام الإسلام تشكّل لتلك الأجيال أهمية كبيرة.فمثلاً إن جميع المحدثين والمؤرخين متفقون على أن أول ما نزل من القرآن الكريم على الرسول ﷺ هو قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي؛ ولكن هذه الآية مدونة في الجزء الأخير من المصحف، بل في أواخر الجزء الأخير أيضًا.فشتان بين أن يبدأ نزول القرآن الكريم بهذه الآية وبين أن تدون في أواخر الجزء الأخير من المصحف.وهذا يدل على أن الحكمة الربانية اقتضت أن يكون القرآن الكريم بترتيبين ترتيب كان ملائما لظروف المسلمين الأوائل وحاجاتهم، وترتيب آخر كان بحسب حاجات المسلمين الذين يأتون بعد اكتمال نزول القرآن الكريم.ولذلك لم يقل الله تعالى في أول وحيه (اقرأ)، ولم يقل "اقرأ هذا الكتاب"، إذ لم يوجد هناك كتاب بعد، ولكن في الزمن الذي كان
7.9 الجزء السادس سورة الفرقان نزلت فيه سورة البقرة" كان هناك كتاب إذ كانت الكثير من السور قد اكتمل نزولها بمكة مثل سور الإسراء والكهف ومريم وطه وغيرها بما فيها سورة أيضا، فقال الله تعالى عندها في سورة البقرة ذلكَ الْكِتَابُ، وكان هذا قولا سليمًا ومفهومًا للناس.لأجابه: صحيح ساعة ولشرح هذا الأمر أضرب مثالاً من حياتنا المادية.إن الطباخ يبدأ في بعض الأحيان في إعداد صنف من الطعام يؤكل في آخر الوجبة، ويؤخر إعداد صنف يؤكل في أولها.ولو اعترض عليه أحد قائلا لماذا تطبخ أولاً ما يؤكل في الأخير أن هذا الطبق يؤكل في الأخير، ولكن تجهيزه يستغرق ربع فقط، ولو أني صنعته في أول الأمر لم يبق له نفس الطعم أو ربما فسد.أما الطبق الذي سيؤكل في الأخير فطبختُ أولاً لأن إعداده يستغرق ساعتين ونصف، ولو لم أبدأ بتجهيزه في البداية لم يستوِ جيدًا.فثبت من هنا أن هناك حكمة في الترتيب الذي راعاه الطباخ في إعداد الطعام، فأعده بترتيب مغاير لترتيب تناوله.فعندما جهز الطعام لم ير أي الأطعمة سيؤكل أولاً، وإنما رأى أي الأصناف سينضج بسرعة، فأخره عند الطهي، وبدأ بالصنف الذي يستغرق نضجه وقتًا أطول، إذ لو أخر طهيه لم ينضج جيدا.لقد اتضح من هذا المثال أن بعض الأشياء تُعَدّ بترتيب وتُستعمل بترتيب آخر.بل هذا هو الأسلوب الذي نلاحظه في كل عمل في الدنيا.وعلى سبيل المثال، حين تريد الدولة إعداد الجنود وتنظيم البلاد وتعليم الناس وتدريبهم على مهارات شتى، تبدأ بتدريب بعض الفئات التي يأتي دورها في العمل في المرحلة الأخيرة، بينما تؤخر تدريب الفئات التي يأتي دورها في العمل في المرحلة الأولى.فمثلاً هناك فئة يستغرق تدريبها ستة أشهر مثلاً، وفئة أخرى يستغرق تدريبها أربع سنوات، فسيبدأ تدريب الفئة الأخيرة قبل الفئة الأولى وإن كان الجميع سيبدأون العمل في وقت واحد.كما أن بناء العمارات والجسور مثلاً يستغرق وقتا أطول، فيبدأون في تجهيزها أولاً، ويؤخرون مدَّ السكة الحديدة مثلاً لأنها تستغرق وقتا أقل، إذ يستطيع الجنود المدربون أن يمدوا في يوم واحد السكة الحديدية لعشرة وحتى عشرين ميلاً أحيانًا،
الجزء السادس 71.سورة الفرقان بينما يستغرق إقامة جسر واحد وقتًا أطول من ذلك، ولذلك يبدأون في بناء الجسور قبل مد السكة الحديدية.القوم ونفس الأمر بالنسبة إلى ترتيب القرآن الكريم، فعند نزوله قدّم الله تعالى ذكر القضايا التي كانت ضرورية في ذلك الوقت لأن القرآن الكريم لم يكن بين أيدي بشكله الكامل، فكانوا لا يدرون ما القرآن وما الإسلام، وما الوحي وما الإلهام، وما هي العلاقة بالله تعالى، لذا ذكر الله تعالى عندها تلك المسائل الأساسية، ولكن الأجيال التالية كانت بحاجة إلى ترتيب آخر للقرآن الكريم؛ ذلك لأنه بسبب ورود هذه المسائل الأساسية في القرآن ظل هؤلاء القوم يسمعون آيات القرآن وأحكامه، ثم لما جاءت أجيالهم أخذت تسمع من الآباء هذه المسائل، إذ علّموها منذ الصغر ما الله تعالى، وما الرسول، وما الوحي، وما الإسلام، ولماذا بعث الله تعالى محمدا، فلما كبروا كانت ذهنيتهم غير ذهنية آبائهم.ولكن حين نزل القرآن الكريم كان الكثير من المسائل التي نزلت فيه جديدة غريبة للناس، ولكنها لم تعد جديدة لأجيالهم.فمثلا عندما يولد في بيت ولد فلا بد أن يعلمه أهله، وإن كانوا أجهل الناس بدينهم، أنه إذا سألك أحد من خلقك، فقل: الله.ولكن هذا السؤال لو وُجه إلى أكبر أسياد مكة في ذلك الزمن لأخذته الحيرة، وبدأ يفكر بماذا يجيب.أيقول: أخلقني "اللات" أم "مناة" أم "عُزَّى" أم "هبل"؟ ولكن هذا السؤال بسيط جدا لأي ولد مسلم.ونفس الحال بالنسبة لمسألة القضاء والقدر فهي أمر بسيط لكل ولد مسلم – شريطة أن لا نخوض في التفاصيل – إذ يعلم أن الله تعالى هو الذي يفعل ما يشاء.فثبت أن الولد المسلم أكثر علما من أبي جهل وعتبة وشيبة ووائل في هذه المسائل، فعندما يقول الولد المسلم بكل شجاعة: إن كل شيء يتم بحسب المشيئة الإلهية، فهو دليل على أنه مؤمن بالقدر وإن كان يجهل تفصيل مسألة القدر ؛ ولكن أبا جهل وزملاءه كانوا يستغربون من مسألة القدر قائلين: ما القضاء وما القدر؟ إذ كانوا يظنون أنهم يقومون بكل شيء بأنفسهم، أو أن أصنامهم أو آلهتهم أو الجن والعفاريت هي التي تقوم بكل شيء؛ إذ كان الواحد منهم يقترع بأسماء آلهته، فمن خرج منها سهمه ذبح باسمه الماعز أو ما إلى ذلك،
الجزء السادس ٦١١ سورة الفرقان ظنا منه أن هذا سيضمن له النجاح في عمله ولكن الولد المسلم يقول إن الله تعالى يفعل كل شيء.فمثلاً حينما يقول لأمه أماه أريد شيئا كذا.تقول له: يا بني، سأعطيك ما تريده حين يعطيني الله إياه.فيطمئن بهذا الجواب، لأن القدر عنده أمر يقين.ولكن عندما نزل القرآن كان القدر قضية عويصة الفهم بالنسبة لأهل ذلك الزمن، فكانوا يتعجبون مما قاله القرآن بصدد القضاء والقدر.أو خذوا قضية التوحيد مثلا، فإن القرآن الكريم قد ركز عليه تركيزاً كبيرًا، ولكن عندما تحدث القرآن عن التوحيد أول مرة قال أهل مكة في حيرة وما التوحيد؟ إن الصورة التي رسمها القرآن الكريم عن أفكارهم عند سماع التوحيد لعجيبة حقا، حيث بين أن الكافرين يقولون كيف جعل محمد ( الآلهة كلها إلها واحداً.إن هؤلاء ما كانو ليصدقوا أن اللات ومناة والعزى ليست بآلهة، فقالوا أَجَعَلَ الآلهَةَ إِلَهَا واحدًا) (ص:٦).إنهم لم يقولوا إن محمدًا (ﷺ) يقدم نظرية إله واحد، أو يقول إن خالق الكون واحد، بل ظنوا أنه قد جمع كل الآلهة وصنع منها إلها واحدا، وكأن رسالة التوحيد عندهم هي أن محمدا (ﷺ) قد قام بجمع اللات ومناة والعزى وغيرها من آلهتهم وسحقها ثم جعل منها إلها واحدًا.لذا فكانوا يحتارون من التوحيد، ويقولون ما هذا التعليم؟ أما اليوم فإن كل واحد من أولادنا يعلم ما هو التوحيد، لأنه لا يعرف ما اللات ولا مناة ولا العزى إنه منذ طفولته يعلم أن الله أحد.وقضية التوحيد سهلة الفهم لكل ولد صغير منا حتى إنك لو قلت له أن هناك آلهة عديدة لضحك عليك واعتبرك من الأغبياء.ولكن أبا جهل كان يضحك على من يقول له إن الله واحد، ظنا منه أن ما يقال له إنما هو مزاح واستهزاء.إذًا، فالقول بتعدد الآلهة استهزاء عند طفل مسلم، بينما القول بتوحيد البارئ كان استهزاء عند أبي جهل.مجمل القول إن الأجيال المسلمة القادمة كانت بحاجة إلى ترتيب للقرآن الكريم هو غير ترتيبه النزولي، ولذلك قد وردت سورة الفاتحة في مطلع المصحف، ثم تلتها سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء ثم غيرها من السور.
٦١٢ يعني الجزء السادس سورة الفرقان إذا، إن في ترتيب القرآن الكريم حكمًا بالغة، إذ كان ترتيب نزوله بحسب حاجات المعاصرين للقرآن الكريم، أما الترتيب الحالي فكان بحسب حاجات الأجيال التالية.وهذا برهان عظيم على أن القرآن الكريم من عند الله تعالى.ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أن الترتيب الحالي أيضا قام به الرسول ﷺ نفسه بناء على توجيه رباني، وليس أحد سواه.لقد ظن المفسرون أن قوله تعالى لولا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً أن الأنبياء السابقين كانوا يتلقون الوحي دفعة واحدة، ولذلك أثار الخصوم على هذا الاعتراض (القرطبي) والحق أن هؤلاء المفسرين لم يفكروا في أن القرآن الكريم يبين أن هذا الاعتراض قد أثاره كفار مكة، وهؤلاء القوم ما كانوا يؤمنون بأي كتاب سماوي، دعك أن يؤمنوا بأن جميع الصحف السابقة قد نزلت مرة واحدة.لو كان اليهود والنصارى هم الذين أثاروا هذا الاعتراض لكانت هناك إمكانية لصحة هذا الزعم، ولكنهم لم يوجهوا هذا الاعتراض قط، فلا يصح القول بأن الصحف السابقة النبي كانت تنزل مرة واحدة فقال الكافرون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة؟ الحق أنهم لم يثيروا هذا الاعتراض إلا بناء على عقولهم، إذ كانوا يرون أنه لو كان هذا الوحي من عند الله تعالى لأنزله مرة واحدة لأنه عالم الغيب، ولكن نزوله بالتدريج يعني أن محمدا ) يلفّق – معاذ الله ك الله - من عند نفسه كلاما بحسب الظروف المتجددة ويعرضه على الناس.فما دام بناء اعتراضهم على العقل وحده فلا يعني ذلك بالضرورة أن الوحي كان ينزل على الأنبياء السابقين دفعة واحدة ولكن لو سلمنا جدلا بأن أهل مكة كانوا يقولون إن وحي الأنبياء قد نزل مرة واحدة فلم لم ينزل القرآن دفعة واحدة فهل نقيم لقولهم هذا وزنًا وأهمية؟ إنهم لم يكونوا خبراء بالعلوم السماوية، ولم يكونوا ملمين بتاريخ الأديان، حتى نعير اعتراضهم أهمية ولو أنهم قالوا هكذا فقولهم باطل مرفوض من الناحية التاريخية، ولا يمكن أن يصدقه أي إنسان مطلع على تاريخ الأديان.
الجزء السادس ٦١٣ سورة الفرقان وأرى أن المفسرين قد وقعوا في هذا الخطأ لسبب آخر أيضا وهو أن الله تعالى يذكر في القرآن الكريم أن موسى الأعطي الألواح على الطور (الأعراف:١٤٤- ١٤٦).وبما أن المفسرين لم يكونوا مطلعين على الكتب الإسرائيلية فظنوا أن الألواح والتوراة شيء واحد، مع أن الألواح إنما تُطلق على الأحكام الواردة في الخروج في الإصحاحات ۲۰-۳۱، أما التوراة فتشمل هذه الأحكام وغيرها من الأحكام الكثيرة.ثم إن القرآن الكريم لم يذكر أبدًا أن هذه الأحكام قد نزلت على موسى دفعة واحدة.إذًا، لم يُعط موسى ال على الطور التوراة بشكل كامل أولاً، وثانيًا فإن ما نزل عليه من الأحكام على الطور لم ينزل دفعة واحدة بل في أربعين ليلة.أما الأنبياء الآخرون فلا توجد هناك أي رواية ولو ضعيفة تقول إن ما نزل عليهم من الوحي نـزل دفعة واحدة.ولو سلمنا جدلاً بوجود رواية كهذه فسوف نرفضها لأنها مخالفة للعقل.ذلك إن مكالمة الله تعالى مع أنبيائه دليل على صلتهم به تعالى، فهل يمكن أن نتصور عن أي نبي أن الله تعالى أنزل عليه وحيه كله في ليلة واحدة ثم ترك الكلام معه إلى الأبد.فهل يمكن أن يبقى هذا النبي حيًّا بدون مكالمة الله تعالى يا ترى؟ إنني أرى أن الله تعالى لو كلّم أنبياءه مرة فقط ثم ترك الكلام معهم لقتلهم هذا التصرف الرباني حتمًا وإن فشل الأعداء في القضاء عليهم.الواقع أن الوحي لا يزال ينزل على كل ني باستمرار مسلّطا الضوء على شتى أحوال حياته، ولا ينتهي الا عند وفاته.إن هذا الوحي يمثل ظهورًا متجددا لصفات الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى يشكل دليلا على تأييد الله للنبي، ومن جهة ثالثة يقدم للناس نماذج شتى لقوة إيمان ذلك النبي ويقينه، ليعرفوا مدى كمالاته الروحانية.ولو نزل الوحي عليه في بداية بعثته دفعة واحدة لما اجتمعت هذه الأمور كلها في وحيه، ولو لم يكن الوحي متسمًا بهذه المزايا ما كان سببًا لهداية الناس ورشدهم.إذًا، فمن الضروري أن ينزل الوحي على أنبياء الله تعالى بالتدريج لكي تنكشف على الناس صلتهم بالله تعالى في كل مرحلة من حياتهم.ونصرته
الجزء السادس ٦١٤ سورة الفرقان ثم إن من الحكم وراء نزول القرآن الكريم بالتدريج أن نزوله بهذا الشكل يشكل دليلاً عظيمًا على صدقه، حيث إنه تحقيق لنبوءة لإشعياء النبي، إذ أنبأ بأن الوحي الذي ينزل على نبي آخر الزمان سينزل تدريجيا على شكل دفعات.فقد قال إشعياء النبي: "لمن يعلم معرفة، ولمن يفهم تعليمًا ؟ أللمفطومين عن اللبن، للمفصولين عن الثدي؟ لأنه أمر على أمر أمر على أمر ، فرضُ على فرض، فرض على فرض.هنا قليل وهناك قليل.إنه بشفة لكناء وبلسان آخر يكلّم هذا الشعب الذين قال لهم: هذه هي الراحة.أريحوا الرازح، وهذا هو السكون ولكن لم يشاؤوا أن يسمعوا.فكان لهم قول الرب أمرًا على أمر أمرًا على أمر فرضًا على فرض فرضًا على فرض.هنا قليلا هناك قليلا، لكي يذهبوا ويسقطوا إلى الوراء، وينكسروا ويُصادوا فيؤخذوا." (إشعياء ۲۸: ۹-۱۳).هذه النبوءة تخبر أن كلام الله تعالى سينزل في زمن من الأيام إلى قوم محرومين من لبن الوحي.وبالفعل قد بعث الرسول الله حين انقضت على النبوة فترة طويلة وحين كان بنو إسرائيل أهلُ الكتاب قد أصبحوا محرومين من لبن الوحي.وقد أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى عطشهم الروحاني هذا فقال يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةِ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قدير (المائدة: ٢٠)..أي يا أهل الكتاب قد أتاكم رسولنا الذي يبيّن لكم أحكامنا بعد انقطاع طويل للرسل، كي لا تقولوا إنه لم يأت إلينا بشير ولا نذير.ثم بين إشعياء النبي في نبوءته أن الوحي الذي سينزل على ذلك النبي لن ينزل دفعة واحدة، ولا في مدينة أو قرية واحدة، بل سينزل حكم بعد حكم وقانون بعد قانون على فترات وفي أماكن مختلفة.وقد نزل القرآن الكريم هكذا بالضبط.فقد نزل بعضه في مكة، وبعضه في المدينة، وبعضه في السفر، وبعضه في الحضر؛ حتى إن الأعداء أنفسهم قد اعترضوا قائلين: لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةً؟
710 الجزء السادس سورة الفرقان ومن المستغرب أن المسيحيين لا يزالون يثيرون هذا الاعتراض ضد القرآن الكريم رغم وجود هذه النبوءة لإشعياء النبي، وبالتالي يؤكدون بأنفسهم على أن محمدا ﷺ كان مصداقا لنبوءة إشعياء النبي.الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَبِكَ شَرٌ مِّكَانًا ۳۵ وَأَضَلُّ سَبِيلاً شرح الكلمات: وجوههم: الوجه: نفس الشيء، والوجه من الدهر: أوله.والوجه سيّد القوم؛ الجاه؛ الجهة؛ ما يتوجه إليه الإنسان من عمل وغيره؛ القصد والنية؛ المرضاة (الأقرب).التفسير وبما أن الوجه يعني سيد القوم أيضا، وعليه فقوله تعالى (يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ يعني أنهم يدخلون جهنم يوم القيامة وهم يلعنون أسيادهم ويدعون عليهم بالويل والثبور.وسيتبرأون من رؤسائهم الذين كانوا يفدونهم بأرواحهم ويبيعون دينهم نتيجة تحريضهم ذلك لأن الحقيقة ستنكشف عندئذ، ويعرفون كيف أنهم خسروا نتيجة اتباعهم لأسيادهم خسرانًا كبيرا.لقد صوّر القرآن كراهيتهم وبراءتهم من أسيادهم في مواضع أخرى أيضا حيث قال الله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرنَا الَّذِيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامَنَا لَيَكُونَا منَ الأَسْفَلِينَ (فصلت:٣٠).وكذلك قال تعالى وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاً ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كبيرًا ﴾ (الأحزاب : ٦٨ - ٦٩).ومن هنا يمكن أن يدرك المرء مدى ضعف العلاقة التي أساسها الكفر والشر، وكيف تكون عاقبتها مؤلمة للغاية.نرى في الدنيا أيضا أن الزعماء المغرضين الذين ليس همهم إلا الاحتفاظ بالقيادة والمناصب يأخذون بالجماهير في طريق غير مستقيم
٦١٦ الجزء السادس سورة الفرقان بوعود معسولة، ثم يدفعون بهم إلى هوّة الهلاك، وعندما ينكشف على الجماهير خداعهم يدعون عليهم بالويل والثبور، ويعتبرونهم خونة للشعب وأعداء للوطن، أنهم كانوا من قبل يرفعون الهتاف عن قائدهم قائلين: ليعيش ليعيش.وهذا بالضبط سيحصل في الآخرة أيضا.فعندما يُساق الكافرون إلى الجحيم يلومون زعماءهم ويلعنونهم حين لن ينفعهم اللعن ولا اللوم، لأن وقت العمل قد انقضى، وزمن الجزاء بالخير أو بالشر قد أتى.مع وَلَقَد وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَرُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِشَايَتِنَا فَدَمَّرْنَهُمْ تَدْمِيرًا (3) وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَهُمْ وَجَعَلْنَهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ( وَعَادًا وَثَمُودَاً وَأَصْحَابَ الرَّسِ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (3) وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَلَ وَكُلاً تَبَرْنَا تَثْبِيرًا (3) شرح الكلمات: دمرناهم دمّر عليهم: أهلكهم (الأقرب).أصحاب الرس الرس: البئر القديمة (الأقرب).وأصلُ الرس: الأثرُ القليلُ الموجود في الشيء.أصحاب الرس: قيل هو واد.(المفردات) تبرنا : تبره أهلكه و دمّره.كلُّ شيء كسره وفتته فقد تبرته (الأقرب) التفسير : الآن يبيّن الله تعالى أن الإنسان لن ينجو من العقاب يوم القيامة بإلقاء جريمته على الآخر، لأن الله تعالى ما زال منذ بدء الخليقة يبعث رسله لهداية الناس
الجزء السادس ٦١٧ سورة الفرقان ويُظهر الآيات تأييدًا لهم، فإذا لم ينتفع أحد من الرسل فلن ينفعه قوله بأن زعماءه هم الذين قد قاموا بإغوائه.أخاه لقد ذكر الله تعالى هنا أوّلاً مثال موسى الله الذي ظل شرعه صالحا للعمل للأمة اليهودية قرابة ألفي سنة.لقد أعطى الله تعالى موسى التوراة وجعل هارون نائبا له، وأمرهما بأن يذهبا إلى فرعون وقومه ويبلغاهم رسالة الله.فكفر فرعون وقومه بآيات الله، فدمّرهم وكتب الغلبة لموسى العلية.إن قول الله تعالى (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) صريح في أن هارون كان تابعا لموسى عليهما السلام، ولكن الذين لا يتدبرون في الحقائق حق التدبّر فشلوا في فهم بعض آيات القرآن الكريم، فظنوا أنه كان لموسى وهارون كليهما كتاب مستقل وأمة مستقلة.ويستدلون على كون كل واحد منهما صاحب أمة مستقلة بما نقله القرآن الكريم على لسان أحد الأنبياء عن جدعون قوله إنْ آيَةَ مُلكه أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فيه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ) (البقرة : ٢٤٩).ويستدلون على كون كل واحد من موسى وهارون صاحب كتاب مستقل بقول الله تعالى وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (الصافات: ۱۱۸)، الْمُسْتَبِينَ هو ما يبين أحكامه بكل وضوح.والحق أنه ليس في كلمة آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ) أي دليل على أن كل واحد منهما كان له أمة مستقلة إذ يمكن أن تُنسب أمة واحدة إلى الاثنين، كما يمكن أن يكون المراد من آل هارون أقاربه.ونفس الأمر بالنسبة إلى الكتاب، فلا شك أن هارون الله قد أعطى كتابًا، ولكنه لم يكن كتابا مستقلا، بل هو نفس الكتاب الذي أعطيه موسى أيضًا.ولا غرابة في ذلك، إذ إن الكتاب الذي أعطيه النبي الله قد أعطيناه نحن المسلمين أيضا، ولكن هذا لا يعني أنه قد نزل علينا كتاب مستقل آخر، إنما أهل هذا الكتاب وتابعين له.كذلك إن هارون كان صاحب كتاب، ولكن لم ينزل عليه كتاب مستقل.يعني ذلك أننا من
الجزء السادس ٦١٨ سورة الفرقان إن الآيات القرآنية التالية توضح لنا طبيعة العلاقة بين موسى وهارون - عليهما السلام.يخبرنا القرآن الكريم أن موسى هو الذي التمس من الله تعالى أن يهب النبوة لهارون حيث قال وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي (طه: ۳۰-۳۱).فيدعو هنا موسى ربه ا الله أن يعطيه نبيا وزيراً يساعده ويزيده قوة.ثم يدعو صراحة أن يشركه الله تعالى في أمره أي أن الأمة هي أمة موسى، ولكن هارون يأتي ليساعده ويشاركه.قد يقول قائل هنا هذا ليس إلا دعاء من موسى، ولا ندري هل استجابه الله أجله.تعالى أم لا؟ والجواب: أن الله تعالى قد سجل جوابه على دعاء موسى فقال قَدْ أُوتِيتَ سُؤلَكَ يَا مُوسَى (طه:۳۷)..أي قد قبلنا التماسك.وهذا يعني أن الله تعالى قد ما سأله، فوهب لهارون نفس الدرجة التي سألها فثبت من هنا أن هارون - رغم كونه نبيا - كان نائباً ومساعدًا لموسى فحسب.ومن الواضح أن أحدًا لا يمكن أن يكون نبيًا مستقلا ونبيًا تابعا في وقت واحد، لأن كلا من المنصبين يتعارض مع الآخر.أعطى موسى موسی من ويؤكد ما قلته ما كان بين موسى وهارون من ،علاقات، حيث يقول الله تعالى وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: ١٤٣)..أي أن موسى قال لأخيه قبل صعوده إلى الجبل: أشرف على قومي في غيابي كنائب لي، وحاول الإصلاح دائما، ولا تقبل ما يقول لك الأشرار المفسدون هذه الآية أن العلية لا هذا القوم أُمّةً له، موسی لقد اتضح من سيدها، بينما يعتبر هارون العليا خليفة له.يعتبر ويعتبر نفسه وقد يقول قائل هنا: إن هذه الآية تعني أن هارون كان حاكمًا على أمته المستقلة، وقد طلب منه موسى أن يشرف في غيابه على أمته أيضًا إضافة إلى إشراف هارون على أمته هو.
الجزء السادس ٦١٩ سورة الفرقان ولكنه قول باطل لسببين أولهما إذا كان موسى وهارون - عليهما السلام - هي نبيين مستقلين لأمتين مستقلتين، فلماذا كانا يعيشان معا؟ وثانيهما: ما الضوابط التي تميز أمة موسى عن أمة هارون؟ لو كان هارون من قبيلة وكان موسى من قبيلة أخرى، لقيل إن القبيلة كانت أُمّةً للأول، والقبيلة الثانية كانت أُمّةً للثاني.ولكنهما كانا شقيقين فكيف يمكن القول أن هارون كانت له أمة مستقلة غير أمة موسی؟ هل كان هناك اتفاق بأن الذين آمنوا في يوم كذا عليهم أن يؤمنوا بكتاب موسى، أما الذين آمنوا في يوم كذا فعليهم أن يؤمنوا بكتاب هارون؟ أم أنهما قسما القوم بينهما؟ أم خيروا القوم أن ينضم إلى موسى من يشاء وأن ينضم إلى هارون من يشاء؟ فكيف يمكن أن تكون لكل واحد منهما أمة مستقلة أنهما كانا شقيقين، وكانا يعيشان معا؟ مع ويقول الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُليّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ حُوَارٌ (الأعراف: ١٤٩).فهل يعني هذا أن أمة هارون لم تتخذ العجل إلها حيث ذكر الله تعالى هنا فساد قوم موسى دون فساد أمة هارون؟ ولو قيل: إن أمة هارون لم تتخذ العجل إلها، فلا بد من القول أن هارون قام برعاية قومه جيدا، بينما لم يهتم بالإشراف على قوم موسى في غيابه إطلاقا.ثم بعد ذلك يخبرنا القرآن الكريم أن هارون قال لموسى لما غضب عليه قَالَ ابْنَ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُسْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: ١٥١).فلو كانت لهارون أمة مستقلة فأين غابت أمته في تلك المناسبة؟ ولم لم تساعده ضد هؤلاء الذين أرادوا قتله من أمة موسى؟ ذلك أن أمة هارون المستقلة لم تكن قد فسدت عندها بحسب القرآن الكريم بل ظلت متمسكة بالإيمان، فكان عليها أن تساعد نبيها.ثم إن هذه العقيدة الواهية تؤدي إلى مشكلة أخرى، وهي أن الله تعالى يقول في موضع آخر من القرآن الكريم وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتنتُمْ به وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى
الجزء السادس ٦٢٠ سورة الفرقان يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (طه: ۹۱-۹۲).فهنا يسمّي هارون هؤلاء الفاسدين قومه.فلو قيل هنا إنه قد وجه هذا القول إلى أمته هو فكيف يصح قولهم لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْه عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ؟ فهل نقول أنهم كانوا أمة لهارون، ولكنهم كانوا فقط؟ يطيعون موسى إذًا، فهذه العقيدة ترفضها آيات كثيرة من القرآن الكريم.والحق أن هارون كان نبيا تابعا لموسى - عليهما السلام - وأن قوم موسى هم قومه أيضا.لم يكن لهارون أي جماعة مستقلة ولا أحكام مستقلة قليلة أو كثيرة؛ إنما أقامه الله تعالى المساعدة موسى عليهما السلام.أما آلُ هَارُونَ) فهم أقاربه الذين لم يكونوا أقارب لموسى، مثل أقارب هارون من قبل زوجاته وزوجات أبنائه.أو المراد من آلُ هَارُونَ قومهما، وقد قال الله تعالى آل مُوسَى وَآلُ هَارُونَ للإشادة بخدمات الاثنين لإصلاح الخلق.ثم ذكر الله تعالى نوحا ال ، وقال : لم لا ترون أيها الكافرون، مثال قوم نوح الذي كان قبل موسى، وكان نبيا ذا شرع مثله؛ ولكن قومه لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم آية وعبرة للناس.لقد قال الله تعالى هنا عن قوم نوح أنهم كَذَّبُوا الرُّسُلَ مع أنهم لم يكذبوا إلا نوحًا، فكيف هذا ؟ يصح والجواب أن الله تعالى قد بين بهذا أن الكفر برسول واحد هو بمنزلة الكفر بجميع الرسل، لأنهم سواسية فيما يتعلق بمنهاج النبوة، كما أن الأدلة التي تُثبت صدق نبي منهم تؤكد صدق نبي آخر أيضًا.ويمكن أن نفهم ذلك بمثال شخص قد أكل ثمرة "المانجو" من قبل، فإذا عُرض عليه المانجو لا يمكن أن يقول إنه ليس مانجو بل هو شمام.ولكن الذي لم ير المانجو من قبل إذا رآه أول مرة لن يعرف أنه ثمرة مانجو.كذلك فإن الذي يعرف صدق الأنبياء معرفة صحيحة ويكون على أدلة وآيات صدقهم، فإنه كلما رأى نبيا صادقًا عرفه وآمن به.ولكن الذي يدعي أنه يؤمن بجميع الأنبياء ثم يرفض رسولا يأتي بعدهم فإنه يعلن من خلال عمله هذا مطلعا
الجزء السادس ٦٢١ سورة الفرقان أنه لم يعرف أي نبي قط.فإنكاره ليس إنكارا لرسول واحد بل هو بمثابة إنكاره للرسل كافة.ثم يذكر الله تعالى هلاك أمم أخرى، فقال لقد أهلكنا بعذابنا عادا وثمود وأصحاب الرس وشعوبًا كثيرة أخرى خلال هذه الفترة.لقد أوضحنا حقيقة الأمر بواسطة رسلنا لكل أمة من هذه الأمم، ولكنهم لما حاولوا القضاء على الحق دمرناهم كما دمرنا الأولين.كانت عاد أمةً عظيمة حاكمةً على شمال الجزيرة العربية وجنوبها، وقد جاءت بعد زمن نوح بحسب القرآن (الأعراف: ۷۰)، وكانت ذات قوة ومنعة بحسب قوله تعالى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا في البلاد (الفجر : ٩).ولكنها لما عارضت نبيها هُودًا دمرها الله تعالى تدميرا.وهذا ما حصل لقوم ثمود أيضًا الذين كانوا خلفاء لقوم عاد.وكان مركزهم " الحجر" التي كانت تقع بين المدينة المنورة وتبوك.لما ذهب الرسول ﷺ لغزوة تبوك توقف قليلا في الحجر، ولكنه منع أصحابه أن يستقوا من مائها.فقال بعض صحابته : يا رسول الله، لقد عملنا العجين بمائها.قال: ألقوا هذا العجين لأنه مكان قد نزل عليه عذاب الله تعالى.(البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: وإلى عاد أخاهم صالحا) ثم يخبرنا الله تعالى أنه أهلك أصحاب الرس.لقد اختلف المفسرون في أصحاب الرس كثيرًا (الطبري)، ولكن ما يبدو من هذه الآية هو أن هذه الأمة جاءت بعد محمود لقوله تعالى ﴿وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلكَ كَثِيرًا..أي أن الله تعالى يذكر هنا هذه الأمم بحسب ترتيبها الزمني، وهذا ما أكده صاحب البحر المحيط" إذ نقل قول ابن عباس بأن أصحاب الرس كانوا جزءا من قوم ثمود (البحر المحيط).ولما كانت ثمود آخر جزء من قوم عاد فيبدو أن أصحاب الرس خلفوا قوم ثمود وأنهم جاؤوا قبل انتشار نسل إسماعيل الي في الجزيرة العربية.ثم هاجر هؤلاء إلى فلسطين عند انتشار بني إسماعيل في الجزيرة كما تدل على ذلك الآثار القديمة.=
الجزء السادس ٦٢٢ سورة الفرقان لقد حذر الله تعالى هنا الكافرين من النتائج الوخيمة لتكذيبهم للنبي ﷺ بأنهم إذا لم يصلحوا أنفسهم فسوف يكون مصيرهم كمصير من كذبوا موسى ونوحًا وهودًا وصالحا عليهم السلام، وسيُبادون من على وجه الأرض.ج وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (3) وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ ليُضِلُّنَا عَنْ وَالِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (3) التفسير : هنا بين الله تعالى أن هؤلاء المشركين يمرون في أسفارهم بتلك القرية التي أمطرنا عليها مطرا سيئًا، ومع ذلك لا يعتبرون برؤية مصيرهم.والمراد من القرية هنا قوم لوط ال.أما قوله تعالى أَمْطَرَتْ مَطَرَ السَّوْ فيعني أنه أصابهم زلزال عنيف جعل أعالي أرضهم أسافلها كما أوضح الله تعالى في مكان آخر فَجَعَلْنَا عَالَيَهَا سَافَلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً من سجيل ) (الحجر: ٧٥).أما قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمْطَرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا فالمراد أن أهل مكة حين يخرجون في أسفارهم التجارية من الحجاز إلى الشام، يرون في طريقهم قرية قوم لوط، وكان ينبغي لهم أن يتخذوا العبرة برؤية دمارها وترتجف قلوبهم فيؤمنوا برسالة الله تعالى ولكن قد قست قلوبهم، فلا يعتبرون برؤية آثار هذه القرية، بل يتمادون في تكذيب رسولهم.ثم بعد ذلك يبين الله تعالى سبب كفرهم، ويقول بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا..أي أن السبب الأساس لإنكارهم أنهم لا يؤمنون بالثواب والعقاب
الجزء السادس ٦٢٣ سورة الفرقان مطلقا وبالتالي لا يتدبرون في دعوة محمد.لو كان في قلوبهم شيء من الخوف من الحياة الآخرة لما ازدادوا تمرّدًا واستكبارًا.علما أن من معاني لفظ يَرْجُونَ يخافون أيضًا الأقرب)، بل لقد قال صاحب "البحر المحيط" أن أهل تهامة لا يستعملون لفظ الرجاء إلا بمعنى الخوف (البحر المحيط).لقد تبين من ذلك أن لخشية الله والإيمان بالبعث بعد الموت تأثيرًا كبيرًا لفعل الصالحات.فإذا خلا قلب المرء من خشية الله والحياة بعد الموت مال إلى اللادينية والتمرّد، وحاد عن طريق الهدى حتى دخل النار.يقول الله تعالى إن عدم إيمانهم بالبعث بعد الموت هو الذي دفعهم إلى هذه الجسارة والعصيان، فيستهزئون بمحمد ويسخرون منه ويقولون إذا أراد الله تعالى أن يبعث رسولاً فكان عليه أن يبعث غيره.ولكنهم حين يرون ما وضع الله لمحمد من قبول ونجاح، يقولون أنه كذاب ولكنه ذكي جدا، ولولا أننا تمسكنا بعقائدنا بقوة كاد يضلنا عن آلهتنا.وهذا يدل على أن براهين صدق النبي الله كانت تبلغ من القوة والوضوح بحيث إن كبار الكافرين أيضا كانوا يشعرون بأن البساط يُسحب من تحت أقدامهم، ولم يعودوا قادرين على إثبات صدق آلهتهم.ولكن كبرياءهم كانت تمنعهم من الإيمان، فيصرون على المعارضة ويقولون للناس إنه رجل ذكي محتال فلا تتبعوه.يقول الله تعالى ردًا عليهم: إنهم حين يرون العذاب يعلمون ما إذا كان رسولنا صادقًا أم كان كذابًا يخدع الناس.وهذا ما حدث بالفعل، حيث إن الله تعالى كما أهلك قوم موسى ونوح وهود وصالح ولوط كذلك أهلك جزءا من قوم محمد من خلال الحروب، أما الآخرون فلم ينجوا من العذاب إلا بعد أن آمنوا ولاذوا بملاذ الله تعالى شاهدين: "لا إله إلا الله محمد رسول الله".
الجزء السادس ٦٢٤ سورة الفرقان أَرَهَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَنهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (ج) أَمْ で تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَيمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ٤٥ شرح الكلمات : هواه: الهوى: العشقُ يكون في الخير والشر؛ إرادة النفس؛ المَهْوِيُّ محمودا كان أو مذموما، ثم غلب على غير المحمود (الأقرب).التفسير: يقول المفسرون أن في هذه الآية قلبا أي تقديما وتأخيرا..بمعنى أن المفعول الأول لفعل اتَّخَذَ قد ذُكر بعد المفعول الثاني، والتقدير: "اتخذ هواه إلهه"، ومفهوم الآية عندهم أن الكافرين قد تردّوا بحيث إنهم لا يبالون بماذا يقول ورسوله، بل أصبحوا عبيدا لأهوائهم..أي جعلوا أهواءهم إلههم حيث الله يعني ينقادون لها كانقياد المرء الله تعالى (فتح البيان).ولكني أرى أنه ليس ثمة قلب ولا تقديم ولا تأخير، والمعنى: يا أيها الرسول أرأيت الذي قد جعل إلهه بدرجة هوى نفسه، بمعنى أن المرء كما يسيطر على أهوائه كذلك إن هذا يريد أن يسيطر على إلهه، ومن ذا الذي يمكنه أن ينفع مثل هذا الإنسان؟ وكأن قوله تعالى اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أنه حَطَّ إلهه إلى درجة أهوائه.فكما أن الإنسان يكون له سلطان على هواه، فما وجد من أهوائه متفقا عقله أو مفيدًا له قَبلَه، وما رآه ضارًا رَفَضَه، كذلك يريد هؤلاء أن يكون لهم سلطان على الله تعالى ولا يريدون له الخضوع كلية؛ بل إذا لم يفهموا شيئًا من أوامر الله تعالى، يقولون بكل جسارة: لسنا لنقبل كذا وكذا من الأحكام لأننا لا نفهمه، وإن كان الله تعالى هو الذي قال بهذا.وهذا العيب قد شاع بكثرة في هذه الأيام بين الشباب الذين بهرتهم الحضارة الغربية.فبدلاً من أن يتبعوا أحكام الله تعالى ويعظموها يظنون أنهم الحاكمون على مع
الجزء السادس ٦٢٥ سورة الفرقان الله تعالى وأنه لا يحق له أن يأمرهم بما لا يرونه مفيدا لهم.ويحضرني بهذه المناسبة ذهبت إلى مدينة "بيشاور" في سنة ١٩٤٧ أو ١٩٤٨، فأقام حادث وقع معي.بعض الأحبة مأدبة لي حضر فيها بعض ضباط الجيش من غير جماعتنا أيضا.فذكرتُ أثناء الحديث أمرًا بناء على ما ورد في آية من القرآن الكريم.فقال لي أحد كبار الضباط: إن ما قلته الآن خطأ! فقلت له: يجب أن تقرر أوّلاً أهذه الآية توجد في القرآن الكريم أم لا؟ ثم يجب أن تقرر القرآن الكريم كلام الله أم لا؟ ثم أتعني هذه الآية ما بيّنته أم لا؟ قال: صحيح أن هذه الآية من القرآن الكريم، وأن القرآن کلام الله، وأن ما تقوله هو ما تعنيه هذه الآية أيضا.قلت: فليس علينا الآن أن نرى فيما إذا كان ما تبينه الآية صحيحًا أم لا، وإنما علينا أن نرى هل الله أعلم أم أنت؟ فاحمر وجهه وسكت ،مليا، ولكنه كان إنسانا أمينًا يحب أن يقول ما يراه حقا، فرفع رأسه بعد قليل وقال: يبدو أنني أعلم من الله تعالى.فضحك الجميع، فتعرض للمزيد من الندامة.إذًا، فكثير من الناس يريدون أن يجعلوا الله تابعًا لهم زاعمين أنه لا يحق لله تعالى أن يتدخل في حياتنا الشخصية أو أمورنا القومية والسياسية.ولذلك يقول الله تعالى هنا كيف يمكنك أن تنفع شخصا قد بلغت به كبرياؤه هذه الدرجة، وقد حطّ معبوده إلى درجة هواه ورغبته.إنما ينتفع الذين يتخذون الله تعالى حاكما عليهم، ويقضون على أنانيتهم كلية وعندها يتجلى فيهم نور الله الذي يميزهم عن الآخرين.ثم يقول الله تعالى لرسوله إنك ترى من ظاهرهم أنهم يسمعون أحكام الدين ويفهمونه، ولكنهم كالأنعام في الواقع بل هم أضل منها.ذلك لأن الحيوان يميل إلى أما محسنه ويتبع سيده، هؤلا ؤلاء فيتركون محسنهم ويهربون منه، وقد خلت قلوبهم من عظمته تعالى، فكيف ينالون نصيبًا من رحمته وقربه وعل؟
الجزء السادس ٦٢٦ سورة الفرقان أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظَّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنَّا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤) ثُمَّ قَبَضْنَهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (2) شرح الكلمات : ٤٦ دليلا الدليل المرشد؛ ما به يقوم الإرشاد (أي العلامة) (الأقرب).٤٧ التفسير : هذه الآية برهان عظيم على أن الرسول ﷺ صادق، وعلى أن القرآن من عند الله تعالى ذلك أننا نرى منذ أن ظهر الرسول الله في الدنيا أن ظله لا يزال يمتد ويمتد في شتى النواحي، و لم تأت في حياته ساعة لا يتقدم فيها إلى الأمام.ففي اليوم الأول الذي نزل فيه الوحي على النبي الله ، وخاف من ضخامة المسؤولية - لأن فتح القلوب ليس بأمر هين – رجع إلى بيته فزعًا، وقال لزوجته خديجة - رضي الله عنها: لقد أُلقيت عليّ هذه المسؤولية الكبيرة فماذا أفعل؟ فقالت له من فورها: "كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا".فكأنه بمجرد أن أبدى القلق والتخوف مد الله ظله حيث انضمت زوجته إلى دينه.إن النساء قد يُكثرن التردد والتشكك بطبعهن، ولكن خديجة - رضي الله عنها - بمجرد أن سمعت قول النبي ﷺ قالت له: ها أنا أصبح أول أظلاك.ثم ذهبت خديجة بالنبي الله إلى ورقة بن نوفل، وكان ضليعا بالعلوم اليهودية والإسرائيلية بين العرب فحكت له الحادث.فقال ورقة: "هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى" (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي)..أي لقد نزل عليه نفس الملاك الذي أنزله الله على موسى وهكذا فكأن ورقة بن نوفل قال للنبي بلسان حاله ها أنا أيضًا أصبح ظلاً من أظلالك.إذًا، فقد امتد ظله اليوم الأول مرتين.في ذلك ثم رجع الزوجان، وتكلما في البيت حول حادث الوحي، فقام عبد للنبي ﷺ وكان قد أعتقه وقال: اسمح لي بأن أنضم أنا أيضًا إلى أظلالك.ثم قام علي الغلام الذي قارب الشباب وقال: أنا أيضا أنضم إلى أظلالك.ولما سمع عن الحادث
الجزء السادس ٦٢٧ سورة الفرقان أبو بكر الصديق..صديق طفولته..أسرع إلى بيته وقال: يا رسول الله أنا أيضا الحقيقة التي بينها الله تعالى في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ أصدقك.هذه الظل.نری أنه قد هي لا شك أن الأنبياء يتعرضون لمعارضة أهل الدنيا كما تعرض لها النبي ، ولكنا انضم إليه منذ أوائل بعثته كل أولئك الذين كانوا حوله أو الذين كان لرأيهم ثقل ووزن، وهكذا قد امتد ظله بدون توقف، ولم يأت عليه يوم واحد لم يمتد فيه ظله، إذ لم يمرّ على دعواه يوم أو يومان أو شهر أو شهران إلا وقد انضم إليه بعض الناس.ففي اليوم الأول الذي تلقى النبي الله له فيه وحى الله تعالى امتد ظله حيث آمنت به خديجة.ثم في نفس اليوم آمن به ورقة بن نوفل حين ذهب إليه.وعندما تحدث النبي عن الأمر في بيته آمن علي وزيد.ثم في مساء اليوم التالي انضم أبو بكر له إلى المؤمنين به فكأن الله تعالى لم يخلق له الظل على الفور فقط، بل ما زال يمد ظله باستمرار، وأخذت جماعات أخرى تنضم إليه.وعندما بلغ خبر بعثته إلى المدينة سارع العديد منهم إليه وآمنوا به.ولما ذهب المسلمون إلى الحبشة أسلم ملكها النجاشي أيضا.فثبت أن ظله ما زال يمتد عند كل خطوة باستمرار.ثم يقول الله تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكنًا..أي لولا نصرة الله لك يا محمد، ولولا أنك رسوله الحق، فكان من المفروض أن يجعل ظلك قصيرا بدلاً أن يمده ويزيده.أفلا ترى نصرة الله لك؟ أفلا ترى أنت وأيضًا خصومك وأعداؤك كيف أننا نمد ظلك باستمرار؟ ثم إن من الظلال ما يكون نتيجة لبعض الأحداث التي هي محض صدفة، وكلما امتدت تلك الظلال أكثر انكشف جليًا أنها إنما تمتد نتيجة الأسباب المادية، وليس وراءها تأييد الله ونصرته.ولكن الله تعالى يقول لرسوله ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْه دَليلاً..أي أن ظلك لا يمتد فحسب، بل قد جعلنا الشمس عليه دليلا..أن كل إنسان يرى ويدرك أن هذا الظل لم يُصنع بطريق اصطناعي.ذلك لأن الظل يمكن أن يُصنع بوسائل اصطناعية أي أرضية، فمثلاً إذا وضعت المصباح وراء بمعنى
الجزء السادس ٦٢٨ سورة الفرقان شجرة صار لها ظل ولو وضعت الشمعة وراء شيء كان له ظل أيضا.ولكن المصباح أو الشمعة ليست وسائل سماوية، ولكن الشمس وحدها هي الوسيلة السماوية لخلق الظل.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً..أي أن رقيك يتم بوسائل سماوية ونصرة إلهية، لا بأسباب مادية ووسائل إنسانية.ألا يرى عدوّك أنك تحرز الرقي تلو الرقي من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس رقيك بأسباب مادية أو أيد بشرية، وإنما هي يد الله التي تدفعك إلى الأمام، وهذا دليل على أنك رسولنا الحق.ثم يقول الله تعالى (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا)..أي سنقبض هذا الظل وسيأخذ الليل يخيم على الإسلام بعد ثلاثة قرون، ولكن سيطلع النهار ثانية كما نبأ الله بذلك في قوله تعالى وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾ (الفرقان: ٤٨).فيستيقظ المسلمون من سباتهم نتيجة طلوع الشمس مرة أخرى.وبحسب هذا الوعد الإلهي نرى أن الأحمدية صارت في هذا العصر ظلاً جديدًا للنبي.فكل من ينضم إلى الأحمدية وكل من يؤمن بالمسيح الموعود ال يتسبب في امتداد ظل النبي ل أكثر فأكثر؛ وكل ما نتلقاه من الله تعالى من تأييد ونصرة ليشكل برهانا ساطعا على صدق قول الله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً.وكل هذا يتم بنصرة الله وتأييده لا بتدابير البشر.إذ هل هناك مسألة اتبع فيها المسيح الموعود الل هذه الدنيا.وهل هنا قضية لم يحاول العلم إصلاح أفكار الناس بشأنها؟ هناك عشرات القضايا قد عارض المسيح الموعود ال تيار أفكار أهل هذا العصر عند شرح تعاليم القرآن بصددها، وبدلاً من أن يتبع الناس جعلهم يتبعونه.فمثلا إن الناس في هذا العصر مهتمون جدًّا بموضوع الاقتصاد، حتى يقول كثير منهم إن الحرب بين الأديان حرب زائفة، وإنما النزاع الحقيقي هو حول الخبز، ولو حُسم هذا النزاع لانتهت الحروب بين الأديان أيضًا.ومع ذلك قد 6
الجزء السادس ٦٢٩ سورة الفرقان نهي سيدنا المسيح الموعود اللي عن الإضراب والتأمين والربا (ملفوظات: المجلد ١٦٧-١٦٨، والمجلد الخامس ص ۱۷۲-۱۷۳)، وبالتالي قد قضى على أسباب الثالث ص خبز الناس في الظاهر.فإذا كان النزاع في الدنيا حول الخبز فقط، فكان من المفروض أن يهرب الناس من مؤسس هذه الجماعة اللي بسبب تعليمه، ويقولوا إن هذا الرجل يمنعنا من الخبز، ويمنعنا من الربا، وينهانا عن التأمين وعن الغش والاحتيال بكل أنواعه، وهذا ما لا نستطيع أن نتحمله.ولكن ما حدث هو أن مئات الآلاف من الناس هرعوا إليه رغم هذا التعليم.ثم إن هذا العصر هو عصر اللادينية، حتى إن أعرق الأسر الإسلامية أيضا أخذت تتخلى عن الثقافة الإسلامية وهناك تيار معاد للدين في العالم على وجه العموم.ولكن المسيح الموعود اللي قد حث أتباعه على التمسك بالدين.وبرغم أن نسبة المثقفين بين أفراد جماعتنا أكثر من غيرنا بفضل الله تعالى، ومع ذلك إنهم أكثر اهتماما بالدين من الآخرين ويسعى المسؤولون في الجماعة جاهدين ليصبح أفرادها أكثر تمسكا بالدين من ذي قبل.ثم إن هذا العصر عصر الإضرابات.فقد أصبح تشكيل الأحزاب ضد الحكومات والقيام بالإضراب ضد أصحاب الأعمال والمصانع والأساتذة أمرا عاديًا، ويعتبرونه سلاحًا لا بد منه لتحقيق مطالبهم.ولكن المسيح الموعود العلية فهي عن الإضراب بكل أنواعه، ورغم ذلك ينضم إلى جماعتنا كثير من الطلاب والشباب العاملين في الدوائر الحكومية مع أن الطلاب والشباب هم الذين يقومون بالإضرابات عادة.كما أن العمال أيضا يدخلون في جماعتنا، مع أن هذا التعليم للمسيح الموعود ال يتنافى مع مصالحهم.فالله تعالى يؤكد لنا في قوله ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلاً أن كل رقي تحرزونه لن يتم بالتدابير الإنسانية.وهذا لا يعني أن نمتنع عن اتخاذ الوسائل المادية، وإنما المعنى أن الله تعالى هو الذي سيهيئ لنا الوسائل المادية أيضا ولسنا نحن.أي التأمين على الحياة.(المترجم)
الجزء السادس ٦٣٠ سورة الفرقان إذا، فإن الله تعالى قد جعل النبي شجرة ظليلة لن يبرح ظلها يكبر ويكبر كل يوم وفق النبوءة الواردة في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظَّلِّ.فإذا كان محمد ﷺ مفتريًا، ألم يكن الله قادرا على أن يوقف نمو هذه الشجرة وامتداد ظلها؟ ولو كانت التدابير البشرية وراء امتداد هذا الظل ولم يكن الله تعالى معه، فكان من المفروض أن يوقف تعالى امتداده.ولكنه تعالى ولم يزل يمده بتأييده ونصرته وصار دليلا على صدقه، بدلاً من أن يوقفه ويجعله ساكنا.فالجماعة التي لا يمحوها الله تعالى بل يزيدها وينمّيها، هل تبقى شبهة في صدقها وكونها من عند الله تعالى؟ لما فتح النبي مكة أمر بقتل بعض ألد أعداء الإسلام الذين قتلوا بعض المسلمين، أو قاموا بتحريض الآخرين على قتلهم، أو مثلوا بجثث الشهداء المسلمين.وكانت هند من بين هؤلاء الذين صدر الحكم بقتلهم.عندما علمت هند بهذا القرار النبوي، جاءت متنقبة متنكرة مع مجموعة من النساء اللاتي أتين النبي ﷺ ليبايعنه.فأخذت تردد معهن كلمات البيعة وراءه.ولما قال : قلن لن نشرك بالله أحدا، لم تملك هند - الجياشة بطبعها - نفسها، وقالت من فورها: يا رسول الله، هل نشرك بالله تعالى بعد كل هذا؟ كنت وحيداً، وكنا أُمةً قوية، ورفعت وحدك صوت التوحيد، فقررنا جميعًا كبت صوتك وتوطيد عظمة آلهتنا، واستمرت المواجهة التي بذلنا فيها كل ما في وسعنا، فأصبحنا ننتقص وننكمش، وأصبحت تتقدم وتزدهر، و لم نبرح نلقى هزيمة بعد هزيمة، ورحت تحرز نصراً بعد نصر.فلو كانت آلهتنا تملك أي قدرة ما كان لك أن تنتصر.إن انتصارك علينا، رغم كونك وحيدا لدليل على أن لا خير في الهتنا وأن الله الأحد هو الذي يحكم هذا العالم، وهو الذي نصرك وهزمنا.فقال الرسول : أنت هند؟ وكانت هند تعرف أنها ليست وحدها خاضعة لحكم الإسلام بل إن الرسول ﷺ أيضا خاضع لحكمه، فقالت: نعم! أنا هند، ولكن هند المسلمة، ولن تستطيع الآن أن تضرني شيئًا لأن الإسلام يهدم ما سلف من الذنوب.(الطبري: سنة ٨، ذكر الخبر عن فتح مكة)
الجزء السادس ٦٣١ سورة الفرقان فإذا كان التأييد الرباني حليفًا لأحد كان دليلا على صدقه وصلاحه.وعلامة التأييد الرباني الجماعة هي أنها لا تزال تتقدم رغم المعارضة من أهل الدنيا، ولا يحول حائل دون رقيها وازدهارها.ذلك لأن الله تعالى يأتي لنصرة الجماعة المؤمنة ويؤازرها ويمدّ ظلها ويقويها، ولولا نصرة الله لهذه الجماعة لبقى ظلها ساكنا في مكانه..أي لم يحرز أفرادها أي رقي في الدنيا وكما أن المرء يعرف جهة الظل بمعرفة موقع الشمس، كذلك يعرف المرء برؤية أنواع التأييد الإلهي أي الفريقين سينتصر ويتقدم.يتخلى بید أن نصرة الله الله لا تكون على حالها دائمًا، بل إذا فسد القوم بعد مرور فترة عن نصرتهم، فيغيب ذلك الظل أي الرقي.فعليكم أن تسعوا دوما أن يجعلكم الله وأولادكم ظلاً للرسول لا يمتد باستمرار، وأن يوفقكم أن تحموا ظله دائما وتتسببوا في امتداده باستمرار، لكي تتحقق نبوءة جعل الشمس دليلا على امتداد ظله في كل عصر ، ولتحالفكم نصرة الله بدون انقطاع، وتفشل التدابير البشرية ضدكم.وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ) شرح ٤٨ الكلمات سباتًا السبات الدهرُ ؛ النوم؛ وقيل ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب؛ وقيل أصله الراحة (الأقرب).نعم التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن ظاهرة الليل والنهار والنوم نعمة عظيمة من الله تعالى، إذ يعمل الليل للمرء عمل اللباس، فيغطي كثيرًا من عيوبه، حيث يكون الإنسان في حالة النوم في وضع لو انكشف على الناس وقت النهار لتعرض للندامة والفضيحة، ولكن عيوبه هذه تظل خفية على الناس بسبب الليل، إذ يكون
الجزء السادس ٦٣٢ سورة الفرقان الآخرون أيضًا نائمين في ذلك الوقت.كما أن النوم مجلبة للراحة حيث يستعيد الجسم قوته ونشاطه ثانية، ولولا النوم لأصيب الإنسان بالجنون في بضعة أيام.فإنما هو النوم الذي يحافظ على قوى الإنسان وطاقاته كلها، فيبدأ عمله في كل صباح بنشاط متجدد.ثم يقول الله تعالى ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا..أي جعله سببا لانتشار الناس.فترى القوم ينتشرون في ضوء النهار، ويجرون في كل طرف وصوب ويدبّرون أسباب معيشتهم.وإن ظاهرة الليل والنهار هذه نجدها في حياة الأمم أيضا، إذ يأتي عليها زمن الليل حينًا وزمن النهار حينا آخر.إن عيوبهم كلها تظل خفية في فترة الليل، ولكن عندما يبعث الله تعالى أحدا من عنده للإصلاح يطلع من خلاله نهار جديد، فلا يرى الإنسان تقصيرات الآخرين فحسب، بل يطلع على عيوبه أيضًا، فيتحمس لإصلاح نفسه من جديد ويترقى بالتدريج.で وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) لِنُحْيَ بِهِ بَلْدَةً مِّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَما وَأَنَاسِي كَثِيرًا (3) وَلَقَدْ صَرَّفْنَهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُورًا (3) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (3) فَلَا تُطِعِ الْكَرِينَ وَجَهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ۵۳ من التفسير: أي أن الله هو الذي يرسل الرياح التي تحمل البشرى للناس، وينـــزل السحاب ماء مطهراً تحيا به القرى الميتة، ويسقيه الحيوانات وكثيرا من الناس.
الجزء السادس ٦٣٣ التي هي سورة الفرقان وكل هذه الأمور يضعها الله أمام الناس كمواعظ ليهتدوا بها..أي ليدركوا برؤية الماء المادي أن الله تعالى لا بد أن يكون قد أنزل الماء الروحاني أيضا.ولكن الناس يقدرون الماء المادي، ويرفضون الماء الروحاني.ولو شاء الله لبعث في كل قرية رسولاً، ولكنه لا يبعث رسوله إلا في قرية واحدة فيخرج منها للتبليغ في المنطقة كلها.فيا أيها الرسول لا تتبع ما يقول الكافرون، بل جاهدهم بهذا القرآن جهادًا كبيرا.لقد شبه الله تعالى هنا الوحي بالماء، وبين أننا كما ننشر الماء المادي بين الناس ونحيي به البلاد الميتة كذلك قد نعرض عليهم القرآن ولكن أكثرهم يكفرون بهذه النعمة.إنهم يقبلون نعمة الماء، ويرفضون نعمة الوحي أفضل من الماء، وكأنهم يؤثرون الأحجار على الذهب والفضة كما يفعل الصبيان الصغار.فذات مرة ذهبتُ إلى بومباي وكانت هناك في تلك الأيام قضية ساخنة في بعض المحاكم.فكان أحد الصاغة فقد ستين جوهرة تبلغ قيمتها الملايين.فقدم بلاغا لهذا الحادث للشرطة، فقامت الشرطة بالتحقيق وقبضت على شخص، ووجدت عنده الجواهر المفقودة.وعندما سئل قال: كنت أمرٌ في الشارع، فوجدتُ بعض الأولاد يلعبون ظنا بهذه الجواهر أنها بلورات زجاجية؛ وأخذتُ منهم الجواهر وأعطيتهم بعض النقود.فعلم فيما بعد أن الصائغ كان أخرج من جيبه منديلا، وسقط معه مظروف كان قد وضع فيه الجواهر؛ فوجدها الصبيان وظنوا هذه الجواهر التي يبلغ منهم ثمنها الملايين بلورات زجاجية.وهذه هي حال الناس، فإنهم يقدرون الماء الذي يصبح آسنا ونتنا متعفنا بعد فترة من الزمن، ولكنهم لا يقدّرون الماء الروحاني ويرفضونه مع أنه سينفعهم وأجيالهم في المستقبل، ولا ينفعهم في هذه الدنيا فقط، بل في الآخرة أيضا، ويغيّر حياة الإنسان كلية.وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا فيقول فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا..أي أن معظم الناس يكفرون بنعمتنا هذه دائما، مع أننا لو أردنا لبعثنا في كل قرية نذيراً..بمعنى أننا لو أردنا إقامة الحجة عليهم في عجلة، لأرسلنا في كل قرية نبيا ينذرهم عوضا عن أن نبعثه في القرية المركزية التي تنتشر منها دعوته في
الجزء السادس ٦٣٤ سورة الفرقان كل المنطقة شيئًا فشيئًا.ولكنا لم نبعث في كل قرية نذيرا، إذ لو كفرت كل قرية رسولها لشمل العذاب كل قرى العالم دفعة واحدة، وهلك الناس أجمعين.ولكنا لا نفعل الآن هكذا، بل نقيم الحجّة أوّلاً على العرب فيحل بهم العذاب، ثم بعد فترة نقيم الحجة على الفرس فيحل عليهم العذاب أيضًا، ولو بعث إلى كل قرية نبي لحل العذاب بكل قرية وبكل مدينة.لذا يقول الله تعالى لنبيه: فلا تطع هؤلاء الكافرين فيما يقولون، بل جاهدهم بالقرآن الكريم جهادا كبيرا..أي جهاد التبليغ والدعوة.وهذا هو الجهاد الذي يخافه المسلمون اليوم ويتهربون من القيام به بحجة أن الجهاد الأصلي هو جهاد السيف، كما يتهربون من جهاد السيف أيضًا بحجة أن العدو أقوى منهم.إن مشايخهم يفتون ويقولون ،هلموا أيها المسلمون وقاتلوا الأعداء، فيقولون لهم: تعالوا يا شيوخنا وعلماءنا وقاتلوا الأعداء، لأنكم زعماؤنا وقادتنا.ثم يهرب الطرفان إلى البيوت هذا برغم أن الله تعالى قد أعطانا ذلك السيف الذي لا يصدأ أبدا، ولن يفل ولا ينكسر في أي حرب أبدًا.لقد مضى عليه ثلاثة عشر قرنا، وقد أرادت أمم كثيرة قوية كسر هذا السيف لكي يصبح عديم النفع إلى الأبد، ولكنهم فشلوا في ذلك.إنه سيف القرآن الكريم الذي أعطانا الله إياه.إنه هو السيف الذي نستطيع به فتح العالم كله.ولذلك يقول الله تعالى ﴿وَجَاهِدْهُمْ به جهادًا كبيرًا.أي أن كل جهاد سواء أكان بالسيف أو بالنفس أو بأي شكل آخر، أقل شأنا من الجهاد بالقرآن إن الجهاد بالقرآن هو الجهاد الكبير العظيم.إنه السيف الذي من سقط عليه قطع رأسه ومن سقط هو عليه ضرب عنقه، أو دخل في الإسلام طائعا لينال الحياة الخالدة.إذا كان الإسلام لم ينتشر في العالم كله رغم انقضاء ثلاثة عشر قرنا فليس سببه أن هذا السيف قد أصبح مفلولا بل إن من أكبر دواعيه أن المسلمين تركوا استعمال هذا السيف.لقد أقام الله الأحمدية اليوم وناولها هذا السيف مرة أخرى، وأراد أن يجعل دينه غالبًا على الأديان كلها ثانية، ولكن بعض الأغبياء من الفرق الأخرى يتهمون المسلمين الأحمديين بأنهم لا يؤمنون بالجهاد.إنما مثل هؤلاء كمثل الذين يحاولون الهجوم على حصن العدو بالمقالع، فيراهم آخرون
الجزء السادس ٦٣٥ سورة الفرقان من ويقولون متى تفتح الحصون بالمقالع فيُحضرون لهم المدافع، ولكن هؤلاء بدلاً أن يشكروهم يعترضون عليهم قائلين: لماذا تهاجمون العدو بالمدافع، ولا تهاجمونه بالمقالع كما نفعل نحن؟ إن هؤلاء الأغبياء يعتبرون أنفسهم أول المجاهدين عن ذلك الإسلام مع أنهم لم يُدخلوا طيلة حياتهم شخصا واحدا في الإسلام، ومع يتهمون بإنكار الجهاد قوما قد بلغوا دعوة الإسلام إلى شتى أنحاء العالم.يدرسون الصرف والنحو من الصغر إلى الكبر حتى يُفنون عقولهم بقراءة هذين العلمين.لا يعلمون ما القرآن ولا يرفعون بصرهم طيلة حياتهم إلى القرآن، ولا يتدبرون في معانيه ومعارفه ومطالبه أبدًا؛ ومع ذلك يتهمون بإنكار الجهاد شخصا تنخلع بسماع اسمه قلوب القساوسة المسيحيين، ويخافون أن يخوضوا في النقاش مع أدنى غلمانه وخدامه الا عندما أعلن المسيح الموعود الدعواه كان المسلمون عديمي الحيلة وفي غاية الكسل.لم تبق عند عامة المسلمين قوة العمل، أما الخواص فكانوا يمدون أيديهم إلى المسيحية للتصالح خوفا من هجماتها.وكان خدام الإسلام قد اتخذوا موقف الاعتذار أمام الأوروبيين الذين كانوا يعترضون على بعض الأحكام الإسلامية بأنها غير صالحة للعمل عندها انبرى مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، وأعلن احتجاجه الشديد على الموقف الاعتذاري الذي اتخذه المسلمون، وقال بصوت عال وبكل شجاعة إن الإسلام ليس بحاجة إلى أي معذرة.إن كل أحكامه مليء بالحكم، وكل أمر من أوامره حق وصدق.وإذا كانت منهم حكم من أوروبا لم تستطع أن ترى محاسن الإسلام، فهو لأنها عمياء أو لأننا نحن المسلمين لم نقرب إليها نبراس الإسلام كما ينبغي.فليست السبيل إلى حماية الإسلام أن نعتذر، بل أن نبلغ تعاليمه الأصيلة إلى الأوروبيين.وفي الوقت الذي لم يتصور فيه أحد أن أوروبا سترغب في الإسلام، قام المسيح الموعود اللي بتوزيع مقالاته المترجمة للإنجليزية في أوروبا.وعندما وهب الله تعالى له الجماعة بين لأتباعه أن الجهاد ركن هام من الإسلام، فلا تغفلوا عنه أبدًا.لا بد من الجهاد في كل عصر، تماما كما لا بد لنا من القيام بالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من أحكام الإسلام في كل زمن.
الجزء السادس ٦٣٦ سورة الفرقان لقد قال عامة العلماء القدامى أن الصلاة والصوم والزكاة مقدمة على الحج، ثم يأتي الجهاد درجة (فتح البارئ: كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم).فقال العلامة ابن رشد إن الجهاد يأتي بعد الصلاة والصوم والزكاة ثم يأتي بعده الحج.ولكنا لو تدبرنا الأمر لوجدنا أن قول العلماء القدامى أصح، لأن الذي لا يواظب على أداء الصلاة والصوم والزكاة والحج لا يمكن أن تتولد فيه روح الجهاد، فكيف يقوم بالجهاد؟ إذًا، فإن الصلاة والصوم والزكاة والحج أحكام هامة جدا للمؤمن، ومن المستحيل أن تتولد فيه روح الإسلام ما لم يعمل بها.فإذا تحلى بروح الإسلام فعليه أن يخرج للتصدي لكل العالم غير الإسلامي حاملاً القرآن في يده، ومن أجل ذلك فقد خاطب القرآن الكريم هنا المسلمين بصدد الجهاد خطابًا فرديا وليس جماعيًا، واعتبره فرضًا على كل مسلم وفي هذا دليل أن المراد الحقيقي من الجهاد هو الجهاد بالقرآن لا الجهاد بالسيف، لأن الجهاد بالسيف مشروط بالاستطاعة والقوة، والقوة تكون بالتجمع.أما الجهاد بالقرآن فلو كان هناك مؤمن واحد كامل الإيمان فإن الإسلام يفرض عليه الخروج للجهاد ،بالقرآن وسينضم إليه الآخرون شيئا فشيئا.ولذلك تجد سيدنا المسيح الموعود اللي قد خرج وحده للجهاد ضد قساوسة المسيحيين وزعماء الهندوس وغيرهم، ثم وهب الله له الجماعة أيضًا بالتدريج.كما بين حضرته ل للناس أن الله تعالى قد جعل الجهاد نوعين: جهادًا في أيام الحرب وجهادًا في أيام السلم.فإذا شن قوم الهجوم على المسلمين بسبب 6 إسلامهم ليردّوهم عن دينهم بالقوة، كما فعل أهل مكة في عهد الرسول ، فإن الله تعالى يأمرهم في هذه الحالة بأن يردوا على السيف بالسيف.ولكن إذا لم يمنع هؤلاء الناس من الدخول في الإسلام فأيضًا لا ينتهي الجهاد، بل أمر الله الله المسلمين أن يأخذوا في أيديهم سيف البرهان والتبليغ كي لا يتوقف ازدهار الإسلام في أيام السلم أيضًا كما لم يتوقف في أيام الحرب، ولكي ينتشر نور الإسلام في فترة الحرب وفي فترة السلم أيضًا، ولكي لا تضعف القوة العملية في المسلمين.
الجزء السادس ٦٣٧ سورة الفرقان ولكن بما أن القوى العملية في المسلمين كانت قد أصيبت بالشلل في ذلك الزمن، فعارض زعماؤهم المسيح الموعود الليلة في قضية الجهاد أيضًا.فبما أنهم كانوا لا يريدون العمل من جهة، ومن جهة أخرى كانوا لا يريدون أن يقروا بأنهم يتهربون من العمل، فقد مكروا مكرا عجيبا، وأخذوا يشيعون بين الناس أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية منكر للجهاد!.والحق أنه بهتان عظيم وافتراء مبين.إن حضرته ال لم يلغ الجهاد قط، وعلى النقيض قد أعلن أنه لا بد من العمل بحكم الجهاد في كل عصر كأي ركن من أركان الإسلام.ولكن بما أن الجهاد بالسيف في كل وقت مستحيل، وبما أن الكسل مدمر لأي جماعة، فقد جعل الله الجهاد قسمين، فإذا تعرض الإسلام للهجوم بالسيف فلا بد من الجهاد بالسيف؛ وإذا انتهى هجوم الكفار على الإسلام بسيف الحديد فمن واجبنا أن نهاجمهم بسيف القرآن إذا ، فلا يمكن تركُ الجهاد في أي وقت، بل لا بد للمسلمين من الجهاد حينًا بالسيف وحينًا بالقرآن.إذا، فكان هناك خصام عجيب، لأن الشخص الذي كان يدعو المسلمين إلى الجهاد وكان يُفتي بأن الجهاد واجب في كل زمن، كانوا يتهمونه بإنكار الجهاد؛ أما الذين كانوا لا يخرجون للجهاد لا بالسيف ولا ،بالقرآن، فكانوا يُعدون من المؤمنين بالجهاد.وكل عاقل يدرك أن هذه الفتاوى كان يمكن أن تعيق طريق الجماعة الإسلامية الأحمدية، ولكنها ما كانت لتنفع الإسلام أبدا.كان الإسلام ملقى في الميدان كزين العابدين لله في ميدان كربلاء بدون نصير أو معين.كان المسلمون يدعون أنهم يؤيدون نظرية الجهاد الإسلامي، ولكن ما حدث فعلاً أنهم تركوا ساحة القتال خالية لأعداء الإسلام، وتوجهوا إلى محاربة جماعتنا التي كانت تقوم بالجهاد للإسلام بالفعل ولكن قد رأت الدنيا اليوم بعد تجربة طويلة أن خطة العمل التي قدمها مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي كانت الخطة المثلى؛ إذ لم يستطع المسلمون حتى اليوم أن يقوموا بالجهاد بالسيف رغم كل تلك الضجة التي لا يزالون يثيرونها ضد جماعتنا منذ سبعين سنة.لم يوفق حتى اليوم أي من المشايخ الذين أفتوا علينا بالكفر أن يحمل السيف، ولكن الله تعالى قد كتب هي
الجزء السادس ٦٣٨ سورة الفرقان للأحمديين الذين يجاهدون بالقرآن فتحا في كل موطن.لقد تمكنوا، بفضل الله تعالى ورغم معارضة المشايخ من أن ينتزعوا مئات الآلاف من أتباع الأديان الأخرى ويأتوا بهم إلى حظيرة الإسلام، وأدخلوا في الإسلام عشرات الآلاف من الأوروبيين والأمريكان والأفارقة الذين كانوا يسبون سيدنا ومولانا محمدًا رسول الله ﷺ من قبل.فأضحى أعداء الرسول الله اليوم يصلّون ويسلمون عليه تسليمًا.يقول البعض أن هذا الانقلاب إنما يرجع إلى التنظيم المحكم للجماعة الإسلامية الأحمدية.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف وُفِّقنا لهذا التنظيم المحكم، بينما الله هذا التوفيق من الآخرين؟ ليس سبب ذلك إلا أن الآخرين لم يتبعوا انتزع الطريق السليم لخلق القوة العملية فيهم.إن الجنود إذا لم يُدرَّبوا تدريبًا صحيحًا لا يقدرون على القتال عند الحاجة.وإن الأمة التي لا تخوض في الجهاد كل حين لا تقدر على الجهاد في المواقف الحاسمة.فثبت من هنا أن الفتح كان حليفا للمسيح الموعود الله في هذا المجال أيضًا، إذ إن الأمر الذي أدركته بصيرته الثاقبة لم يفطن إليه الآخرون.لقد حاربته الدنيا، فكان مصيرها الهزيمة أما هو فقبل هذا التحدي وانتصر.وجدير بالذكر هنا أن العقيدة التي بينها المسيح الموعود اللي عن الجهاد لم يكن هو الوحيد الذي اعتنقها، بل هذا هو مذهب غيره من علماء الإسلام أيضًا، فمثلا قال الإمام الراغب الأصفهاني: "الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس." (المفردات) ورُوي أن المولوي نذير حسين الدهلوي أمير جماعة "أهل الحديث" قال: إن الثورة التي قام بها بعض المسلمين ضد الحكومة الإنجليزية سنة ١٨٥٧م لم تكن جهادا مشروعًا، بل كانت خيانةً وغدرًا وفسادًا وعنادًا، وأن الذين اشتركوا فيها وساعدوا من اشترك فيها كانوا آثمين.مجلة إشاعة السنة، مجلد ٦ عدد ١٠ أكتوبر ونوفمبر ١٨٨٣) وكتب السير سيد أحمد خان عن هذه الثورة: ص ۲۸۸
الجزء السادس ٦٣٩ سورة الفرقان "إن تشاور المسلمين وتأمرهم بكل شدة لكي يتحدوا ويجاهدوا ضد أتباع الأديان الأخرى ليتحرروا من حكومتهم لأمر لا جواز له مطلقا.ما دام المسلمون يتمتعون بالأمن تحت ظل حكومتنا، فما كان جائزا لهم أن يقوموا بالجهاد داخل حدود هذه الحكومة.فقبل حوالي عشرين أو ثلاثين سنة قام شيخ كبير يُدعى الشيخ محمد إسماعيل بجولة في كل الهند يحث الناس على الجهاد، ولكنه قال صراحة: لا يجوز لسكان الهند الذين يتمتعون بالأمن تحت ظل الحكومة الإنجليزية، أن يجاهدوا ضدها.وعندما اجتمع آلاف الجهاديين من شتى مناطق الهند، لم يثيروا أي فساد داخل حدود الحكومة الإنجليزية، وإنما ذهبوا إلى الحدود الغربية وحاربوا (السيخ) في منطقة "البنجاب"." (اسباب بغاوت هند (أي أسباب الثورة في الهند) للسير سيد أحمد خان ص (1.0-1.2 ويقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره "المنار": "إن الأفرنج ومقلّديهم وتلاميذهم من نصارى الشرق يزعمون أن الجهاد هو قتال المسلمين لكل من ليس بمسلم لإكراههم على الإسلام، وإن لم يعتدوا ولم يعادوهم.وقد علمت مما تقدَّمَ آنفًا وما سنفصله به تذكيرا بما فصلناه من قبل، أن هذا كذب وافتراء على الإسلام" (تفسير المنار: سورة التوبة، قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون...إلخ) ويقول أيضًا: فعلم من هذا التفصيل أنه ليس في مسألة جهاد العدو بالسيف إجماع من المسلمين إلا في حال اعتداء الأعداء على المسلمين وحينئذ إذا أعلن الإمام النفير العام وجبت طاعته، وإذا استنفر بعضهم كالجند المرابط والمتعلم وغيرهم وجبت طاعته، فإنه يطاع في الواجب الكفائي كالواجب العيني".(المرجع السابق) إن الشيخ المودودي يحث على الجهاد كثيرا في هذه الأيام، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: يجب أن نرى، على ضوء فتاوي العلماء، من الذي يدعوه المودودي إلى الجهاد؟ إذا كان المودودي نفسه إمامًا واجب الطاعة، فلن يعمل بفتواه إلا أتباعه دون الآخرين.ثم هلا يخبرنا أحد من أتباع المودودي كم منهم
الجزء السادس ٦٤٠ سورة الفرقان يقاتلون غير المسلمين بالسيوف فعلا؟ وإذا لم يكن أحد منهم يقوم بالجهاد الذي يفتي به شيخهم المودودي فثبت أنه ليس ثمة رجل صالح واحد بين أتباعه.فتسمية الجماعة المودودية بجماعة الصالحين حمق وغباء.إن الجماعة التي لا تطيع أميرها ولا تطيع القرآن الكريم أيضا كيف يمكن أن تُسمى صالحة؟ والأمير واجب الطاعة عند أتباعه إذا لم يأمرهم بالجهاد رغم إيمانه بضرورة الجهاد، لا يمكن أن أميرا يسمى صالحا أيضًا.محمل القول إن سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللة لم يأمر أتباعه بصدد الجهاد إلا ما أقره العلماء الأسلاف على مر العصور.أما لفظ "النسخ" أو "الحرام" الذي قد استعمله حضرته اللي بصدد الجهاد، كما ورد في شعره بالأردية: هو أن حضرته العلية لا دیں کے لئے حرام ہے اب جنگ اور قتال يعتبر نفسه من (تحفة غولروية (ضميمة)، الخزائن الروحانية المجلد ۱۷ ص ۷۷) – أي حرام أي حرام الحرب والقتال من أجل الدين الآن - فإنما يقصد به ذلك النوع من الجهاد الذي لا يجوز في هذا العصر، وليس أن الجهاد حرام بأي شكل حقيقة وللأبد.والدليل على ذلك أمة المصطفى ، وما دام الجهاد فريضة من الله ورسوله، فكيف يحق لأحد من أمة المصطفى أن ينسخ حكمًا لله ولرسوله؟ لقد صرّح حضرته في كتبه مرارًا وتكرارًا أن القرآن الكريم شريعة أبدية وكل لفظ منها قابل للعمل، ولا يمكن أن يتبدل أي حكم من أحكامها إلى يوم القيامة.فقد كتب حضرته العليا: "إن رقبتي تحت نير القرآن الكريم، وليس لأحد أن ينسخ حتى ينسخ حتى نقطةً أو حركةً واحدةً من القرآن الكريم".(مجموعة اشتهارات" (بالأردية) المجلد الثالث ص ٥٩٧، وجريدة "أخبار عام" لاهور ٢٦ مايو ١٩٠٨م) ولفظ النسخ بمعنى إلغاء الشيء مؤقتًا مستعمل في اللغة العربية، فقد ورد في المفردات للإمام الراغب – وهو قاموس رائع لبيان معاني مفردات القرآن الكريم:
الجزء السادس ٦٤١ سورة الفرقان "النسخ إزالة شيء بشيء يتعقبه، كنسخ الشمس الظل والظل الشمس والشيب الشباب." أي أن النسخ في بعض الأحيان يكون مؤقتًا كما تنسخ الشمس الظل والظل الشمس، وأحيانًا يكون أبديًا كما ينسخ الشيب الشباب للأبد.فبما أن القرآن الكريم شريعة أبدية فلا يمكن أن يُستعمل لفظ النسخ بصدد أي حكم من أحكامه إلا بمعنى التأجيل والتأخير.كما صرح مؤسس الجماعة بنفسه في بيت شعر له بالأردية: فرما چکا هےس سيد كونين مصطفى عیسی مسیح جنگوں کا کر دیگا التوا (تحفة غولروية (ضميمة)، الخزائن الروحانية المجلد ١٧ ص العلمية الا (۷۸ أي أن سيد الكونين المصطفى قد سبق أن أخبر أن عيسى المسيح الموعود تأجيله سيؤجل الحروب.لقد ثبت من هنا أن كل ما قاله حضرته العلية عن الجهاد إنما كان بمعنى وليس بمعنى نسخه للأبد، إذ قد صرّح هنا أيضًا وقال : لست أنا الذي أفتي بتأجيل الجهاد في هذا العصر، بل إن الرسول له نفسه قد أخبر بذلك.ويتضح من كتاباته جليًا أنه من الممكن تماما أن يضطر المسلمون للجهاد بالسيف في وقت من الأوقات في المستقبل.فقد كتب حضرته اللي ما تعريبه: من الممكن بل من الممكن تماما..أن يأتي في زمن من الأزمان مسيح تنطبق عليه بعض كلمات الأحاديث حرفيًا، ذلك لأن هذا العبد المتواضع لم يأت بالحكم والملك الماديين، بل جاء بحلّة الزهد والفقر.وما دام الأمر كذلك فما التي يواجهها العلماء؟ فقد تتحقق أمنيتهم أيضا في يوم من الأيام." (إزالة أوهام، هي المشكلة الخزائن الروحانية المجلد الأول ص ۱۹۷-۱۹۸) فثبت أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي قد أعطى بصدد الجهاد نفس التعليم الذي قدمه القرآن الكريم، وأن الجهاد الذي قد تم تأجيله في زمنه هو الجهاد بالسيف، إذ لا تتوافر في هذا العصر الظروف والشروط التي توجب الجهاد
الجزء السادس ٦٤٢ سورة الفرقان بالسيف.بيد أن حكم الجهاد بالقرآن أهم وأوكد من حكم الجهاد بالسيف، وقد قضى حضرته الله كل حياته في هذا الجهاد الذي قد أكد الله عليه بقوله وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كبيرًا )..أي جاهد غير المسلمين بالقرآن فهو الجهاد الكبير.فقد قال صاحب "روح المعاني" في تفسير قوله تعالى وَجَاهِدْهُمْ بِه جِهَادًا أي بالقرآن...وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة...فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير." (روح المعاني) إذا، فلفظ الجهاد الذي قد ظنّه المسيحيون شيئا مخيفا إنما هو في الحقيقة التبليغ والدعوة والواقع أن الجهاد الحقيقي ليس ذلك الذي يكون بالسيف، بل ذلك الذي يكون بالقرآن الكريم..أي الذي يتم بالأدلة والبراهين، حيث يتم غزو القلوب بالآيات والمعجزات.ولكن المؤسف أن المسلمين ظنوا أن القتال بالسيف هو الجهاد فقط، وكانت النتيجة أنهم لما نالوا الحكم والغلبة جلسوا مطمئنين دون أن يقضوا على الكفر تماماً في العالم.ولو أنهم فهموا حقيقة الجهاد كما بينها سيدنا المسيح الموعود ال..أي لو أدركوا أن الجهاد اسمٌ لكل فعل يتم لإرساء الخير والتقوى، وأن الجهاد كما يتم بالسيف فإنه يتم كذلك من خلال إصلاح النفس وتبليغ الإسلام والتضحية بالمال وأن لكل نوع من الجهاد ظروفه وشروطه، لما رأوا هذا اليوم التعيس.ولو فهم المسلمون هذا التعريف للجهاد، لما ظنوا أن الجهاد قد انتهى حين نال الإسلام الغلبة الظاهرة، بل أدركوا أنه قد انتهى نوع واحد من الجهاد فقط، وأن عليهم أن يستمروا في القيام بغيره من أنواع الجهاد.ولو فعلوا ذلك لم ينتشر الإسلام في بلاد الشرق فقط، بل لكانت أوروبا اليوم أيضا مسلمة، و لم يتعرض الإسلام للزوال والانحطاط نتيجة رقي الأوروبيين وازدهارهم.باختصار، إن المسيح الموعود الله قد نبهنا إلى أنواع مختلفة للجهاد وظروفه.إنه لم يقل أن الجهاد بالسيف ممنوع للأبد، بل أخبرنا أي الجهاد مناسب في هذا العصر بحسب الشرع.ثم قام بهذا الجهاد عمليا بكل حماس وشدّة، وبلغ دعوة الإسلام إلى كل العالم.إذا كان الجهاد بالسيف فرضا اليوم، فالسؤال الذي يطرح
الجزء السادس ٦٤٣ سورة الفرقان نفسه هو: هل كل مسلم خرج لمحاربة الكفار حاملا السيف؟ عندما يُعرض المسلمون الأحمديون على ربهم سيقولون له يا رب لم يكن الوقت وقت السيف بالجهاد برأينا، وإذا كنا أخطأنا فهو خطأ اجتهادي.ولكن ماذا سيجيب به المشايخ المعارضون لنا ؟ هل يقولون يا رب كنا نؤمن أن الوقت وقت الجهاد، وكنا نوقن أن الجهاد قد صار فرضًا علينا، ولكننا لم نقم بالجهاد بالسيف، لأن قلوبنا وجلت منه، كما لم نأمر غيرنا من المسلمين الذين لم يكونوا خائفين من القتال بأن يخرجوا للجهاد بالسيف، لأننا خفنا من أن يقبض علينا الكفار ويعاقبونا!؟ وبوسع كل إنسان منصف أن يحكم بنفسه أي الفريقين سيكون جوابه مقبولا عند الله تعالى؟ الحقيقة أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العلم لم يوقظ بهذا التعريف للجهاد المسلمين من سباتهم فحسب، ولم يفتح لهم طريقا واسعا للرقي والتقدم فحسب، بل أنقذهم من إثم كبير، ذلك لأنهم كانوا يؤمنون بأن الوقت وقت الجهاد بالسيف ولكنهم لم يقوموا بالجهاد باعتباره فرضًا واجبًا عليهم، وهكذا كانوا قد أصبحوا آئمين بهذا الإحساس بالذنب؛ ولكنهم كلما اعترفوا الآن بالتعريف الذي قدمه المسيح الموعود ال عن الجهاد زال عن قلوبهم الشعور بالذنب وأدركوا أنهم لم يغدروا بالله وبرسوله بعدم قيامهم بالجهاد بالسيف، وأن مؤسس الجماعة الإسلامة الأحمدية قد أحسن إليهم أحسانًا عظيما حين نبههم إلى فريضة تبليغ الإسلام.وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا شرح الكلمات: مَرَجَ مَرَجَ الله البحرين العَذْبَ والملح خلطهما حتى التقيا؛ وقيل: خلاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر.(الأقرب)
الجزء السادس ٦٤٤ سورة الفرقان فرات: الفرات: الماء العذب جدا، أو الذي يكسر العطش لفرط عذوبته.(الأقرب) التفسير: لقد بينتُ آنفًا أن فعل مرج يعني ،خلط، وعليه فالمراد من قول الله تعالى ﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْن أنه تعالى قد خلط البحرين، أحدهما عذب يجلب السكينة لشاربه، والآخر مالح مَرٌّ.وبرغم أنهما مختلطان إلا أنه يظل بينهما حاجز.يفصلهما دائما.القاعدة أنه إذا خلط شيء حلو بشيء مالح تكون شيء ثالث جديد مختلف عنهما.فمثلاً إن بعض الناس يضيفون الملح إلى الشاي الحلو فيصبح شيئًا عجيبًا، وأنا أسميه شايا منافقا دومًا، ولا يعجبني إطلاقا.ولكن الله تعالى يقول هنا إن اختلاط هذين المائين لا يولّد ماءً منافقاً، بل نقول لهما حجرًا مَحْجُورًا..أي أيها المختلطان، لا يمتزجنَّ أحدكما بالآخر، بل يجب أن يظل كل واحد منكما منفصلا عن غيره.لقد أشار الله تعالى في هذه الآية إلى أمر هام وهو أنه تعالى قد جعل بحكمته البالغة نوعين من الذخائر المائية في العالم المادي أحدهما البحر الذي ماؤه مالح، وثانيهما النهر الذي ماؤه حلو.وقد جعل بينهما حواجز وفواصل حتى لا يفسد أحدهما الآخر.وبالفعل ترى أن ماء البحر المالح لا يفسد ماء النهر العذب، كما لا يقدر الماء العذب النهري على إزالة مرارة المياه البحرية.كذلك قد جعل الله تعالى علامات بينة وحدودا فاصلة بين تعليم السماء الذي يشبه الماء العذب وبين تعليم الكفر الذي يشبه الماء المالح.هذا لا أن الكافر لا يمكن أن يصبح مؤمنًا وأن المؤمن لا يمكن أن يصبح كافرا، بل المراد أن الكفر لا يمكن أن يتحول إيمانًا، كما أن الإيمان لا يمكن أن يتحول كفرا، وإنما يظل بينهما فرق بين واختلاف واضح، بحيث إنه برغم أن المؤمنين يعيشون مع الكافرين في بلد واحد ومدينة واحدة وحارة ،واحدة، ويعملون معًا، وتكون بينهما علاقات وصلات، ويشاطرون الأفراح والأتراح ؛ ومع ذلك تكون بينهم منافاة تامة وفرق واضح من الناحية الروحانية، فلا يجني أتباع الدين الباطل ما يجنيه أصحاب الدين يعني
٦٤٥ الجزء السادس سورة الفرقان الحق من الثمار والبركات، وكأن هناك برزحًا يفصل بين الفريقين دائما.فإن الذي الله يتبع الدين الحق يتشرف بوحي وكلامه، وتستجاب أدعيته بكثرة، وتنكشف عليه العلوم السماوية والمعارف الروحانية، أما الكافر الجالس بجنب هذا المؤمن فيأتي إلى الدنيا أعمى، ويذهب منها كأعمى، لأنه يظن ماء الحياة سما زعافًا فلا يشربه، ويظن السم ترياقا فلا يزال يشرب منه.قصارى القول إن هناك حكمة وراء وجود الكفر والإيمان معا في هذه الدنيا، ولكن الله تعالى قد جعل بينهما حاجزًا يميز بينهما على الدوام.وعلاوة على هذه المقارنة بين الكفر والإيمان، فإن هذه الآية تتضمن نبوءة عن الفتنة الدجالية الغربية أيضًا.ذلك أن القرآن الكريم قد استعمل هنا كلمات هذا مِلْحٌ أُجَاجٌ، ولفظ (أَجَاج يشير إلى شعوب يأجوج ومأجوج.بينما استعمل القرآن إزاء ذلك لفظ عَذْبٌ فُرَاتٌ لأهل الإسلام.أما قوله تعالى حجرًا مَحْجُورًا فقد بين تعالى فيه أنه لا مناص لكم من العيش مع هذه الأمم الغربية، ولكن يجب أن لا تنسوا أبدًا أنكم عَذْبٌ فُرَاتٌ وهم مِلْحٌ أُجَاجٌ، فلا تقلدوا الغرب أبدا، بل عليكم، رغم عيشكم بينهم، أن تقولوا لهم في أمور دينكم صراحة: لا يمكن أن نتفق في هذا المجال، فهناك بون شاسع بيننا وبينكم.وهذا الأمر الرباني يماثل ما أوصى الله تعالى به المؤمنين بأن يقولوا للكافرين صراحة لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (الكافرون: ٣-٤)، وأن يظل بينهم وبين الكافرين برزخ على الدوام.لقد أخبر الرسول له نفسه أنه لم تكن هناك فتنة أعظم من فتنة الدجال منذ أن خلق الله الدنيا (مشكاة المصابيح: باب العلامات بين يدي الساعة وذكر الدجال، ومسلم: كتاب الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال).لقد ثبت من هنا أن الفتن التي ظهرت في العصور الماضية ضد الدين كانت محلية فقط.فمثلاً كانت الفتنة التي ظهرت في الهند ،مستقلة، ولم تتأثر من فتنة تقع في إيران؛ وكانت الفتنة الإيرانية مستقلة وما كانت تتأثر من فتنة يونانية؛ وكانت الفتة المصرية مستقلة، فما كانت تتأثر من إيرانية ولا من فتنة يونانية.ولذلك فما كانت هذه الفتن تهاجم الدين هجومًا فتنة
الجزء السادس ។។ سورة الفرقان موحدا، بل كان مثلها كمثل قطاع الطرق الذين يعيثون في الأرض الفساد هنا وهناك.لا شك أن نشاطاتهم تهدد أمن البلاد، ولكنها لا تهدد الحكومة، لأن الحكومات إنما تُدمر نتيجة النشاطات التي تقوم بها عصابات قوية منظمة.أما في هذا العصر فبسبب اختراع شتى وسائل الاتصال والمواصلات من قطار وبرقية وهاتف ومطابع وما إلى ذلك، فقد أصبحت آسيا تؤثر على أفريقيا، وأفريقيا على آسيا، وتتفاعل أوروبا مع أمريكا، وأمريكا مع أوروبا، فانتشرت الفوضى الدينية في كل بلاد العالم على حد سواء.فالفرق الواضح بين هذه الفتنة والفتن السابقة أنها أصبحت فتنة عالمية.فمثلاً ليست اليابان دولة مسيحية، ومع ذلك فإن أفكارها تابعة لتيار الأفكار الغربية وبرغم أن الصين ليست دولة مسيحية ولكن أفكارها أيضا صارت تابعة للغرب.ونفس الحال بالنسبة لإيران وتركيا والجزيرة العربية فهى ليست بلادا مسيحية، بل هي إسلامية في الظاهر، ولكن أفكارها أيضا أصبحت تابعة لأفكار الغرب.باختصار إن كافة الحركات والتيارات تبدو لك منظومة في سلك واحد، الأمر الذي زاد هذه الفتنة خطرًا.كان الناس في الماضي يقولون مثلاً إن الإيرانيين أو اليونان يقولون كذا، أما اليوم فيقولون إن كل إنسان عاقل يقول كذا.ولو قيل لأحد في الماضي إن الإيرانيين يعتقدون هكذا، فكان السامع يقول في نفسه: ربما لا يؤمن باقي العالم بما يعتقده الإيرانيون فكان لا يصاب بالرعب.وكان الأمر الواقع أيضًا هكذا إذ لم تكن السيئة الواحدة منتشرة في العالم كله، بل كان بعض الأقطار مصابًا بسيئة وبعضها مصابًا بسيئة أخرى.فمثلاً إذا كان الإلحاد منتشراً في الهند كانت إيران مصابة بالفسوق؛ وإذا كانت اليونان تحت تأثير الفلسفة كانت مصر خاضعة للوثنية.لذا فما كانت اعتراضات أعداء الدين متماثلة، كما لم تكن معارضتهم موحدة ولا منظمة.أما في هذا العصر فقد أصبحت أفكار جميع الناس تابعة لتيار فكري واحد، وكل حركة تنشأ في أي قطر من العالم يكون هدفها واحدًا فقط..أي أن تُبعد الناس عن الله تعالى وتأخذهم إلى المادية.فسواء ذهبت إلى الصين أو اليابان أو إيران أو أفغانستان أو سيبيريا، وجدت
الجزء السادس ٦٤٧ سورة الفرقان مرضا واحدًا بأن كل إنسان يُؤثر الدنيا على الدين، ويسعى لمحو حب الله تعالى من : قلوب البشر.ولكن الأمر لم يكن هكذا من قبل في كل العالم في وقت واحد قط.والأمر الآخر الذي يميز هذه الفتنة عما سبقها من الفتن، هو أن الهجمات الماضية على الدين كان لها طابع فلسفي والفلسفة أساسها الوهم والخيال، أما الهجمات المعاصرة على الدين فأساسها العلم (SCIENCE)، والعلم أساسه المشاهدة والملاحظة.ويمكن للمرء أن يرد على الهجمات الفلسفية بكل شجاعة ويقول إن هي إلا افتراضات وأوهام ولكن يصعب على المرء أن يرد على من يهاجم الدين بناء على المشاهدة والملاحظة فالفيلسوف يقول إن الحياة الدنيا هي الحياة، لا حياة بعد الموت، إذ من ذا الذي قد رأى ما يقع بعد الموت حتى يقال إن هناك راحة وسكينة بعد الموت؛ ومن الممكن أن يتأثر البعض من قول الفيلسوف هذا، ولكن يمكن للمرء أن يرد على وسوسة الفيلسوف هذه: أن لا أحد قد رأى صحیح الثواب والعقاب الذي يكون بعد الموت، ولكنك متى شاهدت وتأكدت من أنه ليس هناك أي ثواب وعقاب بعد الموت؟ وهكذا تصبح كلتا النظرتين سواء في نظر العلم.ولكن الذي يبني اعتراضه على تركيبة ذرات العالم مؤكدًا أن كل ذرة في الكون مزودة بنظام يساعد على استمرار نظام الكون من تلقائه؛ فلا حاجة لإدارة هذا الكون إلى أي كائن آخر؛ فاعتراضه ذو طابع آخر لم يوجد في الوسوسة الفلسفية السالفة الذكر.ثم إن الفتنة المعاصرة ضد الدين تتميز بطابع ثالث، وهو أنه في الماضي كان وحدهم من يعارض وجود البارئ تعالى، أما اليوم فقد انبرى علماء النفس وعلماء طبقات الأرض وعلماء الهيئة والأفلاك وغيرها من العلوم ليشنوا على الإسلام هجومًا موحدا ، ثم إن هذا الهجوم أشد شراسة من الهجمات الماضية.ففى الماضي كانوا يقولون: إن فلانًا من الفلاسفة قد أنكر وجود البارئ، ولا ندرى مدى صحة كلامه أما اليوم فيقال: من أية زاوية نظرت ستصل إلى نتيجة واحدة الفلاسفة حتمية وهي إنه ليس هناك أي إله – والعياذ بالله.
الجزء السادس العالم كله ٦٤٨ سورة الفرقان باختصار، إن الكفر يهاجم الإسلام اليوم بجميع أسلحته هجومًا لم يسبق له نظير كثافة وشراسة.ففي الماضي كان الأعداء أقل عددًا، وكانت هجماتهم متفرقة غير موحدة.فكان للهجوم الفارسي طابع وللهجوم الياباني طابع آخر، أما اليوم فإن خرج يهاجم الله تعالى من جبهة واحدة ثم إنهم كانوا يهاجمونه في الماضي بسلاح الفلسفة فقط، أما اليوم فيهاجمونه بأسلحة جميع العلوم المتداولة.فلم يبق هناك شك في أنه لا يوجد اليوم في العالم فتنة مثل هذه الفتنة الدجالية.ونتيجة غلبة هذه الفتنة على الدنيا لم يبق للإسلام شيء في الدنيا.فلا تُطبق في أي مكان في العالم أحكام الإسلام سواء المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو الشخصية.لقد تغير كل شيء اليوم.فما لم يكن عندنا نوع من الحماس المنقطع النظير، وما لم نبغض هذه الحضارة الغربية بغضًا لم نكن مثله تجاه أي شيء آخر، لن ننجح في تغيير هذه الأوضاع ولن نفوز في هدفنا فكل من هو مغرم بالحضارة الغربية منا لا يصلح للروحانية.يجب أن لا نذوق طعم النوم الهادئ ما لم ندلك دكا الحضارة التي عرضت سيدنا ومولانا محمدًا على العالم بصورة مخيفة، وقامت بتشويه حضارتنا الإسلامية لن يكتب النجاح للذين يقلدون الغرب وينجرفون في تيار الحضارة الغربية.يجب أن نتميز غيظًا وغيرةً برؤية أي شيء من الحضارة الغربية، إذ من المحال أن يجتمع الإسلام والحضارة الغربية في مكان واحد.فإما أن تحيا حضارة الإسلام أو حضارة الغرب.ذلك لأن أساس الحضارتين على مبادئ متباينة متغايرة تماما، فمن المستحيل أن تجتمعا في مكان واحد إن الحضارة الغربية تتأسس كليةً على ملذات الدنيا والمتع المادية، أما أساس الإسلام فيرتكز كلية على رضوان الله تعالى والروحانية وتهذيب الأخلاق، فاجتماعهما محال تماما.ولكن يجب أن تتذكروا دائمًا أن هناك فرقا بين حضارة الغرب وشعوب الغرب كالإنجليز وغيرهم فإنهم أيضًا أناس مثلنا، ويمكن أن يهتدوا، أما الحضارة الغربية فلا يمكن أن تنصلح أبدًا.إنها سلاح الشيطان، وما لم نكسر هذا السلاح لن يسود السلام الحقيقي في العالم أبدًا.هذا هو البرزخ الذي لا أزال أحث المسلمين الأحمديين على الحفاظ عليه حين أدعوهم إلى الانضمام إلى مشروع "تحريك
الجزء السادس ٦٤٩ سورة الفرقان جديد"، وأحذرهم دائمًا من الإذعان لتأثير الحضارة الغربية.إن المسلم الأحمدي الذي يريد الماء العذب الفرات سيبتعد عن تأثير هذه الحضارة الفاسدة حتمًا، إذ من المحال أن يمتزج الماء العذب الفرات بالماء الملح الأجاج.كذلك أقول للمسلمين غير الأحمديين أيضًا إن عليهم أن يأخذوا الحذر كله من تقليد الحضارة الغربية سواء أصدقوا دعوة سيدنا المسيح الموعود الأم لا.ذلك لأن ما أدعو إليه ليس من تعليم حضرته ، وإنما هو من وصية الرسول ، بل هو أمر من الله الذي أرسله ولكن واأسفاه وواحسرتاه، فإن هناك فئة من المسلمين تقلد الحضارة الغربية في كثير مما يتعلق بالأكل والشرب واللباس والاجتماع والمعاشرة، ثم يبتهجون بذلك ويفتخرون.كما أن بعض الشباب من جماعتنا أيضا ينجرفون وراء هذه الحضارة رغم النصح والتحذير إن هؤلاء أحمديون بالاسم فقط، وليسوا بأحمديين في الحقيقة أبدًا.= أتذكر جيدا أن بعض المسلمين غير الأحمديين قال لسيدنا المسيح الموعود اللي ذات مرة: لماذا لا تسمح لأتباعك أن ينشئوا العلاقات معنا في الزواج وغيرها من القضايا والمعاملات؟ فأجاب حضرته العلي: إذا كان عندك إناء مليء بالحليب الخالص ومزجت به بضع قطرات من اللبن الرائب شديد الحموضة، ألا يفسد كل الحليب؟ إن الناس لا يدركون هذه الحكمة، ولا يدرون أنه لا بد لاستمرار القوة العملية في القوم من فصلهم عن الآخرين حماية لهم من تأثيراتهم الضارة.إننا اليوم في حرب روحانية ضد أعداء الإسلام، ولو عشنا مختلطين بالذين قد انهزموا هزيمة نفسية أمام الأعداء بل أصبحوا مقلدين لهم، لأصبحنا نحن أيضا مقلدين للغرب وغافلين عن الجهاد بالقرآن الكريم.لذا فعلينا أن لا نختلط بالجماعات الأخرى لمصلحة الإسلام والمسلمين أنفسهم، لكي لا نصبح غافلين ولا ننسى فريضة تبليغ الإسلام كما نسيها المسلمون الآخرون.إن جنود الإسلام ،قلة، ولو تقاعس هؤلاء القلائل أيضًا فكيف يذودون عن حياض الإسلام ضد الأعداء؟ في الأيام التي كنت مقيما في مدينة لاهور من أجل علاج زوجتي "أم طاهر" - الله عنها - جاء أحد المشايخ لزيارتي في حوالي الساعة العاشرة ليلا في أحد رضي
الجزء السادس ٦٥٠ سورة الفرقان الأيام، فقال لي خلال الحديث: إن جماعتكم جماعة رائعة، وتخدم الإسلام خدمة عظيمة، ولكن فيكم عيب واحد وهو أنكم لا تختلطون بنا، ولا تصلون وراءنا، ولا تتزاوجون فينا؛ ولو أصلحتم هذا العيب لم تكن في الدنيا جماعة أفضل من جماعتكم.فقلت له: إن هؤلاء القوم الذين تثني عليهم إنما جاءوا من بينكم.وما داموا قد خرجوا إلينا من بين صفوفكم، وقد أحدث فيهم تعليم حضرة مؤسس الأحمدية العل هذا الانقلاب الطيب العظيم الذي تراه فهل تريد منهم أن يرجعوا إلى المسلمين الآخرين ثانية ليصبحوا متقاعسين وغافلين مثلهم مرة أخرى؟ وكان الشيخ ذكيًا فقال: لقد فهمت الأمر الآن.يجب أن لا تختلطوا بغيركم من المسلمين أبدا، بل عليكم أن تظلوا منفصلين، لأنكم لو اختلطتم بهم ثانية لن تستطيعوا بذل الجهود التي تبذلونها الآن لنشر رسالة محمد ﷺ، وستنتهى دعوة الإسلام في العالم.وإني أحمد الله أنه توجد في العالم جماعة واحدة على الأقل تنشر اليوم اسم محمد رسول الله ﷺ في العالم.فالحق أن هذا الماء العذب الفرات سيظل منفصلاً عن الماء الملح الأجاج، وسيبقى بينهما برزخ يحول دون امتزاجهما.لقد ذكر القرآن الكريم أن بعض الشعوب قالوا لذي القرنين إن يأجوج ومأجوج يفسدون في أرضنا، فاجعل بيننا وبينهم ردمًا يمنعهم من الوصول إلينا حتى لا يفسدوا بيننا (الكهف (٩٥ وحيث إن المسيح الموعود اللي هو ذو القرنين لهذا العصر، فمن الممكن تماما أن يكون المراد من إقامة ردم على يد ذي القرنين إقامة حاجز بين الإسلام والحضارة الغربية في هذا العصر، ويكون المراد من الشعبين أفكارًا قومية متباينة من الجانبين.على أية حال، إن من واجبنا أن نجعل بين الإسلام والحضارة الغربية سدا حتى لا تجد بعد ذلك طريقًا للنفوذ بيننا، وتصبح الجيوش الإسلامية محفوظة في حصن لا يفلح الشيطان في شن الهجوم عليه.كي
الجزء السادس قلے سورة الفرقان وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ، نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قديرًا ) التفسير: أي أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان من الماء أي من النطفة، ثم جعل له أقارب من ناحية أبويه وزوجته.لقد بين الله تعالى في هذه الآية أن الزواج من أكبر أسباب ازدهار التمدن الإنساني، وأن هذا هو الطريق لتقوية الأواصر بين العائلات والأمم.هناك مثل في لغتنا يقول: إنهما متحدان اتحاد السكر مع الحليب.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما السبيل للتوحيد بين أناس غرباء؟ لقد أجاب الله على ذلك هنا وبين أن سبيله الزواج بين الرجل والمرأة، إذ يوحد بين إنسان وآخر وبين شعب وآخر، بل بين بلد وآخر.ثم يُخرج الله تعالى نتيجة الزواج نسلاً جديدًا يكونون أحفادًا للأسرتين ويصبحون كمرآة ترى فيها الأسرتان وجوههما.وتزداد أواصر الحب والوئام بين أقارب الرجل وأقارب المرأة وتتقوى هذه العلاقات وتتعمق.باختصار، إن الله تعالى قد جمع الشعوب والبلاد عبر الزواج، وهو السبب لازدهار العالم، حيث يجمع الله تعالى أسرتين غريبتين في شخص واحد، ثم يقوي الله تعالى هذه الصلة بحيث إن كلتا الأسرتين تحب أولاد الزوجين حبًّا جما، وكل واحدة منهما تناديهم أحفادي أحفادي وتفديهم بكل غال ورخيص.وهكذا يؤدي الزواج إلى الجمع بين أسرتين غريبتين بل بين شعبين وبلدين.إن زواج المسلم من فتاة هندوسية أو يهودية مثلاً جائز عند الإسلام.لا شك أن هذه العادة قد تلاشت في هذا العصر إلى حد كبير، ولكن إذا تزوج المسلم من هندوسية أو يهودية لبدأ الهندوسي أو اليهودي يفدي الولد الذي يفديه المسلم أيضا، وزالت الخلافات بين الطرفين إلى مدى بعيد ولكن هذه الخطة لن تنجح إلا إذا عملوا بها بكثرة وشريطة أن يهتموا بتربية الأولاد بحذر شديد.إن الملك المغولي " أكبر" هو الوحيد الذي عمل بهذا، ولكن غيره من المسلمين لم يعملوا به، فلم
الجزء السادس ٦٥٢ سورة الفرقان يتحقق ما أراد الملك "أكبر" من زواجه من الهندوسيات، فكان ضرره أكبر من نفعه.مجمل القول إن الله تعالى يوسع نطاق الأسر من خلال الزواج من ناحية، ويضيق نطاقها أيضًا من ناحية أخرى أعني أن الزواج يؤدي إلى النسل، ثم عندما يكثر النسل ينتشرون ويبتعد بعضهم عن بعض.ثم يجمع الله تعالى من هؤلاء الذين قد صاروا بعيدين وغرباء من خلال الزيجات الجديدة، فيجعلهم أقارب ثانية.إذا، فالزواج يوسع الشقة بين الناس من جهة، ويضيقها من جهة أخرى.والحق أن هذه العلاقة أقوى من امتزاج السكر والحليب، وهذه الميزة لا توجد إلا في الزواج، وإلى هذه المنة الإلهية تشير هذه الآية.ثم يقول الله تعالى ﴿وَكَانَ رَبُّكَ قَديرًا..أي أن ربك ذو قدرة لا انتهاء لها.فإنه تعالى كما خلق بالنطفة ملايين البشر في الدنيا المادية، كذلك فإنه تعالى عندما ينزل وحيه على أحد عباده الأطهار ويبعثه لهداية الناس، يكون هذا العبد من ضئيل الشأن في الظاهر مثل النطفة الحقيرة فيظن الناس أن نجاحه مستحيل، ولكن الله ولا يُعلى شأنه حتى يجتمع حوله ملايين البشر في مدة قصيرة، فيخرج من خلاله نسل روحاني جديد في العالم، ثم يتشعبون وينتشرون في شتى الأنحاء والأقطار شيئًا فشيئًا.وهذا ما سيفعل الله تعالى بمحمد ، وسينشر رسالته في العالم أجمع.وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَدَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ، ظَهِيرًا : وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا شرح الكلمات : ظهيرا : الظهير: المعين (الأقرب) التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن الناس يستغربون اليوم من التوحيد الذي يدعو إليه محمد ويرفضونه، ولكن تعليمه الله هو الذي سيغزو القلوب.ذلك
الجزء السادس ٦٥٣ سورة الفرقان لأنهم يُحنُون رؤوسهم اليوم أمام أصنامهم التي لا تضرهم ولا تنفعهم، والقاعدة أن العقل الإنساني يتمرد على العمل الذي لا فائدة في إتيانه ولا مضرة من تركه في الحياة العملية، لذا فلا بد أن يأتي يوم يُعمل فيه هؤلاء عقولهم يوم يُعمل فيه هؤلاء عقولهم فيكفون عن عبادة أصنامهم.أما الآن فإنهم يُعرضون عن الله تعالى ويتكلمون ضده بكلام مسيئ بنية شريرة، بينما يدركون في قرارة نفوسهم أنهم فريسة للتقليد الأعمى.وعلى النقيض قد بعث الله تعالى محمدا له بشيرا ونذيرا..أي ليحرز المؤمنون به الرقي والازدهار، وليهلك الكافرون فكيف يمكن لقوم مشركين لا تملك أصنامهم لهم نفعا ولا ضرا أن يقاوموا هذا الإنسان؟ وهذا ما حصل بالفعل، حيث أصبح المؤمنون بمحمد ﷺ ملوكًا على العالم، أما عبدة الأصنام الذين كفروا به فما انتفعوا من عبادتهم لأصنامهم شيئًا، كما لم يقدروا على أن يفشلوا محمدا رسول الله ﷺ في إنجاز مهمته.قُلْ مَا أَسْتَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ ۵۸ سَبِيلًا ) التفسير : أي قُلْ لهؤلاء القوم إني لا أسألكم أي أجر على تبليغي رسالة الله لكم إنما أجري أنه إذا انشرح قلب أي منكم للإسلام فأراد عن طيب نفــــس أن يتبع الطريق الذي يؤدي به إلى الله تعالى، فعليه أن يدخل في الإسلام ويحظى برضوان ربه الله تعرض هذه الآية على العالم تلك النظرية الإسلامية السامية التي تعلن أن لكــــل إنسان حق الحرية في الدين، فهو حر في أن يختار أي دين شاء، إذ لا يجوز إكـــــراه أحد بهذا الصدد.لما بعث النبي الا الله إلى العالم كان العرب وغيرهم من الشعوب، تــــرى الجــبر والإكراه في الدين جائزا تماما.ولكن القرآن الكريم أبطل هذه النظرية فأعلن بـأن
الجزء السادس ٦٥٤ سورة الفرقان لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة :٢٥٧).فمن أراد أن يُقنع أحدًا فليقنعه بالدليل والبرهان ولا يجوز إكراهه على اعتناق عقيدة ما.ومن هنا يمكن لكل إنسان أن يدرك مدى التسامح الديني الذي يأمر به الإسلام أتباعه، ومدى الحرية الدينية التي يمنحها للناس.ولكن من المؤسف حقا أنه برغم هذا التعليم الواضح البين فقد اتهم المستشرقون الأوروبيون النبي ظلما بأنه قد تعامل مع أتباع الأديان الأخرى بالجبر والإكراه، وأن دينه قد انتشر بحد السيف (تفسير القرآن الكريم لـ "ويري" المجلد الأول ص (٣٥٨ والحق أن الإسلام قد دعــا إلى التسامح الديني بما لم يوجد له نظير في أي دين آخر.وإليك بيانه: أولاً : كان الناس قبل بعثة النبي يظنون عادة أنه من المستحيل أن يُثبت المرء صدق دينه ما لم يُثبت أن دين الآخرين باطل كلية.ولكن الإسلام أبطل هذه النظرية، وأمر الناس أن يعرضوا على الآخرين محاسن دينهم.هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قد أمر الرسول ﷺ صراحة أن لا ينكر المرء ما يوجد عند غيره مـــــن مزايا ومحاسن، وأن كل دين يوجد فيه بعض المحاسن وإنكارها ظلم عظيم.يقـــــول الله تعالى في القرآن الكريم وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ (البقرة: ١١٤)..أي كان من المفروض أن يعترف اليهود بمحاسن النصارى ويعترف النصارى بمحاسن اليهود، وليس أن ينكر كل من الطائفتين محاسن الطائفة الأخرى، خصوصا وإن كتابهمـــا واحد.إذا، فإن الرسول ﷺ قد علم الناس أن يعترفوا بوجود المحاسن في الآخرين، لأن الذي ينكر وجود أي ميزة في الدين الآخر إنما يؤكد على قلة بصيرته.والحق أن هذا الحكم النبوي يبلغ من الروعة والسمو بحيث قد جبر به النبي ﷺ خاطر جميــــع الطوائف، وأحسن إلى كل الأديان وأتباعهم إحسانًا عظيما، لأن إنكار أي ميزة في دين الآخر تجريح شديد لمشاعره.
الجزء السادس 700 سورة الفرقان ثانيًا : أمرنا النبي ﷺ بأن لا يقول المرء أن أتباع الديانات الأخرى تؤمن بها كذبًا وخداعا للآخرين، بل لقد صرح النبي الهلال لو أنه برغم أن ديانات الآخرين قد تعرضت للتحريف والفساد إلا أنهم يؤمنون بصدقها عن حسن نية وإخلاص.فمثلاً لقد قال الله تعالى في القرآن الكريم إن من اليهود من إذا تركت عنده قنطارا من المال أمانةً فلن يخون فيها أبدًا (آل عمران : ٧٦).وهذا يعني أن قد وجد بين اليهود قوم كانوا يتمسكون بدينهم بحسن النية ظانين أنه هو الدين الحق.كذلك قال القرآن الكريم إن من النصارى من إذ سمعوا ذكر الله تعالى بكوا واستولت خشية الله على قلوبهم (المائدة: ٨٤).فهل من الممكن أن يتمسك مثل هؤلاء بدينهم كذبًا وخداعا للناس؟ الواقع أن النبي ﷺ قد علم أمته بهذا الحكم أن عليهم احترام مشاعر الطوائف الأخرى دائمًا، لأنهم متمسكون بدينهم إيمانا منهم بأنه الدين الحق، وإن لم يكن الأمر هكذا في الحقيقة.ثالثا : لقد علمنا الرسول ﷺ مبدأ هاما بشأن جميع الشعوب بأن الله تعالى قــــد بعث أنبياءه بين كل أمة، فقال تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فـــاطر : ٢٥).فهذا المبدأ يأمرنا باحترام نبي كل ،قوم وبالتالي يقضي على الكراهية التي مصدرها الزعم بأن الهدي الإلهي إنما نزل في بعض الأمم دون غيرها.وهكذا فإن هذا المبدأ القرآني يجعل المرء يعترف – كعقيدة – بأن أساس كل دين كان علــــى الحق، وأن الهدى موجود في كل دين بدرجات متفاوتة، لأن بداية جميع الأديان كانت من عند الله تعالى فمهما عبثت أيدي الناس بالأديان الأخرى، إلا أنه لا يزال بها بعض الهدى؛ لذا فعلى المرء أن يعيش معهم بسلام، ويعاملهم بحب ووئام، رغم اختلافه معهم في الدين.رابعًا: يعلّمنا الإسلام أن لا يلجأ المرء إلى السباب نتيجة الحماس أثناء النقاش الديني مع الطوائف الأخرى.يقول الله تعالى في القرآن الكريم وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) (الأنعام: ١٠٩).وهذا يماثـــل قـــول
الجزء السادس سورة الفرقان الرسول : " من الكبائر شتمُ الرجل والديه.قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجلُ والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أُمَّه فيسب أُمَّـ (مسلم، كتاب الإيمان رقم الحديث ١٣٠) خامسا : لقد علمنا النبي أن لا نحارب قوما لمجرد الاختلاف في الدين.كان الناس قبل النبي الله لا يظنون أنه يجوز لهم الهجوم على الآخرين وتدميرهم لمجرد الاختلاف العقدي، ولكن الرسول أمرنا بخلاف ذلك.يقول الله تعالى في القرآن الكريم وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة : ۱۹۱)..أي يجوز لكم القتال والحرب، ولكن لا تقاتلوا إلا الذين يهاجمونكم عدوانًا، ولا تهاجموا قوما لمجرد الاختلاف في الدين.وهكذا فإن الرسول قد منح الحرية الدينية لغير المسلمين المحاربين ،أيضا وبين أنه لا يحق لأحد أن يقتل أحدًا من أتباع دين آخر أو يؤذيه بغير حق لمجرد أنه يختلف معه في الدين.سادسا : لقد جعل النبي له من حق الشعوب الأخرى أن يفي لهم المسلمون ما عقدوا معهم من معاهدات، أيا كان دينهم.إنه لمن الأخطاء الفادحة التي قد وقــــع فيها الناس، بمن فيهم المسلمون الذين لا يتدبرون القرآن الكريم، أنه لا بأس في نكث العهد مع الأمم الأخرى، ولكن الرسول ﷺ يأمرنا بخلاف ذلك.يقول الله تعالى في القرآن الكريم (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ حَيَانَةٌ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْحَائِنِينَ) (الأنفال: ٥٩)..أي إذا نكث قومٌ عهدهم معكم فعليكم أن تخبروهم بأنكم ما دمتم قد نقضتم العهد فلسنا ملزمين به الآن، ولا تشنّوا عليهم الهجـوم بدون إنذار.فترى أن أبا سفيان لما ذهب إلى النبي ﷺ في المدينة بعد صلح الحديبية وقال له: أريد أن أعقد الاتفاقية من جديد، قال له النبي : أنت الذي تريد ذلك، أما أنا فلا أريد ، وهكذا بين له أنه لال مهاجمهم عن قريب (السيرة النبوية المجلد الرابع: ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة).أما اليوم فترى أن بعض الدول تنوي الهجوم على غيرها، ولكنها تعلن في نفس الوقت بأن بيننا علاقات ودية للغاية.فمثلاً عندما شنّت إيطاليا الحرب على تركيا أعلنت قبل الهجوم بثلاثة أيام أن لها علاقات ودية للغاية مع تركيا بما لم يسبق لها مثيل.وقد فعلت ذلك خداعا لتركيا لتفاجئها
الجزء السادس ٦٥٧ سورة الفرقان بالهجوم على حين غرة منها.ولكن أبا سفيان لما جاء المدينة وأعلن أنه يريد عقد المعاهدة ثانية، لم يبق النبي صامتًا تُجاه طلب أبي سفيان مع أنه لـــو التـزم الصمت لما وقعت عليه أي مسؤولية؛ لأن المكيين هم الذين نكثوا العهد - ومع هذا فقد قال له : إن هذا الإعلان من طرفك فقط وليس من طرفنا؛ وهكــذا لمح له أنه سيهاجمهم حتما.سابعا : إن النبي أعلن أن المسلم وغير المسلم سيّان في الحقوق المدنية، وهذا أمر لم يقرّه أحد قبله الا الله فمثلا إن اليهود قد نُهوا عن أخذ الربا من إخوانهم.اليهود، ولكنه من المسموح لهم أخذ الربا من غيرهم (التثنية ٢٣: ١٩-٢٠ واللاويين ٢٥: ٣٥-٣٧).ولكن النبي الله قال للمسلمين: لا تأخذوا الربا من أحد، لا اليهود ولا من النصارى ولا من المسلمين (البقرة: ٢٧٩).وهذا يعني أنه أمرهم بمعاملة الجميع على سواء، وهكذا محا أي فرق بين المسلم وغير المسلم فيما يتعلـق بالحقوق المدنية.ثامنا: لقد أمرنا النبي الله أن لا نفرق بين مسلم وغيره فيما يتعلق بتحرير العبيد.فمثلاً قد وقع مئات الناس أسرى في غزوة حنين، ولكنه قد أطلق سراحهم رغم كونهم أعداء.(البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم) تاسعا : لقد أمر النبيل لها الدولة الإسلامية أن تحمّل المسلمين المسؤولية أكثر من غير المسلمين.وطبقا لهذه القاعدة من واجب المسلمين في الدولة الإسلامية: (أولاً) أن يخرجوا للحرب إذا احتاجوا لذلك، و(ثانيا) أن يدفعوا العُشر من ريع أراضيهم، و ( ثالثًا) أن يؤدّوا الزكاة.أما غير المسلمين فيدفعون ضريبة لا تتجاوز اثنين ونصف بالمئة على كل بالغ، وهو أقل مما فُرض على المسلمين بكثير.كما لم يفرض الإسلام على غير المسلمين أن يخرجوا للحرب إلا إذا أرادوا بأنفسهم ذلك عن طيب نفس وبعد إذن من المسلمين.أبو داود كتاب الخراج والإمارة، باب في أخذ الجزية، وزاد المعـــــاد لابن القيم الجزء الثاني ص ۱۱۳) قصارى القول إن النبي و قد أمر بالتسامح الديني تجاه غير المسلمين بحيث ليس بوسع أتباع أي دين أن يقدموا نظيره عندهم.
الجزء السادس чол سورة الفرقان أما الآن فأقدم لكم الأسوة العملية للنبي الله في معاملته مع أتباع الديانات الأخرى.عندما ندرس التاريخ نجد فيه الأمثلة التالية: المثال الأول: لقد احترم النبي ﷺ الصلحاء والشرفاء من الشعوب الأخرى.فقد ورد في التاريخ أن المسلمين أسروا بعض المشركين من قبيلة "طـــيء" في حرب، وكانت بينهم بنت لحاتم الطائي.فقالت للنبي : هل تعرف من أنا؟ قـــال : مـــن أنا أنت؟ قالت: أنا بنت ذلك الرجل الكريم الذي كان يعين الناس على مصائبهم.بنت حاتم الطائي.لم يكن حاتم الطائي مسلمًا، ولكنه كان يحسن إلى الناس، فأطلق النبي سراح ابنته لكرمه وإحسانه إلى الناس وكان أخوها يهرب هنا وهناك خوفا من أن يُقبض عليه، فأعطاها النبي الله مالاً وراحلة وأمرها بإحضار أخيهـا أيضًا.فذهبت وأتت به فأسلم لما رأى من النبي الله الله من معاملة شريفة.ثم قبل النبي شفاعة بنت حاتم الطائي في قومها، فعفا عنهم أجمعين.(السيرة الحلبية المجلد الثالث ص ٢٥٤، باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه ، وفود عدي بن حاتم الطائي) لقد تبين من هنا أن النبي لم يعترف بمحاسن أتباع الأديان الأخرى باللسان فقط، بل قد تعامل مع أقاربهم وقومهم بالحسنى، ومن عليهم أيضًا.وكانت نتيجة ذلك أنه لما انضمت قبيلة "طيء" إلى أهل الردة بتحريض من البعض زمن خلافة أبي بكر ، تقدم ذاك الابن لحاتم الطائي الذي كان يفر من الإسلام في يوم من الأيام ونصح ،قومه فدخلوا في الإسلام ثانية (الطبري، الجزء الرابع: ذكر بقية الخبر عـــــن غطفان: سنة ١١) المثال الثاني: هو ما حدث مع نصارى "نجران".لقد حضر وفد منهم للنقاش مع النبي الحلول ألوهية المسيح ال، وبرغم أن هؤلاء جاءوا مؤيدين للشرك إلا أن النبي سمح لهم بالعبادة على طريقتهم في مسجده، فأدوا فيه صلاتهم متجهين نحو الشرق أمام الجميع.(زاد المعاد المجلد الثاني ٣٥ ، فصل في قدوم وفد نجران، والسيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني : أمر السيد والعاقب وذكر المباهلة) فمن ذا الذي يمكنه أن يقول بعد رؤية هذه المعاملة النبوية أن النبي ﷺ جــــاء ليظلم الناس ويزهق الأرواح.كيف يمكن لمن جاء لسفك الدماء أن ص يسمح لأهــــل
الجزء السادس ٦٥٩ سورة الفرقان ديانة أخرى بأن يصلوا صلاتهم أمام عينيه في مسجده الذي قال عنه إنـــه المساجد"، والذي تفضل فيه الصلاة على ما سواه كثيرًا (مسلم: كتاب الحج، بـــاب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة)، أقول في ذلك المسجد، وأمام النبي..ذلـــك النبي الذي جاء لإقامة التوحيد في العالم، أراد النصارى أن يقوموا بعبادتهم مــــع صلبانهم ، فيقول ل ل ا ل ل ل لهم : يمكنكم أن تصلوا كما تشاءون ولا حرج في ذلك أبــــدا.إن كبار دعاة التسامح الديني اليوم لا يجدون من الشجاعة ما يجعلهم يسمحون لأتباع ديانة أخرى أن يقوموا بعبادتهم في معابدهم أو مساجدهم.إنما جماعتنا الوحيدة اليوم التي أحيت هذه الأسوة النبوية، إذ أعلنت عند إرساء حجر الأساس لمسجدها في لندن: الله هي " إن هذا المسجد إنما يُبنى لعبادة الله فقط، لكي تقوم محبة الله في العالم ول يتجه الناس إلى الدين؛ إذ لا سلام لهم ولا ازدهار لهم بدون ذلك في الحقيقة.وكل من يريد أن يعبد تعالى لن نمنعه من عبادته تعالى في هذا المسجد، شريطة أن يراعي القواعد التي سيضعها المشرفون على هذا المسجد، وشريطة أن لا يخل بعبادة أولئك الذين يبنون هذا المسجد تلبية لحاجاتهم الدينية." (جريدة "الفضل" ٢٠ نوفمبر/تشرين أول ١٩٢٤م ص ٥) أتذكر جيدا أنه في إحدى المرات عقد الآريا الهندوس اجتماعا لهم في قاديان، وأثاروا فيه ضدنا ضجة كبيرة.وبعد انتهاء الاجتماع جاء خطباؤُهم لمقابلتي، فقلت لهم: لقد سمعتُ أنكم عانيتم من ضيق مكان اجتماعكم، ولو أتيتموني لدبّرت لكم المكان في مسجدنا فقالوا: أصحيح أنك تسمح لنا بعقد الاجتماع في مسجدكم؟ قلت: لم لا؟ إذا كان رسولنا قد سمح للمسيحيين بأداء عبادتهم على طريقتـــهـم في مسجده، فكيف لا أسمح لكم بإلقاء المحاضرة في مسجدنا؟ فقال أحدهم: إذا سمحتم لنا فإني مستعد لإلقاء المحاضرة في مسجدكم اليوم.قلت له : إني أسم وبالفعل ألقى هذا الهندوسي خطابًا في مسجدنا "الأقصى".ثم بعد خطابه ألق الحافظ روشن على الله الله خطابًا أجاب فيه على اعتراضات الهندوس على الإسلام
الجزء السادس ٦٦٠ سورة الفرقان وهم حاضرون.وكانت النتيجة أنهم امتنعوا عن عقد اجتماعهم في قاديان، وقــــد استأنفوا عقده هناك ثانية بعد حوالي ثلاث عشرة سنة.إذا فمن المستحيل أن يقدم أي دين نظيرا للتسامح الديني الذي يعلّمه الإسلام.المثال الثالث : لقد أمر النبي بالإحسان إلى الجيران وإن كانوا من أهل ديانة أخرى، وقد حثّ النبي على ذلك لدرجة أن الصحابة كانوا يلتزمون بوصيته هذه بحرص شديد فقد ورد أن ابن عباس له دخل بيته ذات مرة، فوجد أن لحما قد أهداه له بعض المعارف، فسأل أهله هل بعثتم منه شيئا لجاري اليهودي؟ وقد أعاد هذا الكلام مرارا حتى قال له أهله : لماذا تلحّ هكذا؟ فقال: لقد سمعـت رسول الله ﷺ يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".الأسوة التي عامل بهما النبي لا لا لا أتباع الديانات الأخرى.لقد كان شديد الحرص على أن لا تُجرح مشاعرهم.فذات مرة قال يهودي لأبي بكر ه: والذي جعل موسى أفضل الأنبياء.فلطمه أبو بكر.فبلغ ذلك النبي ، فزجر أبا بكر..ذلك الإنسان العظيم على ما فعل (البخاري: كتاب الأنبياء، باب وفاة هذه موسی هي العلمية وذكره بعد) فترى أن اليهود كانوا يعيشون تحت حكم المسلمين وأحدهم قد فضّل موسى ال على نبينا الكريم الله بأسلوب أغاظ أبا بكر..ذلك الإنسان الهادئ الرقيق القلب..حتى لطمه.ولكن الرسول الله يزجر أبا بكر ويقول : لماذا فعلت هكذا؟ إن لهذا كل الحق أن يعتقد ما يشاء.المثال الرابع: صنعت يهودية طعامًا للنبي عند فتح خيبر، ودست فيه السم.فلما أخذ النبي.منه لقمة، نزل عليه الوحي يخبره أن الطعام مسموم، فامتنع عن الأكل.ثم دعا اليهودية وقال لها سممت الطعام؟ قالت: من أخبرك؟ وكان في.لقد الله "عن عبد الله بن عمرو أنه وجدنا رواية بهذا المعنى عن عبد ابن عمرو ذبح شاة، فقال : أهديتم لجاري اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيورثه." (أبو داود: كتاب الأدب، باب في حق الجار).(المترجم)
الجزء السادس ٦٦١ سورة الفرقان يد النبي ﷺ ذراع الشاة المسمومة، فأشار إليها وقال: إن هذه تخبرني أنها مسمومة.فقالت اليهودية: لقد سممته لأنني قلت في نفسي: إن كنت نبيا صادقا، فسيخبرك الله أن الطعام مسموم وإن كنت كاذبًا استراح الناس منك.(المواهب اللدنية الجزء الثالث: غزوة خيبر) المثال الخامس: كلما خرج النبي ﷺ في غزوة أمر جنوده بشكل خاص بـأن لا يهدموا معابد قوم، ولا يقتلوا رجال دين ولا يقتلوا أمرأة ولا شيخا ولا طفلا.(البخاري: كتاب الجهاد باب قتل الصبيان في الحرب، وباب قتل النساء في الحرب، والموطأ: كتاب الجهاد، باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، والطحاوي: كتاب السير، بـاب الشيخ الكبير هل يُقتل في دار الحرب) كان الناس قبل زمن النبي يقتلون القسيسين والرهبان تواريخ مسيحي كليسا (بالأردية) من عام ٣٣م إلى ٦٠٠م، ص ١٥٦-١٦١)، ولكن الرسول ﷺ فهي عن ذلـــك بتاتًا.فإذا كان النبي ﷺ يعادي الأديان الأخرى كما يزعم خصومه، فلماذا أمـــــر أصحابه أن لا يتعرضوا لرجال الدين؟ كان عليه أن يقول لهم: اقتلوهم قبل أي شخص آخر.ولكنه قال : من حمل عليكم السيف فيجوز لكم قتله، ولكـــن لا تتعرضوا للذين يشتغلون بأمور دينهم.المثال السادس: ثم من عادة الناس أنهم لا يراعون مشاعر قوم يحاربونهم، بــل يسعون جاهدين لقمع الشعوب المغلوبة وتجريح مشاعرهم وعواطفهم.ولكن مــا أعظم النبي الهلال شأنا، فإن المكيين ظلوا يضطهدونه له وأصحابه طيلة ثلاثة عشر عاما.لقد قتلوا المسلمات طعنًا بالرماح في فروجهن، وجرّوا صحابته علــــى الرمال المحرقة في الشمس، وقد أخرجوا الجمر من المواقد وألقوا عليها المسلمين، وفقأوا عيون بعض المسلمين والمسلمات، لقد بلغ ظلمهم درجة أن النبي ﷺ اضطر لترك وطنه.ولما هاجر من مكة إلى المدينة لم يتركه أعداؤه ليعيش هناك بسلام، بل قد حاولوا أن يهيجوا عليه الا الله أهل المدينة، كما أثاروا عليه قیصر و کسری (البداية والنهاية الجزء الثالث: في مبايعتهم في الأذية لآحاد المسلمين).ولكن النبي ﷺ لما خرج للهجوم على أهل مكة برفقة عشرة آلاف من الأبرار ووصل قريبا من مكة، قـــال
الجزء السادس ٦٦٢ سورة الفرقان بعض قواده إن هذا اليوم سيكون يوما عسيراً على أهل مكة، إذ سننتقم منهم اليوم.فتقدم أبو سفيان للنبي ﷺ وشكى إليه بأن هذا قد جرح مشاعرنا.فــــدعا النبي هذا القائد وعزله وقال : لماذا لم تراع مشاعر أهل مكة الكافرين.60.فترى أن النبي ﷺ كان لا يعلم عندئذ كيف يكون رد فعل أهل مكـــة ضـ وماذا سيكون مصير هذه الحرب، ومع ذلك عزل أحد قواد جيشــه بنـاء علـــى شكوى زعيم المكيين الذي أفنى عمره كله في محاربة المسلمين، بل كــان يــــود ضدهم جيوش الكافرين.هل بوسع أحد أن يقدم مثالا واحدًا كهذا من تاريخ حروب العالم كله؟ كلا، لن تجد أحدًا عزل ضابطًا بسيطا، دعك قائدا من قواده، عقابًا على أنه هدد الأعداء في ساحة القتال وقال: سننتقم منكم ونذيقكم اليوم وبال أعمالكم.ورد في تاريخ الغرب عن شخص شهير "أبراهام لينكولن" أن الناس في زمنــــه صاروا حزبين متحاربين، أحدهما كان يدعو إلى القضاء على الــرق والعبوديـة، والآخر يعارض ذلك، وكان أبراهام لينكولن" من أصحاب الذين يريدون القضـــاء على العبودية.ومن أكبر ما يُثنى به على هذا الرجل أنه لما هزم الأعداء خرج إلى بيت القائد المهزوم مطرق الرأس، بل يقال أنه كان يدعو ويستغفر في تلك الحالة.فاستأذن منه قواده بإطلاق الموسيقى العسكرية فرحة بالنصر، فمنعهم وقال: لا، لأن هذا سيجرح مشاعر الخصوم.هذا أكبر ما وصف "أبراهام لينكــــولـن" مــــــن الخصال الحميدة.أذًى سببه ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن أبراهام لينكولن لم يكن قد تعرض لأي شخصي من قبل خصمه، ولكن الرسول ﷺ لما شن الهجوم على مكة فإنمــــا أنهم نقضوا المعاهدة التي عقدوها معه.ثم إنه قد ذهب لمحاربة أولئك القوم هذا الحادث مذكور في السيرة الحلبية الجزء الثالث: فتح مكة والسيرة النبوية لابن هشام: ذكر الأسباب الموجبة للمسير إلى مكة، غير أنه قد ورد فيهما أن هو الذي شكا هذا عمر القائد إلى النبي.(المترجم)
٦٦٣ الجزء السادس سورة الفرقان الذين ظلوا يضطهدون المسلمين قرابة ربع قرن من الزمان، والذين لم يألوا جهــدا في محاولة قتله وقتل أصحابه طيلة ثلاثة عشر عامًا خلال الفترة المكية، ثم راحوا طيلة سبع سنوات أخرى يخرجون للقضاء عليه بعد أن قطعوا مسافة مائتي ميل في كل مرة.وبرغم هذا الاضطهاد والظلم من قبل أهل مكة، عندما دخلها النبي عفا عن أهلها عفوًا لا يساوي أمامه ما فعل إبراهام لينكولن مع خصومه.لقد النبي الله و أهل مكة وقال لهم : ماذا ترون إني فاعل بكم؟ والواقع أنه لــــو قطعهم إربا عقابًا على جرائمهم لكان أهون مما يستحقونه في رأيي.ولكن أجابوه وقالوا: نرجوك أن تعاملنا كمعاملة يوسف مع إخوته.فقال : لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا أنتم الطلقاء، فقد عفوت عنكم.وهكذا كان ختـام هـذه الحرب العظيمة التي استمرت بينه وبين أعدائه طوال عشرين سنة.(السيرة الحلبية الجزء الثالث: فتح مكة) هل بوسع غير المسلمين، وحاول إكراههم على دينه بحد السيف؟ لا شك أن البعض يعترض نتيجة التعصب ،والجهل ولكن الذي يتدبّر الحقائق لا يملك إلا أن يعترف بأنه لم يوجد في التاريخ أحدٌ كان أرحم بأعدائه من محمد ال لا لا لا لا جرم أن يوسف العلي.أيضا قال لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، ولكن يوسف قال هذا الكلام لإخوته حيث أبوهم وأمهم يشفعان لهم، أما الذين كانوا قد عُرضوا على النبي ، فقــــد قتلوا أقاربه وأخوته.لقد مثلوا بجثة عمه حمزة.لقد تسببوا في وفاة خديجة رضي الله عنها؟ وكانوا بنته الحبيبة زينب وهي حامل – رضــــي الله عنها؛ كان زوجها بعثها إلى المدينة كي لا تتعرض في مكة لمضايقة أعداء الإسلام، ولكنهم نفروا دابتها وهي خارجة إلى المدينة فسقطت منها وأجهضت، ثم توفيت نتيجة هذا الحادث.ما هي المشاعر التي كانت تنتاب يوسف ال حين عُرض عليه إخوته اللهم إلا أنهم قد طردوه من وطنه ؟ أما النبي الله فكانت روح أبي طالب تقول للنبي لو صارخة في ذلك الموقف: إن هؤلاء هم القوم الذين قتلوا ذلـــك أحد أن يقول بعد رؤية هذه الأسوة الرائعة أن محمدا قد ظلـــــم قتلة الإنسان الذي دافع عنك سنوات طويلة.وكانت روح خديجة ماثلة أمامه
الجزء السادس ٦٦٤ سورة الفرقان عندئذ في عالم الخيال وتقول له: أنسيت كيف ضحيتُ من أجلك بمالي وثرائي وراحتي وكل ما أملك؟ فها هم الذين قتلوني واقفون أمامك، فخُذ منهم ثأري.كما كانت روح حمزة له تقول للنبي ﷺ: ها هم الذين مثلوا بحثنتي وبقروا بطــــي وأخرجوا منه كبدي.وكانت روح بنته ماثلة أمامه تقول لـه: هـؤلاء هـم الأشقياء الذين لم يخجلوا من الهجوم على امرأة حامل لا حول لها ولا قوة هؤلاء هم الذين آذوني وتسببوا في موتي.ثم كان النبي لا يرى أمامه أرواح مئات الصحابة الذين كان يحبّهم أكثر من أقاربه وكان بينهم ذلك الصحابي العظيم الذي حين قبض عليه الكفار وأرادوا قتله فسألوه : ألا تحبّ أن يكون محمد مكانك هنا، وأنت تعيش مرحًا بين أهلك وأولادك؟ فأجابهم والله، إني لا أحب أن أكون جالسا في بيتي مطمئنًا ويُشاك النبي الهلال في رجله بشوكة أثناء مشيه في شوارع المدينة.(المرجع السابق، والبداية والنهاية الجزء الثالث: مبايعتهم في الأذية لآحاد المسلمين، الاستيعاب للقرطبي: زينب بنت رسول الله ﷺ والسيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثالث: ذكـــــر يوم الرجيع).لقد قتل الكفار مثل هؤلاء الصحابة الذين كان يحبّهم النبي ﷺ جـــــدا، فكانت أرواحهم ماثلة أمامه في عالم التصور وتقول له هؤلاء هم الذين قتلونــــا، فانتقم لنا منهم الآن.ورغم هذه المشاعر المرهفة الجياشة ما قال لهم النبي ﷺ إلا مقولته الشهيرة: "لا تثريب عليكم اليوم".فمن قال بعد رؤية هذه الأسوة الرائعة العظيمة أن الإسلام لا يعلم التسامح الدين، فهو أشد الناس عمى ! وكان من نتائج هذا التسامح الديني أن أتباع الديانات الأخرى قد احتلوا مناصب مرموقة في البلاد الإسلامية زمن حكم المسلمين في عهد النبي ﷺ وعهد خلفائه الراشدين كان الإسلام يمر بحالة من عدم الاستقرار بسبب الحروب، ولم تكن قد قامت بعد دولة تتخذ فيها شتى الطوائف القرارات بالتشاور فيما بينها، لذا فلم يكن من الممكن أن يُعطى عندها غير المسلمين بعض حقوقهم السياسية بصورة ذلك قد أُعطوا حقوق السيادة قدر الإمكان.فمثلاً قد كتب النبي ﷺ كاملة..ومع
الجزء السادس ٦٦٥ سورة الفرقان إلى أهل "مقنا" رسالة صرح فيها : ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهـــل رسول الله".(مجموعة الوثائق السياسية ص ٣٦: معاهدته مع أهل مقنا) فهنا قرر الرسول ﷺ بأنه يمكن أن يكون حاكم منطقة ما من غير المسلمين.وبرغم أن الطوائف المختلفة في عهد خلفاء الرسول ﷺ لم تكن تعيش في الدولة الإسلامية في سلام ،تام إلا أن حقوقهم هذه كانت محفوظة.فمثلاً يقول العلامة شبلي: لقد قام عمر الله بتوسيع نظام الجيش، فلم يكن هناك تخصيص لقــوم أو لقطر أو لدين أو لطائفة للانضمام إلى الجيش فكان آلاف المجوس يعملون في الجيش الإسلامي كجنود متطوعين يتلقون من الدولة رواتب شهرية.وكان بعض المجوس منخرطين في الجيش النظامي المرابط.كذلك ورد بأنه كان في الجيش الإسلامى أبطال من اليونان والرومان أيضا، فكان خمسمئة منهم ضمن الجيش الذي فتح مصر.وعندما عمر عمرو بن العــــاص مدينة "الفسطاط" أسكنهم في حارة منفصلة.ولم يخلُ الجيش المسلم من اليهود أيضًا، إذ كان ضمن الجيش المسلم الفاتح لمصر ألف يهودي.كذلك من الثابت تاريخيًا أن أهل الطوائف الأخرى كانوا يتقلدون مناصب القواد في الجيش المسلم.فقد كان في عهد عمر ه قواد فرس في الجيش المسلم وأسماؤهم محفوظة في كتب التاريخ، وقد ذكر العلامة شبلي أسماء ستة منهم كالآتي: سیاه خسرو شهریار، شيرويه، شهرويه وأفرودين.وكان هؤلاء يتلقون رواتبهم من بيت المال، وكانت أسماؤهم مسجلة في سجل أصحاب الرواتب.(الفاروق: لشبلي نعماني (بالأردية)، الجزء الثاني: تنظيم الجيش ص ٢٠٤-٢٠٥) أما بعد الخلفاء الأربعة الراشدين فقد ورد في التاريخ أن أحد المسيحيين يدعى ابن أثال كان وزير المالية في عهد معاوية له.(History of the Arabs, Part 3 P.196) أما في زمن الخلافة العباسية فكانت الحكومة الإسلامية منظمة، فتم تشكيل مجلس يمثل مختلف الطوائف والأقطار، وكان من بين أعضائها يهـود وصابئون وزرادشتيون أيضا.(A short story of the Saracens by Amir Ali, p.274-275)
الجزء السادس ٦٦٦ سورة الفرقان وقد اختير مسيحي وزيرا للدفاع زمن الخليفة العباسي المعتضد بالله، وكان اسمه صابي.وكان للخليفة العباسي المتقي وزير مسيحي يدعى تنوخي.(المرجع السابق ص (٣٥٥ أما خلال عهد الأسرة البويهية، فكان للسلطان عضد الدولة وزير مسيحي نصر بن هارون.(المرجع السابق) اسمه أما في إسبانيا فالثابت من التاريخ أن أتباع الأديان الأخرى كانوا يتقلــــدون خلال حكم المسلمين هناك منصب قاضي القضاة أيضًا.ففي عهد الحكم الثاني ابن عبد الرحمن الثالث قد تم تعيين أحد المسيحيين اسمه وليد بن خيزران قاضيًا في قرطبة من قبل الحكومة الإسلامية (المرجع السابق ص ٥٣٠ كما كان لعبد الرحمن الثالث وزير يهودي يدعى ربي حسدي شبروت (المرجع السابق ص ٥٧٧).ويخبرنا التاريخ أنه كان في إسبانيا مجلس حكومي يضم غير مسلمين أيضا، وكان أحدهم مسيحي اسمه (Gomez son of Antony) وذات مرة دعا الملك عبـد الرحمن الثالث الأساقفة الأسبان إلى جلسة سياسية كبيرة، ولكنه لم يستطع أن يحضره بنفسه لمرض أصابه، فقام بتعيين هذا المسيحي نائبًا له في هـذه الجلسة.(المرجع السابق ص ٤٩٩) وكان المسيحي صموئيل بن عارف وزيرا في الحكومة الإسلامية بغرناطة.(أخبار أندلس (بالأردية) : ترجمة خليل الرحمن مجلد ٣ ص ١٤٦) وقد كتب "سكوت" في كتابه "تاريخ أندلس" أن الملوك المسلمين كلما أرادوا بعث سفير بعثوا اليهود المرموقين (المرجع السابق ص ١٤٥) وفي عهد الفاطميين بمصر قد تقلد غير المسلمين مناصب مرموقة حيث اتخــ الملك الفاطمي العزيز بالله وزيراً مسيحيًا يدعى عيسى بن نسطور.(History of the Arabs P.620) كما تؤكد كتب التاريخ الأخرى أن كثيرًا من النصارى واليهود كانوا وزراء في عهد الملوك الفاطميين.( A short story of the Saracens by Amir Ali P.413)
الجزء السادس ٦٦٧ سورة الفرقان كان السلطان المغولي "أورنغ زيب" أكثر السلاطين المسلمين بالهند تعرضــا لتشويه السمعة، ولكن الثابت تاريخيًا أن هذا السلطان ما كان يسمح بالتمييز بين مسلم وغيره فيما يتعلق بالأمور السياسية، وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى في القرآن الكريم لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون:٧).فذات مرة جــــاءه طلـــب بإزاحة الذميين من المناصب المرموقة، فردّ عليه وقال لا علاقة للدين بأمور الدنيا، ويجب أن لا نجيز التعصب فيها.ثم قرأ قول الله تعالى لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِينِ، وقال: لو قبلنا هذا الطلب لوجب علينا أن نقتل جميع الراجات الهندوس ورعاياهم أيضًا! (Preaching of Islam by Sir Thomas Arnold p.214 & Anecdotes of Aurang Zeb by Sir Jadhn & Circar Section 3, P.86-88) المناصب وقد ورد في مراسيم السلطان أورنغ زيب" قوله الشهير: يجب منح المناص الحكومية بناء على الجدارة والكفاءة وليس على أي اعتبار آخر".(Preaching of Islam by Sir Thomas Arnold p.214) وهناك مؤرخ آخر يصف حكم المغول في الهند قائلا: "إن الإسلام هو الدين لمنطقة البنغال، ولكن هناك مئة هندوسي إزاء مسلم واحد فيما يتعلق بتقلد الرسمي الوظائف، أما المناصب الحكومية المرموقة فتخصص لأفراد الديانتين كلتيهما.(A new Account of the East Indeas Vol.2 P.14) وليس بخاف على أحد أن السلاطين المغول بالهند قد عينوا الهندوس قــــادة في الجيش المسلم، بل جعلوا بعضهم رؤساء القواد أيضًا، ومن الأمثلة الشهيرة علـــى ذلك "مان سنغ" و"جسونت سنغ" و"جي سنغ".دربار اكبري (بالأردية) ص ٥٣٥، و "أورنغ زيب" (بالأردية) ص ٥٠٠) لقد كان تسامح المسلمين مع غيرهم بينا لدرجة أن غير المسلمين أيضًا اضطروا للاعتراف بذلك.فقد كتب المؤرخ المسيحي الشهير جرجي زيدان ما نصه:
الجزء السادس ٦٦٨ سورة الفرقان "ومن العوامل الفعالة في سرعة نضج العلم في النهضة العباسية، وكثرة ما تُرجم في تلك المدة القصيرة، أن الخلفاء أصحاب تلك النهضة كانوا يبذلون كل مرتخص وغال في سبيل نقل الكتب، ويرغبون النقلة وغيرهم بالبذل والإكرام والمحاسنة، بقطع النظر عن مللهم أو نحلهم أو أنسابهم، وقد كان فيهم النصراني واليهـودي والصابئ والسامري والمجوسي فكان الخلفاء يعاملونهم كافة بالرفق والإكرام، ممــــا يصح أن يكون مثالاً للاعتدال والحرية وقدوةً لولاة الأمور في كل العصور".(تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثالث ص ۱۸۳: باب الكتب التي تُرجمت في النهضة العباسية) لقد ثبت مما سبق من الأحداث والأقوال أن الإسلام لا يجيز لأتباعه معاملة أهل الديانات الأخرى بالقسوة بأي شكل، بل إنه يحمي حقوقهم، ويحرّم كل ظلم وبخس في حقهم.ورد في التاريخ أن "رسول الله أتي برجل من المسلمين قتــ معاهدا من أهل الذمة، فقدّمه رسول الله ، فضرب عنقه، وقال: أنا أولى مـــن أو فى بذمته" (نصب الراية لأحاديث الهداية: كتاب الجنايات، باب ما ومن أجل ذلك قد قال الإمام أبو يوسف إن المسلم والذمي في عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين كانا سيين فيما يتعلق بالتعزيرات والقضايا المدنية، ولم يكن بينهما أي تمييز مطلقا.(كتاب الخراج ص ۱۰۸) يوجب القصاص) وذات مرة تضايق المسلمون من شرور يهود خيبر، فأخذوا بهائمهم وأكلوا من ثمار بساتينهم.ولما بلغ ذلك النبي الهلال الغضب عليهم جدا، وقال: "إن الله ل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم، إذا أعطوكم الذي عليهم".(أبو داود: كتاب الخراج، باب في تعشير أهل الذمة إذا اختلفــــوا بالتجارات) نص ما ورد في كتاب الخراج هو : "قال في المسلم يسرق من الذمي أنه يلزمه ما يلزم السارق من المسلم، وكذا لو كان السارق ذميا يلزمه ما يلزم السارق المسلم.قال حدثنا أشعث عن الحسن قال: من سرق من يهودي أو نصراني أو أخذ أهل الذمة من غيرهما من قطع".(كتاب الخراج: فصل في أهل الدعارة والتلصص والجنايات وما يجب فيه من الحدود) (المترجم)
الجزء السادس 779 سورة الفرقان وفي إحدى المرات كان الصحابة في السفر مع النبي ليلا ، فأخذوا بعض غنم الكافرين وأخذوا يطبخون لحومها، ولما علم النبي ﷺ بذلك أمرهم بأن يهريق القدور، وقال إن أكل مال السلب أسوأ من أكل الحرام..وذات مرة وقع بعض صبيان المشركين ضحية لهجوم الجيش الإسلامي، فحزن النبي حزنا شديدا، وقال لأصحابه : إن صبيانهم أناس مثلكم."ما بال قوم قتلوا المقاتلة حتى تناولوا الذرية".إياكم أن تقتلوا الصبيان.(مسند أحمد الجزء الرابع ص ٢٤: حديث الأسود بن سريع) قد يفكر أحد هنا ويقول: إذا كان الإسلام ينوّه بالتسامح الديني مع أتباع الأديان الأخرى لهذه الدرجة فلماذا حمل النبي الله السيف ضد الكافرين في حياته المدنية؟ والجواب أنه مما لا شك فيه أن النبي الا الله قد رفع السيف ضدهم، ولكنه قد رفعه دفاعًا فقط.لقد حاول العرب القضاء على الإسلام بحد السيف، وسعوا طوال ثلاثة عشر عاما جاهدين لرد المسلمين عن دينهم بأنواع الاضطهاد والعدوان، فأذن الله تعالى للمسلمين بأن يردوا بالسيف على مظالم الكافرين الذين أرادوا القضاء عليهم بحد السيف، حتى تزول العقبات التي وضعوها في سبيل انتشار الدين.فثبت أن تلك الحروب إنما كانت دفاعية صدًّا لعدوان الكافرين.فقد صرح الإسلام للمسلمين بأن عليهم أن لا يقاتلوا إلا الذين يقاتلونهم وأن لا يقاتلوهم إذا انتهوا عن قتالهم (البقرة: ١٩١-١٩٤).وإن استخدام السيف من أجل الدفاع ليس بأمر قبيح أبدًا.هل كان صعبًا على الدين – الذي قد خلق حَمَلة السيوف هؤلاء الذين ضحوا بكل غال ورخيص من أجل دينهم رغم معارضة أهل البلد كلهم – إقناع الآخرين بصدقه بقوة الأدلة والبراهين؟ بذي نص الحديث هو: "عن عباية بن رفاعة، عن جده رافع قال: الحليفة، فأصاب الناس جوع، وأصبنا إبلا ،وغنمًا، وكان النبي في أخريات الناس فعجّلوا فنصبوا القدور، فأمر بالقدور فأُكفئت، ثم قسم، فعدل عشرة من الغنم ببعير.(البخاري: كتاب الجهاد، باب ما يُكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم) (المترجم) "
الجزء السادس ٦٧٠ سورة الفرقان بيد أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : ماذا تعلم الكتب التي يؤمن بها هؤلاء المستشرقون المسيحيون الذين يطعنون الإسلام بأنه دين السيف والإرهاب؟ علينا أن لقد نرى فيما إذا كان أنبياؤهم يُعتبرون صادقين بحسب المبدأ الذي يقترحونه؟ ورد في التوراة – التي قال المسيح ال إنه لمن المستحيل "أن يتغير منــها حرف واحد أو نقطة واحدة" (متى (٥: ١٨ - أنه إذا حاربك أهل قريــة: فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف.وأما النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة كلُّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك.هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا.وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نَسَمةً ما، بل تحرّمها تحريما الحنيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرب إلهك، لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم، فتخطئوا إلى الرب إلهكم".(التثنية ٢٠: ١٢-١٨) هذا هو التعليم الذي قدمه موسى، وظل يشوع وداود وغيرهما من الأنبياء يعملون به، ومع ذلك يعتبرهم اليهود والنصارى أنبياء الله الصادقين، ويؤمنون بأن التوراة كتاب حق نزل من عند الله تعالى! وقد جاء المسيح اللي في آخر السلسلة الموسوية، وقال لأتباعه: "لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضــا" (متى ٥: ٣٩).ويستنتج المسيحيون من هذا أن المسيح الله قد نهى الناس عن الحرب والقتال؛ ولكنا نجد في الإنجيل ما يخالف ذلك، كقول المسيح ال: "لا تظنوا أني جئتُ لألقي سلامًا على الأرض.ما جئتُ لألقي سلاما بل سيفا".(متى ٣٤:١٠) وكذلك قال : ومَن ليس له فَلْيُبع ثوبه ويشتر سيفا".(لوقا ٢٢: ٣٦) ومن الواضح أن الأمرين الأخيرين يتعارضان مع ما قاله المسيح الله من قبل.العلية إذا كان المسيح اللي قد جاء لنشر الحرب فما معنى قوله بأن من لطمك على
الجزء السادس ٦٧١ سورة الفرقان خدك الأيمن فحَوِّل له الآخَرَ؟ فلا بد من أحد الاثنين: فإما أن يقال أن التعليمين متعارضان، وإما أن لا يؤخذ أحدهما بظاهره ، بل يجب تأويله للتوفيق بينهما.إننا لا نناقش هنا ما إذا كان قول المسيح "مَن لطَمك على خدك الأيمن فحول له الآخـــــر أيضًا" صالح للعمل به أم لا، وإنما نناقش ما إذا كان العالم المسيحي قد تورع عـــــن شن الحروب عبر تاريخه كله بسبب تعليم المسيح هذا أم لا.إن الأمر الواقع يؤكد أن المسيحية قد خاضت الحروب ضد الأمم الأخرى إبان غلبتها في روما في بداية أمرها، ولم تكن هذه الحروب دفاعية فحسب، بل عدوانية أيضًا.وأما اليوم وقد صار العالم المسيحي غالبًا على العالم ثانية فهو لا يزال يخوض الحروب، وهي لیست حروبًا دفاعية فقط، بل هي عدوانية كذلك.والفرق الوحيد أن الفريق الذي ينتصر في الحرب يقولون عنه أنه كان ملتزمًا بالحضارة المسيحية، والحق أن الحضارة المسيحية لم يعد لها في هذا العصر أي معنى سوى ما يفعله الفريق الغالب.عنـدما يتحارب فريقان فكل واحد منهما يدعي أنه يحارب من أجل الحفاظ على الحضارة المسيحية، وعندما ينتصر أحدهما يقال إنه كان ملتزما بالحضارة المسيحية.ليس هناك شيء اسمه الحضارة المسيحية في حقيقة الأمر.إذا، فالعالم المسيحي ما زال يخوض الحروب منذ زمن المسيح اللة حتى اليوم، وتدل القرائن على أنه سيظل كذلك في المستقبل أيضًا.فثبت من ذلك أن العــــالم المسيحي قد أكد بعمله أن القانون المسيحي الحقيقي هو قول المسيح ال: "لا تظنوا أني جئتُ لألقي سلاما على الأرض.ما جئتُ لألقي سلاما بل سيفا"، وقوله: "ومن ليس له فَلْيَبع ثوبه ويشترِ سيفا"؛ أما قول المسيح ال: "من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا فإما أنه كان قانونا خاصا أقره المسيح من أجل المصلحة بالنظر إلى ضعف العالم المسيحي في بدايته، أو أنه قانون خاص بأفراد الأمة المسيحية فقط، ولا ينطبق على علاقاتهم بالشعوب والحكومات الأخرى.وبالفعل تجد بعض القسيسين الذين يقدمون هذا التأويل لقول المسيح الا هذا.ولو قيل أن المسيح لم يعلم الحرب، بل علم الصلح، فهذا لا يعني يخالف تعليمه لا يكون من عباد الله المقربين.ذلك لأن العالم المسيحي ما زال حتى مع أنــــه أن الذي
الجزء السادس ٦٧٢ سورة الفرقان اليوم يعد موسى ويشوع وداود من عباد الله المقربين مع أنهم دعوا إلى الحــرب وخاضوا فيها.بل إن بعض الأبطال القوميين الذين خاضوا الحروب مـــن أجـــل شعوبهم ضد الأعداء في عهد المسيحية يُدعون قديسين بحسب ما أفتى به البابوات في مختلف العصور.ولكن الإسلام يقدّم تعليمًا وسطا، فلا يأمر أتباعه كما أمر موسى – بحســــب الكتاب المقدس - أن يدخلوا في بلاد الآخرين عدوانًا ويقتلوهم بحد السيف، كما لا يفعل ما تفعل المسيحية حيث تعلّم أتباعها من ناحية "من لطمك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر أيضًا، ومن ناحية أخرى تهمس في آذانهم: عليكم أن تبيعوا ثيابكم وتشتروا بها السيوف، بل إن الإسلام يقدّم تعليمًا يتفق مع الفطرة الإنسانية تمامًا، وهو السبيل الوحيد لقيام الأمن والسلام في العالم، إذ يعلّم أتباعه أن لا يشنّوا على أحد هجومًا عدوانيا، أما إذا هاجمهم أحد ورأوا أن عدم التصدي له سيزيد الفتنة ويقضى على السلام فعليهم أن يردوا على عدوانه.فبالله عليك، أظالم هذا التعليم، أم أنه التعليم الوحيد الذي يمكن أن يستتب به الأمن والصلح في العالم؟ لقد عمل الرسول ﷺ بهذا التعليم، فظل يتحمّل الظلم والأذى في الفترة المكية، و لم يرد الحرب.ثم لما هاجر إلى المدينة وطارده العدو هناك أيضا، أمره الله تعالى بالتصدى له توطيدا للحق والصدق، لأنه يشنّ حربًا عدوانية ويريد محو الإسلام.ذلك فقد أوضح الله تعالى للمسلمين وقال (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: ١٩١)..أي قاتلوا الذين يقاتلونكم، ولكن يجب أن تكون حربكم ابتغاء وجه الله تعالى، لا شفاء لغليلكم ولا إرضاء لنفوسكم.ولا ترتكبوا أي عمل عدواني حتى في الحرب لأن الله تعالى لا يحب المعتدين.ومع كما أمر الله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للَّه فَإِن انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال :٣٩-٤٠)..أي يا محمد، قُلْ
الجزء السادس ٦٧٣ سورة الفرقان لهؤلاء الأعداء إنهم لو انتهوا عن الحرب فسيغفر لهم ما قد سلف، أما إذا استمروا في العدوان ولم يرتدعوا عنه فقد علموا كيف كان مصير أعداء الأنبياء السابقين، وسيلقون نفس المصير.وأيها المسلمون عليكم أن تستمروا في قتالهم إلى أن لا يؤذى أحد بسبب دينه، ويصبح أمر الدين متروكا في يد الله تماما.أما إذا انتهى الأعداء عن عدوانهم فلا تحاربوهم بمجرد كونهم أتباعًا لدين باطل، لأن الله تعالى يعلم أعمالهم وسيحاسبهم عليها كيفما شاء، أما أنتم فلا يجوز لكـــــم التدخل في أمور دينهم بحجة أنه دين باطل.ويقول الله تعالى أيضاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ بيراً ) (النساء: ٩٥)..أي أيها المؤمنون، إذا خرجتم للقتال في سبيل الله تعالى فعليكم أن تتأكدوا جيدا من إقامة الحجة على العدو، وأنه يريد القتال في كل حال.أما إذا مال إلى الصلح معكم فلا تقولوا له أنه يخدعنا ولا نتوقع منه الأمن والسلام، وإلا فلن تكونوا مقاتلين في سبيل الله تعالى، بل تُعتبرون ممن يقاتل من أجل الدنيا فقط.فلا ترتكبوا هذا الإثم، لأن الله عنده متعُ الدنيا وبيده أمر الدين أيضًا.وتذكروا أنه ليس الهدف الحقيقي قتل أحد إذ لا تعلمون أنه لربما يهتدي غدًا.ألم تكونوا مثلهم من قبل، فمن الله عليكم ووفقكم للإسلام؟ فلا تتسرعوا في قتل أحد، بل تبينــــوا حقيقة الأمر جيدًا.واعلموا أن الله تعالى مطلع تماما على أعمالكم.لقد أوضح الله تعالى هنا للمؤمنين أنه رغم نشوب الحرب يجب عليهم التأكد قبل القتال تماماً ما إذا كان العدو يريد شن الهجوم العدواني عليهم، أم أنه قد أخذ أهبة القتال نتيجة خوف ما.فإذا كان لا يريد قتالهم وإنما أخذ أهبته نتيجة خوف فيجب أن لا يقولوا له بأن تجهيزه العسكري يدل على أنه يريد الهجوم عليهم، وأنه لا يمكنهم الاطمئنان من جانبه؟ بل عليهم أن يصدّقوا قول العدو معتبرين أنه ربمــــا كان ينوي قتالهم من قبل ولكنه قد رجع عن عزمه الآن.ذلك أن المؤمنين
الجزء السادس ٦٧٤ سورة الفرقان شاهدون بأنفسهم أن القلوب تتغير والأفكار تتبدل، إذ كانوا أعداء للإسلام بالأمس، وقد أصبحوا من جنوده اليوم.إذا فرغم وجود هذه الأحكام الواضحة فإن قول أعداء الإسلام أنه لا يعلـــم التسامح الديني مع غير المسلمين، وأنه يجيز إكراه الناس على الإسلام بحد السيف الجسارة بغيضة وانحراف مشين عن العدل والإنصاف.ج وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ۚ وَكَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (3) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلَ بِهِ خَبِيرًا (3) التفسير: يُسيء الناس في بلادنا استعمال لفظ التوكل للأسف.التوكل يعني تفويض المرء أمره الله تعالى كلية وهذا يعني أن يلتزم بالسنن والقواعد التي وضعها الله تعالى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى هنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ، حيث بين الله تعالى أن التوكل لا يعني أن يترك المرء اتخاذ الأسباب التي خلقها الله تعالى للنجاح، لأن تركه إياها يعني أنه يعتبر قانون الطبيعة عبثا، ولا يشيد به.أما إذا اعتمد على الأسباب المادية كلية، فقد خالف التوكل أيضًا، لأن من واجبه، إلى جانب الحمد الله تعالى، أن يسبّحه وينزهه عن كل نقص وضعف، ولا يظنن أنه يملك القدرة الكاملة على فعل ما وإن بإمكانه أن يفعل ما يشاء.كلا، بل إن الله هو وحده المنزه عن كل نقص، وهو وحده المستحق لكل حمد وثناء.فمن واجب المرء أن يتبع القوانين التي خلقها الله تعالى إلى جانب توكله عليه وعل.فمثلا إنه تعالى قد
٦٧٥ سورة الفرقان الجزء السادس أقصى يدعو خلق لنا الأيدي والأرجل والعقول والأسباب المادية، والمراد من تفويض المرء أمره لله تعالى أن يستعمل كل واحد من هذه النعم والأسباب فيما خُلق من أجله.فالمقام الأول في التوكل على الله تعالى أن نستعمل كل ما منحنا من أسباب إلى حد، وإذا بقي بعد ذلك أي خلل في تدابيرنا نفوض أمرنا إلى الله تعالى موقنين بأنه سيسدّ هذا الخلل حتمًا.فمثلا إن النبي لا لا لا لالا مقام يوم بدر بتنظيم الجيش المسلم أولاً، وأخبر الصحابة بأماكنهم في القتال، وأعطاهم تعليماته عن القتال، ثم بعد ذلك دخل في عريش قد أُعدّ له ليدعو الله تعالى.إنه لم يترك صحابته في المدينة، و لم يأت إلى بدر وحده ليدعو فقط، بل أخذ صحابته أولاً إلى موقع القتال، ثم قام بتنظيمهم ونصحهم شتى النصائح، ثم دخل عريشا قد أُعدّ له الله تعالى ويبتهل إليه هذا هو التوكل الذي يجب أن نعمل به فكل من لا يأخذ بالأسباب المادية التي وهبه الله إياها، ويقول قد فوضتُ أمري إلى الله، فإنه كذاب يسخر بالله تعالى.وكل من يأخذ بالأسباب ويظن أنه هو الذي سينجز هذا العمل، فهو أيضا كذاب، إذ لا يسلّم بالتدخل الرباني في أموره فسواءً أكان العمل سهلاً أو صعبًا فإن مفتاحه في يد الله تعالى.لقد سمعت عدة مرات من سيدنا المسيح الموعود ال وهو يتحدث عــن السلطان التركي المخلوع عبد الحميد.قال حضرته اللي لقد أعجبني قـــول لهـــذا السلطان جدا.فعندما استشار وزراءه حول الحرب التي كانت بين تركيا واليونان، قدم وزراءه أعذارًا كثيرة.كان السلطان عبد الحميد يريد خوض الحرب، ولكـــن وزراءه كانوا لا يريدونها، فقالوا له: لقد أخذنا أهبتنا للحرب في كذا وكذا مـــن المجالات، ولكنا لم نستطع فعل شيء في مجال واحد هام جدا.فربما، بل الأغلب، أنهم قالوا له إن كل القوى الأوروبية متفقة الآن على مساندة اليونان، ولا نستطيع فعل شيء تجاه ذلك.يقول المسيح ال: لما قدم الوزراء هذا العذر للسطان قــــال لهم: يجب أن تتركوا خانة واحدة على الأقل لله تعالى أيضا.وقوله هذا كان يعجب المسيح الموعود اللي جدا.
الجزء السادس يبني ٦٧٦ سورة الفرقان فعلى المؤمن أن يترك من جهوده خانة واحدة الله تعالى دائما الواقع أن ليس بوسع المؤمن، بل ليس بوسع أحد، أن يقول إنه لم يبق في جهوده أي نقـــص وضعف.ومن أراد إنجاز عمله بحيث لا يبق فيه أي فتور ولا خلل، هو أحمق وغبي.كذلك من الحمق أيضا أن يهمل المرء الأخذ بالأسباب كلية.والأوروبيون مصابون بالحمق الأول في هذه الأيام، أما المسلمون فمصابون بالحمق الثاني.إن مثــل الأوروبيين كمثل الذي بيتًا، ويجعل له أبوابا ويعمل له سقفا، ويشيده جيدا، ثم يقول : الآن لن تستطع النار أن تحرقه، ولن يقدر الزلزال أن يهدمه.أما المسلم فمثله كمثل الذي يريد أن يبني بيتًا، فيكتفي برفع جدار واحد لمترين أو أكثر دون أن يرفع الجدران الأخرى، أو يضع لبيته سقفا، ولا يجعـــل لـه أي أبــواب ولا شبابيك، ويتركه هكذا؛ وإذا سئل قال : لقد بنيتُ الجدار ثم تركته متوكلا على الله الله ولكن هذا ليس من التوكل في شيء، إنما هو كسل وتهاون، لأن الرسول ﷺ يقول: "اعقلها وتوكل" (الترمذي: أبواب القيامة، باب ما جاء في صفة أواني الحوض)..أي عليك أن تعقل بعيرك أولاً ثم تتكل على الله تعالى.بمعنى أنه يجب على المرء أن يبذل جهده إلى أقصى حد، وعندما لا يستطيع أن يزيد على ذلك ولا يبقي بيده بعـــد ذلك أي وسيلة ولا سبب، فعليه أن يخرّ ساجدًا أمام الله تعالى ويستعين به واثقا به.وكأنه إذا أنفذ كل التدابير وأفتى عقله أنه لم يبق هناك شيء، وقالت علوم الدنيا كلها إنه قد استنزف كل جهد ووسيلة، وقالت الفراسة إنه لم يبـق في علمـه خلل، وقالت الخبرة إنه لم يبق فيه أي نقص؛ فعلى المرء أن يقول عندئذ إنه لا يزال بهذا العمل خلل وفتور، ولكن الله تعالى سيسده.وكأن التوكل نوعان: علمي وعملي.التوكل العلمي هو أنه إذا أفتى عقلك وعقول الدنيا كلها وخبرتك وخبرة الدنيا كلها بالإجماع على أن عملك قد اكتمل فعليك أن تقول: كلا من المستحيل أن يخلو عملي من خلل ما، ولكن الله تعالى سيسدّ هذا الخلل بفضله.والتوكل العملي أن تتخذ كل الأسباب التي خلقهـا الله تعالى لإنجاز ما تريده، وتبذل في سبيله كل تضحية ممكنة، ومع ذلك تعوزك بعض الأسباب التي لا تستطيع توفيرها، فيظن أهل الدنيا كلهم أنك فاشل، بينما تظـــل
الجزء السادس ٦٧٧ سورة الفرقان مطمئنا واثقا من النجاح دون أن يقترب منك اليأس والقنوط، بل توقن بأن الله تعالى لن يخذلك، وأنك ستنجح في مرامك بفضله تعالى حتمًا.فالنوع الأول من التوكل أنه إذا أكدت لك خبرتك أنه لم يبق في عملك أي خلل، تقول أنت كلا، لا بد أن يظل فيه خلل ما.والنوع الآخر من التوكل أنك لا ترى أي سبيل إلى النجاح، وترى الخلل تلو الخلل، ومع ذلك تظل موقنا بأن الله تعالى سينجز هذا العمل حتمًا وإن لم يبق هناك سقف ولا جدران.إذا فهناك توكل يكون وقت الضعف، وتوكل يكون وقت القوة.وإن التوكل الحقيقي هو ما يكون وقت القوة؛ ولكن ما نشاهده عادة هو أن الناس إذا بدأوا عملاً ما يقولون: نحن الذين سننجز هذا العمل، وسننجزه حتمًا، كل ما نحتاج إليه الأسباب المادية.وعندما يجدون الصعوبة في إيجاد الأسباب ويفقدون هممهــــم وتنهار عزائمهم يقولون: لقد توكلنا على الله تعالى.مع أن التوكل يدعو المرء إلى العكس في الحالتين كلتيهما.فإذا أنجزت العمل قال لك التوكــل إنه لم يُنجز، وعندما فشلت في إنجاز العمل رغم بذل كل ما في وسعك من جهد ووسيلة، قال لك التوكل عليك أن توقن بأن العمل سيتم حتما بفضل الله تعالى.هو وهذا يعني أن التوكل يفتي خلاف عقولنا تمامًا؛ فحين يقول العقل إن الأسباب غير ميسرة وأن الدمار وشيك، يقول لك التوكل عليك أن تنظر إلى الله تعالى، فربُّكَ مُحْي.وحينما يقول لك العقل: الآن لا خوف من الهلاك لأن كل أسباب النجاح ميسرة، يقول لك التوكل: عليك أن تخاف الله تعالى، لأنه تعالى ليس بمحي فقط، بل هو مميت أيضًا.فكأنك إذا أنجزت كل شيء عند العقل قال لك التوكل: لا تنس صفة الله المميت، وإذا فشلت في إيجاد الأسباب كلها، وظننت أن الهــلاك قريب، وأحاط بك اليأس من كل مكان، قال لك التوكل: أليس ربك بمحي؟ مجمل القول إن التوكل هو أن يبذل المرء كل ما آتاه الله من طاقات وأسباب، ثم يتكل على الله تعالى أكثر من الصوفي الزاهد، ويقول إن الله تعالى سيسد ما بقي من النقص؛ ثم بعد ذلك يجب عليه أن يصمد أمام اليأس القنوط، ويقول إن ربي لـن يخذلني أبدا، وذلك كما قال النبي ﷺ لأبي بكر في غار "ثور" لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ
الجزء السادس ٦٧٨ سورة الفرقان معنا (التوبة: ٤٠)..أي كان علينا أن نهرب من بين العدو فخرجنا، وإذا كان العدو قد جاء على رأسنا الآن فعلى الله تعالى أن يحمينا منه فلا تحزن لأن الله تعالى معنا.هذا هو التوكل الذي يأمر به الإسلام..أي أن نأخذ بالأسباب كلها، ثم نثـــق بالله تعالى ثقة كاملة بأنه لن يخذلنا مهما حدث ولكن ما يفعل الناس عندنا لسوء أنه إذا لم يأت عمل من أعمالهم بنتيجة مرضية نسبوها إلى الله تعالى عوضاً عن أن ينسبوها إلى أنفسهم وقالوا لقد بذلنا كل ما في وسعنا، ولكـــن النتيجة كانت في يد الله تعالى، فما هو ذنبنا ؟ وهكذا ينسبون تقصيرهم وعيوبهم إلى الحظ هو الله تعالى.الله، كان الخليفة الأول للمسيح الموعود الي يقول مراراً إن المسلمين اليــــوم قــــد أساءوا استعمال لفظ الجلالة لدرجة أنهم قد أفسدوا كل شيء في الدين.فف الماضي كان المسلم يقول: ليس في بيتي إلا الله، وكان يعني به أن بيته مليء ببركــــة الله وحكومته، أما اليوم فحينما يقول المسلم: ليس في بيتي إلا فيعني به أنه لا يوجد في بيته أي شيء.فالكلمة التي كانت تُستعمل للإعراب عن بركة الله وحكمه وقدرته، تُستعمل اليوم بمعنى النفي والحرمان.وهذا ما فعل المسلمون بكلمة التوكل أيضًا؛ فإنهم حين يريدون أن يقوموا بعمل لا يعملونه بطريق صحيح، ولا يبذلون له الجهد كما ينبغي، بل يتهاونون ويتكاسلون، وعندما لا تظهر النتيجة على ما يرام ينسبون فشلهم إلى الله تعالى، ويقولون إنه تعالى هو الذي أتى بهذه النتيجة.نحن لم نأل جهدًا ولم ندخر وسعا في عملنا، ولكن الله تعالى هو الذي دمرنا وكأنهم يظنون أنهم وراء كل نجاح يحرزونه، وأن الله تعالى وراء كل فشل يصابون به.ولكن الواقع أن الله تعالى ليس لیگ لگتا وراء أي فشل، بل هو وراء كل نجاح؛ وإنما هم الذين وراء كل فشل ولكـ ينسبونه إلى الله تعالى تغطية لغبائهم وغفلتهم.الحق أننا لو بذلنا كل ما في حقا، ثم توكلنا على الله تعالى ،حقا، فمن المستحيل أن لا تأتي جهودنا بنتائج مرضية.وحين لا يأتي عمل أعمالنا بنتيجة طيبة فالخطأ منا، ولـيـس مـــن من تعالى.ولو أن المسلمين استوعبوا هذا الأمر، ونسبوا النتائج الطيبة لأعمالهم إلى الله الله
الجزء السادس بينته ٦٧٩ الله سورة الفرقان تعالى، ونسبوا فشلهم إلى أنفسهم، لحدث فيهم انقلاب عظيم.لقد قال إبـراهيم اللي وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (الشعراء: (۸)..أي أن المرض مني أي هو نتيجـــة لأخطائي، وأن الشفاء من الله تعالى.لقد نبهنا الله تعالى هنا إلى نفس الأمر الذي آنفا..أي علينا أن نعزو كل خير إلى تعالى، وننسب كل شر إلى أنفسنا.إنه لمن المستحيل أن ننجح ما لم نتحل بإيمان كإيمان إبراهيم العلا، وما لم يتولد فينا ذلك الشعور الذي يشير إليه قوله وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وما لم ندرك أنـــه كلما أصابنا ضعف فإنما يصيبنا نتيجة تقصير منا، وكلما أصابتنا قوة فإنما هي مـــــن تعالى.وإذا أحدثنا هذا التغير في أنفسنا تولد فينا حماس شـــديد للعمـــل عند الله وأحرزنا الرقي تلو الرقي.فلو أن إبراهيم اكتفى بقوله وَإِذَا مَرِضْتُ لدل هذا على اليأس فقط، ولـــو اكتفى بقوله فَهُوَ يَشفين لدلّ هذا على الرجاء فقط؛ مع أن كلا الأمرين خطأ، إذ لا ينجح المرء في هدفه ما لم يكن إيمانه بين الخوف والرجاء؛ ولذلك قال إبراهيم العلي إنه تعالى قد منحني فرصة القيام وفرصة السقوط أيضًا؛ فإذا لم أبذل كل ما في وسعي سأسقط؛ وإذا بذلت جهدي ثم توكلت على الله تعالى، فالنجاح حليفي يقينًا.وبتأكيده على الأمرين أوضح إبراهيم لأنه لا بد لنا من الجهــد ومـــن التوكل معه.فإذا لم نبذل جهدنا فسنفسد أعمالنا، وإذا لم نتوكل على الله تعالى فلن ننجح أيضًا.فكأن الله تعالى يسد النقص في جهود المرء، ولكنه تعالى لا يرضى أن يكون بديلاً عن بذل المرء جهده كله لو كان الله تعالى يريد أن يكون بديلاً لجهود المرء لأصبح قول إبراهيم ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفين خطأ، ولكنه اللي قد بين بقوله (وَإِذَا مَرِضْتُ أنه عندما يفعل ما يؤدي إلى مرضه فلا يمنعه الله تعالى من ذلك، كما بين الله بقوله فَهُوَ يَشفين أنه لا يستطيع أن يتماثل للشفاء الكامل بقدرته الشخصية أيضًا، بل إن الله تعالى هو الذي يشفيه شفاء كاملا.وهذا النجاح والرقي، ومن المحال أن تنجح أمة في هدفها ما لم تفهم هذا الســــر.كيف أحرزت أوروبا وأمريكا هذا التقدم؟ إنما سبب نجاحهم أنهم قد عملوا بأحد هذه القاعدة، أما المسلمون فقد فشلوا اليوم لأنهم تركوا العمل بشقيها هو سر شقي
الجزء السادس ٦٨٠ سورة الفرقان كليهما.فمثل الغرب كمثل فلاح ليس عنده زوجان من الثيران بل ثورٌ واحد، فهو يحرث الأرض بمساعدة الثور الواحد، ومثل المسلمين كمثل الذي لا يملك أي ثور، فكيف يحرث الأرض؟ أو مثل الأوروبيين كشخص عنده حصان واحد فيجر لــــه عربة حصان، وإن لم يقدر على جرّ عربة حصانين.لا شك أنهم قد تركوا التوكل على الله تعالى بتاتا، ولكنهم لم يتركوا الشق الثاني من القاعدة، بل عملوا بجد وكفاح، فأحرزوا الرقي والازدهار.أما المسلمون فلا يعملون بأي شق من الشقين فيفشلون.وحين يفشلون لا يلومون أنفسهم، بل يقولون لقد بذلنا كل ما في وسعنا، ولكن الله تعالى لم يرد لنا النجاح وحين يحققون بعض النجاح ينسبونه إلى أنفسهم بدلاً من أن ينسبوه إلى الله تعالى شأنهم شأن الأغبياء الذين قال الله تعالى عنهم في القرآن الكريم إنهم إذا أحرزوا رقيًا قالوا إنما هو نتيجة علمنـا وذكائنـــا وقوتنا، ولولا ذلك لما أحرزنا الرقي (الزمر: ٥٠)، وإذا فشلوا في شيء نسبوا فشلهم إلى الله تعالى (الفجر : ۱۷).فالمسلمون يعزون كل عيب إلى الله تعالى، وينسبون كل ميزة إلى أنفسهم.ولو أنهم غيّروا سلوكهم هذا لعملوا بالجد والنشاط والحب وتعلموا التوكل الحقيقي، ومن رزق التوكل الحقيقي لم يبق في نجاحـــه شــك ولا شبهة.ثم يقول الله تعالى الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..علما أن قوله تعالى في ستة أيام) يعني في ست مراحل.والعرش ليس شيئا ماديًا كما يظن الناس عادة، وليس بشيء روحاني أيضا.ذلك لأن الله تعالى يقول هنا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ من جهة، وجهة أخـــرى يصف نفسه بقوله ليسَ كَمِثْلِه شَيء (الشورى: ۱۲)، لذا فإن استواء الله و على جسم مادي أو جسم روحاني يتعارض مع عظمته.الحق أن فعل "استوى" قد ورد في حق الله وعجل على سبيل الاستعارة وليس بمعناه العام.فبما أن استواءه على جسم مادي أو جسم روحاني محال فلا يمكن أن يكون العرش شيئًا ماديًا أو روحانيا، بل سيفسر بشيء يخص ذات البارئ تعالى.وبما أن الشيء الذي يخص ذات الله تعالى هو صفاته فليس المراد من العرش إلا ظهور خاص للصفات الإلهية.وحيث إن
الجزء السادس ٦٨١ سورة الفرقان القرآن الكريم لا يجيز نسبة التجسد من أي نوع إلى الله تعالى فكيف يمكن أن يقول القرآن أن الله جل مستو على عرش مادي.الواقع أن صفات الله تعالى تظهر بطريقين: بعضها تظهر ظهوراً تنزيهيا كمــا يشير إلى ذلك لفظ "العرش"، وبعضها تظهر ظهورًا تمثيليًا مثل صفات "الرب" و"الرحمن" و"الرحيم" و "ملك يوم الدين.وصفات الله التنزيهية هي صفاته الأصلية، وأما صفاته التشبيهية فيتجلى بها على سبيل التنزل والتشبيه، ولذلك تجد الكثير الذين يجهلون حقيقة صفات الله التشبيهية يقعون ضحية للشبهات حول ذات البارئ تعالى.فمثلاً يعترض هؤلاء على صفته تعالى "الرب" ويقولون: هل الله تعالى محتاج حتى يخلق العباد ويربّيهم حتى يعبدوه؟ هذه الشبهة يثيرهــا كثيرًا أصحاب الثقافة الحديثة والذين درسوا الفلسفة الهندوسية القديمة.كما يقع الناس في الشبهات حول صفات الله الأخرى المتفرعة من صفته "الرب".وليس ذلك إلا لأن التجلي الإلهي الذي يشاهده الناس من خلال صفاته التشبيهية لا يكشف لهم عظمته الحقيقية، بل يكون هذا التجلي ضئيلاً نتيجة ضعف رؤية الإنسان.مثلها كمثل الذي تكون عيونه ضعيفة ولا يقدر على رؤية الضوء القوي، فيلبس النظارة الملونة، فيرى الضوء القوي خفيفًا؛ كذلك فإن الله تعالى يُري الإنسان جلوة صفاته خلال النظارة الملونة لصفاته التشبيهية حــــى تقــــدر عيونــــه الضعيفة على رؤية صفاته تعالى، ولا يضيع بصره من شدة جلوة صفاته تعالى.ولكن العاقل كما لا يقيس قوة الضوء بما يُرى من خلال النظارة الملونة، كذلك لا يمكن أن يعترض أي عاقل على هذا النوع من تحلّي الصفات الإلهية لأنـه مـن التجليات التنزلية التشبيهية التى قد تجلى الله تعالى بها نظرًا إلى ضعف التنزيهية القوية من إن صفات الله التنزيهية هي تلك التي لا يوجد لها أي شَبَه ولا انعكاس في خلقه مثل: الأحد، الأزلي، الأبدي، حي لا يموت، ليس كمثله شيء.أما صفاته التشبيهية فهي تلك التي يوجد لها شيء من الانعكاس والشبه في خلقه، فمثلا إن الله تعالى رحيم وغفور وسخي وكريم، كذلك فإن الإنسان أيضا يرحم الضعفاء ويغفر خطايا الآخرين ويعامل الناس بالسخاء والكرم.(المترجم)
الجزء السادس ٦٨٢ سورة الفرقان الإنسان، وهي تقرّب الإنسان من الله تعالى يقينًا.لا شك أن النظارة الملونة تري الضوء بشكل خفيف ولكنها تمكن المرء من الانتفاع من فائدة الضوء على كل حال، ولا يسع أحدًا أن ينكر ضرورة هذه النظارة أو فائدتها.ولو رماها صاحبها لضاعت عيونه أو اضطر لإغلاق عيونه وبالتالي حُرم منافع الضوء.إذًا فلكي يطلع الإنسان على جلوة الله وعلى صفاته بحسب نطاق القدرة البشرية يُلبسه الله تعالى نظارة صفاته التشبيهية؛ فيتمكن بها من معرفة صفاته تعالى، كما تظل عينــه الروحانية محفوظة من صدمة التجلي الإلهي القوي الذي يمكن أن يؤدي إلى فقدان بصره دون أن يزيد في علمه ومعرفته شيئًا.بيد أن لبس الإنسان نظارة الصفات الإلهية التشبيهية يمكن أن يوقعه في بعض الأخطاء حول إدراك عظمة الله الحقيقية، لذلك قد أوضح الله تعالى للإنسان حقيقة الأمر وقال ليس كمثله شيء)) (الشورى: (۱۲) فأشار بذلك إلى عظمته الحقيقيـــة موضحًا للإنسان أنه يجب أن لا يسيء فهم صفتي الرب والرحمن وغيرهمــا مــن صفاته تعالى، لأنه تعالى ليس بالرب فقط بل هو رب العرش في الواقع، أي أن أحد طَرَفَي ربوبيته متصل بالمخلوق وطرفه الآخر متصل بالعرش، فلا تقيسوا ربوبيتــــه بربوبية البشر، ولا تخوضوا في النقاش بأنه تعالى إنما يربي البشر لأنه محتاج إليهم كما يربي الآباء أولادهم كونهم محتاجين إليهم.إن ما يهمكم هو أن تتأكدوا ما إذا كان لهذا الكون رب أم لا.ولو ثبت وجوده تعالى فلا داعي بعد ذلك أن تحاولوا معرفة كنهه وماهيته، لأن الحقيقة النازلة من العرش لا يمكن أن يعرفها الإنســـان الذي هو على الفرش.فإذا انكشفت على المرء حقيقة ما فالأفضل له أن يعتـــرف بها، ولا يحق له أن يقول لا بد أن يعرف أولاً من أين وكيف تخلـق الربوبيــــة والرحمانية والرحيمية والمالكية.باختصار، إن العرش اسم لصفات الله التنزيهية التي هي أزلية وغير متبدلة، وليس بين المخلوق وبين الله أدنى مشابهة بشأنها.بيد أن الإنسان يعرف الصفات التنزيهية من خلال الصفات التشبيهية، إذ لولا الصفات التشبيهية لم يتيسر لنا أي إدراك - مهما كان ضئيلا - بكون الله تعالى كاملا في صفاته.
٦٨٣ الجزء السادس سورة الفرقان فإذا فهمنا أن العرش هو نظام صفات الله التنزيهية التي تكون صفاته التشبيهية بمثابة حاملة لها، فسيكون المراد من قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..أن الله تعالى لما أكمل خلق السماوات والأرض أخذت صفاته التنزيهية في الظهـور بصورة كاملة.ولما كانت الصفات التنزيهية تتجلى من خلال الصفات التشبيهية فيكون المراد من قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..أن الصفات التشبيهية التي كانت تابعة للعرش - أي لمركز الصفات التنزيهية - أخدت كل واحدة منها تعمل عملها.وقد أشار الله تعالى بذلك إشارة روحانية وهي أنه تعالى ما دام قـــد خلـق بواسطة الإسلام سماء جديدة وأرضا جديدة، فقد استوى الآن على عرشه..أي أنه تعالى لن ينصر محمدا لله من خلال صفة واحدة فحسب، بل سيسخر لنصرته جميع صفاته التابعة للصفات التنزيهية.ولما كان محمد ﷺ قد توكل على ربه بصدق، ولما كان الإله الذي يعرضه محمد على الدنيا إلها حيًّا لا يأتي عليه الفنــاء أبــــدا، فسيتلقى محمد ﷺ التأييد الإلهي في كل عصر، وستكشف صفات الله تعالى صدقه دائما.خبير ثم يقول الله تعالى الرَّحْمنُ فَاسْأَلْ به خبيراً..أي أن الإله الرحمن هو الذي قد منّ عليكم بكثير من النعم بسبب رحمانيته، وخلـق لكم الأرض والسماء والشمس والقمر ؛ وإذا ساورتكم أي شبهات حول صفته الرحمن رغم هذه النعم الكثيرة، فاسألوا عنها من هو وقوله تعالى فَاسْأَلْ به خَبِيراً يُشبه قولهم "القيت بزيد أسدًا"..أي لقيت بزيد الذي هو أسد لشجاعته وبسالته أو قولهم "لقيت بزيد البحر"..أي وجدته في جُوده وكرمه بحراً.فضمير الغائب في به يرجع إلى الرحمن، والمعنى: اسأل الرحمن الذي هو خبير ويعلم الحقائق كلها.بمعنى أنكم إذا فشلتم، رغم رؤية نظام هذا الكون الشاسع والدال على كون الله رحمانا، في إدراك بأنه تعالى كما تجلّـ برحمانيته في الدنيا المادية تجليا رائعًا، فلا بد أن يكون قد دبر في العالم الروحاني أيضًا نظاما لإصلاح عباده، وكذلك إذا فشلتم في معرفة صدق النبي ، فعليكم
الجزء السادس الله ٦٨٤ سورة الفرقان أن تسألوا الله الذي هو خبير..أي عليكم أن تطرقوا الباب الإلهي وتخروا على عتبة وتدعوه وتبتهلوا، فسوف يرحمكم ويكشف عليكم الحقيقة بشكل أو آخـــر فضلا منه ورحمة.= وقال البعض الآخر إن الباء في به جاء بمعنى "عن"، ومثاله قول الله تعالى في القرآن الكريم سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَاب (واقع (المعارج (۲)..أي "عن عذاب واقع"؛ وعليه فقوله تعالى ﴿فَاسْأَلْ به خبيراً) اسأَلْ يعني: عنه خبيرا.ويقول هؤلاء المفسرون إن الله تعالى قد ذكر من قبل خَلْقَه للسماوات والأرض واستواءه على العرش، وهي أمور لا يعلم تفصيلها إلا الله تعالى لذلك قال تعالى هنا فَاسْأَلْ خبيراً..أي اسأل الله تعالى عن تفصيل هذه الأمور لكونه وحده خبيرًا بها.وقال البعض إن الخبير هنا يعني من عنده علم كامل بأسماء الله وصفاته، وهـو جبريل وأهل الكتاب والعلماء (القرطبي والرازي وفتح البيان) وعندي أنه إذا كان المراد من خبيرًا) شخص غير الله تعالى فهذا الخبير هـو سيدنا محمد ﷺ حيث وهبه الله تعالى بوحيه علم صفاته الكاملة.ولما كان كفــــار مكة ينكرون وحي الله تعالى، والوحي لا يعطى نتيجة عمل من الإنسان بل هو هبة يعطيها الله أحدًا نتيجة صفته الرحمن ، فكانوا لا يؤمنون برحمانية الله تعالى بالمعنى الذي يصفه به الإسلام.وبما أن صفة الله الرحمن تدحض عقائد الكافرين وتذكرهم باستمرار بأن الله تعالى جعل الإنسان مالكًا لهذه الأحجار وحاكمًا على كـــل ذرة الكون، وأعطاه كل هذه النعم نتيجة صفته الرحمن ومع ذلك فإنهم يسجدون لهذه الأصنام المنحوتة من الأحجار وينكرون كون الله رحمانا؛ فكان طبيعيا أن يقولوا في أنفسهم وما هذا الرحمن؟ فأمرهم الله تعالى وقال: إذا كنتم تغضون البصر عن هذه النعم العظيمة التي قد أنعمنا بها على الدنيا كلها بناء على صفتنا الرحمن، كما تنكرون ضرورة الوحي الذي أنزلنا بحسب صفتنا الرحمن أيضـــا، فهناك طريقان لحل هذه المعضلة: الطريق الأول هو أن تخرّوا أمام الله تعالى وتدعوه ليكشف عليكم صدق الإسلام و محمد الله، ويجلي عليكم عظمة التوحيد؛ ولو أنكم أنبتم إلى الله تعالى بخلوص النية واستنزلتم رحمته بالدعاء، فلا بد أن ينوّر زوايا من
الجزء السادس ٦٨٥ سورة الفرقان قلوبكم المظلمة بنوره، ويكشف عليكم حقيقة هذه الشمس الروحانية التي أنارهــــا لإزالة ظلمات الدنيا.أما الطريق الثاني فهو أن ترجعوا إلى محمــد رســـــول الله ﷺ وتسألوه حل معضلتكم، ولو فعلتم ذلك فسوف تعرفون أن شخصيته ووجوده لبرهان حي على ظهور صفة الله الرحمن.والحق أن الله تعالى قد أنعم على النبي الله له منذ ولادته إلى شبابه، ومنذ شبابه إلى بعثته، ومنذ بعثته إلى يوم لحاقه بالرفيق الأعلى، بمنن لا نهاية لها حتى لا يسع أشـــــد المعارضين بعد رؤيتها إنكار كون الله رحمانًا.وقد أشار القرآن الكريم بكلمـــات وجيزة إلى هذه النعم والمنن التي لا تعد ولا تحصى فقال أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ صَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائلاً فَأَغْنَى (الضحى : ٧-٩).لقد رسم علما أن المراد من قول الله تعالى ﴿وَوَجَدَكَ صَالاً فَهَدَى أنه وجد النبي ﷺ هائما في حبّه تعالى وحيرانا لإصلاح قومه، فدله على السبيل الذي يؤدي إلى ذلك.الله تعالى هنا حياة النبي لالالالاله الطيبة رسماً جميلاً وبشكل موجز جدا.فقد توفي أبوه وهو في بطن أمه، وهكذا صار يتيمًا قبل مولده (السيرة الحلبية الجزء الأول ص ٥٨ - ٥٩ : باب وفاة والده.ولكن رحمانية الله تعالى تولت عنايته، فألقى الله في قلب جده عبد المطلب حبًا شديدا تجاهه منذ ولادته، فكان لا يتحمل غيابه عن أنظاره لوقت قليل، وقام بتربيته بكل حب ودلال المرجع السابق ص ١٢٥: باب وفاة أمه لا الهلال والسيرة النبوية لابن هشام وفاة آمنة وحال رسول الله ﷺ مع جده) ثم حين كان أهل النبي يبحثون عن مرضع له فارت رحمانية الله ثانيةً فأتت إليهم بحليمة.وكانت حليمة امرأة فقيرة لم ترد أي عائلة من مكة أن تترك ولــــدها في كفالتها ولكن الله تعالى ترحم على حليمة الفقيرة وعديمة الحيلة، فوضع في حضنها تلك اللؤلؤة اليتيمة التي اسمها محمد الله ثم ألقى الله في قلبها حبًا جما للنبي.فكانت لا تتحمل غياب النبي الله عنها قليلا وكانت تزجر أولادها بشدة إذا تركوه وحيدا.(المرجع السابق ص :۱۲۲: باب ذکر رضاعه ثم لما توفي عبد المطلب وهبه الله برحمانيته عمَّا شفيقاً كأبي طالب، فوقف بجنبه في أحلك الساعات و لم يخذله رغم تهديد القوم.
الجزء السادس ٦٨٦ سورة الفرقان الله وفيـــا ثم لما بلغ النبي ﷺ سن الشباب فإن رحمانية الله تعالى ألقت حبه في قلب خديجة- رضي عنها - لما رأت من صلاحه وورعه، فبعثت إليه تطلب من الزواج.(السيرة النبوية لابن هشام المجلد الأول : حديث تزويج رسول الله ﷺ خديجة ) وحين احتاج النبي ﷺ إلى الأصدقاء، فإن رحمانية الله وهبت له صديقا كأبي بكر له.ثم لما امتلأ قلب النبي حزنًا برؤية ما آل إليه قومه من حالـة مترديــة، ﷺ وبللت دموعه مكان سجوده في غار حراء، اختاره الله تعالى برحمانيته وجعله ربّانًا لسفينة السماء لينقذ العالم الموشك على الغرق.كذلك لما احتاج النبي ﷺ إلى المال لسد الحاجات القومية ألقى الله الرحمن في قلب خديجة – رضي الله عنها – لتضع كل ما تملك في يد النبي.ثم إن رحمانية الله تعالى قد وسعت نطاق فيوض النبي روحانيا وماديا، فإن مئات الآلاف من الناس شفوا ظمأهم الروحاني من نبعه الروحاني، كما أن مئات الآلاف من رعاة الإبل أصبحوا ملوك العالم ببركة كونهم خداما له.ثم إن نزول القرآن الكريم هذا الشرع الدائم الأبدي، يشكل برهانا عظيمًا على أن الله رحمن.ذلك لأن الوحي لا ينزل نتيجة أعمال الناس، وإنما ينــــــــزل نتيجة صفة الله الرحمن منة على العباد، ولذلك قال الله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) (الرحمن: ٢-٣)..أي أن الله الذي علم القرآن نتيجة صفته الرحمن، ولولا أنه رحمن لما نزلت نعمة كالقرآن على مخلوق أرضي كالإنسان.فثبت من هنا أن حياة النبي ﷺ مثال على ظهور صفة الله الرحمن، كما أن الوحي النازل عليه أيضا برهان ساطع على أن الله رحمن.فمن ساور قلبه الشــك حول رحمانية الله تعالى فليمعن النظر في حياة محمد الله وفي الوحي الذي نــــــــزل عليه، ولسوف يجد أن كل صفحة من كتاب حياته وأن كل آية من وح لبرهان حي على أن الله حي رحمان، تماما كما أن كل ذرة من الكون تشكل دليلاً ساطعًا على كونه تعالى رحمانًا.بل إن جميع صلحاء أمة المصطفى ﷺ وأوليائهــــا وأبدالها وأقطابها ومجدديها ومصلحيها وغيرهم ممن نزلت عليهم بركات الله
الجزء السادس ٦٨٧ سورة الفرقان وأفضاله اللامتناهية ببركة كونهم خداما للرسول ﷺ، والذين صار كل واحد منهم محمدا مصغرا بحسب درجته، أقول إن كل واحد من هؤلاء كان برهانا عظيما على أن الله تعالى ،رحمان، ذلك لأن كل البركات والنعم التي نالها هـؤلاء لم ينالوهــا بقوتهم وجهدهم، وإنما نالوها بفضل اتباعهم لمحمد ونتيجة اغترافهم من ذلك النهر العظيم الذي لا شاطئ له والذي أجراه الله تعالى بفضله لإزالة ظمأ عطاشى العالم.لقد بين مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الا هذا المعنى في بيت شعر له بأسلوب رائع فقال: این چشمه روان که بخلق خدا دهم یک قطره از بحر کمال محمد است (مجموعة اشتهارات (بالأردية) المجلد الأول ص ۹۷: اشتهار ۲۰ يناير/كانون الثاني ١٨٨٦) أي أن هذه العين الجارية التي أسقي منها مئات الآلاف من خلـق الله تعالى ليست ملكًا لي، وإنما هي قطرة أقدّمها لعطاشى العالم مغترفًا من بحر فيوض محمــد و کمالاته.إذا، فهؤلاء الصلحاء والأبرار الذين يرى الناس محمدا يمشي بين الناس من خلال شخصياتهم أيضًا يُدرَجون تحت قوله تعالى فَاسْأَلْ به خبيراً، لأن الذين قد نسوا رحمانية الله تعالى إذا رأوا حياة هؤلاء الصالحين ما وسعهم إلا الاعتراف بأن الله رحمن فعلاً.وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُورًا (3) شرح الكلمات: نفورا: نفرت الدابة: جَزَعَتْ وتباعدت ونفَر القومُ: تَفرَّقوا، ونفَر القومُ كذا: أعرضوا وصدوا.(الأقرب)
٦٨٨ الجزء السادس سورة الفرقان التفسير : الرحمن من صفات الله الشهيرة وقد ذكرها القرآن مرارا والرحمن هو مَن يُحسن إلينا بدون مقابل أو سعى وعمل منا.وعلى سبيل المثال، لقد خلق الله تعالى لنا الشمس والقمر وغيرهما من الأجرام السماوية بدون أي عمل منا.كذلك إن الهداية التي تتيسر لنا من خلال شريعة الله تعالى أيضا تنزل نتيجة صفة الله الرحمن وليس نتيجةً لأي عمل منا، بل الحق أن الشريعة لا تنزل إلا حين تقــــع الدنيا في السيئات وتترك الله كلية.وإليك الآن بعض الأدلة على هذا المعنى للرحمن.أولا: لم تستعمل العرب لفظ الرحمن كصفة بدون أي تقييد قط إلا لله تعالى.إنهم لم يصفوا أحدًا بصفة الرحمن إلا بعد دعوى النبي ، مما يدل أنهم فعلوا ذلك عنادا وتعصبا فقط؛ ومع.ذلك فهم لم يستعملوه على إطلاقه بل استعملوه مضافًا، فمثلا سموا مسيلمة الكذاب رحمن" اليمامة.إذًا، فإن هؤلاء القوم أيضا لم يتجاسروا على استعمال لفظ الرحمن المسيلمة بدون الإضافة، أو بمعنى رحمن الخلق كلهم، وذلك لأنهم كانوا يعلمون أن اللغة العربية لا تجيز ذلــك بشـكـل مـــن الأشكال.(انظر لسان العرب) إن لفظ الرحمن يدل في اللغة العربية على رحمة لا تظهر من أحد سوى الله تعالى، وهي تلك الرحمة التي تنزل بدون مقابل والواقع أن كل رحمة مما ســوى الله تعالى تكون مقابل منّة من أحد في الماضى أو على أمل إحسان منه في الحاضر يريدون به رضی في المستقبل.وإذا لم يكن بنية من يحسن إلى غيره أن ينال جزاء على إحسانه فمـــــع ذلك ينال الجزاء عليه حتمًا.ذلك أن إحسان الناس لا يخلو من شكلين، فإما أنهــــم الله تعالى ورضاه تعالى أيضا نوع من الجزاء، أو أنهم يبدون الإحسان والرحمة بمقتضى ضروراتهم التمدنية، وهذا أيضًا نوع من الجزاء.وإذا لم تكن هناك ضرورات التمدن فإنهم ينالون جزاء إحسانهم بشكل آخر.ولكن المنة الإلهية تكون خالصة تماما.
الجزء السادس ٦٨٩ سورة الفرقان ثانيًا: إن علماء اللغة العربية أيضا قد أشاروا إلى هذا المعنى للفظ الرحمن.يقول إمام النحو أبو علي الفارسي: "الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختص به الله تعالى، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين قال تعالى وكان بالمؤمنين رحيما".(فتح البيان مجلد ۱ ص ٢٥) والحديث أيضًا يؤيد هذا المعنى.فعن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : "قال الله تعالى: "أنا الله، وأنا الرحمن خلقتُ الرَحِمَ وشققتُ لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته".(الترمذي: أبواب البر والصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم) هذا الحديث أيضا يوضح معنى الرحمن، لأن صلات رحم الأُمّ أشبه ما تكــــون بالرحمانية.فمثلاً حبُّ الأم لولدها هو حبّ طبيعي كلية.لا شك أن الأُمّ تنتفع من ولدها في بعض الأشكال، ولكن لا يكون في معاملتها للطفل أي رغبة في الجزاء.فكون الرحمانية منبعًا لعلاقات الأمّ مع ابنها دليل على أن الرحمانية اسم لرحمة بدون مقابل.رابعا: ثم إنه من الثابت من قواعد العربية أن الرحمن هو على وزن "فعـــلان"، وهذا من أبنية المبالغة والسعة والكثرة والغلبة.والرحيم "فعيل" ويدل على حصول الرحمة مرة بعد أخرى.فالرحمن من هو واسع الرحمة تشمل رحمته الجميع بدون استثناء، ولا تختص بالعاملين بل تشمل جميع المخلوقات، فينتفع منها الإنسان والحيوان والمؤمن والكافر.ومما يدل على أهمية صفة الرحمانية أن الإنسان كلما ارتقى إلى مقـام جديـــد احتاج إلى أشياء جديدة، بل لو تدبرنا لوجدنا كل الأشياء ترتقي بالتدريج وتتجدد حاجاتها في كل مرحلة.خذوا مثلا سلسلة من الجبال فهي لا ترتفع فجأة بــل تدريجيا، فأولا ترى ارتفاعات في الأرض، ثم صخورا ، ثم تلالا، ثم هضابا عالية ثم جبالاً شامخة.وترى في تطور الخضار والفواكه أيضا تدريجا، فأولاً تُبذر البذرة، ثم تتفتح، ثم يخرج منها الورق وتتأصل جذورها في الأرض، ثم تنبت أكثر حتى يخرج لها ساق.فثبت من هنا أنها تنمو على مراحل.كذلك كل الأشياء تتطور علـــى
٦٩٠ الجزء السادس سورة الفرقان مراحل وعند كل مرحلة تتجدد حاجاتها.وهذا هو حال الإنسان أيضا، فكلمـــا أحرز درجة من الرقي احتاج إلى أشياء جديدة للمرحلة التالية.فمثلا يولد الطفل فيحتاج إلى غذاء ليّن فيجده في ثدي أمه وعندما يتقوى قليلا يحتاج إلى غذاء صلب إلى حد ما، فتنبت أسنانه.ثم يكبر ويصبح قادرا على التناسل، فيعطيـه الله زوجه، وإذا فتح عيونه وجد الشمس لكي يرى بمساعدة ضوئها الأشياء.ثم إن العين كانت بحاجة إلى رؤية أشياء جميلة لتشعر بالنضارة والطراوة، فخلق الله لهـا مناظر خلابة ووجوها جميلة وأزهارا ملونة وأنواع الخضار والأشجار والأعشـــــاب ومئات الأنواع من الحيوانات والطيور.فإذا جعل الله تعالى له آذانا جعل إزاءهـــا أصواتا ذات فروق كثيرة، إذ لو كان صوت جميع المخلوقات واحدًا لصعب التمييز بينها؛ فعندما نسمع صوت الحصان أو الحمار نعرف بسهولة أنه صهيل الحصان أو نهيق الحمار.كما جعل الله تعالى بين أصوات الناس أيضا فروقا دقيقة نميز بها بــين صوت إنسان وآخر.ثم إن الله تعالى إذا وهب لنا حاسة اللمس جعل إزاءها بعض الأشياء ناعما وبعضها صلبًا ، وبعضها زلقا وبعضها خشنًا، ثم جعل الخشونة والنعومة أيضًا درجات، فأنت تلمس الحرير فتجد فيه نعومة وتلمس شيئا مطاطيـــا فتجد فيه نعومة أخرى، وهذا الفرق يساعدك على التمييز بينهما.مجمل القول، إنك لو تدبّرت أي شيء لوجدت له سلسلة طويلة من الحلقات، وبعد كل حلقة تتجدد الحاجات التي تجدها موجودة.وهذا هو معنى الرحمن أي أنه تعالى يهيء كل ما يحتاج إليه الشيء في كل مرحلة سلفًا، سواء أكانت هذه الحاجات مادية أو روحانية أو علمية.لقد اكتشف العلماء الآن أمرًا جديدًا، فقالوا إن الدماغ مثل خلايا كثيرة تخزن فيها المعلومات التي يجمعها الإنسان عبر حواسه، وهذه الخلايا إذا نفذت خلقت خلايا جديدة.وإن هذا الاكتشاف الجديد مثال رائع لصفة الله الرحمن حيث اتضح منه أن المرء كلما بلغ مرحلة من الرقى خلق الله تعالى للمرحلة التالية من رقيه أسبابًا جديدة، ومن المحال أن تكون هناك ضرورة حقيقية ولا يتيسر لها ما يسدّها.
" الجزء السادس ٦٩١ سورة الفرقان لقد ظن البعض خطأ أن لفظ الرحمن معرّب..أي أنه ليس عربي الأصل، بـل نُقل من لغة أخرى، حتى إن أديبا أريبًا مثل المبرّد أيضا وقع في هذا الخطأ.فـــــــقـد حكى ابن الأنباري في "الزاهر" عن المبرّد أن الرحمن عبراني وليس بعربي (ابن كثير: سورة الفاتحة ولكنه قول باطل بالبداهة، لأن لفظ الرحمن عربي الأصل، وقد ورد في کلام شعراء العرب قبل بعثة النبي الله الله فمثلا قال سلامة بن جندب الطهوي: عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يَشَأ الرحمن يعقد ويطلقُ (المرجع السابق) والحق أن هؤلاء قد اعتبروا لفظ الرحمن أعجميًا لعدم استيعابهم معنى قول الله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا.وقد ازداد سوء فهمهم مما ورد في البخاري بأن النبي ﷺ لما قال لعلـــي الله عند عقد صلح الحديبية أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال ممثل الكفار : "أما الرحمن الرحيم، فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم" (المواهـــــب اللدنية: صلح الحديبية).والحق أن كلمات هذه الرواية نفسها تبين أن الكافرين لم يكونوا يستغربون من لفظ الرحمن، لأنهم قالوا أيضًا لا نعرف ما الرحيم، مع أن الرحيم عربي عند الجميع.فاستغرابهم من لفظ الرحيم يدلّ بوضوح أنهم لم يكونوا ينكرون كون كل من لفظي الرحمن والرحيم عربي الأصل، وإنما كانوا يعترضون على أن تبدأ المعاهدة باسم الله الرحمن الرحيم، إذ كان العرب يقولون فقط "بسم الله"، أما الرحمن الرحيم فكانوا يعتبرونهما بدعة إسلامية، فمنعوا النبي من إضافة هذين اللفظين في المعاهدة حيث اعتبروا ذلك فرض الإسلام عليهم.فماذا كان الكافرون يقصدون بقولهم هنا في سورة الفرقان (وَمَا الرَّحْمَنُ؟ فاعلم أن القرآن الكريم يؤكد أن لفظ الرحمن كان معروفًا لدى العرب، وكـــــان الكافرون يستعملونه حيث نقل الله تعالى قولهم وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ (الزخرف: (۲۱)، وعليه فالمراد من قولهم هنا (وَمَا الرَّحْمَنُ أَنهم بسبب حرمانهم من علوم السماء كانوا لا يعرفون ما يتضمنه لفظ الرحمن من مفهوم دقيق
٦٩٢ الجزء السادس سورة الفرقان يقدمه الإسلام، وهو من يرحم بدون عمل ومقابل.ولما كان هذا المعنى للرحمن يتعارض مع عقائدهم فكانوا يتضايقون منه ويقولون (وَمَا الرَّحْمَنُ).فما كان قصدهم من قولهم أنهم لا يعرفون هذا اللفظ، بل كانوا غير مستعدين أن يقبلوا هذا المعنى للرحمن.وباختصار، لم يكن اعتراض الكفار على لفظ الرحمن بل علـــى الاصطلاح الجديد الذي قدمه القرآن والذي كان غريبا على العرب ومثله كمثل لفظ الصلاة، الذي هو عربي الأصل، ولكن القرآن جعله اصطلاحًا، فكان بإمكان الكفار أن يعترضوا على هذا اللفظ أيضًا ويقولوا "وما الصلاة"؟ ومثاله الآخر قول الله تعالى في القرآن الكريم وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلسَان قَوْمه (إبراهيم: (٥)، بينما ورد في مكان آخر قالت أمة شعيب ال يَا شُعَيْب مَا نفْقَهُ كَثيراً ممَّا تَقُولُ) (هود: (۹۲).وهذا لا يعنى أن شعيبا كان يحدثهم بلغة لا يفهمونها ، بل المراد أنهم كانوا لا يفهمون الأمور الدينية التي كان يبينها لهم.كذلك كان العرب يستعملون لفظ الرحمن، ولكن القرآن الكريم قد أطلق الرحمن على من يعطي بدون عمل وسعي، وهذا المعنى كان مرفوضًا لدى الكفار لأن التسليم بــه يبطل عقائدهم الوثنية.ولذلك تجد النصارى لا يستعملون لفظ الرحمن؛ لأن المعنى الذي بينه القرآن الكريم لهذا اللفظ يبطل عقيدة الكفارة المسيحية، مؤكدا أن الله تعالى يغفر للإنسان تقصيراته وأخطائه، على عكس ما تقوله عقيدة الكفارة.بيد أن هذا لا يعني أن المسيحيين لا أن المسيحيين لا يعرفون لفظ الرحمن، وإنما المراد أنهم لا يقبلون اصطلاح الرحمن كما قدمه القرآن الكريم، ولذلك لا يكتبون في بداية كتبهم باسم الله الرحمن الرحيم، بل يكتبون باسم الله الرحيم، أو باسم الله الهادي الجواد..وما إلى ذلك.
الجزء السادس ٦٩٣ سورة الفرقان تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (٣) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا شرح الكلمات: ٦٣ :بروجا :البروج : جمع البرج وهو الركن والحصن (الأقرب).والبروج: القصور، والواحد برج، وبه سمي بروج النجوم لمنازلها المختصة بها.(المفردات) وقد نقل صاحب "البحر المحيط" عن اللغوي الشهير أبي صالح أن البروج بمعنى الكواكب العظام.(البحر المحيط) سراجا: السراج: المصباح الذي يضاء بالليل؛ الشمس لأنهمــا ســـراج النهار.(الأقرب) خلفة: الخلفة يقال في أن يخلف كل واحد الآخر (المفردات).وتقول العرب: له ولدان خلفتان أي أن أحدهما طويل والآخر قصير، أو أحدهما أبيض والآخر أسود (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى للكافرين: تقولون وَمَا الرَّحْمَنُ؟ فاعلموا أن الرحمن هو ذلك الذي جعل في السماء منازل للنجوم وشمسا مشرقة وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار يتعاقبان لمن أراد أن ينتفع من هذا النصح أو أراد أن يصبح من عباد الله الشاكرين.لقد نبه الله تعالى هنا الكافرين أنه ما دام قد خلق لجسم الإنسان الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والنار والتراب وصنوف الغذاء، فكيف يمكنه أن لا ينزل لهدايته أي صحيفة سماوية.إنه لا يُتوقع من أي إنسان ذي عقل بسيط أيضًا أن يسد الحاجات الدنيا ويهمل الحاجات الأهم، فما بالك بالله تعالى؟ لقد خلق الله تعالى برحمانيته لعين الإنسان الضوء، ولأذنه الصوت، ولأنفه الشذى، وللســـانه
الجزء السادس ٦٩٤ سورة الفرقان أذواقا مختلفة، لذا فلا بد أن يكون قد أرسل لعقل الإنسان رسالة من الهدى لكي لا يظل عقله تائها في الشبهات، بل ينعم باليقين والاطمئنان ساعيًا لتطوير حياته.الواقع أنه كما تحتاج حياة الإنسان المادية إلى شمس وقمر، فإن حياته الروحانية أيضًا بحاجة إلى شمس وقمر، ولولاهما لأتى فمات روحانيا، ولظل ظمآنا وعطشانا رغم أكله وشربه ولظل أعمى رغم بصره ، وأصمَّ رغم سمعه، ومينا رغم حياته في الظاهر.وإلى ذلك يشير الله تعالى بقوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) (الأنفال: ٢٥).فترى أن الصحابة كانوا أحياء، ويأكلون ويشربون ويمشون، ومع ذلك يأمرهم الله تعالى أنهم إذا دعوا للإحياء فعليهم أن يلبوا دعوة الداعي.وهذا يبيّن جليًّا أن الموت قسمان: موت جسماني ومـــوت روحاني.والموت الجسماني هو خروج الروح من جسد الإنسان، والموت الروحاني هو قطع الإنسان صلته عن الله تعالى.فإننا كما نحفر الآبار ونشق الأنهار ونزرع الزروع ونغرس البساتين حفاظًا على حياتنا المادية، كذلك لا بد لنــا مــــن مــاء روحاني وغذاء سماوي للحفاظ على حياتنا الروحانية وكما أن الفلاح يسقي زرعه بالماء ويهييء له ضوء الشمس والقمر حتى يُدرك وينضج، كذلك لا بد للناس من أن يسقوا زرع قلوبهم بماء الوحي ويُنضجوه بالتجليات الإلهيـــة وأنـــوار الأنبياء حفاظا على حياتهم الروحانية.إذًا، فبمثال الشمس والقمر قد لفت الله تعالى أنظار الإنسان إلى النظـــام الروحاني الذي به تقوم حياته الروحانية.كما بيّن بمثال اختلاف الليل والنهار أنـــه حين تطلع الشمس المادية وتنشر الضوء في العالم كله، تحول الظلام ضياء وتكشف كل الأشياء الخفية فيسهل التمييز بين الجيد والرديء والطاهر والخبيث لأن ويشتغل الإنسان بأمور دنياه ،مطمئنًا ويجمع أسباب الحياة للمستقبل، ويسعى يجعلها أفضل قدر الإمكان كذلك عندما تطلع الشمس الروحانية تنشر الضوء على أرض القلوب وتبدل ظلمة السيئات إلى نور الحسنات، وتكشف ما في الإنسان من عيوب وآثام، وتطهره مما علقت بجسده الروحاني من مساوئ وخبائث وأدران، مما به من أسقام وأمراض، وعندها تتولد فيه قوة التمييز بين الخير والشـــــر، وتشفيه
الجزء السادس ٦٩٥ سورة الفرقان ويسعى لإصلاح حياته الروحانية بخلوص القلب وصدق النية، ويُنشئ مع الله تعالى صلة صادقة.فثبت أن الشمس الروحانية تفعل أكثر مما تفعله الشمس المادية بطلوعها على الأرض؛ ذلك لأن الشمس المادية إنما تهيئ الأسباب لهذه الحياة التي هي لأيام معدودة، أما الشمس الروحانية فتزود الإنسان بأسباب الحياة الأبديـــة، وتوصله بربه عل.ثم إن الليل حين يضرب أطنابه يخيم الظلام على العالم كله، ويترك الإنســـــان مشاغله ليرتاح فينام نومة تُنسيه الدنيا وما فيها.كذلك عندما تأتي علـــى حيـــاة الناس الروحانية فترة الليل المظلمة يترك أكثرهم الدين وتستولي عليهم الغفلة.أما الذين يريدون منهم أن يعملوا شيئا فينتفعون ممن قد استفادوا من المأمور من الله تعالى وكانوا بمثابة القمر والنجوم وينتظرون ذلك الضوء الذي يطلع بعد الليل، ويقضون لياليهم في الدعاء والابتهال ساعين للانتفاع من فيوض صفة الله تعالى "الرحيم" كما وصفهم الله تعالى بقوله (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً.فالله تعالى ينبه الإنسان هنا أن يتوجّه برؤية النظام الشمسي المادي إلى النظام الشمسي الروحاني الذي تتوقف عليه حياته الأبدية، ولذلك قال الله تعالى هنـــا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً..أي أننا نذكر هذه الأمور لكي يتعظ بهــــا الإنسان ويشكر الله تعالى بأنه لم يُسعفه بشتى الأسباب والنعم في الحياة المادية فقط، بل قد هيأ له أسباب الأمن والراحة لحياته الروحانية أيضا.كما أن قول الله تعالى لَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً يوضح أن الناس في الدنيا قسمان: قسم يكون جانب الخير والصلاح فيهم ضعيفًا جدا، فلا يبرحون يتبعون خطوات الشيطان فيستحقون الإنذار والتحذير حتى يرتدعوا عن ارتكاب السيئات.وقسم آخر ديدنهم الشكر.إنهم يكونون محرومين من النور الذي يتمتع به المرء باتباع ذلك لا يسيئون استعمال ما أعطاهم الله الدين، ومع من نعـــم وطاقات، بل ينتفعون بها، كما يسعون لينفعوا بها الآخرين فهناك فئة من الناس ليس لهم نصيب من الخير والخُلق، وفئة أخرى منهم هم ذوو حظ من الخير والخلق.وبما أن الله تعالى قد أشار باختلاف الليل والنهار إلى فترتين تأتيان على الناس، فترة
الجزء السادس ٦٩٦ سورة الفرقان يبعث الله فيها رسله لإصلاح الدنيا وفترة أخرى يسود فيها الظلام والضلال، لذا فقد بين الله تعالى بقوله المَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً الحكمة من وراء اختلاف الليل والنهار من الناحية الروحانية، وأخبر عن سبب إتيانه بالنهار بعــــد الليل وعن سبب إتيانه بشمس الهداية بعد الظلام الروحاني.يقول تعالى إن هدفنا من إنزال الوحي على الرسول أن نجعل به الفئة الأئمة من الناس جماعةً من الصالحين، أما الذين عندهم صلاح فطري فنأخذهم من خلال هذا الوحي إلى مقام أرفع من ذي قبل؛ أي مقام الشكر.وكأن الله تعالى يتحدث هنا عن نوعين مــــــن الناس من حيث الدرجات: نوع منهم يسمعون النصح، فيتخلصون مما بهـ عيوب ونقائص، ونوع أخر منهم ممن لا يكتفون بهذا القدر من الإصلاح، بل لا يزالون في الرقي ،والصعود فيشكرون الله تعالى ويحمدونه دائما برؤية نعمه وأياديه.واعلم أن قوله تعالى المَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ يؤكد إمكانية إصلاح كل إنســـــان في الدنيا.فثبت أن عقيدة المسيحيين بأن الإنسان آثم بفطرته عقيدة باطلة.لو كان الإنسان نجساً بفطرته لما كان من الممكن إصلاح الآثمين وإيصال الصالحين إلى درجات روحانية رفيعة.ثمة سؤال يطرح نفسه هنا وهو: لماذا قال الله تعالى إنه قد جعل نظام هذا الكون ـن المادي المَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً مع أن الكافر أيضا يستفيد منه؟ واعلم أنه قد ورد في الحديث أن الله تعالى قال النبيه : "الولاك لما خلقت الأفلاك "..أي لولا أني أردتُ أن أخلقك لما خلقتُ السماوات والأرض.ومن الحقائق الثابتة أيضًا أن كل ما خلق الله في الدنيا لم يخلقه للكافرين، بل خلقه في الواقع للمؤمنين الذين يعملون بأحكامه تعالى، ولكن الكافرين ينتفعون منها انتفاعا ضمنيا.فمثل الكافرين كمثل الخادم الذي يذهب مع سيده إلى مأدبة طعام أعدها له أحد أصدقائه ويشترك في الطعام مع سيده.فالحق أن الله تعالى قد خلق الكـــــون كله من أجل المؤمنين، ولكن الكافرين أيضا ينتفعون من هذا النظام كالتابعين والخادمين.وإلا فهم ليسوا إلا كما وصفهم الله تعالى في القرآن الكريم كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلَّ سَبِيلاً)) (الفرقان : ٤٥).إنما مثلهم كمثل شخص يخــــرج.
الجزء السادس ٦٩٧ سورة الفرقان حصانه إلى أرضه فيأكل حصانه أيضًا من حشيش الأرض وكلئها، وإلا فإن الله تعالى إنما خلق السماوات والأرض المَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً.وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَهِلُونَ قَالُوا سَلَمًا (3) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيمًا (3) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا شرح الكلمات : كله هونًا : هان عليه الأمر لان وسهل والهونُ: السكينة والوقار (الأقرب).يبيتون بات يبيتُ: أدركه الليل نامَ أو لم ينم.وقال الفراء: سهر الليل طاعة أو معصية، وجعل بعضهم منه: والذين يبيتون لربهم سُجّدا وقياما.(الأقرب) غراما : الغرام: الشرُّ الدائم؛ الهلاك؛ العذاب.(الأقرب) التفسير : لقد بين الله تعالى في هذه الآيات وما بعدها صفات عبـاد هناك كثير من الناس الذين يسمون بكل حب وشوق أولادهم عباد الرحمن، وإذا سئل أحد أولادهم: ما اسمك؟ قال بكل فخر : أنا عبد الرحمن.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : أعباد الرحمن هم بالاسم فقط أم في الحقيقة أيضا؟ لا شك أن الكافرين والمنافقين أيضا من عباد الله تعالى، ولكنه تعالى قال في وصفهم أولــــك كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (الأعراف: ۱۸۰)، بل أخبر تعالى أن بعض عباده صاروا قردة
الجزء السادس ٦٩٨ سورة الفرقان وخنازير (المائدة:٦١)، وقد وصف الله تعالى بعض هؤلاء العباد بأنهم شـر ية (البينة : ٧)..أي أنهم أسوأ من كل مخلوق.لقد ثبت من هنا أن لا فخر للإنسان إذا سُمّي عبد الله بالاسم فقط، إذ لو كان هذا يجعله من عباد الله المقربين لما قال الله تعالى لأصحاب النفس المطمئنة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )) (الفجر : ۳۰-۳۱).لقد ثبت من هنا أن الدخول في عباد الله مقام رفيع جدا يتبوأه أصحاب النفوس المطمئنة، وإلا فإنهم كانوا عباد الله من قبل من حيث الخلق، وكان الله تعالى هو رازقهم ومالكهم.ثم إن قوله تعالى فَادْخُلي في عبادي يوضح أن الإنسان يكون عبدا لله مـــــن وجهين.لا شك أن جميع البشر عباد الله من حيث الخلق، ولكن بعـض النــاس يكونون عباد الله وبعضهم لا يكونون عباده لسبب معين.فالذين يطيعون أحكامه هم عباد الله، والذين لا يطيعون أوامره لا يُسمون عباد الله بل يصبحون عبـاد الشيطان أو عباد نفوسهم، ولذلك قد ذكر الله تعالى هنا بعض الصفات التي يتحلى بها عباده ذوو النفوس الطاهرة.بيد أن الله تعالى لم يُسمِّهم هنا عباد الله بل عباد الرحمن.ذلك لأن الكافرين كانوا يسألون مرارا وَمَا الرَّحْمَنُ ، وردا على سؤالهم قد لفت الله تعالى أولاً أنظارهم إلى السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم وأخبرهم أن هذا الكون دليل على رحمانيته.ثم قدّم لهم شخص النبي الله الذي كان مظهرا كاملا لصفة الله أما الآن فيقول الله تعالى لهم إذا كانت هذه الشواهد والبراهين لا تكفــــي لفتح عيونكم ولا ترون بها رحمانية الله تعالى متجلية في الكون، فعليكم أن تنظروا إلى عباد الله الذين هم صورة متجسدة لرحمانيته تعالى.الرحمن.أي أن الشمس كما تشرق الأرض بأشعتها وتبدّد الظلمة كلها، كذلك فإن المؤمنين بمحمد يمدون أهل الدنيا ببركة صحبته بالنور من الناحية العلميــة والعقلية، وينقذونهم من هوّة الدمار الخُلقي والديني والروحاني، ويهدونهم إلى طريق الرقي والنجاح.
٦٩٩ الجزء السادس سورة الفرقان وكما أن القمر يستمد الضوء من الشمس، ثم ينشر في الأرض نوره الباعــــــث على الراحة والسكينة كذلك فإن هؤلاء القوم يتلقون من الله تعالى نور الوحي والإلهام، وينفعون أهل الدنيا بالبركات التي ليس منبعها العقل الإنساني بل وحي المتجدد.الله وكما أن الليل يجلب الراحة والسكينة للناس، كذلك فإن هؤلاء القوم يصبحون عونًا للفقراء، وملجاً للمساكين، ومأوى اليتامى والأرامل، ويمحون كل نزاع وخصومة من الدنيا، ويُرسون الأساس السلام عالمي.وكما أن المطر ينزل من السماء في العالم المادي فيروي الأراضي العطشى كذلك فإن هؤلاء العباد يكونون بمثابة مطر للعلم والعرفان حيث يُحدث في الدنيا انقلابا عظيما.وكما أن المطر يُنبت صنوف الثمار والفواكه والأزهار والأغذية كذلك فإن هؤلاء العباد يتسببون في انكشاف شتى العلوم والمعارف الجديدة في العالم.وكما أن الأرض تعمل كالفرش للجميع، كذلك فإن هؤلاء العباد يمدون رداء فيوضهم لكل قوم، ويستقبلون في حضن محبتهم الشرقي والغربي والعربي والأعجمي كلهم.باختصار، إن هؤلاء القوم يكونون مثالاً حيًّا لصفة الله الرحمن.إنهم يجرون إلى الله كالماء، ويطيرون إليه كالهواء، ويظلون ثابتين في المحن والشدائد كالأرض، ويحرقون الشياطين كالنار ويحفظون أهل الدنيا كالجبال وتتجلى برؤيتهم رحمانية الإله الرحمن للإنسان.وقد ذكر الله تعالى العلامة الأولى لعباد الرحمن أنهم يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً.والهون هو السكينة والوقار.والمراد أنهــــم يعيشون عيشة الاعتدال، فلا يظلمون أحدًا نتيجة الغضب والاستعجال، ولا يقصرون في أداء واجباتهم من جراء الكسل والغفلة؛ بل كما أن السماء تساعد على نماء طاقات الأرض وقدراتها، كذلك فإنهم يتسببون في رقي الناس وفلاحهــــم وخيرهم، ولا يتسببون في هلاكهم ودمارهم.
الجزء السادس ۷۰۰ سورة الفرقان أما قوله تعالى ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)، فيعني أن الجاهلين عندما يحاولون إثارة عباد الرحمن بالخصام والفساد والتصرفات الخاطئة، فلا يغضب هؤلاء ولا يتصرفون تصرفًا خاطئًا، بل يريدون في هذه الحالة أيضا السلام.أي أنهم يتبعون = الطرق التي تؤدي إلى إصلاح القوم وإلى توطيد الأمن والسلام في المجتمع.بيد أن هناك معنى آخر لهذه الآية لم يلتفت إليه إلا قليل من الناس، وهو أن الله تعالى قد بين هنا صفات المسلمين حين يكونون غالبين وحاكمين.ولذلك لم يقل الله تعالى هنا "يمشون في الأرض" بل قال يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً.وحــــرف "على" هنا يفيد الاستعلاء، حيث أخبر الله تعالى أنه سيهب له الغلبة على العــــالم، فيمشون في الأرض كأمة غالبة منتصرة.وكأن المشي هنا ليس المشية العادية، بــل مشية الغالبين والمنتصرين فكأنه تعالى يبين هنا أنهم سيتبوؤون مقامــا بحـــث يستطيعون سحق الناس بقوتهم وهذه الجملة تماثل ما قالت "نملة" لقومهــا عــن سليمان اللي يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل: ١٩)..أي يا شعب "نملة"، ادخلوا بيوتكم حتى لا يسحقكم العلية لا كان يسير بحيطة حتى سليمان وجنوده الجرّارة لجهلهم بأحوالكم.فكما أن الله تعالى أخبر أن سليمان لا يسحق قوما، كذلك قال الله تعالى عن المسلمين إنهم عندما يصبحون غالبين على العالم يأخذون الحذر الشديد من أن يدوسوا أمة مــــــن الأمم بقوتهم.أي أنهم رغم كونهم قادرين على قمع الناس يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ بسبب صلاحهم وورعهم..أي أنهم يعيشون حذرين من أن يتضرر فرد أو هَوْنًا قوم بأيديهم بدون حق.أما قوله تعالى وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً فأشار به إلى أن الناس إذا نالوا الحكم فقد يؤذون الآخرين ومن عادة الحكام أنهم إذا أساء أحد إليهم بكلامه يهددونه بأنهم سيعلمونه الدرس وينزلون به العقاب ولكن الله تعالى يقول عـــــن المسلمين إنهم إذا تكلم معهم أحد بجهالة زمن حكمهم وغلبتهم وقوتهم، فإنهم لا يستاءون منه بل يبتسمون له.
الجزء السادس V+1 سورة الفرقان ورد في الحديث أن يهوديًا جاء النبي ﷺ وتقاضاه بدينه ببالغ القسوة، فغضـــــب الصحابة غضبًا شديدًا، وشهروا سيوفهم، ولكن النبي ﷺ قال: "دَعُوه فإن لصاحب الحق مقالاً" (البخاري: كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون).وورد أن شخصـــا قال للنبي الله حين قسم الأموال : " لم أَرَك عدَلت".فامتشق عمر ه حسامه وكاد يضرب عنقه.فقال النبي : دعه ولا تتعرض له.(مسند أحمد الجزء الثـــاني مسند عبد الله بن عمرو بن العاص) ص ،۲۱۹ فقول الله تعالى ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً يبين أن المسلمين لـــن يستاءوا من جهالة أحد رغم غلبتهم وقدرتهم، بل سيعملون على سلامته وحمايـــة حقوقه.والحق أن سمو أخلاق الإنسان يعرف وقت الغلبة، وإلا فإن الضعيف يتحمل الضرب دائما لضعفه، إذ لم يكن عنده خيار إلا أن يتحمل الضرب.ولكن الذي يعفو وهو قادر على الانتقام، فلا شك أن عفوه دليل على سمو خُلقه.ثم بين الله تعالى علامة أخرى لعباد الرحمن فقال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وقياماً.لقد ذكر الله تعالى هنا خصوصيتين لعباد الرحمن: أولاهما أنهم يلجأون، في ساعات المحن والشدائد التي تشبه ظلمة الليل إلى الدعاء والابتهال بشكل خاص، منيبين إليه تعالى ساجدين على عتبته، كما يواظبون على أداء صلاة التهجد في الأيام العادية حتى تصبح شعارا لهم.لقد بين الله تعالى هنا أنهم لا يقضون لياليهم يغطّون في النوم العميق، بــل يقضونها في ذكر الله تعالى وعبادته.إنهم يخافون برؤية ظلمة الليل أن تخيم عليهم الظلمة الروحانية، فيطلبون الله رحمته بالدعاء والاستغفار والإنابة إليه تعالى.لقد أكد الله تعالى أهمية صلاة التهجد في موضع آخر من القرآن الكريم فقال إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)) (المزمل: ٧)..أي أن قيام الليــــل أفـضـــــل وسيلة لقمع أهواء النفس، وأن الذين يخرّون ساجدين الله تعالى في جوف الليالي يحرزون الكمال في الروحانية حتى إنهم يتعودون على الصدق دائما.
الجزء السادس ۷۰۲ سورة الفرقان لقد كان النبي الله شديد الاهتمام بصلاة التهجد حتى إنه كان يخرج ليرى مـــــن الذي يصلّي التهجد وذات مرة أثنى شخص على عبد الله بن عمر أمام النبي فقال: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل".يبدو أنه كان يتكاسل في أداء التهجد في تلك الأيام، فنبهه النبي بأن يترك الكسل.فواظب على التهجد منذ ذلك اليوم.(البخاري: كتاب التهجد، باب فضل من تعار من الليل يصلي) وذهب النبي ﷺ في ليلة إلى بيت علي وابنته فاطمة، وقال لهما: "ألا تصليان"؟ فقال علي: "يا رسول الله أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا".فانصرف النبي من عندهما إلى بيته وهو يقول وَكَانَ الأَنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (البخاري: كتاب التهجد، باب تحريض النبي على قيام الليل).لقد النبي ﷺ من عندهما لأن خرج عليا لله بدلاً من أن يعترف بخطئه أخذ يقدم المعاذير ويقول: نظل نائمين لأن الله تعالى لا يريد لنا أن نستيقظ.وكان النبي يقول : إذا استيقظ الرجل بالليل لصلاة التهجد فعليه أن يوقظ زوجته أيضا ، وإذا لم تستيقظ فليرش على وجهها الماء.وإذا استيقظت المرأة قبل الرجل وأيقظت زوجها و لم يستيقظ، فعليها أن ترش على وجهه من الماء.(أبو داود: كتاب الصلاة، باب قيام الليل) لقد أكد النبي على أهمية التهجد جدًا، فقال إن الله تبارك وتعالى يقترب من عباده في آخر الليل ويستجيب لدعائهم في ذلك الوقت أكثر من النهار.(البخاري: كتاب الصلاة، باب الدعاء والصلاة في آخر الليل) وقال النبي في حديث آخر إن الله تعالى :أخبره: "ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.(البخاري كتاب الرقاق، باب التواضع) هذا الحديث يبين لنا كم يساعد قيام الليل المرء على التقرب إلى الله تعالى، ولكن المؤسف أن عادة صلاة التهجد في هذا الزمن قد قلت، مع أن الله تعالى قـــــد
الجزء السادس ۷۰۳ سورة الفرقان بين أن من أهم صفات عباد الرحمن أنهم يقضون لياليهم قائمين ساجدين أمام الله تعالى.وبما أن هذه الآيات تشير إلى خصوصيات المسلمين زمن حكمهم وغلبتهم فقوله تعالى وَالَّذِينَ يَبيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقيَاماً يعني أنهم لن ينغمسوا في حيـــاة البذخ والملذات زمن غلبتهم على العالم، بل يقضون لياليهم في القيام والسجود أمام الله تعالى.عندما ندرس التاريخ نجد المسلمين متصفين بهذه الخصوصية بشكل لافت للنظر.فقد ورد أنه في أيام الحرب بين المسلمين والروم بعث القائد الروماني وفدًا إلى المسلمين يستطلع أحوالهم وأخبارهم.فلما رجع الوفد قالوا للقائد الروماني: لقد وجدناهم أقل منا عددًا، ولكنهم خلق عجيب.إنهم ليسو أناسًا بل هم من الجــــن، الله إذ يقاتلون وقت النهار ويقفون لصلاة التهجد في جوف الليل يعبدون ويذكرونه، في حين أن جنودنا المصابين بالإرهاق بسبب الحرب طوال النهار ينغمسون في تعاطي الخمر والرقص والغناء ليلاً، ثم يلجؤون إلى النوم.(البداية والنهاية الجزء السابع ص ١٥-١٦: وقعة اليرموك) ومن أجل ذلك ترى كيف أن الله تعالى قد نزل لنصرتهم مـــن السـماء وجعلهم غالبين على الدول العظيمة القوية.لم يكن عدد سكان الجزيرة العربيـــة حينذاك أكثر من مئة وثمانين ألف نسمة، ومع ذلك اصطدموا بإمبراطورية قوية للرومان الذين كان عددهم حوالي عشرين مليونا ومن ناحية أخرى فقد شنوا أن الهجوم على إمبراطورية كسرى التي كان عدد سكانها ثلاثين مليونا.وهذا يعني دولة كان عدد سكانها مئة وثمانين ألفا فقط، قد هاجمت في وقت واحـــد إمبراطوريتين كان عدد سكانهما خمسين مليون شخص.بل كانت بـــلاد الهنــــد والصين وتركيا وأرمينيا والعراق وفلسطين ومصر كلها خاضعة لهـــاتين الإمبراطوريتين، ولكن هذه الحفنة من المسلمين خرجوا لقتالهم وقضوا عليهم قضاءً مبرما، ووصلت جنودهم إلى أسوار القسطنطينية خلال اثني عشر عاما.والحق أن المسلمين لم يحرزوا هذه الانتصارات إلا نتيجة ذكر الله تعالى ولكونهم يبيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً.ولكن المسلمين لما فسدوا وبدلاً من أن يبيتوا في ذكر الله
الجزء السادس ٧٠٤ سورة الفرقان أخذوا يبيتون في الملذات والرقص والغناء، وبدأوا يقولون إن إسحاق الموصلي أفضل المغنين، وأن فلانة البغيّة من أفضل الراقصات، سلّط الله لهلاكهـ "هولاكوخان" على بغداد فقتلوا في يوم واحد مليونًا وثمانمئة ألف مسلم، ولم يتركوا أي امرأة من الأسرة الملكية إلا وارتكبوا بها الفاحشة.فذهب المسلمون إلى أحد أولياء الله تعالى يطلبون منه الدعاء لنجاة بغداد من الدمار.فأجــابهـم: مــــاذا أفعل؟ فإنني كلما أرفع يدي للدعاء أسمع أصواتا لملائكة الله تقول: أيها الكفار، اقتلوا الفجّار.أي يا أيها الكافرون اقتلوا هؤلاء المسلمين الذين أصبحوا فاجرين فاسقين.فدمرت بغداد تدميرًا، وقُضى على الدولة العباسية للأبد.(تاريخ ابن خلدون مجلد ۳ ص ٥٣٧).مع أن المسلمين كانوا في الماضي أقوياء لدرجة أن ستين مسلما فقط تمكنوا من إلحاق الهزيمة بالجيش الروماني الذي كان قوامه ستين ألف مقاتل في إحدى الحروب.ومع ذلك لم يُستشهد من هؤلاء الستين سوى اثني عشر، وجُرح منهم عشرون بجراح بسيطة، أما الباقون فرجعوا بسلام.(فتوح الشام للواقدي: وقعــــة اليرموك) هذه النصرة الإلهية والتأييد الرباني إنما تيسرت للمسلمين لأنهم لم يجعلوا قوتهم وغلبتهم سببا للانغماس في الملذات، بل ظلت ألسنتهم طرية بذكر الله تعالى إبــــان الغلبة والقوة، وكانوا يبيتون لربهم سُجَّدًا وقيامًا.لقد جاءت في الدنيا الكثير من شعوب وأمم منتصرة عظيمة، ولكنك لن تجد في التاريخ مثالاً آخر لقوم كانوا يخشون الله تعالى بحيث ما كان سيفهم يرتفع ضد امرأة أو طفل أو شيخ أو راهب أو رجل دين، وما سفكوا بسيفهم دم إنسان بغير حق، وقضوا لياليهم في بكاء وابتهال أمام الله تعالى إن هذه الميزة العظيمة لم توجد إلا في صحابة محمد لله الذين أثنى الله أمام الكفار على سمو أخلاقهم وعظيم سيرتهم، وذكرهم أن هؤلاء القوم كانوا منكم ومن بلدكم، وقضوا معظم حيــاتهـم بين ظهرانيكم وأنتم تعلمون والجميع يعلمون أنهم لم يكونوا من قبل يمشون على الأرض هونا، ولم يكونوا من قبل يبيتون لربهم سجّدًا ،وقيامًا، بل كان ديدنهم الظلم والعدوان، وشرب الخمر والانغماس في الملذات ليل نهار ولكنهم لما آمنوا بكلام
الجزء السادس V.O سورة الفرقان الرب الرحمن واتبعوا خطوات محمد ، تغيروا كلية، وحصل في أخلاقهم وروحانيتهم انقلاب عظيم.إذا لم يكن هذا الانقلاب ببركة إيمانهم بربهم الرحمن فكيف تحلوا بهذه المزايا والمحاسن؟ وما الذي جعلهم يتخلقون بهذه الأخلاق العالية السامية؟ ثم يذكر الله تعالى علامة أخرى لعباد الرحمن، فيقول وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرٌّاً وَمُقَاماً...أي أن هؤلاء يدعون الله تعالى دائمًا ويقولون: ربنا باعد بيننا وبين عذاب جهنم لأن عذابها مدمر، ولأنها مكان سيئ سواء للإقامة المؤقتة أو الأبدية.لا شك أن المراد من جهنم هنا هو تلك التي تكون في الآخرة والتي يستعيذ منها كل مؤمن بالله تعالى ولكن يمكن إطلاق جهنم على كل ما يسبب للمرء في الدنيا ويعرض نفسه وماله أو عرضه وشرفه للخطر، ويخزيه ويذله في أعـــين أذى وأما، القوم وأهل الوطن.والواقع أن كلمة جهنم مركبة من "جهن" و "جهم"، وجَهَنَ يعني قرب، وجَهُمَ يعني صار عابس الوجه (الأقرب).وعليه، فيمكن إطلاق جهنم على كل شيء يتوق المرء للاقتراب منه، ولكنه حين يقترب منه يعبس خوفًا وذعراً.والحق أن لفظ يسلّط الضوء على حقيقة الأفعال التي تُدخل الناس في النار، حيث بين الله تعالى أن الإنسان يُعجبه الملذات والسيئات ويحاول الاقتراب منها، ولكنه عنـدما يرتكبها ويرى عاقبتها الوخيمة، يصبح عابس الوجه ويبكي ويصرخ ويقول: لقــــد أخطأت خطأ فادحا.جهنم إذا فإن الله تعالى قد بين هنا من علامات عباد الرحمن أنهم يدعون الله قيامــا وقعودًا بأن يحفظهم من كل عمل يذلّهم ويخزيهم في الدنيا والآخرة.فيقولون: ربنا قلة احمنا من جهنم الإفلاس والفقر، ومن جهنم العلم والجهل، ومن جهنم سـوء الخلق والترف، ومن جهنم حب الدنيا وعبادة الأهواء، ومن جهنم فساد الذراري والأجيال، ومن جهنم الكفر والأعمال الشيطانية، ومن جهنم اللادينية والإباحية، ومن جهنم النفاق والفسوق، ومن جهنم الكبر والظلم والعدوان، ومـــن جهــنـم
الجزء السادس ٧٠٦ سورة الفرقان الحرمان من حبك ورضاك ؛ فكل هذه المعاصي تؤدي إلى دمارنا وخزينــــا، ســـــواء وقعنا فيها بشكل مؤقت أو بشكل دائم.فربنا، لا تَدَعْ هذه المفاسد تتسرب إلينــــا حتى بشكل مؤقت، كي تظل خطواتنا ثابتة على الصراط المستقيم دائما.وكـأن دعاء غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الوارد في سورة الفاتحة قد أُعيد هنا في قوله تعالى رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ.إذا، فقد ذكر الله تعالى هنا من علامات عباده الأخيار أنهم يخشون في أيــام غلبتهم أن يصاب قومهم بالتردّي والانحطاط، ولذلك يظلون ساجدين على عتبــــة الله تعالى ويدعونه ليل نهار قائلين: ربنا احفظنا وأجيالنا من كل فساد، لتدوم هذه الجنة التي أنعمت بها علينا بمحض فضلك، ولا يدخل فيها إبليس في شكل حيـــة تلدغنا في عقبنا.ولو أن المسلمين تذكروا هذا الدعاء زمن غلبتهم دائما، واستعاذوا بالله تعالى الانحطاط القومي عند كل نجاح، لتفضل الله عليهم فضلاً دائما ولمضوا قدما في مجال الرقى دائما وأبدا.من بيد أن هذه الآية، كما قلت من قبل، تعلّم الدعاء بالنجاة من جهنم في الآخرة أيضًا، حيث بين الله تعالى أن جهنّم مكان جدا للإقامة المؤقتة والإقامة سيئ الدائمة.وقد بين الله تعالى بذلك النظرية القرآنية عن الجحيم بأنها ليست أبديـــة.ذلك أن لفظ (مُسْتَقَرًّا يعني مكان الإقامة المؤقتة؛ وبما أن الجحيم قد وصفت هنا بأنها سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، ففي هذا إشارة أن قليلا من عذابها يكون كثيرًا لشدّة آلامه، فلا داعي لأن يطول عذابها وتكون خالدة.لقد بين الله تعالى هذا المعنى في مواضع أخرى من القرآن الكريم بكلمات صريحة حيث قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون (الذاريات:٥٧).وما دام الإنسان قد خُلق ليكون عبدًا الله تعالى، فلن يتحقق غرض خلقه لو بقي في الجحيم للأبد.وقد زاد الله تعالى هذا المعنى وضوحًا في قوله تعالى للنفس المطمئنة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي )) (الفجر : ۳۰-۳۱).فثبت من هنا أن المقام الحقيقي للعبـــد هو الجنة، وما دام كل إنسان قد خُلق ليكون عبدا الله تعالى فلا بد من التسليم بأن
الجزء السادس ۷۰۷ سورة الفرقان كل إنسان سيدخل الجنة.فثبت أن جهنّم مكان للإقامة المؤقتة وليســــت للإقامـــــة الأبدية بتاتا.ويقول الله تعالى في موضع آخر وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ حَرَّدَل أَتَيْنَا وَكَفَى حاسبينَ) (الأنبياء: ٤٨).فلو دخل أحد جهنم نتيجة كثرة سيئاته، وظل فيها إلى أبد الآبدين، فلن ينال جزاء على حسناته، فلا بد أن ينتهي عقابه في يوم من الأيام لينال جزاء حسناته أيضا.* * 28 وقال الله تعالى أيضًا وَأَمَّا مَنْ حَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) (القارعة : ٩-١٠)..أي كما أن الجنين يبقى في رحم أمه لفترة محدودة ثم يخرج من بطنها، كذلك حينما تنتهي عقوبة أهل جهنم يخرجهم الله منها ويدخلهم الجنة.كذلك يقول الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَالُ لَمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَحْذُوذ ) (هود: ۱۰۷-۱۰۹).لقد قال الله تعالى هنا لدى وصف أهل جهنم كلمة إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ..أي أن ربّك إذا شاء أخرجهم من جهنم، ذا الذي يستطيع أن يحول دون المشيئة الإلهية؟ بينما قال تعالى عن المؤمنين إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَحْذُوذ..أي لو شاء الله تعالى لأخرجهم من الجنة، ولكن الجنة عطاء غير مقطوع.فثبت من هذه المقارنة أن عذاب جهنم سينتهي في يوم من الأيام، لأن الله تعالى قد أمل أهلها بالخروج منها، بينما قال عن أهل الجنة إنهم يعطون عطاء لا انقطاع له.ومن ثم يقول الله تعالى عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: ١٥٧).وحيث إن رحمة الله تعالى تسع كل شيء فلا بد أن تُظـــلّ الرحمة الإلهية بظلها جهنم أيضًا في يوم من الأيام، فيُخرج أهلها ويُدخلوا الجنة.ورد في الحديث أيضا أن النبي ﷺ قال: "يأتي على جهنم زمان ليس فيها أحـــــد ونسيم الصبا تحرك أبوابها".
الجزء السادس ۷۰۸ سورة رة الفرقان إذا، فإن الحسنات جزاؤها أبدي، ولكن عذاب جهنم ليس أبديًا بحسب تعلـــيم الإسلام.لا شك أن عذاب جهنم شيء مخيف ومؤلم، ولكن محبة الله تعالى ستفور في نهاية المطاف وسيُظلُّ الآثمين أيضا بظل رحمته تعالى.وأرى لزاما علي هنا أن أزيل شبهة قد تساور البعض بسبب قول الله تعالى في مكان آخر من القرآن الكريم وَمَا هُمْ بخَارِجينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة: ١٦٨).فيجب أن أن لا يتسرع أحد هنا فيقول: لقد نفى الله تعالى هنا خروجهم من النار.صحيح الله تعالى قد نفى خروجهم منها بقوتهم، ولكنه تعالى لم ينف خروجهم منها بفضله تعالى.إذًا، فالمراد أن أهل النار لن يستطيعوا الخروج منها بقوتهم، ولكن الله تعالى سیخ منها رحمة منه وفضلا.وَالَّذِين إِذَا أَن قُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) شرح الكلمات: لم يسرفوا أسرف مالَه : بذره؛ وقيل أنفقه في غير طاعة؛ جاوز الحد فيه وأفرطَ؛ - أخطأ؛ جَهل (الأقرب).فالمراد من لم يسرفوا - أنهم لا ينفقون أموالهم في غير طاعة الله، ۲- أنه ينفقون بالقدر المناسب ٣- لا ينفقون في غير محله.لم يقتروا : قتَر يقتر على عياله: ضيق عليهم في النفقة.وقتر الشيء: ضمّ إلى بعض.وقتر الأمر: لازمه.وقتَر ما بين الأمرين: قدّره وحمنه (الأقرب) قواما القوامُ : الاعتدال؛ ما يُعاش به (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم يراعون عند الإنفاق أمرين: أولهما أنهم لا يسرفون، وثانيهما أنهم لا يبخلون.
الجزء السادس ۷۰۹ يعني سورة الفرقان لقد تفاقم مرض الإسراف في هذا العصر كثيرًا ، حتى صارت علامة المسلم أن ينفق كل ما يملكه ولا يُبق عنده شيئًا.وهذا أن القرآن الكريم يصف المؤمن الحق بأنه لا يسرف، بينما صارت علامة المسلم الصادق عند الناس في هذا العصر أنه ينفق كل ما يملك.كان الخليفة الأول للمسيح الموعود الل يقول إن فتى ورث من أبيــه ثـروة كبيرة، فدعا أصحابه وقال لهم : أخبروني كيف أنفق هذه الثروة، فأشاروا عليـه باقتراحات شتى، ولكنه لم يُعجب بها.وذات يوم كان يمرّ بالسوق، فرأى تاجر القماش يشق القماش، فأعجبه صوت شق القماش.فأمر خدمه بإحضار القمـــاش بكميات هائلة ثم أمرهم بأن يشقوه أمامه.فكانوا يحضرون له الأقمشة ويشــقونها من الصباح إلى المساء، فكان يفرح بالأصوات المنبثقة من شق القماش.لا شك أن الفتى قد أنفق أمواله، ولكن ما أتعسه من إنفاق! إذًا، بهذا الأسلوب يصبح المرء مفلسا في يوم واحد وإن كان يملـــك مــــات الملايين.لقد شجب الله تعالى الكافرين في القرآن الكريم بسبب هذا العيب فقال (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمَّا ) (الفجر : ٢٠)..أي أنهم يرثون من آبــائهـم أمـــوالا طائلة، ولكنهم يُفنونها في صنوف الترف والملذات بدلاً من أن يستثمروها، مما قد أخل بقوتهم العملية وأصابهم بالانحطاط والزوال.كان الخليفة الأول للمسيح الموعود الله يقول : إن كسب المال سهل، ولكـــــن إنفاقه جد صعب.وهذا القول حق مئة بالمئة.هناك كثير مــــن النـــاس في الدنيا يكسبون الأموال، ولكن لا يعرفون كيف ينفقونها، فيظلون دائما في الضوائق المالية.وهناك كثيرون غيرهم يكسبون القليل، ولكن يعرفون كيف ينفقونه، فيعيشون بالمال القليل سعداء.فالإسلام يخبرنا أن من علامات عباد الرحمن أنهم حين ينالون الغلبة في الأرض لا يسرفون في توزيع خزائن الأرض ولا يبخلون أيضًا بها.بمعنى أنهم لا يكنزون الأموال القومية مغلقة في الخزينة فيعيقوا رقي القوم والوطن، فيشكو منهم القوم.
۷۱۰ الجزء السادس سورة الفرقان ونجد أن الرسول ﷺ قد قدّم هذه الأسوة في حياته العملية في هذا المجال أيضا.لقد جعله الله تعالى ملكا ووضع في يديه أموالا طائلة، ولكنه لم يسرف في إنفاقها، كما لم يبخل أيضا ليحرم أحدًا حقه.لقد كان الا الله الشديد الحرص في إنفاق الأموال القومية وتوزيعها، فقد ورد في الحديث أنه جيء النبي بأسرى الحــرب مــرة، الله عنها - إلى بيته فلم تجده فلم تستطع انتظاره ملگا، فجاءت فاطمة – رضي طويلا وقالت لعائشة رضي الله عنها: إذا جاء النبي فبلغيه ﷺ عني أن يــدي قــــد أصابها ما أصابها من كثرة الطحن بالرحى، فليته يعطينا بعضا من هؤلاء الأسرى فيساعدني في الطحن.ولما رجع النبي حكت له عائشة ما قالت فاطمة.فذهب بالليل إلى بنته وقال لها يا ابنتي ألا أدلك على ما هو خير مما سألتني اليــــوم؟ قالت: نعم يا رسول الله قال : إذا أويت إلى فراشك قولي "سبحان الله" ثلاثا وثلاثين مرة، و"الحمد الله" ثلاثا وثلاثين مرة و"الله أكبر" أربعا وثلاثــــين مــــرة.(البخاري: كتاب النفقات باب عمل المرأة في بيت زوجها) وقد حدث ذلك في الفترة التي كان النبي ﷺ قد أصبح وكان بإمكانه أن يعطي بنته بعض الأسرى، لأنه كان سيوزعهم على صحابته في كل حال.وكـــــان لعلي له من الحق ما ليس لغيره من الصحابة، ولكن النبي لم يرض أن يعطــــي أقاربه خادما من الأس من الأسرى حتى لا يستبيح ملوك المسلمين أموال الناس في المستقبل بحجة ما فعله..لا شك أن النبي لا الهلال كان ينفق على نفسه وعلى أقاربه من أموال ما جعله الله نصيبا له ولأقاربه ، ولكنه ل لم يكن ينفق مثقال حبـة شــعير على نفسه ولا على أقاربه ما لم يكن من حصته رغم كونه ملكًا مقتدراً.و لم يحبّ أن يضيع شيء من أموال المسلمين أو يُنفق في غير محله.ذات مرة جاءته ل "عمر الصدقة، وبدأ الحسن والحسين يلعبان به ووضع أحدهما تمرة في فمه، ﷺ فأخرج النبي الهلال و التمرة من فمه بسرعة وقال: ألا تعلم أن هذا حق الفقراء، وأن آل محمد لا يأكلون حق الفقراء.(البخاري: كتاب الزكاة، باب أخذ صدقة التمر عند جرام النخل) الغنائم أن
الجزء السادس ۷۱۱ سورة الفرقان هذه الواقعة تبين لنا مدى حرص الرسول الا الله على أموال المسلمين ومدى حيطته في إنفاقها.وهكذا عمل كل الخلفاء الراشدين بعده ، فلم ينفقوا شيئا من أموال بيت المال في غير محله رغم كونهم أكثر قوة وعظمة من قيصر وکسری.بل حافظوا على كل قرش من أموال المسلمين.وإذا رأوا بعض المسؤولين يسرفون في أمـــوال المسلمين عزلوهم بدون تردد.ورد في التاريخ أن عمر ه لمـــا ذهـب إلى المقدس في خلافته وجد بعض الصحابة يلبسون ثيابا من حرير، أي ثيابا فيها بعض الحرير لأن الثياب التي كلها حرير لا يجوز لبسها للرجال إلا في مرض.فسخط الله على هؤلاء سخطا شديدا وقال أصبحتم تركنون إلى الراحة وتلبســـــون الحرير؟ فرفع أحدهم قميصه وكان قد لبس تحته قميصا سميكا من الصوف، وقــــال لعمر : لم نلبس الثياب الحريرية لأننا نحبّها بل لأن أهل هذا البلد معتادون على رؤية أمرائهم في مظهر الأبهة والعظمة، فغيّرنا ملابسنا تمشيا مع سياسة أهل البلاد وإلا نحن لم نركن إلى البذخ والترف.فعمل الصحابة يدل على أنهم لم يميلوا إلى الإسراف في زمن غلبتهم، وإذا حصل منهم تقصير قام الخلفاء بتعنيفهم ونصحوهم بالبساطة في العيش وبعدم الميل إلى الإفراط والتفريط في إنفاق أموال المسلمين.ينفق الناس في هذا العصر أكثر من طاقتهم على الحلي وما إلى ذلك بمناسبة الزواج والأعراس من أجل التظاهر والتباهي، وهذا لا يؤدي إلى أي فرحة ولا راحة في نهاية المطاف إذ يقترضون من الآخرين فيعانون في دفع هذه الديون.لو كان عند أحد مال وافر فلا بأس في أن ينفق عند زواجه بقدر مناسب، ولكن الذي ليس عنده مال ومع ذلك يقترض من أجل التباهي والتظاهر، فهذا إسراف.ولكن علينا أن نتذكر بأن شكل الإسراف يتغير بتغيير الأحوال.فمثلا لو كان دخل أحد أربعة آلاف روبية شهريا على سبيل المثال، ويشتري خمسة أو سبعة من الملابس المتوسطة الثمن، فهو ليس بمسرف بحسب ظروفه المادية، ولكــن لـو أن زوجته وأولاده مرضوا - لا قدر الله - واضطر لعلاجهم عند الأطبـاء وشــراء
الجزء السادس ۷۱۲ سورة الفرقان الأدوية بحوالي خمس أو سبعمئة من الروبيات شهريا، ومع ذلك لم يقلل مما ينفق على أكله وشربه وملابسه فيصبح عندها مسرفا مع أنه لن يُعد مسرفا في ظروفه العادية.كذلك إذا عنّت للمرء ضرورات جديدة ولكنه استمر ينفق على الأمــــور الأخرى كالسابق فهذا أيضًا إسراف.فمثلاً إن جماعتنا اليوم بحاجة إلى ملايين الروبيات لإشاعة الإسلام، حيث يطالبنا الناس من مختلف البلاد والأقطار بأن نبعث إليهم رجالا يعلمونهم الإسلام ونزودهم بالمنشورات التي تزيل شبهاتهم و اعتراضاتهم.ولو أن أحدًا من جماعتنا لم يقلل من نفقات طعامه وشرابه ولباسه في هذه الأيام و لم يوفر أكثر ما يستطيع لإشاعة الإسلام، فإنفاق على أكله وشـــربه وملبسه بهذا الشكل سيُعَدّ من الإسراف يقينًا، وإن كان لا يُعد إسرافا في الظروف العادية.ومن أجل ذلك قد دعوتُ الجماعة إلى المشروع المسمى "تحريك جديد"، ونصحتهم أن يتناولوا لونًا واحدا من الطعام، ومن كان عنده بضعة أطقــــم مـــــن الملابس فعليه أن لا يشتري المزيد من الملابس إشباعًا لرغبته فقط.إن الذين يشترون ملابس جديدة بكثرة عليهم أن يشتروا نصفها أو ثلثها أو أكثر قليلا.أما النساء فعليهن أن يعقدن العزم على أن لا يشترين الثياب الجديدة لمجرد أنهن أُعجبن بها، بل يشترينها عند الضرورة فقط.ولا ينفقن شيئا على زركشة الثياب أكثر، كما لا يدمرن أموالهن في شراء الحلي الجديدة.وقد قلتُ للأطباء أن يبذلوا كـــل مــا في وسعهم لكي ينفقوا القروش مكان الجنيهات ولا يصفوا للمريض أدوية باهظــة الثمن إلا إذا لم يكن هناك بد من ذلك إذ سيموت بدونها.عليهم أن يُعملوا عقولهم في اختيار أرخص الأدوية الناجعة لمرضاهم بدلا من أن يضيعوا أموالهم على شــــراء أدوية جديدة تروّجها بعض الشركات.ولكن المؤسف أن الأطباء لم يستمعوا لقولي وإن أشد التجارب مرارةً خلال خلافتي كلها هي ما رأيتـه مـن قبــل الأطبــاء الأحمديين.وقد نصحت بشأن ولائم الزواج أيضا بأنه يكفي أن يدعى إليها بضعة أشخاص بدل من أن تُهدر الأموال على إطعام أناس كثيرين، بل يكفي أن يأتي كل واحد من المدعون إلى العرس بطعامه من بيته إلى الوليمة ويقدّم أهل العرس طعاما لشخص واحد.لقد أعطيتُ هذه التعليمات لأن الإسلام بحاجة إلى تضحيات مالية
الجزء السادس ۷۱۳ سورة الفرقان في هذا الزمن، ولو أنفقنا جميع أموالنا على الأكل والشرب واللباس والزينـــة والراحة، فمن أين تسد ضرورات الإسلام؟ والحق أن الإسلام لا يطالب بمثل هذه التضحيات في كل ظرف ووقـــت بـــل يطالبنا بتضحيات مختلفة في ظروف مختلفة، ولولا ذلك لما قدم أبو بكر له عنــــد إحدى الغزوات كل ما في بيته ولما أتى ه بنصف ما في بيته.لقد وقعت في زمن النبي حروب عديدة، ولكن أبا بكر الله لم يقدّم في كل حرب كل مالــــه ولا عمر له نصف ماله.بل قد حدث في إحدى الحروب حين فكّر أن هناك عمر حاجة ماسة للتضحية في هذه المرة، وسيسبق أبا بكر في التضحية، فجاء بنصف ما يملك.لقد ثبت من ذلك أن أبا بكر لم يقدّم حتى نصف ماله من قبل في أي مرة، وإلا كيف فكر عمر الله أنه سيسبق أبا بكر بالتضحية بنصف ما يملك؟ أما أبـــو بكر فكان قد قرر بالتضيحة بكل ما يملك نظرا لخطورة الموقف في تلك المرة، فجاء بكل ماله، وعندما رآه النبي ، وكان يعرف وضعه الاقتصادي قال لأبي بكـــــر: ماذا تركت في بيتك؟ فأجاب: الله ورسوله.ولما سمع عمر قول أبي بكر أدرك أنه لا يقدر على أن يسبق أبا بكر - رضي الله عنهما.(الترمذي: أبواب المناقب، باب مناقب أبو بكر) لقد اتضح من هنا أن الإسلام يكون حينًا بحاجة إلى التضحيات أكثر وفي حين آخر أقل.ولكن من واجب المؤمن أن يجعل نفقات حياته في حد المعقول ولا يسرف، حتى إذا جاءه النداء بتقديم التضحيات المالية لبّاه مسرعًا دون أن يعيقــه إسراف.ثم يقول الله تعالى (وَلَمْ يَقْتُرُوا..أي من علامات عباد الرحمن أنهم لا يبخلون.وقد بينا عند شرح الكلمات أن من معاني "قاتر" من يظل يجمع المال، ومنه اشتق معنى البخل، لأن المرء إنما يستطيع جمع المال إذا لم ينفقه، وليس البخيل إلا من لا ينفق في محل الإنفاق رغم توفر المال عنده.فالقاتر هو في الحقيقـة مــن يجمع المال ولا ينفقه على الذين يجب الإنفاق عليهم.
الجزء السادس ٧١٤ سورة الفرقان الغريب أن الله تعالى لم يقل هنا أن الذي لا ينفق ماله على الأقارب والمحتاجين وغيرهم هو إنسان سيئ، ذلك لأن الذي لا يملك مالاً هو أيضا لا ينفق على أقاربه والمحتاجين، فهل هو الآخر يخرج من زمرة عباد الله الصالحين؟ فمثلا هناك شخص جائع ويأتيه أحد الفقراء ويسأله شيئا يأكله، ولكنه لا يعطيه إذ ليس عنده شيء، ومع ذلك لن يُعدّ هذا عند الله بخيلاً.ولكن الذي عنده مال ومع ذلك لا ينفقــــه على الآخرين، فهو آثم عند الله بلا شك.ولذلك لم يقل الله تعالى هنا أن عبـــاد الرحمن الذين ينفقون حتما، بل قال إن عباد الله هم أولئك الذين لَمْ يَقْتُرُوا، والقاتر من يجمع المال ولا ينفقه على الأقارب والمساكين والمحتاجين.إذا، فقد أشار الله تعالى بكلمة واحدة إلى أمرين: أحدهما أن لا اعتراض على من لا ينفق لأنه لا يملك المال، إنما الاعتراض على من يملك المال، ولكنه يجمعه ويكنـزه بدل أن ينفقه على ذوي الحاجة.وثانيهما أن مجرد جمع المال ليس بأمر سيئ في حد ذاته، بل إن القبيح هو أن يُمسك المرء المال عنده ولا ينفق على الذين هو مسؤول عن أكلهم وشربهم ورعايتهم.لذا فعلى كل مؤمن أن يجتنب ذلك البخل عيب خطير تستقبحه جميع الشعوب وتعتبره خلاف الأخلاق الحميدة، فلو سميت المرء بخـــيـلا اعتبره سبا.فيقولون عندنا إذا أرادوا مذمة شخص: "بخيل يمتص الذبابة"..أي قد بلغ من البخل أنه لو سقطت ذبابة في طعامه امتصها أيضا.ويصاب المرء بالبخــــــل نتيجة أمور بسيطة جدا.وبوسع الآباء حماية أولادهم من مرض البخل لـو أرادوا ذلك.فمثلاً إذا جاء الفقير على بابك وطلب شيئا، فالأفضل أن تعطيه شيئا وتعامله بلطف، ولكن بعض الناس يغضبون ويقولون: لا تعطوه شيئا، إنما عليه أن يكسب بنفسه فيأكل ومثل هذا الكلام يصيب الصغار بمرض البخل.كذلك إن الأطفال الذين لا يذهبون للمرحاض فورًا حين شعورهم بالحاجة إلى ذلك، بل يتأخرون فهم أيضا يصابون بالبخل حين يكبرون.لا شك أنهم يتركون هذه العادة عنـدما يكبرون باعتبارها لغوا، ولكنها تؤثر على أخلاقهم سلبيًا حيث لا ينفقون أموالهم في الحاجات الضرورية أيضا، بل يمسكون بالمال، فيُحرمون من كل أنواع السهولة كما لا يحترمهم الأقارب والغرباء على سواء.ولذلك قال القرآن الكريم إن مـــن.
الجزء السادس ۷۱۵ سورة الفرقان يبني أكبر أضرار البخل أنه لا يضر إلا صاحبه، فقال (وَمَنْ يَبْحَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسه (محمد: ٣٩)؛ ذلك لأن بخله يمنعه من أن يأكل طعاما جيدا، ومن أن يلبس لباسا مناسبا، ومن أن بيتًا مريحا، ومن أن ينفق على شراء الدواء إذا مرض، ومن أن يساعد أقاربه في محنهم؛ فيعيش في عناء دائم، كما لا يلقى الاحترام مــــــن أقاربه ولا معارفه وكذلك إذا لم ينفق ماله لسدّ الحاجات القومية فكل القوم يحتقرونه.ولكن عباد الرحمن بريئون من كل هذه العيوب فلا ينفقون أموالهم في معصية الله ولا ينفقونها في غير محلها، كما لا يتجاوزون عند الإنفاق حد الاعتدال.ثم لا يُنسيهم حب المال أداء فرائضهم وواجباتهم بصدد المال، بل يكون تصرفهم معتدلاً بريئا من وصمة الإفراط والتفريط.
الجزء السادس ۷۱۵ سورة الفرقان وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَا وَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ الدَّسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَ عَلَّ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَتَخَلُدْ فِيهِ مُهَانًا (ج) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَبِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَلِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) شرح الكلمات: أثاما : الأثام: جزاء الإثم (الأقرب).۷۲ ۷۱
الجزء السادس ٧١٦ سورة الفرقان التفسير : يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم لا يشركون بالله شيئًا، ولا يقتلون نفسا حرمها الله إلا وفق أوامره تعالى كأن يقتلوا أحدًا خـــــلال الجهاد أو يقتصوا من القاتل.الله هذه العلامات أيضا نجدها في حياة النبي له وأصحابه بشكل بارز جدا.لقــــد قدموا في سبيل نشر التوحيد تضحيات يرتعد قلب المرء بقراءتها في صفحات التاريخ.لقد قتلوا بجريمة الإيمان بالله الأحد، وسُلبت أموالهم، واغتصبت نساؤهم، وأُخرجوا من أوطانهم وديارهم، وطرحهم الكفار في الشمس على الرمال المحرقـــة ووضعوا على صدورهم أحجارا ثقيلة ثم قفزوا عليهم بالنعال.لقد حاولوا إكراههم على عبادة أصنامهم اللات ومناة وعُزّى ولكنهم كانوا نشوانين مــــن.تعالى، فلم تخرج من أفواههم إلا كلمة واحدة "الله أحد".لقد عرض كفار مكـــة على النبي ﷺ نفسه السيادة والملك على أن لا يعيب أصنامهم، ولكنه رفـــض عرضهم بكل احتقار، ولم يتحمل الإساءة إلى توحيد الله تعالى لحظة واحدة.بـــل قال ذات مرة : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أمتنع عن إعلان توحيد البارئ تعالى ما فعلت حتى ينصر الله تعالى هذا الدين أو أهلك دونه.(المواهب اللدنية الجزء الأول ص ٤٨ ، والطبري الجزء الثاني ص ٠٧.ثم إن أعز صحابته قد تعرّضوا أمام عينيه لأشد أنواع التعذيب والاضطهاد الجريمة الإيمان بالتوحيد فقط.كما تعرّض النبي الله نفسه وأقاربه للأذى المتواصل، ولكنه رغم كل هذا التعذيب والأذى تصدّى لكل قوم عادوا التوحيد.لقد تصدى مكة الذين كانوا يعبدون مئات الأصنام، وتحدّى المسيحيين الذين قالوا 28 (٤٠-٤١٠ لمشركي المسيح ابن الله، وعارض اليهود الذين قالوا عُزَيرٌ ابنُ الله، وحارب المجوس الذين عبدوا النار، حتى جعل التوحيد غالبًا ليس في الجزيرة العربية فقط بل في العالم كله، وأتى بعبدة الأصنام إلى عتبة الإله الواحد الأحد.ثم لما قرب أجله كان يتقلــــب يمينا وشمالاً من شدة الكرب والاضطراب ويقول: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أوليائهم مساجد.(البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي كذلك أوصى أصحابه وقال : ألا لا تتخذوا قبري مسجدًا، ولا تنسوا مكانتي
الجزء السادس ۷۱۷ سورة الفرقان الحقيقية، فإني لست إلا بشرا * وكان تعليمه وتعهده بصحابته أنك.تسمع اليوم صوتًا ينطلق من كل قرية ومدينة في ضوء النهار وظلمة الليل خمس مرات يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.باختصار فإن النبي ﷺ وأصحابه قد استمسكوا براية التوحيد بكل قوة، فلا تزال حتى اليوم ترفرف خفاقة عالية في العالم كله مما يجعل الكافرين يحترقون كمدًا وحسدًا.إذا، فمن أكبر علامات عباد الرحمن أنهم لا يقتربون من الشرك بتاتا، ويبذلون كل محاولة مشروعة لنشر توحيد الله تعالى في الأرض، لأن الشرك يتنافى تماما مع صفة الله الرحمن.كما بين الله تعالى أن من علامات عباد الرحمن أنهم لا يقتلون أحد بغير حق، وقد تجلّت هذه الميزة في الصحابة الأطهار بكل عظمتها وجلائها.لقد عملوا بهذا الحكم بكل حيطة وحذر ، فبرغم أنهم كانوا يقاتلون أمما كانت تسعى لتغير دينهم بحد السيف إلا أنهم لم يرفعوا سيوفهم إلا على الذين يشتركون في الحرب ضدهم بصورة عملية، فلم يشهروا سيوفهم على امرأة ولا على طفل، ولا شيخ، ولا راهب، ولا قسيس، ولا باندت هندوسي، إذ كانوا يعلمون أن الإسلام إنما يسمح لهم بقتال الذين يقاتلونهم، أما الذين لا يقاتلونهم فلا يبيح لهم قتلهم وإن كانوا ينتمون إلى الشعب المحارب.إنك ترى اليوم القوى العظيمة التي تدعي في العالم أنها حاملة لواء العدل والإنصاف وأن وجودها ضمان للسلام العالمي، ولكنك تجدها تهدد أعداءها بالقضاء عليهم بالأسلحة الذرية، بل إنها بالفعل قد ألقت القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية وقتلوا مئات الآلاف من اليابانيين الأبرياء، ذكورا وإناثا وأطفالا بل أشيد تصرُّفها هذا واعتبر إنجازا عظيمًا لقيام السلام في العالم.ولكنك لن تجد أي ظلم كهذا في زمن الرسول وخلفائه أقرب ما وجدناه إلى هذا المعنى قول رسول الله ﷺ: "لا تتخذوا قبري وثناً يُعبد".(شرح النووي لصحيح مسلم: كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه).(المترجم)
الجزء السادس ۷۱۸ سورة الفرقان الراشدين.فلم يقتلوا الأبرياء من الرجال والنساء والولدان حتى في حالة الحرب.ولكن المؤسف أن هذه الشعوب التي لوثت أيديها بدماء مئات الآلاف من الأبرياء تُعدّ رمزًا للعدل والسلام، أما المسلمون الذين لم يدوسوا نملة واحدة تحت أقدامهم، فيسمونهم صعاليك وقطاع طرق ! فانظُر إلى مدى ظلمهم وإجحافهم! ثم يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم لا يزنون، ومن يفعل ذلك يرى وبال عمله في هذه الدنيا من خلال خزي وعار وأمراض شتى، أما عذابه في لقد الآخرة فيكون أشد من ذلك، إضافةً إلى ما يلقاه هنالك من خزي كبير.بين الله تعالى حرمة الزنى بكلمات أخرى فقال وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (الإسراء :(۳۳)، بمعنى أن الزنى أوّلاً ينجس قلب صاحبه إذ يلطخه بالشعور بالجريمة والتفكير بالخيانة.ثم إن الزاني يتبع طريقا خاطئًا لتحقيــق الهدف الذي من أجله جعلت العلاقات بين الرجل والمرأة، ذلك أن الغايــة مـــن الشهوة الجنسية هي استمرار النسل وبقاؤه، وهذا لا يتحقق بالعلاقــات غــير المشروعة، إذ لا يبقى النسل محفوظا أو يصبح مشتبها، فثبت أن الهدف الحقيقي لا يتحقق باتباع هذا الطريق، ولو سلمنا جدلا أنه يتحقق فهل من العقل أن يترك المرء طريقا صحيحا ويتبع طريقا خاطئا لتحقيق الهدف؟ غير أن الذين يتوبون ويتحلون بالإيمان الحقيقي مكان الإيمان التقليدي، ثم يعملون الصالحات كما يقتضي إيمانهم، فسوف يغير الله تعالى سوء ذكرهم إلى ذكر حسن، ويبدل ذلّتهم عـــزة، ويــــدل آلامهم إنعاما، لأنه تعالى كثير المغفرة وعظيم الرحمة وعلامة من يتوب ويعمل الصالحات أنه لا يتوب باللسان فقط بل يميل بقلبه إلى الله تعالى باستمرار.لقد أكد الله تعالى هنا على أهمية التوبة من أجل غفران الذنوب، وبين أن من المحال بدونها أن يوفق المرء للإيمان الحقيقي والعمل الصالح.ولكن كثيرا من الناس يجهلون حقيقة ،التوبة، ويظنون أنهم لو ردّدوا كلمة التوبة بلسانهم مرارا فقد صحت أنه لا بد للتوبة الصادقة من سبعة شروط وما لم تتوافر هذه الشروط توبتهم.مع كلها لا يمكن أن تُسمى توبة نصوحا.
الجزء السادس ۷۱۹ سورة الفرقان والشرط الأول للتوبة أن يذكر الإنسان ذنوبه السابقة ويندم عليها لدرجة أنـــه يشعر بالخجل حتى من نفسه.والشرط الثاني للتوبة أن يسعى المرء لأداء كل ما فاته من الفرائض في الماضي.فإذا لم يحج من قبل رغم قدرته على ذلك فعليه أن يحجّ الآن.أو إذا لم يؤد الزكاة في الماضي فعليه أن يبدأ في أدائها من الآن إن لم يستطع أداء كل ما وجب عليه من الزكاة في الماضي.والشرط الثالث للتوبة أن يسعى التائب لإزالة ما يمكن إزالته من ذنوبه السابقة..مثلا إذا كان قد سرق بقرة لأحد وهي لا تزال معه، لا تزال معه، فليردّها لصاحبها.والشرط الرابع للتوبة هو أن المرء إذا كان قد آذى أحدًا فعليه بإزالة أذاه وطلب العفو منه.إنه لمن المسائل الروحانية الدقيقة أن الله تعالى قد اشترط لغفران الذنوب التي يرتكبها المرء في حق العباد أن يطلب العفو منهم، فإذا عفوا عنه فسيعفو الله تعالى عنه ولا يؤاخذه.كان شبلي – رحمه الله – من كبار أولياء الله تعالى، وكان في زمن الخلافة العباسية واليا على بعض المناطق.فذهب ذات مرة إلى بغــداد لاستشارة الملك، وتصادف أن أحد كبار القواد كان قد رجع من ايران بعد مهمة عسكرية ناجحة، فعقد الملك في بلاطه احتفالاً خاصا على شرفه ليلبسه خلعـــــة فاخرة.واتفق أن القائد كان مصابا بالزكام يوم الاحتفال، وعندما أُلبس الخلعــــة ونزل عليه مطر من الورورد والأزهار من كل طرف عَطَسَ وخرج الماء مــــن أنفه، فأدخل يده فوراً إلى جيبه ليُخرج المنديل، فلم يجده.فأصابه الذعر ونظف أنفه بناحية من الخلعة مضطرًا.فلمحه الملك واستشاط غضبًا وأمر أن تُنزع منه الخلعة وأن يُطرد من البلاط لأنه قد أساء إلى الخلعة الملكية فنزعت الخلعة منـه وأخرج من البلاط ذليلا مهانا.وكان شبلي – رحمه الله – يرى كل مـا يجــري، فصرخ صرخة عالية، وأخذ يبكي بكاءً مرا.فقال له الملك في حيرة: ما يبكيك يا شبلي؟ إنما سخطتُ على القائد وليس عليك؟ فقام شبلي من مكانه وقال للملك: أرجوك أن تقبل استقالتي.فقال الملك: ماذا تقول؟ وأي استقالة؟ ولماذا؟ قال: أيها الملك: لقد بعثت هذا القائد في مهمة خطيرة قبل سنتين من اليوم، فظل يقاتل العدو
۷۲۰ الجزء السادس سورة الفرقان ليل نهار والموت يحوم حوله كل حين وكانت زوجته تقضي كل ليلة خوفا من أن تصبح أرملة.لقد ظل غريبا عن الأهل والوطن، يبيت في البراري والغابات ويقاسي المصائب والآلام.ثم رجع إليك منتصراً في نهاية المطاف، فعقدت الاحتفال فرحـــــة بعودته منتصراً، ومنحته هذه الخلعة البسيطة، ولكنه لما نظف بها أنفه مضطرا غضبت عليه غضبًا شديدا، ونزعت منه الخلعة وطردته من البلاط.وإنني لأفكّر أنك لم تتحمل الإساءة لهذه القطعة من القماش التي منحته إياها، فكيف يعاملني ربي يوم القيامة وقد أنعم علي بملايين النعم التي أسيء استعمالها كل يوم؟ فأرجوك أن تقبل استقالتي لأني لا أريد أي وظيفة بعد الآن، بل أريد أن أقضي بقيـــة أيـــام حياتي في عبادة الله تعالى.فقدم شبلي استقالته وخرج.ثم ذهب شبلي إلى أولياء الله تعالى ليساعدوه على طريق يستغفر به ربه.ولكن شبلي كان شهيرًا بظلمه لدرجة أن جميع الصلحاء الذين ذهب إليهم ليضموه إلى مريديهم لم يتجاسروا على قبول بيعته.فجاء أخيرا إلى الجنيد البغدادي – رحمــــه الله - فقال له : نعم هنالك إمكانية لتوبتك، بشرط أن تعود إلى المدينة التي كنت حاكمًا عليها، وتذهب إلى كل بيت فيها وتطلب العفو من أهله، فإذا عفا عنــك الجميع، ارجع عندي ثانية.فرجع شبلي إلى تلك المدينة، وأخذ يطرق بابا بعد باب أهله.فظنوا في أول الأمر أنه يمازحهم، ولكنهم لما رأوه يطلب العفو من ناحية ومن ناحية أخرى يريق دموع الندامة على ذنوبه، أدركوا أن حكومــــة الرب الرحمن قد استولت على قلب هذا الرجل.عندها تغير الموقف كلية، فكلمـــا طلب من الناس العفو قالوا له: لماذا تُحرجنا؟ إنك من شرفائنا الذين يجب علينــا احترامهم وتبجيلهم.وهكذا مرّ شبلي بكل بيت يطلب العفو من أهله، ثم رجع إلى الجنيد - رحمهما الله.فلما رأى أنه قد تاب توبة نصوحا قبل بيعته، فظل شبلي تحت رعاية الجنيد حتى إنه يُعَدّ اليوم من كبار أولياء الأمة.(تذكرة الأولياء (بالفارسية) طالبًا العفو من ص ٣٦١-٣٦٣) فمن شروط التوبة أن يطلب الإنسان العفو ممن آذاهم ويحاول كسب رضاهم قدر الإمكان.ولكن يجب أن نتذكر أن الله تعالى ستار يظل يستر على الذنوب
الجزء السادس 6 ۷۲۱ سورة الفرقان الكبيرة لعباده، لذا فعلى المرء أن يستر نفسه بنفسه، ولا يكشف للناس ذنوبه التي قد سترها الله تعالى عنهم.فمثلا إذا كان قد سرق شيئا من أحد في الماضي فيجب أن لا يذهب إليه ويخبره بأني قد سرقت منك كذا وكذا.إن هذا الاعتراف في حد ذاته إثم.بيد أن هناك ذنوبا يعرفها الآخرون أيضا، فمثلا إذا كان المرء قد ســــب أحدًا أو ضرب أحدًا أمام الناس عرفوا ذلك، فعليه بتلافي مثــل هـذه الذنوب ويطلب العفو من الذين قد أصابهم بأذى.والشرط الخامس للتوبة أن يحسن المرء قدر المستطاع إلى الذين قـد أصــابهـم بضرر، وإذا لم يستطع ذلك فيَدْعُ لهم بخير على الأقل.لقد كتب أولياء الله الكرام أن المرء إذا أكل مال غيره و لم يستطيع أن يدفع له، فعليه أن يدعو الله تعالى ويقول: يا رب، إني لا أستطيع دفع ماله، فأرجوك أن تعطيه إياه من عندك وتسدّ لي هــذا الفراغ.والشرط السادس للتوبة هو أن يعقد التائب العزم على أن لا يقع في الإثم في المستقبل، ويقرر في نفسه بأنه لن يرتكب أي معصية بعد الآن.والشرط السابع للتوبة أن يرغب الإنسان نفسه في فعل الخيرات، ويحاول تطهير قلبه كي يقوم بجميع الحسنات في المستقبل برغبة قلبية.هذه هي الأمور السبعة التي لا بد منها للتوبة الصادقة، وما لم يف أحد هـذه الشروط كلها لن تكون توبته صادقةً كاملة.يظن البعض جهلاً منهم أن باب التوبة يفتح باب السيئة أيضا، وأن المرء بدلاً من أن يرتقي خُلُقًا يتجاسر أكثر على ارتكاب المعاصى إذ يعلم أنه سيتوب مــــتى شاء ويتصالح مع الله تعالى.ولكنه ظن باطل تماما، وناشئ عن الجهل بحقيقة التوبة.فالظن أنه سيتوب" متى شاء لا يمكن أن يتولد في قلب أي إنسان عاقل إذ لا يدري متى يموت ومتى يتوب لو فاجأه الموت.كما أن أصحاب هذا الزعم لم يفهموا حقيقة التوبة.الحق أن التوبة ليست بأمر سهل، كما ليس بخيار الإنسان أن يتوب متى شاء؛ ذلك لأن التوبة اسم لذلك التغير العظيم الذي يحدث في قلب المرء فيذيب روحه ويغيّره تماما.وكما ذكرنا فإن "I
الجزء السادس معنی التوبة أن ۷۲۲ سورة الفرقان يندم المرء على ذنوبه السابقة ندما شديدا ويتصالح مـــع الله تعالى صلحا كاملا، ويعقد العزم على إصلاح نفسه في المستقبل.وهذه الحالة لا يمكن أن تحدث فجأة لأنها تكون نتيجة جهود طويلة وكفاح متواصل.لا شك أن هـذا الانقلاب قد يحدث فجأة، ولكنه نادرا ما يحدث كما لا بد أن يكون وراءه تغيّر مفاجيء عظيم مثل البركان يقلب المرء رأسا على عقب.ثم إن مثل هذه التغيرات المفاجأة أيضا ليست في خيار الإنسان.إذا، فالتوبة لا تشجع الإنسان على المعصية، بل إنها العلاج الحقيقي للإصلاح وهي السبب القوي الذي يخلّص من القنوط ويبعث على الهمة وبذل الجهد.وقــــد وقع هؤلاء المعترضون في هذه الخدعة نتيجة جهلهم بالعربية وجراء ظنّهم أن التوبة تعني ترديد المرء بلسانه فقط: ربي اغفر لي ذنوبي"، مع أن طلب غفران الذنوب لا يسمى توبة بل هو استغفار إن غفران الذنوب نتيجة منطقية للتوبة الصادقة، وبفتح هذا الباب قد أنقذ الإسلام الروح الإنسانية من اليأس والقنوط، بل فتح أمامهـــا الباب على مصراعيه للترقيات التي لا نهاية لها.ذلك لأن الإنسان إذا علم أن بـــاب أمامه الرقي مفتوح على مصراعيه وأن بإمكانه أن يكون طاهراً ومقربا لدى الله تعالى، فلا يفقد الهمة بل يهتم بإصلاح نفسه، وينجح في هذه المحاولة في نهايـــة المطاف، فتتخلّص روحه من الشوائب الدنية وتأخذ في الطيران إلى العالم العلوي.وَالَّذِين لَا يَشْهَدُونَ الرُّورَ وَإِذَا مَرُواْ بِاللَّغْوِ مَرُوا كِرَامًا ) شرح الكلمات: vr الزور: الكذب؛ الشرك بالله؛ مجلس الغناء؛ ما يُعبد من دون الله؛ القوة؛ لـــين الثوب؛ العقلُ (الأقرب).كرامًا: جمع كريم.والكريم: ذو الكرم؛ قيل الكريم قد يُطلق على الجواد وعلى كثير النفع، وقد يُطلق من كل شيء على أحسنه، كما قيل: الكريم صفةُ ما يُرضَى ويُحمد في بابه (الأقرب).
الجزء السادس ۷۲۳ سورة الفرقان التفسير : يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم لا يَشْهَدُونَ الزور.والمعنى الأول لهذه الآية هو أنهم لا يشهدون بالزور أي لا يشهدون شهادة الزور.والحقيقة أن أكبر حسنة بعد التوحيد وأصعب عمل يواجهه الإنسان في الدنيا هو قول الصدق.لقد رأينا آلاف الناس الذين هم رحماء ومنصفون، ولكنهم إذا اضطروا للإدلاء بالشهادة على أنفسهم أو قريب لهم أو صديق، كذبوا في شهادتهم بعض الكذب حتمًا.وقد تفشى هذا المرض في بلادنا على نطاق واسع حتى تجد الناس يحلفون كذبًا بكل جسارة، وإذا لم يقبل حلفهم الكاذب يسخطون.كانت العادة في المحاكم في الماضي أن يحلفوا ممسكين القرآن بأيديهم، وكان هذا أن يعني الحالف يحلف بالنظر إلى الوعيد النازل في القرآن الكريم، وأنه إذا كذب في حلفـــــه فلينزل عليه العقوبة، ومع ذلك كان كثير من الشهود يكذبون في شهادتهم.كان أخونا الأكبر ميرزا سلطان أحمد الله الله الذي كان يعمل قاضيًا في بعض المحاكم يحكي لنا خبرته الشخصية * أن كل من أخذ القرآن بحماس قبل إدلائه بالشهادة كان أكثر كذبًا.وكان أخي هذا يحكي لنا أن قضية لأحد معارفــــه رفـعـت في محكمته، فطلب منه صديقه هذا تأجيل سماع القضية ليوم آخر لأن الشهود الذين كان عليه تقديمهم لم يستطيعوا الحضور لسبب، فضحك وقال له: كنتُ أظنــك رجلاً ذكيا، ولكنك غبي فيما يبدو.قال: كيف؟ قال: بإمكانك أن تعطي بعض المال لبعض الناس وتحضرهم.فخرج من المحكمة وبالفعل أتى بعد وقـــــت قـصــير بالشهود الزائفين.يقول أخي فبدأت أسمع شهادتهم وأضحك وأمازحهم أيضا، إذ كانوا يحلفون كذبًا واضعين القرآن على رؤوسهم مع أن صديقي هذا قد أتى بهم علما أن ميرزا سلطان أحمد الله الله كان أخا أكبر الحضرة المفسر الله الله من أُمّ أخرى، وقد حصـــــل هذا الحادث معه قبل انضمامه إلى جماعتنا، حيث لم يصدّق أباه سيدنا المسيح الموعـــود ال في حياته، بل بايع ودخل في الجماعة في آخر حياته على يد حضرة المفسر.(المترجم)
الجزء السادس ٧٢٤ سورة الفرقان کشهود مزيفين بعد أن أعطاهم بعض المال.ولما فرغوا من الإدلاء بشهادتهم قلت لهم: إنكم كذابون، إذ لا علم لكم بالحادث، ولكنكم تكذبون من أجل بعض المال ولا تبالون بالقرآن الكريم أيضًا! فالأُمة التي قد بلغت هذا المدى من التردّي والانحطاط لا يحق لأفرادها أن يقولوا لماذا لا ننتصر في الدنيا، إذ لا يكون الفلاح حليفا إلا للشعوب التي دأبها الصدق وقول الحق.لقد رأيت أن الشعوب المسيحية قد تدرّبت على الصدق لدرجة أنهــا يمكن أن تكذب على صعيد الدول، ولكنها لا تكذب عادة على صعيد الأفراد.يظن الناس أن أهل أوروبا وأمريكا قد أحرزوا التقدّم نتيجة العلم، ولكن الواقع أنهم لم يتقدموا بعلمهم ،وأسلحتهم وإنما ازدهروا نتيجة هذه الأخلاق فقط.فلو زرت المحاكم الإنجليزية لوجدت أن القاضي حين يقول للمجرم هـــل ارتكبــت هـذه الجريمة؟ يقول : نعم.ثم يسأله هل كنت في مكان كذا؟ يقول : نعم.ولكنك لو زرت محاكم بلادنا لرأيت أن السارق الذي تكون الشرطة قد قبضت عليه متلبسا، حين يسأله القاضي: هل كنت في مكان السرقة؟ يقول كلا، لم أكن حتى في تلك الحارة أيضًا فيسأله أين كنت؟ فيقول: كنت في مدينة كذا.فيسأله: ألم تقبض عليك الشرطة متلبسا في ذلك المكان؟ فيقول : إنهم يكذبون، إنما قبضوا علي لعداوة قديمة بيني وبينهم.فتراه يكذب من أول كلامه إلى آخره.لا شك أن المجرم في المحاكم الغربية أيضًا يحاول إنقاذ نفسه بخداع واحتيال، ولكنه لا يلجأ إلى الاحتيال بدون داع، أما في محاكمنا فيكذب المجرم بدون داع أيضًا، فمثلاً إذا كان قد سرق فلا علاقة بين سرقته وبين لون الثوب الذي كان يلبسه خلال السرقة، ولكنه سئل مثلا: هل كنت تلبس في ذلك الوقت ثوبًا ،أسود فيقول: لا، بل كنت ألبس ثوبا أحمر؛ أو لو سئل هل كانت في يدك عصى في ذلك الوقت، يقول: لم يكن بيدي أي عصى أبدا، بل كان في يدي المصحف الشريف.إذا ، فإنه يكذب الأكاذيب التي لا علاقة لها بالقضية أصلاً، ويرفض كل شيء.أما في المحاكم الأوروبية فتجد أن المجرم سيعترف بـ ٩٩% من الأمور، ويخدع في واحد بالمئة فقط.%99
الجزء السادس ۷۲۵ سورة الفرقان لا شك أن ما يحدث في محاكمنا راجع أيضًا إلى الحالة الأخلاقية المتردية في البلاد، فالقضاة الذين تُرفع أمامهم القضايا هم الآخرون لا يدركون أهمية الصدق، إذ يظنون أن المجرم لا يصدقهم القول إلا قليلاً، وأنه لا يزال يخفى عنهم أمورًا كثيرة.فمثلاً هناك شخص يلطم غيره لطمة واحدة، وإذا سأله القاضي: هل لطمته؟ قال : نعم لطمته ولكنه كان نتيجة غضبي؛ فبدلاً أن يقدر القاضي قول المجرم حيث صدق في بيانه، فإنه يقول في نفسه لا بد أنه قد لطمه خمس لطمات، ولكنه يعترف بلطمة واحدة فقط.لقد انتشر الكذب في مجتمعنا انتشارا واسعا حتى بدأ الجميع، بمن فيهم القاضي والمحامي، يظنون أنه من المستحيل أن يصدق أحد في حديثه مئة بالمئة.ولما كان أقاربهم وأصدقاؤهم أيضا يكذبون فلا يصدقون أحـــــدا وإن كان صادقا في حديثه، بل يظنون أنه يكذب مثل الآخرين ولو قليلا؛ والنتيجة أن الذي يريد أن يصدق القول يصاب بالخوف والذعر فيكذب.ولكن على المؤمن أن لا يحفل بما يقول الناس حوله، وإنما عليه أن يرى ماذا يقول ربه.يجب أن يكون لإيمان المرء وزن ومعنى ما دام قد جعل العالم كله عدوا له بسبب إيمانه.وإن أقل ما يتطلب الإيمان من المرء أن يعاهد الله تعالى أنه يُؤثره على كل شيء آخر.ولكنه لو بدأ يُؤثر الأشياء الأخرى على الله تعالى فكيف يبقى : مؤمنًا؟ يريد الله تعالى من المؤمن أن يصدق القول دائما، بينما يأمره زملاؤه أن يكذب – حيث يأمرونه حينًا بلسانهم وحينا آخر بفعالهم، إذ يقول المرء لصاحبه أحيانًا أن يكذب وأحيانًا يراه يكذب ولا يمنعه من الكذب وهكذا يصبح مؤيدا للكذب، ولكن الله تعالى يريد منه أن يصدق القول – ولو أنه كذب وأخفى الحق فإنه لم يقدر الله تعالى حق قدره وبتعبير آخر إنه لم يحاول أن يقيم ملكوت الله في الأرض بل حاول أن يقيم ملكوت الشيطان فيها.وإن ملكوت الله لــن تقــــام في الأرض إلا إذا لم يَخْشَ المرء عند الإدلاء بشهادة صادقة من أبيه ولا ابنه ولا أُمــــه ولا أخيه ولا صديقه ولا أحد من أقاربه.الآخرين.والحق أن الأب لا يتجاسر على قول الكذب إلا لأنه يعلم أن ابنه أو زوجته سيؤيده فيما يقول، أما إذا خاف أنـــه إذا كذب في شهادته فإن ابنه سيقول أمام المحكمة إن هذا أبي، ولكنه يكذب إذ
الجزء السادس ٧٢٦ سورة الفرقان الأمر الواقع ليس كما يقول؛ أو ستقول زوجته للمحكمة: إنه زوجي، ولكــ الحقيقة خلاف ما يقول؛ عندها سيترك هذا الإنسان الكذب على الفور.إن المرء من أقاربه بسبب كذبه.يكذب لأنه يدرك أن كذبه سيظل مخفيًا ولن يفضحه أحد إن الأخ يكذب لأنه يعلم أن أخاه سيغطي على كذبه والابن يكذب لأنه يعلم أن أباه سيؤيده في كذبه، وإن الزوج يكذب لأنه يعلم أن زوجته ستستر عيبه وتصدقه فيما يقول، وإن الزوجة تكذب لأنها على علم أن زوجها سيقف بجانبها رغم كذبها.ولكنهم لو كانوا صادقين حقًّا لقام الابن ليشهد ضد أبيه، ولقامت الزوجة لتشهد ضد زوجها، وفي هذه الحالة سيخاف كل واحد من قول الكذب لإدراكه أنه لا فائدة من ذلك.وإن خلق هذا الحماس لتأييد الصدق والحق ليس عسيرا، بل لو عاهد كل طفل وشيخ وشاب وذكر وأنثى على قول الصدق ولو أدى ذلك إلى سجنه وحتى شنقه، فستلمسون في أنفسكم انقلابًا عظيما في فترة وجيزة جداً.لا تظنوا أن قول الصدق يؤدي بالمرء إلى الإعدام كلا، بل إن الذي يصدق الحديث لا يقع فيما يؤدي إلى الإعدام.ولكن الكاذب يظن أن كذبه سينجيه من العقاب، فيتجاســـر على ارتكاب الأعمال التي تكون عاقبتها وخيمة جدًّا في بعض الأحيان.أو إن الصادق يعلق على المشنقة عندما يرى أن واجبه الديني يفرض عليـه أن يضـــحي بنفسه، وعندها يصعد على منصة الإعدام بكل شجاعة ويقول تعالوا اقتلوني.مجمل القول إن قول الصدق أمر بالغ الأهمية، وقد حث عليه أنبياء الله تعالى بشكل خاص، واعتبروه جزءا جوهريا من أخلاق الإنسان ولكن الناس اليــــوم لا يعدون الكذب كذبًا من أجل مصالحهم السياسية والقومية، بل يعتبرونه ضروريًا، مع أن الكذب يتنافى مع الفطرة الإنسانية.إن الكذب يعني أن تسمع شيئًا بأذنك، ثم تقول : إني لم أسمعه، أو ترى شيئًا بأم عينيك ثم تقول: إني لم أره، أو ترفع شيئًا بيدك ثم تقول: إن يدي لم ترفعه، أو تمشي إلى مكان برجلك ثم تقول: إني لم أذهب إلى ذلك المكان؛ وهذا يعني أنك لا تفنّد غيرك بل تفنّد نفسك، وأي شيء أشد خلافًا للفطرة من هذا التصرف؟ إن الإنسان يمكن أن يشك فيما يقرره
الجزء السادس ۷۲۷ سورة الفرقان أنك بالقياس فقط، ولكن هل يمكن له أن يشك فيما يقوم به بحواسه الخمس؟ وإنكار ما أتت به حواسه الخمس هو الكذب.إن الذي ينكر ما فعلته حواسه الخمس يكذب لسانه ويده ورجله وأنفه وأذنه، ومع ذلك يجد متعة كبيرة في هذه الشهادة التي يدلي بها ضد نفسه! إذا أمسكت بيدك شيئا ثم قلت: لم أمسكه، فهذا يعني تقول ليدك : إنك لم تمسكي بهذا الشيء.ولو ذقت بلسانك شيئا، ثم أنكرت ذلك، فكأنك تقول للسانك : إنك لم تذق هذا الشيء.ولو سمعت بآذانــك شيئا، ثم أنكرت سماعه، فهذا يعني أنك تقول لآذانك إنك لم تسمعي أي شيء.فهل هناك تصرف هو أشد غرابة وسخرية مما فعلت؟ ومع ذلك لا يكترث الناس لمثل هـذه التصرفات التي يأتونها، فيكذبون عند الحاجة، ثم يؤيد أصحابهم أكاذيبهم.فمثلا عندما تُرفع قضية أمام القاضي ضد شخص يقول ابنه : لم يكن أبي موجودا في ذلك المكان، بل كان في قرية كذا مع أن ما يقوله يكون كذبًا صريحًا.ويوجد مرض الكذب في النساء بكثرة، بل هن أكثر كذبا من الرجال، ولذلك كان النبي يأخذ منهن البيعة على أن لا يأتين ببهتان (الممتحنة: ١٣).وهذا يــــدل أن الكذب كان شائعا بين نساء العرب بكثرة.وهذا المرض ينتقل من النساء إلى أولادهن، فيتعودون على الكذب.ذلك لأن الولد يقول في نفسه: ما دامت أمــــي تكذب فلماذا لا أكذب؟ بل يبالغ الأولاد في كذبهم إلى أقصى الحدود.يقال أنـــه كان هناك صديقان، فقال أحدهما لصاحبه أن يذكر من مآثر عائلته ومفاخرهـا.فقال: كان آبائي من كبار الرؤساء، وكان الجدي حظيرة كبيرة جدا، وكلما وقعت مجاعة كانت مواشي كل البلدة تأتي إلى حظيرته تأكل فيها وتبيت.فقال الآخر: كان عند جدي قطعة "بامبو" - خيزران - طويلة جدا، وكلما تأخر المطر عن الناس، ثقب بها السحب فكانت السماء تمطر مطرًا غزيراً.فسأله صاحبه: أين كان جدك يحتفظ بهذه الخيزران الطويل؟ قال: في حظيرة جدّك! فهذه القصة تبين لك مدى المبالغة التي يلجأ إليها الصغار في الكذب.كذلك قرأت قصةً ذات مرة بأن طفلة إنجليزية التحقت بالمدرسة.فدخلت معها في صفّها طفلة لأحد صانعي الحلوى، فسألت الطفلة الإنجليزية صديقتها: مــــاذا
الجزء السادس ۷۲۸ سورة الفرقان يعمل أبوك؟ فقالت: أبي هو حاكم المحافظة.فقالت الأخرى: أما أبي فهو رجــل أعمال وبنوك وعندنا عشرات الفيلات.وذات مرة دعت زميلتها إلى بيتها لشرب الشاي، ولم يكن في بيتها أي خدم فأمرت إخوتها وأخواتها أن يتظاهروا بـأنهم يعملون عندها كالخدم في البيت فأحضرت الكعك والشاي من السوق.وجاءت بنت حاكم المحافظ، وأخذتا تتجاذبان أذيال الحديث.وبينما هما كذلك إذ جاءت إحدى الجارات وقالت في حديثها مشيرة إلى الفتاة الإنجليزية إنها بنت فلان مـــن الإنجليز.فقالت بنت الحلواني: لا هي بنت فلان من كبار رجال الأعمال والبنوك.فقالت الجارة: كلا، بل هي بنت فلان من الإنجليز.وترى أن الفتاتين لم تقوما بهذه التمثيلية إلا لكي تتظاهر إحداهما للأخرى بأنها من أسرة ثرية.بيد أنه يجب أن تتذكر أن قول الصدق لا يعني أن يخرج المرء ويحكي للناس كل ما يراه.إن القرآن الكريم قد نهى عن أن يذكر المرء للآخرين بعض الأمور بــدون داع.فمن يتحدث بها للناس فإنه لا يصدق الحديث بل ينشر الفتنة والفساد في المجتمع.إنما المراد من قول الصدق أنك إذا قلت شيئًا فيجب أن تقول الحق، وليس أن تقوله للناس في كل حال.فمثلاً إذا دهم اللص بيتك وقال لك: أين مفاتيح خزينتك ؟ فلم تخبره بل قاومته وهددته ليخرج من البيت فهذا ليس كذبا، ولكنك لو أشرت إلى مكان لا توجد به المفاتيح، فهذا كذب.كذلك لو أن شخصا رأى في غيره عيبًا ثم ذكره في كل مكان، فليس هذا من قول الصدق في شيء، بل هـو بغض وحقد وغيبة.لقد سأل الصحابة النبي ﷺ ذات مرة وقالوا: هل من الغيبة أن نحكي عن شخص ما هو حق؟ قال : نعم، هذه هي الغيبة.أما إذا عزوت إليه ما هو بريء منه فهو بهتان وافتراء (الترمذي: أبواب البر والصلة، باب ما جاء في الغيبة).إذًا فذكر عيوب الآخرين للناس ليس من قول الصدق في شيء، بل المراد مـــن قـــول الصدق أنك إذا أدليت بشهادة أمام القاضي فعليك أن تذكر له الحادث كما هو، وإن أضرت شهادتك بصديقك أو أخيك أو أبيك أو زوجتك.عليك أن تجيب على كل سؤال من القاضي بما هو حق وصدق تماما.ومن أجل ذلك أمر الشــــع
الجزء السادس ۷۲۹ سورة الفرقان أن لا يأخذ الشهادة إلا القاضي، لأن الشرع ينهى عن ذكر بعض الأمــــور أمــام الناس.ذلك لأن غير القاضي يمكن أن يسأله شيئا لا تسمح الشريعة بالسؤال عنه، وهذا سيؤدي إلى الفتنة في المجتمع.إذا، فليس المراد من قول الحق أن تذكر كل ما تشاهده، كما ليس مـــن قــول الحق أيضا أن تذكر ما تشاهده لكل واحد بل إذا سألك غير القاضي سؤالا عـــــن حادث ما فقل له: لا أخبرك.كذلك إذا رأيت أحدا يرتكب خطأ فاستر خطأه، لأن ستر خطئه ليس خلاف قول الحق، وإنما تخالف قول الحق إذا سألك القاضي أو من ينو به أو الذي أجاز له الشرع أخذ الشهادة عن حادث ما، فلم تصدق لـــه القول.ولكن إذا لم تُدع للإدلاء بالشهادة، ولم تخبر الناس عن الحادث فلن يُعد هذا خلافًا لقول الحق وإن كان الحادث صحيحا، بل تنشر بذلك الصلح، وتحمــي نفسك وقومك من الفتنة والفساد.٢- والمعنى الثاني للزور هو العقلُ، وعليه فالمراد من قوله تعالى لا يَشْهَدُونَ الزور أنهم يدلون بالشهادة بحسب الحقائق الواقعة وليس بناء على القياس فقــــط.ولكن هذا لا يعني أنهم لا يشهدون بالعقل.يعني ٣- والمعنى الثالث للزور هو القوة، وعليه فقوله تعالى لا يَشْهَدُونَ الرُّور أن عباد الرحمن لا يشهدون مغرورين بقوتهم ليهينوا الضعفاء ويذلوهم.والمعنى الرابع للزور هو الشرك، وعليه فالمراد من قوله تعالى لا يَشْهَدُونَ أن عباد الرحمن لا يحضرون مجالس الشرك.ه والمعنى الخامس للزور هو مجلس الغناء، وعليه فقوله تعالى لا يَشْهَدُونَ الرُّورَ يعني أنهم لا يحضرون مجالس الموسيقى والغناء لكي يظلوا محفوظين من تأثيرها السام، حتى لا يصبحوا غافلين عن الله تعالى فيتبعوا الأهواء.وبناء على ذلك قد نصحت جماعتى بأن لا يشاهدوا السينما، لأن فيها الموسيقى والغناء التي تجعل قلب الإنسان غافلا عن الله تعالى.لقد كان الموسيقى والغناء مقتصرة على المسارح في الماضي، ولكنها قد انتشرت على نطاق واسع منذ اختراع السينما، لأن المسارح كانت في أماكن محددة، وكانوا يُحضرون فيها كبار المغنين والموسيقيين بنفقــــات
الجزء السادس ۷۳۰ سورة الفرقان باهظة، ثم لم تكن هذه المسارح تقدم إلا عرضا واحدًا وفي مكان واحد، ولكنهم ينسخون الآن من عرض واحد مئات الأفلام وينشرونها في كل البلاد، فأصبح ضرر السينما أكثر من المسارح.لقد قال النبي الله إن الغناء والموسيقى وغيرها كلها أداة الشيطان يغـوي بهــا الناس.ولكن المؤسف أن المسلمين نسوا هذه الوصية الإلهية الواضحة، وانغمسوا في الملذات وأنواع الترف إبان غلبتهم، وكانت النتيجة أنهم فقدوا الحكم.لقد دمرت الخلافة العباسية نتيجة الغناء والموسيقى، حيث كان هولاكوخان يتقدم مع جيشه إلى بغداد بسرعة شديدة، بينما كان الملك العباسي المعتصم بالله مشغولا بالرقص والغناء، ويقول لمن حوله مرة بعد أخرى أن يحضروا لـه الراقصـــات والمغنيات، إذ لا أحد يستطيع الهجوم على بغداد، ومن هجم عليها فلن يـــدمر إلا بنفسه.ولما وصل هو لاكوخان إلى بغداد فإن أول ما فعله هو أنه قتل الملك وولي العهد، ثم دلك بغداد دكا دكا، وقتل مليونًا وثمانمئة ألف نسمة من أهلها.(الفخري: آخر الخلفاء اللاهين: خلافة المستعصم بالله، وتاريخ العرب، الجزء الثاني: ص ٥٨١).كذلك لم يُقض على الإمبراطورية المغولية في الهند إلا بسبب الموسيقى والغناء.لم يكن الملك محمد شاه رنغيلا" يسمى "رنغيلا" إلا لشدة ولعه بالموسيقى والغناء والمجون.كما أن آخر الملوك المغول على الهند بهادر" "شاه لم يهلك إلا نتيجة انغماسه في الموسيقى والغناء.كانت القوات الإنجليزية تتقدم نحوه وتحاصره من ناحية كولكتا وإله آباد وكانفور وميرث وسهارنبور، ولكنه ظل مشغولا بالموسيقى والغناء في بلاطه وكانت النتيجة أن قطع الإنجليز رؤوس اثني عشر من أبناء الملك ووضعوها في صينية كبيرة وقدّموها له قائلين: هذه هديتنا لك بهادر شاه ظف انكا عهد (بالأردية): باب ١٤ شاهي خاندان کی بپتا ص ٥٨٥) و لم يكن وراء انتهاء حكم المسلمين في الأندلس أيضًا إلا الغناء والموسيقى.وكذلك انتهى حكمهم في مصر لنفس السبب حيث كان الملك الفاطمي مشغولا بالغناء والموسيقى حين هاجم السلطان صلاح الدين الأيوبي مصر.اور
الجزء السادس ۷۳۱ سورة الفرقان وبرغم هذا الدمار الهائل الذي حل بالمسلمين في الماضي فإنهم لا يزالون تواقين مع إلى الغناء والموسيقى والسينما، ولا يريدون أن يأخذوا العبرة من تاريخهم! أن الله تعالى قد صرّح في قوله وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أن المسلمين إذا أرادوا أن يدخلوا في عداد عباد الرحمن، فمن أكبر واجباتهم أن يتجنبوا مجالس الغناء والموسيقى، وأن يرغبوا في حب الله تعالى، وإذا فعلوا ذلك نجحوا، وإلا فلن يكونوا في مأمن من النتائج الوخيمة للموسيقى والغناء.ثم يقول الله تعالى (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً..أي أن من علامات عباد الرحمن أنهم إذا مروا باللغو من الأمور لا يقعون فيها جريا وراء الملذات الدنيويـــة كما فعلت أمة المسيح ال حيث نسوا ذكر الله تعالى وانشغلوا بالرقص والغنــــاء والموسيقى.بل إن عباد الرحمن يمرون بمثل هذه الأماكن بوقـــار ويتغلبــــون علــى أهوائهم مؤثرين رضى الله تعالى على ملذات الدنيا.وعندي أن من أكبر اللغو الموجود في هذا العصر هو السينما، فإنها شيء مدمّر لأخلاق القوم، كما أنها تهدد أمن البلاد من حيث القضايا الاجتماعية.لقد قرأت قبل فترة أن كثيرا من القرى في فرنسا قد صارت خرابًا لأن الناس أخذوا يهجرونها إلى المدن ليُشبعوا رغبتهم في السينما، فقررت الحكومة الفرنسية وضع الحد لهذه الهجرة.بید أنه مما لا شك فيه أن سوء استعمال السينما في هذا الزمن هو الذي قــد جعلها مضرة ومدمرة للغاية.ولكن لو أنتج أحد فيلما للمناظر الخلابة لجبال "هملايا" مثلا ليرى الناس ما في تلك الجبال من ثلوج وأشجار وينابيع دفاقـــة وصخور وكهوف وقمم، بدون أن يكون في هذا الفيلم شيء من الموسيقى، فهذا جائز تماما إذ سيساعد على التقدم العلمي.كذلك لو أنتج أحد فيلمــا تبليغيـــا أو تعليميًا بحثا لا تشوبه شائبة من الغناء والموسيقى أو المشاهد الخليعة الأخرى، فإنني سأسمح برؤية هذا الفيلم.
الجزء السادس ۷۳۲ سورة الفرقان كذلك يجوز مشاهدة الأفلام العلمية البحتة والمنتجة من قبل المؤسسات التربوية أو الحربية التي تكون عبارة عن مناظر الغابات والأنهار أو المشاهد الحربية أو كيفية العمل داخل المصانع، لأن مثل هذه الأفلام تساعد على الرقي العلمي.وهناك بعض الأفلام الصناعية والزراعية التي تعلّم الفلاحين طرقًا شـــى للزراعـــة، وعــلاج المزروعات من الأمراض الفتاكة، واستعمال الاختراعات الحديثة، كما تعرفهم على البذور الجيدة وطريقة إنتاجها.هذه الأفلام لا بأس بها وهي ليست من اللغو في شيء، لأنها تزيد المرء علمًا واستنارة وخبرة فيتّخذ التدابير والوسائل التي تساعده على تحسين الإنتاج التجاري والصناعي والزراعي بحسب مقتضيات العصر.بيد أنه لا يجوز إنتاج فيلم غير واقعي.فمثلا لو أنتج أحد فيلما حول حـــــروب نابليون بونابرت فهو فيلم زائف ولا يجوز إنتاجه رغم كونه فيلما تاريخيا.والمــــراد من الفيلم الجغرافي والتاريخي هو الفيلم الحقيقي لا الفيلم الزائف الباطل.إن الأفلام التي تشاهد في هذه الأيام في شتى المدن الكبيرة والتي تتكون من عنصر الغناء والموسيقى هي لعنة بغيضة للغاية، حيث حولت أولاد المئات من الأسر الشريفة إلى مغنين ومغنيات وراقصات.إن من عادتي قراءة المجلات الأدبية، وقــــد وجدت أن الشباب الذين يحبون السينما والذين لهم صلة بها تحمل مقالاتهم طابع السخرية عادة، وتكون أخلاقهم ومزاحهم رديئة بشكل مذهل.ذلك لأن أصحاب السينما لا يكون لهم هدف إلا كسب المال لا إصلاح الأخلاق، فكي يكسبوا المال يقدمون قصصا لاغية وأغاني تافهة تخرب أخلاق القوم تدميرا.فالشرفاء الذين يذهبون لمشاهدة هذه الأفلام تفسد أخلاقهم كما تفسد أخلاق أولادهم وأزواجهم الذين يأخذونهم إلى السينما أو يحكون لهم ما شاهدوا في الفيلم.مجمل القول إن السينما تؤثر على أخلاق القوم تأثيراً مدمرا، بحيث إنني أرى أن روح كل مؤمن مخلص صادق يجب أن تحترز من السينما تلقائيا وإن لم أمنعهم من ذلك.يقول بعض من جماعتنا أنه ليس في الأفلام الإنجليزية أي لغــو، فاسمح بمشاهدتها.والواقع أنه لا يخلو أي فيلم إنجليزي من الموسيقى والغناء اللذين قد نهى
الجزء السادس ۷۳۳ سورة الفرقان وهو " الإسلام عنهما نهيًا شديدا والواضح من هذه الآية القرآنية أن المرء لا يمكن أن يدخل في عداد عباد الله تعالى ما لم يتجنّب مجالس الموسيقى والغناء.والشيء الثاني الذي هو من أكبر أنواع اللغو الميسر.لم يعد الميسر في هذه الأيام من المشاغل المحبوبة عند أهل أمريكا وأوروبا فحسب، بل أصبح جزءا لا يتجزأ عن حضارتهم.لقد أصبح الميسر وثيق الصلة بكل مجال من حياتهم بطريق أو آخر.أما الميسر العادي قد أصبح عادة يومية لهم بعد مجالس الطعام، ولكنهم يلعبــون " اليانصيب" بكثرة بحيث إن ربع أعمال التجارة أيضا تصبح ضحية للميسر.إن الجميع من أكابرهم إلى أدانيهم يلعبون الميسر يوميًا وليس من حين لآخر.وإن نوادي الميسر ربما هي أغنى النوادي كلها.ففي نادي مونتي كارلو" في إيطاليا - المكان الذي يقامر فيه أثرياء العالم - تخرج البلايين من أيد وتصل إلى أيـــد أخرى في يوم واحد.قد كثر فيهم القمار لدرجة أنه لن يكون من الخطأ القول إننا لو أخرجنا الميسر من حضارتهم الجديدة لترك فراغا كبيرًا لن يُسَدٌ بأي شيء آخر.وذلك برغم أن القمار شيء خطير للغاية لأن المقامر يخسر أحيانًا كل ما يملك في نصف ساعة، وأما إذا ربح فيتسبب في دمار آلاف البيوت الأخرى.ثم إن المقــــامر يكون معتادًا على إضاعة المال، إذ قلما تجد بين المقامرين من يحافظ على ماله.إن المقامرين عادة يبذرون أموالهم بدون هوادة، لأنهم يظنون أنهم لن يحتاجوا لبذل جهد كبير لكسب المال؛ وكأنهم يدمّرون الآخرين من جهة، ومـن جهــة أخرى لا ينتفعون من أموالهم أيضًا بشكل سليم، وليس ذلك إلا لأنهم لا يضطرون لبذل المشقة والعناء في كسب المال.ثم إن الميسر يضعف العقل والفكر أيضًا، حتى إن المقامر يكون مستعدًا لتدمير الأشياء التي لا يقبل أحد من العقلاء المراهنة عليها محاولة منه لكسب الرهان.فإن التاريخ القديم للديانة الهندوسية يبين لنا أن "يدهشر" - وهو ابن عمة "كريشنا" - جميع خسر زوجته في القمار.(مها بهارت) فالميسر جدُّ لغو يجب اجتنابه دائمًا.
الجزء السادس والشيء ٧٣٤ سورة الفرقان الثالث الذي يدخل في اللغو في هذا الزمن هو الرقص.كان الشعب الإنجليزي يستقبح الرقص في زمن من الأزمان ولكنه قد مال إليه الآن شيئًا فشيئا.ففي البداية كان الرجل والمرأة يرقصان ويد الواحد في يد الآخر، ثم أخذا يرقصان وجها لوجه، ثم تقدموا وأخذت المسافة بين أبدان الراقصين تقصر فتقصـــر حــتى تلاشت الآن في كثير من البلاد.إن الله تعالى يأمر النساء في القرآن الكريم ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُحْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ) (النور: ٣٢)..أي لا يضعن أقدامهن على الأرض خلال مشيتهن بحيث تظهر زينتهن والواضح أنه لا مجال لإخفاء الزينة أثناء الرقص.إذا فالرقص أيضا من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى تدمير المال والأخلاق، إذ يوجد في الدنيا أناس يضحون بكل ما يملكون من مال وعقار من أجل أن يشاهدوا رقص بغية أو قينة معينة مرةً واحدة.كما يوجد هناك أنـــاس يضحون بأموالهم الغالية على ما يحكي لهم ساردو القصص والنوادر من طرائــــف وظرائف.إذا فكل نوع من الرقص لعنة بغيضة كالغناء، حيث يدمر أخلاق الشباب وأموال القوم.والشيء الرابع الذي هو من اللغو التدخينُ ويجب تركــه.إن بعـض النــاس يبدءون التدخين بحجة أنه يساعدهم على مرض الإمساك، ولكنهم يتعودون على ذلك لدرجة أنهم لا يدخلون المرحاض إلا مع "الشيشة"، ثم لا يفرغون من حاجتهم الطبيعية إلا بعد أن يدخنوا ثلاث "تعميرات".ثم إن المدخنين يصابون دائمًا بأمراض الحلق والصدر والسعال، ذلك لأن الشيء الذي يخدّر الجسم يُضعف الأعصاب في نهاية الأمر، ويسبب أمراضا كثيرة.ومع ذلك قد راجت "النرجيلة والسيجارة في هذا العصر رواجا كبيرا حتى تـــرى الشباب بل الأطفال أيضًا يدخنون.وبما أنه شيء مسكر فيصبحون مدمنين عليها
الجزء السادس ۷۳۵ سورة الفرقان بالتدريج، حتى إذا لم يجدوا النرجيلة أو السيجارة أو "نسوار" * يجرون هنا وهنــاك كالمجانين.من أتذكر جيدا أننا كنا ذات مرة نصعد بعض الجبال، وكان بين رفقائي شخص الأفغان، وكان يتعاطى نسوار".ولكنه لسوء حظه نسي علبة نســواره في البيت، فرأى أحد العمال الكشميريين قادمًا وقد حمل على كتفه حزمة مــن الخشب.فتقدّم إليه الأفغاني وأخذ يتوسل إليه في تواضع والحاح يا أخي الكشميري، هل عندك نسوار؟ فلم أتمالك نفسي وبدأت أضحك، وأقول في نفسي: إن هذا الأفغاني المتكبر الذي لا يخضع رقبته لأحد، كيف جعلـه إدمانــه يتوسل إلى الكشميري متواضعًا متذللاً.إن بعض الإخوة الذين كانوا يأتون من الخارج لزيارة المسيح الموعود الله مدمنين على تدخين النرجيلة، و لم توجد النرجيلة في قاديان في تلك الأيام إلا عند أحد أعمامي الذي كان دهريًا ملحدًا، ولكن هؤلاء الإخوة كانوا يضطرون للذهاب إليه من جراء هذه العادة القبيحة، ويسمعون منه كلامًا ضد المسيح الموعود العليا.كان عمنا هذا بعيدا عن الدين كلية حتى يقول الخليفة الأول للمسيح الموعود الله إنه سأله ذات مرة: هل صليت في حياتك؟ فأجابه وقال: إنني سليم الطبع منذ صغري.عندما كنتُ صغيرًا وكنتُ أرى الناس خافضي الرؤوس ورافعي الظهور في الصلاة، كنتُ أضحك عليهم وعلى غبائهم؛ أما الآن فقـد كــبرت وأصبحت من كبار العقلاء، فكيف يمكن أن أصلي! ومرةً حكى لنا أحد الإخوة أن بعض الأحمديين ذهب إلى عمنا هـــذا ليــــدخن النارجيلة عنده ثم رجع بعد قليل وهو يسب ويشتم.فقيل له: ماذا حصل؟ قال: إنني لا ألوم إلا نفسي إذ ألجأني إدماني على تدخين النارجيلة إلى الذهاب إلى هـذا "نسوار" يشبه "النشوق" الذي يستنشقه البعض، و"القات" الذي يمضغه أهل اليمن؛ غير أنـــه يكون تبعًا مطحونًا يضيفون إليه بعض المواد ويضعونه في الفم أو يستنشقونه في بعض مناطق الهند وباكستان وأفغانستان.(المترجم)
الجزء السادس ٧٣٦ سورة الفرقان الشخص الذي أسمعني ما أكره من الكلام ضد المسيح الموعود الع.فلولا هـذه العادة السيئة لما ذهبتُ إليه ولما سمعت ضد سيدي كلامه القذر.إذًا، فالنرجيلة أيضا من لغو الأمور التي يجب على المرء تركهـا، وإذا كـــان لا يستطيع ذلك فليحاول جاهدًا أن لا يقترب أولاده منها، حتى إذا مات مات معــــه هذا الفعل السيئ في أسرته أيضًا.والشيء الخامس من اللغو خوضُ المرء في حديث لا طائل وراءه، وسؤاله عما لا يعنيه.إن من العيوب الشائعة في بلادنا بكثرة أن الرجال والنساء على السواء يسألون فيما بينهم أسئلة لا علاقة لهم بها.فمثلاً تقول المـــرأة لصاحبتها: بكـــــم اشتريت هذا الثوب؟ ومن أين اشتريت هذه الحلي؟ وما لم تعرف هي كل شيء لا يقرُّ لها قرار.كان المسيح الموعود الله يحكي لنا قصة امرأة اشترت خاتما، وظلت تنتظر لتسألها صاحباتها عن الخاتم، ولكن لم تسألها عنه أي منهن.فتضايقت وأحرقت بيتها.فجاءت النساء بعد الحريق، فقالت إحداهن: هل نجا شيء مـــن الحرق؟ قالت مشيرة إلى خاتمها: لم يبق إلا هذا الخاتم.فقالت لها: متى صنعت هذا الخاتم الرائع؟ قالت: لو سألتني هذا السؤال من قبل لما حرق بيتي.أما الرجال فبمجرد أن يسلّموا على أحد يسألونه من أين جئت؟ وأين تذهب؟ لماذا جئت؟ كم دخلك؟ متزوج أم أعزب؟ كم متزوج أم أعزب؟ كم عندك من الأولاد؟ مع أنهم لا صلة لهم بهذه الأمور.إن الإنجليز - مثلاً - لا يسأل أحدهم الآخر أسئلة شخصية مثل: أين تعمل؟ ما هو مستواك الدراسي؟ كم تكسب؟ بينما يعتبرون عندنا السؤال عن هذه الأمور إنجازا هاما ! الحق أن الذين يهتمون بالأمور الهامة لا يجدون الوقـــــت للتفكير في توافه الأمور كهذه لو كان الناس عندنا مهتمين بالدين، ولو كانوا يعلمون كيف أصبح الإسلام اليوم محاصرًا بين شتى الأخطار والمصائب، وكيف أن الدفاع عنه ونشره في الدنيا يتطلب منا تضحيات جسيمة، لما فكروا في هذا اللغــــو من الأقاويل والأعمال.عندما ينشب الحريق في بيت أحد فلا يجلس مـــع النــاس ليجذب أطراف الحديث، بل يجري ويسعى كالمجانين لإطفاء النيران.ولو أن
الجزء السادس ۷۳۷ سورة رة الفرقان المسلمين فكروا بجدية، ولو كانت عيونهم الروحانية مبصرة لعلموا أن حربا طاحنة تدور اليوم بين الكفر والإيمان.لقد نزل الشيطان بكل جنوده وأسلحته في ساحة القتال، كما أن جيش الرحمن أيضًا قد جاء للقضاء عليه، وستدور بين الفريقين تلك المعركة المصيرية التي يُدَق فيها رأس الشيطان للأبد.وإذا لم يتجنب المسلمون هذه الأمور التي هي لغو ،وعبث، ولم يسعوا لإدراك مسؤولياتهم، فلن يكون أحد حظا.أتعس منهم وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِنَايَتِ رَبِّهِمْ لَمْ تَحِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّا وَعُمْيَانًا )) شرح الكلمات: لم يخروا: حَرَّ: سقط سقوطا سُمع منه خريرٌ.الخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من عُلُو.وقوله خَرُّوا سُجَّدًا فاستعمال الخر تنبيــة علـــى اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح.(المفردات) وخر علينا قوم من بني فلان هجموا علينا من مكان لا يُعرف.(الأقرب) عميانًا: العميان جمع الأعمى.(الأقرب) التفسير : يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم لا يتعاملون بآياتنــــا كالصُمّ والعُمْي، بل يستمعون لها بآذان واعية وينتفعون منـهـا بعيــون مفتوحــة وبصيرة روحانية.لقد قال العلامة أبو حيان في "البحر المحيط" عن قوله تعالى لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صمَّا وَعُمْيَانًا إن النفى هنا متعلق بالصُمّ والعُمي لا بالخرور.وهذا الأسلوب شائع في اللغة العربية، فيقال مثلا: "لم يخرج زيد إلى الحرب جزعًا، إنمـا خـرج جريئا".فليس المراد من هذه الآية أن عباد الرحمن لا يخرون أمام الله تعالى متواضعين منكسرين، بل قد نفى الله تعالى هنا خرورهم في حالة الصمم والعمى،
الجزء السادس ۷۳۸ سورة الفرقان والمراد أنهم "إذا ذُكروا بها أكبوا عليها حرصًا على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم".إن هذه الميزة لعباد الرحمن هي ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بقوله إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (السجدة: ١٦).بينما قال الله تعالى عن الكافرين وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) (الصافات: ١٤-١٥)..أي أن آذانهم لا تسمع، وعيونهم لا تبصر، إذ لا ينتفعون من النصح ولا يعتبرون برؤية آية من آيات الله تعالى.إذا، فإن المؤمنين الصادقين تكون آذانهم مفتوحة كما تكون عيونهم مبصــرة أيضًا.إنهم يصغون إلى آيات الله تعالى ويعملون بها بدون توقف للانتفاع منها.بيد أن هناك معنى آخر لهذه الآية وهو أن عباد الرحمن إذا تليت عليهم آيات الله فلا يؤمنون بها إيمانًا أعمى، بل يؤمنون بها إيمانًا واعيًا مدعمًا بالأدلة والبراهين.وقد بين الله تعالى هذه الحقيقة أيضًا في قوله تعالى قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَن اتَّبَعَني ) (يوسف:١٠٩)..أي قُلْ للكافرين يا محمد، إنني أدعو إلى الله على وجه البصيرة، ولا أقبل أنا وأتباعي أي قول بدون برهان، بل إن إيماننا مبني على إعمال الفكر والأدلة القطعية التي لا يحوم حولها الشك.ولذلك تجد القـــرآن الكريم قد ندد مرارًا بالذين يؤمنون بدون دليل فقال إنْ هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بهَا مِنْ سُلْطَان إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) (النجم : (٢٤).لقد تبين من هنا أن الإسلام قد أدان خصومه بأنهم يؤمنون بما (النجم:٢٤).لا يقوم عليه دليل سماوي ولا برهان عقلي وإنما يتبعونه اتباعا للأهواء والأوهام.وهناك آيات عديدة أخرى في القرآن الكريم تركز على ضرورة الإيمان المبني على الأدلة والبراهين لا على الظنون ،والأوهام كقوله تعالى ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بكتاب مَنْ قَبْل هَذَا أَوْ أَثَارَةِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ) (الأحقاف:٥)..أي أخبروني ما هي حقيقة الذين تدعونهم وتعبدونهم من دون الله تعالى؟ أروني ماذا خلقوا في
الجزء السادس ۷۳۹ سورة الفرقان الأرض أو أثبتوا لي أن لهم شراكة في ملكوت السماوات.فأتوني بـدليل علـــى بینه صدقهم قد ذكرته الأسفار السماوية النازلة قبل القرآن الكريم، أو بدليل علمي لكم آباؤكم إن كنتم صادقين بمعنى أن عقائدكم الوثنية لا يدعمها أي من الكتب السماوية ولا يدعمها أي دليل مبني على العلم والمنطق، فكيف يصح الإيمان بهــا إذن؟ كذلك يقول الله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِــه يُشْرِكُونَ) (الروم: ٣٦)..أي هل بيدهم أي دليل آتاهم الله على صــدق الشركاء الذين يتخذونهم من دون الله تعالى؟ فكيف يؤمنون بما لا دليل على صحته؟ ويقول الله تعالى أيضًا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَحْرُصُونَ * قُلْ فَللَّه الْحُجَّةُ الْبَالغَةُ) (الأنعام: ١٤٩ - ١٥٠)..أي قُلْ ١٤٩-١٥٠)..للكافرين أي دليل يمكنكم أن تقدّموه لنا على صحة دعاويكم؟ الواقع أنـه لـيـس بيدكم أي دليل، وإنما تتبعون الأوهام والظنون.فقل لهم يا محمد إن الله تعالى يأمر العباد بالإيمان بما ثبت صدقه بالأدلة والبراهين بشكل واضح، أما الشيء الذي لا دليل عليه فلا يمكن أن يكون من عند الله تعالى.كذلك يقول الله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلَنَفْسِهِ وَمَنْ فَعَلَيْهَا ﴾ (الأنعام: ١٠٥)..أي قد جاءكم من ربكم براهين بينة ساطعة، فمــــن أبصر هذه البراهين انتفع واستفاد ومن لم يرها كان من الخاسرين.لقد اتضح من هذه الآيات أن الإيمان الحقيقي عند الله تعالى إنما هو ذلك الذي يكون مبنيا على البصيرة والذي يتمسك به المرء بعيون مبصرة وآذان واعية.أمـــا الذي يؤمن بشيء بدون تحقيق ووعي حقًا فإنه أصم وأعمى بحسب مصطلح القرآن الكريم رغم ادعائه بالإيمان، لأنه لا يكون راسخ القدم على دينه كما لا يكون لــــه نصيب من بركات قرب الله تعالى.: عَمِيَ ومن معاني قوله تعالى (لَمْ يَخرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً أنهم إذا ذُكِّروا بآيات الله لا يتعثرون مثل المنافقين والكافرين.لقد أخبر الله تعالى في القرآن الكريم خلال الحديث عن هجوم القبائل العربية كلها على المدينة في غزوة الأحزاب أن المنافقين
الجزء السادس ٧٤٠ سورة الفرقان أخذوا يقولون ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُوراً (الأ - لُهُ إِلا غُرُوراً (الأحزاب:١٣)..أي أن ما وعد الله ورسوله به من الفتح كان وعدًا باطلاً.أما المؤمنون فقال الله تعالى عنهم أنهم لما رأوا الأحزاب ازدادوا إيمانًا ويقينا وقالوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ )) (الأحزاب : ٢٣)..أي أنها تلك الجنود التي قد وعدنا الله ورسوله بها، وقــــد تحقق ما قال الله ورسوله.وهذا يعني أن المنافقين تعثروا عندما تحقق وعد الله تعالى، بينما ازداد المؤمنون إيمانًا وطاعة.كذلك إذا أظهر الله تعالى آية لنصرة دينه فـــلا ينتفع بها المنافقون الذين تحترق قلوبهم حسدًا وكمدًا برؤية هذه النصرة الإلهية، بل يسخرون ويستهزئون بها ويسعون جاهدين ليحطّوا من عظمة تلك الآية، أما المؤمنون فعندما يرون آيات الله تعالى يفتحون آذانهم الباطنية فيدخل النور الرباني في قلوبهم بقوة أشد، ويجلون عيونهم الروحانية فيزدادون معرفة بالله وحبا له الله.وقد صرح الله تعالى عن المنافقين في آية أخرى فقال أُولَئكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (محمد: ٢٤)..أي برغم أن آيات الله تعالى تنزل كالمطر، وأن القرآن الكريم يحيي الموتى، وأن الخير حل محل الشـــر، وأن التقــــوى والطهارة أخذت مكان الفسق والفجور، وأن العدل والإنصاف جاء مكان الظلم والجور، والوفاء والإخلاص مكان الغدر ، إلا أن المنافقين لا يتورعون عن شرورهم، مما يدل على أن عيونهم الروحانية عمياء وأن آذانهم الباطنية مسدودة.لو كانـــــت آذانهم مفتوحة لتدبروا آيات الله واهتدوا بها، ولو كانت عيونهم مبصرة لارتدعوا عن شرورهم برؤية آيات محمد رسول الله ومعجزاته ، ولكنهم قد سدوا طريقي الهداية كليهما، لذلك أصبحوا عرضة للعنة الله رغم انضمامهم إلى جماعة المسلمين.فمهما ظهرت أمامهم الآيات العظيمة فليس دأبهم إلا أن يولوا ظهورهم عنها كأنه لم يحدث شيء إطلاقًا، ويزدادون نفاقًا.ولكن المؤمنين ليسوا مثلهم، بل تُغضـــي عيونهم أمام ربهم برؤية آياته وتصغي آذانهم إلى أحكامه تعالى.فعندما يرتفع النداء من الإسلام فلا يتلقونه بآذان صمّاء، بل يستمعون له وكأنهم كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر.وكلما تشاهد أعينهم آية ربانية لا يعرضون عنها، بل يفرحون بهــــا شاكرين بأن الله تعالى يجلّي عليهم بوجوده من خلال آياته البينات.
الجزء السادس ٧٤١ سورة الفرقان باختصار، فإن المؤمن الصادق يزداد قربا من الله تعالى عند ظهور آياته، وأمـــــا الكافر أو المنافق فيزداد كفرا ونفاقا ويصبح أسوأ حالاً أسوأ حالاً من ذي قبل.تعني أيضًا بيد أن آيات ربهم هنا لا تعني الآيات القرآنية أو المعجزات الإلهية فقط، بل جميع العلماء الربانيين والمصلحين الذين يبعثهم الله تعالى في الأمة ليهدوا الناس إلى الصراط المستقيم بعد انحرافهم عنه.فلا شك أن هؤلاء القوم أيضًا يُعَدّون آيات رَبِّهم كما سمى الله تعالى المسيح وأُمَّه - عليهما السلام – آيةً في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون: ٥١).من وقد سبق أن بينا عند شرح الكلمات أن "الخرور" يعني الهجوم أيضا، وعليــــه فإن الله تعالى قد نبه بقوله وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بآيات رَبِّهِمْ لَمْ يَحْرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُميانا أن من علامات عباد الرحمن أن الله تعالى إذا بعث مأمورًا أو مصلحا من عنده إبان غلبتهم وحكمهم ليحذرهم من تقصيراتهم، فلا يهجمون عليه مغرورين بقوتهم وغلبتهم غير مبالين بالعواقب كما فعل بعض الملوك المسلمين التعساء ببعض أولياء الأمة، فصبّوا عليهم صنوف الأذى والتعذيب.كلا، بـل إن عبـاد الرحمن يسارعون إلى إصلاح أنفسهم وتدارك أخطائهم بــدون تردد.إنهم لا يفكرون بأنهم ذوو قوة ومنعة وأن الذي ينصحهم شخص ضئيل الشأن، بل إنهـــــم يُصغون إليه كونه مبعوثا من عند الله تعالى، مدركين أنهم إذا لم يستجيبوا لندائه فإن الله تعالى سيدمر دنياهم مع عاقبتهم.وكأن عباد الله الأطهار يظلون فقراء إلى الله ومستعدين لتلبية ندائه، بعيدين كل البعد عن الكبر والأنفة، رغم كونهم ملو على الناس.وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا قُرَّةَ أعيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أَوْلَيكَ تُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ Vo
الجزء السادس ٧٤٢ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَلِدِينَ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا : ۷۷ سورة الفرقان ٧٦ فِيهَا で شرح الكلمات : إمامًا: الإمام: مَن يُؤتم به..أي يُقتدى به.(الأقرب) غرفة الغرفة العليّة (أي الحجرة في الطابق العلوي)؛ السماء السابعة.(الأقرب) صبروا الصبرُ : تركُ الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله؛ فإذا دعــا الله العبد في كشف الضر عنه لا يُقدَح في صبره.وقال أبو البقاء) في الكليات: "الصبر في المصيبة".وصبر الرجلُ على الأمر : نقيضُ جَزِعَ أَي جَرُقَ وشجع وتحلَّدَ.وصبَر عن الشيء: أمسك؛ وصبر الدابة: حبسها بلا علف؛ وصبرتُ نفسي على كذا: حبستها، تقول: صبرتُ على ما أكرَهُ وصبرت عما أحب.(الأقرب) " وفي البصائر للمصنف : الصبر في اللغة الحبس والكف في ضيق.فالصبر: حبس النفس عن الجزع وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش".(تاج العروس) فالصبر يعني: الامتناع عن السيئات، والثبات على الحسنات، وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى بدون جزع وفزع لا باللسان ولا بالجوارح ولا بأي طريق آخر.: التفسير : يقول الله تعالى إن من علامات عباد الرحمن أنهم يدعون الله دائما ويقولون: ربنا أعطنا قرة أعين من قبل أزواجنا وأولادنا، واجعلنا للمتقين إماما.ومن المؤسف جدا أن المسلمين نسوا هذا الدعاء أيضا زمن حكمهم وغلبتهم، وغفلوا عن تربية أجيالهم؛ فخرجت دولهم من أيديهم واحدة تلو الأخرى، واستولى الأغيار على بلاد المسلمين ولو أنهم تحلوا إبان حكمهم بهذه الأخلاق الفاضلة، وظلوا يدعون الله تعالى ليل نهار: ربنا أعطنا من أولادنا قرة أعين، ولم يتهاونوا في تربية أجيالهم لما وُلد في أمة المصطفى له أولئك الملوك الفاشلون الذين اتخذوا تيجانهم وعروشهم سبيلا للانغماس في الملذات والترف وأضاعوا بسوء أعمالهم
الجزء السادس ٧٤٣ سورة الفرقان تلك الدول العظيمة التي قد نالها آباؤهم بتضحيات كبيرة.إنما أصيب المسلمون بهذا التردّي والانحطاط لأنهم نسوا واجبات عباد الرحمن ولما نسوا الله تعالى نسيهم وانتزع منهم.الحكم والملك.لا شك أن ما حصل مؤسف ومؤلم جدا، ولكن المسلمين لو اعتبروا بما حدث بهم في الماضي، واهتموا بتربية أجيالهم اليوم، داعين الله تعالى أن يثبت أولادهم على التقوى والصلاح في حياتهم وبعد مماتهم ويجعلهم قرة أعين لهم دوما، لكــــان بوسعهم أن يستردوا ذلك المتاع الذي فقدوه.عليهم أن لا يفقدوا الهمم، عليهم أن لا يدعوا القنوط يقترب منهم، لأن الله تعالى يقول هنا إن المؤمنين لا يرضون بالمراتب العادية، بل يدعون الله تعالى أن يجعلهم أئمة ولكـــن أئمــة للمتقين لا هي لغيرهم.قد يقول قائل هنا: كيف يمكن أن يصبح كل مؤمن إمامًا في وقت واحد؟ فليكن معلوما أن الرجل لو سعى لتكون زوجته ملمة بمسائل الدين ومواظبـــة على الصلاة وتساهم في الخدمات الدينية وتربي أولاده تربية حسنة، أصبح الرجل إماما والزوجة مأمومة.كذلك إذا اهتمت الأم بتربية أولادها تربية عالية صارت إمامًا وأصبح أولادها مأمومين، وكل ما يفعله أولادها من خير سيكتب في سجل أعمالها.إن الأم ستكون راقدةً في قبرها، ولكن أولادها حين يصلون صلاة الفجر، فستكتب الملائكة في السجلات أنها هى التي تصلي الفجر.كذلك لو أنهــا ربت أولادها على أداء صلاة التهجد، فعندما يصلون التهجد ستكتب الملائكـــة صلاتهم هذه في سجل أعمالها أيضًا.ونفس الحال بالنسبة للرجال.فكلما تسببوا في هداية الناس أكثر ، كانوا شركاء في أعمالهم الحسنة وهذا يصبحون أئمــة والآخرون مأمومين.إذًا، فإن الله تعالى قد بين هنا أن عباده الأطهار لا يبرحون يدعون الله تعالى لرقي أولادهم في أمور الدين والدنيا، كي لا يظل نور الإيمان الذي ينير قلـوبهـم محصورًا في أنفسهم فقط، بل ينتقل من جيل إلى جيل إلى يوم القيامة، ولا يأتي زمن يركن فيه أولادهم أو أتباعهم وتلاميذهم إلى الدنيا يؤثرونهــا علــى أحكام الله
الجزء السادس ٧٤٤ سورة الفرقان ورسوله.لقد ذكر الله تعالى من أكبر محاسن إسماعيل لي أنه ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصَّلاة والزَّكَاة )) (مريم : ٥٦)..لكي يدوم حُكم الله الأحد الواحد في الدنيا، ولتقام الصلاة وتؤدى الزكاة بدون انقطاع إلى الأبد.وهذا هو واجب المؤمن وفريضته، أي عليه أن لا يتغافل أبدًا عن تربية أولاده تربية حسنة، وأن يدعو الله تعالى دومـــا بأن يتولى بنفسه هو تعليمهم حتى يحملوا لواء الإسلام عاليًا، ويرفعوا اسم محمد رسول الله في العالم دائما أبدا.ثم يقول الله تعالى أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً..أي أن الذين يعملون هذه الحسنات ويسعون جاهدين لتربية أجيالهم تربية صالحة، ويدعون الله لهم ليل نهار، سنعطيهم مقامات رفيعة يوم القيامة جزاء على صبرهم أي على امتناعهم عـــــن السيئات وقيامهم بتربية أولادهم تربية حسنة وتثبيتهم أجيالهم على طريق الصلاح والخير.كما يتلقون رسالة سلام من الله تعالى، ولن يتلقوها مرة واحدة، بـــل سيصلهم السلام من الله تعالى باستمرار.وكأنهم كما حفظوا أولادهم في الدنيا من شتى السيئات من كذب وغش وسباب واغتياب وخيانة وظلم وفساد وسفك دماء وسرقة وبهتان واستهزاء وانحياز ولغو وما إلى ذلك، وبالتالي نشروا السلام في الدنيا، كذلك سيقول الله لملائكته حين يدخلون الجنة: هؤلاء عبادي الذين تلقى الناس من قبلهم السلام دائما، فاذهبوا بهم وأدخلوهم في دار السلام التي يتمتعون فيها بسلام دائم.ثم إن الغرفة تعني السماء السابعة أيضًا كما بينا عند شرح الكلمات، وعليــــه فستعني هذه الآية أن عباد الرحمن الذين عاشوا في الدنيا بتواضع وعدل وإنصاف، وأطاعوا أحكام الله تعالى وقت النهار، وظلوا في ظلمات الليل سُجدًا وقيامًا يدعون الله تعالى ويتوسلون إليه في بكاء وابتهال، فإن الله تعالى سيرفع درجاتهم يوم القيامة حتى السماء السابعة..وبتعبير آخر إنهم سيقيمون مع إبراهيم العليا لأنه مقيم في السماء السابعة نفسها (مسند أحمد: الجزء الرابع ص :۲۰۷ حديث مالك بن صعصعة).وقد أشار النبي أيضًا إلى هذا المعنى في حديث له إذ قال: "إذا تواضع العبد رفعه الله
الجزء السادس ٧٤٥ سورة الفرقان إلى السماء السابعة" (كنز العمال مجلد ۲ ص ٢٥ في الأخلاق من قسم الأقوال، الترمذي: أبواب البر والصلة، باب ما جاء في التواضـ وحيث إنهم قد تذللوا وتواضعوا لوجه الله تعالى، فإنه سيمنحهم أرفع مقام وأسمى منزلة من قربه تعالى.ولما كانت هذه الآيات تختص بفترة يهب الله فيها للمسلمين الحكم والغلبة على الأرض، فإن قوله تعالى أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بمَا صَبَرُوا يعني أن عباد الرحمن الذين يتحلون بالأخلاق الحميدة حتى إبان حكمهم على العالم، فلا يشنون الهجوم على الدول الضعيفة مغرورين بسلطانهم وقوتهم، ولا يهضمون حقوق الآخرين ولا يقضون لياليهم في الانغماس في الملذات من شرب خمر ورقص وغناء، بـل يبيتون في ذكر الله وعبادته، ويدعونه أن يحفظهم من التردي والانحطاط، وينقذهم من جحيم السيئات والغفلة والتساهل في الدين والبعد عن الله تعالى، ولا يسرفون في النفقات مهدرين أموال القوم في الملذات ولا يبخلون في إنفاقها في محل الإنفاق، أي لا ينفقونها في غير محلها، كما لا يكنزونها بحيث يموت القوم جوعًا وإفلاسا، فلا ينفقونها للنهوض بالقوم على إنشاء المدارس والكليات وحفر الآبار وبناء المستشفيات ومكاتب البريد وإنشاء المصانع وما إلى ذلك؛ وأنهـــم يعملـــون جاهدين لإقامة التوحيد وتبليغ الإسلام ونشره على نطاق واسع؛ وأنهم لا يسفكون الدماء بغير حق مغرورين بقوتهم وأنهم لا يزنون، ولا يشهدون شهادة الزور إرضاءً لرؤسائهم وتملقا لهم؛ وأنهم يحترزون من اللغو كالسينما والخمــــر والميســــر والتدخين والمخدّرات وأنهم إبان حكمهم وغلبتهم عندما يسمعون اسم الله تعالى ترتعد فرائصهم خشية وخوفا، وأنهم كلما نصحهم أحد له ساعين لتدارك أخطائهم، وأنهم يدعون دائما بأنك ربنا قد وهبت لنـا الحكـــم بفضلك، فنسألك الآن أن تكون أجيالنا أيضا أهلاً للحكم، فترفع اسمك عاليـــا وتكون لنا قرة أعين؛ فإن الله تعالى لن يضيع هذه الحسنات العظيمـة والأدعيـــة المتواضعة من قبل هؤلاء العباد الأطهار، بل سيمنحهم بفضله الغلبة على الدنيا باسم الله كلها؛ ولن تبقى بقعة من بقاع الأرض إلا وتدوّي باسم الله ورسوله.تعالى يستمعون
الجزء السادس ٧٤٦ سورة الفرقان صل قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاما ) شرح الكلمات : ۷۸ ما يعبأ : عَباً له: قصد له ما عَبَأْتُ به شيئا لم أعدّه شيئا.ما عبأْتُ به: ما كان له عندي وزن ولا قدر ما أعبأ به: ما أُبالي به (الأقرب).هم.لزاما : اللزام الموتُ؛ الحساب الملازم جدا؛ الفصلُ في القضية.(الأقرب) التفسير : بعد ذكر علامات عباد الرحمن يقول الله تعالى لرسوله : عليك أن تبلغهم رسالتي أنهم إذا صاروا عباد الرحمن كما وصفتهم من قبل، فسوف يستحقون كل إعزاز وتكريم عندي، أما إذا لم يواظبوا على الدعاء والاستغفار، ولم يجعلوا التواضع والخشوع والإنابة إلى الله تعالى شعارا لهم، فلن يبالي الله وإن حرف ما في قوله تعالى مَا يَعْبَأُ بِكُمْ يمكن أن تكون نافيــــة أو استفهامية، لكن المفهوم واحد في الصورتين.فلو كانت نافية فالمعنى: قل لهم، أيها الرسول، إنكم إذا لم تدعوا الله تعالى ولم ترجعوا إليه بالتواضع والخشوع، فإن الله تعالى لن يبالي بكم.وأما إذا كانت ما استفهامية فالمعنى: يا أيها الرسول، قــــل لهم إنكم إذا لم تدعوا الله تعالى ولم تتضرعوا إليه، فماذا يبالي الله بكم، وما حاجته إليكم؟ إنه في غنى عن العالمين، بل يسد حاجات الجميع لأنه صمد.والحق أن الإنسان لو تدبّر في حالته لأدرك بسهولة أن الله تعالى ليس بحاجة إليه بتانا، بل الإنسان هو المحتاج إلى الله في كل حين وآن يظن بعض الناس لغبائه أنــــه يمن على الله تعالى بصلاته وزكاته وحجه – والعياذ بالله – ومن أجل ذلك تجده إذا أصابته مصيبة قال: لا أدري لماذا أصابني الله بهذه المصيبة! مع أني أصلي وأصوم وأحجّ وأزكي أموالي وأعمل بأحكام الدين الأخرى؟ وكأنه يظن في نفسه أن الله تعالى قد أساء معاملته.
الجزء السادس ٧٤٧ سورة الفرقان كان المسيح الموعود اللي يقول : إن شخصا مات ولد له، فزاره صديقه يعزيه، فصرخ وأخذ يبكي بصوت عال ويقول: إن الله قد ظلمني ظلما عظيما.وكأنــــه كان يقول أن الله تعالى قد هضم حقه – والعياذ بالله – لذلك كان يشتكي منــــه.على المرء أن يفكر كيف يمكن أن يكون للعبد حق على الله تعالى؟ إنني أتعجب دائما من الذين يتفاخرون بصلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحبّهم وتقو وصلاحهم، ثم إذا أصابتهم مصيبة يصرخون ويقولون : إن الله تعالى قد ظلمنا ظلما عظيما.ولكن ذلك الشاعر الهندي الشهير الذي كان جاهلاً بالدين ومدمنا على الخمر، قال في ساعة حق: جان دی، دی ھوئی اسی کی تھی حق تو یه هے که حق ادا نه هوا (دیوان غالب ص ١٥) أي قد ضحيت بنفسي في سبيل الله تعالى، ولكنها كانت هبة منه تعالى، فالحق أنني لم أستطع أن أؤدي حقه.على الإنسان أن يفكر من أين جاءه كل ما عنده؟ عليه أن ينظر إلى حقيقة ذاته وقدره.فهل عنده شيء يمكن أن يقول بأنه ملك له حقا؟ فمثلا يقول الإنسان: زوجتي، ولكن هل فكر من أين جاءته زوجته؟ ثم يقول: أولادي، ولكن هل فكر من ذا الذي آتاه الأولاد؟ ونفس الحال بالنسبة إلى كل ما يظن أنه ملك له من دار وأرض وغيرهما من الأشياء.لو فكر المرء في حقيقة هذه الأشياء لأدرك بسهولة أنها ليست ملكا له، إنما هي عطايا وهبات من الله تعالى؛ ومع أن العطية لا تسترد إلا أن كل ما يُعطى الإنسان يُستردّ منه في نهاية المطاف؛ فثبت أن ما عند الإنسان ليس عطيةً أيضًا، إنما أُعطيه على سبيل الإعارة، ومن أعارك شيئًا يحق له أن يسترده منك متى شاء.وقد بين أحد الشعراء العرب هذه الحقيقة في الأبيات التالية: أنت الذي ولدتك أمك باكيا والناس حولك يضحكون سرورا فاحرص على عمل تكون إذا بكوا في وقت موتك ضاحكا مسرورا
الجزء السادس ٧٤٨ سورة الفرقان أي أنت نفس الشخص الذي ولدته امه وهو يبكي – لأن كل مولود يبكي بعد الولادة - وكان الجالسون حولك يضحكون فرحة بميلادك.فعليك الآن أن تعمل أعمالا صالحة حتى إذا متَ كنتَ ضاحكا مسرورًا بأنك ذاهب إلى ربّك لتنال منه جزاء حسنًا على أعمالك، بينما يكون الناس حولك يبكون لأن إنسانا صالحا قــــد انتزع من بينهم.فيقول الله تعالى قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ..أي ما هو قدْرُكم وما هي حقيقتكم حتى يكترث الله لكم؟ إذ لولا أن الله تعالى قد هيأ الأسباب ليعـــود بالإنسان إليه منةً وإحسانا وإحسانا منه، ولولا أنه تعالى أخذه من الفرش إلى العرش، فمـا قيمة الإنسان في حد ذاته حتى يوليه الله هذه العناية؟ إنما هـو فضل الله تعالى وإحسانه أنه رفع الإنسان وكتب له الرقي.وقوله تعالى (لَوْلا دُعَاؤُكُمْ يعني أيضا "لولا دعاؤه إياكم لطاعته"..أي لولا أن الله تعالى فرض على نفسه أن يدعو عباده لطاعته ويهيئ لهم أسباب الرقـــي لم يكن قدرهم أكثر من حفنة من تراب إنه لمن فضل الله البحت أنه يبعث المأمورين والمصلحين من عنده عند ضلال الناس لكى يعودوا بالضالين التائهين إلى صراطه المستقيم ثانية.فيُعزّ الله تعالى أمما منهارة بواسطة هؤلاء المصلحين، ويجعـــل قومــا خاملي الذكر أساتذة للعالم وملوكا.فلولا أن الله تعالى أراد أن ينزل وحيــــه للناس، لما تفضّل عليهم لهذه الدرجة ولما خلق لهم السماوات والأرض، فإنما هـو الله تعالى ومنّته أنه قد أعز الناس وأكرمهم بدعوته إياهم إليه.خذوا مثلا النبي لقد كان يعيش خامل الذكر منقطعًا عن الناس، عابدا ربه وحده في غــار حراء، معرضًا عن كل أسباب الرقي المادي، ولكن ملاك الله تعالى يأتيه ويقول له: فإن الله يدعوك.فأخرجه الله تعالى من زاوية الخمول وجعله على العالم، ووهب له الرقي والازدهار حتى أصبح طابعه هو الطابع الغالب علــى الــدين والسياسة والحضارة والتمدّن وصار خدامه أساتذة للعالم في كل فن ومحال بدون أن يلتحقوا بالجامعات أو يقوموا بالبحوث في المختبرات.وسبقوا العالم في كل مضمار دخلوا فيه.إذا لم يكن هذا موهبة من الله تعالى فما هو إذا؟ فضل ملگا
الجزء السادس ٧٤٩ سورة الفرقان يقول أحد الصحابة إن النبي الله أعطاه درهما ليشتري له كبشا ليقدمه قربانـــا.ففكر الصحابي أنه لن يجد في المدينة بهذا المبلغ إلا كبشًا واحدا، ولكنه سيشتري به في الريف اثنتين.فذهب إلى قرية واشترى بالدرهم كبشين.وعندما رجع إلى المدينة سأله أحد: هل تبيع لي أحدهما ؟ قال : نعم.فباعه الكبش بدرهم، ورجع بالكبش الآخر والدرهم، وحكى للنبي ﷺ قصته، فسر ودعا له.علما أن العـــرب لم يكونوا تجارا ماهرين كالفرس والرومان، ولكن هذا الصحابي يقول إنه ببركة دعاء النبي أصبح خبيرا في التجارة حتى إنه لو اشترى التراب باعه ذهبًا، حتى كـــــان الناس يكرهونني على أن آخذ أموالهم لأتاجر بها، ولكني كنت لا أستطيع ذلك.هذا مثال حي على صدق قوله تعالى لولا دُعَاؤُكُمْ لم يكن وراء ما فعل العرب خبرتهم وذكاؤهم، إنما نداء الله تعالى الذي ارتفع، فلباه النبي ، فتقــــدم ببركة ذلك وارتقى، فتبعه أتباعه فراحوا يتقدمون ويزدهرون.شأنهم شـــان المـــرء الذي يركب حصانا، فيركبه معه سرواله وقميصه وثيابه الأخرى.ثم لم يزل الصحابة يتقدمون ويتقدمون حتى سقطت في أيديهم خزائن قیصر وکسری وأصبحوا ملوكا على بلاد عظيمة.وكما قلت إن هذا كله لم يكن إلا تحقيقا لقوله تعالى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ، إذ لم تكن بعثة الرسول ﷺ إلا نتيجة لفضل الله تعالى، ثم لما تقدم النبي التقدم وراءه من ،تبعه ومن أجل هذه الحكمة نفسها قال الله تعالى كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ (التوبة : ۱۱۹)، ذلك لأن الله تعالى حين يفتح للصادقين بوابة رحمته يدخل منها من كان في معيتهم أيضا.والمعنى الثاني لقوله تعالى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) هو "لولا تضرعكم إليه"..أي لـــن يبالي الله بكم إذا لم تدعوه وتبكوا وتبتهلوا وتخروا في حضرته في تواضع وخشوع، وتقولوا: ربنا، ليس لنا أي حق عليك ولكن أحسن إلينا كرما وفضلا منك.والحق أن جوهر الدين وروحه وخلاصته هو الدعاء.ولكن لا الدعاء أن يعني يردد الإنسان بلسانه بعض الكلمات ويظن أنه قد دعا بالفعل.كلا، إنما الدعاء أن يذوب الإنسان على العتبة الإلهية، والدعاء إنما يعني أن يموت الإنسان موتًا، والدعاء إنما يعني أن يصبح الإنسان نموذجًا متجسدا للتذلل والتواضع.إن الذي يردد بعض
الجزء السادس ٧٥٠ سورة الفرقان الكلمات على سبيل التقليد بدون أن يتولد فيه التذلل والخشوع، وبدون أن ترتعش كل ذرة من قلبه وعقله وكيانه بموجات كهربائية لمحبة الله تعالى، فإنه يسخر بالدعاء، ويضيع وقته، بل يثير غضب الله تعالى.فلا تدعوا دعـــاء يخـرج مــــن حلقومكم فقط دون أن يُحدث وجدًا ولوعة في بواطنكم.إنه ليس دعاء، بل هو أداة الشيطان تثيرون بها غضب الله وقهره.عندما تدعو ينبغي أن تكون كل ذرة من كيانك شاهدة على جلال الله تعالى وأن تعكس كل خلية من دماغك قدرة ربك؛ وأن تكون كل كيفية من وجدانك تتمتع بعنايات ربك؛ عندها، وعندها فقط، تُعتبر من الذين يدعون الله تعالى حقا.إن هذه الحالة من الدعاء تبدو صعبة المنال، ولكن الذي يبني إيمانه على عشــــق ربه تعالى، فلا شيء ، أسهل عليه من هذه الكيفية من الدعاء، بل إن هذه الحالـة أن تدخل في خواص طبعه، فيتمتع بها كل حين وآن إن مثل هذا الإنسان لا يحتاج يبتعد عن الناس ليجلس على السجاد فيدعو الله تعالى في الخلوة، بل إنه يدعوه في الخلوة والجلوة.عندما يتكلم هو بكلام آخر أو يرى مشاهد أخرى، فإن روحه تكون ساجدة على عتبة مالكه وخالقه، وتسأله الرحمة له وللدنيا كلها.ولكن الله تعالى يقول فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِرَاماً..أي أنكم ما دمتم قد كذبتم رسالة الله، فلا بد أن تذوقوا وبال ذلك، وسترون أن عذابه سيلازمكم..أي سيطول بكم، فتضرب عليكم الذلة والمسكنة في الدنيا، كما تبقى أجيـــا أجيالكم أيضا محرومة من كل بركة.ما أشد هذا الوعيد وما أخطر هذا الإنذار ليت أهل الدنيا يدركون هـذا الأمر.ليتهم لا يدمّرون عاقبتهم.ليتهم يصلحون أنفسهم.ليتهم يصغون إلى كلام الله تعالى، حتى يعتني بهم ذلك الواحد الأحد، فيطهر قلوبهم، ويحتضنهم في أحضان حبه مرة أخرى.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1) فهرس المواضيع
ملحقات ١٦٩ ۰۲۱ ٦٨٤ ٥٨٢،٧٤٦ ۱۹ ۱۹ ۵۳۹ ۳۹۰ ٥٢٤ هو أحسن الخالقين تنزهه تعالى عن العيب ودليله الخبير ليس الله بغافل عن نظام العالم الصمد القدير معنى "على كل شيء قدير" حقيقة القدر الذي قدّره حقيقة كون الله نورا الإله الكثير البركات دحض قول الفلاسفة أن علم الله كلي لا جزئي ١١٧ 0.1 ٥٣٠ ۵۳۹ ١٤٢ ۱۸۸ ٦٧٨-٦٧٩ VV الجزء السادس الله الله لا دين بدون الإقرار بوجود الله تعالى تصور الإله في الإسلام والأديان الأخرى دليل على وجود الله دليل على وحدانية الله لا ولد ، ولا إله إلا هو فطرة الملحدين تقر بوجود الله ضرورة نسبة الخير كله لله تعظيم شعائر الله معنى كون يوم ا الله كألف سنة صفاته تعالى صفاته التنزيهة والتشبيهية أربع صفات إلهية اقتضت خلق الكون عدم فهم صفات الله سبب إنكار توحيده الاكتشافات العلمية سهلت فهم صفاته الإسلام وحده قدم فكرة رب العالمين صفة الله الرحمانية والرحيمية ٦٨٢ ۲۸۲ ۱۱۷ ۱۱۸ ٥٢٨ ٦٨٣ ٦٨٨ - ٦٨٩ الرسول والقرآن دليل على الرحمانية ٦٨٦ وجود أولياء الأمة برهان على الرحمانية ٦٨٦- ٦٨٧ الرحمانية تدحض المسيحية عواقب إنكار الرحمانية رحمة الله وشفقته رحمة الله لا تختص بقوم دون قوم كم يريد الله أن يتوب عبده الآثم المالك والملك السميع والعليم السميع من يسمع.دعاء الناس لسد حوائجهم الله المحيي والمميت الدعاء وينصر المظلوم يسمع مظاهر صفتيه الإحياء والإماتة ٦٩٢ ٢٨٤ ٢٦٩ ۵۲۸ ۸ ۹۳ ٣٤٩ ٩٦ ٦٧٧ ،۱۰۳ ۱۰۳ من غضب الله عليه لم يكلّمه طرق التقرب إليه أهمية لقاء الله خدمة الخلق طريق للقاء الله طريق كسب العزة عند الله طرق نيل نصر الله الآخرة (راجع الحياة) الآداب ۲۸۰ ۵۸۹ ۳۳ ٤٧ ٢٩٧، ٣٤٦ آداب الدعاء آداب المجلس آداب المجالس العامة آداب مجالس الشورى ٧٤٩ ٥٠٢ ۳۰۱ ٥٠٢ كان الرسول الله يكثر من الاستغفار في المجالس ٥٩٧ آداب الدخول في بيوت الآخرين ٢٩٩، ٣٦٠ آداب النقاش الديني في الإسلام ضرورة أدب شعائر الله فكرة "الناسخ والمنسوخ" مناف لآداب القرآن ۳۰۷ الآريا (راجع الهندوس)
ملحقات الآية البسملة أول آية من كل سورة شرح الآية "هو سماكم المسلمين" "اليوم أكملت لكم دينكم" آخر آية نزلت ۱۳۵ ۱۳۰ ٢٣٤ قول يهودي: لو علينا نزلت "اليوم أكملت لكم" لاتخذنا يوم نزولها عيدا "وإنا على ذهاب به لقادرون" نبأ عن إدبار الإسلام وبعثة نبي تابع من الأمة استفسار عائشة عن الآية "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة" الحكمة في ترتيب الآية "الزانية والزاني" الرد على اعتراضات على آية "الاستخلاف" آیات عن حرية الضمير آية سهلة جعلها المفسرون خطيرة الربانيون ومصلحو الأمة بمعنى الآيات الإلهية الابتلاء الاختبار الابتلاء أهم وسيلة لرقي الأمم الابتلاء يميز بين المخلص والزائف خطة عمل في أيام الابتلاء إتمام الحجة (راجع أيضا العذاب) ينزل العذاب بعد إتمام الحجة الإثم (راجع الذنب) الاجتماع (راجع التمدن) الاحتكار الاحتكار ممنوع الأحمدية (راجع المسيح الموعود أيضا) ميزاتها وأغراض نشأتها ميزات الأحمدية ٥٧٥ ١٨٤ ۲۲۰ ۳۱۸ ٤٧٨ ۸۰ ٧٤١ ۵۸۷ ۲۱ 017 1.1 ٤٢٨ ٦٢٨ الجزء السادس أقام الله اليوم الأحمدية وأيدها بسيف القرآن ٦٣٤ غرض تأسيسها نشر الإسلام في العالم كله ٥٣٢، ٦٤٩ الأحمديون والجهاد ٦٣٤ نجاح الأحمدية في التبليغ سبب قوتها العملية أفرادها يتحلون بالطاعة سبب أمانة أفرادها ٦٣٨ ۲۲۲ حكمة بقاء الأحمدية منفصلة عن المسلمين الآخرين إعلانها التسامح الديني بمناسبة وضع حجر أساس مسجد "فضل" بلندن ليخطب في مسجدنا سماح المفسر لهندوسي ! شهداء أحمديون في كابول عقائدها ٢٨٦ نضم الناس إلى الأحمدية ليشهدوا "لا إله إلا الله محمد الرسول" كل أحمدي جديد يمدد ظل الرسول ﷺ أكثر لا نسخ في القرآن الكريم عندنا الخلافة الراشدة فيها ٦٢٧ ۳۰۷ وجود الخليفة في الجماعة يفرض عليهم العمل بأمر الله حول أمر جامع إذا فقدنا الإيمان بضرروة الخلافة وتركنا الأعمال اللازمة لقيامها حُرمنا منها ٥٠ ٤٥١ طريق استمرار الخلافة في الجماعة إلى يوم القيامة ٤٨٣ وضع المفسر قواعد لانتخاب الخليفة ٤٨٣ النصائح تعليم المسيح الموعود لجماعته بالجهاد المفسر ٦٣٥ يحث على تدارس القرآن بالالتزام ٥٣٣، ٦٠٠ حاولوا أن يجعلكم الله وذرياتكم ظلاً ممتدا للرسول ﷺ على علمائنا تعلم لغات العالم لنشر الإسلام ٦٣١
٦٤٥، ٦٤٩ ۷۳۱ ٦٢٩ ٦٤٩ ۷۱۲ ٦٤٩ الجزء السادس على الأحمديين أن لا يقلدوا الغرب نهي الأحمديين عن ارتياد السينما والحكمة منه هي المسيح الموعود اللي عن الإضراب حكمة النهي عن الزواج مع غير الأحمديين نصيحة مهمة للأطباء الأحمديين الهدف من مشروع "تحريك جديد" الطريق لاتقاء أذى المعارضين الطريق الصحيح لمنافسة جماعتنا 110 ملحقات النهي عن الإسراف V.A مشروع "تحريك جديد" يحفظ الجماعة من الإسراف ٧١٢،٦١٨ الأسرى (راجع الحرب أيضا) أحكام أسرى الحرب الإسلام (راجع أيضا الأحمدية والأمة المحمدية) الإخلاص الإخلاص هو الأصل في كل عمل الأراجيف ضرر الأراجيف والإشاعات الأرامل (راجع الزواج) الارتداد ارتداد عبد الله بن أبي سرح ارتداد العرب بعد وفاة الرسول الاستئناس ۲۲۲ ٦١ ٣٤١ ١٦٩ ١٢٥، ٤٧٤ آداب الاستئذان قبل دخول بيوت الآخرين ٣٥٩-٣٦١ الاستشهاد استعداد عمر وعثمان للاستشهاد إمكانية تفادي قتل عثمان وعلي شهداء أحمديون في كابول الاستغفار أهمية الدعاء والاستغفار ضرورة الإكثار من الاستغفار في المجالس كثرة استغفار الرسول ﷺ في المجلس الإسراف تعريف الإسراف ٤٤٦٧ ٤٦٨ ΣΑΥ ٢٨٦ ٧٤٩ ۵۹۷ ۵۹۷ ۷۱۱ حقیقته المعنى اللغوي للإسلام حكمة اسمه وفلسفته هو دين إبراهيمي هو في آخر حلقة سلسلة الأديان الإسلام دين کامل أساس الإسلام على رضا الله والروحانية وتقويم الأخلاق هدف الإسلام جمع العالم على رب واحد ورسول واحد جاء الإسلام كسحاب الرحمة حقيقة التوكل عند الإسلام خصائصه الشريعة الإسلامة عالمية تعليمها كامل وشامل في جميع أحكام الإسلام حكمة كل أحكام الإسلام نافعة للإنسان الإسلام وحده قدم تصور رب العالمين الإنسان خُلق لحياة أبدية عند الإسلام لقاء الله لب الروحانية عند الإسلام ۱۳۱ ۱۳۱ ۱۳۰ ٥٢٦ ۲۳۳ ٦٤٨ ۵۳۲ ٤٩٤ ٦٧٤ ٤٠٩ ٤٠٩، ٥٧٥ شرعه يستهدف جمع العالم على مركز واحد العالم كله مسخر للإنسان عند الإسلام لم يأمر الإسلام بما هو فوق فطرة الإنسان يراعي اختلاف طبائع البشر ٢٢٦ ۹۷ ٥٢٦ ۲۰۷ ۵۸۹ ۵۳۷ ١٥٤ ٥٢٥ ٢٢٤، ٥٢٤
ملحقات يراعي التيسير والتبشير يأمر بالاعتدال في العبادة للطعام تأثير على الأخلاق عند الإسلام عند الإسلام ظاهرُ العمل يؤثر في الباطن والعكس ٤ الجزء السادس ٢٢٤ ٥٢٤ ۲۱۷ الحقوق السياسية لغير المسلمين رعاية حقوق اليهود والمشركين حقوق العمال عند الإسلام حقوق الحيوانات في الإسلام صحیح ܪ̈ܘ الإسلام يركز على أهمية الروح والجسد معا ٣٥ الجزاء وفق الإخلاص لا ظاهر العمل عند الإسلام ٧٠ تعليم حسن معاملة الحيوانات حث الإسلام على الأمانة أمر بالوقاية من الأمراض المعدية ٦٦٤ ٦٦٨ ٤٢٩ ۲۸۸ ٤٢٤ ۱۵۹ ٤٩٨ ينهى عن اللغو لا يسمح الإسلام بحياة البطالة 101 101 نهي الإسلام عن الخمر نهي عن استخدام آواني الذهب والفضة ٢٥٥ ١٥٢ يعارض احتكار الدين على رجاله الإسلام لا يحصر الدين في عبادات وأذكار يرشد في أمور الحكم والسياسة الجنة خالدة والجحيم غير خالد عند الإسلام ۲۸ ٤٤٦ ٤٤٧ ۷۰۸ ٤٩٤ عقيدة نسخ القرآن منافية للإسلام تعاليمه فضل تعليم الإسلام تعليمه للأُخوّة العالمية تعليمه للتعاون على البر ضرورة خليفة ومرجع للإسلام أحكام إسلامية عن الشورى التسليم شعار إسلامي آداب المناظرة مع الأديان الأخرى آداب المجالس في الإسلام آداب اجتماعية عند الإسلام عدل الإسلام الاجتماعي جانب جميل لتعليم الإسلام الاجتماعي تعليمه عن حب الأقارب تعليمه الرفيع عن الأكل والشرب تأكيد الإسلام على حق الجار ٢٦٥، ٦٥٢ ٤٩٧ ٤٢٥ ٤٥٣ ٥٠٢ 1.0 ۵۰۲ ،۳۰۱ نهي الإسلام عن ذكر عيوب الناس ذكرًا عامًا اتهام أحد دون ثبوت إساءة للشرع ۲۹۸ ٤٩٥ ٤٩٨ ٤٩٧ ٦٦٠ ٣٤٠ ٣٣٥ المرأة في الإسلام حقوق النساء عند الإسلام أحكام الحجاب ينهى عن مصافحة النساء تعلیمه عن تعدد الزيجات أمر بتزويج الأرامل يرى الاختلاط بين الجنسين مدمرا ينهي الرجال عن لبس الحرير والذهب الاقتصاد والتجارة والإنفاق نظام الاقتصاد في الإسلام ۲۸۹ ٢٩٩، ٣٦٥ ٢٦٠ ٢٥٦ ۳۰۰ ۲۹۹ ١٥٢ 217 تعاليمه حول التجارة والصناعة والأعمال ٤١٧، ٤٢٥ ينهى عن الاحتكار في التجارة يعلم الاعتدال في كسب الدنيا ٤٢٨ 210 ينهى عن الإنفاق على الحلي إلى حد يضر اقتصاد البلد الزكاة وأهميتها في الإسلام ١٥٢ ٤٢٠ حكمة أمره بدفع الخمس من المناجم تعليمه عن الإنفاق في سبيل الله ٤٢٣ الجهاد والقتال والحرب والأسرى والرق الجهاد الإسلامي سماح الإسلام بالقتال بشروط أحكام إسلامية منقطعة النظير عن الحرب Vo VO-VE ۲۸۹
ملحقات ٥٧٥ ٥٢٤ ٣٩٤ 1.7 0.1 ٢٥٣ 1.7 ٢٥٤ ٤٣٤ ٢٤٧ ۵۷۷ 110 الجزء السادس تعليم الإسلام المعتدل الحرب عن لا يجوز القتال إلا ضد المقاتلين يمنع من الهجوم لمجرد الاختلاف الديني ٦٧٢ ۷۱۷ أفضلية الإسلام دليل على عالمية الإسلام العالم كله آت إلى الإسلام أمر بضرورة إعلان الحرب قبل الهجوم اعتراف مثقفي الغرب بصدق الإسلام أمر باحترام معابد الآخرين ورجال دينهم حتى في القتال غلبته نبوءة عن غلبة الإسلام فشل النظريات الغربية أمام الإسلام توجه الغرب إلى قبول مسألة تعدد الزيجات استهزاء الغرب بالطلاق الإسلامي ثم إقراره بأهميته بعثة المصلحين عند تفشي الظلام ثورة روحانية واجتماعية في العرب بالإسلام تحقق وعود الفتوحات الإسلامية التدبير الإلهي لحفظ الإسلام داخليا وخارجيا بعثة مجدد عند رأس كل قرن بشرى غلبة الإسلام ثانية عن طريق رجل فارسي ١٨٢ VA ۱۸۳ ۵۳۲ ۱۸۰ ٥٠ ٤٥١ ۲۲۰ ۲۳۰ نبوءة غلبة الإسلام عالميا بعد القرن الثالث عشر الهجري إحياء الإسلام بواسطة المسيح الموعود العلي غاية قيام الأحمدية زمن نهوض الشريعة الإسلامية غلبة التوحيد الذي علّمه الإسلام من سيستحق إنعام الخلافة من تحلى بمحاسن أربعة غلب في الحرب بين الكفر والإسلام ضرورة الدعاء الجماعي لغلبة الإسلام نشره سبب عدم انتشار الإسلام في العالم كله الفعّال لنشر الإسلام السلاح ٦٣٤ ٢٩٥ العمل بأحكام القرآن هو الطريق لرفع الإسلام ٢٣٧ ٦٦٩ هل انتشر الإسلام بالسيف؟ ٦٦٩ ١٥٧، ٣٠٠ ۳۸۰ ١٥٧ ۲۹۰ ٦٥٧ ۳۸۲ ٣٨٥ ٦٦٨ ٣٥٦ ٣٥١ ۳۲۱ ٣٠٦ ۵۸۸ ٤٩٤ ٣٦٣ لماذا رفع الرسول ﷺ السيف على الكفار أحكام الإسلام عن أسرى الحرب الإسلام والرق العبيد "وما ملكت يمينكم" حقوق العبيد والخدم أمر بالمساواة بين العبيد المسلمين وغيرهم أمر بحسن معاملة الموالي أمر بالمكاتبة لتحرير العبيد أمر بقتل المسلم قصاصاً في الذمي الجريمة والقضاء تعريف السيئة في الإسلام تعليم الإسلام عن عقوبة الجرائم إلزام الإسلام القاضي والحكومة كيف سرت عقوبة الرجم في المسلمين؟ مقارنته بغيره الفرق بين الإسلام والأديان الأخرى مقارنة بين الإسلام واليهودية مقارنة بين الإسلام والمسيحية إصلاح كل إنسان ممكن حسب القرآن خلافًا للمسيحية الفرق بين الإسلام والاشتراكية فضل الإسلام على غيره بسبب شرعه الكامل ٦٩٦ ۲۱۹ - ۲۱۷ ٢٢٦ صدقه أدلة على صدق الإسلام ٢٢، ٢٥٠، ٢٥٣، ٢٦٥ ٤٣٢، ٥٢٤
الجزء السادس VV ٦٤٨ ٦٣٧ نبأ ازدهار أعداء الإسلام لألف سنة ثم دمارهم مؤامرة للإساءة إلى الإسلام حرب أهل كافة العلوم ضد الإسلام صار الإسلام مثل زين العابدين في كربلاء المسلمون ٦ ٦٣٥ ۷۱۲ ٥٣٥ ملحقات حملة المسيح الموعود الكلية لنشر الإسلام فتح المفسر مشروع تحريك جديد" لسد حاجات الإسلام على علمائنا تعلم اللغات العالمية لنشر الإسلام تسامحه الإسلام يدعو إلى حرية الضمير والعقيدة نبوءات سابقة عن إطلاق تسمية "المسلمين" على الأمة يقر بمحاسن الأديان الأخرى ويراعي مشاعر أصحابها المحمدية حقيقة المسلم عمل المسلمين بحرية الضمير والتسامح الديني ٦٦٠ صفات المسلم صفات مثالية للحاكم المسلم ٦٦٠،٦٥٥ مواصفات تضمن التأييد الإلهي للمسلم ٦٥٧ حرمة نفس المسلم وعرضه وماله تسامحه غير المسلمين مع أمر بحسن معاملة الجيران غير المسلمين أمر بالتيسير لغير المسلمين في البلد الإسلامي مساواته بين المسلم وغيره في الحقوق المدنية المسلمين أمر الوفاء بالعهد مع غير إنعامات ينالها المسلمون على طاعتهم للرسول ﷺ كقوم سماح النبي الله النصارى نجران بالعبادة في مسجده ٦٥٨ نبوءات الفتوحات الإسلامية وتحققها نموذج في حسن معاملة أسرى الحرب مراعاة المسلمين بمشاعر المهزومين ٦٥٨ ٦٦١ ۱۳۰ ۲۹۳ ۱۳۳ ٧٤٥ ١٤٥ ۲۳۳ ٤٥١ ٥٦١- ٥٦٤ ۳۰۱ وعد رباني للمسلمين بالملك المادي والروحاني تحقق وعود الجنة لهم في هذه الدنيا ۵۷۷ إعطاء المسلمين الحقوق المدنية لغيرهم بالتساوي زمن اعتراف المؤرخ المسيحي "غبن" بأمانة المسلمين ١٦٠ الرسول والخلافة الراشدة ٦٦٨ تمثيل غير المسلمين في مجلس الحكم في الدولة العباسية تأثر نصارى الشام بأخلاق المسلمين شجاعة المسلمين في الحرب ضد نصارى الروم ٥١ ٤٣٨ زوال المسلمين وانحطاطهم نبوءة انحطاط المسلمين روحانيا بعد القرن الثالث ١٨٠ أسباب أساسية لانحطاط المسلمين ٢٦٤ - ٢٦٥ ۵۸۱ ٤٧٠ ٤٥٢ ٧٤٣،٧٤٢ ٧٠٤ ۲۰ 777 إعطاء المسلمين المناصب القيادية لغيرهم مشاركة غير المسلمين في الجيش الإسلامي اعتراف المؤرخين غير المسلمين بتوزيع الحقوق السياسية تأثيرات بعدهم عن زمن نبوي لغيرهم قصة بالتساوي في الدول الإسلامية من القضاء الإسلامي تاريخه ومعارضته تضحيات العبيد في بداية الإسلام أولياء الله الذين أناروا العالم بالإسلام ٦٦٧ ٣٥٨ ٥٤٩،٥٤٨ ٤٤٣ نبأ الرسول الله بأن الفوضى تنتشر في المسلمين بعد القرن الثالث ۱۸۰ حالة المسلمين في عصر علي جريمة الملوك المسلمين الغفلة عن تربية الأجيال في عصر حكمهم نتيجة فسادهم حالة المسلمين عند سقوط بغداد
الجزء السادس V ملحقات إلهام أحد أولياء الله عند سقوط بغداد: "يا أيها الكفار على كل مسلم أن يهب بالقرآن لمواجهة غير المسلمين اقتلوا الفجار" ٧٠٤ العبيد والغناء والموسيقى وراء دمار المسلمين في بغداد والأندلس والهند مسلم اليوم حالة المسلمين اليوم ٧٣٠،٤٨٧ ٦٠٠ ،۱۸۱ ٦٣٥ ٥٧٨ على المسلمين بالإيمان والعمل الصالح على المسلمين أن يؤكدوا عظمة الإسلام بأعمالهم٢٣٧ لو أدّى ستمئة مليون مسلم الصلاة بالخشوع لصار الإسلام غالبًا مسلمو اليوم مصداق لقول الله تعالى "إن قومي اتخذوا على المسلمين أخذ العبرة من التاريخ هذا القرآن مهجورا" ۲۳۰ ٦٣٠ - ٦٣١ ٢٤٠-٦٤٥ استخدامهم القرآن الكريم بطرق مشينة ۵۹۹ ۵۹۹ ٢٥٣ تأثرهم من العقائد المسيحية يعتقدون بنزول المسيح من السماء ! يظنون أن المهدي والمسيح يوزع الأموال المادية يعتقدون بانقطاع الوحي والإلهام يفرون من الجهاد الحقيقي ۵۸۹ ،۲۸۰ ٦٣٤ لو فهموا الجهاد فهما صحيحًا لما شاهدوا هذا الوضع التعيس فهمهم الخاطئ للتوكل ٦٤٢ ۰۰۹ اعتبارهم المتسولين العراة والسفهاء من أهل الله ٥٥٧ تقليدهم أوروبا تقليدًا أعمى أضرار تعليم بناتهم في المدارس المسيحية أكبر عيب في شبابهم الذين يقلدون أوروبا ٦٤٨،٢٦٦ ۳۷۱ ٦٢٤ إما أن تحيى الحضارة الإسلامية أو الحضارة الغربية ٦٤٨ على المسلمين تجنب عبودية الغرب السبيل لرقي مسلمي الهند ثانية ٢٥٨ ثلاثة أوقات يجب عليهم أخذ الحيطة فيها خاصة ٤٨٧ - ٤٨٨ أمور متفرقة كل ما يتعلق برقي المسلمين يدخل في ذكر الله ٣٣ الحج ينفخ في المسلمين روح التمركز موقف أهل السنة عن الصحابة هو الصحيح ۳۹ الغرب أخذ العلوم كلها من المسلمين ٢٤٧ - ٢٤٨ قتل المسلمين في الهند عام ١٩٤٧م ٢٥٨ لم يكن المفسرون المسلمون مطلعين على أسفار أهل الكتاب الإضراب فهي المسيح الموعود القلب عن الإضراب ٦١٣ ٦٢٩ تأثير مدمر لليأس عليهم تأثرهم من التقاليد الهندوسية مصابون بمرض الإسراف تركوا أعمالا ضرورية للخلافة فحرموا منها نصائح للمسلمين الطريق الوحيد لرقيهم ٣٤١ ٤٩٧ ۷۰۹ ٢٦٧ الاقتصاد (راجع المال) الإكراه في الدين فهي الإسلام عن الإكراه في الدين آيات عن حرية الضمير والعقيدة لا يحق للرسول أيضا إكراه الكفار لماذا لا يُكره الله على الهدى سر نجاحهم في الدين والدنيا طاعة الرسول ﷺ ٥٠٨ جواز القتال الدفاعي في حالة الإكراه في الدين ضرورة تأسيهم بأسوة الرسول ﷺ وفهم القرآن ونشره ۵۳۳ ۱۳۷ 141 ٢٢٦ ٧٥
ملحقات الإلحاد (راجع أيضًا الله ) لماذا صار الفلاسفة ملاحدة الإلهام (راجع الوحي) الإمام والإمامة ۳۹۸ نبأ بعثة رجل فارسي لإحياء الأمة نبأ بعثة المسيح المحمدي في الأمة الجزء السادس ۱۸۲ زعم الناس بانقطاع الوحي في الأمة دليل قرآني على استمرار النبوة في الأمة ۱۸۱ ۱۱۹ نظام الخلافة فيها معاني "الإمام" العلاقة بين الإمام والفرد ضرورة استشارة الإمام في كل أمر مهم ٧٤٣ ٥٠٤ ٥٠٤ الوعد بالخلافة في الأمة وعد الخلافة مشروط بالإيمان والعمل الصالح يهدي الله الأمة في انتخاب الخليفة يمكن للإمام أن يتكلم في الخطبة عن أمور اجتماعية ٣٣ هل يحق للأمة عزل الخليفة؟ المساواة في الإمامة الأمانة ۲۸ فقدان الخلافة في الأمة دليل على فسادها ٤٠٠ ٤٦٢ ΕΛΣ ΕΛΕ ٤٦٣ الأمن أمانة الرسول ﷺ أمانة الصحابة الكرام أمانة الملك شاه الأمة المحمدية (راجع أيضا الإسلام) ۱۵۹ ۱۵۹ ١٦٠ صفات أربع ترسي الأمن في العالم الإذن للقتال الدفاعي لقيام الأمن ۲۹۲ ٧٤ الإنجليز (راجع إنجلترا وأوروبا أيضا) الفرق بين الإنجليز والحضارة الغربية النبوءات السابقة عن اسم هذه الأمة ٦٤٨ ٣٥٩ ٣٧٤ ۷۳۰ ٤٧٨ ٣٥٩ ٦٧١ ٣٥١ ٣٦٣ ۵۳۸ ۲۹۳ ١٦٧ وحدة الأمة هي الغاية من طاعة الرسول ۱۳۱-۱۳۰ ضرورة الابتعاد عن المعرضين عن تعليم القرآن الأمة المحمدية كعصر الأمة الموسوية عصر حفظت الأمة من الضلالة بشكل عام حالة الأمة في عصر سيدنا علي ۲۳۵ ٤٧٠ ٤٧٠ دحض زعم الشيعة أنه لم يبق إلا مؤمنان ونصف بعد وفاة الرسول سبب وجود ملوك فاشلين في الأمة هجر المسلمون القرآن اليوم سلسلة الأولياء والمجددين نبأ بعثة مجدد على رأس كل قرن بعثة الأولياء والمجددين لحفظ الأمة أولياء الأمة الذين أظهروا نور الإسلام في كل زمن ٤٨١ ٧٤٢ ۵۹۸ ٥٧٠ ٥٦٧٠٤٤٣ المجتمع الإنجليزي تآمرهم ضد "بهارد شاه" مع زوجته قتلهم اثني عشر ابنا لـ "بهادر شاه" فقر بعض الإنجليز "بيت الإنجليزي حصنه" (مثل) الإنجيل (راجع التوراة والمسيحية أيضا) وجود التعارض في تعاليمه تعليمه غير المتزن عن العفو تعليمه الناقص عن غض البصر علامات المؤمنين حسب الإنجيل الإنسان خَلْقه المادي والروحاني حقيقة الحياة والموت معنى خلق الإنسان من طين
الجزء السادس تشابه بين خلق الإنسان المادي والروحاني المراتب السبع للخلق المادي المراتب السبع للرقي الروحاني غاية خلقه لم يُخلق الإنسان عبثا غاية خلق الإنسان غرض حياة الإنسان في الإسلام خُلق الإنسان للخير بفطرته ۱۳۸ ١٦٧ 177 ١٤٣ ١٥، ٧٠٦۰ ،۳۷ ۲۰۷ ١٥ ملحقات خدمة الخلق وسيلة للوصول إلى الله ٣٣ الإنفاق في سبيل الله (راجع المال) أهل السنة والجماعة موقفهم تجاه الصحابة هو الصحيح الإيمان حكمة وجود الكفر والإيمان معا لا بد من إيمان مبني على الأدلة والبراهين ۷۳۸ متى يكون الله جوارح المرء لا يستفيد إلا من يدوس أنانيته وسيلة لرقي الحضارة الإنسانية الفرق بين جبلة الإنسان والحيوان الإنسان الذي يشبه الجماد والنبات والحيوان نوعان من التطرف في الناس أحط درجات ذل الإنسان لماذا خلق الإنسان مَدَنِي الطبع؟ معنى كون الإنسان أذل من الحيوان أمور متفرقة عن الإنسان الكون كله مسخر للإنسان على الإنسان السعي ليكون مظهرا لصفات الله ٢٩٤ الإيمان الحقيقي يتأسس على البصيرة ضرورة التفكير في غرض الخلق الفطرة الإنسانية خلق الإنسان صالحا بفطرته عطش ديني في الفطرة الإنسانة كل إنسان يشعر بالقوة العليا فطريا الصفات الملائكية في الإنسان معراج الإنسانية معنى تبوء الإنسان مقام التوحيد ۲۸۱ ١٥ ۱۸۸ ١٨٨ ۱۷۷ ۱۷۵ ۲۸۸ ۱۷۸ ٦٢٥ الإنفاق من علامات الإيمان الكامل من علامات الإيمان تلبية نداء النبي فوراً ۷۳۹ ٦٤ من هو صاحب الإيمان الكامل ٥٠٤ ۲۰ الإيمان الذي يورث نعمة الله ۲۰ علامات المؤمنين وصفاتهم علامات عباد الرحمن المؤمن الصادق يرضى بحكم الله ܙܘ ٢٨٥ ١٧٦ ٦٩٧-٦٩٨ 12 ٢٨٥ واجب المؤمنين لنجاح الجماعة الإلهية مقام المؤمن الحقيقي الفلاح وليس النجاة فقط المؤمن يؤمن بناء على الأدلة القطعية المؤمن يخاف ربه دائماً ويصدق كل آيته طاعة المؤمنين للرسول مصدر نجاههم المؤمن مأمور بأن يكون مع الصادقين ،١٤٥، ١٥٠ ،۱۳۷ ۵۱۸ ،۲۲۰ ،١٥٧ ٧٤١ ۲۳۸ ۱۲۱ ١٥٠ ۷۳۸ 141 ٤٥٠ المؤمن يواظب على الصلوات على المؤمن تربية الأجيال الآتية والدعاء لهم ١٦٣، ١٦٨ ٧٤٣ ٦٢٥ ضرورة محاسبة المرء إيمانه إيمان إبراهيم العليمة ۲۰ ٦٧٩ خلقت الدواب لمنافع الإنسان أهمية النوم للإنسان ۹۹ ۱۳۹ ٦٣١ إيمان منقطع النظير للسيدة هاجر ۳۸ البحر ٤٦٢، ٦٠٤ ،۹۰ ،۸۲ ما يُستخرج من قعر البحار ۱۰۰ تحريف الإنسان تعاليم الأنبياء
الجزء السادس ٤٣٧ ۳۷ ۱۹۹ ٧٣٤ ٧٤٢ ٤٣٤ ٥٠٠ ٥٠٠ ٥٠٠ ٤٩٩ 0.1 ٥٠٠ ٤١٣ تأويل رؤيا للرسول ﷺ عن أبي جهل تأويل الحج ٤١٥ ۱۸۷ ملحقات الملاحة البحرية أهم شعبة في التجارة العالمية الأوروبيون حكموا البحار وأخرجوا كنوزها قول الأنصار للنبي ﷺ: والله، لو أمرتنا لخضنا هذا البحر الذي أمامنا نبأ جمع بعض البحار في آخر الزمان معنى قوله تعالى مَرَجَ البحرين ۲۰۲ ۱۸۲ ٦٤٤ دايو دورس يذكر وجود معبد على شاطئ الأحمر ٤٥ تأويل أوراق الزيتون التبليغ والتبشير (راجع الدعوة) التجارة (راجع المال) التدخين عرض الحاجات على الأنهار والبحار والشمس وغيرها أضرار التدخين شرك البخل عيب خطير أسباب البخل ٧١٤ ٧١٤ ۷۱٥ التربية أهمية تربية الأولاد التسبيح المراد من تسبيح الطيور والجماد أضرار البخل البعث بعد الموت (راجع أيضا الحياة) بيت الله وجود البعث بعد الموت أهم وسيلة للإصلاح إنكار البعث بعد الموت أهم سبب لإنكار الأنبياء ٢٠٧ (راجع الكعبة) ۲۰۷ التسليم وسيلة للاتحاد البيعة أخذ الرسول بيعة النساء على أن لا يشركن يجب أن اهتمام الصحابة بالتسليم التصوف " التسليم" (أي السلام عليكم) يعتبر القرآن التسليم هديةً تسليم جبريل على الرسول ﷺ كلما زاره ضرورة التسليم عند دخول البيت يسبق الكبار في التسليم تُسمَّى الرؤية حالاً، واللقاء مقاما ثابتا في اصطلاح الصوفية ۵۸۸ العصمة الكبرى والعصمة الصغرى عند الصوفية ٤٦٤ أحد الصوفية المجاذيب يرثي الجنيد البغدادي ٤٢٦ التعاون معنى التعاون على البر ٤٤١، ٦٣٠ ٤٤١، ٦٣٠ ۱۲ ۲۰ ١٤٩ ٦٢٩ 7.بيعة هند زوجة أبي سفيان بيعة أبي سفيان أعرابي يسترد بيعته من النبي ﷺ بيعة علي لأبي بكر وعمر التأمين نهي المسيح الموعود العليا عن التأمين التأويل (راجع المنام والرؤيا أيضًا) تأويل رؤيا لإبراهيم
الجزء السادس ملحقات التعليم (راجع أيضا الإسلام والمسيحية واليهودية) ضرورة تزويج الأرامل لإصلاح أخلاق المجتمع ٣٠٠ تعاليم الأديان كلها كانت متماثلة في البداية ثم حرفها الناس 141 نزول التعليم من الله ليس ضمانًا أنه لا يخرب ١٣٩ خلود تعليم الرسول ل ل ا ل له لا إزاء تعليم موسى وعيسى ١٨٦ التفسير (راجع القرآن) التقوى تنشأ التقوى نتيجة التضحيات تشبيه التقوى باللباس حرمة شعائر الله من تقوى القلوب التكبر النهي.عن التكبر الروحانية محال بدون ترك الكبر يجب ألا يولد الثراء في الإنسان الكبرياء التمدن الحضارة ضرورة تأسيس الحضارة على الوحي أحكام أساسية عن الحياة المدنية ضرورة قيام العبادة في المجتمع ٦٩ ٢٦ ٤٢٩ ١٦٧ ٤٢٩ ۳۹۳ ٣٥٩ ۱۳۸ مقارنة بين الإسلام واليهودية والهندوسية حول العدل اتهام الآخرين نتيجة سوء الظن والشهادة الضعيفة تنشر الذنوب في المجتمع ۲۹۸ حد القذف يحافظ على شرف وأخلاق الفرد والمجتمع ۳۳۷ قد انتشر الكذب عندنا اليوم على نطاق واسع ٧٢٥ ضرورة اليقظة لإصلاح أخلاق المجتمع آداب وأحكام اجتماعية عند الإسلام ۲۹۹ ٣٥٩ - ٣٦٠ ،۳۰۲ - ۲۹۸ ٤٩٨ ٤٩٥ ٤٩٨ ٦٧١ ٦٤٨ ٦٤٨ جانب جميل لتعليم الإسلام الاجتماعي عدل الإسلام الاجتماعي ضرورة أخذ الحيطة من المرضى المعدين المراد من مصطلح الحضارة المسيحية لا بد لنا القضاء على الحضارة الغربية من ضرورة الفرق بين أهل الغرب وحضارتهم جانب اجتماعي للغرب ضرورة تجنب تقليد حضارة الغرب يجب الاهتمام بتنظيم المجتمع التنويم المغناطيسي (المسمرية) التهجد (راجع العبادة) ٤٩٧ ٦٤٩ ۲۹۸ الاجتماعي حث الإسلام على حسن معاشرة الجار أسوة الرسول ﷺ وأصحابه في الجار ٤٩٤ - ٤٩٦ ٦٦٠ ٦٦٠ التواضع المؤمن يعتبر نفسه مقصرا رغم قيامه بالحسنات "من تواضع لله رفعه الله إلى السماء السابعة" 121 ٧٤٤ الثورة الروحانية والاجتماعية في العرب بالإسلام ٢٤٧ وسيلة قوية لرقي الحضارة الإنفاق علامة المتواضعين لله أربع علامات للمتواضعين الله آداب الدخول في بيت الآخرين ٣٦٠، ٤٨٨ - ٤٩٩ القيام بأعمال تتسم بمنتهى التذلل والتواضع لغير الله أهمية التسليم في الإسلام المساواة الإسلامية في الحقوق المدنية.كل عمل يفيد المجتمع يدخل في ذكر الله 0.1-899 ٣٣ - ٣٤ يمكن للإمام أن يتكلم في الخطبة عن أمور اجتماعية ٣٣ شرك التوبة تعريف التوبة النصوح ٦٢ ٦٢ ۰۳ ۷۲۲،۷۱۸
الجزء السادس ۰۱ 0.V 10 دعوة النبي الناس من على جبل صفا هجوم الكفار في أحد من ممر جبلي الجريمة (راجع العقاب) الجزية لماذا تؤخذ الجزية ردُّ الصحابة الجزية لأهل.حمص الجماعة (راجع أيضًا التمدن) ١٥٩ - ١٦٠ ،۵۱ ٤١٢ 0.7 ٣٤٤ نظريات ثلاث لرقي الجماعات الدينية سر نجاح الجماعة الإلهية سر إصلاح الجماعة الابتلاءات وسيلة رقي الجماعة ضرورة استشارة الإمام في كل أمر مهم ٥٨٦ ٥٠٤ العلاقة بين الإمام والفرد ٥٠٣ كل عمل يفيد المجتمع يدخل في ذكر الله ٣٤ الجماعة الإسلامية الأحمدية (راجع الأحمدية) الجمعة (راجع العبادة) الجنة جنة الفردوس نعماء الجنة غير منقطعة ١٦٦ ۷۰۷ المراد من لبس أسورة الذهب والحرير هناك ٢٦ ٥٧٨ ٢٦ 01 ٥٧٨ ٤٣٧ Vo ٦٤٢ وعد الجنة مشروط بالإيمان والعمل الصالح الجنة مكان للعمل لا للكسل لا متعة للملائكة في الجنة تحقق وعد الجنة للمسلمين في هذه الدنيا الجنة لأبي جهل عنب من الجهاد (راجع أيضا الحرب) الجهاد قتال دفاعي ضد الإكراه في الدين الجهاد اسم للدعوة والتبليغ ۱۲ ملحقات شروط التوبة النصوح يُلغى العذاب بالتوبة توبة أهل نينوى الرد على أن التوبة تفتح باب الذنوب التوحيد (راجع الوحدانية) التوراة (راجع الكتاب المقدس أيضا) التوراة لم تشمل الألواح فقط ۷۱۹ ٢٦٧ ٢٦٧ ۷۲۲ ٦١٣ التوراة احتاجت لبيان صدقها إلى معجزات موسى ٥٢٢ تعليمها الغاشم بحق غير اليهود أنه لم يأت لنسخ التوراة إقرار عيسى كان عمر يقرأ التوراة التوكل ضرورة التوكل على الله حقيقة التوكل التوكل الحقيقي التوكل العلمي والتوكل العملي مفهوم خاطئ للتوكل عند المسلمين الثورة الانقلاب الثورة الروحانية في الفرد الطريق إلى خلق الثورة الروحانية الجار (راجع التمدن) الجبل منافع الجبال كان نوح يقيم في منطقة جبلية ٦٧٠ ٤٦٠ ۳۱۱ ١٢٤ ٦٧٤ ٦٧٧ ٦٧٦ ۱۷۱ ٦٨٩ ۱۰۰ - ۹۹ ١٩٦ ۲۰۰ ١٩٦ ۲۰۱ 022 جبال أراراط جبل الجودي استوت سفينة نوح على جبل الجودي صعود المسيح الجبل برفقة الشيطان كان كشفا
ملحقات 은 ۳۹ ۳۹ ٤٢ ۳۷ ۲۳۳ ۲۹۹ ۱۳ الجزء السادس الجهاد كل فعل يتم للخير والتقوى (المسيح الموعود)٦٤٢ حج بيت الله مظهر لاتحاد المسلمين الجهاد بالسيف والجهاد بالدعوة ١٢٦ الجهاد نوعان: جهاد أيام الحرب وجهاد أيام السلم ٦٣٦ ضرورة الجهاد الكبير بالقرآن ٦٣٣ الحج ينشئ روح المركزية في المسلمين حقيقة السعي بين الصفا والمروة لا فائدة من الحج دون التقوى الجهاد الواجب على كل مسلم هو الجهاد بالقرآن ٦٣٧ تأويل الحج في الرؤيا الجهاد بالقرآن أكبر من الجهاد بالسيف والنفس ٦٣٤ خطبة الرسول ﷺ بحجة الوداع الحجاب أمر رباني للنساء بالحجاب أمر الحجاب نزل في آخر سنوات حياة الرسول ﷺ ۱۰۹ ٦٣٦ ٦٣٥ ٦٣٨ الجهاد عند ابن رشد أفضل من الحج جهاد المسيح الموعود بالقرآن الكريم رأي العلماء عن الجهاد ضد الإنجليز آراء مختلفة.أهمية الجهاد إزاء العبادات الأخرى٦٣٦ عن سبب رفع الرسول السيف شروط الجهاد بالسيف 779 ٦٣٦ وجود الإمام الواجب الطاعة شرط للجهاد بالسيف إمكانية ضرورة الجهاد بالسيف في المستقبل هل الأحمديون لا يؤمنون بالجهاد؟ جهنم (راجع أيضا العذاب) حقيقة جهنم جهنم ليست خالدة ٦٣٩ ٦٤١ ٦٣٥ V.O ٧٠٦ سن الحجاب أحكام الحجاب الإسلامي أحكام الحجاب للمسنات ۳۷۷ ٢٦٤ ٤٨٩ حدود الحجاب في الكبر ضرورة حجاب المرأة من بعض النساء الأمر للحجاب من المخنث حدود الحجاب الدليل على أن الوجه عورة ۳۷۰ ۳۷۲ ٣٦٦ ٣٦٩ دليل على أن أمهات المؤمنين كن يغطين الوجه ١٠٨ تشدد البعض في الحجاب يأتي على جهنم زمان ليس فيها أحد ونسيم الصبا تحرّك هل الحجاب للمرأة فقط؟ أبوابها (الحديث) لا يتألم الشيطان من جهنم الحج الحج فريضة ضرورية الغرض الأساسي للحج الحج يجدد ذكرى إخلاص إبراهيم الحج أكبر حسنة لأغنياء اليوم استطاع فليسرع إلى الحج من فوائد مادية وروحانية في الحج اجتماع الحجيج آية عظيمة ۷۰۷ 10 ٣٦ } } ٣٦ ۳۷ ٤٠ ٤٢ ۹۸ ،۳۹ ٣٦ الحجاب لا يعيق رقي المرأة شعور الغرب بضرورة الحجاب أحكام غض البصر والحكمة فيه حكم إنجيلي ناقص عن غض البصر الحجة (راجع العذاب) الحد الحدود شروط الاعتراف بالجريمة عقوبة الزاني والزانية مئة جلدة موجبات ثلاثة لتنفيذ حد الزنى عند الفقهاء ۳۷۳ ۳۷۷ ۳۷۸ ۱۰۹ ٣٦٣ ٣٦٣ ۳۲۵ ،۳۲۱ ٣٠٦ ۳۲۱
الجزء السادس الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ۳۱۷ ٣٦٦ ۱۸۰ ٢٨٨، ٦٩٦ ٣٤٣ ۳۲۷ ٧٠٧،٦ ١٤ ملحقات يمكن للقاضي أن يحكم حسب علمه في الأمور السياسية، لا في الحدود لا يجوز الرأفة في العقوبة الشرعية القسم والمباهلة في الحدود إساءة إلى الشرع الحدود لا تقام بالأيمان (الإمام محمد) حد القذف ۳۲۱ ۳۱۷ ۳۲۸ ۳۲۸ ۳۲۲ الفقر فخري لا يبقى من الإسلام إلا اسمه...لولاك لما خلقت الأفلاك قال هلك القوم فهو أهلكهم من الولد للفراش وللعاهر الحجر إذا لم يتوفر أربعة شهود في الزنى أُقيم حد القذف على يأتي على جهنم زمان ليس فيها أحد..المدعي وشهوده قرار عمر له في القذف لا يجوز الضرب بسوط يسبب الموت الحديث ۳۲۲ ۳۲۸ ٣١٦ ينصر الحرب (راجع أيضا الجهاد) جواز الحرب الدفاعية في ظروف خاصة الله المظلوم إذا انتقم ضمن الحدود جواز الحروب الدفاعية في الدين كان الرسول يملي القرآن بالتعهد ولكنه منع من كتابة الحديث ٣١١، ٤٤٠ ٤٦ خلق الله الله مئة ألف آدم (كشف لابن عربي) حديث عن رجل يقفز في جهنم طاعة لأمر الله ١٢٤ حديث يعلّم آداب دخول بيوت الآخرين ٣٦٠ القتال الدفاعي عن الوطن الحكم عن الحرب أحكام الإسلام عن شروط للقتال ضرورة إعلان الحرب قبل الهجوم الإسلام لا يبيح قتال غير المقاتلين ٣، ٧٤ ۹۵ ٧٤، ٦٦٩ ٧٤ ٦٧٢ ،۲۸۹ ۱۲۱ ۷۱۷ حديث ينهى عن الإعلان في المسجد عن شيء مفقود الإسلام يأمر بحرمة معابد الأديان الأخرى وزعمائها ضرورة الحفاظ على أموال العدو أثناء الحرب ٦٦١ ۱۵۹ ۳۰۰ ،١٥٧ ۳۸۳ ،۳۸۲ ،۱۰۷ ٦٥٧ أحكام الإسلام عن الأسرى حقوق الأسرى معاملة الرسول ﷺ مع الأسرى قتال الصحابة ضد الروم واقعة إيثار عكرمة في الحرب ٤٣٨ ٤٣٨ تشاور عمر له عند تضرر المسلمين في وقعة الجسر على يد الفُرس ١٤٨ إسقاط خارجي هودج عائشة في حرب الجمل ٣٧٠ صلاة علي ومائدة معاوية في حرب صفين الحرب العالمية الثانية مظالم القوات الكبرى فيها ٤٨٠،٤٧٩ ٥٥٢ ۷۱۷ ۱۸۱ حديث في الحث على التهجد علامات آخر الزمان في الأحاديث الأحاديث الواردة في هذا المجلد الله رفعه الله إلى السماء السابعة ٧٤٤ - ٧٤٥ ٣١٥ ١٨٥ ٦٨٩ ۲۳۲ Vo ۱۸۰ إذا تواضع العبد اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس...أنا الرحمن خلقت الرحم...أولم ولو بشاة حب الوطن من الإيمان بركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم خير شاهت الوجوه
الجزء السادس لا يعطينا الغرب إلا أسلحة بالية حالة الإنسان النفسية في الحروب الطاحنة ٢٤٠ V ۷۳۷ ١٥ الحياة الأبدية ماء الحياة الروحانية ملحقات ٢٨٤ ۱۸۰ الحرب الأخيرة بين قوى الرحمن والشيطان حرية الضمير (راجع الدين أيضا) حرية الضمير عند الإسلام آيات قرآنية عن حرية الضمير الإسلام يمنع من الهجوم على قوم لاختلاف ديني ٦٥٦ الإسلام يؤكد بالاعتراف بمحاسن الأديان الأخرى يأمر الإسلام باحترام مشاعر الطوائف الأخرى ٦٥٥ ، ٦٥٨ علم الإسلام احترام كل نبي ومعاملة أتباعه بكل حب المسلم وغير المسلم سيآن في الحقوق المدنية من يقضي كل وقته حسب مشيئة الله فهو مثل الذي نذر حياته من ينذر حياته لدين الله فإنما مستقره في المسجد أحكام أساسية عن الحياة المدنية لا خيار لآلهة المشركين على الموت أو الحياة أو البعث إنكار حياة الآخرة سيئة تدفع العالم إلى الدمار ۳۲ ٥٤٣ ١٤٠ ۲۷۲ ۱۸ يُخلق الإنسان بعد الموت من عجب الذنب إزالة شبهة عن الحياة الآخرة عدم الخوف من الحياة الآخرة زاد الكافرين تمردا ٦٢٣ الفيلسوف يعتبر الحياة الدنيا هي الحياة ٦٤٧ ثلاث درجات للأشياء من حيث الحياة والموت ٥٤٤ ٦٥٧، ٦٦١، ٦٦٤ ٦٦٠ عمل المسلمين بحرية الضمير والتسامح الديني الحكومة أ الحكم أمانة من الله ۵۳۵ الساعة بمعنى بعثة الناس إلى الحياة ثانية الحيوان تعليمات الرسول الحيوانات خشية الله (راجع الخوف) الخطبة ۲۸۸ الحنفية/ الأحناف فتوى الأحناف بعدم جواز صلاة الجمعة في الهند ٤٥٣ كان الرسول الله يخطب وفق الضرورات القومية ٤٥٣ الحواريون مدح الحواريين في القرآن الكريم حث المسيح ال الحواريين على الدعوة الحياة (راجع أيضًا الخلق والكون) حقيقة الحياة والموت الحياة والموت من الله تعالى لوازم الحياة المادية والروحانية الحياة قصيرة الحياة الحيوانية 127 ٢١٤ ۲۹۳ ۲۷۰ ٦٩٤ ١٤٣ ١٧٦ الخلافة ثلاثة أقسام للخلافة حقيقة الخلافة نور الخلافة مرتبط بنور الله ونور النبوة الخلافة تنشر نور النبوة والألوهية بعيدا الخلافة الكاملة والناقصة وعد الخلافة في الأمة المحمدية نوعية الخلافة التي وعد بها الله الأمة الخلافة وعد وليست بنبوءة ٤٥٧ ٣٩٦-٣٩٧ ٤٠٧ ۳۹۷ ۳۹۷ ٤٠٠ ٤٦٢
ملحقات وعد الخلافة مشروط بالإيمان والعمل الصالح ٤٦٢، ٤٨٤ ،201 امتداد زمن الخلافة مرتبط بإخلاص المؤمنين ٤٠٩ ،۳۹۹ هل نعمة الخلافة عطاء للقوم كلهم أو لبعض أفرادها؟ مشابهة جزئية بين الخلافة الراشدة وخلافة السابقين نال الخلفاء الراشدون حياة خالدة الخليفة يتمتع بالعصمة الصغرى ٤٧٨ ٤٨١ - ٤٨٢ ۳۱ إذا أخطأ الخليفة في أمر يتعلق برقي الجماعة ماديا أو روحانيا حفظها الله تأثير خطئه بركات الخلافة من الخليفة لا يأتي ليقوي العقائد بل ليكمل النظام لا يمكن إقامة الصلاة حقا دون الخليفة الصلة بين نظام الزكاة والخلافة تبليغ الدين شرط أساسي للخلافة حقيقة تبديل الخوف أمنًا للخلفاء ٤٥٢ ٤٦٢ ٤٥٢ ٤٥٢ ΕΛΣ ٤٦٥، ٤٦٩ ٤٥٧ ٤٦٣ ٤٧١ ٥٠٣ علامات الخليفة الراشد وفق آية الاستخلاف علامة صدق الخلافة الراشدة ينفخ الله في قلوب الخلفاء الصادقين الشجاعة ١٦ الجزء السادس ذكر الخلفاء الأربعة في عصر بني أمية وبني العباس أسباب انتهاء الخلافة بعد علي لن تكتب الغلبة لمنكري الخلافة دحض اعتراضات ثتار حول الخلافة هل عزل الخليفة جائز؟ إحياء الخلافة بالمسيح الموعود ٤٦٤ ٤٨٤ ٤٨٦ ٤٧٨ ٤٨٤ ٤٨٨٠٤٨٣ الطريق لمد الخلافة في الجماعة الأحمدية واجبات المسلمين لدى النقص في نزول بركات الخلافة ٤٨٣ ٤٨٦،٤٨٥ ٤٠٩ وضع المفسر قواعد لانتخاب الخليفة لا يجوز التعصب القومي عند انتخاب الخليفة نصائح المفسر لانتخاب الخليفة ٤٠٩ ٤٨٣ ضرورة تلقي الدرس من نظام الكنيسة عند انتخاب الخليفة الله يهدي الأمة عند انتخاب الخليفة علة الخلافة الأندلسية والعباسية والفاطمية الغناء دمر الخلفاء الملوك الخلفاء بعد موسى في بني إسرائيل الخلع (راجع الطلاق) الخلق (راجع أيضا الكون والإنسان) ٤٨٣ ٤٨٥ ٤٨٩ ۷۳۰ ٤٦٠ أهمية الخليفة آداب مجلس يكون الخليفة فيه ضرورة الاستجابة للخلفاء منكر الخلافة الراشدة فاسق ٥٠٢ ٥٠٤ ٤٦١ أعداء الأنبياء والخلفاء يخالفونهم باسم الحرية دائما ١٩٠ ۷۱۱ حيطة الخلفاء الراشدين في إنفاق المال العام استشهاد بعض الخلفاء لا يقدح في كونه خليفة راشدا خلق الكون والإنسان ليس عبثا التدرج في خلق الإنسان ماديًا وروحانيا المدارج السبع في خلق الإنسان خلق الله كل حي من الماء ۲۸۱ ۱۹ ١٦٧ ٤٣٦ ١٦٧ المراد من خلق الإنسان من طين يُخلق الإنسان بعد الموت من عجب الذنب (الحديث)۲۷۲ ۲۸۱ ٢٨٦ ضرورة التفكر في خلق الإنسان الخلق الأخلاق الأخلاق الفاضلة مغروسة في فطرة الإنسان ٤٦٦ ٢٤٢ ١٤٥ دحض الزعم الزعم أن أبا بكر له غصب الخلافة الرد على عقيدة الشيعة
الجزء السادس تأثير أعمال المرء على أخلاقه تأثير غذاء الإنسان على أخلاقه ٧١٤ ۲۱۷ ۱۷ الدعاء حقيقة الدعاء الدين وخلاصته روح أهمية الدعاء والاستغفار إصلاح أخلاق القوم والعائلة والنظام القومي يؤدي إلى الدعاء نزول نصرة الله الفسوق يدمر نظام القوم وأخلاقهم ضرورة اليقظة لتحسن أخلاق المجتمع ۲۹۷ ۲۹۹ ۲۹۹ ۳۰۰ لا ينجح قوم يكون أساس أخلاقهم على عقولهم فقط الدعاء أكثر الأسلحة المجربة لنشر الإسلام الدعاء جنّة تقي من شر المخالفين الدعاء يقي الإنسان من الفحشاء والمنكر الدعاء يغيّر قلوب المعارضين حكم تزويج الأرامل لتقويم أخلاق المجتمع ملحقات ٧٤٩ ٧٤٩ ٧٤٦ ٢٩٥ 112 ۲۳۰ 110 أخلاق المرء إنما تعرف عند الغلبة السينما تفسد الأخلاق الرقص مدمر للحياء ۳۰۰ ۷۰۱ ۷۳۱ ۳۷۳ الله يستجيب الدعاء حكمة استخدام صيغة الجمع في أدعية القرآن مفهوم دعاء سورة الفاتحة ضرورة الدعاء الجماعي لغلبة الإسلام ۲۲۹ ۲۲۸ ۲۳۰ شهادة النضر بن الحارث عن أخلاق الرسول ٢٤٤ تأثر المسيحيين بأخلاق المسلمين سر ازدهار الغرب أخلاقه الخمر تعليم الإسلام عن الخمر دعاء للتمسك بالعدل الدعاء للأزواج والأولاد ٧٢٤ دعاء إبراهيم العلا لذريته ۷۰۳ دعاء الرسول ﷺ في بدر ٧٤٣ ۱۳۰ ٥٩٤، ٦٧٥ ٢٥٥ دعاء الرسول الشيبة في حنين 110 مقارنة بين قوانين أمريكية وإسلامية لمنع الخمر أوقات خمسة تقليدية لشرب الخمر عند العرب ٢٦٢ أسوة الصحابة بشأن ترك الخمر ٢٦٢ دعاء عمر للشهادة واستجابته دعاء رائع للملك شاه ٢٦٣ الخوف عدم الخوف من الحياة الآخرة يزيد الكافرين تمردا٦٢٣ ٤٦٥، ٤٦٩ إسلام البعض بسبب دعاء الرسول صحابي يصبح تاجرا ناجحا بدعاء الرسول ﷺ ٧٤٩ لا يجوز الدعاء للكفار بعد قرار عذابهم الدعوة التبليغ/التبشير (راجع الجهاد أيضا) ۱۹۸ ٤٦٧ 17.۲۳۰ حقيقة تبديل الخوف أمنًا للخلفاء ضرورة الإيمان بين الخوف والرجاء خشية الله الدجال سعة نطاق فتنة الدجال وتأثيرها شرك المسيحية أكبر فتنة في الدنيا ٦٧٩ ۲۲۰ ۵۸۲ المثابرة على الدعوة والدعاء وسيلة للنجاح الدعوة تشرف بود بوصال الله استمرار الرسول ﷺ في الدعوة رغم العقبات جهاد الدعوة جهاد كبير الجهاد في الحقيقة اسم آخر للدعوة ١١٥ ۳۳ ٦٣٤ ٦٤٢،٣٣ جهاد عالمي بنشر الإسلام على يد المسيح الموعود ٦٤٢ الدعوة إلى الإسلام واجب أساسي للأحمدية
ملحقات ۱۸ الجزء السادس نشر الإسلام شرط أساسي لقيام الخلافة الإسلامية٤٨٤ الإسلام ليس من الأديان التي تحصر دور الدين في تشكيل جماعة إلهية يتطلب التوجه بالتبليغ إلى جميع شرائح المجتمع أهمية دعوة الإسلام في الهند ۱۹۷ ٢٥٨ العبادة والذكر الإسلام دين عالمي وحيد دليل على عالمية الإسلام ٤٤٦ ۰۳۱ ٥٢٤ لو استمر المسلمون في الدعوة لكان الغرب مسلما اليوم نظريات كل الأديان ضيقة فيما يتعلق بالله ضرورة تعلم اللغات من أجل الدعوة لا بد من المعارضة نتيجة الدعوة معارضة الخصوم تنشر الدعوة حث المسيح حواربيه على الدعوة الدفاع (راجع الحرب) الدنيا (راجع الكون) الدين (راجع أيضا الإسلام) لا دين بدون الإقرار بوجود الله تعالى الدين جاء ليوصل الإنسان بالله تعالى سبب اختلاف الأديان السهولة في الدين لا إكراه في الدين تصور الدين عند المسيحية علامات الدين الحي ٦٤٢ ٥٣٥ ٥٣٥ ٦٠٣ ٢١٤ ۱۰۵ ۳۳ ۲۱۹ ۱۲۹ ٦٥٣، ٦٥٤ ٤٤٦ ٤٣٦، ٤٣٧ تابع الدين الصادق يخبر الناس في الدنيا ما نال باتباعه أي دين نافع للإنسان؟ كل دين يُعرف بثماره الدعاء خلاصة الدين وروحه مثال الدين الباطل حقيقة دين الإسلام لم يطلق الله اسما على دين إلا الإسلام الإسلام آخر حلقة في سلسلة الأديان حالة الأديان عند ظهور الإسلام ٤٣٢ ٤٣٦ ١٤٥ ٧٤٩ ٤٣٢ ۱۳۱ ۱۳۰ ٥٢٦ 0.1 سوى الإسلام ورحمته يأمر الإسلام بالاعتراف ما عند الأديان الأخرى من حقائق وباحترام مشاعر الآخرين حرمة المساجد ومعابد الأديان الأخرى كل الأديان تحتكر الإمة للعبادة على مجموعة معينة Vo ۲۳۳ ٧٤ ۱۲۱ سوى الإسلام ۲۸ الإسلام دين كامل جواز الحرب الدفاعية نتيجة الإكراه في الدين طريق نجاح الجماعات الدينية ضرورة وقف الحياة لخدمة الدين ذكر الله (راجع أيضا العبادة) ذكر الله يشمل كل ما يؤدي إلى رقي الناس ٣٣ - ٣٤ الذنب الطريق لتجنب السيئة الطريق لمحو السيئة هل يُفتح باب الذنب بالتوبة ٣٦٣ ۳۷۹ ۷۲۱ ١٤٦ ۷۲۱ ٣٦٥ سب الوالدين من الكبائر على الإنسان ستر ذنوبه تعريف السيئة في الشرع الاختلاط الحرّ بين الجنسين أصل انتشار الفاحشة ٣٦٤ اتهام الآخرين والشهادة الضعيفة تنشر الذنوب في المجتمع إشاعة الفحشاء تنشر السيئة في المجتمع ۲۹۸ ٣٤٠
الجزء السادس الرؤيا / الكشف (راجع أيضا التأويل والوحي) رؤيا سيدنا إبراهيم أنه يذبح ابنه 7.رؤيا الرسول لا أن ملكا جاء بعنقود عنب الجنة لأبي جهل تحقق كشف النبي ﷺ بحق سراقة أخبر الرسول ﷺ بالكشف بغدر أهل مكة ٤٣٧ ٥٦٣ ۱۱ رؤية الرسول الله الله في الكشف مشهد فتح قصور قيصر وکسری رؤيا للرسول ﷺ عن نقض قريش صلح الحديبية رؤية الكفار الملائكة كشفاً في غزوة بدر رؤية أبي جهل جملين هائجين الرسول مع ۱۰ ٥٩٤ ١٦٢ المسيح الموعود العلية الا ينصح المفسر في الرؤيا بالإسراع ۱۹ الإمام ابن حزم لم يقر بالرجم ملحقات ۳۱۳ عقيدة المعتزلة والخوارج أن الرجم لم يثبت من القرآن الكريم الرزق (راجع المال أيضا) كل ما يملكه المرء من مال وقوة ومواهب رزق الأمر بكسب الرزق الحلال تأثير الرزق الحلال في الأخلاق والأعمال الرسول (راجع النبوة والرسالة) الرق الإسلام والرق مساهمة الأرقاء في رقي الأقوام المتحضرة ۳۱۳ ٦٢ ۲۹۰ ۲۱۷ ۳۸۰ ۳۸۱ تضحيات العبيد والإماء في بداية الإسلام ٥٤٩-٥٥٠ إلى الحج صعود المسيح الجبل برفقة الشيطان كان كشفا كشف لابن عربي: خلق الله الله مئة ألف آدم كشف ابن عربي عن قدم الكعبة الربا اليهودية تسمح لليهود بأخذ الربا من غيرهم سبب الرجم في الرجم (راجع الحد أيضًا) المسلمين حكم الرجم كان موجودا في اليهود ٤١ ٤٦ ٤٦ ٦٥٧ يؤكد الحديث أن الرسول ﷺ رحم اتباعا للأحكام اليهودية ٣٠٦ ۳۰۷ ٣١٥ مكانة العبيد في العرب قبل الإسلام حقوق العبيد والعمال في الإسلام تيسير المكاتبة لتحرير العبيد ٥٤٩ ۲۹۰ ۳۸۵ ،۱٥٧ لم يفرق الإسلام بين المسلم وغيره في تحرير رقبة ٦٥٧ لم يأخذ الرسول الله خادما من الأسرى إلى عائلته ٧١٠ اتخاذ المسلمين الأرقاء زمن غفلتهم مفهوم "أو ما ملكت أيمانهم" شرط القران مع "ما ملكت أيمانهم" الرقص الرقص ممنوع في الإسلام الرقص مدمر للحياء ΣΑΥ ١٥٧ ١٥٧ ۷۳۱،۷۰۳ ٣٧٣،٧٤٥،٧٣٤ ،۷۳۱ ۳۷۳ لو نزلت آية الرجم في وحى القرآن لأمر الرسول ﷺ فقد المسلمون دولاً نتيجة الرقص والغناء ۳۰۹ بكتابتها فيه لم تكن آية الرجم في القرآن لما جمعه أبو بكر ه ٣١٠ رواية عمر له عن الرجم كان علي ٣٠٨ الرجم حكما زائدا على حد القرآن الركوع الركوع بمعنى إفراغ القلب مما الركوع بمعنى التوكل على الله ۷۳۰ ،۷۰٧٠٣-٤ سوی الله ۱۲۲ ۱۲۲ ۳۱۳
ملحقات رمضان المبارك الشهر المقدس الذي نزل فيه القرآن الكريم إكثار الرسول الصدقة فيه الروح علاقة الأرواح فيما بينها تأثر الإنسان من التغيرات المادية روح الخطأ العلاقة الروحانية يضر أضرارا جسيمة ٥٢٢ 001 ٣٠٥ ۲۸۷ ٣٠٥ كلما تتعطش روح إنسان لماء السماء ينزله الله عليها الإسلام يركز على أهمية الروح والجسد معا الدعاء الدين وخلاصته روح الزرادشتية ۱۱۹ ٣٥ ٧٤٩ ۰۳۱ ،۸۷ يزعم أهلها أن إيران وحدها مظهر لملكوت الله ٥٣٠ كان زرادتشت العلمة نبيا لقومه فقط ۵۳۷ الجزء السادس أحاديث تصف المسلمين وبلادهم زمن بعثة والمهدي الزنى (راجع الحد والقذف أيضا) تحريم الزنى معنى الزاني والزانية في سورة النور حكمة ذكر المرأة أولاً في الزانية والزاني حد الزاني والزانية مئة جلدة، لا الرجم شرط أربعة شهود لإثبات هذه الجريمة الحكمة في شرط أربعة شهود إقرار شخص بالزنى وسلوك الرسول ﷺ شروط الإقرار بالزنى لا تعتبر المرأة زانية بإقرار الرجل الأسباب الثلاثة لتنفيذ حد الزنى عند الفقهاء جريمة القذف المسيح ۱۸۳ ۷۱۸ ۳۱۷ ۳۱۸ ٣٠٦ ۳۲۱ ٣٢٥ ٣٢٦ ٣٢٦ ٣٢٦ ۳۲۱ ٣٣٦ الزكاة أهمية الزكاة فلسفة الزكاة هي وسيلة قوية لرقي القوم لا يمكن للمسلمين تنفيذ الزكاة دون الخلافة فتنة مانعي الزكاة بعد وفاة الرسول ﷺ ٤٢٠ 154 ۹۸ ٤٥٢ ٤٥٢، ٤٧٤ طريق أداء الزكاة على ما تؤخذ عليه ضريبة حكومية ٤٢٢ الزلزال هلاك قوم لوط بالزلزال زلزال في "بهار" بالهند عام ١٩٣٤م زلزال في "كويته" بالهند عام ١٩٣٥ زلزال في "كانكره" بالهند عام ١٩٠٥ الزمان ۳۱۷ ،۱۰ ٦٢٢ V V V حد القذف يحافظ على شرف وأخلاق الفرد والمجتمع الزواج (راجع المرأة أيضًا) ۳۳۷ جواز رؤية الفتاة قبل الزواج عواقب الزواج مع غير الأكفاء تزوج الأرامل خير ٣٦٩ ٦٥١ ۲۳۲ ضرورة تزويج الأرامل والعبيد لإصلاح أخلاق المجتمع أضرار الإسراف بمناسبة الزواج تعدد الزيجات ليس أمرا بل مباحا ۳۷۹ ،۳۰۰ ۷۱۲ ٢٥٨ لو عمل المسلمون بهذا التعليم لكان نصف أهل الهند مسلمين ٢٥٨ توجه الغرب إلى تعدد الزوجات 1.7 الساعة أمارات آخر الزمان والمسيح الموعود في الأحاديث ١٨٣ ثلاثة أقسام لساعة القيامة ٦ الساعة بمعنى زمن رقي جماعة الأنبياء ودمار أعدائها ٩
الجزء السادس الساعة بمعنى بعثة الناس إلى الحياة ثانية فتح مكة أيضا كان الساعة السجود السجود بمعنى الطاعة الكاملة السماء ٥٧٢ ۹۱ ،۱۰ ١٢٤ ،۳۸ ،۲۳ ،۲۱ ، ۲۰ ، ۱۲ ،۳ ۱۸۲ ،۱۸۰ ، ۱٥٦ ، ۱۳۸ ،۷۹ ،۶۰ كلما تتعطش روح إنسان لماء السماء ينزله الله عليها تحرر المرء من قانون السماء والأرض محال أطباق السماء يقال لها طرائقُ اجتماع ماء السماء والأرض زمن نوح ظن البعض بنزول المسيح ا انشقاق السماء معنی ۱۱۹ ۲۳ ۱۷۵ ۱۹۵ العليا من السماء ٥٥٩-٥٦٠ معنى قوله تعالى " الله نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" "لولاك لما خلقت الأفلاك" (الحديث) ۰۹۲ ۳۹۰ ٢٨٨، ٦٩٦ التدبر في السماوات والأرض وحده جعل الفلاسفة ۲۱ ملحقات أنبأت عن رقي الأقوام الغربية ذات العيون الزرقاء لألف سنة ثم دمارها سورة الأنبياء تدحض عقيدة الخطيئة الموروثة نبأ في سورة الحج عن فتح مكة أهميتة سورة النور ذكرت طرقًا تجلب إلى نصرة الله VV ۲ ۱۰ ۳۰۲ ۲۹۷ تؤكد ضرورة إصلاح أخلاق القوم والعائلة وتنظيمهما ٥١٥ سورة النجم تدحض زعم المفسرين أن الشيطان أجرى على لسان الرسول ﷺ عند تلاوتها آيات تثني على الأصنام السيئة (راجع ) الذنب) السيخ لا يقرأ عليهم كتابهم "غرنث" إلا باندت معين ^.٢١٨، ٤١٦، ٥٣٤ ۲۸ ٥٤٦ حادث طريف للمفسر مع محرر جريدة سيخية طالب سيخي يطلب الدعاء من المسيح الموعود الله ٥٩٨ جهاد المسلمين ضد السيخ ٦٣٩ ۷۲۹ ۷۳۱ ۷۳۱ ۱۱۷ ٥٣ 우우 ٥٢ ۰۳ ٥٥ ۵۳ السينما المفسر ينهى الأحمديين.عن السينما هي أفتك لغو في هذه الأيام الأفلام التي يجوز مشاهدتها الشرك ينشأ الشرك لعدم فهم صفات الله حقيقته حقيقة الشرك وأقسامه إشراك الآخرين في صفات الله الخاصة به شركٌ إهمال أسباب خلقها الله شرك العمل بالتقاليد الوثنية شرك التذلل الكامل لغير الله شرك ٣٣٥ ملاحدة سوء الظن سوء الظن جريمة مزدوجة اتهام الآخرين نتيجة سوء الظن والشهادة الضعيفة تنشر ۲۹۸ ۱۳۵ ۲۸۳ ۲۲۷ ۲ الذنوب في المجتمع السورة البسملة جزء من كل سورة لقد سمی الرسول ﷺ أكثر السور بنفسه بيان صفات الله الأربع الأساسية في الفاتحة معارف سورة الفاتحة كدعاء سورة مريم ترد على عقائد المسيحية سورة طه تدحض عقيدة المسيحية أن الشرع لعنة
ملحقات شرك المسيحية أكبر فتنة في الدنيا عقيدة خلق المسيح الطيور شرك دحض الشرك أدلة تدحض الأصنام الباطلة تتبرأ الآلهة الباطلة.يوم القيامة من عبدتها ۵۸۲ ١١٦ 1176111 ٥٤٣ ۵۷۹ ۷۳۹ ۱۱۹ الشرك لا يثبت بأدلة علمية خطأ المشركين الأساسي اضراره الشرك أكبر كذب في حد ذاته الشرك يضيق وجهة نظر الإنسان ويثبط هممه حياة المشرك كلها قلق واضطراب إدانة هند الشرك عند البيعة الشريعة الإسلام شريعة كاملة ة ٥٠ ٦٣٠ ۲۲ الجزء السادس لو لم يشهد أربعة شهود قام الحد على المدعي وشهوده ۳۲۸ الشريعة تقبل شهادة شاهدين في جريمة السرقة والقتل ٣٢٥ سماع كل الشهود في مكان واحد ليس بضروري في القذف ۳۲۳ اتهام الآخرين بناء على سوء الظن والشهادة الضعيفة تنشر الذنوب في المجتمع الحث على الشهادة الصادقة ۲۹۸ يكذب الناس اليوم بكثرة في الشهادات الشاهد العدل ٧٢٥ ۷۲۳ ۳۲۸ يمكن أن يُحرم الشاهد الكاذب من حق الشهادة ٣٢٨ شهادة الأيدي والأرجل واللسان يوم القيامة فضل شرع الإسلام على الشرائع الأخرى ۲۳۳ ٢٢٦ الشيطان شرع الإسلام صالح للعمل في كل زمان ومكان ٢٢٥ حقيقة الشيطان وإبليس ٣٥٦ - ٣٥٧ زمن قيام شرع الإسلام نزل شرع الإسلام لتضع الأثقال عن الناس دحض عقيدة المسيحيين أن الشرع لعنة ۱۸۰ ۱۲۹ ۱۳۰ عداء الشيطان لعطر التقدس طريق إغراء الشيطان صداقة الشيطان إذا كان قانون الطبيعة رحمة فكيف يكون قانون الشرع دحض زعم سيطرة الشيطان على الأنبياء لعنة ؟ شعائر الله سعادة الإنسان في تعظيم شعائر الله الشهادة القاضي فقط يأخذ الشهادة بحسب الشريعة ۷۲۹ القاضي في الحدود مقيد بالشهادة في قراره والحكومة لا سلطان للشيطان على عباد الله 12 ۸۷ ٣٤٨ دحض فكرة المفسرين أن الشيطان أجرى على لسان الرسول ﷺ آيات تثني على الأصنام يسمح لماذا الله للشيطان بعرقلة طريق الأنبياء؟ طريق النجاة هجمات الشيطان من الشيطان سلاح لنشر الحق في النهاية 12 ٨٥ ۸۸ ۸۹ ۸۷ ٣٤٦ ٦٠٣ مقيدة بقرار القاضي أحكام تفصيلية لإثبات الزنى بأربعة شهود حكمة أربعة شهود في حد القذف ۳۲۱ ۳۲۱ ٣٢٥ الشيطان المحرض على الشر لا ينال جزاء أو عقابا ١٦ الشيعة أهل السنة والجماعة على حق في اعتبار الصحابة كلهم مؤمنين
الجزء السادس ۲۳ ملحقات الرد على الشيعة دحض الزعم أن عليًّا غُصب حقه في الخلافة ١٤٥ ٢٤٢ دعاء رائع للملك شاه على ضريح موسی رضا ١٦٠ الصحابة رضوان الله عليهم مقامهم الأوراق الزيتونية للرسول ﷺ مقام الصحابة العالي ذكر كبار الصحابة صار كل واحد منهم إبراهيم حيًّا إخلاص أنصار المدينة مقارنة بين الصحابة وأصحاب موسى طاعة الصحابة المنقطعة النظير ارتعاب أبي سفيان برؤية طاعتهم للنبي ما كانوا يخرجون من مجلس الرسول ﷺ دون إذنه طاعتهم بشأن ترك الخمر اهتمامهم بالرسول ﷺ في كل وقت قيامهم بحراسة بيت الرسول تضحياتهم المنقطعة النظير في أوائل الإسلام ۲۰۲ ١٤٧ ۳۱ ۳۱ F ۲۰۲ ۲۰۲ ٢٦٤ ۱۲ ٥٠٢ ٢٦٣ ٥٠٣ ٤٨٨ ٦٥، ٥٤٨،٦٦-٥٥٩ تضحياتهم لنشر التوحيد جهودهم لنشر الإسلام في العالم حسن معاملتهم مع الجيران غير المسلمين المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين محبة الصحابة فيما بينهم اهتمامهم بإلقاء السلام فيما بينهم قلقهم عند الردة بعد وفاة النبي ﷺ شدة صدمتهم بسبب صلح الحديبية ٧١٦ ۵۳۲ ٦٦٠ ۱۹۷ ٣٦٢ ٥٠٠ ۱۲۵ ٦٧ إسلام البعض نتيجة دعاء الرسول وصحابته ۲۳۰ سبب فتوحاتهم رغم قلة عددهم رقيهم المادي ببركة الرسول البركة في تجارة صحابي بدعاء الرسول ﷺ أهل السنة والجماعة على حق في اعتبار الصحابة كلهم مؤمنين الرد على عقيدة أن معظم الصحابة - معاذ الله - لم يكونوا مؤمنين صادقين الصحبة تأثيرها العميق في النفوس الأمر بصحبة الصالحين الصدقة ۷۰۳ ٧٤٩ ٧٤٩ 147 ١٤٥ تضحيتهم في الوقت الحرج في حنين حماس المهاجرين والأنصار للتضحية في غزوة بدر ٢٠٢ نموذج التضحية في غزوة أحد ٥٠٧ لا يجوز لآل محمد أن يأخذوا الصدقة الصراط المستقيم ۷۱۰ ۲۲۷ ٢٥٣ الصراط المستقيم هو ما يدعو إليه الرسول ﷺ تضحيات الصحابة في غزوة بدر وأحد والخندق كانت نتيجة تضحيات قدمت في صدر الإسلام أخلاقهم في الحرب رغبة الصحابة الكرام في العبادة أداؤهم التهجد في ميدان الحرب أمانتهم إنفاقهم في سبيل الله ٦٦ ٧٠٤ ٤١٢ ۷۰۳ ۱۰۹ ٦٣ الصلاة (راجع العبادة) صلح الحديبية كتابة عليه اتفاقية الصلح اعتراض ممثل الكفار على كتابة الرحمن والرحيم في الاتفاقية صدمة الصحابة إثر الصلح ٦٩١ ٦٩١ ٦٧
زعم البعض أن الحجاب ظلم بالمرأة ظلم رؤساء مكة النبي وأصحابه الجزء السادس ۳۷۳ ٦٦١،٥٨٦، ٦٧٢،٦٦٣ ۹۳ ۹۵ ۹۵ لا يكون في قرار الله ظلم الله ينصر المظلوم إذا انتقم ضمن الحدود لا يجوز العفو عن الظالم في كل مرة ٢٤ ٦٧ ٥٠٥ ٥٠٦ ملحقات قريش تنقض العهد الطاعة طاعة الصحابة للنبي ﷺ عواقب عدم طاعة النبي ﷺ الطهارة الطهارة الكاملة لا تتأتي بدون فضل الله طريق للتطهر ٣٤٦ ٣٤٩ يأتي العذاب على فترات ليرتدع الظالم عن ظلمه ١٠٢ اعتبار البعض الأضاحي ظلما عظيما ٦٩ يستحيل الارتداد والفسوق بعد الطهارة الكاملة ٣٤٧ من الظلم القول بأن الشيطان يلقي كلمات الشرك على لسان الأنبياء ۸۱ العبادة العبادة غرض أساسي.من خلق الإنسان ٧٠٦ ،۳۷ ،۱٥ "إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة" المقام الحقيقي للعبد هو الجنة علامات عباد الرحمن ٧٤٤ ٧٠٦ ٥١٨، ٦٩٨ ۱٥ ۱۹ ۲۱ من نسي عبادة الله استوجب العقاب العبادة الخالية من الإخلاص والرغبة الصادقة لا تحظى ۳۷ ۱۲۲ بالقبول الذين يعبدون الله وحده لهم الأمن والراحة في الدارين الأديان التي لم تأمر بحركات ظاهرة في العبادة غفل أهلها عن العبادة من معاني الركوع العبادة الخالصة لله إذا واظب المرء على العبادة حقا صدرت منه الحسنات الأخرى تلقائيا ١٧٤ ۲۳۰ 41-411 ٢٦٢ 170-178 من معاني الصلاة العبادة حقيقة الصلوات الخمس الحكمة في مواقيت الصلوات المدارج السبعة لأداء الصلاة ۲۷۸ ۹۸ ۲۳۱ ۹۸ ٥٢٥ ٢٥٤ ٢٥٤ ۳۳۰ ٣٥ ٣٥١ ۱۱۰ ٢٧٦ ۲۹۲ الصور من معاني النفخ في الصور الصوم الصوم عبادة هامة حقيقة الصوم فوائد الصوم حكم الاعتدال في الصوم الطلاق (راجع الزواج أيضًا) حماية الإسلام حقوق المرأة بحكم الطلاق كثرة الطلاق في أوروبا وأمريكا حكم الخلع عند اللعان الطواف (راجع الكعبة أيضًا) الطواف رمز للتضحية عادة الطواف حول المريض عند البعض الظلم تعريف الظلم أكبر ظلم أن يوصف نبي السلام "نبي الحرب" أمر الإسلام بالعفو عن الظالم من الظلم اتمام الملائكة بتهمة
الجزء السادس أهمية أركان الصلاة روح الصلاة الحقيقية ضرورة الخشوع في الصلاة الفرق بين الخشوع والخضوع تأثير الصلاة على أخلاق الإنسان وروحانيته إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر الصلاة ليست مضيعة للوقت مدارج | الصلاة السبعة ٣٦ ۳۷ 122 122 ۲۲۸ ۲۲۷ ٢٢٦ - ٢٢٧ ۱۲۷ 171-172 ۲۲۳ ٦٢ الأمر بأداء الصلوات الخمس في المسجد جماعة الصلاة جماعة علامة المتواضعين الله تعالى المؤمنون يواظبون على الصلاة ويجعلون غيرهم يلتزمون بها ضرورة حث الأهل على الصلاة ١٦٤، ١٦٨ ،۱۳۸ ١٦٤ ضرورة الاهتمام بالحفاظ على عبادة الآخرين إقامة الصلاة حقا مستحيل دون الخلافة أهمية صلاة التهجد التهجد شعار عباد الرحمن النوافل وسيلة للتقرب إلى الله حث الرسول ﷺ على التهجد ١٦٤، ١٦٨ ٤٥٣ ۷۰۳-۷۰۱ ،١٦٥ ۷۰۳ مواظبة الصحابة على التهجد أيام الحرب حكمة الصلاة النافلة لو صلى ستمئة مليون مسلم بالخشوع لغلب الإسلام حتماً ۷۰۲ ۷۰۲ ۷۰۳ ١٧٤ المساواة في العبادة الإسلامية كل مسلم صالح يمكن أن ضرورة الاعتدال في العبادة الصلاة يوم الفوائد المادية في العبادة الإسلامية قصر الصلاة في السفر سماح العبادة لغير المسلمين في المساجد ۲۳۰ ۲۹-۲۷ ۲۸ ٥٢٥ ۹۸-۹۷ ۱۲۸ ۲۸ ٢٥ ملحقات فتاوى الحنفية والوهابية عن صلاة الجمعة في الهند اختراع البعض "الصلاة الاحتياطية" ٤٧٢،٤٥٣ الحج عبادة مهمة جدًا الصوم عبادة هامة ليس عند المشركين دليل من الأسفار السابقة على عبادة ما يعبدونه ٤٧٢ ۳۹ ،۳۵ ۹۸ العبودية (راجع الرق) العذاب (راجع أيضًا جهنم) العذاب ينزل جراء عصيان الناس حكمة العذاب الإلهي قسمان للعذاب: شرعي وطبيعي ۱۹ ،۱ العذاب الشرعي مشروط ببعثة الأنبياء وإتمام الحجة ٢٦٧ 1.1 ٢٠٦ ، ٢٤٣، ٦٣٣-٦٣٤ ، ۱۹۹ ، ۱٤۱ ،۱۰۱ العذاب الروحاني والمادي عذاب جهنم ليس أبديًا ٢٥ ٧٠٦ ٧٧، ٧٠٦ ۱۰۲ ۱۰۲-۱۰۱ ٢٦٧ قليل من.عذاب الله كثير العذاب لا ينزل دفعة واحدة جعل الله شتى الشروط لإنزال العذاب لفائدة الإنسان نجاة قوم يونس من العذاب نزول أنواع العذاب على قوم فرعون الكتاب المقدس ندم الله على هلاك ذلك عذب سدوم ومع من بعدها بحسب التوراة إسلام أولاد الكفار كان عذابًا لهم "عذاب يوم عقيم" هو عذاب غزوة بدر الحسنة التي لا تكون لوجه الله تعالى تسبب العذاب لصاحبها الخوض في الأقاويل يجلب العذاب ۲۰۹ ۲۰۹ ۵۷۳-۰۷۲ ۹۱ ٤٢ ۳۳۷
الجزء السادس ۹۹ ۱۱۸ ११ ۱۱۸ ۱۸۷ ۲۷۳ ٤٢٦ ۳۳۷ ۳۰۰ ۲۱۸ العلم العلم الطبيعي يؤكد صدق القرآن اللاسلكي والمنظار والتلفاز تساعد على فهم بعض صفات الله العلم المعاصر يؤكد صدق القرآن الاكتشافات العلمية سهلت فهم صفات الله وصول الغرب القمة في العلوم الطبيعية التوجه إلى العقل والفلاسفة في العلوم الروحانية غباء إخفاء العلم غير جائز مسألة مهمة عن علم النفس في القرآن الكريم العمل ضرورة العمل مع ا الإيمان تأثير الرزق الحلال على الأعمال تأثير ظاهر العمل على الباطن والعكس تعريف اللغو من الأعمال 122 الجزاء يكون وفق الإخلاص لا وفق ظاهر العمل حقوق العمال في الإسلام ٧٠،٤٣ ٤٢٩ تعاليم الإسلام حول التجارة والصناعة والأعمال ٤١٧، ٤٢٥ أضرار نقابات الأعمال العهد المعاهدة 107-100 اشتراك الرسول الله الله في معاهدة لنصرة المظلومين ١٦١ أمر الوفاء بالعهد مع غير المسلمين قريش تنقض معاهدة الحديبية ٦٧ رسل الله لا ينكثون العهد ١٦٣ العيد اجتماع عيدين يوم نزول الآية "اليوم أكملت ٢٦ ٢٦٧ VV ٦٨٠ ملحقات يزول العذاب بالتوبة نبأ نزول العذاب بالأمم الغربية بعد ألف سنة العرش حقيقة العرش الإلهي العفة ضرروة حفظ العفة الحفاظ على العفة علامة المؤمن ۳۸۵ ،۱۷۵ ۱۳۸ ٣٢٤ ٣٥٠ ۲۹۹ ٤٣٧ ۷۰۱ ۳۲۹ ۳۱۷ ۳۱۷ ١٥ ٣٥١ ٣٥٠ ٣٥٤ ١٥ ۳۲۷ 17 ١٨٦ ضرورة اعتبار المرأة عفيفة عمومًا العفو والصفح (راجع العذاب أيضًا) تعليم قرآني معتدل حول العقاب ضرورة العفو على مستوى اجتماعي يأمر الله رسوله بالعفو عن عفو الرسول ﷺ عن يهودي العقاب (راجع أيضًا العذاب) العقاب ضروري لقيام التمدن قسمان للعقاب الظالمين لا تجوز الرأفة في تنفيذ العقاب على خرق أحكام الشرع ينزل العقاب على مخالفة القوانين الطبيعية تعليم إسلامي معتدل عن ا العقاب والعفو مقارنة بين الإسلام والمسيحية حول العقاب والعفو جرائم لا بد من عقوبتها من نسي عبادة الله استوجب العقاب هل الاعتراف بالسيئة حسنة؟ الشيطان المحرض على الشر لا ينال جزاء أو عقابا العقل ضرورة الإلهام رغم وجود العقل
ملحقات إسلام شيبة في تلك الغزوة غزوة ذات الرقاع 110-112 بدوي يريد قتل الرسول عند العودة من.هذه الغزوة ٤٨٨ ۷۲۹ ۷۳۰ ۷۲۸ ۱۸۷ ٣٥١ 177 ۲۷ ٥٧٥ ٦١ الجزء السادس لكم دينكم" فلسفة الأضحية يوم الأضحى الغذاء بركات الرزق الحلال تأثير الغذاء على أخلاق الإنسان أضرار الغذاء الحرام طبيا وخُلقيًّا الغزوات (راجع أيضًا الحرب والجهاد) ٢١٦ - ٢١٧ ۲۱۷ ۲۱۷ أموات قليلة في الغزوات أدت إلى حياة مئات الآلاف غض البصر (راجع الحجاب) الغناء لا يشهدون الزور أي لا يحضرون مجالس الغناء فقد المسلمون دولاً نتيجة الغناء والموسيقى الغيبة تعريف الغيبة الفأل عادة التفاؤل في طبقة الغرب المثقفة الفتوى إنما الفتوى الحقيقية ما لا يشوبه غرض نفسي الفردوس (راجع الجنة) الفسق خروج المرء من طاعة ملك يرتكب كفرا بواحا لا ٤٦١ ٤٠٠، ٤٦١ ۱۸۷ ۱۸۸ ٢٨٦ ۲۲۱ ٣٦٦ يجعله فاسقا إنكار الخلافة فسوق الفطرة (راجع الإنسان أيضًا) العطش الديني في فطرة الإنسان شعور القوة الماورائية في فطرة كل إنسان الأخلاق الفاضلة مغروسة في فطرة الإنسان المسابقة شعور فطري روح الفقر الفقر فخري (الحديث) 1.2 ٦٦، ١٠٤، ٥٠٦،٤٣٧ ٤٣٧ ٦٦، ١٠٤، ٤٧٤ ٥٥٣ ٥٦١ ٧٤٠ - ٧٤١ 1.2677 ۰۹۳ ۰۹۳ ٦٧٥ ۵۹۳ ،۵۷۳ ۲۹۸ ٤٠٦ ۳۳۲ - ۳۳۱ غزوة أحد هند تأمر بتمثيل جثة حمزة غزوة الأحزاب نبأ غزوة الأحزاب في الفترة المكية حفر الخندق حالة المنافقين حين أتت الأحزاب غزوة بدر نبوءة إشعياء عن غزوة بدر بدر هي يوم الفرقان نصرة الملائكة يوم بدر دعاء النبي في ميدان بدر قتل رؤساء قريش يوم بدر غزوة بني مصطلق حدثت العام الخامس الهجري تحريض رئيس المنافقين الأنصار على المهاجرين وقوع حادثة الإفك عند العودة منها غزوة تبوك مرور النبي الله بالحجر عند رجوعه من غزوة تبوك ٦٢١ غزوة حنين شجاعة الرسول له في حنين وتضحية وطاعة الصحابة ٥٠٦،٥٠٥
الجزء السادس ۲۸ ملحقات في كل نوع من أموال الناس حق للفقراء ١٥٤، ١٥٥ قذف الأعزب والعانسة المساواة بين الفقير والغني في المسجد مغبة إهمال حقوق الفقراء فقر بعض الإنجليز ۲۸ ٤٧٨ قرار عمر له في دعوى القذف ۳۲۲ القرآن الكريم (راجع أيضا الكتاب المقدس والإنجيل) نزوله نزول القرآن دليل على رحمانية الله حكمة الفرق بين الترتيب النزولي والترتيب الحالي الرد على عدم نزول القرآن دفعة واحدة ٦٨٦ ٦٠٨،٦٠٧ ٦٠٥، ٦٠٦، ٦١٢ نبوءة إشعياء بأن كلام الله سينزل على النبي الموعود تدريجيًا تسمية الرسول معظم السور بنفسه دليل على كتابة القرآن في بداية الفترة المكية كان الرسول ﷺ يدعو الكاتب عند نزول آيات القرآن ويمليها في مكانها كل لفظ القرآن الكريم مرتب سور مكية من ٦١٤ ۹ ۱۷۲ ۳۰۹ ٤٠٠ 7.9 آخر آية نزلت "اليوم أكملت لكم دينكم" ٢٣٣ ٥١٢ ٥١٢ 012 100 ۵۳۷ ۱۸۰ ٥۲۲ ،۲۳۳ ٦٨٦ ۰۳۱ مي قراءاته المختلفة المراد من نزول القرآن على سبعة أحرف حقيقة القراءات المختلفة القراءات تتعلق باللهجات لا بالمعاني فضائله وخصائصه صفاته المتميزة نسخ الشرائع قبله القرآن آخر شرع سماوي هو الكتاب الحي والكامل شرعه خالد تعليمه عالمي ٢٤٨ الفلاح (راجع النجاح) الفلسفة اعتراف فلاسفة الغرب أنهم مدينون للمسلمين في علوم الفلسفة كل النظريات الجديدة الغربية هي بنات أفكار اليهود والنصارى الغرب يعطينا فلسفات بالية سبب ضلال الفلاسفة الفيدا (كتاب الهندوس-راجع الهندوسية أيضا) الفيدا يقدم إلها قوميًا لا عالميًا مقارنة بين القرآن والفيدا القدر حقيقة القدر القدر دليل قوي على وجود الله عقائد العرب في الجاهلية.القذف تعريف القذف قانونا شناعة جريمة القذف عن القدر ۲۳۹ ٢٤٠ ١٨٦ ۵۲۸ ٥٧٥ - ٥٧٦ ۵۳۹ ۵۳۹ 71.۳۲۲ ۳۲۳ ٣٢٥ ٣٥٨ ۳۲۸ ٣٢٤ ۳۲۳ ٣٢٤ ۳۲۲ حكمة شرط أربعة شهود أساس إصدار الاستدعاء المدعي لا يُستحلف البينة على المدعي سماع الشهود في مكان واحد ليس ضروريا لا يُطلب المرأة المتهمة أن تثبت عفتها من حد القذف
ملحقات 7.۵۲۷ ٥٧٦ قالا عن إبراهيم برأ القرآن الكريم الكتاب المقدس من التهم مقارنة بين القرآن الكريم والفيدا اعتراف مستشرق بفضل القرآن الكريم على الكتاب ٥٧٦ ٣٥ ٥٤٨ ۵۹۸ ٦٠٧ ٥٣٦،٩٩ 001 المقدس جهل القسيسين بعلوم القرآن دحض القرآن المسيحية واليهودية ۲۹ الجزء السادس هديه للناس كافة شريعته جامعة للعالم على مركز واحد يدعو إلى قيام مملكة روحانية عالمية حقيقة كونه فرقانًا إنه "كتاب ينطق بالحق" كون القرآن "الذكر" لم يستطع أحد أن يأتي بمثله رغم مرور أربعة عشرة ۵۳۲ ۰۳۱ ٥٣٦ ۰۲۱ ٢٢٥ ۵۹۷ قرنا على تحديه صفات القرآن المتميزة صفتان عظيمتان للقرآن إيجاز القرآن ۵۹۷ ،۵۲۰ ،۵۱۹ ٢٤٢ نبوءات قرآنية نبأ قرآني بأنه سيصبح مهجورا تحقق نبوءات القرآن مع نزوله نبأ قرآني عن اختراع المراكب الجديدة قصص القرآن نبوءات عن المستقبل يستأصل السيئات من جذورها (المسيح الموعود) ٣٤٤ الناسخ والمنسوخ أكبر عظمته أن كل لفظه يقيني ٥٢٦ ۳۰۷ كل أحكامه حكيمة تعاليمه ٢٢٦ شرح عن النسخ ٦٤٠ عقيدة النسخ في القرآن ينافي الإسلام والعقل والدليل القرآن الكريم كله تفسير ل "لا إله إلا الله محمد رسول وآداب القرآن الله ٢٩٤ تعليمه منسجم مع قانون الفطرة وقانون الطبيعة ٥١٤ العلم المعاصر يؤكد صدق القرآن لم يهمل أيا من جوانب الفطرة قدّم كل ما قد يحتاج إليه العالم من قوانين فضلُ القوانين الإسلامية اتباع تعليم القرآن سبب للعزة والشرف انقلاب في أخلاق العرب بسبب تعاليمه تعليمه المعتدل عن العفو والعقاب ۹۹ ٢٢٤ ٢٣٤ ٢٥٤ ٢٤٧ ٢٤٩ ٣٥١ ٣٥٩ ٣٠٧، ٤٩٤ ١٣٦ لم يُنقص حرف واحد في القرآن ولم يزد لا أحد يستطيع أن يغير نقطة من القرآن الكريم (المسيح الموعود) ١٨٦ توجه الناس إلى قبول إعلان المسيح الموعود أن لا نسخ في القرآن العمل به ونشره القرآن كله فرض ضرورة تعلم القرآن وتعليمه للأهل أُمرنا بتعلمه وفهمه ونشره 112 ۵۹۷ ۵۳۳ ينصح المفسر الأحمديين بتدارس القرآن بالالتزام ٦٠٠ لا بد من سيطرة القرآن على قلوبكم وأرواحكم ٥٣٤ من جعل القرآن دستور عمله نال الرفعة في الدنيا والآخرة أمرنا بالجهاد الكبير بالقرآن ۵۹۸ ٦٣٤ على دعاتنا تعلم لغات العالم لنشر القرآن ٣٣٧، ٦٢٦ ۲۰۹ تعليماته الأساسية لإصلاح الخلق صدقه برهان على أن القرآن كلام الله مقارنته اختلاف القرآن الكريم مع الكتاب المقدس مقارنة بين القرآن الكريم الكتاب المقدس فيما
ملحقات الجزء السادس أضرار اعتبار التفاسير السابقة نهائية ٣٤١ تحذير الأمة من عدم اتباع الناس مقابل أحكام القرآن ۲۳۵ قصة إسلام عمر قصة عمر مسلمة مهاجرة إلى الحبشة قصة إخلاء المسلمين مدينة حمص تفسير خاطئ لقوله تعالى "ألقى الشيطان في أمنيته" ۸۸ قصة استشهد عثمان له هو يتلو القرآن القرابين عادة القرابين البشرية ٤٦٩ ۵۸ من القضاء الإسلامي واقعة إيثار عكرمة في الحرب قصة عفو الحسن له عن عبد له قصة توبة شبلي على يد الجنيد قصة ملك مسلم صلى كناس بجنبه قصة عائلة الملك بوربن الفرنسي القرابين البشرية في بني إسرائيل القرابين من شعائر الله حقيقة القرابين حكمتها وفلسفتها شروط قبول التضحية عند الله تأثير مشهد ذبح الحيوان في نفس الإنسان التضحية تولّد التقوى حقيقة التضحيات حسب الوجهة المادية التضحية الحقيقية تحمل الأذى لنفع الإنسانية ٦٤ ٦١، ٢٣١ ٦٢،٦١ ٦٢ ٦٩ ٦٨ ۷۱ ٦١ ٦٧ ذبح الهدي عند صلح الحديبية نتائجها تضحيات الصحابة في صدر الإسلام القصص والوقائع الورادة في هذا التفسير العلية لا قصة يعقوب في التفاسير ٣١٦ قصة فتاة خرجت للشاب الذي أمره الرسول ﷺ أن يراها قبل الزواج ٣٦٨ ۷۰۱ قصة يهودي أقرض النبي ﷺ قصة يهودي أعلن أفضلية موسى على النبي قصة حماية الرسول حقوق يهود خيبر قصة يهودية قدمت للنبي ﷺ شاة مسمومة قصة إسلام راعي غنم الكفار حادثة الإفك حادث الهجرة إلى المدينة ٦٦٠ ٦٦٨ 771-77.۱۵۹ ۳۳۲ - ۳۳۱ ٥٦٢ ۱۷۱ ۱۷۱ 17.-109601 ٣٥٨ ٤٣٨ ٣٥٢ ۷۲۰ ۲۸ ٣٥٢ قصة قاض هندوسي حاول عقاب المسيح الموعود ال٤٤٣ قصة مهاراجا هندوسي بخيل قصة أفغاني مع معلم هندوسي ٢٤٠ ۳۳۹ "نسواره" قصة أفغاني نسي ۷۳۵ قصة أفغاني قال: لقد نقض محمد (ﷺ) صلاته قصة هندوسي يستفسر عن طعام المسيح الموعود ٥٥٨ قصة مترا الهندوسي مع المفسر له حادث طريف للمفسر مع السيخ قصة شيخ يصلي "الصلاة الاحتياطية" قصة شخص دخل في الأحمدية بسبب الشيخ ٢٥٦ ٤٧٢ - ٤٧٣ الأمر تسري قصة حجام لم يعلم ابنه وصفة ناجعة ٦٠٣ ٤٢٦ قصة ثري تحايل على الزكاة ٤٢٠ قصة فتى أضاع بطريق عجيب ما ورث من أبيه ٧٠٩ قصة شابين حول تفخيم مفاخر الأجداد قصة فتاتين تتفاخران كذبًا قصة امرأة أحرقت بيتها لتري صواحبها خاتمها قصة عجوز سرق حاج رداءها قصة قوم لا يضعون العمامة على رأس الفتى إلا إذا سرق جاموسًا لأخته ۷۲۷ ۷۲۷ ٧٣٦ ٤٢
الجزء السادس ۳۱ ملحقات القضاء قيد الإسلام القاضي بالشهود والحكومة بقراره ٣٢٢ إمكانية حكم القاضي بحسب علمه في الأمور السياسية دون الحدود الشرعية الأفضل أن لا يتولى القاضي قضية تتعلق بالحدود إذا ۳۲۱ وسائل التعاون القومي تقديم حق الجماعة على حق الفرد أحكام الشورى القومي الخروج من مجلس قومي بدون الإذن النهي عن النظام الطبيعي لازدهار الأمم وتدهورها الرقي والتدهور علمها بنفسه انتشار الكذب بكثرة في محاكمنا إمكانية إعادة حق الشهادة للشاهد الزور إذا تاب القمار ۳۲۱ ۷۲۳ ۳۲۹ الفرق بين حكم الإسلام وحكم الأديان الأخرى عن القمار يكثر القمار عند ترك الحدود كثرة القمار في أروبا وأمريكا ٢٦٤ ۱۸۳ ۷۳۳ ۷۳۳ نادي القمار بمونتي كارلو في إيطاليا القوم (راجع أيضا التمدن) أهمية نظام القوم تناوب الليل والنهار في حياة الأقوام أصل الرقي القومي أسباب انحطاط الأقوام أضرار اليأس على الأقوام ٤٢٥ ۲۹۷ ٥٠٢ ۳۰۱ ۱۰۲ ٦٣١ ٤٤٦ ۷۳۰ ٣٤١ تأثير بعد زمن النبوة على الأقوام ذكر أمور لا أساس لها في المجالس يدمر أخلاق القوم ضرر الشائعات بالقوم ٣٤٧ ٣٤١ من قال هلك القوم فهو أهلكهم (الحديث) ٣٤١ الفاحشة تدمر نظام القوم والحديث عنها يدمر الأخلاق إشاعة الفحشاء تنشر الشر في القوم ۲۹۸ ٣٤٠ خطوات ضرورية للحفاظ على القوة العملية في القوم ٦٤٩ اتهام الآخرين بالفحشاء لسوء الظن أو الشهادة الضعيفة ينشر الفاحشة في المجتمع ضرورة إصلاح العقائد والأفكار والأخلاق إلى جانب اتمام خدام القوم أكبر جريمة ۲۹۸ ٣٣٦ رقي القوم وعزته مستحيل دون القضاء على الكذب تقوية النظام القومي ضرورة اليقظة للحفاظ على أخلاق القوم سر نفسى لإصلاح القوم ۳۳۷ ،۲۹۸ ٣٤٣ ١٦٦ بينهم إصلاح القوم محال دون هدى الله إلقاء الرسول ﷺ الخطب حسب حوائج القوم ضرورة الخلافة لسد الحوائج القومية ۳۰۰ ٤٥٣ من يحافظ على عبادة القوم يُحفظ ٤٥٤ عمل الفرد مهدد ما لم يستقم عمل العائلة والقوم ١٦٤ فشلُ الأقوام التي أساس أخلاقهم على العقل فقط ٣٠٠ كل ما العامة ينفع ينوب عن ذكر الله حيطة الرسول وخلفائه في إنفاق أموال القوم ۳۳ ۷۱۱ ،۷۱۰ النهي عن إنفاق أموال العامة على آل محمد ﷺ ۷۱۰ القوم الجياع لا يمكن استعبادهم مدة طويلة عاقبة زعماء يعدون قومه وعودًا وردية احترام الاتفاقيات بين الأقوام في الإسلام ٢٥٩ ٦١٥
ملحقات القيامة القيامة بمعنى الانقلاب العظيم ٥٧٢ كل واحد من ا الأنبياء أولي العزم كان قيامة للدنيا ٥٧٢ القيامة بمعنى الغزوات الإسلامية ۱۰ القيامة ليست اسما ليوم معين ولن تقوم في الدنيا ٢٧١ ۳۲ الجزء السادس قول أبي جهل للنبي ﷺ: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به " ٢٤٥ ٢٤٥ قول أمية: "والله ما يكذب محمد إذا حدث" شهادة النضر بن الحارث عن صدق الرسول ﷺ ٢٤٤ ينزل العذاب الشرعي عند تكذيب الرسل الكشف (راجع الرؤيا) 1.1 مكالمة الله عباده يوم القيامة عاقبة زعماء الكفر القيامة يوم الكتاب المقدس (راجع الإنجيل والتوراة أيضًا) ٦٣ ٦١٥ لم توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس حتى زمن النبي الترجمة الأولى له تمت في القرن الثامن الميلادي الكتاب المقدس يقدم ربًّا قوميًا تعليمه الغاشم لغير اليهود اختلاف بينه وبين القرآن الكريم المقارنة بينه وبين القرآن محال (وليام ميور) ٥٥٥ 000 ٦٧٠ 7.٥٧٦ ندم في العذاب الله بعد إنزال العذاب بحسبه ومع ذلك استمر بيان توراتي غير معقول عن إبراهيم ۲۰۹ 7.الكعبة البيت العتيق قدم الكعبة المشرفة كشف لابن عربي عن قدم بيت الله بناه سيدنا إبراهيم على آثاره القديمة نبوءة النبي إشعياء عن تمركز الكعبة للأقوام هي مكان قديم لتجلي أنوار الله وبركاته نبوءة بأنه سيكون مثابة للناس هو المصداق لنبوءة جمع العالم على مركز المراد من قوله تعالى "طهرا بيتي" تطهير الكعبة من الأصنام بعد الفتح الكعبة مظهر لاتحاد المسلمين يدين القربان الإنساني رغم ذكره أن إبراهيم أُمر بذبح درس المساواة في قيام بيت الله الكذب تعريف الكذب الشرك كذب أكبر الكذب يدمر الروحانية ينجح قوم فيهم الكذب لا كلما كذب الإنسان أوّل كذبة امتقع لونه كثرة الكذب في المجتمع مرض الكذب في النساء أكثر من الرجال الجماعات الدنيوية تلجأ إلى الكذب 7.٧٢٦ ٥٠ ٥٠ ٥٠ ٢٨٦ ٧٢٥ ۷۲۷ ۱۲۱ حقيقة الطواف نظام حماية بيت الله مساجد العالم أظلال لبيت الله من قطع علاقته مع الكعبة حُرم من قيام المساواة في ٤٣ ٤٦ ٤٦ ٤٣ ٤٧ ۳۵ ٤٤ ۳۲ ۹۲ ٣٥ ۲۷ ٣٥ ۲۹ ٣٥ العالم ۲۷ الكفر سبب كفر العرب إنكارهم بالجزاء يعتبر الكفار هذه الدنيا هي منتهاهم ٦٢٢ ۹ الكفر والإيمان موجودان في الدنيا بحكمة ربانية ٦٤٥ عنف الكفار بعد عجزهم أمام أدلة الأنبياء نظريات متضادة لمنكري الأنبياء 112 ١٤٠
الجزء السادس زعم أعداء الأنبياء دائمًا بضرورة نزول كائن يفوق البشر لهدايتهم صور شتى لعذاب الكفار ۱۹۱ - ۱۹۰ ٥٧٣-٥٧٤ ازدهار ذوي العيون الزرقاء ممتد لألف سنة عصر الكون لم يُخلق الكون بدون غاية في كل شيء في الكون ينفع الإنسان النظام والقدر في الكون VV ۲۸۱ ۱۰۰-۹۹ ٢٤، ٥٤١ ۳۳ الاشتقاق الكبير التقليب النسبي ملحقات ۱۳۲ ۰۷۱ وزن "فَعْلان" يدل على المبالغة والسعة و"فعيل" على كلمة "آوى" تعني الإنقاذ من مصيبة وحزن ٦٨٩ ۲۱۲ التكرار اللعان مسائل اللعان اللغو الاستنباط من كشف لابن عربي أن الدنيا موجودة من اللغو ما لا ينفع عامله أو قومه أو وطنه ملايين السنين الصفات الإلهية الأربع لأمن العالم اثنتا عشرة نصحية يقدمها الإسلام لكسب الدنيا ង ។ ۲۹۲ تفصيل اللغو من الأعمال اللغو من الأمور التي يجب على المؤمنين تجنبها ضرورة تحنُّب اللغو من ۳۳۰ 120 ١٥١ ۷۳۱ ١٥٣ ١٥٢ ۵۸۸ ۵۸۹ ۰۹۰ ۵۹۰ الأفكار من اللغو اقتناء الأثريات للزينة والتفاخر اللقاء حقيقة مقام اللقاء أهمية لقاء الله السبيل إلى اللقاء الإلهي إنكار لقاء الله يولد الوقاحة المال (راجع أيضًا الإسلام) تعليم الإسلام عن كسب الرزق نظام الاقتصاد في الإسلام تعليم الإسلام عن رأس المال الملاحة البحرية أهم شعبة في التجارة العالمية تعليم الإسلام للأغنياء اثنتا عشرة نصيحة للأغنياء 418 417 ٤١٦ ٤٢٠ ٤١٥ ٤١٧ ٤١٧ - ٤٢٧ تعليم الإسلام حول التجارة والصناعة والحرف ٤١٧ أهمية الأمانة في الكيل والوزن فهي الإسلام عن الاحتكار واجبات النقابات التجارية ٤٢٧ ٤٢٨ ٤٢٦ ٤١٧ - ٤٣٠ 18.٥٣٠ ۵۳۲ - ۰۳۱ ٢٦ ٢٦ ۱۸۹ ۳۷۸ إنكار الحياة الآخرة دمر أهل الدنيا الكلام الإلهى (راجع الوحي) الكونفوشيوسية هي تعتبر الصين فقط مظهر ملكوت السماء كان كونفوشيوس يحكم في الصين اللباس تشبيه التقوى باللباس المراد من لباس الحرير في الجنة اللين الاستدلال على ضرورة الوحي بمثال اللبن "لجنة إماء الله" اللسان العربي من خصائص العربية أن حروفها وأسماءها أيضا مبنية ۱۳۱ ٥١٢ على معان وحكم اللهجات العربية المختلفة
ملحقات تعليم الإسلام عن الإنفاق في كل ما عند الناس حق للفقراء الإنفاق من علامات الإيمان الكامل الإنفاق علامة المتواضعين الله وأبي بكر في الإنفاق تسابق عمر ضرورة الاعتدال في الإنفاق الجزاء حسب الإخلاص لا بمقدار المال الصدقة لآل محمد منع المؤمن (راجع الإيمان) ٤٢٣ 100-102 ٦٤ ٦٢ ٦٣ V.A V.۷۱۰ المجتمع (راجع التمدن/ الحياة) المجدد حديث نبوي عن بعثة المجددين في الأمة المحمدية ١٨٥ سلسلة المجددين في الشريعة الموسوية المجلس كثرة استغفار الرسول ﷺ في المجلس آداب مجلس الخليفة آداب المجلس العام المرأة (راجع أيضًا الزواج والطلاق) المرأة أكثر حياء بفطرتها حقوق المرأة في الإسلام الحرية الشخصية للمرأة في صدر الإسلام حماية شرف المرأة أول واجب للمجتمع حقوق المرأة في حالة الأسر أخذ الرسول ﷺ نساءه معه في الحروب ٤٥٩-٤٦٠ ۵۹۷ ٥٠٢-٥٠٣ ۳۰۱ ۳۱۸ ٣٧٥ ۳۷۳ ۳۲۳ 101 ٣٧٥ ٣٤ الجزء السادس جواز استعانة المرأة بالرجل عند الولادة في حالة استثنائية ٣٦٧ أُمرت بغض البصر أمرت رت بستر الزينة النهي عن مصافحة الرجل المرأة أضرار الاختلاط الحر بين الجنسين المساواة ٣٦٦ ۲۹۹ ٢٦٠ ۲۹۹ مساواة الإسلام في العبادة والإمامة ۲۸ من يقطع علاقته مع الكعبة يُحرم من إقامة المساواة في العالم المسجد (راجع أيضًا الكعبة) ۲۷ مساجد العالم كلها أظلال لبيت الله الحرام الأرض كلها مسجد الله ثلاثة أغراض للمساجد ۳۲ ۲۲۳ ۳۲ كان المسجد يُستخدم لكل مصلحة عامة في زمن النبي جواز كلام الإمام في المسجد أمور العامة فوائد اجتماعية في المساجد عن حرمة المساجد ومعابد الأديان الأخرى ۳۳ ۳۳ ۹۸ Vo ٣٤ ۳۳ النهي عن كلام خارق للقانون وباعث على الفساد في المسجد إمكانية قيام المسافر في المسجد المساواة بين الفقير والغني في المسجد ۲۸ ممنوع الإعلان في المسجد عن الأشياء المفقودة خارجه ٣٤ ممنوع الكلام في المسجد عن أمور شخصية ٣٤ أخذ الرسول الله الله الإقرار من النساء عند البيعة ألا يأتين باب المسجد مفتوح لكل صالح من أديان أخرى ٢٨ ببهتان حجاب المرأة في الإسلام أحكام حجاب العجائز ۷۲۷ ٣٦٤ ٤٨٩ سماح النبي لوفد نجران بعبادتهم في مسجده ٦٥٨ ،۲۸ إعلان الأحمدية بلندن عن سماحها لأصحاب الأديان الأخرى بالعبادة في مسجد "الفضل" بلندن
الجزء السادس ٣٥ المفسر يسمح لهندوسي ليخطب في المسجد ٦٥٩ المسلم (راجع الإسلام) صفة الرحمن تدحض المسيحية أدلة إنجيلية تدحض ألوهية المسيح الرد على عقيدة البنوة المسيحية تاريخها كان المسيحيون موحدين في البداية نبأ رقي الشعوب المسيحية من عام ٢٧١ إلى ١٢٧١ ۲۲ الرد على أن الله أرسل ابنه لنجاة الإنسان الرد على أن الإنسان آثم بفطرته الرد على أن الشرع لعنة ملحقات ٦٩٢ ٥٨٣،٥٨٢ ۵۳۸ 18.٢٢٥،٦٩٦ ۲۲۵ ،۱۲۹ - ۱۲۸ انغماس أمة المسيح في الرقص والغناء باسم العبادة ٧٣١ للهجرة ثم إدبارها رد المسلمين الجزية لأهل حمص VV ۰۱ هزيمة المسيحية أمام الإسلام في عقيدة التوحيد ٢٥٣ وضع المسيح الموعود اللة أساس دمار المسيحية حين سماح النبي الله لوفد نجران المسيحي بالعبادة في مسجده أخذ البيعة عام ١٩٨٩ ۷۸ طريق انتخاب الخلافة في المسيحية المراد من مصطلح الحضارة المسيحية الفتنة العظيمة المسيحية أكبر فتنة اليوم العقائد المسيحية الوثنية اعتبارها الشرع لعنة التعارض في أقوالهم وأفعالهم جهل القسيسين بعلوم القرآن ٦٥٨ ٤٨٣ ٦٧١ ۵۸۲ ٤٤٦ ٦٧١ ۱۳۵ المطر التشابه بين المطر المادي والروحاني المعاهدة ضرورة الالتزام بالعهد ١٨٦ ۱۳۸ ،۱۲۱ تعليم الإسلام عن الوفاء بالعهد مع.غير المسلمين ٦٥٦ حرص الرسول على الوفاء بالعهد أسوة الرسول ﷺ في الوفاء بالعهد وفاء المسلمين المنقطع النظير بالعهد اعتراض المسيحيين على نزول القرآن بالتدريج ٦٠٥ أسوة عمر له في الوفاء بالعهد ١٦١ ١٦٢ ١٦٢ ١٦٣ تعليمها تعليمها جميل بالظاهر لكنه ليس قابلا للعمل لا يقاس صدق تعليمها بالعقل تعليمها متعارض تقدم إلها محدودًا وقوميا اعتبارها الأنبياء كلهم قطاع طرق إلا عيسى تعليمها الناقص عن العفو تعليمها الناقص عن النظر إلى امرأة غير محرمة ليس في المسيحية مؤمن اليوم حسب الإنجيل الرد على المسيحية القرآن يبطل المسيحية ٧٤، ٥٢١ ۵۳۸ ٦٧١ ۵۲۷ ۲۹۱ ٣٥١ ٣٦٣ ۵۳۸ ٥٤٨ المعتزلة لا رجم في الإسلام عندهم المعجزة تحقق نبوءة الرسول ﷺ بحق سراقة معجزة معجزة الرسول ﷺ في غزوة بدر معجزات المسيح العلي المغول أسباب انحطاط المغول ۳۱۳ ٤٧٠ ٥٩٤ ٥٤٣ ۷۳۰ تقلد غير المسلمين مناصب تنفيذية في عهد مغولي ٦٦٧
ملحقات المكاتبة (راجع الرق) الملائكة نزول الملائكة بمعنى نزول العذاب رؤية الكفار الملائكة.يوم بدر صفات الإنسان الملائكية لا متعة للملائكة في الجنة ۵۹۲ ٥٩٤ ۱۷۷ ١٥ قصة خرافية عن عزرائيل مع عبد القادر الجيلاني ٥٨٠ المنافق: (راجع النفاق) المنعم عليهم هم الأنبياء والصديقون والصالحون ۲۲۸ ٣٦ نبوءة في سورة الحج عن فتح مكة وعيد العذاب لأهل مكة نبوءة قرآنية عن غزوة الأحزاب الجزء السادس نبوءات انتصار الإسلام وتحققها نبأ يؤكد كتابة علوم الرسول ﷺ نبأ اختراع المراكب الحديثة ۹ ٥٥٢ ٥٥٢ ١٠٥، ٥٦١ ۱۹۳ ۵۳۷ VV نبأ كثرة الشرك في الأقوام ذات العيون الزرقاء نبأ دمار الشعوب ذات العيون الزرقاء من أوربا وأمريكا بعد رقيهم ألف سنة نبوءات نبوية VV ۱۸۰ نبأ تدهور القيم الروحانية بعد القرن الثالث نبأ محاربة الإسلام بناء على فلسفات يهودية ومسيحية المهدي علامات المهدي في الأحاديث آية خسوف القمر وكسوف الشمس للمهدي زعم البعض أن المهدي سيوزع الأموال الموت حقيقة الموت الناسخ والمنسوخ (راجع القرآن الكريم) النبات الحاسة في النبات ۱۸۳ ۱۸۳ ۲۹۳ ١٧٦ نبأ عن زمن بعثة المهدي ۲۳۹ ۱۸۳ نبأ بعثة مجدد على رأس كل قرن نبأ غلبة الإسلام عالميا بعد القرن الثالث عشر تحقق نبوءة نبوية زمن عمر ۷۸ ٤٧٠، ٥٦٣ نبوءات الأنبياء السابقين نبوءة لإشعياء عن نبأ أن الكعبة ستكون مثابة للناس نبوءات السابقين عن اسم المسلمين الكعبة ٤٤ ۳۵ ۱۳۰ نبوءة لإشعياء عن نزول القرآن بدفعات 712 النبوءات (راجع الرؤيا والقرآن والنبوة والوحي تحقق نبوءة لإشعياء يوم بدر أيضا) جواز السعي لتحقيق النبوءة ظاهريا الغرض من الوعيد نبوءات قرآنية نبوءات في القرآن الكريم تحقق نبوءات القرآن مع نزوله تحقق نبوءة من سورة العلق ٤٧٠،٥٦٤ ٢٦٧ ٥٥٢ ٦٠٧ نبوءة لعيسى عن بعثة المسيح الموعود عليهما السلام ٤٨ النبوة: (راجع الرسول أيضا) مقامها غرضان من بعثة الأنبياء کل نبي أخبر عن إله واحد الرد على الخطية الموروثة كل نبي يكون بمنزلة القيامة للدنيا ٥٢٤ 140 - ۱۳۹ ۲ ٥٧٢
الجزء السادس النبي بمنزلة التعويذة للدنيا كل نبي يؤتى فرقانًا ۲۸۷ ٥٢٢ يؤتى الأنبياء عصمة كبرى، ويؤتى خلفاؤهم عصمة صغری الأنبياء ليسوا استثناء من الحوائج البشرية الحكمة في بعث الرسل من أحوال الأنبياء كلهم متشابهة البشر إنكار نبي واحد هو إنكار الأنبياء كلهم دحض الزعم أن الشيطان يسيطر على الأنبياء ۵۸۲ ٢٠٦ ۲۱۹ ٦٢١ ٨٥ ۳۷ ملحقات أسباب إنكار الأنبياء ٢٠٥ أكبر سبب لإنكار الأنبياء إنكار البعث بعد الموت سلاح خصوم الأنبياء يعارض الأنبياء والخلفاء دائمًا باسم الحرية خصوم کل : نبي اتهموه بالجنون التهم الموجهة إلى الأنبياء ٢٠٦ - ٢٠٧ ۱۹۱ ۱۹۰ ۱۹۲ - ۱۹۱ ۲۹۱ الغرض من طاعة الرسول هو تنظيم الكل في سلك الوحدة الرد على أن الشيطان يُجري كلماته على لسان نبي٨١ أمور متفرقة لم ينزل كلام الله على نبي دفعة واحدة ضرورة استجابة نداء النبي على الفور الصدق علامة جماعات الأنبياء ٦١٢ ٥٠٤ - ٥٠٥ لا بد من نزول الابتلاءات على جماعات الأنبياء ٥٠ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا تأثير بعد الأقوام عن زمن النبوة ضرورة بعثة الرسول من قومه وبني جنسه رسل الله لا ينكثون العهد انتشار نور النبوة من خلال الخلافة الفرق بين الأنبياء والزعماء الدنيويين ١١٤، ٥٨٦ ٣٩٥ ٥٢٢ ٥٢٣ ٤٥٠ مهمة الرسول تبليغ رسالة الله سيد المرسلين الرسول ﷺ سید المرسلين الرسول برأ كل الأنبياء من التهم أنواع النبوة أنبياء إسرائيليون تابعون للشريعة الواحدة كان هارون تابعاً لموسى ١٤٦، ٢٨٨ ۲۹۱ ٤٥٩، ٦١٧ المسيح الموعود نبي من أمة الرسول ﷺ وتابع له معارضة الأنبياء لم يفشل نبي و لم ينجح الشيطان قط مخالفة الأنبياء لماذا الله بعر قلة سبيل الأنبياء؟ يسمح المعارضة تنشر رسالتهم ٦٠١ - ٦٠٢ ٨٦-٨٧ ۸۸ ،۸۵ ٦٠٢ النبوة في الأمة المحمدية دليل قرآني على النبوة بقاء في الأمة المحمدية دليل صدق المأمورين النبي (راجع النبوة) النجاة 1.1 011 ١٤٠ ١٦٣ ۱۱۹ 120 المقام الحقيقي للمؤمن هو الفلاح ولا النجاة فقط ١٥٠ النجاح صفات المؤمن الناجح 10.ضرورة إصلاح الأفكار والأخلاق لإحراز النجاح إلى جانب صحة العقيدة ۲۹۷ وسائل نجاح المؤمنين المثابرة على الدعوة والدعاء وسيلة للنجاح ١٢٦ 110 واجبات المؤمنين لنجاح الجماعة الإلهية ٢٢٨ - ٢٢٩ هدف المؤمن نيلُ الفلاح لا النجاة فقط الفلاح الحقيقي ١٥٠ 10.
ملحقات نذر الحياة (راجع الحياة) النفاق من علامات المنافق الكذب حالة المنافقين في غزوة الأحزاب عذاب المنافقين أشد من عذاب الكفار النوم ضرورة الجسد إلى النوم الهجرة اصطحاب الرسول ﷺ أبا بكر في الهجرة حادث الهجرة إلى المدينة هجرة المسلمين إليها قصة عمر مع مسلمة مهاجرة إلى الحبشة الهندوسية (راجع أيضا الفيدا) ،۵۲۱ ،۲۱۸ ،۶۸ ٥٠ ٧٣٩-٧٤٠ ٦٣٢ ۱۹۸ ٥٦٢ ۸۲ ۱۷۱ ۷۰۷ ،۶۸۱ ،٥، ٦٠٦۲۸ ۵۲۸ تقدم الهندوسية إنها قوميا لا عالميا تصوراتها الباطلة عن أهل الله تقديس الهندوس للبقر ٥٥٧ الهندوسية لا تؤمن برحمانية الله تقسيمها أتباعها في أربع طبقات تعاليمها الاجتماعية الظالمة تعاليمها البشعة ضد غير الهندوس ٢٥٧ ٢٨٤ ٤٩٦ ٤٩٦ ۵۲۹ تعليم هندوسي بصب الرصاص في آذان "شودر" إذا سمع الفيدا تعليم "نيوگ" الهندوسي الوقح تصوراتهم عن أنبيائهم تعليم هندوسي عن ترك الدنيا التجار الهندوس يدعم بعضهم بعضا جواز زواج المسلم بهندوسية ۵۲۹ ٥٧٦ ۲۹۱ 212 ٤٢٧ زواج الملك "أكبر" بالهندوسيات ٦٥٢ ٣٨ الجزء السادس سماح المفسر لهندوسي بالخطاب في المسجد تقلد الهندوس مناصب حكومية في البنغال ٦٦٧ " يدهشر" الهندوسي (ابن عمة "كريشنا") يخسر زوجته في القمار ۷۳۳ لو عمل المسلمين بالتبليغ وتعدد الزوجات لم يبق في الهند هندوسي الهندوس أقل نسبيا في مجال التناسل تأثر المسلمين بتقاليد الهندوس خوف المسلمين من الهندوس ٢٥٨ ٢٥٩ ٤٩٧ ٢٦٠ جهاد المسيح الموعود ضد الهندوس ٦٣٦ قصة قاض هندوسي حاول عقاب المسيح الموعود الله ٤٤٣ قصة مترا الهندوسي مع المفسر ٢٥٦ الوحدانية (راجع الله له أيضًا) رأس الدين وحدانية تعالى قد دعا الأنبياء إلى التوحيد دوما لا يمكن اتحاد الأقوام إلا بوحدانية الله ۲۱۹ ۱۹۰ ٤٧ ۲۲ ۱۹۳ ١٨٤ مدارج مختلفة للتوحيد مثابرة الرسول على نشر التوحيد غاية بعثة المسيح الموعود إقامة التوحيد التوحيد الكامل لا يوجد إلا في الأمم المؤمنة برحمانية سبب إنكار التوحيد عدم عرفان صفات الله عقيدة التوحيد تبعث على السرور والطمأنية لا نجاة للعقل من التعقيدات إلا بقبول التوحيد غلبة التوحيد الذي قدمه الإسلام انهزام المسيحية أمام الإسلام في عقيدة التوحيد الموحد الكامل أدلة للرد على الآلهة الباطلة المراد من نيل الإنسان مقام التوحيد ٢٨٤ ۱۱۷ ٤٧ ٤٧ 0.1 ٢٥٣ 00 ٥٤٣ ۲۸۸
الجزء السادس ۳۹ ملحقات الوحي الإلهي (راجع الرؤيا والكشف أيضًا) الخلق الروحاني بحاجة إلى ماء الوحي ضرورة الوحي والإلهام الاستدلال على ضرورة الوحي بمثال اللبن الكلام الإلهي لا يناقض قانون الطبيعة لم ينزل الوحي على نبي دفعة واحدة لا يتكلم الله مع من سخط عليه عقيدة بعض المسلمين بانقطاع الوحي الوطن حب الوطن من الإيمان (الحديث) الحرب بسبب حب الوطن وفاة المسيح (راجع عيسى ابن مريم) يأجوج ومأجوج اليأس ۵۱۷ ١٨٦ ۱۸۹ ٦١٣ ۲۸۰ ۱۸۱ Vo Vo "من قال هلك الناس فهو أهلكهم" (الحديث) ٣٤١ أضرار مدمرة لليأس على القوم ٣٤١ اليهودية تعطي تعليماتها بصدد الحكم والسياسة ٤٤٧ اليهودية تقدم إلها قوميًا لا عالميًا اليهودية تجيز أخذ الربا من غير اليهود تعاليم يهودية ظالمة ضد غير اليهود تعليم يهودي مخالف للعدل الاجتماعي ٦٥٧ ٦٧٠ ٤٩٥ ٤٩٥ - ٤٩٦ ٤٩٤ ٦٦٠ أفضلية موسى ٦٦٠ الظلم والتنافر في المجتمعات اليهودية فضل الإسلام على اليهودية معاملة نبوية مع يهودي يعلن عن معاملة الرسول وصحابته للجيران اليهود حفاظ الرسول على حقوق يهود خيبر معاملة الرسول الله الله الحسنة مع يهودية دست له السم عند فتح خیبر إعطاء المسلمين لليهود مناصب حكومية في إسبانيا ٦٦٨ ٦٦٠ - ٦٦١ كان اليهود يحبّون عمر لجلوسه في دروسهم التوراتية كان لينين وستالين وفرويد من اليهود يوم ۳۱۲ ۲۳۹ اليهودية إنعام النبوة والملوكية لليهود ٤٥٨ - ٤٥٩ "ألف سنة" الله المكوَّن مفهوم يوم من VV
(٢) فهرس الأعلام شعوب وشخصيات
ابن الأنباري ملحقات ٤٤٣ ۸۱ ۳۱۳ ۸۲ ٦٣٦ ابن تيمية ابن حجر ابن حزم كان يعتقد أن لا رجم في الإسلام ابن خلدون ابن رشد الجهاد عنده مقدم على الحج ابن سينا أبو علي زعم بعض المسلمين أنه لا يمكن الزيادة على ما كتبه في الطب ابن عباس ٣٤٤ ٦٢١، ٦٦٠ ،۵۷۵ ،۹۱ ،۱ ابن عربي الدين رحمه الله کشفه عن قدم الكعبة ٣١٣، ٤٤ ٤٦ ابن عطية ٤٩٤ ابن القيم ٥٦٨٠٤٤٣ ابن مسعود طلب أبو جهل منه أن يقطع رقبته طويلا ۵۷۳ أبو بصير ١٦٢ أبو بكر الصديق ،٤۰۲ ،۳۹۷ ، ۳۳۳ ، ۱۹۸ ،۳۲ ، ۳۱ ،۱۱ ٤٠٥، ٤٦٦، ٤٧٤، ٤٧٥، ٤٧٧، ٥٨٦، ٦٢٧ ٦٢٧ ٦٨٦ ۳۱۲ إسلامه كان صديقا مخلصا للرسول كان يعرف طبيعة الرسول ٤٣ الجزء السادس آحاز آدم العلية لا خلق الله مئة ألف آدم (كشف لابن عربي) خلافة آدم ۵۸ ٦۰۱ ،۱۸۳۸۷ ٤٦ ٤٥٧ ۱۹۰ ١٥ ٤٩ ٦٦٢ ٦٠١ ،۸۷ ،٤٣ ٤٣ ۳۷ ٦٧٩ ٧٤٤ ۱۳۰ ٦٠ 7.۳۸ ۲۹ ۱۹۸ ٤٤٣ ٢٦٤ ١٥ ٦٦٦ معارضة إبليس له قصة آدم والشيطان كان التوحيد سبب اطمئنان آدم أبراهام لينكولن قصة تسامحه إبراهيم العلمية هو أول من بدأ حج بيت الله رفع بنيان الكعبة من القواعد إخلاصه وتضحيته نسب كل خير إلى الله مقامه في السماء السابعة الإسلام هو دين إبراهيم رؤياه بأنه يذبح ابنه أمر بذبح ابنه حسب الكتاب المقدس ترك زوجته وابنه بواد غير ذي زرع غاية التضحية التي طلبت منه رد فعله لما تلقى نبأ دمار قوم لوط إبراهيم الأدهم إبراهيم ذوق إبليس معنى كلمة "إبليس" ابن آثال وزير المالية المسيحي زمن معاوية
ملحقات صحب الرسول في الهجرة ٥٦٢ ٤٤ الجزء السادس قوله لابن مسعود أن يقطع رقبته طويلا قول الرسول الله لأبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا" ٦٧٨ إسلام ابنه عكرمة حماسه وإخلاصه في غزوة حنين إعتاقه عامر بن فهيرة تضحيته المالية عتاب الرسول ﷺ له حين لطم يهوديًا ٥٠٥ ٥٥٠ ۷۱۳ ٦٦٠ أبو حنظلة (راجع أبو سفيان) أبو حنيفة الإمام رحمه الله أبو حيان انقلاب عظيم في حياته لاتباعه النبي ٢٥٠، ٢٥١ أبو داود الظاهري تعجب أبيه حين صار خليفة ۵۷۳ ٥٧٦ ۱۱ ۳۲۲ ۷۳۷ ،۱۷۰ ۳۱۳ أفضليته على عمر حادثة الإفك كانت مؤامرة للحط شأنه من الرد على التهمة بنفاقه حلفه أنه لن ينفق على مسطح لم يكن من قبيلة عظيمة ازدهار المسلمين في عهد خلافته بسالته وشجاعته بعد توليه الخلافة إصراره على بعث عسكر أسامة تمرد قبيلة طيء في عصره جمع القرآن في عهده موقفه الصارم ضد مانعي الزكاة بدأ القتال ضد قيصر وكسرى معًا بيعةُ علي له ثابت تاريخيا أبو جندل أرجع إلى مكة وفق صلح الحديبية أبو جهل ٢٥٠ ۷۱۳ ٤٠٢ ۱۹۸ ٣٥٠ ٤٦٣ ٢٧٥ ٤٧٥ ١٢٦، ٤٧٥ ٦٥٨ ۳۱۰ ٤٧٥ ٤٧٦ ١٤٩ ١٦٢ ٤ ، ٥٦٧،٥٤٩، ٥٨٥۳۹ ،۳۱ ارتعابه من الرسول ﷺ شهادته عن أخلاق الرسول ١٦١ ٢٤٥ قتله سمية رضي الله عنها إيذاؤه زنيرة رضي الله عنها قوله يوم بدر: لو غير عكار قتلني مقتله في بدر ٥٤٩ ٥٥٠ ۰۹۰ أبو رويحة أخو بلال بالمؤاخاة هو ۱۳ أعطاه الرسول ﷺ اللواء يوم الفتح ۱۳ أبو سعيد الخدريه قوله إن النبي ﷺ منعنا أن نكتب غير القرآن ۳۱۳ أبو سفيان كنيته "أبو حنظلة" ٦٦٢،٤٤٢ ،۳۱ ۱۲ شهادته عن الرسول ﷺ في بلاط قيصر كان زعيما لقافلة قريش التجارية اندهاشه لدى رؤية طاعة الصحابة للرسول ﷺ محاولته لتغيير شروط صلح الحديبية نال احتراما عند فتح مكة شكواه إلى النبي ﷺ عند فتح مكة إسلامه ۲۰۱ ۱۲ ١١، ٦٥٨ ۱۳ ٦٢٢ ۱۲ اعترافه بهزيمة الشرك ۹۲ أبو طالب ٦٦٣ ألقى الله.، الرسول في قلبه حب ٦٨٥ قريش تطالبه بمنع الرسول الله الله من الدعوة ٢٥١، ٢٨٦ أبو عبيدة.أبو على الفارسي قوله عن كلمة رحمن ۳۱ ٦٨٩
الجزء السادس أبو فكيهة نه إسلامه وتحمله الشدائد أبو قحافة (والد أبي بكر ) تعجبه حين صار أبو بكر خليفة أبو لهب زعيم أناس ذوي طبائع نارية أبو هريرة شوقه لصحبة الرسول استخدامه مندیل کسری رضى عنه ٥٥٠ ١٢٥، ٤٧٥ ٢٥٠ ۱۹۰ ٤٧٧ ٥٦٢،٤٧٧ ٤٥ مقامه إسماعيل العلمية و مهمته ترکه بواد غير ذي زرع كان كذبحه الهدف الرئيس من تركه بمكة شارك في رفع بناء الكعبة اهتمامه بتربية أهله إشعياء العليا ملحقات ۹۲ ۲۹ 7.۲۹ ٤٣ ٧٤٤ نبوءته عن نزول الوحي على النبي الموعود دفعات ٦١٤ تسمية الأمة المحمدية باسم جديد نبوءته عن نبوءته عن تمركز الكعبة للأقوام ذهابه إلى معسكري علي ومعاوية في حرب صفّين٤٨٠ تحقق نبأ له في غزوة بدر ۱۳۰ ٤٤ أبو يوسف الإمام رحمه الله التلميذ الأول للإمام أبي حنيفة أحمد بن حنبل الإمام رحمه الله أحمد البريلوي أحمد السرهندي ٣٢٨، ٦٦٨ ۳۱۳ ٥٦٨٤٤٤٣ ٥٦٨٤٤٤٣ أحمد سيد خان السير (مؤسس جامعة عليغره) رأيه في الجهاد ضد الإنجليز الأزهري اللغوي أسامة بن زيد رضي الله عنهما عينه الرسول ﷺ قائد العسكر ٦٣٨ ۳۱۹ ٣٣٣، ٤٧٤ خروج عسكر أسامة بعد وفاة الرسول ﷺ إسحاق العلمية إسحاق الموصلي ١٢٥ ٤٧٥ ۱۹۸ من المغنين ببغداد في العصر العباسي ٧٠٤ أصحاب الرس قاموا مقام قوم ثمود أفرودين ضابط غير مسلم في جيوش عمر أكبر جلال الدين الآلات (إله العرب القديم) ألب أرسلان دعاء غريب لابنه ملك شاه ٦٢١ ٦٥٢ 17.أليكسندر سوتر (Alexander Sooter) ٥٥٥ أم سليم رضي الله عنها أم طاهر رضي الله عنها أم عبيس رضي الله عنها جارية أسلمت في بداية الإسلام ٣٦٨ ٦٤٩ ٥٥٠
الجزء السادس إقرار المؤلف البريطاني دسمند شا أمامه بعظمة الرسول حواره مع شخص أوروبي عن الإسلام قصته مع السير توماس أورنولد لقاؤه مع سترك لاند في مصيف "شمله" حواره مع مترا الهندوسي حول الإسلام 11.٢٦١ ٢٦٢ ۲۲۱ ٢٥٦ طلب قاض معاد للمسيح الموعود العليا الدعاء منه ٤ ٤٤ ٦٢٥ ٤٨٠ ٥٤٧،٥٤٦ ٥٤٨ ٥٤٩ ۱۳ ١٩٦ ٤٧٩، ٥٢٧ ٦٠٤ 01 ٤٥٩ ٤٥٠ 712 ٢١٤ 11-1.۱۰ حواره الطريف مع ضابط في الجيش شهادة خصومه على استجابة دعائه تسامحه الديني جريدة سيخية تنشر عنه أمورا مظنونة بعلزبول زعيم الأرواح السيئة وفق الإنجيل بلال إسلامه وتعرضه للمحن مكة تكريم النبي الله يوم فتح.بلقيس بنو إسرائيل تعقب فرعون لهم ។ ۰۹۳ ٢٤٥ ٦٦٨ ٦٦٧ ٢٦٠ ۳۳۳ ٤٠٣ ٣١٦ ٤٤٣ ٤٤٣ ٢٤٨ ۳۳۳ ۸۱ ملحقات أمية بن خلف زعيم لقريش شهادته عن أخلاق الرسول أورنغزيب عالمغير أمر بإعطاء المناصب بناء على الجدارة تقلد غير المسلمين مناصب هامة في عصره أورنولد توماس السير (Sir Thomas Arnold) الأوس تصالح الخزرج معها قبل الإسلام أيوب التي قصة وفاء يمينه في التفاسير باقي بالله الخواجة رحمه الله بختيار الكعكي الخواجه قطب الدين برویز خسرو بريرة رضي الله عنها البزاز بشير الدين محمود أحمد (الخليفة الثاني للمسيح الموعود العلي - صاحب هذا التفسير ) تفيهم رباني له لحل آية صعبة حجه لبيت الله ذهابه إلى مصر للدراسة ۸۱ ٤٠ ٤١ المسيح الموعود يأمره في الرؤيا بالذهاب للحج فورا ٤١ رؤيته جثة فرعون عام ١٩٢٤م رؤيته حجرة للملك في مسجد في بلد عربي ذهابه إلى أوروبا عام ١٩٢٤م ذهابه إلى لندن للعلاج ۹۱ ۲۸ 1.7 عادة القرابين البشرية فيهم موسی الخلفاء في بني إسرائيل بستانان لبني إسرائيل عقابهم على عصيانهم مو حُرموا من الإلهام قبل نزول القرآن الكريم نفي نبوخذ نصر لبني إسرائيل إلى كشمير بنو بكر خالفوا معاهدة صلح الحديبية
ملحقات ٢٦٠ ۱۲۰ ٦٢١،٢٠٨ ٦٠٣ ٥٠٠ ۰۳۱ ٦١٧ ٦٦٧ ٦٦٧ ٤٤٣ ٥٨٦ ١٣٦ ٥٦٧٠٤٤٣ ۷۲۰ ٦٦٧ توماس أورنولد قصته المفسر مع ثعلب الإمام ثمود ثناء الله الأمر تسري قصة شخص دخل في الأحمدية بسببه جبريل العلمي كان يسلّم على الرسول ﷺ عند زيارته وصيته للنبي ﷺ بحسن معاملة الجار جدعون سماه القرآن طالوت جرجي زيدان اعترافه بتسامح المسلمين جسونت سنغ قائد الجيش زمن المغول جشتي معين الدين جلال الدين الرومي جلال الدين السيوطي الجنيد البغدادي رحمه الله قصة توبة شبلي على يده مجذوب يرثيه بأبيات جملية جهانغير (سلطان مغولي) جي سنغ لواء في الجيش في عصر المغول ٤٧ ٥٠٥ ٤٦٣ ٤٦٣ ٥٦٨٤٤٤٣ ٥٤٣ ۷۳۰ ٣٧٤ ۷۳۰ ٥٥٧ ٣٥٢ ۱۹۲ ۵۱۲ ٦٦٦ الجزء السادس بنو ثقيف غزوة حنين ضدهم بنو خزاعة نقضت قريش صلح الحديبية بالهجوم عليها بنو عبد شمس تولّيهم الحكم بعد استشهاد علي بنو عبد المطلب أنصار علي بهاء الدين النقشبندي الخواجة بهاء الله الرد على ألوهيته بهادر شاہ ظفر انتهی به حكم المغول بالهند تآمر الإنجليز ضده مع زوجته قتلهم اثني عشر ابنا لــــه بوذا تصورات خاطئة عنه بوربن عائلة ملكية في فرنسا بولوس St.Paul البيهقي التتار قتلوا مليونًا وثمانمئة ألف نسمة في بغداد تنوخي الوزير المسيحي للخليفة العباسي المتقي بالله
ردة فعلها عند نزول أول وحي عليه الخزرج الجزء السادس ٦٢٦ ۳۳۳ ٤٠٣ ٢٤٨ ۱۷۵ تصالحها مع الأوس قبل الإسلام خسرو جندي غير مسلم في جيوش عمر خسرو برويز خليل النحوي خواجه كمال الدين (انظر كمال الدين) ΕΛ ۰۹ ۳۳۲ ۷۱۰ ٣٥٢ ۷۱۰ ملحقات حاتم الطائي الرسول يحسن إلى أولاده حزقيال النبي حسان بن ثابته حسن البصري الحسن بن علي رضي الله عنهما قصة عفوه عن عبد له الحسين الحكم الثاني بن عبد الرحمن الثالث تولى وليد بن خيزران المسيحي قضاء قرطبة زمنه ٦٦٦ حكيم بن الحزام.حليمة السعدية ۱۳ الخوارج خارجي يسقط عائشة من هودجها داتا غنج بخش الهجويري رحمه داود العلية الله ٨٦ ۳۷۰ ٦٧٢،٦٧٠،٥٦٦،٤٥۷ ،۵۹ ٤٥٧ ٤٥ ۱۱۰ ٣٤٢ ۱۷۵ ،۱۷۰ ٦٣٨ خلافته دعوى المسيح الموعود بكونه مثيلاً لداود دایودورس سکولس (٥٠ ق م) مؤرخ يوناني تحدث عن الكعبة دسمند شا اعترافه بعظمة الرسول ذو القرنين المسيح الموعود هو ذو القرنين لهذا الزمن الجدار الذي بناه الرازي فخر الدين الإمام صاحب "التفسير الكبير" الراغب الإصفهاني الإمام الجهاد ثلاثة أقسام : عنده 710 ٥٥٠ إلقاء الله حب الرسول ﷺ في قلبها الله حمامة أم بلال رضي عنهما حمزة ٤٣٧، ٦٦٤ ،۱۷۳ ،۳۲ ٦٦٣ ۳۳۲ ٤٣٧ ،۳۱ 0.V ٥٤٩ ٦٦٣،٦٢٦ ٦٨٦ اشتراكه في غزوة بدر استشهاده في غزوة أحد حمنة بنت جحش رضي الله عنها خالد بن الوليد حضوره حرب أحد مع الكفار كان ابنا لعدو الإسلام خباب بن الأرت له إسلامه وتحمله الشدائد خديجة أم المؤمنين رضي الله.عنها حبها للرسول
ملحقات ٦٢٧ ٤٠٢ ٥٢٥ ٣٧٤-٣٧٥ زيد بن حارثة.إسلامه زينب بنت جحش رضي ا الله عنها دفاعها عن عائشة في حادثة الإفك إكثارها في العبادة زینت محل تواطؤها مع الإنجليز ضد زوجها زين العابدين صار الإسلام صريعا كزين العابدين في كربلاء ٦٣٧ ۲۳۸ ۲۳۹ ۲۲۱ ٤٧٠ ٤٧١ ٢٤٨، ٢٤٩ ۳۳۳ ۳۳۳ ،۱۰۰ ،۳۱ ٤٩۱ ،۳۱ ٤٧٩ ٤٩ ٥٤٦ ۵۷۹ ،۵۳۱ ،۱۱۳ ،۸۷ ۲۹۱ ٦٦٦ ٦٣٩ ٦٥٩،٣٣٩ الجزء السادس رام بهجدت لاله رام تشندر ال بعث لهداية أهل الهند ني التهم التي وجهها إليه الهندوس ربي حسدي وزير يهودي لعبد الرحمن الثالث بأسبانيا رشید رضا صاحب تفسير "المنار") رأيه في الجهاد روشن علي الحافظ ذهابه إلى أوروبا مع حضرة المفسر ستالين رده على محاضرة ألقاها هندوسي في المسجد الأقصى كان يهوديا بقادیان ريدنغ اللورد V سترك لاند لقاؤه مع حضرة المفسر سراقة بن مالك به تحقق كشف للرسول ﷺ عنه لبسه أسورة كسرى في عهد عمر سعد بن أبي وقاص فاتح إيران سعد بن عبادة سعد معاذ بن ۳۱ ۳۵۹ ،۱۷۵ ۰۳۱ ،۸۷ ۵۳۷ ٣٢٦ ٥٥٠ الزبير بن العوام الزجاج النحوي زرادشت القلب كان نبيا لقومه فقط زلیخا زنيرة رضي الله عنها جارية تعرضت للاضطهاد بسبب إسلامها زید رجل موحد بين مشركي مكة زید بن ثابت ، كاتب الوحي ۲۲ ۳۰۹ قوله بأن الرسول الله الله كان يمنعنا عن كتابة حديثه ٣١١ رئيس الأوس سعيد بن الجبير سلامة شاعر من بن جندب الطهوي الجاهلية سلطان أحمد الميرزا حادث فقر رآه في بريطانيا
ملحقات تجربته عن الشهادة المزورة في المحاكم سلمان الفارسي ه سليم التشتي رحمه الله سليمان العليا سمية رضي الله عنها إسلامها واستشهادها سهیل ممثل كفار مكة في صلح الحديبية سیاه ضابط غير مسلم في جيوش عمر سيتا زوجة رام تشندر الشافعي الإمام رحمه الله شبلی رحمه الله قصة توبته شراحة الهمدانية امرأة جلدها عليه ورجمها شعبة ۷۲۳ ١٤٥ ۷۰۰ ،۲۹۶ ،۱۹۲ ٥٥٠ ١٦٢ ۲۹۱ ۰۱۲ ،۳۲۲ ٤٤٣ ۷۲۰ - ۷۱۹ ٣١٤ ۳۱۲ ٦٩٢ شهاب الدين السهروردي رحمه الله ٤٤٣، ٥٦٨ شهرویه ضابط غير مسلم في جيوش عمر شهریار ضابط غير مسلم في جيوش عمر ٤٤٣ 0.الجزء السادس شيبة ۶۱۰، ٥، ٥٩٥۹۳ ،۱۱۵ ،۳۱ صابي وزیر حرب مسيحي زمن المعتضد ٦٦٦ صالح العلي ٦٦٥،٦٢٣ صفوان بن معطل ۳۳۵ ،۳۳۲ - ۳۳۱ صفية رضي الله عنها ٣٦٩ صلاح الدين الأيوبي هجومه على مصر صموئيل بن عارف وزير مسيحي في الحكومة الإسلامية بغرناطة صهيب الرومي به إسلامه وتعرضه للشدائد الضحاك الطبراني طلحة طيء (قبيلة) إحسان الرسول ﷺ إليها في الحرب ۷۳۰ ٥٥٠ ١، ٤٩٢ ۸۱ ۳۲ ارتدادها في عصر أبي بكر ثم إسلامها عائشة الصديقة رضي الله عنها ،٢٤٣، ٣٥٠ ٤ ، ٤٠٣ ، ٧١٠،٤٩٣۰۰، ۳۷۰ ،٣٦٦ سباق الرسول ﷺ معها ٣٧٦ قراءتها الأحاديث على الرجال سؤالها الرسول ﷺ عن: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة رواية لها عن الرجم روايتها عن الحجاب ٣٧٤ ۲۲۰ ٣٠٨ ٣٦٦
ملحقات ٦٨٩،٣١ ٢٥٦ ٤٤٣، ٥٦٧ ۵۸۰ - ۵۷۹ ٣١٤ ١٦٩ ٣٣٢٠٨٦ ٤٠٣ ٤٠٣ ٤٠٦ ٤٠٤ ٤٠٦ ٤٠٦ ٥٠٧ ٥٥٠ ٥٢٠، ٥٢٤ ٥٥٥ ٥٢٥ ۷۰۲ ٤٤٠ عبد الرحمن بن عوف عبد الرحيم درد عبد القادر الجيلاني رحمه الله کرامات خرافية منسوبة إليه عبد القيس ۵۱ ۳۳۲ ۳۷۰ ۳۳۱ ٤٠٢ ٣٣٥،٣٣٤ الجزء السادس منعت أم مسطح عن سب ابنها خارجي يسقطها من هودجها حادثة الإفك مؤامرة رئيس المنافقين لفضيحتها سبب التهمة التي وجهت إليها براءتها منها دفاع زينب بنت جحش عنها في حادثة الإفك ٤٠٢ عاد هم قوم هود ۲۰۵ ،۷۵ مجيء وفد عبد القيس إلى الرسول الله عبد بن أبي سرح ه ارتداده المؤقت عبد الله بن أبي بن سلول كان ملك يثرب المتوقع عدائه الرسول سبب ضلعه في حادثة الإفك تحريضه الأنصار في غزوة بني المصطلق فتح جبهة ضد أبي بكر حادثة ابنه المخلص معه جُلد على اتهام عائشة عبد الله بن الجبير منه قتاله في غزوة أحد بن جدعان عبد الله عبد الله بن الزبير عبد الله بن سلام كان الرسول يسأله مضامين الكتاب المقدس عبد الله بن عمر حث الرسول ﷺ له على التهجد عبد الله بن عمرو بن العاص إسلامه ۲۰۸ ٦٢١ ۳۱ ٤٤٠ ٥٥٠ ٣١٤ ٣٢، ٦٢١ ٥٠٦ ۱۲ ٤٦٤ ٦٧٥ ٦٦٦ دليل وجودهم دمارهم العاص بن وائل إسلام ذريته عامر بن فهيرة له عبد أسلم في بداية الإسلام عبادة بن الصامت العباس بن عبد المطلب.موقفه في غزوة حنين حثه أبا سفيان على البيعة قيام الحكومة العباسية في بغداد عبد الحميد السلطان التركي إعجاب سيدنا أحمد العليا بقول له عبد الرحمن الثالث وزیره يهودي في عهده
الجزء السادس ۰۹۳ ٥٦٧ ،۳۱ ۰۷۱ ٤٣٨ ٤٣٨ ٤٣٨ عضد الدولة كان نصر بن هارون المسيحي وزيرا عنده عقبة بن أبي معيط عكرمة بن أبي جهل له محاولته للهروب إلى الحبشة بعد فتح مكة إسلامه بسالته وشجاعته ،۸۶ ،۳۲ ،۳۱ إيثاره المثالي في ميدان الحرب علي بن أبي طالب له ۵۲ ٤٤٠ ۵۷۳ ٤١ ٥٠٤ ٦٨٥ ملحقات منعه الرسول من كتابة أحاديثه عبد الله بن مسعود به حواره مع أبي جهل عند موته عبد الحي العرب اصطحبه المفسر له في سفره للحج عبد الله السنوري نموذج طاعته للمسيح الموعود عبد المطلب العلية ألقى الله في قلبه حب الرسول ﷺ ،314 313 ،١٤٥ - ١٤٧، ١٤٩، ٢٤٢ ،۱۲۰ ٥٩٤،٥۹۳،۰۸۰، ۳۱ -٤، ٤٤٠ ، ٤٦٣ - ٤٦٦، ٤٦٩۰۸ ،۳۹۷ ،۳۳۳ ،۳۹۷ ، ۱۴۹ ، ۱۷،۳۱ عتبة عثمان عفان انه بن ،٤، ٤٨٠٤٧٥، ٤٨٤، ٤٨٦-٤٨٧۷۳ ،۱۷۰ ٤٠٨ ، ٤٦٨ ، ٤٧٣ ، ٥٦٧، ٥٨٥، ،۷۰۲ ،۶۹۱ ،٥٦٧، ٥٨٥، ٥٩٥، ٦٢٦-٦٢٧ ۷۱۰ ٦٢٦- ٦٢٧ ۳۱ ٤٦٩ ٣١٤ ٦٩١ إسلامه حياته الخالدة صدقه وتعلقه بالقرآن الكريم كان يرى أن حد مئة جلدة للزنى لم يُنسخ اشتراكه في غزوة بدر كتب وثيقة صلح الحديبية ۳۱ ٤٦٣ ٤٦٨ ٤٦٨ ١٦٩ ٤٦٧ ٤٧٨ ٤٦٩، ٤٨٧ حياته الخالدة كان ينتمي إلى عائلة ذات جموع حبه للرسول ولمدينته توكله على الله أمانه لعبد الله بن أبي سرح عند فتح مكة ١٤٨ عينه عمر أميرا على المدينة ١٤٨ ۱۲۵ بايع أبا بكر وعمر وتعاون معهما قلقه تجاه تيار الردة ۲۷ ٤٧٥ ٤٦٥- ٤٦٦ ٤٨٠ ٤٧٨ ΣΑΥ ΣΑΣ أشار على أبي بكر بعدم إرسال عسكر أسامة 01.اختلافه معاوية مع حرب صفين بينه وبين معاوية واجه المخاطر بكل بسالة استشهاده سبب انتهاء الخلافة بعده حضوره المسجد رغم الخطر من المتمردين مواجهته للمعارضة الداخلية استشهاده عثمان بن مظعون تعرضه للشدائد عزرائيل العزى ٦١٠، ٦١١، ٧١٦ ١٤٠، ٧١٦ ٦٦٦ عُزير العلية الا العزيز كان عيسى بن نستور المسيحي أحد وزرائه
الجزء السادس حالة المسلمين في عصره عمار ٤٦٩ ٥٣ سوء فهم منه في قضية الرجم فصله في قضية للقذف ملحقات ۳۱۰ تحمله الشدائد للإسلام العمالقة العمالقة أيضا أقاموا الكعبة ٥٥٠ ٤٦ عمر بن الخطاب ۸، ۱۱ - ۱۲، ۳۱-۳۲، ،۱۷۳ - ۱۷۱ ،۱۶۳ ،۱۵۰-۱۷ ،۱۲۰ ،۶۷ ،۳۱۷ ،۳۱۲ ۱۳۰۸ ،۲۷۵ ،۲۵۰ - ۲٢٣٤ ، ٤٨ ،٤٦ - ٤٦٤، ٤٦٦ - ٤٦٧۳ ،۳۹۷ ،۳۳۳ ،۳۲۸ 6010 ،٥٤ - ٥٥٠، ٥٦٣، ٥٦، ٥٧٥۹ ،۵۱۲ ۷۱۳ ،۷۱۱ ،۷۰۱ ،٦٦٢، ٦٦٥ قول له عن وفاء العهد كان يقرأ التوراة ١٦٣ ۳۱۲ قول يهودي له عن قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم...٥٧٥ ٤٣٧ - ٤٤٠ ،۳۱ ٤٤٠ عمرو بن العاص له ير وجه الرسول قبل إسلامه ولا بعده اشتراكه في غزوة أحد في صف المشركين اشتراك جنود غير مسلمين تحت قيادته مشاعره عند وفاته ٤٤٠ عيسى ابن مريم ال (انظر أيضا المسيح، ويسوع) قصة إسلامه انقلاب عظيم في حياته بعد اتباعه الرسول ﷺ غيرته على الرسول تضحيته المالية قلقه يوم صلح الحديبية قصته مسلمة مهاجرة إلى الحبشة مع قلقه على الردة بعد وفاة الرسول ﷺ ۱۷۱ ۱۷۱ V.1 ۷۱۳ ٦٧ ۱۷۱ ١٢٥ ٤٧٥ ٤٧٧ ٤٦٣ ٢٧٥ ١٤٨ ٤٧٠، ٥٦٣ ۷۱۱ أشار على أبي بكر بعدم إرسال جيش أسامة شجاعته بعد توليه الخلافة ما كان ينتمي إلى قبيلة عظيمة ازدهار المسلمين في عصره عين عليا حاكمًا على المدينة في غيابه مرتين حقق كشف الرسول ﷺ عن سراقة حيطته في إنفاق المال العام وجود غير المسلمين في الجيش الإسلامي زمنه فتح بلاد فارس كان يسأل الله الشهادة في سبيله حياته الخالدة روايتان له عن الرجم ٢٤٨ - ٢٤٩ ٤٦٧ ۳۱ ۳۰۹ - ۳۰۸ ،٥٣٢،٤٦٠ ،۳۹۰ ،۲۱١٤٦،٨٧، ١٨٦، ٢ ٥٦٧، ٦٠١ ،۵۳۷ ٤٦٠ ۵۳۷ ٢١٤ ٤٦٠، ٦٧٠ غير تشريعي من السلسلة الموسوية كان نبيا إلى قوم واحد فحسب مهمة نبوته قوله: "ما جئت ، لأنقض الناموس..." اعتبر آية الله ثناء القرآن الكريم على حوارييه ذكر سفره إلى كشمير إيواء الله له ولأمه إلى ربوة كان يُدعى يوز آسف في كشمير عاش مائة وعشرين سنة نجاته من الموت كيونان النبي تعليمه عن الزهد تعليمه عن عدم مواجهة الظالم قوله كل شجرة تُعرف بثمارها لم يكن مصداقا لنبوءة إشعياء معجزات تنسب إليه ٧٤١ ١٤٦ ١٤١، ٢١٣ ۲۱۳ ٢١٤ ۲۱٥ ۲۱٥ 212 ٦٧٠ ١٤٥ ٤٤ ٥٤٣
ملحقات ٥٤ عقيدة خلقه الطيور تعارض القرآن الكريم ١١٧ - ١١٨ نبوته نبوة تابعة للمصطفى كان وحيه بحاجة إلى معجزات لتصديقه ٥٢٢ الغاية من بعثته على ضوء أقواله مماثلته بالمسيح الناصري في مجيئه ١٩٢، ٢٤٦ ٤٩٧ ۲۹۱ رماه المعارضون بالجنون اعتراض اليهود على أكله.مع الجباة والخطاة تهم وجهها إليه المسيحيون ۲۱۳ اتهم بالتمرد على قيصر ٥٤٣ - ٥٤٤، ٥٨٤ - ٥٨٥ ١٤٢، ٢٧٤، ٥٨٣ ۵۸۳ ٥٨٣ ٥٨٤ ٥٤٣-٥٤٤ ۵۸۱ ۵۳۸ ٤٨٢ الرد على ألوهيته فة الغيب اعترافه بعدم معرف لم يستغن عن الحوائج البشرية ذكر أكله الطعام في الأناجيل اعترافه بكونه عاجزا وعديم الحيلة براءته من الألوهية دحض عقيدة بنوته الله مماثلة له بالمسيح الموعود في مجيئه عقيدة البعض أنه سينزل بالجسد الملائكة مع ٥٥٩-٥٦٠ حدوث ضجة إثر إعلان المسيح الموعود اللي عن وفاة عیسی العلية الا عیسی بن نستور وزير مسيحي في عهد العزيز الخليفة الفاطمي غالب أسد الله خان ۱۱۳ الجزء السادس ٤٨٢، ٥٦٦ ١٨٤ ٤٨٢ وضع حجر أساس للقضاء على المسيحية يوم أخذ البيعة هو مثيل ذو القرنين هو المحافظ لبستان محمد في هذا العصر ۷۸ استئناف الخلافة الراشدة بواسطته رعاية الله له علمه الله أربعين ألف جذر للعربية في ليلة واحدة ١٧٤ يُولد منه الكثيرون أمثال داود امتدادًا للظل الروحاني للرسول ٦٢٨ من يؤمن به يصبح ا نبوءات الرسول ﷺ عن زمان بعثته هو المصداق لنبوءات النبي ظهور آية عظيمة بواسطته تعاليمه خالف الاتجاه السائد في آرائه وأفكاره يسلّم الناس بدعاويه رويدا رويدا ۱۸۳ ١٨٣ - ١٨٤ ٤٤٤ ٦٢٨ 114 - 113 بدأ المسلمون يقبلون دعواه بعدم النسخ في القرآن١١٤ انتشار معارف القرآن بواسطته كتب خصائص القرآن في كتبه إيمانه بأن القرآن شريعة دائمة ٣٤١ ٣٤٤ ٦٤٠ شعر حكيم له غبن (Gibbon) ره من قصة ملك شاه ابن ألب أرسلان الغزالي الإمام رحمه الله ٧٤٧ 17.٥٦٨ نقاشه مع المطلع على تعليمه يدرك أن للقرآن ترتيبا محكما ٣٢٩ أحد الشيوخ حول خلق المسيح الطيور ١١٦ تعرضه لمعارضة شديدة إثر إعلانه عن وفاة عيسى العليا تعريف الجهاد عنده ۱۱۳ ٦٣٨ غلام أحمد القادياني ال (الإمام المهدي المراد من تحريمه الجهاد بالسيف في هذا الزمن هو تأجيله والمسيح الموعود، مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية) ٦٤١ ٣٩٢، ٤٢٦ ، ٦٠٣ ، ٧٤٧،٧٣٥،٦٤٩ صار وجوده اليوم بمنزلة آيات بينات ٤٤٣ أنواع الجهاد عنده جهاده بنشر تعاليم الإسلام ٦٣٦، ٦٤٢،٦٣٨ ٦٣٥
الجزء السادس أنهم كذبًا بنسخ الجهاد ٦٣٥ خروجه وحيدا للجهاد ضد الهندوس والمسيحيين ٦٣٦ فتواه عن الحجاب ٣٦٧ حكمة منعه جماعته من الزواج من غير الأحمديين ٦٤٩ نهي عن : تأمين الحياة ٦٢٩ ٦٢٩ لنهي عن الإضراب اعترافه بأنه استقى من فيض النبوة المحمدية ٦٨٦ ٥٥ غلام علي الشيخ الوهابي قصة أدائه "الصلاة الاحتياطية" غلام نبي سيتهي غوتم بوذا غورينغ (Goiring) تناوله السم لما أراد الحلفاء إعدامه ملحقات ٤٧٣ ١٧٤ ٥٥٧،٥۳۱ ٥٥٢ قوله الشهير عن قاض: إنني أسد الله، فليمد هو يده إلي ليرى النتيجة إعجابه بقول للسلطان التركي عبد الحميد نموذج طاعة المولوي نور الدين له نصيحته لسيخي انتابته أفكار إلحادية قصته مع الشيخ غلام علي الوهابي سرده قصة امرأة سرده قصة عجوز عمياء سرده قصة حجام اعترضوا على أكله وشربه رجمة بعض أبياته بالأردية والفارسية ٤٤٤ ٦٧٥ ٥٠٤ ۵۹۷-۰۹۶ ٤٧٣ ٧٣٦ ٤٢ ٤٢٦ 001 - هذا الينبوع الجاري الذي أسقيه خلق الله قطرة من بحر كمال محمد ٦٨٧ الكرامات وإن كانت معدومة في هذا الزمن ولكن بإمكانكم أن تشاهدوها من غلمان محمد ١٨٥ - يا من تبتدر إلي لتقطعني احترس من البستاني لأنني غصن مثمر ۳۹۸ - يا رب، إن الفيلسوف الذي يحاول إدراكك بعقله مجنون، لأن طريقك الخفي بعيد عن العقول أنا شجرة أتت بثمار داوودية، إنني داود وجالوت هو صيدي غومز بن أنتوني (Gomez son of Anthony) عضو مسيحي في مجلس الدولة الإسلامي بأسبانيا ٦٦٦ فاطمة الزهراء رضي الله عنها طلبت خادما من النبي ﷺ ولكنه رفض ٥٦٣ ۷۱۰ ۶۹۷ ،۱۷٥ ،٥ ، ٥٥٣-٥٥٤۲۷ ،٤۸۲ - 141 فراء النحوي فرعون كان يستر وجهه بالنقاب عظمته ثم عاقبته نزول أنواع العذاب على قومه هلاکه فروید كان يهوديا فريد الدين غنج رحمه الله قتادة القرطبي قریش ٥٦٤، ٦٠٤، ٦١٧ ۹۰ 91-9.۲۱۰-۲۰۹ ٥٥٢ ۲۳۹ ٥٦٨٤٤٤٣ ۰۱۱ ،۹۱ ٤، ٥١١۹۳ ،۱۳۵ أنا آدم حينا وموسى حينا ويعقوب حينا وأنا إبراهيم نكت بني بكر وقريش معاهدة صلح الحديبية ١٠ - ١١ أيضا ونسلي متعدد ٥٦٧ معاملة الرسول ﷺ الحسنة مع قريش ۱۳
الجزء السادس ٥٥٠ ۱۹۸ ٣٥٠ ٦٢٢ ۲۳۹ ۵۱۲ ،۳۲۲ ،۳۱۳ ٦٦٧ ٦٩١ ٢٥٦ ۱۹۱ ،۱ ۹ ،۲ ۱۳۳ ۲۰۳ - ۲۰۲ ۳۰ - ۲۹ ٤٤ ٦٨٣- ٦٨٤ ۳-۲ لبينة رضي الله عنها جارية آمنت في بداية الإسلام لينكولن أبراهام (راجع أبراهام) لوط Staitell جريمة زوجته عاقبة قرية قوم لوط لينين كان يهوديا مالك بن أنس مان سينغ كان قائدا في الجيش المغولي المبرد ظن أن لفظ رحمن غير عربي مترا الهندوسي حوار رائع للمفسر معه المتقي بالله كان "تنوخي" وزيرا مسيحيا في عهده مجاهد محمد رسول الله وخاتم النبيين) غرض بعثته مصداق النبوءات نبوءة عنه في حادث نوح إعلان مجيئه بواسطة إسماعيل مصداق نبوءة إشعياء صدقه ضرورة الرجوع إلى الله لمعرفة صدقه خمسة أدلة أساسية على صدقه ملحقات قیدار نبوءة إشعياء عن ذهاب ريح قیدار (قريش) ،٢٤٧، ٤٧٦ ،۲۱۳ ،۱۲ ٥٦١، ٥٦، ٦٦١، ٧١١،٧٤٩ ۲۱۳ 10 ٥٢٠ قيصر الرومي أنهم عيسى بالتمرد على قيصر استفساره أبا سفيان عن الرسول ﷺ كبير بهغت ۵۷۹ ،۵۳۱ ، ۲۹۹ ، ۱۱۳ ،۸۷ ۵۳۷ ۰۷۹ ،۵۳۷ ،۲۹۱ ۲۹۱ ٤٤٣ کرشنا العليا مرسل مقدس بعث في الهند للهندوس كان نبي الله التهم التي وجهت إليه من قبل الهندوس کرم دين بهين کسرى الإمبراطور الفارسي ١٥١ - ١٥٣ ، ٢٤٧، ٢٧٥ ،۱۲ ١٥٣ ٤٧٧ ٥٦٢،٤٧٧ ٥٦٣ حضور وفد المسلمين في بلاطه هزيمة كسرى في عصر عمر وصول منديله إلى أبي هريرة لبس سراقة سواري كسرى کمال الدین خواجه أظهر قلقه أمام المسيح الموعود عن قضية كرم دين كونفوشيوس ٤٤٣ - ٤٤٤ ۰۳۱ اللات (إلهة العرب في الجاهلية) V17 6711-71.609061.0 CAE CA.٦٥ - ٦٦ لبيد قصة تعليق عثمان بن مظعون على شعره
الجزء السادس التأييد الإلهي دليل على صدقه ظهور معجزة في غزوة بدر تأثير أدعيته قوله: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ٦٢٧ ٥٩٤ ۲۳۰ ٥٠٥ OV لا يمكن أن يخفي جزءا من القرآن ملحقات ۳۱۱ مقامه الرفيع أمانته صدقه أخرجه الله من زاوية الخمول وجعله ملكا ٥٧٧، ٧٤٨ وفاؤه بالعهد مقامه لولاك لما خلقت الأفلاك هو سيد ولد آدم وسيد الأولين والآخرين تمسكه بالتوحيد إنه دليل حي على صفة الله الرحمانية إنه المظهر الكامل لصفة الله, رب إنه مظهر كامل لصفة الله الرحمن آخر نبي ذي شرع هو هو کله نذير للعالم هو نبي وملك يتبع الأحكام الإلهية هو العبد الكامل ٢٨٨، ٦٩٦ ۲۸۸ ۲۸۸ ٦٨٦ العالمين ۲۸۸، ۲۹۰ هو سيد المرسلين هو أفضل من باقي الأنبياء هو المثيل للأنبياء أجمعين هو المثيل لموسى أفضليته على موسى ولد بقوته القدسية آلاف كإبراهيم جبريل يسلم عليه عند مجيئه زمن رسالته ممتد إلى يوم القيامة تعليمه باق إلى يوم القيامة امتداد ظله المراد من منحه الله السلطة النهائية في القضاء خُلقه العظيم وصف مجمل لحياته الطاهرة تصميمه على نشر التوحيد توكله ٦٩٨ ۳۱ ٥٢٦ ٤٥٩ ٥٢٢ 187619 ٥٢٢ ۱۹۸ ٤٨٢، ٥٦٤ ۳۱ ٥٠٠ ٤٨٢ ١٨٦ ٦٢٧ ٤٤٨ ٦٨٥ ،۱۹۳ ٧١٦ ٦٧٨،٦٧٥ استقامته غناه وعزيمته قوله: "الفقر فخري" شجاعته معركة حنين ۱۵۹ ٥١ ١٦٢ ٢٨٦ - ٢٨٧ ۲۰۲ - ۲۰۱ شهادة النضر بن الحارث وأبي جهل عن أخلاقه تواضعه ورفقه رغم السلطة مقارنة بينه وبين يوسف في العفو إعلانه العفو العام يوم فتح مكة احترامه مشاعر المكيين المهزومين عفوه عن يهودية سممت طعامه يرض أن يأخذ أي أسير خادمًا إلى بيته حيطته في إنفاق أموال المسلمين إحساسه بمعاناة الفقراء إكثاره من الصدقة تكريمه بلالاً عند الفتح ٤٦٦ ٥٠٥ ٢٤٤ - ٢٤٥ ۷۰۱ ٦٦٣- ٦٦٤ ۱۰ ٦٦١ - ٦٦٢ ٦٦٠ - ٦٦١ ۷۱۰ ۷۱۰ ١٥٥ - ١٥٦ 001 استشارته الصحابة ۱۳ ۲۰۲ - ۲۰۱ دعاؤه لشيبة في غزوة حنين أسوته مع غير المسلمين ٦٥٤- ٦٥٥ تعليمه عن الاعتراف بمحاسن الأديان الأخرى واحترام مشاعر أهلها ٦٥٧ - ٦٥٨ معاملته مع يهودي فضل عليه موسى حسن ٦٦٠ سبب حمله السيف على الكفار هو منبع الإحسان في العالم إحسانه إلى الملائكة برأ كل الأنبياء من التهم ٦٦٩ ۲۸۹-۲۸۸ ۲۹۲ ۲۹۱
الجزء السادس توفي بعد ثمانين يوما من حجة الوداع ارتداد القبائل العربية بعد وفاته انتصاره وهزيمة أعدائه ۲۳۳ ۱۲۵ ۹۱ إملاؤه القرآن بالتعهد ومنعه من كتابة حديثه ۳۱۱ كان يسأل عبد الله بن سلام عن أحكام الكتاب المقدس معارضته السبب الأساسي لإنكار العرب له مؤامرة خفية لإثبات فشله رماه الأعداء بالجنون ٦٢٢ 127 ۱۹۲ - ۱۹۱ ^.دحض قول للمفسرين أن الرسول ﷺ قال أثناء تلاوة ٦٣٩ ٤٦٩ سورة النجم: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن محمد إسماعيل الشهيد جاهد السيخ و لم يجاهد الإنجليز محمد الإمام ۵۸ ٤٣ ٣٤١ ۲۹۲ ٢٦٦ ٢٦٤ ΕΛΛ ۲۰۲ ٦٨٦ ٧٤٩ ملحقات جمع الله أقوام العالم كلها على يده قوله الحكيم.عن إصلاح القوم أنقذ المذنب من فيوضه اليأس كل بركة في طاعة محمد طاعة صحابته له قيام الصحابة بحراسته مقارنة بين إخلاص صحابته وأصحاب موسى ببركة اتباعه صار الرعاة ملوكًا رقي الصحابة الدنيوي ببركته ظهور الصلحاء والأولياء والمجددين في أمته ٥٧٠، ٦٨٦- ٦٨٧ هذا الينبوع الجاري الذي أسقيه خلق الله إنما هو قطرة لترتحى" من بحر كمال محمد (المسيح الموعود) نبوءاته وكشوفه نبأ بعثة أخرى له نبأ تدوين ما جاء به نبأ انتصاره وهزيمة الكفار ٦٨٧ ۱۸۲ ۱۹۳ ٢١، ٦٢٣ كان خلفا للإمام أبي حنيفة محمد بن أبي بكر إساءته الأدب مع عثمان محمد شاه رنغيلا انغماسه في الغناء والموسيقى ۷۳۰ محمد ظفر الله خان له ٤٨٠ محمد علي المولوي ٤٨٠ محمد میر ناصر خواجه محي الدين رحمه الله (راجع ابن عربي) مريم عليها السلام كانت آية الله ۲۱۲ ٧٤١ ٤٧٠ ، ٥٦٣ ٤٣٧ ٦٢٦ ٦٦٣ ٥٦٢ ٥٠٧ ٤٨٨ ۹۲ ۱۰۸ کشفه عن فتحه بلاد قیصر وکسری کشفه اقة عن سرا بن مالك وتحققه رؤياه أن ملائكة أتت بعنب الجنة لأبي جهل كشفه أن قريشا خالفت معاهدة.وقائع حياته قلقه عند نزول أول وحي عليه ظلم الكفار بابنته الحامل حادثة هجرته إلى المدينة إصابته بالجروح في أحد محاولة بدوي لقتله کسره الأصنام يوم فتح مكة محاولته لحفظ إيمان شخص صلح الحديبية قوله حين رأى امرأة تبحث عن ولدها في الحرب
ملحقات ۵۹ الجزء السادس ذكر إيواء الله لها ولابنها إلى ربوة ١٤١، ٢١٢-٢١٣ المغيرة مسطح ابن أثاثة له ابن أخت سيدنا أبي بكر صحابي بدري اشترك في افتراء قصة الإفك ۳۳۲ بن شعبة والي البصرة في عصر عمر ملك شاه ابن ألب أرسلان دعاؤه العجيب ۳۲۸ 17.المسيح اللة (راجع أيضا عيسى بن مريم، ويسوع) مناة ٨٠ ۸٤، ۱۰۵، ۰۹۰، ٦١٠ - ٦١١، ٧١٦ ،140 - 139 ، 117 - ١١٦ ،۱۱۳ ، ۱۱۰ ،۲۱۳ ،۱۹۲ ، ١٤٢، ١٤٥ - ١٤٦، ١٧٤ ،٢٤٦ ، ٢٥٣، ٢٧٤ ،۲۲٥ ،۲۱۹ ،۲۱۰ ،٤، ٤١٤، ٤٨٢،٤٦٠۱۰ ، ۳۶۳ ،۲۹۱ ،٥٤٣ - ٥٤٥ ،۵۳۸ ،۰۲۲ -٤٩٦، ٥٢١ ،٥ - ٥٨٥۸۱ ،۰۷۹ ،٥٦٠،٥٤٨، ٥٦٥ ۷۱ ،۷۳۱ ،٦٥٨، ٦٧٠ - ٦٧١، ٦٧٥، ٧١٦ مسيلمة الكذاب منسى بن حزقيا منوجي الشارح الآري مهدي حسين مير نموذج طاعته المثالية المودودي أبو الأعلى ٥٢٨٠٤٩٦ ٥٠٤ ٦٣٩ - ٦٤٠ موسى الع٤٦، ٩١، ١٤٦ - ١٤٧، ١٨٦، الرسول الله يرفض شروط مسيلمة للبيعة ٤٠٤-٤٠٥ - ٣٩٦، ٤٥٨ ، ۳۹۰ ، ۲۲۸ ،۲۲۵ ،۲۱۹ ، ۲۱۱ ،٥٣٢،٥۲۷ ،۵۲۲ ،٤٦٠، ٤٧٩ - ٤٨٠، ٤٩٥ ٦٨٨ ٤٤٢،٤٤٠ ،۳۱ ،٥٥٢ ٥٥٣، ٥٦٦ - ٥٦٨، ٦٠١، ٦١٩ ،۵۳۷ ٤٦٨ ٦٢٠، ٦٢٣، ٦٢٦ ، ٦٦٠ ، ٦٧٢،٦٧٠ سماه أتباعه رحمان اليمامة معاوية بن أبي سفيان له طلب من عثمان المجيء إلى الشام خلال الفتنة ردُّه على ملك الروم المسيحي لما أراد حرب المسلمين ۵۳۷ ٦١٨ ٦١٣ 141 ٤٨٢، ٦١٧ ٤٨٢ ۵۸۹ ۹۰ ٤٨٢، ٥٦٤ - ٥٦٥ ٦٠٤ ٤٥٠، ٥٥٤ ٢٠٢، ٥٥٤ كان نبيا إلى قومه فقط ܘ ܺܐ مقام هارون إزاء موسى أُعطي التوراة أُعطي شريعة تفصيلية طال زمن رسالته قرابة ألفي سنة بعث المسيح الناصري بعده بثلاثة عشر قرنا المواجهة بينه وبين السحرة هجرته من مصر الرسول ﷺ مثيل موسى توكله على الله تقاعس أمته.طاعته عن مقارنة بين قومه وصحابة الرسول ٤٨٠ ۷۳۰ ٦٦٦ ٥٦٨٤٤٤٣ ٢٤٨ كان وزير المالية عنده مسيحيا مائدة معاوية خلال حرب صفين المعتصم بالله قتله هولاکو خان المعتضد بالله كان وزير حربه مسيحيا معين الدين الجشتي مغيرة بن زرارة له ترأس الوفد الإسلامي في بلاط يزدجر
الجزء السادس نصرت جهان بيغم (أم المؤمنين) رضي الله عنها ٥٠۲ ،۳۳۸ ٢٤٤، ٢٤٥ ۳۱۳ ٥٦٨٤٤٤٣ 17.٥٥٠ النضر بن الحارث اعترافه بصدق الرسول ﷺ النظام (المعتزلي) لا رجم في الإسلام عنده نظام الدين الأولياء نظام الدين الطوسي قصة دعائه الملك شاه نهديه رضي ا الله عنها جارية آمنت في أوائل الإسلام 7.۰۹ ۲۰۹ 17.۰۹ ٥٧٦ ۱۱ ٤٦٩ ٧٣٢،٣٥٣ ،۱۹۱-۱۹۰ ، ۱۳۹ ،۸۷ ، نوح العليا ۳۳۹ ،۲۱۹ ،۲۱۲ - ۲۰۹ ،۲۰۱ ،۲۰۲ ،۱۹۹ - ١٩٦ ٤٠ ٤٥٨، ٦٠١، ٦٢١ - ٦٢٣ ،۲۲۸ ٦٢٠ ۹۰ ۱۹۵ ۲۰۰ ۲۰۰ - ۱۹۹ ١٤٠ ١٩٦ ٣٥٧ كان رسولا ذا شريعة طوفان نوح العليا شرح قوله تعالى "وفار التنور" المكان الذي رست فيه سفينته بشر بالنجاح بورق الزيتون السفينة بمعنى التعليم الكامل السفينة بمعنى الجماعة صارت زوجته من المجرمين في ذكر حادثته نبوءة عما سيحدث بالرسول ۲۰۰ نور الدين له الخليفة الأول للمسيح الموعود العليا) عظیم طاعته للمسيح الموعود ٥٠٤ ٥٠٢ ٦٧٨ حادثة له فيها درس للجماعة قول هام له ٢١٤ ۸۲ ٦٢٧ ۱۰۷ ٦٣٨ ។ ។ ។ ملحقات عادة القرابين البشرية في زمنه حلول العذاب بفرعون في زمنه موسى رضا الإمام دعاء ملك شاه في مقبرته مولك (صنم الكنعانيين) موير وليام السير اعترافه بفضل القرآن على الكتاب المقدس ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها نائلة رضي الله عنها (زوجة عثمان له) قطعت أصابعها دفاعًا.عن زوجها نابليون بونابارت ناصر نواب مير ذهابه للحج نبوخذ نصر البابلي اضطهاده لبني إسرائيل إجلاؤه بني إسرائيل إلى مناطق الشرق النجاشي به مطالبة الكفار النجاشي بإرجاع المسلمين إسلام النجاشي نجيب اللواء نذير حسين الدهلوي رأيه عن ثورة ١٨٥٨م في الهند نصر بن هارون وزير مسيحي زمن عضد الدولة
ملحقات ٦٢٦ ۱۱۰ ٤٤٠ A.٤٤٠، ٥٦٧ ٦٦٦ ٥٦٨٤٤٤٣ هيرودوتس مؤرخ يوناني تحدث عن الكعبة وائل ورقة بن نوفل عالم العلوم الإسرائيلية بين العرب ولز ايتش جي الوليد بن عتبة هلاکه يوم بدر الوليد بن المغيرة إسلام ذريته وليد بن خيزران قاض مسيحي بقرطبة في عهد الحكم الثاني ولي الله شاه الدهلوي رحمه الله ويري ريفرند (R.Wherry) ٥، ٦٠٥، ٦٥٤۱۱ ، ۲۹۷، ، ١٣٦ یدهشتر (ابن عم کرشنا) خسر زوجته في لعب القمار يزدجر (حفيد خسرو برويز) حضور وفد الصحابة في بلاطه يزيد بن أبي سفيان يشوع ۷۳۳ ٢٤٨ ٤٤٢،٣١ ٦٧٢،٦٧٠ ٣٣٤ ،۲۲۸ ،۱۹۸ يعقوب الع يوز آسف أي يسوع (انظر أيضا المسيح ال ٥، ٥٨٤۸۲ ،۱۹۷ ٢١٤ وعيسى بن مريم) سُمّي عيسى العلية لا في كشمير يوز آسف ༥ ད 001 ۷۰۹ ۷۰۹ ۳۸ ۳۸ ۳۹ الجزء السادس هندوسي يستفسره عن طعام المسيح الموعود قصة بينها حضرته عن الإسراف قال: إن كسب الرزق أسهل وإنفاقه أصعب هاجر ۲۱۹ ،۱٤۱ ،۱۳۵ ٤٥٩، ٦١٧ ٦١٧ ٤٥٣ ٦١٠،٥٩٥ ۹۲ ۰۱۲ ،۳۱۰ ٤٣٧ ٤٣٧ ٤٣٧، ٤٤١ - ٤٤٢ ٤٤١، ٦٣٠ ٤٤٢ إقامتها بواد غير ذي زرع إيمانها ويقينها بالله تعالى نزول الوحي عليها هارون العلمية كان نبيا تابعا لموسى لم يكن له كتاب ولا أمة منفصلة هارون الرشيد هبل تحطيم هبل يوم فتح مكة هشام بن حکیم به هند (زوج أبي سفيان) حضورها غزوة أحد مع الكفار مضغها كبد حمزة.٤٥٨، ٦٢١ ،۲۰۰ - ۲۰٤ 01 ۷۳۰ ،۷٠٤ بغضها للمسلمين في الكفر بيعتها يوم فتح مكة شجاعتها في ساحة القتال هود د العلية لا هوشع هولاکو خان غزوه بغداد
الجزء السادس ٢١٥ ٢٦٧ اليونان (يونس ال) مشابهة بينه وبين بعيسى توبة قومه ٦٢ ٣٢٦، ٣٣٤ ،۲۲۸ ،۲۱۲ ٦٦۳ ،۹۱ ،۱۰ ٦٦٣ ٤٦٠ ملحقات يوسف العليا معاملته الحسنة مع إخوته مقارنة بينه وبين الرسول يوشع هو خليفة موسى العليا
(٣) فهرس الأعلام أماكن
الجزء السادس ملحقات آسیا احتقار الأوروبيين بأهل آسيا آغره أحد إصابة النبي ﷺ في غزوة أحد تمثيل الكفار بجثة حمزة يوم أحد أراراط (جبل) استواء سفينة نوح الله عليه الأردن أرمينيا أسبانيا مساهمة العبيد في عمرانها ١٨٨، ٦٤٦ ٢٦٢ ٤٥٣ 1.2 ٥٠٦-٥٠٧ ٤٣٧ ۲۰۰ ۵۸۲ ۷۰۳ ۰۳۵ ،۳۹۷ ۳۸۱ ٤١٦ ٥٥٢ ۵۳۵ ٥١، ٤٦٤ ۳۸۱ ألمانيا فشل الحلفاء في إعدام الجنرال غورينغ الألماني على دعاتنا تعلم اللغة الألمانية الإمبراطورية الرومانية مساهمة العبيد في عمرانها أمرتسر أمريكا ،٤١٦، ٤٧٦ ،۲۳١٩٦، ٤ مساهمة العبيد في عمرانها الأوروبيين العبيد الأفارقة إلى أمريكا تصدير سر تقدمها ٥٥١، ٦٤٦ ۳۸۱ ٣٨٠ ٦٧٩ ٥٥٨ العالم الإسلامي كله لا يقدر اليوم على مقاومة أمريكا تقلد غير المسلمين مناصب تنفيذية في حكومة المسلمين تعطينا نظريات وأسلحة بالية بأسبانيا سبب دمار المسلمين في أسبانيا النساء والعبيد والموسيقى والرقص ٤، ٤٨٩، ٧٣٠۸۷ ،۳۷۰ ۵۳۵ على دعاتنا تعلم اللغة الأسبانية الإسكندرية ٤٧ لن تحب أمريكا أن نسبقها حالات الطلاق هناك قانون منع الخمر هناك كثرة المقامرة هناك ۱۸۱ ٢٤١ ٢٤١ ٢٥٤ ٢٦٢ ٢٦٤، ٧٣٣ ܘܙ أفريقيا تهريب الأوروبيين العبيد الأفارقة إلى أمريكا إسلام آلاف الأفارقة بواسطة الأحمدية أفغانستان ٤٥٣،٤٣١ ،۳۷۱ ،٢٦٠ ٥، ٦٣٨، ٦٤٦۳۵ ٣٨٠ ٦٣٨ سر ازدهار أهلها أهلها يعملون بجد ونشاط نبأ قرآني عن رقي أمريكا لألف سنة ثم دمارها دخول الأمريكان في الإسلام إنجلترا VV ٦٣٨ ٣٥، ٤١٦، ٤٧٦۲ ،۲۲۲ ، ۱۱۸ اعتراف دسموند شو الإنجليزي بعظمة النبي 11.٧٢٤ استيطان بني إسرائيل فيها هجرة المسيح الله إليها ٤٥٣، ٦٤٦،٤٧٦ ٢١٤ ۲۱٥ يعمل أهلها بالجد والنشاط قانون الطلاق فيها سقوط الحكومة البريطانية في الهند طريفة أحد الأفغان إله آباد ܘܘ ؛ ذهاب المفسر له إلى إنجلترا ۷۳۰ رؤيته مظاهر الفقر في براندزي ٢٥٥ ۷۸ ١١٨، ١٥٦ ٤٧٩
ملحقات على دعاتنا تعلم اللغة الإنجليزية الأندلس (راجع أسبانيا) أنديمان (جزر) اور مولد إبراهيم | هي مول أوروبا العلية لا ٥٣٥ ٢٦٠ ۳۷ تصدير أوروبا العبيد إلى أمريكا رقيها المادي وسره نشاط أهلها في العمل إنشاؤها نقابات العمال تسجيل المخترعات هناك باسم صاحبها الفلسفات الأوروبية ولع الأوروبيين بالسينما ۳۸۰ ١٨٧، ٧٢٤ زعم فلاسفة أوروبا أن علم الله كلي لا جزئي انهزمت نظرياتها أمام الإسلام جانب سخيف من المجتمع الأوروبي تعطشها الفطري للدين رغم رقيها المادي ٤٢٦ ٤٢٦ ١٥٣ ۱۱۸ ٢٥٣ ٤٩٧ ١٨٦ اعتراف الأوروبيين بصدق الرسول ﷺ ۲۸۷ اعتراف فلاسفة أوروبا بأنهم مدينون للمسلمين ٢٤٧ اعتراف مثقفي أوروبا بصدق تعاليم الإسلام إسراف أهلها في شراء الأثريات كثرة المقامرة في أوروبا خصومات الزوجين في أوروبا كثرة الطلاق في أوروبا ١٠٦، ٢٥٤-٢٦٥ ١٥٢ ۷۳۳ ۱۰۷ ٢٥٤ صار فلاسفة أوروبا ملاحدة بسبب التدبر في الكون وحده بدؤوا يعترفون بصحة حكم تعدد الزيجات أخذ أهلها يرون بضرورة الحجاب ۳۹۸ 1.7 ۱۰۸ ٦٦ الجزء السادس إنكار بعض الأوروبيين بوجود قوم عاد ۲۰۸ نبأ رقي شعوب أوروبا وأمريكا ذوي العيون الزرقاء خلال ألف سنة VV فتنة الدجال واتساعها في العصر الحاضر ٦٤٥-٦٥٠ خطأ اتباع بلاد الإسلام وغيرها لأوروبا لن تكون بين المسلم وأوروبا مودة قلبية تقليد المسلمين الأعمى لأهلها لن ينجح من يقلد أوروبا والغرب الأوروبيون يعطوننا أسلحة ونظريات بالية الأوروبيون يريدون غزو عقول الشرق ٢٤١ ٢٦١ ٢٦٦ ٦٤٨ ٢٤٠ ٢٤١ كل العالم الإسلامي لا يقدر اليوم على مقاومة أوروبا ۱۸۱ لولا تكاسل المسلمين في التبشير لكان أهلها مسلمين ٦٤٢ ذهاب حضرة المفسر إلى أوروبا دخول أهلها في الإسلام ٦٣٨ الفقر في أوروبا ٤٧٨ - ٤٧٩ إيثوبيا (راجع الحبشة) إيران ١٤٨، ١٥٢، 1٥٧، 453، 563، 577، هي إسلام أهلها أمر أبي بكر له بالهجوم عليها فتح إيران تأثرها من الغرب ٦٤٥، ٧١٩ ٥٣٠ مظهر ملكوت السماء عند الزرادشتيين ۲۳۰ ٤٧٦ ٢٤٨- ٢٤٩، ٤٧٧ ٦٤٦ إيطاليا ١٥٧ هجومها على تركيا مونتي كارلو الإيطالي أكبر نادي للمسير في العالم ٧٣٣
ملحقات ۰۹ V ٢٥٨ ٤١ ٦٣٣ ٢٥٨ ۵۸۳ بن هنوم (واد) بهار زلزال عام ١٩٣٤ فيها فتن طائفية فيها عام ١٩٤٧م بورسعيد المسيح الموعود الليل المفسر في المنام هناك يوصي 711 ،149 ٣٤١ ٦٢٥ ٤٥٤ ٤٥٣ ٦٢١ ۷۰۳ ٤٦٤ بالذهاب إلى الحج بومباي ٦٧ ٤٤ ٤٥٣ ۱۸۲ ۱۸۲ ٤٥، ١٨٢ الجزء السادس إيلام باکستان باناما نبوءة قرآنية عن حفر نهر باناما البحر الأبيض المتوسط البحر الأحمر بحر قزوين بدر (راجع أيضا مكة) ٩٠-٩١، ١٠٤، ٢٠٢، فتن طائفية فيها عام ١٩٤٧م بيت عنيا بيت المقدس ذهاب عمر ه إليها عند فتحها توجه النبي إليها في الصلاة بيروت سفر المفسر داخلها بالقطار بيشاور بيكانير قصة شيخ جاهل من بيكانير تاج محل تبوك توقف النبي عند الحجر عند غزوة تبوك تركيا تأثرها من الغرب هجوم إيطاليا على تركيا إعجاب المسيح الموعود الا بقول سلطانها عبد الحميد ٦٧٥ ٥٧٣ - ٥٧٤، ٥٩٦٥٩٣، ٦٧٥ ٥٣٥ ۳۲۸ ۷۱۹ ،٤٥٣ ،۳۹۷ براندزي (راجع إنجلترا) البرتغال على دعاتنا ا تعلم اللغة البرتغالية بريطانيا (راجع إنجلترا) البصرة بغداد عمران بغداد نظراً إلى الأصول الإسلامية قيام الحكم العباسي فيها ٤٤٨ ٤٦٤ ۷۳۰ ،۷۰ ،۲۰ هجوم هولاکوخان عليها إلهام ولي الله عند سقوطها: "يا أيها الكفار اقتلوا الفجار" سبب دمارها كثرة العبيد البنجاب ٢٠، ٧٠٤ ΕΛΥ ٥٣٩، ٥٤٦ ،۲۱۳ زلزال بنجاب عام ١٩٠٥م البنغال كثرة الموظفين الهندوس في البنغال المغولية ٦٦٧
الجزء السادس ٦٢١ ٦٢١ ٥٠٦ ٦٧ الحجر تقع بين المدينة المنورة وتبوك توقف النبي عند الحجر عند غزوة تبوك الحديبية قلق الصحابة عند صلح الحديبية ٦٨ ٦٢٣ ٦٧٧ ملحقات تهامة يستعمل أهل تهامة لفظ الرجاء بمعنى الخوف تيماء ثور (غار) جدة ٤١ الجزيرة العربية ٤٥، 65، 90، 130، 431، ٦٢١،٥٦٣، ٦٤٦، ٧١٦ ۲۳۰ دخول الجزيرة كلها في الإسلام رفض ممثل الكفار كتابة لفظ الرحمن الرحيم في الصلح نقض قريش صلح الحديبية محاولة أبي سفيان لتجديد الصلح كان عدد العرب مئة وثمانين ألف فقط في زمن الرسول إرجاع النبي ﷺ أبا جندل إلى الكفار نتيجة الصلح ٦٩١ ١٦٢ ٦٨٦ حراء عبادة الرسول فيه حمص إعادة المسلمين الجزية للمسيحيين عند إخلائها 160-159 ،51 ٥٠٥-٥٠٦ ٢١٤ ١٥٩ ٦٦٨ حنين أحوال غزوة حنين خانیار قبر عیسی العليا بحارة خانيار بسرينغر خلیج فارس النبي غنم يهودي عند محاصرة خيبر حماية النبي يهود خيبر من الأذى يهودية تقدم لحما مسموما للرسول ﷺ عند فتح خيبر ٦٦٠ ۷۰۳ ٥٧٤ ٦١١ الخصائص القبلية للعرب عقائد أهلها عن القدر في الجاهلية تيار الارتداد بعد وفاة الرسول الله ١٢٥، ٤٧٤-٤٧٧ ١٤٨ ۲۰۰-۱۹۹ ۲۰۰ ٤٤، ٥١٢ ۸۲ ۸۲ ٦٢٧ ٦٠٢ ۱۷۱ ۵۷۱ ١٥٧، ٦٢٢ الجسر وقعة الجسر الجودي (جبل) استواء سفينة نوح العليا عليه حكمة تسمية الجودي الحبشة هجرة المسلمين إليها مطالبة الكفار النجاشي بإرجاع المسلمين إسلام النجاشي ملك الحبشة له المعارضة نشرت الإسلام في الحبشة قصة عمر مع مسلمة مهاجرة إلى الحبشة محاولة عكرمة للهروب إلى الحبشة الحجاز
الجزء السادس دار الأرقم اجتماع الصحابة فيه لتدارس القرآن والصلاة دجلة دهي هزيمة آخر الملوك المغول "بهادرشاه ظفر" فيها دمشق ذهاب المفسر له إلى دمشق ربوة روسيا روسيا لا تريد تقدم المسلمين جري المسلمين وراء روسيا على دعاتنا تعلم اللغة الروسية زمزم فجر الله عين زمزم بواسطة إسماعيل السيدة هاجر سمته زمزم معنی زمزم سباً سدوم عذاب "الكبريت والنار" على أهلها سرينغر قبر عیسی بسرينغر السعودية (راجع أيضًا الجزيرة العربية) سهارنبور ۱۷۳ ٥٤٧ ۷۳۰ ،۳۷ ۳۷۸ ۳۸۱ ،۲۳۸ ٢٤١ ٢٦٦ ٥٣٥ ۳۰ ۳۹ ۳۹ ۲۰۹ ٢١٤ - ٢١٥ ۱۹۷ ۷۳۰ ٦٩ سورت السويس نبأ قرآني عن حفر قناة السويس سيبيريا مساهمة العبيد في عمرانها الشام ملحقات ٤٢ ۱۸۲ ។ ≥ ។ ۳۸۱ ٥٦٣ ٦٢٢،٥٧٧ كانت تحت حكم الروم في زمن عيسى العلية لا قصة خروج عسكر أسامة إليها إسلام أهلها کشمير تعني مثل الشام ۲۱۳ ١٢٥، ٤٧٤-٤٧٧ ۲۳۰ ۲۱۰ - ۲۱۳ خروج المكيين للتجارة إلى الشام ٦٢٢ شعيبة (ميناء) ۸۲ شمله (مصيف) ٢٢١، ٢٥٦ شیخوبوره ٣٣٨ الصفا ۳۹ دعوة النبي لا لا لا لهم أهل مكة إلى الصفا عند أول البعثة ٥١ صنعاء النبي يتلقى نبوءة فتحها الصين هي ١٩٦، ٤١٦ ، ٦٤٦،٤٥٣ مظهر ملكوت السماء عند أتباع الكونفوشيوسية ۵۳۰ الطائف النبي يتلقى نبوءة فتحها طور سيناء ۱۸۵ ،۱۳۹ لم يُعط.موسی العلمية الألواح كلها على الطور ٦١٣
الجزء السادس سفر المفسر ه إليها ٥٣٥ ٥٣٥ ٢٤٨ فيتنام على دعاتنا تعلم اللغة الفيتنامية الفيليبين على دعاتنا تعلم اللغة الفيليبينية القادسية ۷۳۵ ،٥٥۸ ،۳۷۸ ،٢٥٨ قادیان مي مصداق "كدعه" الواردة في الحديث سماح المفسر لهندوسي ليخطب في المسجد الأقصى بقادیان ۱۸۳ درس لنا في حادث للخليفة الأول خلال سفر له إلى ٥٠٢ ٤٧ ٤١ ۹۱ ٦٦٦ ۷۰۳ ٢٨٦ ۷۳۰ V قادیان القاهرة ۷۰ ١٥٧، ٢٤٨، ٧٠٣،٥٦٣ ٢٦٠ ۲۰۹ ٥٥٧ ۳۳۹ - ۳۳۸ ۳۳۸ ملحقات العراق عليغره عمورة عذاب "الكبريت والنار" على أهلها غايا حكاية تأملات بوذا في غايا غجرات غجرانواله غرداسبور ظهور آية على يد المسيح الموعود العليا فيها ٤٤٣ - ٤٤٤ غرناطة زيارة المفسر للقاهرة اشتراك المسيحيين في الحكم الإسلامي في غرناطة ٦٦٦ سبب سقوط المسلمين فيها الانغماس في النساء رؤية المفسر مومياء فرعون في متحف القاهرة قرطبة قزوين (انظر في بحر قزوين) القسطنطينية كابول شهداء أحمديون في كابول کانبور كانغرا زلزالها عام ١٩٠٥م كدعة مبعث موعود آخر الزمان في قرية يقال لها "كدعة" ۱۸۳ ۳۷۱ - ۳۷۰ ٤١٦ ۳۸۱ ٣٥٢ ۷۳۱ ٥٣٥ ۷۰۳ ۲۳۰ والموسيقى فارس (راجع إيران) فرنسا مساهمة العبيد في عمرانها قصة للملك "بوربن" الفرنسي ولع أهل القرى الفرنسية للسينما على دعاتنا تعلم اللغة الفرنسية الفسطاط فلسطين إسلام أهلها أعطيت للمسلمين ستؤول هي للمسلمين ثانية
الجزء السادس كربلاء کشمیر سبب تسميتها تسمى جنة على الأرض کشمير تعني مثل الشام هجرة قوم موسى إليها ٦٣٧ ۲۱۳ ۲۱۰ - ۲۱۳ ۷۱ لكناؤ لندن ملحقات تماء عازف مع المفسر له في لندن وميله إلى الإسلام مظاهر الفقر في لندن لنکاشاير ذكر إيواء المسيح وأمه فيها أعطيت للمسلمين للمسلمين ثانية ستؤول هي كلكوتا فتن طائفية فيها عام ١٩٤٧م كنعان ٢١ - ٢١٤ ۷۳۰ ،٢٥٨ ٢٥٨ ٦٧٠،٥٩ المحيط الأطلسي المحيط الهادئ المدائن النبي يتلقى نبوءة فتحها مدراس رفض قوم موسى الهجوم على أرض كنعان ٢٠٢،٤٥٠ فتن طائفية فيها عام ١٩٤٧م کوش كويته زلزال كويته عام ١٩٣٥م لاهور ٤٤ - ٤٥ ٧، ١٨٤،٨ طالب سيخي من لاهور يطلب الدعاء من المسيح الموعود العليا درس لنا في سفر للخليفة الأول من لاهور إقامة المفسر فيها خلال مرض زوجته قصة طريفة حصلت مع المفسر بلاهور حوار طريف بين المفسر وأحد الشيوخ ٦٤٩ ٦٤٩ المدينة المنورة V 1.7 ٤٧٩ ۳۹۳ ۱۸۲ ۱۸۲ ٢٥٨ ،۱۶۲ ،۱۰۹ ،۲۱ ،۱۱ ،۱ ٤ ، ٤٤٢، ٤٩٢،٤٨٨، ٥١١۳۹ ،۳۳۱ ،۲۰۲ حالتها قبل الإسلام كان اليهود فيها أكثر قبل الإسلام قبول أهلها الإسلام دعوة أهلها الرسول ﷺ للمجيء إليها قصة هجرة النبي إليها كانت بمثابة الجودي للرسول المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين فيها قتل شابين منها أبا جهل هجوم الأحزاب عليها الله شهادة أحد الأحمديين "اللاهوريين" على صدق جماعتنا ابن عبد ٤٨٠ ، بن أبي يمنعه من دخول المدينة وضعها أيام الردّة لدهيانه لقاء المفسر مع قاض هناك أراد عقاب المسيح الموعود العلية لا ٤٤٤ ٤٠٣، ٥٦٢ ٤٩٦ ٤٠٣ ۲۰۲ ٥٦٢ ۲۰۱ ۱۹۷ ٤٧٤، ٥٥٤، ٧٤٠،٥٦ ٤٠٦ ١٢٥ ١٢٦، ٤٧٤- ١٤٨ ٤٦٧ استخلاف عمر علياً على المدينة دعاء عمر له أن يُستشهد في المدينة هجوم المتمردين عليها في عهد عثمان له ٤٦٥ - ٤٦٧
الجزء السادس ٥٥٣ ٥٧٣ - ٥٧٤ ۰۹۰ ،۵۷۳ ٣٠٤ ۵۷۲ ،۱۰ ۹۱ ۹۲ ،۸۵ ٤٤١ ۰۷۱ ٥٥٣ ٦٠٩ ۹۸ ٤٢ ۷۲ ملحقات رفض عثمان له أن يترك المدينة ٤٦٨ نبوءة عذاب أهلها لم توجد عند يهود المدينة ترجمة عربية للكتاب المقدس فجيعة كفار مكة بمقتل أبنائهم في بدر ٥٥٤ ۳۹ مقتل رؤساء مكة نبأ عودة الرسول إليها هجوم المسلمين عليها وفتحها ساعة فتح مكة أتت بغتة تحطيم الأصنام بعد الفتح بيعة هند بعد فتحها محاولة عكرمة للهروب بعد فتحها إلى الحبشة دمار أهلها أشد من دمار فرعون بعض السور المكية اجتماع المسلمين هناك في الحج يزيدهم شعوراً بالأُخوّة العالمية ملتان منی مونغير مشهد زلزال مونغير ميديا ٤٤، ٤٥ ۷۳۰ ۷۱۷ ٦٥٨ ٢٦٧ میرث ناغازاكي إلقاء القنبلة النووية عليها نجران تسامح الرسول مع وفد نجران المسيحي النخلة النيل نینوی توبة أهلها ونجاتهم من العذاب ٦٠ المروة المريا مصر ،۳۸۱-۳۸۰ ،٤٤ - ٩٦،٤٥ ٥٥٢ ٥٧٧، ٦٤٥ ۳۸۱ ٦٤٦ ۲۱۰ - ۲۰۹ مساهمة العبيد في عمرانها الوثنية في مصر حلول أنواع العذاب فيها زمن فرعون ۹۹ ٣٢٦ هجرة موسى العليا منها اعتراف زوجة عزيز مصر بذنبها ۲۳۰ إسلام أهلها وجود جنود غير مسلمين في الجيش الإسلامي عند ٦٦٦ ۷۳۰ 21 فتحها تقلد غير المسلمين مناصب مرموقة في بمصر سبب دمار الحكم الفاطمي فيها ذهاب المفسر له إلى مصر مقنا رسالة الرسول إلى أهلها مكة المكرمة ،٥، ٦٧٦٥ ، ٨٠ - ٨٦۷ ،۳۹ ٥، ٥٤٧، ٥٦٧، ٥٨٥، ٦٠٧ ، ٦١٢، ٦٦١۱۱ بعث إسماعيل في مكة كان تمهيدًا لمجيء النبي ﷺ نبوة إشعياء أنها ستكون مثابة للناس مظالم أهل مكة على المسلمين ۳۱ ٤٣ - O E A 670 677 ٥٥١، ٥٥٤، ٥٨٦، ٥٩٥ ٦٠٢ معارضة أهلها بلغت الإسلام إلى الحبشة "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذَ كبدها" (النبي ﷺ) ۰۹۳
الجزء السادس ۷۳ ملحقات الهند ٧، ٤٢ ، ۱۹٦، ۳۹۳، ٤٥۳، ٤٥٤، ٥١٢، ٧٤٧ ،۷۰۳ ،٦٤٦، ٦٦٧ زلزال "بهار" عام ١٩٣٤ فيها فتن طائفية فيها عام ١٩٤٧م V ٢٥٨ شدة المعارضة ضد المسيح الموعود عندما قال بوفاة يظن الهندوس أنها وحدها مظهر ملكوت السماء ٥٣٠ بعثة "رام" و"كرشنا" في الهند لهداية أهلها ۵۷۹ ،۵۳۷ ،۵۳۱ ،۲۹۱ ٤٩٨ ۳۳۸ بعض أهلها لا يأكلون مع الأقارب عادة عجيبة عند أهل الهند تقلد غير المسلمين مناصب قيادية عهد أورنغزيب بالهند سبب دمار مسلمي الهند طريق رقي مسلميها ثانية ٦٦٧ ۷۳۰ ،۳۷۱-۳۷۰ ٢٥٨ المسيح هولندا على دعاتنا تعلم اللغة الهولندية هيروشيما إلقاء القنبلة النووية عليها اليابان على دعاتنا اليمن ا تعلم اللغة اليابانية اليونان ۱۱۳ ٥٣٥ ۷۱۷ ١٦، ٤٥٣، ٥٥١، ٦٤٦ ٥٣٥ ١٥٧، ٥٣٠، ٦٤٦ ។ › ។ ۳۸۱ ٤٥ ۲۰۸ ٢٥٨ لو قام المسلمون بالدعوة وتعدد الزيجات لكان كل أهلها مسلمين اليوم كانت صلاة الجمعة لا تجوز في الهند زمن حكم الإنجليز عند الأحناف ٤٥٣ ٦٣٨ - ٦٣٩ آراء مشاهير علماء الهند حول الجهاد ضد الإنجليز كانت تُعتبر جوهرة تاج الإمبراطورية البريطانية نهاية الحكم البريطاني فيها VA VA الحرب بين تركيا واليونان مساهمة العبيد في عمرانها حديث هيرودتس اليوناني عن الكتب اليونانية تذكر قبيلة باسم "عاد" الكعبة أبطال يونان في الجيش الإسلامي
(٤) المراجع والمصادر
الجزء السادس VV القرآن الكريم كتب التفسير * مراجع عربية العلامة فخر الدين الرازي، التفسير الكبير * أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله، إملاء ما من به الرحمن ملحقات * إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم * محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، البحر المحيط العلامة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي، روح المعاني * * * * عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن الإمام جلال الدين السيوطي ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور الإمام جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن * أحمد بن علي الجصاص أحكام القرآن دار الكتب العربية بيروت * * * بن محمد بن إبراهيم البغدادي، تفسير الخازن علي بن أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزيل * الشيخ محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الطبعة الأولى، مطبعة المنار بمصـ عام ١٣٤٩هـ ۱۹۳۱م * أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي، تفسير فتح البيان
الجزء السادس * ۷۸ ملحقات هاشم بن السيد سليمان بن السيد إسماعيل كتاب البرهان في تفسير القرآن * الحافظ محمد عبد الأحد، مختصر المعاني، المطبع المجتبائي بدهلي محمد يوسف الوهبي هميان الزاد إلى دار المعاد، المطبعة السلطانية بزنجبار * ۱۳۱۱هـ * أحمد المدعو بملا جيون الجونفوري، التفسيرات الأحمدية في بيان الآيــات الشرعية، المطبع الكريمي بومباي الحديث * الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح * * * * الإمام مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم الإمام محمد بن عيسى الترمذي، جامع الترمذي الإمام سيلمان بن الأشعث، سنن أبي داود البخاري الإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه * الإمام أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر، سنن النسائي الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل * * الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين * * * الإمام مالك بن أنس، المؤطا الخطيب محمد بن عبد الله العمري التبريزي، مشكاة المصابيح العلامة علاء الدين علي المتقي، كنز العمال * الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير، مكتبة ابن تيمية القاهرة
الجزء السادس ۷۹ ملحقات * ملا علي القاري، الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة، الطبعة الثانية، المطبع المجتبائي بدهلي عام ١٣٤٦هـ * محمد بن إسماعيل البخاري، الأدب المفرد، تخريج محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية * علاء الدين بن علي بن بلبان الفارسي، الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان، تقديم كمال يوسف الحون مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، مؤسسة الرسالة * الحافظ شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمى كتاب فردوس الأخبار، دار الديان للتراث القاهرة * عبد الله بن يوسف الحنفي، نصب الراية لأحاديث الهداية، الطبعة الأولى، مطبعة دار المأمون بشبرا القاهرة، عام ١٩٣٨م * * علي بن عمر الدار قطني، سنن الدار قطني أبو محمد محمود بن أحمد العيني، عمدة القارئ شرح صحيح البخاري، إدارة الطباعة المنيرية بيروت * محمد بن علي بن محمد الشوكاني، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، مطبعة مصطفى البابي بمصر السيرة والتاريخ والفقه وغيرها * الإمام ابن القيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد، المطبعة الميمنيــة بمصر، ومطبعة محمد علي صبيح ميدان الأزهر مصر، ١٣٥٣هـ * العلامة علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي السيرة الحلبية، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده ميدان الأزهر مصر ١٣٥٣ هـ
الجزء السادس * ۸۰ ملحقات الإمام أبو بكر أحمد بن حسين البيهقي، شعب الإيمان، دار الكتب العلمية بيروت * * ابن هشام، السيرة النبوية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ١٣٥٥ هـ ابن كثير، السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي بيروت * القاضي أبو الفضل عياض بن موسى كتاب الشفاء، مطبعة مصطفى - البابي الحلبي ،مصر، عام ١٣٦٩ هـ – ١٩٥٠م * شهاب الدين أحمد بن علي المعروف ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، الطبعة الأولى ۱۳۲۰هـ ، دار إحياء التراث العربي * أبو عمر يوسف بن عبد الله * محمد بن بن عبد البر القرطبي، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، دار الكتب العلمية بيروت ابن سعد، الطبقات الكبری، دار صادر، ودار بيروت للطباعة والنشــــر بیروت ۱۳۸۰ هـ ١٩٦٠م * العلامة أبو الحسن عز الدين على بن محمد المعروف بابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، دار الفكر بيروت، ٦٣٠هـ * الشيخ سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة، الطبعة الثانية، مكتبــة العرفان بيروت * العلامة أبو الحسن عز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت ١٩٦٥م * الحافظ أبو بكر بن أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام، مكتبة الخانجي بالقاهرة والمكتبة العربية ببغداد، ومطبعة السعادة بجوار محافظة مصر عام ١٣٤٩ هـ
الجزء السادس * ۸۱ ملحقات أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع * الإمام أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، فتوح البلدان المكتبة التجارية الكبرى بمصر، المطبعة المصرية بالأزهر الطبعة الأولى ١٣٥٠ هـ * الحافظ أبو محمد علي بن حزم الأندلسي، المحلى، مطبعة الإمام بالقلعة بمصر * الشيخ عبد الوهاب الشعراني، كشف الغمة عن جميع الأمة، مطبعة محمد علي ميدان الأزهر بمصر ١٣٧٠هـ * محمد بن عبد الواحد ابن الهمام فتح القدير شرح الهداية، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر ١٣١٦هـ * أحمد بن محمد القسطلاني، المواهب اللدنية المطبعة الشرفية بجوار الجامع الأحمدي بطنطا ١٣٢٦ هـ – ١٩٠٧م * العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية، الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية المصرية ١٣٢٥ هـ * * أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، الطبعــة الأولى ١٩٦٦م، مكتبة المعارف بيروت، ومكتبة النصر بالرياض العلامة عبد الرحمن بن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر * محمد الخضري بك، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، الطبعة الخامسة، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، المكتبة التجارية بمصر عام ١٣٦٦هـ جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي منشورات دار مكتبة الحياة بيروت
الجزء السادس * ۸۲ ملحقات جرجي زيدان العرب قبل الإسلام، مطبعة الهلال بالفجالة بمصر ۱۹۰۸هـ * محمد شكري الألوسي، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، مطابع القربى بمصر * ١٩٨٥م * الدين بن عربي، الفتوحات المكية، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام الشيخ عبد الغني النابلسي، تعطير الأنام في تعبير المنام، المكتبــة الثقافيــة بيروت * الحافظ محمد إعزاز علي الفقيه المختصر للقدوري، مطبعة كتب خانــه رحيمية، سنهري مسجد بدهلي * شمس الدين السرخسي، المبسوط، مطبعة السعادة بمصر، عام ١٣٢٤هـ * الدكتور محمد حميد الله الحيدرآبادي مجموعة الوثائق السياسية للعهــد النبوي ،والخلافة الراشدة، الطبعة الثانية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة * أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي، فتوح الشام، مطبع المنشي نولکشور الكائنة في كانفور بالهند * أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم كتاب الخراج، الطبعة الأولى، المطبعة المنيرية بمصر عام ١٣٠٢هـ * علي بن حسين المسعودي، التنبيه ،والإشراف مكتبة الشرق الإسلامية، دار الكتب الملكية مصر، عام ١٩٣٨م * الدكتور فيليب حتي، تاريخ العرب، الطبعة الثانية ١٩٦١م دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع
الجزء السادس ۸۳ ملحقات * حسن بن محمد الديار بكري، تاريخ الخميس الدياربكري، * محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقا، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، دار صادر، بيروت * موسوعة الفقه الإسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية مصر * المعارف لابن قتيبة مطبعة دار الكتب ١٩٦٠م * الكتاب المقدس، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، طبعة العيد المئوي ۱۸۸۳ – ۱۹۸۳ اللغة والأدب * الإمام راغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن * العلامة ابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري، لسان العرب * * * محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس سعيد الخوري الشرتوني اللبناني، أقرب الموارد المنجد في اللغة والأعلام * العلامة أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني كليات أبي البقاء، دار الطباعة العامرة ببولاق مصر عام ١٢٨١هـ * أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري أساس البلاغة، الطبعة الأولى بالمطبعة الوهبية عام ۱۳۹۹ هـ
الجزء السادس ΛΕ مراجع إنجليزية ملحقات ARNOLD, T., Preaching of Islam.Akhil Books Pvt., Ltd New Delhi, India.BELLEW, H.W., The Races of Afghanistan.Lahore: Sheikh Mubarak Ali.BELLEW, H.W., Afghanistan, the Country and People.Lahore: Sheikh Mubarak Ali.CHAND, D., The Yajur Veda.New Delhi: Sarvadeshik Arya Pratinidhi Sabha (International Aryan League) Delhi CHEYNE, T.K., AND BLACK, J.S., Encyclopaedia Biblica, vol 1.London: Adam and Charles Black.DARWIN, C., 1901.The Descent of Man and Selection in Relation to Sex.London: John Murray.DAVIS, J.D., revised and rewritten by GEHMAN, H.S., The Westminster Dictionary of the Bible.London and New York: Collins' Clear-Type Press.DEVA, A.D., Om the Hymns of the Sama Veda Sanhita.New Delhi: Sarvadeshik Arya Pratinidhi Sabha (International Aryan League).Encyclopedia of Islam, vol 1.GIBBON, E., 1932.The Decline and Fall of the Roman Empire, vol 2.New York: The Modern Library.GRIFFITH, R.T.H., 1917.The Hymns of the Atharva-Veda.Vol 2, 2nd ed.Benares: E.J.Lazarus and Co.
ملحقات 10 الجزء السادس HAMILTON, A., A New Account of the East Indies, vol 2.Printed for C.Hitch; and A.Millar.HASTINGS, J., Encyclopedia of Religion and Ethics.Vol 3, 1910 ed.Edinburgh: T.& T.Clark.HASTINGS, J., Encyclopedia of Religion and Ethics.Vol 9.Edinburgh: T.& T.Clark.HIBBERT, C., The Great Mutiny India 1857.Middlesex: Penguin Books Ltd.HITTI, P.K., 1937.History of the Arabs.Edinburgh: R.and R.Clark Limited.MALLESON, G.B., History of Afghanistan.Peshawar: Saeed Book Bank.MUIR, W., 1877.The Life of Mahomet.New ed.London: Smith, Elder, & Co.PERRETT, B., 1989.Encyclopedia of the Second World War.Essex: Longman Group UK Limited.PUSALKAR, A.D., The Vedic Age.SARKAR, J., Anecdotes of Aurangzeb, 4th ed.Calcutta: M.C.Sarkar and Sons Pvt Ltd.SHASTRI, A.V.N., The Atharva Veda, vol 1 and 2.New Delhi: Sarvadeshik Arya Pratinidhi Sabha (International Aryan League).SOCIETY FOR PROMOTING CHRISTIAN KNOWLEDGE, London, 1893.The Old Testament According to the Authorized Version.New York: E.& J.B.Young & Co.SOOTER, A., The Text and Cannon of the New Testament.1925 ed.
ملحقات 17 الجزء السادس STOWELL, G., The Book of Knowledge, vol 5.London: The Waverley Book Company Ltd.SYED, A.A., 1955.A Short History of the Saracens.London: Macmillan and Co.Ltd The Lost Books of the Bible.Ohio: LD Publishing Company The New Encyclopedia Britannica, vol 6, 15th ed.USA: Cambridge University Press.TREGELLES, S.P., 1957.Hebrew and Chaldee Lexicon.Michigan: WM.B.Eerdmans Publishing Company.VAGLIERI, L.V., An Interpretation of Islam.Lagos: The Islamic Literature Ahmadiyya Bookshop.WHERRY, E.M., AND TRENCH, P.K., A Comprehensive Commentary on the Quran.Vol 1 and 3.Trubner & Co Ltd.
الجزء السادس ۸۷ ملحقات مراجع أردية وفارسية کتب حضرت مرزا غلام احمد قادیانی علیہ السلام ، (طبعه روحانی خزائن ) پبلشر نظارت اشاعت ربوه، ضیاء الاسلام پریس ربوہ پاکستان برا این احمدیہ حصہ پالیم انجام آتھم لیکچر لاہور - استفتاء راز حقیقت.حقیقۃ الوحی.تحفہ گولڑو یہ چشمه مسیحی ازالہ اوہام تذکرہ ، الشركة الاسلامیہ لمیٹڈ ربوہ پاکستان ملفوظات جلد ۲، ۵،۳.مجموعہ اشتہارات جلد۳
الجزء السادس دیگر کتب و اخبارات سلسله ۸۸ ملحقات حضرت حکیم مولوی نورالدین ، حقائق الفرقان، جلدسوم، نظارت اشاعت ربوه پاکستان اخبار الحکم قادیان ۲۱ تا ۲۸ اکتوبر ۱۹۳۵ء - اخبار الفضل قادیان ۲۰ نومبر ۱۹۲۴، ص ۵ کالم ۱ جلد۱۲، نمبر ۵۷ دیگر کنند.مولانا جلال الدین رومی، مثنوی مولوی معنوی ، مطبع منشی نول کشور، لکھنؤ عبدالمجید ، اخبار انتخاب لاجواب لاہور، محمدی سٹیم پریس ، دفتر پیسہ اخبار ملا محمد باقر مجلسی ، جلاء العیون ، انتشارات علمیہ اسلامیہ بازار شیرازی جنب - نوروزخان.مولوی حافظ محمد بن مولوی بارک اللہ ، احوال الآخرت ، شیخ سراج الدین اینڈ سنز پبلشرز کشمیری بازار لاہور منشی محمد خلیل الرحمن ، اخبار الاندلس ترجمہ یورپ میں اسلامی سلطنتیں ، مطبوعہ محمد دین محمدی لاہور.سید رئیس احمد جعفری ندوی، بہادر شاہ ظفر اور انکا عہد، اشاعت اول ، مطبع علمی پرنٹنگ پریس لاہور ، ناشر کتاب منزل لا ہور محمد تقی عثمانی ، حضرت مولانا اشرف علی تھانوی کی مختصر سوانح عمری ، ادارہ اسلامیات انار کلی لاہور
الجزء السادس ۸۹ ملحقات.سرسید احمد خان، اسباب بغاوت ہند، بار دوم کراچی ، اردو اکیڈمی سندھ مشن روڈ کراچی ۱۹۸۶ء لاہور علامہ شبلی نعمانی ، الفاروق ، شیخ مبارک علی تاجر کتب اندرون لوہاری دروازه.مولوی محمد حسین آزاد، دربار اکبری، ایڈیشن ۱۹۲۱، مطبع کپور آرٹ پرنٹنگ ورکس گوالمنڈی لاہور نواب صمصام الدولہ شاہنواز خان ، مآثر الأمراء، مطبع اردو گائیڈ کلکتہ ۱۸۹۰ء رشید اختر ندوی ، اورنگزیب، احسن برادرز چوک انار کلی لا ہور۱۹۵۳ء شیخ فرید الدین عطار، تذکرة الأولياء، باہتمام تاجر بی ریب وریا ، مطبع محمدی لاہور - سید محمد نذیر حسین دہلوی، فتاوی نذیریہ، اہل حدیث اکیڈمی ، کشمیری بازار لاہور فتوی مولوی نذیرحسین دہلوی، رسالہ اشاعت السنة ، اکتوبر نومبر ۱۸۸۳ ء جلد ۶ نمبر ۱۰ نور پریس امرتسر.قاضی ثناء اللہ عثمانی ، تفسیر مظہری اردو اخبار عام لاہور ، ۲۶ مئی ۱۹۰۸ء.اسد اللہ خان غالب، دیوان غالب ،سیٹھ آدم جی عبد اللہ پبلشرز بمبئی والے، نولکھا بازار لاہور.کتاب مقدس یعنی پرانا اور نیا عہد نامہ برٹش اینڈ فارن بائیل سوسائٹی انارکلی
الجزء السادس ۹۰ ملحقات لاہور پاکستان ایڈیشن ۱۹۴۳ء ، ایڈیشن۱۹۹۴ء عہد عتیق ، کا تھولک ٹرتھ سوسائٹی لاہور، مسیحی پریس لاہور پاکستان ۱۹۲۴ء انجیل مقدس یعنی یسوع مسیح کا نیا عہد نامہ، نارتھ انڈیا بائیبل سوسائٹی، آرفن اسکول پر لیس ایڈیشن ۱۸۷۰ء انجیل مقدس یعنی یسوع مسیح کا نیا عہد نامہ ، برٹش اینڈ فارن بائیبل سوسائٹی انار کلی لاہور پاکستان طبع ۱۹۰۶ء پادری کین ڈبلیو پی ہیرس بی اے، تواریخ مسیحی کلیسا، کرسچن نالج سوسائٹی انار کلی لاہور دوسرا ایڈیشن ۱۹۳۹ء.ڈاکٹر سر بندر کمار ایم اے ہندی پی ایچ ڈی ، منوسمرتی ، ناشر سری راج ویر شاستری ایم اے، شائع کردہ آشر ساہتیہ پر چارٹرسٹ ، ۴۵۵ کھاری باؤلی دہلی.پنڈت بانکے لال اور پنڈت سندر لال جی ترپاٹھی ، گوتم سمرتی ، اشتادش سمرتی ہندی حاشیہ کے ساتھ ، شائع کردہ کھیم راج شری کرشن داس پر کاشن ، بمبئی ۴.بہاء اللہ ، اقدس، مطبع الناصری بمبئی ۱۳۱۴ھ