Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 5)

Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 5)

جلد ۵

Author: Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad

Language: ARABIC

ARABIC
Holy Quran

Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)


Book Content

Page 1

التفسير الكبير مرزا بشير الدين محمود أحمد الخليفة الثاني لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام المجلد الخامس من سورة مريم حتى سورة الأنبياء الشركة الإسلامية المحدودة

Page 2

اسم الكتاب التفسير الكبير - المجلد الخامس الطبعة الأولى : ١٤٢٦ هـ / ٢٠٠٥م AT-TAFSIR AL-KABĪR "Commentary of The Holy Qur'an " By: Hadrat Mirzā Bashir -ud- Dīn Maḥmūd Aḥmad, Khalifatul Masīḥ II Volume: 5 SURAH MARYAM TO SURAH AL-ANBIYA' (Arabic Translation) Islam International Publications Ltd First Published in England in 2005 by: Al Shirkatul Islamiyyah Islamabad Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ United Kingdom Printed in UK at: ISBN: 1 85372 816 0

Page 3

Page 4

الجزء الخامس أ كلمة الناشر كلمة الناشر الحمد لله الذي وفقنا بعونه لإخراج المجلد الخامس من هذا التفسير القـــيـم بلغة حبيبه محمد المصطفى.ولقد كان شرف ترجمته إلى العربية من نصيب الأستاذ عبد المؤمن طاهر، حيث راجعه الأستاذان الفاضلان المهندس هاني طاهر والدكتور محمد حاتم تقبل الله سعيهم، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهم على إخراج حلمي.الأجزاء المتبقية من هذا التفسير العظيم.آمين.ثمة أمور ينبغي توضيحها عن هذه الترجمة: أولاً : لم تذكر في الأصل (الأردو) معظم الاقتباسات من الحديث النبوي الشريف والسيرة وغيرهما من المراجع بنصوصها، وإنما ذكرها المفسر بألفاظه وأسلوبه..غير أننا نقلناها عند الترجمة بنصها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، اللهم إلا بعض الأماكن التي تعذر علينا فيها الأمر، فترجمنا المضمون مـــع الإشارة إلى النص الأصلي أو مرجعه في الهامش.ثانيا : هناك مواضع في الأصل أشار فيها حضرة المفسر له إلى بعض الأحداث إشارةً لا تُعتبر كافيةً لبعض القراء العرب، فقام المترجم بتوضيحها في الهامش صرفا للالتباس.ثالثا: إن ترقيم الآيات في التفسير يبدأ بالبسملة من كل سورة.

Page 5

الجزء الخامس كلمة الناشر رابعا : كتب المفسر هذا التفسير قبل حوالي نصف قرن من الزمان حيث طبع في عام ١٩٥٨م.فلو أخذ القارئ الكريم هذا الأمر بعين الاعتبار لسهل عليه فهم كثير من الأمور والأحداث المذكورة فيه.خامسًا: يجب التنويه إلى أن هذا المجلد قد تُرجم وطبع في أقل من سنة، فإذا وجد القراء الكرام بعض الأخطاء المطبعية وغيرها فليخبرونا بها مشكورين حتى يتم تداركها في الطبعة القادمة، إن شاء الله تعالى.وأخيرًا فإننا نتقدم بخالص الشكر والدعاء لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، ولا سيّما الأستاذ سيد مير محمود أحمد ناصر، عميد الجامعــة الإسلامية الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة بربوة باكستان، لتفضله بالإشراف على مجموعات الطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهــذا التفسير.وكذلك نخص بالشكر والدعاء الإخوة السادة الأفاضل: المهندس تميم أبو دقة، محمد طاهر نديم، عبد المجيد عامر، الحافظ عبد الحي بهتي، والدكتور أيمن فضل عودة لمساعدتهم المشكورة في شتى المجالات العلمية والفنية.فجزاهم الله جميعا أحسن الجزاء.الله كما ندعو العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببًا لشفاء غليل الكثيرين من عباده علميًا وعمليا وروحيًا، ووسيلة لفهم كلامه.آمين! الناشر جمادى الأولى ١٤٢٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٥ م

Page 6

الجزء الخامس مقدمة الطبعة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم وعلى عبده المسيح الموعود مقدمة الطبعة الأولى هذا المجلد من التفسير الكبير يحتوي على تفسير سور مريم وطه والأنبياء.ولقد تناول فيه المفسر الله الرد على عقائد الديانة المسيحية بأسلوب جد رائع.والحق أن هذا التفسير يغني محققي الأديان عن مطالعة الكتب الضخمة.لقد أثبت المفسرة الله في تفسير سورة مريم بطلان العقائد والأفكار المسيحية من حيث التاريخ مؤكدًا صدق القرآن الكريم.وإنني أقول على وجه البصيرة إن حضرة أمير المؤمنين – أيده الله تعالى بنصره العزيز – قد بين بفضل في تفسير هذه السور من المعارف والحقائق ما لا نجد له نظيرا في التفاسير السابقة.ومن طالع هذا التفسير بتدبر وإمعان انكشف عليه، كوضح النهار، أن القرآن الكريم كلام الله.طلب دعاء الله إيصالاً للثواب إلى روح زوجته المرحومة حضرة السيدة سيدة أم طاهر – غفر الله لها ونور مرقدها وأحسن مثواها – قد تبرع حضرة أمير المؤمنين – أيده الله تعالى بنصره العزيز - بمبلغ قدره عشرة آلاف روبية للإنفاق على طبع ونشر تفسير القرآن الكريم وكتب الحديث وكتب الجماعة الأحمدية التي تُصنف تأييدًا للإسلام، راجيا المولى أن يجعل هذه الصدقة الجارية سببًا لرفع درجـات المرحومـــة المغفور لها ويزيدها قربًا.وقد قامت الشركة الإسلامية المحدودة بطبع هـذا

Page 7

الجزء الخامس المجلد د مقدمة الطبعة الأولى من التفسير الكبير بتمويل من هذا الصندوق نفسه.لذا فأنا ألتمس من القراء الكرام أنهم حين يستفيدون من المعارف والحقائق الواردة في هـذا التفسير يدعون لحضرة أمير المؤمنين – أيده الله تعالى بنصره العزيز.كما عليهم أن يدعوا أيضًا لرفع درجات حضرة السيدة سيدة أم طاهر – غفر الله لها وأكرم مثواها.لقد قدمت المرحومة في حياتها خدمات رائعة لإنجاح تنظيم سيدات الجماعة "الجنة إماء الله" ، كما ضربت أفضل مثال وأروعه في مجال رعاية اليتامى والأرامل.لقد كانت بطبعها خلوقة وجد متواضعة، فأحبتها نساء الجماعـــــة حبا جما.كما أرجو أن يخصوا أولادها أيضًا بالدعاء وهم السيدة أمة الحكيم بيغم، والسيدة أمة الباسط بيغم، ومرزا طاهر أحمد، والسيدة أمة الجميل، بأن يجعلهم الله تعالى ورثةً لأنوار جدهم الأمجد ووالدهم المبجل، ونجوما متلألئة في الملكوت السماوي.آمين.العبد المتواضع جلال الدين شمس المدير العام للشركة الإسلامية المحدودة ۲۰ مارس ۱۹۵۸م

Page 8

الجزء الخامس سورة مريم سورة مريم وهي مع البسملة تسع وتسعون آية لقد سُمّيت هذه السورة "مريم" لأن قصة السيدة مريم - عليها السلام - هي الحدث الأبرز الذي تتمحور حوله الأحداث الأخرى المذكورة في هذه السورة.لا شك أن السيدة مريم كانت والدة عيسى عليهما السلام، ولكنها لم تكن من الأنبياء، وكان زكريا وعيسى عليهما السلام أرفع مكانة منها؛ غير أن كل إنسان يكتسب أهميته من منظور خاص.فمثلاً لو أردنا ضرب مثال لشخص آمن بنبي على الفور برؤية سيرته الطاهرة نتيجة فراسته وورعه فسنذكر اسم سيدنا أبي بكر ه، ولن نذكر اسم رسول الله ، لأن هذا الأمر لا ينطبق عليه ، فإنه أسمى ذلك.كما أنه مما لا شك فيه أن سيدنا أبا بكر هو أعلى مقاما من من مكانة 6 سيدنا علي رضي الله عنهما، إلا أننا لو أردنا ضرب مثال لشاب ذكي فطين أدرك الحق رغم صغر سنه، واستعد للتضحية في سبيله، فلن نذكر اسم سيدنا أبي بكر، بل نذكر اسم سيدنا علي رضي الله عنهما.فبما أن هذه السورة تشير – بشكل عام - إلى أمور تلفت نظر الإنسان إلى السيدة مريم وإلى الشخصيات المتصفة بالصفات المريمية لذا أُطلق عليها "سورة مريم"، مع أنها تتحدث أيضا عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وإسماعيل وإدريس وزكريا ويحيى عليهم السلام هذه السورة مكية، فكل الصحابة الذين أبدوا رأيهم فيها قد اعتبروها مكية (البخاري: كتاب التفسير، والدر المنثور للسيوطي، ودلائل النبوة للبيهقي).وهذا ما يراه أيضا الكتاب الغربيون مثل "رودويل" (Rodwell) و"ويري (R.Wherry) و "موير" (Muir)، فكل واحد منهم قال بكونها مكية، إلا أنهم قد اختلفوا في ذلك قليلاً.يقول موير إنها نزلت في أواخر الفترة المكية قبيل الهجرة وبالتحديد بعد أن سافر "

Page 9

الجزء الخامس ۲ سورة مريم رسول الله له إلى الطائف لدعوة أهلها ورجع من عندهم جراء قسوتهم وسوء تصرفهم (حياة محمد لـ "وليام موير" ص ١٤٨).وقد حصل هذا الحادث في السنة العاشرة من البعثة النبوية.أما رودويل فيقول إنها مكية بدون أن يحدد سنة نزولها (ترجمة القرآن لـ "رودويل").أما "ويري" فإنه يؤيد ما ورد في التاريخ الإسلامي، ولكنه يحاول، كعادته، أن لا تنفلت من يده فرصة للطعن في القرآن فإنه يرى أنها نزلت في أوائل الفترة المكية، ولكنه يضيف تظاهرًا بعلمه أنها لم تنزل في الفترة التي يشير إليها الصحابة، بل نزلت بعدها بحوالي سنة.فكيف يا تُرى علم هذا القسيس بذلك وقد ولد بعد نزول القرآن بثلاثة عشر قرنا؟! إذن فإنه زعم فارغ لا يريد به إلا السخرية والطعن في الإسلام.إنه يرى أن نزولها بدأ في أوائل الفترة الثانية للإسلام - ويعني بذلك هجرة الصحابة إلى الحبشة - واستمر نزولها لبعض الوقت.وكأنه يحدد نزولها في السنة الخامسة والسادسة من البعثة، ولكن بدون أن يقدم على ذلك أي شهادة من التاريخ (تفسير القرآن الكريم لـ "ويري").الحق أن ما ورد في الحديث الشريف بهذا الصدد هو الأساس في تحديد زمن نزول هذه السورة، لأن الذين عاشوا مع الرسول والذين شاهدوا أحداث ذلك الزمن إنما هم الذين يمكن أن يأتوا بشهادة صحيحة على زمن نزول هذه السورة.وليست شهادتهم إلا أنها نزلت في أوائل الإسلام.فعن عبد الله مسعود له، وهو من أوائل الصحابة، أنه قال في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول، وهنّ من تلادي "(البخاري: التفسير، سورة بني إسرائيل)..أي أن سورة مريم هي مما نزل في أوائل الإسلام، وأنها من مالي بن القديم، بمعنى أنه حفظ هذه السورة فيما حفظه حين أسلم في أوائل أيام الإسلام.فهل يا تُرى نصدق ما يقوله من آمن في فجر الإسلام، وحفظ هذه السور عن ظهر قلب، أم نصدق ما يزعمه هذا القسيس الذي جاء بعد ثلاثة عشر قرنًا؟

Page 10

سورة مريم الجزء الخامس هذه شهادة من الناحية الدينية.أما الشهادة التاريخية على كون هذه السورة قد نزلت لدى فجر الإسلام فهي كالآتي.النبي لما اشتدت المعارضة، وسعى الأعداء لقمع الإسلام بكل ما أوتوا من قوة، دعا أصحابه وأمرهم بالهجرة من مكة.فقال الصحابة: يا رسول الله، هل ستهاجر أنت معنا؟ فقال: لا، بل أنتظر حتى أتلقى من الله أمرًا واضحا.أما أنتم فأود أن تهاجروا بسبب ما تلقونه من اضطهاد وأذى.قالوا: يا رسول الله، ما هو البلد الذي ترى أن نهاجر إليه حتى ننعم فيه بالأمن؟ فأشار بيده إلى جهة الغرب وقال: هنالك بلد فيها ملك لا يُظلم عنده أحد.اذهبوا إليه وستجدون عنده الأمن.وكان يقصد بلاد الحبشة.فقامت جماعة من الصحابة وجهزوا أنفسهم للهجرة إلى ذلك البلد.وكان جعفر بن أبي طالب، شقيق علي وابن عم الرسول ، من بين هؤلاء المهاجرين ولما هاجروا إلى الحبشة فرح الكفار في أول الأمر وقالوا في أنفسهم: ها قد نجحنا في طرد هذه الشرذمة المسلمة من بيننا، ولكنهم لما رأوا أن النبي وأبا بكر وعليا وعثمان وغيرهم من الشباب المسلمين المنحدرين من الأسر الكبيرة لا يزالون يعيشون في مكة، وأن دعوة أهلها إلى الإسلام لا تزال مستمرة بكل حماس كالمعتاد، قالوا في أنفسهم: إن خروج جماعة من المسلمين من مكة لا يمكن أن يُعَد نجاحًا على الإطلاق، بل هو دليل على هزيمتنا، إذ صار بذلك مركزان للإسلام، وأصبحت دعوته تنتشر بين أمتين بين أهل مكة والمسيحيين، بينما كانت منحصرة من قبل في مكة فقط.كما بلغهم أن المسلمين ينعمون في الحبشة بأمن وراحة، فلا يعتدي عليهم الآن أحد ولا يضربهم ولا يؤذيهم، بل يعبدون الله ويذكرونه بحرية، ويكسبون قوتهم في راحة.فتشاور الكفار وقالوا: لقد أخطأنا خطأ فادحا إذ شددنا على المسلمين ففروا من بيننا ولو أنهم أقاموا في أرضنا لقضينا عليهم وقتما شئنا، ولكنهم قد هاجروا الآن إلى بلد آخر، وانفلتوا من أيدينا، وقد ازدادوا قوة بدلاً من أن يضعفوا إذ قد تيسر لهم مركز سينشرون منه الدعاية ضدنا بيسر وسهولة، كما سيحرضون علينا الدولة المجاورة لنا.فقرروا إرسال وفد إلى الحبشة مع رسالة منهم إلى ملكها

Page 11

٤ سورة مريم الجزء الخامس فحواها: إنك جارنا، وبيننا وبينك صلات طيبة، ولكن قد لجأ إلى بلدك بعض المتمردين علينا، فاطردهم من بلدك، وردّهم إلينا في مكة.كما بعثوا مع الوفد هدايا وتحفا للملك وحاشيته من الأمراء والقسيسين وغيرهم من علية القوم، لتلين قلوبهم نحوهم، فيسلموا إليهم المسلمين.فذهب الوفد إلى الحبشة.وكان من ضمنه عمرو بن العاص الذي لم يكن قد أسلم بعد.وكان عمرو هذا قوي الحجة شديد العارضة، وكان يُبعث دائما ضمن الوفود الرسمية من قبل المكيين.فألقى أمام النجاشي ملك الحبشة كلمة مثيرة قال فيها: أيها الملك، أنت جارنا تحكم بلاد اليمن الذي هو في جوار بلادنا الحجاز، ويتحتم علينا الحفاظ على حقوق الجار.ولكن قد اندلعت الآن فتنة جديدة، إذ قد فر من مكة بعض المتمردين علينا ولجئوا في بلادك، وأنت منحت لهم الأمان، فأخذتنا الحيرة بذلك إذ كيف منحت الأمان لأعدائنا وأنت جارنا.فالمرجو منك أن ترجعهم إلى مكة لكي تبقى العلاقات بيننا وبينك على ما يرام، ولا يصيبها توتر ولا خلل.فقال الملك: سأدعو هؤلاء حالاً، وأسمع منهم موقفهم، وأتخذ القرار.فدعا الملك المسلمين المهاجرين وسألهم وقال ما هذا النزاع بينكم؟ قال الصحابة : أيها الملك، ليس بيننا وبينهم نزاع سياسي، وإنما هو اختلاف ديني.لقد بعث الله فينا نبيًّا، فآمنا به، وهؤلاء لا يسمحون لنا أن نعبد الله تعالى وفق عقيدتنا بحرية، ويتدخلون في أمور ديننا.نريد أن نعبد الله تعالى بطريقتنا، ويريد هؤلاء أن نعبده كما يعبدون، ونحن لا نفعل ذلك، فيغضبون علينا ويضطهدوننا، فجئناك هاربين من وطننا وقومنا.فكان لهذا الكلام وقع حسن على الملك، فقال لوفد المكيين: إن الاختلاف العقائدي أمر لا بأس به فلن أرد المسلمين إليكم لهذا السبب (الكامل في التاريخ لابن الأثير.ثم توجه إلى المسلمين وقال عيشوا في بلدي بحرية تامة، واعبدوا الله بحسب عقيدتكم دونما خوف.

Page 12

الجزء الخامس سورة مريم ولما سمع الوفد المكي قول الملك قرروا استخدام سلاح الهدايا التي أتوا بها، فقدموا هذه الهدايا لكبار القسيسين البطاركة لكلمة والبَطْرَك معرب (Patriarch) وتطلق على قسيس كبير تقارب درجته في منطقته درجة البابا وحرضوهم على المسلمين قائلين: إن هؤلاء عدو مشترك لنا ولكم، فإن عقائدهم تتعارض مع عقائدكم تعارضًا شديدًا، وإنهم يسيئون إلى المسيح وأمه، ولو سمحتم لهم بالإقامة في بلدكم فسيكون هذا بمنزلة عدائكم للمسيحية.وكان طبيعيا أن يثور هؤلاء المسيحيون ضد المسلمين بسماع هذا الكلام، كما يثور الناس ضدنا نحن المسلمين الأحمديين ،اليوم، فاستشاطوا غضبا، وقرروا رفع القضية إلى الملك ثانية في اليوم التالي.وفي الصباح أثار كبار البطاركة والقساوسة هذه المسألة ثانية أمام النجاشى وقد حضر الحاشية فقالوا أيها الملك، إن القضية ليست سياسية فحسب، بل هي دينية كذلك، فهؤلاء المسلمون لا يخالفون دين المكيين فقط، بل يخالفون ديننا أيضا، ويسيئون إلى المسيح وأمه، فلا تسمح لهم بالإقامة في بلدك.فدعا الملك المسلمين ثانية وقال لهم: بلغني أنكم تسيئون إلى سيدنا المسيح وأمه عليهما السلام؟ هل هذا صحيح؟ فتقدم جعفر بن أبي طالب ه – وهو ابن عم الرسول ﷺ وشقيق سيدنا علي الله - ممثلاً للمسلمين وقال للملك: هل تسمح لي، أيها الملك، أن أقرأ على مسامعك آيات من كتابنا الكريم فيها ذكر المسيح وأمه عليهما السلام، وستعرف بها عقيدتنا عنهما.فقرأ سيدنا جعفر ه أوائل آيات سورة مريم.وبما أن المسيحيين يعتقدون عموما أن المسيح إله وأن أمه والدة إله، وبما أن هذه الأفكار الوثنية كانت أكثر انتشارًا في بلاد الحبشة، ثار القساوسة لدى سماع هذه الآيات، وصرخوا قائلين إنها تسيء إلى ربنا المسيح.ولكن الملك كان يعتقد خلاف ذلك - إذ كان من المسيحيين الموحدين المؤمنين بوحدانية الله تعالى، وقد ورد في بعض الروايات أنه كان قد أسلم فيما بعد البخاري: كتاب الجنائز، البداية والنهاية لابن كثير فصل كتاب النبي له إلى النجاشي) – فقال لهم: إن ما يقوله المسلمون هو الحق.بل ورد في بعض كتب التاريخ أن الملك أخذ قشة وقال:

Page 13

٦ سورة مريم الجزء الخامس والله، إن مكانة المسيح وأمه لا تزيد عندي على ما ورد في هذه الآيات مثقال هذه القشة.فثار القسيسون أكثر وهددوا الملك وقالوا : إذا لم تتخذ ضد المسلمين إجراء صارمًا ستندلع ثورة في البلد، وسيتمرد الشعب عليك.فاستشاط الملك غضبًا وقال: لقد تآمرتم مع عمي ضدي وأنا صغير وحاولتم إبعادي عن العرش، ولكن نصرني ووهب لي الملك.فإني ملك بمحض فضل ربي الذي هزمكم ونصرني عليكم.فهل تظنون أنني سأترك في شبابي ربي الذي نصرني في صغري.فافعلوا ما شئتم، فإني لن أحيد عن العدل والإنصاف.ثم أخرج الملك وفد المكيين خائبين، وودع المسلمين بإعزاز وإكرام.الله إذن فقد اتضح من هذه الأحداث جليًّا أن سورة مريم كانت قد نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة التي حصلت في العام الخامس من البعثة النبوية، وأن هذه السورة كانت معروفة شائعة بين المسلمين إلى ذلك الوقت، حيث قرأها المسلمون المهاجرون أمام ملك الحبشة توضيحا لعقيدتهم.فثبت أن هذه السورة هي مما نزل في أوائل الإسلام وقبل الهجرة إلى الحبشة.(والروايات المذكورة أعلاه قد ذكرها محمد بن إسحاق في سيرته عن أم سلمة، والإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود) وأما المستشرق رودويل (Rodwell) فيرى أن الآيات رقم ١ إلى ٣٧ من هذه السورة تختلف في أسلوبها عن آيات ٣٥ إلى ٥٧ من سورة آل عمران التي هي الأخرى تتحدث عن الموضوع نفسه.ويزعم رودويل أن محمدا قد غير الأسلوب في تلك الآيات خوفًا من أن يتهمه العرب بكونه شاعرًا.(ترجمة القرآن لـ "رودويل") ولكنه زعم باطل تمامًا لأن كل عاقل يعرف ما هو الشعر، والعرب بالأخص كانوا شهيرين في قرض الشعر، فأنى لهم أن يسموا نثر القرآن شعراء الحق أن هؤلاء المستشرقين لم يفهموا حتى اعتراض الكفار ، ناهيك عن أن يستوعبوا معارف القرآن الكريم.إن الكفار لم يعترضوا بقولهم للنبي "إنك شاعر" على كون القرآن كلامًا موزونًا، وإنما قصدوا به أن القرآن يتحلى بروح الشعر وصبغته.لقد ظن المستشرقون أن ورود كلمات "نديَّا" و"رضيَّا" وغيرهما في هذه السورة جعل

Page 14

الجزء الخامس روح الشعر بمعنى V سورة مريم الكفار يتهمون محمدا ﷺ بكونه شاعرا، مع أنهم قصدوا به أنهم قصدوا به أن في وحي القرآن أن القرآن يصرف آياته ويبين مراده بأساليب شتى، كما يبين الشاعر مراده بطرق شتى.لقد كان بين العرب شعراء فحول كبار، فأنى لهم أن يعتبروا القرآن شعراً بمعناه الحقيقي؟ أما "مقاتل" فيرى أن سورة مريم مكية ،كلها ما عدا آية واحدة منها فهى مدنية (روح المعاني).وعندي أن هذه السورة نزلت في أواخر السنة الرابعة أو أوائل السنة الخامسة من البعثة النبوية، لأن الثابت تاريخيا، كما بينت ،آنفًا، أن الوفد المكي لما ذهب إلى الحبشة لاسترجاع المسلمين المهاجرين ورفض الملك طلبهم، حاول الوفد استمالة منتصف القسيسين باتهام المسلمين بالإساءة إلى المسيح ال، فقرأ جعفر بن أبي طالب أوائل آيات سورة مريم توضيحا لعقيدة المسلمين عن المسيح، فاطمأن الملك وصار أشدَّ تمسكًا بموقفه والهجرة إلى الحبشة هذه حصلت في رجب من السنة الخامسة (الطبقات الكبرى لابن سعد)..أي بعد انقضاء أربعة أعوام ونصف العام على دعوى النبي ، وهذا إذا بدأنا عدّ العام النبوي من شهر محرم، أما إذا بدأناه.من العام، لأن وحي النبوة بدأ نزوله في شهر رمضان، فتصبح هذه المدة أقل أيضًا.أما أنا فلا أعرف بالتأكيد هل كان المؤرخون يعدّون عام البعثة النبوية بدءا من محرم أم من رمضان؛ فإذا كانوا يبدؤون العد من شهر محرم فتصبح هذه الفترة أربعة أعوام ونصف العام، وإذا كانوا يبدؤونه من رمضان فتصبح هذه الفترة ثلاثة أعوام وعشرة أشهر.على كل حال فمن الحقائق الثابتة أن هذه السورة قد نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة بفترة تمكن فيها الصحابة من حفظها عن ظهر قلب.ولا بد أن نعتبر الفترة التي اشتهرت فيها هذه السورة وحفظها الصحابة عن ظهر قلب ستة أشهر على الأقل، وبالتالي يصبح زمن نزولها أواخر السنة الرابعة من البعثة على الأكثر.علما أن نزول الوحي على الرسول ﷺ استمر ثلاثة أعوام قبل أن يوجه فيه الخطاب إلى المسيحية، ثم بعد مرور ثلاثة أعوام توجّه الخطاب إلى المسيحية فجأة وتفصيلاً

Page 15

الجزء الخامس سورة مريم في سورة مريم التي تحدثت عن حادثة ولادة المسيح الله، وعن الأنباء التي كانت أساسًا لدعواه عند المسيحيين، كما تناولت عقائدهم والرد عليها مصحوبًا بالأدلة والبراهين.ثم بعد نزول هذه السورة بأربعة أو خمسة أشهر وقعت الهجرة إلى بلاد الحبشة التي كانت مملكة مسيحية، والتي بدأت فيها المواجهة المباشرة بين المسيحيين والمسلمين حتى ارتد أحد الصحابة المهاجرين متأثراً بأقوال المسيحيين الله وتنصر، وهو عبيد بن جحش (شرح الزرقاني: الهجرة الثانية إلى الحبشة) فنزول سورة مريم في تلك الآونة بالذات يدل صراحة على وجود حكمة ربانية عظيمة تمثل شهادة كبيرة على صدق القرآن الكريم.لقد ولد رسول الله ﷺ في مكة التي لم تكن فيها للمسيحية من قوة وما كان معارضوه على صلة بالمسيحية، اللهم إلا ثلاثة أو أربعة من العبيد المسيحيين الساكنين بينهم والذين لم يكن لهم شأن يُذكر (روح المعاني والدر المنثور، سورة النحل: ولقد نعلم أهم يقولون إنما يعلمه بشر).واستمر نزول الوحي على رسول الله ﷺ الثلاثة أعوام بعد البعثة من دون أن يتناول موضوع المسيحية بالتفصيل.ثم عند نهاية السنة الرابعة أو في بداية السنة الخامسة تحدث الوحي فجأةً عن المسيحية، وناقشها بالتفصيل والإسهاب؛ فأخبر كيف بدأت المسيحية، وما هي الأنباء التي ظهر المسيح بحسبها، وما هي حقيقة المسيحية إزاء الإسلام.وإن هي إلا أيام قلائل حتى تغيرت الظروف بسرعة، فاضطر النبي ﷺ ليأمر أتباعه بالهجرة إلى الحبشة التي هي دولة مسيحية.إن هذه الأمور كلها تبين صراحة أن الذي أنزل هذا الوحي هو الله الذي يعلم الغيب.فإنه تعالى لم ير حاجة إلى التطرق إلى المسيحية قبل أن تتهيأ الظروف للمواجهة بينها وبين الإسلام، ولكن لما اقترب موعدها، وأوشكت هجرة المسلمين إلى بلد المسيحيين نبههم الله وأيقظهم، وأخبرهم باقتراب موعد النزال بين الإسلام والمسيحية، وعلّمهم طريق الجدال مع أهلها؛ فأنزل بطريق مفاجئ سورةً تنبئ المسلمين بعقائد المسيحية وتعاليمها وحقيقتها الأصلية وغايتها المنشودة.

Page 16

الجزء الخامس سورة مريم إذًا، فإن نزول سورة مريم تَضمّنَ في طياته نبأ يقينيًّا بالهجرة إلى الحبشة، حيث الله المسلمين أنكم ستذهبون عن قريب إلى مكان تواجهون فيه النصارى، فعليكم بمعرفة عقائدهم.وكانت هذه إشارة بالغة الأهمية لم يفهمها المسلمون الذين أتوا فيما بعد، بينما فهمها المسيحيون، حيث نجد "ريورند "ويري والسير وليام ميور" يبذلان قصارى جهدهما ليثبتا أن سورة مريم لم تنزل في السنة التي نزلت فيها في الواقع.يا ترى، ما للمسيحيين ولهذه السورة سواء نزلت في السنة الرابعة أو الثامنة؟ إذا كان مضمونها يبطل المسيحية فنزولها في السنة الرابعة أو العاشرة سواء للمسيحيين؛ ولكنك تجدهم يبذلون كل ما في وسعهم ليثبتوا أنها لم تنزل قبل الهجرة إلى الحبشة؛ ذلك لأنهم أدركوا أنه لو ثبت نزولها قبل هذه الهجرة لكان برهانا ساطعا وحاسمًا على أنها كانت تنطوي على نبأ الهجرة إلى الحبشة ووصول دعوة الإسلام إلى البلاد المسيحية.هذا هو الأمر المحرج الذي أصابهم بالذعر والقلق.فبما أنهم لا يألون جهدًا في أن يثبتوا زعمهم أن القرآن خال من أي أنباء فسعوا لإيجاد سبيل للخروج من هذه المعضلة، لأنهم لن يجدوا جوابا إذا سألهم المسلمون وقالوا: أخبرونا أيها النصارى، لماذا لم يتطرق القرآن إلى موضوع المسيحية أمام المشركين طيلة ثلاثة أعوام، فلم يتحدث عن تعاليمها، ولا تاريخها ولا عقائدها الخاطئة؛ ثم فجأة ودفعة واحدة تنزل سورة كاملة، تنبئ المسلمين بظهور أحداث مفاجئة ستؤدي إلى المواجهة بين المسلمين والنصارى، فيخرج الإسلام لمقاومة المسيحية إلى بلاد تقع تحت النفوذ المسيحي؟ ألا يكشف ذلك أن الله تعالى هو الذي أخبر المسلمين سلفا بهذه المواجهة الوشيكة بين الإسلام والمسيحية؟ إن الجواب على هذا السؤال كان صعبًا وشاقًا على المسيحيين فسعوا كل السعى ليبطلوا هذه المعجزة القرآنية العظيمة بإثبات أن هذه السورة لم تنزل قبل الهجرة إلى الحبشة.فما كان منهم إلا أن تظاهروا بأنهم علماء وأساتذة، فزعموا أن في كلمات هذه السورة وأسلوبها دلالة على أنها نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة (تفسير القرآن لـ "ويري")؛ وذلك رغم كونهم جاهلين بأساليب اللغة

Page 17

الجزء الخامس دَعْكَ سورة مريم العربية تماماً.فإننا لو عرضنا عليهم بعضا من تمثيليات شكسبير باللغة الإنجليزية من اللغة العربية، وسألناهم أن ينظروا في كلماتها وأسلوبها ويخبرونا عن زمن كتابتها، لفشلوا في ذلك فشلا ذريعا ولزموا الصمت نادمين صاغرين.ذلك لأن تحديد زمن عبارة من العبارات بأي لغة بالنظر إلى كلماتها وأسلوبها إنما يتطلب معرفة تامة شاملة للتاريخ الطويل الذي تطورت فيها تلك اللغة مرحلة تلو أخرى.بل إن المرء سيرتكب رغم ذلك أخطاء كثيرة في هذا التقدير، إذ لو كان هناك شاعر عاش خمسين أو ستين سنة، واستخدم في قصائده التي قرضها في أوائل حياته كلمات ترك استخدامها في قصائده التي نظمها في أواخر حياته؛ ولو نظرنا في بعض قصائده فيمكننا القول بالنظر إلى كلماتها إنها من أوائل حياته أو أواخرها.ولكن هذا التقدير أيضًا لا يكون إلا بناء على بعض الكلمات فحسب، أما تحديد زمن قصائده بالنظر إلى أسلوبها فهذا غير ممكن لأحد.خذوا على سبيل المثال الشاعر الكبير عندنا "غالب"، فقد قال أهل النقد عن شعره إن بإمكانهم أن يشيروا إلى أبيات سهلة الكلمات والأسلوب من بين قصائده الأخيرة، تماما كما بإمكانهم أن يشيروا إلى مثلها من بين قصائده الأولى؛ فمن الخطأ القول أن شعره قد تطور في أواخر حياته.فثبت أن ما يقوله القسيس ريورند ويري والسير وليام ميور هنا لزعم باطل وليس غرضهما منه إلا أن يتظاهرا بأنهما من كبار الأساتذة والأدباء بحيث إنهما قادران على تحديد زمن عبارة من العبارات بالنظر إلى أسلوبها.والحق أنه ليس أحد أن يحدد ذلك ولو كان من الأدباء العظماء الأفذاذ.فمثلا لو أن هؤلاء المسيحيين وجهوا هذا السؤال نفسه إلى كبار الأدباء المعاصرين من ألمانيا وفرنسا وأمريكا وإنجلترا، وطلبوا منهم تحديد زمن بعض القصائد الشعرائهم المشهورين الكبار بناء على أساليبها لردّوا عليهم بقولهم: لسنا بمنجمين حتى نعلم ذلك، لأن هذا محال، اللهم إلا أن يكون عند أحد معرفة شخصية يقينية بالسنة التى نظم فيها الشاعر قصيدة معينة.ومع ذلك يجلس هؤلاء المستشرقون للأسف الشديد، على بوسع

Page 18

الجزء الخامس ۱۱ سورة مريم كرسي الفتوى لتحديد زمن آيات الذكر الحكيم وليس غرضهم من ذلك إلا التقليل من عظمة نبأ من الأنباء القرآنية الثابتة اليقينية، وإخفاء صدق الإسلام.إذن فإن ما فعله ويري" و "ميور" لدليل حاسم على أنهما قد أدركا أن نزول سورة مريم في تلك الظروف قد جعل منها نبوءة عظيمة كشفت عن أحداث المستقبل، فأراد الاثنان إخفاءها بقولهما أنها نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة.إنه بالفعل نبأ قرآني عظيم، حيث لم يزل وحي القرآن ينزل وينزل طيلة ثلاث سنوات بدون التطرق إلى المسيحية بالتفصيل، ولكن ما إن اقترب زمن المواجهة بين المسيحية والإسلام إلا ونزلت سورة كاملة عن المسيحية، ثم بعد ستة أشهر أو سنة يهاجر المسلمون إلى بلد مسيحي، فتجري هنالك مناظرات بينهم وبين النصارى يقع ضحيتها أحد المسلمين حيث ينصره المسيحيون، أما المسلمون فيقع الملك المسيحي صيدا لهم معلنًا إسلامه ألا تشكل كل هذه الأمور برهانا عظيمًا على صدق الإسلام؟ واعلم أن القرآن لم يتناول موضوع المسيحية بعد نزول سورة مريم إلا في أنه قد تحدث عن المسيحية في الفترة المكية أيضًا، ولكن إشارةً لا المدينة.صحيح تفصيلا.إنما استأنف هذا الموضوع بالإسهاب ثانية في المدينة في السنة الثانية أو الثالثة بعد الهجرة، وذلك في سورة آل عمران التي يدل محتواها على كونها سورة مدنية، حيث تحدثت عن غزوة أحد والأحداث المتعلقة بها.ثم تناول القرآن المسيحية في سورة النساء التى هى الأخرى مدنية، بل بدأ نزولها بعد سورة آل عمران في السنة الرابعة، ونزلت بعض آياتها بعد تلك السنة.ثم عالج القرآن موضوع المسيحية بشيء من التفصيل في سورة المائدة التي نزلت بعد سورة النساء في المدينة، وقد نزلت معظمها في العامين الخامس والسادس بعد الهجرة، بل إن بعض آياتها نزلت قبيل وفاة النبي الا الله ( البحر المحيط ).فثبت أن سورة مريم هي الوحيدة التي تحدث فيها القرآن عن المسيحية مباشرة وتفصيلا قبل الهجرة إلى المدينة، وقد نزلت هذه السورة - كما تدل عليه القرائن - في أواخر السنة الرابعة أو أوائل السنة الخامسة من البعثة النبوية، وقد حفظها الصحابة عن ظهر

Page 19

۱۲ سورة مريم الجزء الخامس قلب قبل الهجرة إلى الحبشة وقرءوها أمام ملكها إذن فإن زمن نزولها يكشف جليًّا أنها تنبأت عن اقتراب زمن المواجهة بين المسيحية والإسلام، كما تضمنت إشارة واضحة إلى الهجرة إلى الحبشة، مما يؤكد أن القرآن الكريم قد نزل من لدن عالم الغيب.أحداث لقد كان من أسلوب القرآن التنبؤ سلفًا عما سيمر به المسلمون من وأحوال حتى إذا تحقق وحي الله في موعده زاد المؤمنين إيمانًا مع إيمانهم.وعندي أن هذا الأمر قد أثر في قلب القسيس ريورند ويري والسير ميور، فراحا جاهدين ليثبتا أن هذه السورة نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة أو قبيل هجرة المدينة، ضاربين بشهادة التاريخ والحديث عرض الحائط.وإن تصرفهما هذا لدليل واضح على أنهما قد فطنا إلى أن في موعد نزول هذه السورة إشارة ربانية بينة، فراحا يحاولان عبثا أن يثبتا أن هذه السورة لم تنزل في الوقت الذي نزلت فيه في الحقيقة.فما الذي دفعهم، يا تُرى، إلى هذا التزييف رغم وجود الشهادة التاريخية؟ إنما السبب أنه لو ثبت نزولها في الوقت الذي يؤكده التاريخ لكان آية عظيمة على صدق الإسلام.قد يقول قائل هنا كيف نصدق أن الله تعالى هو الذي أنزل هذه السورة، و لم لا نقول إن محمدا نفسه فكر أن المعارضة في مكة قد بلغت ذروتها فلا مناص للمسلمين من الهجرة ومن الأفضل أن يهاجروا إلى الحبشة، فتحدث عن المسيحية في القرآن.والجواب أن هذا ممكن عقلاً بدون شك، ولكن العقل نفسه يفرض أن يمدح محمد المسيحية في هذه الحالة ويثني عليها، ولكن سورة مريم كلها دحض وإبطال للمسيحية.ومما لا شك فيه أيضًا أنه بإمكان النبي ﷺ أن يفكر في إرسال المسلمين إلى الحبشة، ولكن من ذا الذي أخبره أنهم سيمكثون هنالك فترة طويلة، وأنهم سيخوضون المناظرات مع المسيحيين، لذا لا بد لهم من أن يكونوا على معرفة تامة بعقائدهم؛ فإن هذه السورة لا تنبئ عن الهجرة فحسب، بل تخبر أيضا أن النـزال

Page 20

الجزء الخامس مع ۱۳ سورة مريم المسيحيين سيطول، وأن كلا من الفريقين سيقدم شتى الأدلة والبراهين في هذا الجدال.فثبت أن هذا القول مجرد وسوسة لا أساس لها من الصحة.الحق أن المسيحيين قد فطنوا إلى معجزة القرآن ،هذه، فبذلوا كل ما بوسعهم ليثبتوا أن هذه السورة لم تنزل إلا بعد الهجرة إلى الحبشة.فيقول ميور مثلاً: لا شك أن سورة مريم تشير إلى الهجرة، ولكن ليس إلى الحبشة، وإنما إلى الطائف.وهذا يعني أنه يحاول أن يثبت أنها نزلت في أواخر الفترة المكية حين ذهب النبي ﷺ إلى الطائف، أن هذا غلط تماما.لا شك أن بعض العبيد المسيحيين كانوا يعيشون في الطائف، حيث مع نقرأ في حادث الطائف ذكر أحدهم واسمه عداس الذي لقي النبي ، وأبدى نحوه حبا شديدا؛ ولكن مثل هؤلاء العبيد المسيحيين كانوا موجودين في مكة أيضا، والثابت تاريخيا أن حرفتهم كانت الحدادة أو ما شابه ذلك الأعمال.أما من المسيحي المذكور في سفر الطائف فيخبرنا التاريخ أن النبي سأله: من أين أنت؟ فقال: أنا من نينوى.فقال : التي أُرسل إليها أخي يونس؟ ثم بلغه النبي ﷺ دعوة الإسلام، فقبّل يده المباركة من فرط المحبة والفرحة (السيرة النبوة لابن هشام: سعي الرسول له إلى ثقيف).فلا ننكر وجود بعض المسيحيين بالطائف، ولكنا نقول إنه لم يجر معهم أي جدال ديني حتى نطبق هذه السورة على سفر الطائف.هذا، وقد حاول القسيس "ويري" أيضًا محاولة خفية أن يثبت أن هذه السورة نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة، فيقول: لم تنزل هذه السورة في أواخر الفترة المكية في السنة الحادية عشرة كما يقول ميور، ولا في الفترة التي يذكرها المسلمون، وإنما نزلت بعد الهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة أو السادسة في مكة.ويضيف "ويري": ويتضح من الأحداث المذكورة فيها جليًّا أن معرفة محمد (ﷺ) بالكتاب المقدس كانت ضئيلة جدا، والذين ساعدوه أيضا لم يعرفوا من الكتاب المقدس إلا القليل تفسير القرآن لـ "ويري").ولسوف أرد على زعم ميور هذا لدى تفسير الآيات القادمة.

Page 21

الجزء الخامس ترتيبها : ١٤ سورة مريم أما صلة سورة مريم بما قبلها من السور فهي أن سورة بني إسرائيل (الإسراء) تخبرنا كيف يزدهر الإسلام، فتقول إن الأمة المحمدية شبيهة بالأمة الموسوية، وأنها ستنال الغلبة على النحو الذي نالتها أمة موسى ومن أجل ذلك ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل بعضا من أحداث أمة مبينا أنه تعالى كان قد قدر لها موسى، دمارين بعد زمن موسى، كما كتب لها فترتين من الرقي والغلبة؛ وهكذا سيفعل بالمسلمين أيضًا..أي أنه سيحل عليهم ،دماران كما ستأتي عليهم فترتان من الرقي بعد العهد النبوي تماما كما حصل بأمة موسى بعد رحيله.وهذا ما حدث بالضبط، فكما أن الدمار الأول حل ببني إسرائيل بعد عهد داود الا الذي كان يشكل فترة رقي كبير، ودُمرت أورشليم مركز اليهود تدميرا (الموسوعة التوراتية: Jews)، كذلك تماماً حل الدمار الأول بالمسلمين بعد النبي في زمن الحكم العباسي الذي كان زمن ازدهار عظيم، ودمرت بغداد التي كانت العاصمة الإسلامية تدميرًا.وكما أن الدمار اليهودي الأول تَمثَّل – على الأغلب – في دمار أورشليم العاصمة اليهودية حين دمرها نبوخذنصر، وأخذ معه ثرواتها، وأجلى اليهود؛ كذلك تمامًا حل الدمار الأول بالمسلمين في عاصمة الحكومة الإسلامية خاصة، فهرب منها علماؤها وتشتتوا، واستولى عليها الأعداء (كتاب العبر لابن خلدون: الجزء الثالث وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد).ثم إن الدمارين قد حلا بالأمتين في زمن متقارب أعني أن بغداد قد دمرت بعد النبي ﷺ بفترة تقارب الفترة التي حل فيها الدمار بأورشليم بعد موسى ال.أما الدمار اليهودي الثاني الذي حل في عهد تيطس الروماني فقضى على الحكومة اليهودية تماماً، حتى اضطر اليهود لترك ،وطنهم، فهرب بعضهم إلى الأراضي الإيرانية، وبعضهم إلى مصر (الموسوعة التوراتية: Jews).ونفس المصير كان مقدرًا للمسلمين عند دمارهم الثاني؛ فكما أن الدمار الثاني اليهودي بدأ على يد الرومان وقبيل ظهور المسيح عيسى ال واستمر بعده لفترة، كذلك بدأ الدمار

Page 22

١٥ سورة مريم الجزء الخامس الثاني العام للمسلمين قبيل دعوى المسيح الموعود اللي على يد القوى المسيحية الغربية التي كانت تنوب عن الإمبراطورية الرومانية، فأصابهم الضعف في كل مكان، ودمرت دولهم، ولم يبق للحكومة الإسلامية في العالم من أثر، وأصيب الإسلام بنكسة كبيرة تارة أخرى.واستمر دمار المسلمين هذا في زمن المسيح الموعود وهو مستمر بعده أيضًا، ولكن المقدر - كما هو واضح من الأنباء – أن الله تعالى سيبدل دمارهم إلى رقيًّا بعد فترة من الزمن، وسيكونون هم الغالبين في العالم ثانية.هذا، وإن اليهود قد نهضوا بعد الدمار الأول ثانية عن طريق قوم كانوا أعداء لهم من قبل، حيث عادوا بهم إلى أرضهم من الجلاء، وأعانوهم على تعمير أورشليم ثانية (الموسوعة التوراتية: Jews).وقد ظهرت بعد الدمار الأول للمسلمين آية مماثلة لها بل أفضل منها، وبيانها أن ملك ميديا وفارس قد أعان اليهود على تعمير أورشليم ثانية، ولكنه لم يعتنق اليهودية إنما كان مواسيًا لهم ومتعاطفا معهم، ولكن الملوك المغول الأتراك الذين قضوا على الحكم الإسلامي قد اعتنقوا الإسلام بعد ذلك، وأخذوا يعملون على إحيائه وازدهاره بدلاً من العمل على هلاك المسلمين، حتى دخل الإسلام على أيديهم في مرحلة جديدة من الرقي والازدهار (البداية والنهاية لابن كثير: السلطان برکه خان بن تولی بن جنكيز خان).أما الدمار اليهودي الثاني فاعتنق بعده الشعب الحاكم* المسيحية، وقد ازداد شغفهم باليهودية أن بدءوا يقدسون التوراة ويبجلون أنبياء بني إسرائيل مع احترامهم لمقدسات النصارى (الموسوعة البريطانية (Jews والأمر نفسه مقدر للمسلمين، فإن القوى الغربية الحاكمة التي أصابت الإسلام بالضعف ودمرت المسلمين ستدخل في الإسلام في يوم من الأيام، وستكتب الغلبة والعزة ثانية للدين الذي جاء به محمد رسول الله.* يشير حضرة المفسر إلى الشعب الروماني الذي كان حاكمًا على أرض فلسطين حيث تنصر الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الثالث الميلادي.(المترجم)

Page 23

١٦ سورة مريم الجزء الخامس إن هذا الموضوع المذكور في سورة بني إسرائيل قد زاده الله تعالى وضوحًا في سورة الكهف، حيث بين فيها أنه سيكتب الغلبة للمسلمين بعد دمارهم الثاني على النحو الذي كتبه للأمة الموسوية بعد دمارها الثاني.وما هى تلك الطريقة، وكيف الله تحول الدمار الثاني للأمة الموسوية إلى رقى لها؟ إن العالم المسيحي يعرف ذلك جيدا.فإن الجناح الذي كان يمثل الأمة الموسوية في تلك الفترة قد نزع تعالى منه الأمر تماما، ووفق جماعة المسيح الناصري ال الذي أعلن أنه لم يأت ليغير الناموس، بل جاء ليكمله متى ٥: ۱۷-۱۸ - لتبليغ دينه توفيقا عظيمًا حتى أُقيمت بواسطتهم حكومة التوراة في العالم ثانية وبشكل جديد، وإن الأمة الموسوية التي كانت شبه ميتة قد كتب الله تعالى لها الازدهار تارة أخرى نتيجة إيمانها بآخر خلفاء الأمة الموسوية المسيح الناصري ال.وقد أكد الله تعالى في سورة الكهف أن القدر نفسه ينتظر المسلمين.وقد وضع الله تعالى سورة مريم بعد سورة الكهف، وذكر فيها أحداث المسيح العلي، تنبيها للمسلمين أنه ستظهر فيهم أيضًا آية مماثلة سينهضون ببركتها مرة أخرى؛ فكما أن رقي الأمة الموسوية كان منوطًا بمسيح بعث فيها، كذلك فإن الإسلام أيضًا سيزدهر على يد مسيح موعود للمسلمين؛ وكما أن تلك الأمة غلبت ثانية بواسطة أصحاب الكهف أي أتباع المسيح الناصري، كذلك سيخلق الله في الإسلام أصحاب الكهف الجدد لنصرة المسيح الموعود، وعن طريقهم سيعود الإسلام غالبا مرة أخرى.هذا، وقد ذكر الله تعالى في سورة الكهف معراجًا لموسى العل، موضحًا أن راجه هذا تضمن نبأ رقي الإسلام كما أخبر أيضا أن تحقق هذا المعراج الموسوي في حق المسلمين سيؤدي إلى عداء شديد بين الأمتين المحمدية والموسوية، وسيتولد الحسد والعداء في الأمة الموسوية تجاه الأمة المحمدية زمن ازدهارها؛ وكما هو معرا وهم اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح الناصري الله (المترجم).

Page 24

الجزء الخامس ۱۷ سورة مريم معروف فإنه إذا غفل أحد الخصمين قليلاً قتله الآخر على حين غفلة منه، كذلك سيحصل بالأمتين، فيتغلب حملة لواء الأمة الموسوية أي أتباع المسيح الناصري، على المسلمين على حين غفلة منهم.ثم توضيحا لهذه المماثلة بين الأمتين، سرد الله تعالى في سورة الكهف حادثًا قديمًا وقع مع بني إسرائيل وهو حادث ذي القرنين، وأخبر أنه تعالى منح اليهود المغلوبين الحكم ثانية بواسطة هذا الملك، وأن هذا التاريخ سيعاد مع المسلمين أيضا، و سينقذ الله المسلمين المقهورين من الدمار الشامل، وسيهيئ الأسباب لحمايتهم وغلبتهم ثانية بواسطة ذي القرنين الثاني.ثم بعد ذلك جيء بسورة مريم.وقد سبق أن بينت أن مضمون السور السابقة لها يوضح أن فترة رقي الإسلام وزواله مشابهة لفترة ازدهار أمة موسى وانحطاطها.فكما أن إحياء الأمة الموسوية بعد انحطاطها تم على يد المسيح الناصري ال الذي كان آخر حلقة من السلسلة الموسوية، كذلك تماماً سيتم إحياء الأمة الإسلامية، بعد انكسار شوكتها وزوال مجدها، على يد المسيح المحمدي الذي هو آخر حلقة من السلسلة المحمدية؛ ولكن بما أن المسيح الناصري كان الحلقة الأخيرة من السلسلة الموسوية وكان أتباعه هم الذين تسببوا في ضعف الإسلام وانحطاطه، فلن تتم المواجهة الحقيقية إلا بين الأمة المحمدية وأتباع المسيح الناصري حين يحرز الإسلام الرقي ثانية.وعليه فإذا أردنا دراسة الموضوع من الناحية التاريخية فيجب علينا دراسة تاريخ الأمة المسيحية لا تاريخ الأمة الموسوية، لأن أتباع المسيح العلية لا العدو الحقيقي للإسلام.ومن أجل ذلك نجد أن القرآن الكريم بعد أن بين مواضيع مختلفة في سورة الكهف يتجه الآن في سورة مريم إلى بيان أحوال قوم تقع بينهم وبين المسلمين المواجهة الحقيقية، مبينًا أن المسلمين دمروا بسبب المسيح أي عن طريق أتباع المسيح الناصري الي، فإذا أراد المسلمون النجاة من الهلاك فلن ينجوا أيضًا إلا عن طريق المسيح أي بتصديق المسيح الموعود الله.ومن أجل ذلك أخذ الله تعالى في سرد تاريخ المسيحية في سورة مريم، منبها المسلمين أن تاريخها سيكون منارة نور لهم، فعليهم أن يضعوها نصب أعينهم، ويتذكروا كيف وضع أساسها، هم

Page 25

الجزء الخامس ١٨ سورة مريم لأن إحياء المسلمين أيضًا سيتم على منوال المسيحية.وكأن سورة مريم ثالث حلقة في سلسلة تمثل سورة بني إسرائيل وسورة الكهف الحلقتين الأولى والثانية منها، لأن موضوع هذه السور الثلاث ،واحد وأسلوبها واحد كذلك.ولهذه السورة صلة مباشرة أخرى بسورة الكهف وهي أن سورة الكهف ركزت في آياتها الأخيرة على الشرع والتوحيد وأما سورة مريم فبدأها الله تعالى بذكر المسيح ال الذي كان من المقدر أن تتولد بسببه شبهتان خطيرتان عن الشرع والتوحيد، فأزال الله تعالى هاتين الشبهتين في سورة مريم.وثمة صلة أخرى بين السورتين وهي أن سورة الكهف تتحدث عن نهاية المسيحيين، وأما سورة مريم فتتحدث عن بدايتهم.ويبدو، في بادئ الأمر، أن الترتيب المعاكس كان هو الأفضل والأولى، ولكن لا بأس بهذا الترتيب أيضًا، إذ إن البذرة تكون خفية، ولا تنكشف حقيقة شيء إلا بعد ظهوره تماما، ولذا أخر الله تعالى سورة مريم في الترتيب، لكي يعرف المسيحيون وغيرهم كيف بدأ أمرهم وبأي شكل انتهى.ملخص محتواها: كما بينت في المقطع الذي تستهل به هذه السورة - وهو اختزال لبعض صفات الله تعالى لقد عقد الله تعالى المقارنة بين عقائد الإسلام وعقائد المسيحية، مبينًا أن الديانة المسيحية كانت في أصلها من عند الله تعالى ولكن تسربت إليها، بمرور الأيام، عقائد تخالف الحق، وتنافي صفــات الله تعالى.هذه خلاصة المقطع (كهيعص).هي وبعد ذلك تبدأ قصة المسيح بذكر زكريا عليهما السلام، وذلك لأن أكبر ما كان شائعا بين اليهود من علامات ظهور المسيح هو نزول إيلياء من السماء قبل هذا ظهور المسيح (ملاخي (٤: (٥)؛ وإن أهم سؤال وجه إلى المسيح بعد ظهوره هو السؤال نفسه وقد ركز الإنجيل أيضًا على الرد على المسألة نفسها، موضحًا أن ليس المراد من إيلياء إلا يحيى (متی ۱۱: ۱٤ و ۱۷ : ۱۲ ، ومرقس ۹ (۱۳)، وأن

Page 26

۱۹ سورة مريم الجزء الخامس إيلياء ما كان لينزل من السماء، وإنما كان لا بد أن يظهر من الأرض ويولد من بطن أمه متى :۱۱: ۱۱ ، ولوقا (۷ (۲۸ هذا مخلص قوله تعالى: ذكر رحمة ربك عبده زكريا إلى قوله تعالى يوم يبعث حيًّا ).ثم بعد ذكر إيلياء، تحدث الله تعالى عن المسيح، ولكن بدأ حديثه بذكر أمه بدلاً من ذكر دعواه، إذ بميلاده وضع الأساس للأمة المحمدية؛ وبيان ذلك أن إبراهيم كان له من زوجتين :ابنان إسماعيل الابن البكر وإسحاق الابن الثاني عليهم السلام جميعا، وكان الله مع إبراهيم عهود تخص ابنيه كليهما والوعود الإلهية الخاصة بإسماعيل مذكورة في الأماكن التالية من التوراة التكوين ١٦: ١٠-١٢، و ١٧: ٨-١٤ و ۱۸-۲۰ ، ۲۱ : ۱۳ - ۲۱.أما وعود الله تعالى الخاصة بإسحاق فوردت في التكوين :۱۷ ۱۹ ۲۰ وثمة أنباء مشتركة عن الابنين في التكوين ٢٢: ١٧ و ١٨.وعندما ندرس هذه الوعود والأنباء مع ما ورد في التكوين ١٧: ٢١ يتضح لنا جليًّا أن الله تعالى كان قد قدر تحقيق وعوده هذه مع إبراهيم بدءا من ابنه إسحاق، ولكنه تعالى لا بد أن يحققها من خلال الابنين كليهما.وهذا يوضح أن النبي الأخير الذي قدر ظهوره وفق هذا الوعد الإبراهيمي كان سيأتي في نسل إسماعيل.ولكن بما أن نقل هذا العهد الإبراهيمي من نسل إسحاق إلى نسل إسماعيل كان سيصيب الفريق الأول بصدمة كبيرة، فكان لزاماً أن يتم نقله إلى بني إسماعيل ببطء وتدريج، وكان لا بد من أن يكون هذا النقل مدعما بالأدلة والبراهين.فأخبر الله تعالى في الآيات التى ألخصها الآن أنه تعالى قرر أخيرًا تحقيق هذا الوعد من خلال بني إسماعيل بدلاً من بني إسحاق بسبب النقض المتكرر المتوالي للعهد من قبلهم.وكتحذير نهائي، قرر الله تعالى أن يخلق ابنا من عذراء، ويجعله خليفة لموسى، فصار بذلك العهد الذي كان سيتحقق بواسطة بني إسرائيل ناقصا، أعني انقطعت علاقة هذا الابن عن بني إسرائيل من جهة الآباء، وبقيت لـه علاقة الأم فقط التي كانت من بني إسرائيل.

Page 27

الجزء الخامس ۲۰ سورة مريم علما أن الناس في الماضي ظنوا أنه من المستحيل أن تلد المرأة بدون الاتصال بالرجل - ورغم أنه لا مستحيل أمام الله تعالى إلا أن الناس كانوا يعتقدون ذلك فقد أثبتت البحوث العلمية الحديثة أن مثل هذه الولادة خلافا لسنة الله تعالى - لیست خلاف سنة الله تعالى، بل هي ضمن نواميس الطبيعة.وأسجل فيما يلي شهادة حديثة بهذا الصدد.لقد قدم الدكتور Halen Superway من جامعة (CL) بلندن نظريته أن حمل الأنثى لا يحتاج بالضرورة إلى الذكر على الدوام.وكانت مجلة Lancet الأسبوعية الصادرة بلندن قد نشرت أخبارًا لمثل هذه التجارب.فلما علقت جريدة SUNDAY PICTORIAL اللندنية في عددها الصادر في ٦ نوفمبر ١٩٥٥ على النظرية المذكورة أعلاه، نشرت المجلة السالفة الذكر مقالا في عددها الصادر يوم ١٣ نوفمبر ١٩٥٥ تضمن شهادة ثلاث سيدات قالت كل واحدة منهن إن ولدها الحالي قد جاء تلقائيا وليس في ولادته دخل لأي رجل.ثم سجلت هذه المجلة في عددها الصادر يوم ٢٨ ديسمبر شهادة من قبل ١٩ سيدة مررن بمثل هذه التجربة.فبما أن القرآن الكريم أراد أن يبين أن الوعد الإبراهيمي قد تحقق الآن بواسطة محمد رسول الله الله الذي هو من نسل إسماعيل، فقد ذكر ولادة المسيح ال من غير أب بالتفصيل، مبينًا أن هذه الولادة كانت إشارة إلى انتهاء موعد تحقق الوعد الإبراهيمي بواسطة بني إسحاق، حيث قلل من خلال ولادة المسيح العجيبة أهمية دورهم في تحقيق هذا الوعد إلى النصف، أما النصف الباقي فقضى عليه أتباع المسيح أنفسهم، حيث تركوا عادة الختان (قاموس الكتاب (بالأردية) تحت كلمة الختان)، قاطعين صلة هذا العهد عن بني إسحاق إلى الأبد، مع أن الختان كان الله شرطًا هاما للوعد الإبراهيمي، حيث ورد قول الله تعالى لإبراهيم في التوراة: "هذا هو عهدي الذي بيني وبينك وبين ذريتك من بعدك الذي عليكم أن تحفظوه: أَنْ يُحْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ منكم، تختنون رأسَ قُلْفَةِ غَرْلِتِكم فتكون علامة العهدِ الذي بيني وبينكم" (التكوين ١٧: ١٠-١١)

Page 28

الجزء الخامس ثم جاء فيها: ۲۱ سورة مريم "فيكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديا، أما الذَّكَرُ الأَغْلَفُ الذي لم يُختَن يُستَأصَلُ من بين قومه لأنه نكث عهدي".(المرجع السابق: ١٤) هذا ملخص قول الله تعالى واذكر في الكتاب مريم إلى قوله تعالى وما كانت أمك بَغِيًّا.ثم سرد الله تعالى بعض الأحداث التي وقعت في حياة المسيح الل، وساق البراهين على صدقه الله، كما أبطل أيضًا بعض الدعاوى الزائفة التي نسبها إليه أتباعه.وهذا موجز معاني قول الله تعالى فأشارت إليه إلى قوله تعالى إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون.بعدها عطف لي الله عنان الحديث إلى ذكر رسول الله ، مبينا أن الأحداث السابقة وبعثة المسيح انطوت على نبأ ظهور شخص موعود من بني إسماعيل ألا وهو محمد رسول الله له ولكن الناس يعارضونه والسبب الرئيسي لهذه المعارضة هو أنهم كثرة، ولكن الكثرة ليست بدليل.والدليل على كونهم على الباطل أن بينهم خلافات شديدة.إن كثرتهم لن تغني عنهم شيئًا، فمصيرهم الهلاك في آخر المطاف.يوم عظيم.هذه خلاصة معاني قول الله تعالى وإن الله ربي وربكم فاعبدوه إلى قوله تعالى فويل للذين كفروا من مشهد ثم بين الله تعالى أنهم لا يكفون اليوم عن الطعن والاعتراض، ولا يريدون أن يسمعوا شيئا عن الإسلام، ولكنهم سيسمعون جيدًا ويبصرون جيدا يوم يرون العذاب الأليم.هذا هو معنى قوله تعالى أسمع بهم وأبصر إلى قوله تعالى وإلينا يُرجعون).وبعد ذلك أسهب الله تعالى في بيان ذلك العهد الإبراهيمي الذي سبقت الإشارة إليه، فأخبر كيف حققه تعالى بواسطة إسحاق وموسى.وهذا موجز قوله تعالى واذكر في الكتاب إبراهيم إلى قوله تعالى ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا.

Page 29

الجزء الخامس ۲۲ سورة مريم وبعدها ذكر الله تعالى إسماعيل ليبين أن هذا العهد كان لا بد أن يتحقق في حق إسماعيل كما تحقق لصالح إسحاق من قبل.وقد ذُكر موسى هنا قبل إسماعيل، مع أنه بعث بعده لأن بعثته كانت جزءا من الوعد الذي تحقق لصالح إسحاق قبل إسماعيل.وهذا ملخص قول الله تعالى واذكر في الكتاب إسماعيل إلى قوله تعالى وكان عند ربه مرضيا.ثم ذكر الله تعالى إدريس ال وقال ورفعناه مكانا عليا، وذلك لبيان أنه يشبه المسيح ال في رفعه الروحاني، فقد ورد في التوراة أن أخنوخ – وهو إدريس عند العرب لأنه كان يُسمع الناس حديث الله تعالى (فتح البيان) - سار مع الله تعالى التكوين ٥: (٢٢)..والسير مع يعني معرفة صفاته تعالى، فالمعنى أنه كان مظهرًا عاليًا لصفات البارئ تعالى.الله تعالى ثم ورد عن إدريس في التوراة ثم تَوارى من الوجود، لأن الله نقله إليه".(المرجع السابق: ٢٤) - وقد عبر القرآن عن هذا المعنى بقوله تعالى ورفعناه مكانا عليا، وقد وردت في القرآن في حق المسيح أيضا كلمات مشابهة ذلك لا يتخذ المسيحيون أخنوخ إلها، بل يعتبرونه واحدًا من البشر.فلماذا، يا تُرى، جعلوا المسيح إذًا بسبب هذه الكلمات؟ والحق أن أخنوخ كان أفضل من المسيح بحسب ومع التوراة، إذ ذهب إلى السماء بدون أن يموت، و لم يذق، كالإله الابن، الموت قط.هذه خلاصة قول الله تعالى واذكر في الكتاب إدريس إلى قوله تعالى ورفعناه مكانا عليا.ثم قال الله تعالى إن هؤلاء الأنبياء جميعًا، بدءًا من آدم ومرورا بنوح ووصولاً إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، كانوا بشرًا ومطيعين الله تعالى، فبأي حجة يمنح النصارى المسيح منصب الألوهية دون الآخرين.وهذه خلاصة قول الله تعالى أولئك الذين أنعم الله عليهم إلى قوله تعالى (خروا سُجَّدًا وبُكيًّا.

Page 30

الجزء الخامس ۲۳ سورة مريم ثم بين الله تعالى أن الناس نسوا الشرائع السماوية، وانغمسوا في اللهو واللعب، فلن تكون عاقبتهم الحسنى، وإنما تُكتب العاقبة الحسنة للذين يتوبون عن المنكرات ويستمعون لأوامر الله تعالى.هذا ملخص قوله تعالى فخلف من بعدهم خَلْفٌ إلى قوله تعالى هل تعلم له سَميَّا.وبما أنه كان من المقدر أن ينكر الناس في هذا الزمن البعث بعد الموت أكثر من أي زمن مضى، لذا فقد ذكر الله تعالى نعمه وإنكار الناس لها، ثم برهن بذلك على أن الحياة بعد الموت ليس بأمر غريب، بل إنه أمر يقين، ولا بد للمجرمين من عقاب، وللصالحين من جزاء.هذا ملخص قول الله تعالى ويقول الإنسان أإذا ما مت إلى قوله تعالى ونذر الظالمين فيها جثيا ثم تحدث الله تعالى عن إحدى الحيل التي يلجأ إليها أعداء الحق، فإنهم حين هو يُنذرون بعذاب الآخرة يقولون: دَعُوا حديث الغد للغد، وأخبرونا الآن من أحسن حالاً اليوم، ومن هو أكثر مالاً وجندا؟ فيرد الله عليهم ويقول: إن الحق يتغلب بالتدريج، وإلى أن يأتي يوم غلبته على المرء أن يرى من ذا الذي يملك البرهان ،والدليل ويتحلى بروح التضحية والسيرة الطيبة، فمن كان عنده البرهان والنموذج الحسن، فالنصر حليفه في آخر المطاف في الدنيا أيضًا.هذا موجز معاني قول الله تعالى (وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات) إلى قوله تعالى ونَرتُه ما يقول ويأتينا فردًا.وبعدها بين الله تعالى أن أعداء الحق يقعون دائمًا في الشرك، ويرونه مدعاة لقوتهم، مع أن الشرك يؤدي إلى الخزي والهزيمة على الدوام، فإن الأشياء التي يرون فيها قوتهم نفسها تؤدي إلى ضعفهم وهلاكهم.وذلك هو المراد من قول الله تعالى واتخذوا من دون الله آلهة إلى قوله تعالى ويكونون عليهم ضدا).

Page 31

الجزء الخامس ٢٤ سورة مريم ثم أخبر الله تعالى أن الكافر حين يعجز عن تقديم الدليل والبرهان يلجأ إلى العدوان.فلا تكترث لذلك يا محمد، لأن عدوانه هو الذي سيسفر عن غلبتك المادية في النهاية.إذ لو لم يلجأ العدو إلى الاعتداء والقتال فأنى للإسلام أن يحرز الغلبة المادية، لأن شن الحرب العدوانية ممنوع في الإسلام، فليس السبيل إلى غلبته المادية إلا أن يلجأ العدو إلى الاعتداء على المسلمين حتى يُسمح لهم برد العدوان، وبما أن العدو قد أسخط الله بعقيدته الفاسدة فلا بد أن ينتصروا عليه بنصر الله وعل.وهذه خلاصة قول الله تعالى ألم تَرَ أَنا أرسلنا الشياطين إلى قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن وُدًّا.وأخيرًا يقول الله تعالى كان الوحي ينزل على اليهود بالعبرانية، فلا يعترضن أحد الآن على نزول القرآن بالعربية، إذ يجب نزول الوحي لكل قوم بلغتهم لكي يتم تبليغه بسهولة ويسر، ويفهمه الصديق والعدو، وتتم الحجة على الكافرين فإن عذابنا إنما ينزل بعد إقامة الحجة، وإن عذابنا لهو العذاب الشديد.وهذا هو ملخص قول الله تعالى فإنما يسرناه بلسانك إلى قوله تعالى أو تسمع لهم ركزا.

Page 32

الجزء الخامس ٢٥ سورة مريم مِ اللهِ الرَّحمن الرّحيمِ كهيعص التفسير: لقد ذكرت مرارا أن علماء الإسلام قد اختلفوا في المقطعات القرآنية ولكن إذا وجدنا تفسيرًا لها قد روي عن النبي الا الله فلا بد لنا من تفضيله على آراء الآخرين.وحين نبحث الموضوع من هذا المنظور نجد أن هناك معنيين اثنين فقط قد رُويا عن النبي جاء في الروايات أن اليهود أبدوا رأيهم في المقطعات أمام النبي ﷺ وقالوا: إن حروفها تدل على بعض الأعداد والأرقام، فالألف في "الم" مثلا يساوي الواحد، واللام الثلاثين والميم الأربعين؛ فالمقطع كله يساوي الواحد والسبعين.فلم يرفض الرسول هذا المعنى (الطبري).فبما أن النبي لما لم يرفض هذا المعنى فلا بأس في قبوله، إذ لو كان غلطا لرفضه الرسول.والتدبر في القرآن يكشف لنا أن ذلك المعنى كان ينطوي على بعض الأنباء التي قد تحققت في موعدها فيما بعد.وهناك معنى آخر للمقطعات مروي أيضا عن النبي الله، وهو أنها تدل على بعض صفات البارئ الله فقد روي عن ام هانئ وهي ابنة عم النبي ، أنه قال في "كهيعص" إن معناه كاف وهاد وعالم - أو عليم - وصادق (تفسير فتح البيان)..أي أن حرف الكاف ينوب عن الكافي، والهاء عن الهادي، والعين عن العالم أو العليم، والصاد عن الصادق.وهناك رواية عن علي الله تدعم هذا المعنى، وتبين أن مقطع "كهيعص" إشارة إلى بعض صفات الله تعالى فروي أن عليا الله إذا ما واجه مصيبة كبيرة دعا ربه قائلا: "يا كهيعص اغفر لي" (المرجع السابق).ولما كان الدعاء وثيق الصلة بالصفات الإلهية، فكان سيدنا عليه يري أن "كهيعص" تشير إلى بعض صفات الله تعالى.

Page 33

الجزء الخامس ٢٦ سورة مريم الله وكان ابن عباس رضي عنهما هو الآخر يرى أن المقطعات تشير إلى بعض صفات البارئ ، حيث قال: الكاف اختزال للكبير والهاء للهادي، والياء للأمين والعين للعزيز، والصاد للصادق (المرجع السابق).فابن عباس يقر بأن هذا المقطع يدل على بعض الصفات الإلهية، ولكن شرحه لها يختلف قليلا عما روته أم هانئ، فبينما تروي هي أن الكاف ينوب عن الكافي، وأن العين ينوب عن العالم أو العليم يرى ابن عباس أن الكاف يعني الكبير، وإن العين يعني العزيز.ثم إن أم هانئ لم تذكر في روايتها شيئا عن حرف الياء، ولكن ابن عباس يقول: إن معناه الأمين.- الله عليهم أجمعين فقالوا: أما ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الكاف من الملك، والهاء عن الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور (المرجع السابق).إننا نتوصل من هذه الروايات بحق إلى نتيجة أن النبي ﷺ وجميع أصحابه كانوا مجمعين على أن هذا المقطع القرآني يشير إلى بعض صفات الله تعالى.لا شك أن الصحابة قد اختلفوا قليلاً في تحديد الصفات المذكورة فيه، ولكن هذا لا بأس به، إذ البديهي أن ما ذكره الرسول ﷺ وحدده من صفات هو الأولى بالأخذ، وما ذكره الصحابة فيُعتبر إزاءه من الظنيات.فلو أن ابن مسعود ذكر معنى وابن عباس معنى آخر، وعليا معنى ثالثاً مخالفًا لقلنا إن كل واحد منهم قد جاء بهذا المعنى من عنده، ولكن الجميع قالوا إن هذا المقطع القرآني يشير إلى بعض صفات الله تعالى.فثبت بذلك أن الرسول قد اعتبر هذا المقطع مشتملاً على بعض صفات الله تعالى.ولا بأس بعد ذلك في أن منه يستنتج كل إنسان الصفات الإلهية التي يستسيغها عقله.إن الجميع مجمعون على قاعدة واحدة بأن هذه الحروف تشير إلى بعض صفات الله تعالى، أما تحديد تلك الصفات فممكن بالتدبر في محتوى هذه السورة لأنه يلقي الضوء عليه.فعندنا قاعدة نعرف بها الخطأ من الصواب: إذا أخطأ أحد في تحديد هذه الصفات، علينا أن نفحص كل السورة لنرى ما هي

Page 34

الجزء الخامس ۲۷ سورة مريم الصفات الإلهية المذكورة فيها، فإذا وجدنا الصفات التي يستنتجها أحد مذكورة في السورة نعتبره على الحق، وإلا فلا.مما لا شك فيه أن معاني مقطعات جميع السور الأخرى لم تثبت عن الرسول ولكن المؤكد الثابت أنه قد بين معنى مقطع سورة مريم بالتحديد وأخبر عن الصفات المذكورة فيه، لذا لا يمكن أن نفسره بأي معنى آخر.وتقول أم هانئ إنها سمعت هذا المعنى من الرسول ، وأما المعنى الذي ذكره الصحابة فذكروه وفق علمهم.وإنه لمن المسلم به أنه إذا ثبت تفسير آية عن الرسول فلا بد من تفضيله على التفاسير الأخرى، فلا مناص لنا من تفضيل المعنى الذي ذكرته أم هانئ عنها..أي أن الكاف يعني الكافي والهاء الهادي، والعين العالم أو العليم، رضي والصاد الصادق.وعندي أن هذا المعنى لهو مفتاح معارف هذه السورة.تخص وجدير بالملاحظة هنا أن حروف هذا المقطع خمسة، ولكن الصفات التي ذكرها النبي له أربع.إن الحروف هي : ك، هـ، ،ي، ع، ص، والصفات المذكورة عنه ك، هـ، ع، ص، و كأنه ترك "ي".فما الحكمة في ذلك؟ والحكمة عندي أن الياء تُستعمل للنداء أيضا، وقد عدّها النبي ﷺ هنا حرف النداء، معتبرًا الصفتين الأوليين نتيجة للأخيرين والتقدير : أنت كاف، أنت هاد، يا عالم يا صادق.ونظراً إلى هذا المعنى، فإن صفتي الكافي والهادي - اللتين هما نتيجة لصفتي العالم (أو العليم) والصادق قد جاءتا هنا كالقول الفيصل والأمر الحاسم بين الإسلام والمسيحية.ذلك أن قولنا أنت ،كاف أنت ،هاد يا عالم يا صادق، يعني أن صفتي العالم والصادق هما كالمنبع لصفتي الكافي والهادي؛ وهذه هي الحقيقة الثابتة عقليا.ذلك أن الصفات الإلهية نوعان: صفات لا تأتي بنتائجها دائما، وصفات تأتي بنتائجها حتمًا، وتكون مصدرًا للصفات الأخرى التي تكون تابعة لها.فمثلا، إن الله مطعم، ولكن صفة الإطعام تنكشف من خلال صفة الخلق والرزق، إذ لو لم يكن هناك رزق فماذا يُطعم.فكونه تعالى مطعمًا يقتضي أن يكون رازقا كذلك.إذن فصفتا الكافي والهادي هنا تابعتان لصفتي العليم والصادق، وسيكون معنى -

Page 35

الجزء الخامس ۲۸ سورة مريم المقطع "كهيعص " : يا عليم يا صادق أنت كاف وهاد وبتعبير آخر إن النتيجة الحتمية لكون الله عليمًا وصادقا أن يكون له كافيًا وهاديًا كذلك.فكأن الله تعالى يعلم عباده هنا أن يدعوه قائلين: كهيعص..أي يا إلهي العليم الصادق، إني أؤمن بأنك أنت الكافي لأنك عليم، وأنت الهادي لأنك صادق، إذ ما دمت العليم فلا بد أن تكون الكافي أيضًا، وما دمت الصادق فلا بد أن تكون الهادي كذلك.وهذا الأمر بديهي وثابت عقليًّا، لأن أحدًا إذا كان ذا علم، فلزم أن يكون كافيًا أيضًا.فمثلاً إن العلاج يتطلب فحصاً صحيحًا كاملاً، والفحص الصحيح يقتضي أن يكون الطبيب ذا علم صحيح كامل، لأن غير الملم بكل ما يتطلبه علاج مرض من الأمراض يستحيل عليه علاجه بنجاح، أما من يملك المعلومات الكاملة فينجح في علاجه حتمًا فثبت أن العليم لا بد أن يكون كافيًا أيضًا لأن العلم يغني الإنسان غناء ويكفيه، لا الجهل.هناك نوعان من النواميس العاملة في العالم نواميس الطبيعة ونواميس الشرع.أحد أن يهدي الناس في مجال نواميس الطبيعة أيضًا هداية تامة إلا إذا كان عليمًا، فمثلا لن ينجح من الأطباء إلا من كان ذا علم تام، وبالمثل لن يهدي الناس في مجال نواميس الشرع هدايةً كاملةً إلا من كان عليمًا، أما الذي لا علم له بحاجات البشر المادية أو الروحانية فلن يقدر على أن يصف لهم وصفة ناجحة.فثبت أن العليم لا بد أن يكون كافيًا كذلك.وبالمثل فإن الصادق هو الذي يمكن أن يكون هاديًا حقا، لأن الكذب والخطأ يؤديان إلى الضلال، فلا بد للهادي أن يتصف بالصدق، إذ لن يكون هاديًا إلا من كان صادقًا، بل يكون منبعا للحقائق كلها وإن كل تعليم سواه سيكون مشبوها لا يصلح للقبول.باختصار، فإذا آمن الإنسان بأن الله عليم فلا بد له من الاعتراف أنه كاف أيضًا، وإذا آمن أنه تعالى صادق فلا مناص لـه من الإيمان بكونه تعالى هادياً كذلك.وإذا صح هذان المبدءان، وإذا ثبت أن الديانة اليهودية – التي هي الأساس وليس بوسع

Page 36

الجزء الخامس للمسيحية ۲۹ سورة مريم تنص على أن الله تعالى عليم وصادق فلا بد للمسيحيين من الاعتراف بأن الله كاف وهاد أيضًا.تعالوا نر الآن ماذا يقول الكتاب المقدس بهذا الشأن ولنتوجه أولاً إلى صفة الله "العليم".لقد ورد في الإنجيل: "أما ذلكَ اليوم وتلك الساعة، فلا يعرفُهما أحَدٌ، ولا ملائكة السماوات، إلا الآب وحده." (متى ٢٤: ٣٦).إن هذه العبارة تكشف لنا أن للعلم في هذه الدنيا درجات ومقادير، فمن العلم هو ضمن معرفة البشر، ومنه ما هو داخل نطاق معرفة الملائكة، ومنه ما لا يعلمه البشر ولا الملائكة، بل الله وحده يعلمه.وهذا يعني أن العلم الكامل خاص ما بذات البارئ الله فلا مناص إذن من الإيمان أيضًا بأنه تعالى هو الكافي.ثم ورد في العهد القديم: "بالحكمة أسَّس الربُّ الأرض، وبالفطنة ثبت السماوات في مواضعها بعلمه تَفجَّرت اللُّجَجُ ، وقطر السحابُ نَدًى." (الأمثال ٣: (۲۰-۱۹ وهذا يعني أن الله تعالى أسس نواميس الطبيعة وزيّنها بناء على العلم، ثم من علمه الله نبعت كل معرفة أخرى، سواء أكانت روحانيّة أو مادية، إذ ورد: بعلمه تَفَجَّرَتِ اللُّجَجُ، وَقَطَرَ السَّحَابُ نَدًى، أي أن علم الله هذا كامل من كل النواحي بحيث إن السماء أيضًا تقطرت بهداية البشر..أي نزل الوحي والإلهام من عند الله تعالى.هذه العبارة تبين أن الهدي ينزل من عند الله تعالى دائما، وليس بوسع البشر أن يأتي به، وأن هديه الا الله هو الهدي الكامل، لأن منزله عليم.وورد في التوراة عن صفة الصدق : "فدَيتَني أيها الرب إله الحق." (المزامير ٣١: ٥).وهذا يبين أن النجاة إنما تختص بإله الحق كما أن الشرع يختص بالرب العليم.وورد أيضا: "عدلك عدل أبدي وشريعتك حق." (المزامير ١١٩: ١٤٢).لقد ثبت بهذه العبارات أن التوراة والإنجيل كلاهما يؤكد أن العلم الكامل والصدق الكامل إنما يختصان بالله وحده ، وما دام الكتاب المقدس ينص على أن

Page 37

الجزء الخامس الله ٣٠ سورة مريم وحده العليم والصادق فلا مناص للنصارى من التسليم بأن لا كافي من دون الذي هو العليم، ولا هادي من دون الذي هو الصادق وثبوت هذين الأمرين يؤكد أن صفة الله "العليم" والصفة التابعة لها أعني "الكافي" لتبطلان عقيدة الكفارة المسيحية، كما أن صفة الله "الصادق" والصفة التابعة لها "الهادي" لتعارضان العقيدة المسيحية القائلة بأن الشرع لعنة وأن النجاة في الكفارة وحدها.ذلك أن الله تعالى إذا كان عالما - أو عليما - فلا مكان في الدين للكفارة، لأن أساس الكفارة إنما هو أن الله تعالى وضع خطة لإدارة العالم، فبعث الرسل لهداية الناس، ولكن خطته هذه باءت بالفشل الذريع، فعاد واضطر ليقدّم ابنه فداء عن ذنوب الناس.إن التسليم بهذه الفكرة المسيحية يستلزم الاعتراف بأن الله تعالى لم يكن عليمًا ولا كافيًا.كما أن الله تعالى إذا كان صادقا وبالتالي هاديًا فقد بطلت العقيدة المسيحية القائلة بأن الشرع لعنة وبأن لا نجاة إلا بالكفارة.إذن فقد نبه الله تعالى المسلمين في مقطع "كهيعص" إلى قاعدة أساسية للحوار السليم مع المسيحيين، وأوصاهم بأن يجادلوهم دائمًا على ضوء صفات البارئ الله، فإن هذا الأسلوب سيبطل جميع عقائدهم الفاسدة ذلك لأن الله تعالى إذا كان هو الكافي فمن الجهالة القول أن بوسع الإنسان أن يختار بنفسه شرعًا له، أو أن الشرع لعنة؛ فإن الكافي رحمة وغير الكافي لعنة.وبالمثل فإن الصادق المستجمع في ذاته كل الحقائق إذا لم يك قادرًا على تخليص البشر، فأني لغير الصادق أن يخلصهم.إنما ينجي الذي هو صادق، كما قال داود ال: "فدَيتَني أيها الربُّ إلهَ الحقِّ" (المزامير ٣١: ٥) فالله ينبه المسلمين هنا أن يكشفوا للمسيحيين لدى الحوار أن التسليم بعقائدكم يعني إلغاء صفات البارئ ،تعالى وما دامت المسيحية تتنافى مع صفاته تعالى فلم يعد الإله إنّها.والظاهر أن الدين الحق هو ذلك الذي يُقنع الناس بوجود الله، ويقوّي إيمانهم بصفاته، أما الدين الذي يلغي وجود الله نفسه، وينافي صفاته ، فلا يمكن أن يكون دينا حقا.

Page 38

الجزء الخامس ۳۱ سورة مريم و باختصار فإن التدبر في صفتي "الكافي والهادي" يكشف لنا مدى تعارض تعليم المسيحية مع تعليم الإسلام ويبين لنا البون الشاسع بين موقفهم وموقف الإسلام، وكيف يقدّمون وجود البارئ ،تعالى وكيف يقدمه الإسلام.خلاصة القول إن الله تعالى قد ذكر في هذا المقطع صفته "الكافي" إبطالاً لعقيدة الكفارة المسيحية، وأوردَ صفته الهادي" دحضًا للنظرية المسيحية عن النجاة.والحق أن هاتين هما القضيتان الجوهريتان اللتان تصطدمان مع الإسلام، أما عقيدة الثالوث فهي تابعة لهما.إن المسيحية لا تؤمن بالنجاة إطلاقًا، ولا تسلّم بأي رقي روحاني بدون الإيمان بكفارة المسيح؛ وكلتا العقيدتين تلغيان صفتي الله الكافي والهادي، وإلغاؤهما يعني أن الله ليس بعليم ولا بصادق؛ وبتعبير آخر، إن التسليم بهاتين العقيدتين المسيحيتين يستلزم إنكار وجود البارئ تعالى؛ وإذا أدى تعليم دين إلى إنكار وجوده الله فلا بد من الاعتراف ببطلان ذلك الدين، لأن الدين إنما أساسه الإيمان بذات البارئ تعالى.مما لا شك فيه أن الثالوث هي إحدى العقائد المسيحية الأساسية، ولكنها في الواقع وثيقة الصلة بعقيدتي الكفارة والنجاة بحيث إذا أبطلناهما بطل الثالوث تلقائيا، ولو فُصل الثالوث عن الكفارة والنجاة لثبت بطلانهما.ذلك أن المسيحية تزعم أن الله تعالى أرسل المسيح ابنه الوحيد إلى الدنيا ليموت فداء عن ذنوب الناس لينالوا النجاة، لأن الله تعالى عند المسيحيين - لا يقدر على أن يغفر للناس ذنوبهم لأن العفو مناف لعدله ، ولو أنه عفا عن الناس لم يعد عادلاً، ولكنه تعالى أراد نجاة الناس أيضًا، فأرسل ابنه إلى الدنيا ليموت على الصليب، فالذين يؤمنون - بموته على الصليب ينالون النجاة، وهكذا يصبح موته هذا كفارة عن ذنوبهم.يوضح أن لا كفارة بدون الإيمان بعقيدة الثالوث، لأن أساس الكفارة إنما وهذا هو أن الله تعالى صلب ابنه الوحيد، ثم أحياه بعد ثلاثة أيام؛ ولكن لا يمكن التسليم بذلك إلا بالاعتراف بوجود أكثر من إله، إذ من المحال أن يُعدم الإله نفسه بنفسه - والعياذ بالله – ثم يُحيي نفسه بعد ثلاثة أيام!

Page 39

الجزء الخامس ۳۲ سورة مريم ولكن الاعتقاد بثلاثة آلهة يثير سؤال هاما هو: هل كل واحد منهم يملك قدرة متساوية أم لا؟ فإذا كان الواحد منهم أقل قدرة من الآخر فثبت أنه ناقص، والناقص لا يمكن أن يكون إلها؛ وهذا أمر لا يحتاج إلى نقاش ودليل، لأن من قواعد المنطق أن الناقص لا يمكن أن يكون أزليا أبديًّا، والذي لا يتصف بالأزلية والأبدية يستحيل أن يكون إلها.هذه قاعدة منطقية قد أجمعت عليها كل الديانات، حتى إن المسيحية أيضًا لا يمكنها إنكار أن الناقص لا يمكن أن يكون أزليا أبديًّا، وأنه لا بد للإله من أن يكون أزليا أبديًّا.من ذات مرة ذهبت إلى مصايف "دلهوزي" للاستجمام.وكنت آنذاك شابا.واتفق أن قسيسا شهيرًا - اسمه "فرجوسن" على ما أذكر - أيضا كان موجودًا هناك.وكان هذا القسيس قد قام بتنصير آلاف من الناس، وقد جاء إلى تلك الجبال يقوم بالتبشير المسيحي ويوزع بعض المنشورات.فذهب بعض المسلمين الغيورين إلى المشايخ يلتمسون منهم التصدي لتلك الفتنة، ولكنهم قالوا لهم إنهم لا يقدرون على مقاومة هذا القسيس.ولما يئسوا منهم جاءوني معتذرين نادمين وقالوا: تعال أنت فضلك، وحاور القسيس.وكنت آنذاك صغير السن، وكانت دراستي الدينية لم تكتمل بعد، ولكني رضيت، وخرجت إلى منزل القسيس في رفقة بعض الأصدقاء.ولما وصلنا إلى بيته قلت له: أود أن أسأل حضرتك بعض الأسئلة - وكنا وقتها جالسين حول طاولة كان عليها قلم رصاص - فقلت له: حضرة القسيس: لو احتجت إلى هذا القلم مثلاً، فناديتني أنا، وأصحابك، وخادمك، وطباخك، وجيرانك، وحين حضر الجميع قلت لنا جميعًا: ناولوني هذا القلم الموضوع على الطاولة، فماذا يكون ظن الناس بك؟ قال: ماذا تقصد بذلك؟ قلت: ستعرف قصدي بعد قليل ولكني أرجوك الآن أن تخبرني هل مثل هذا السؤال معقول، وماذا سيكون ظن الناس بك بعده؟ قال: حتما سيحسبونني مجنونا.قلت: أخبرني الآن، هل كان الإله الأبُ قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم.قلت: هل كان الإله الروح القدس قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم.قلت: هل كان الإله الابن قادرًا بمفرده على خلق الكون أم لا؟ قال: نعم.قلت:

Page 40

سورة مريم الجزء الخامس إذن، فقضية خلق الكون تشبه قضية حمل هذا القلم، فإن الآلهة الثلاثة يملكون قوة متماثلة وكل واحد منهم قادر بمفرده.على خلق الكون، ولكنهم يهدرون طاقاتهم، ويضيعون وقتهم سدى.وقلت له: أخبرني حضرة القسيس، هل في الدنيا شيء يقدر الإله الأب على القيام به، ولا يقدر الإله الابن على إنجازه؛ أو أنه بوسع الإله الابن ولكنه ليس بوسع الإله الروح القدس؛ أو أنه باستطاعة الإله الروح القدس، ولكنه ليس باستطاعة الإله الأب؟ قال: لا.فقلت: فلم النزاع إذن؟ إذا كان إلهان منهم يجلسان عاطلين رغم قدرتهما على العمل ولا يحركان ساكنا فهذه معضلة كبيرة.أما إذا كان الثلاثة يقومون بعمل واحد، مع أن كل واحد منهم يقدر بمفرده على القيام به، فهذا هو الجنون بعينه.فقال القسيس في فزع وذعر : إن أساس المسيحية إنما هو على مسألة الكفارة والفداء، أما مسألة الثالوث فيستوعبها المرء بعد الإيمان فقلت: لا يمكن للمرء أن يؤمن ما لم يفهم الثالوث وما لم يؤمن لا يمكن أن يفهم الثالوث، فهذا هو التسلسل" الذي هو محال لدي جميع أصحاب المنطق.فقال: المعذرة، أرجوك أن تتحدث عن الكفارة.فثبت بذلك أن الكفارة وثيقة الصلة بالثالوث، فإذا بطلت الكفارة بطل الثالوث تلقائيا.ولما كانت هذه العقيدة المسيحية وثنية مشركة تمامًا فقد أشار القرآن هنا من إلى صفة الله العليم على وجه الخصوص.ولقد تناول سيدنا المسيح الموعود ال هذا الأمر بالإسهاب في كتبه، وبين أن الإنسان إذا تيسر لـه العلم الكامل بشيء الأشياء قدر على صنعه (سرمه جشم آريه ص (٢٢٦.فمثلا إن الإنسان يعرف تماما أن البناء يتطلب تركيب اللبن والطوب معا، ولذلك يقدر على بناء بيته.إنه يعلم أن الطين إذا أفرغ في القالب صار لبنة، وأن هذه اللبنة إذا وضعت في النار صارت صلبة كالحجر، فهذا العلم يمكنه اللبنة الصلبة.وبالمثل لو أن أحدًا من علم كيف يُصنع التراب لصنعه، ومن تيسر لـه العلم الكامل بصناعة الساعة لصنعها، ومن حصلت لـه المعرفة الكاملة بوظائف أعضاء البدن الإنساني لصار

Page 41

الجزء الخامس ٣٤ سورة مريم طبيبًا.فثبت أن العلم الكامل بشيء يمكن صاحبه من خلقه وصنعه، وأنه إذا حصل لكائن علم كامل حقا لقدر على الخلق الكامل والتدبير الكامل، كما لم يبق بعده حاجة إلى مدبر آخر.وهذا هو الدليل الذي قدمته أمام القسيس فرجوسن، فقلت له ما دام كل واحد من الآلهة، أي الأقانيم الثلاثة، كاملاً في حد ذاته فأي حاجة إلى الثاني والثالث وسواء في ذلك الإله الأب والإله الابن والإله الروح القدس.فما دام الإله الأب قادرًا على القيام بما هو في وسع الإله الابن، وما دام الإله الابن قادرًا على فعل ما هو باستطاعة الإله الروح القدس، فيجب أن يكفينا إله واحد، ولا حاجة إطلاقا للثاني والثالث.ومن أجل ذلك، قد أشار الله تعالى إلى صفته الكافي، ليبين أنه تعالى وحده لكاف لخلق العباد، ولخلق النظام لهم، ولتدبير أمورهم كذلك، ولا حاجة له في ذلك إلى أي كفارة ولا إلى أي ابن أو روح قدس.قد يقول هنا قائل: ألا تؤمنون بالملائكة رغم إيمانكم أن الله كاف؟ ثم ألا تعترفون بوجود الريح والبرق والمادة في الكون؟ والجواب أننا نعتبر هذه الأشياء تابعة لله تعالى، غير متساوية معه في المقام والدرجة، وهناك بون شاسع بين التبعية والتساوي، فالشيء التابع كالخادم وليس كالند.وقد جعل الله تعالى نظام التابعين والخدم هذا لكي يبقى هو بنفسه خفيًّا وراء الحجاب، ذلك أن إيماننا بالله إذا كان سيأتي بنتيجة، وإذا كان لنا عليه جزاء، فكان لزاما أن يظل الله وراء الحجاب، إذ لا جزاء على الإيمان بوجود الأمور الظاهرة الجلية للعيان فإنا نرى الشمس مثلاً، ونعترف بوجودها، ولكن لا جزاء لنا على هذا الاعتراف.وبالمثل نرى الجبال، ونقر بوجودها، ولكن لا ثواب لنا على هذا الإقرار إن غاية خلق الإنسان أن يحقق الكمال الروحاني، وتحقيق الكمال الروحاني ذو صلة بالثواب وجلاء البصر الروحاني، ولا بد لجلاء الشيء وارتقائه من امتحان واختبار والاختبار يتم عمومًا فيما هو كثير العراقيل وصعب المنال؛ فكان لزاماً إذن أن يظل وجود البارئ خفيًّا ليتم اختبار الإنسان، وإلا فشلت تماما خطة تطوير البشر روحانيا.وبقاء الله تعالى خفيًّا وراء الحجاب استلزم خلق وسائل

Page 42

الجزء الخامس ٣٥ سورة مريم روحانية ومادية ومن الوسائل الروحانية الفطرة السليمة والملائكة المادية المادة والنواميس التي تحركها.ومن الأسباب إذن فلا اعتراض على وجود الملائكة أو المادة، لأن النصارى يقدمون لنا من يعتبرونهم آلهة وأندادًا الله ، أما نحن فنقدم أمامهم من هم خدم تابعون له عل.وقد لزم وجود الخدم والأشياء التابعة ليظل الله تعالى وراء الوراء، وليبقى بين الله وعباده حجاب لا يشقه كل من هب ودب، بل المجاهد الذي يكدح بجد ونشاط.إذن فمن كان عنده علم المبدأ وعلم الموجودات لا بد أن يملك القدرة المطلقة.وبالمثل فكون الله لا صادقا يضمن النجاة للمجاهد الكادح في سبيله.أما إذا كان الإنسان لا يمكنه النجاة بدون الكفارة فلا مناص من القول أن الأنبياء السابقين كلهم كانوا كاذبين وأن الذي بعثهم أيضًا كان كاذبًا؛ فإن آدم لما جاء أعلن للناس أن لا بد لهم من الإيمان به ثم جاء نوح وأعاد نفس الكلام بحسب التوراة التي لم تذكر قصة آدم بالتفصيل، ولكنها قد أسهبت في سرد قصة نوح.ثم جاء إبراهيم ال، وقال لا بد لكم من تصديق ما جئتكم به من الحق.فإذا كانت نجاة الإنسان محالاً بدون الكفارة فلا شك في أن نوحا وإبراهيم كانا من الكاذبين، والعياذ بالله.علما أن التوراة قد تحدثت عن إبراهيم حديثا ناقصا مثل حديث آدم ولكنها قد أسهبت في ذكر موسى العلم، وأخبرت أنه لما عرض على الناس تعليمه قال: لا بد لكم من العمل بما آمركم به لكي تنالوا النجاة وإلا سيحل عليكم غضب من الله تعالى.إنه لم يقل لهم : لقد عرضت عليكم تعليمي، ولكنكم لن تقدروا العمل به، كما يزعم النصارى بأن العمل بشرع الله تعالى خارج عن نطاق قدرة البشر.فإذا كانت النجاة مستحيلة كما تزعم المسيحية فلا شك أن والعياذ بالله، لأنه خدع الناس خدعة كبيرة إذ قال لهم عن موسی كاذب - 6 شريعته: لو عملتم بها لنجوتم.وإذا كان نبيا، كما تؤكد التوراة، لكان الله موسی والعياذ به - كاذبًا كذلك لأنه هو الذي بعث موسى بتلك الشريعة.كما لا بد لنا من اعتبار سائر الأنبياء بعده كاذبين لأن كل واحد منهم وعد الناس بالنجاة إذا عملوا بتعليمه.فقد ورد في الزبور وشريعتك "حق" المزامير ١١٩: ١٤٢).

Page 43

الجزء الخامس ٣٦ سورة مريم إذا كان العمل بالشرع مستحيلاً، بحسب ما يزعم النصارى قائلين أن الشرع لعنة، للزم القول إن العمل بالصدق والحق محال إنما العمل بالكذب والزور فقط الناجين.ممكن؛ كما أنه لا مناص من القول أن لا نجاة بالصدق، وإنما بالكذب فقط.فقصارى القول إن التسليم بقولهم أن لا نجاة للإنسان بالعمل بالشرع، وأن لا سبيل لاتباع الأنبياء، يستلزم تكذيب الرسل والأنبياء جميعًا.ولكن إذا كان الله صادقًا فلا بد من الإيمان أن النجاة أمر ممكن لأن جميع رسل الله تعالى قد أعلنوا لأممهم أنهم لو اتبعوهم لكانوا من ولا يعز بن عن البال أن كلمة الصدق في اللغة العربية تنطوي على معنى الدوام إلى جانب معنى الحق، حيث يُطلق الصدق على الشيء الدائم الثابت (تاج العروس)؛ فالمراد من كون الله تعالى صادقًا هو أن وجوده وتعليمه ثابتان باقيان إلى الأبد، وبتعبير آخر، إن قوله وفعله سيظلان باقيين؛ ولكن لا بقاء لهما إلا ببقاء البشر، أما إذا هلك البشر ولم ينجوا فلا بقاء لقول الله وفعله لأنهما يخصان البشر؛ فما دام قوله وفعله يتصفان بالبقاء والدوام فثبت أن الإنسان باق وأن نجاته ممكنة لو كان على الإنسان أن يفنى لبطل قول الله وفعله اللذان صفتهما البقاء والدوام.إذن فالصدق الكامل يتطلب الصدق الظلى، لأن الصدق يدل على الدوام، وديمومة الصفات الإلهية محال بدون ديمومة هبة هذه الصفات للإنسان.والتوراة نفسها تدعم ما نقول حيث ورد فيها أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته (التكوين ١: ٢٦-٢٧).والبديهي أن خلق الله للإنسان على صورته لا يعني أن الله أنها وأذنا وعيونا وفما كما هي عند الإنسان، وإنما المراد أن في الإنسان انعكاسا للصفات الإلهية.وإذا صح أن الله تعالى قد خلق الإنسان على صورته، وإذا صح الله تعالى صادق، فلا بد من التسليم بأن في وسع الإنسان الاتصاف بالورع والقداسة والطهارة، وإلا لاضطررنا للقول أن الله الصادق قد بطل قوله وفعله، إذ صار الإنسان، جراء فطرته الخبيثة شيطانًا مريدا.فالدين الذي يزعم أن الإنسان قد جاء إلى الدنيا بفطرة خبيثة، كأنما يعلن أن الله أراد أن يخلق البشر على صورته، أن

Page 44

۳۷ - سورة مريم الجزء الخامس ولكنه فشل ولم يقدر على خلق إنسان واحد كما شاء إنه خلق آدم على صورته، ولكنه صار آلما، وهذا إما يعني أن الله - والعياذ به - صورة ناقصة، أو أنه الله تعالى فشل في تنفيذ خطته، وأن الشيطان استولى على باكورة ثماره ، كما تمكن من سرقة باقي ثماره أيضًا، بل إنه انتزع من الله آخر ثماره، أعني المسيح، وألقاه في الاختبار.أليست هذه عقيدة مسيئة إلى الله؟ ألا تمثل طعنًا في كونه صادقًا؟ إنه تعالى يعلن أنه خلق الإنسان على صورته، ولكن ما يحدث بحسب هذه العقيدة هو أن أول البشر نفسه خُلق على صورة الشيطان أي بدأ في طاعة الشيطان، كما أن ذريته أيضًا وقعت للأبد في المعصية الموروثة واتبعت خطوات الشيطان، حتى إن المسيح، الذي جاء كمخلص للبشر ، ثبت أنه ضعيف لدرجة أن الشيطان أتى ليجربه هو الآخر (انظر متى ١٤-١١).ولكن القرآن يعلن على النقيض، أن الله تعالى ليس بحاجة إلى أي كفارة ولا فداء حتى يمنح العباد النجاة.إنه تعالى قد خلقهم لينالوا الهدى، وأنه خلقهم بفطرة تحمل بذرة الخير.وإليك بيان ذلك: الفلك في ١- لقد سجل الله تعالى في القرآن الكريم ادعاء الشيطان بأنه سيعمل على إفساد الإنسان كالآتي: قال أرأيتك هذا الذي كرّمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتَنكَنَّ ذريّته إلا قليلاً * قال اذهَبْ فَمَن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطانُ إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا * ربُّكم الذي يُزجي لكم البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ) (الإسراء: ٦٣-٦٧).أي لما خلق آدم، ونزل غضب الله على الشيطان لعدم طاعته لآدم قال الشيطان الله تعالى : إن هذا الشخص الذي فضلته على لو منحتني المهلة إلى يوم القيامة لمحاربته لتغلبتُ على ذريته إلا قليلاً منهم فثبت من ذلك جليًّا أن القرآن الكريم يرى – وللمسيحيين أن يرفضوا ذلك - أن الشيطان هو الآخر لم يستطع الادعاء بفساد كل الجنس البشري، كما تزعم المسيحية، كما لم يتجاسر على

Page 45

الجزء الخامس ۳۸ سورة مريم الادعاء بإفسادهم جميعًا، بل اعترف بأن بعضهم سينجون رغم هجومه عليهم لإغوائهم حيث قال: لأحتنكن ذريته إلا قليلاً) بو ثم قال الله تعالى له اذهَبْ ولا تدخر وسعا في إفساد البشر، ولكني أخبرك من الآن أن الذي يريد أن يأتينا فلن تقدر على إغوائه أبدًا، فمن ذا الذي هو أكثر أمنًا ممن يفوض نفسه إلى الله تعالى.فثبت من هذه الآيات جليًّا أن القرآن الكريم يعلن أن فطرة الإنسان طاهرة نقية، فإذا كانت فطرته طاهرة فلا بد أن يكون قادرًا على التغلب على السيئة، وإذا كان سعه التغلب على السيئة فلم تبق هناك حاجة إلى أي كفارة أو فداء؛ بل إن كفاح فطرته السليمة وتوبته ورحمة الله المترتبة على ذلك لكافية لنجاته.إن التدبر في هذه الآيات القرآنية يكشف لنا ما يلي: الأول: كان الشيطان يأمل أنه قادر على السيطرة على معظم بني آدم.وهذا يعني أن القرآن لا يرفض الاعتقاد بكون الفطرة الإنسانية خبيثة فقط، بل يعلن أن هذه الفكرة من اختراع الشيطان.علمًا أن رفض المرء عقيدة ما شيء، أما اعتباره إياها بشعة لدرجة أن ينسبها إلى الشيطان فهو أشد من الرفض.فالقرآن يعلن أنها عقيدة شيطانية، وأن الشيطان نفسه لم يدع بإفساد البشر كلهم، بل أكثرهم.والثاني: أن الله تعالى قال للشيطان: اذهب وجرب حظك، فنحن لا نمنعك من المحاولة، إذ لم نخلق الإنسان إلا لكي يحاربك في سعيه للتحلي بالطيب والخير؛ ولكن اعلم أنك لن تقدر على إغوائه إلا بالتأثير الخارجي فقط، أما فطرته فقد جعلناها نقية سليمة.ولكن المسيحية تزعم أن الإثم نفذ إلى الإنسان وغُرس في قلبه منذ البداية، ثم أخذ ينتقل إلى أجياله بالوراثة (الرسالة إلى أهل رومية ٥: ١٢-٢١).مع أن هذا لو كان صحيحا للزم أن تتولد رغبة اتباع الشيطان في قلب الإنسان نفسه، بدلاً من أن يحاول الشيطان إغواءه.ولكن الإسلام يفتي بطهارة قلب الإنسان، بل بطهارة أولئك الذين يقعون في قبضة الشيطان، حيث يقول الله تعالى واستفزز من منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال استطعت

Page 46

الجزء الخامس ۳۹ سورة مريم والأولاد وعدهم.والمراد من خيلك أصحاب النفوذ الغالبون ورجلك الضعفاء التابعون.فليس بين كل هذه الحوافز العاملة على إفساد بني آدم حافز واحد ينشأ في قلب الإنسان، بل كلها تأثيرات خارجية تهاجم الإنسان من الخارج وتفسده.فقولـه تعالى: بصوتك..يعني أنك يا شيطان، ستحاول إفساد الإنسان من خلال الغناء والموسيقى.وأما قوله تعالى: وأجلب عليهم بخيلك ورجلك..فيعني أنك ستفسده بالتهديد والتخويف، فمثلاً توسوس له لا تصدق القول وإلا فمصيرك السجن أو الإعدام، وعليك أن تصب سوط الاضطهاد على أتباع الرسول حتى لا يزدهروا ولا يتغلبوا عليك.وأما قوله تعالى: وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم..فيعني أنك ستسعى لإغراء الإنسان بطرق شتى، فتقول لـــه مثلا: إذا لم تأكل المال الحرام فتظل فقيرًا طيلة الحياة، فلا بأس في أكل الحرام من أجل الرقي.ثم قال والأولاد..أي لا بد لك من التحزب بجمع الأتباع والأصحاب من أجل الرقي والتقدم.ثم قال وعدهم..أي ستعده بكل نوع من النجاح والازدهار وتحفّزه لذلك على الكذب والمكر والغش والخداع.فإذا كان قلب الإنسان غير طاهر بفطرته لما كانت ثمة حاجة إلى أي من هذه العوامل الخارجية، بل لقال الله تعالى بكل بساطة : لأن آدم اقترف الإثم، فقد صار بفطرته.ولكن كل هذه الأمور التي ذكرها القرآن في سياق إفساد الإنسان آنها الإنسان وإغوائه إنما هي تأثيرات وحوافز خارجية أعني (۱) الغناء والموسيقى (٢) التهديد والتخويف (۳) الإغراء بالمال؛ فثبت أن الإنسان محفوظ من داخله.ولكن الإثم الموروث المزعوم لا يأتي من الخارج بل يتولد من داخل الإنسان.فمثلاً، هناك شخص كانت أمه مصابة بمرض السُّلِّ، فأرضعته في صغره، فانتقلت مادة السلّ إليه، فلو أصيب هو بالسل لقيل إن مرضه جاء من داخله ولكن هناك شخص آخر يقوم بعيادة شخص مسلول وتمريضه، فتتسرب جراثيم المرض في جسمه عبر ثياب المسلول وأنفاسه، فيصاب هو الآخر بالسلّ، وبالرغم من أن كل واحد منهما أصيب بالسلّ، غير أن المريض الأخير قد هاجمه المرض من الخارج، أما الذي

Page 47

الجزء الخامس سورة مريم أرضعته أمه المسلولة فقد جاء مرضه من الداخل.وبالمثل هناك أمراض كثيرة يرثها الأولاد من الوالدين، ومنها مرض الصرع أيضًا؛ فأولاد مرضى الصرع أيضًا يصابون بنوبات الصرع ومنها مرض الجنون الذي ينتقل أيضا إلى الأولاد بالوراثة فقد رأيناه قد انتقل إلى ثلاثة أجيال أيضًا.إن الإنسان لا يعيش طويلا فليس بوسعه أن يلاحظ هذا الأمر لفترة أطول من ذلك، ولكن لو تشكلت هناك مؤسسة للتحري والبحث في مدى انتقال هذا المرض فقد تلاحظ أن هذا المرض ينتقل إلى الجيل السابع أو الثامن.فهناك نوع معين من مرض الزهري ينتقل بالتأكيد إلى الجيل السابع.بل لقد قرأت في بعض الفحوص المنشورة في أوروبا أنهم قد وجدوا آثار هذا المرض حتى في الجيل العشرين، ولكن بشكل مختلف عما كان عليه في أول أمره.والبديهي أن هذا المرض لم ينتقل في هذه الحالات من الخارج، بل كانت جراثيمه موجودة في هؤلاء المرضى، فعندما أصيبت أبدانهم بالضعف الشديد بدأت عظام أنوفهم تتآكل وتنخفض أو ظهرت علامة أخرى، مؤكدةً أن مادة مرض الزهري كانت موجودة في داخلهم، إلا أنه قد ظهر للعيان الآن.وعلى النقيض، إذا كان الأب بريئا من هذا المرض تماما، ولكن ابنه يمس مريض الزهري مسا يصيبه بالعدوى فلن نقول أنه ورث هذا المرض من أبيه، بل نقول إن مرضه جاء من الخارج.وبالمثل فإن كل دواعي فساد الإنسان وإغوائه التي ذكرها القرآن الكريم هنا إنما هي تأثيرات خارجية كلها، إذ لم يقل الله للشيطان: نعم، لأن آدم قد أذنب لذا ستنجح في إغواء أبنائه الوارثين لذنبه، بل قال: إنما تنجح في إفسادهم بالإغراء والتهديد والغناء والموسيقى، وهي كلها مؤثرات خارجية، وليست نابعة من داخل بني آدم هذا، وقد ذكر الله تعالى بعد ذلك أمرًا يؤكد ما ذكرتُه من معان لحرف الكاف في مقطع "كهيعص".لقد قال الله تعالى هنا: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان..أي لن تستطيع السيطرة على الذين هم على صلة معي، فلن يؤثر فيهم إغراؤك ولا تهديدك وتخويفك.ثم قال تعالى وكفى بربك وكيلا.فكلمة "كفى" هنا تدل صراحة على المعنى الذي بينته لحرف الكاف في "كهيعص"، وهو

Page 48

٤١ سورة مريم الجزء الخامس أن الكاف يدل على أن سورة مريم تتحدث عن صفة الله "الكافي".فإن الإنسان عندما يفوض أمره إلى ربه فإن الله يكفيه كوكيل، فلا يقع في قبضة الشيطان أبدًا.ولكن إذا كان كل إنسان يولد غير طاهر من جراء الإثم المتوارث، كما يزعم المسيحيون لزم أن يهلك مهما اتصف بالورع والتقوى ومهما سلّم نفسه إلى الله تعالى.ولكن هذا لا يحدث أبدا، فثبت جليًّا أن الإثم يتولد بتأثير خارجي، أما الفطرة الإنسانية فهي نقية طاهرة في حد ذاتها.في ثم ساق الله على ذلك دليلا في الآية التالية إذ قال ربكم الذي يُزجي لكم الفُلكَ في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما..أي أنكم تعدون الإثم إعصارا جارفًا، وكارثة مدمرة، وتظنون أن الإثم قد خيم في النفوس البشرية بحيث يستحيل تحررها منه، ولكن الحقيقة أن الإثم ليس بشيء في حد ذاته، بل هو وهم كله، ويمكن أن تفهموا حقيقته بمثال السفن التي تجري في البحر- علما أن السفن البخارية التي تجري بالبضائع من بلد إلى بلد قد اخترعت حديثا، أما الماضي فكانت السفن شراعية – إن هذه السفن إنما تجري بقوة الريح، ولكن هذه الريح نفسها تتحول إلى إعصار مدمر في بعض الأحيان.فلو قلنا للناس: هل تريدون إيقاف الرياح لأنها تسبب الإعصار لصرخ الجميع وقالوا: كلا، لأن إيقاف الرياح تدمر تجاراتنا وأعمالنا وأرزاقنا، أما الإعصار فيأتي نادرا، ولا بأس لو أغرق سفينة أو سفينتين من آلاف السفن.إنكم تخافون الإثم مع أنه ليس إلا نوعا من تجاوز الحد؛ فكما أن قوة الريح التي تأخذ السفن من شاطئ إلى آخر إذا تجاوزت حد الاعتدال انقلبت إعصارًا مدمّراً، كذلك فإن القوى المودعة في نفس الإنسان لفائدته إذا اختل توازنها فسدت وسُميت إنّما.وكأن الإثم اسم لعاصفة العواطف، وأما العاصفة البحرية فاسم لتجاوز الريح حد الاعتدال، أما دون هذا الحد فكل حركة لها تكون خيرًا وبركة، وتأتي بنتائج طيبة.ويمكن أن نفهم هذه الحقيقة بمثال العين أيضًا، فإن الله تعالى قد وهب الإنسان کله هذه النعمة التي يعمل بها ليل نهار، ولو تحرّينا أعمال أشد الناس فسادًا في اليوم حتى نعلم كم مرة استخدم عينه في الحرام، لوجدنا أنه إذا كان قد استعملها في

Page 49

٤٢ سورة مريم الجزء الخامس الحلال مائتي مرة، فإنه قد استخدمها في الحرام مرة واحدة فقط.فمرة كنس بيته مثلا، وأخرى قابل الزوار وثالثة كسب قوته بعرق جبينه، وقد قام بكل هذه الأعمال مستعينًا بعيونه، وهو استعمال جائز للعيون، ولكنه ربما نظر مرة إلى امرأة لا يجوز له النظر إليها.فلو أنه كان كفيف البصر لما ارتكب هذا الحرام من دون شك، ولكنه لما عمل أيضا هذه الأعمال المفيدة.وهذا ما ينبهنا الله تعالى إليه، ويقول: إن تعريف الإثم كما فهمتموه غلط تظنون أن الإثم في حد ذاته شيء سيئ، ولكن الحقيقة أن الإثم ليس إلا إفراط الإنسان وتفريطه في استخدام القوى المودعة في النفس البشرية لفائدة الإنسان ورقيه فمثلاً ليس الإسراف إلا تجاوز حد الاعتدال في الصدقة، وما البخل إلا تجاوز حد الاعتدال في حب المال، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن بدون الصدقة وحفظ المال أن تدار أعمال الدنيا على ما يرام.وبالمثل ليس الزنا إلا استخدام القوة الجنسية في غير محلها، وليست الرهبانية إلا عدم استعمال هذه القوة؛ ولكن هل استمرار النسل الإنساني بدون القوة الجنسية ممكن، وهل يمكن للإنسان المحافظة على صحته بدون ضبط هذه القوة في حدودها؟ فالله تعالى قد بين هنا فلسفة الإثم، موضحًا أن الإنسان قد خُلق طاهرا نقيًّا، وأن السيئة تأتي من الخارج، وأن الزعم بأن أكثرية الناس تقع في الإثم إنما فكرة شيطانية.هي ٢- لقد أوضح القرآن هذا الأمر في مكان آخر فقال لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون (التين: ٥-٧).فالله تعالى يعلن هنا أنه قد خلق الناس مزودين بأحسن القوى، ولكنه يرد بعضا منهم إلى الأسفل فالأسفل.قد يقول هنا المسيحيون هذا بالضبط ما نقول: جاء آدم أول الأمر وترقى، ولكن نسله تردى إلى الأسفل جراء إثمه.وقد أبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون..أي لم يتردّ كل البشر إلى أسفل سافلين، بل ظل المؤمنون الذين

Page 50

الجزء الخامس ٤٣ سورة مريم عملوا الصالحات في مقام "أحسن تقويم"، ولم ينحط عن ذلك المقام إلى أسفل سافلين وما وقع في العقاب إلا أولئك القوم الذين انحرفوا عن الصراط، ورفضوا الانضمام إلى جماعة الأنبياء.الصالحات هم لقد اتضح من هذه الآية أن المذكورين في قوله تعالى إلا الذين آمنوا وعملوا جماعات الأنبياء والحق أنهم قد كسبوا حسناتهم، كما قد اكتسبوا سيئاتهم أيضًا، إذن فليس خيرهم بموروث، كما ليس شرهم بموروث.وحين نسأل المسيحيين هل جماعات الأنبياء أيضًا لن تنال النجاة بدون الإيمان بالكفارة؟ يقولون كلا، لن تنجو هي الأخرى بدون ذلك.ولكن القرآن يعلن هنا أن المؤمنين الذين يعملون الصالحات أي العاملين وفق تعليم نبيهم، سينالون أجرًا غير منقطع.فالظن أن الإنسان قد خُلق آثما لظن باطل تمامًا.بوسعه أن قد يقول النصارى على ذلك أن الإنسان أثم بفطرته عندنا، وليس يعمل الصالحات، ومن أجل ذلك نعتبر الشرع لعنة.ولقد رد القرآن الكريم على ادعائهم هذا بقول الله تعالى: ٣- ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها (الشمس: ۸-۱۱).والتسوية هي إزالة العوج من الشيء، وجعله متساويًا متوازنا لا إفراط فيه ولا تفريط الأقرب)؛ و"ما" في وما سواها مصدرية؛ فقوله تعالى ونفس وما أننا نقدم النفس البشرية وحادث خلقها بأسمى القوى وأفضل سواها يعني القدرات، كشهادة.أما قوله تعالى فألهمها فجورها وتقواها فيعني أننا بعد خلق النفس البشرية أخبرناها بالإلهام بما سيُبعدها عن صراطنا المستقيم، وأيضًا بما سيمكنها من التقرب إلينا.أن لقد علمنا الله تعالى بذلك أمرين: أولهما أن النفس البشرية متصفة بالاعتدال لا الاعوجاج، متحلية بالخير لا الشر؛ والثاني أن لديها الشعور بالخير والشر، بمعنى أ فيها الضمير الذي يفرق بين طريق الخير وطريق الشر.فمثلا إن العصا التي قد

Page 51

الجزء الخامس ٤٤ سورة مريم نزع قشرها لا تدرك أنها مقشورة، ولكن الإنسان يدرك محاسنه وكفاءاته.أو مثلا هناك شخص نعرف أن في جيبه دينارًا، وأنه ليس صفر اليدين، ولكن هذا الشخص نفسه إذا لم يعرف أن في جيبه دينارًا فلن ينتفع به.فالله تعالى يؤكد أمرين: الأول أنه خلق الإنسان نقيا بريئًا من كل عوج، والثاني أنه تعالى قد أخبره بما سيؤدي به إلى الخير أو الشر.وكأن الإنسان ليس نقي الفطرة فحسب، بل يدرك أيضًا كيف يستغل الكفاءات المودعة فيه، وأن عنده ضميرًا ينبهه أي الأعمال تُعَدُّ سيئة، وأيها حسنة.أما قوله تعالى قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فقد زاد الأمر وضوحًا حيث بين أنه تعالى قد خلق النفس البشرية طاهرة نقية، فمن حافظ على طهارتها و لم يدنسها، هو إنسان ناجح جدا؛ أما من قضى على طهارتها ونقائها، وداس خيرها تحت قدميه فهو إنسان فاشل خاسر خسرانا مبينًا.- ويقول الله تعالى في موضع آخر: سبح اسم ربك الأعلى فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعَى * فَجَعَله غُثاءً أَحوَى سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونُيسرك لليسرى * فذكِّرْ إِنْ نفعت الذكرى * سَيَذَّكَّر مَن يخشى * ويتجنّبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى)) (الأعلى: ٢-١٣).* الذي خلق * إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا كيف عرف الإنسان أن ربه هو الأعلى.فردّ الله تعالى عليه بقوله: الذي خلق فسوى..فإنه خلق الإنسان وجعله بريئا من كل منقصة وعيب.ثم قال تعالى والذي قدر فهدى..أي أنه تعالى جعل لرقي الإنسان مدى يمكنه الوصول إليه، ثم دله على الطريق الذي يوصله إلى ذلك الحد من الرقي والكمال..أي أخبره أنه إذا أراد أن يكون من المؤمنين العاديين فعليه بكذا، وإذا كان ينوي أن يكون مؤمنا من الطراز الأول من الصدّيقين والشهداء فعليه بكذا وكذا.وكأن الله تعالى قد جعل للإنسان درجات روحانية متفاوتة، ثم دله على ما يساعده على بلوغها.

Page 52

الجزء الخامس ٤٥ سورة مريم علما أن قوله تعالى الذي خلَق إنما تقديره الذي خلق الإنسان، لأن كل الأمور المذكورة بعده تخص الإنسان؛ إذ لا علاقة للهداية بالشجر ولا الحيوان بل بالإنسان.فينبهنا الله تعالى هنا أن ليس بوسعكم أن تعرفوا بأنفسكم القانون الإلهي الخاص بالبشر، والقانون الخاص بالكائنات الأخرى.ثم قال الله تعالى والذي أخرج المرعى فجعله غُثاء أحوى..أي انظروا إلى الزروع والخضار كيف تصبح بعد فترة سوداء اللون وحطاما لا يبقى لها أثر؛ أما الإنسان فيبقى خيره أي خلاصته وروحانيته.فليس بوسعنا مثلاً أن ننتفع من ثمار السنة الماضية، ولكن التعليم الذي جاء به آدم موجود حتى اليوم، وكذلك شرائع نوح وإبراهيم وموسى باقية إلى الآن.فثبت أن القانون الخاص بالإنسان مختلف عن القانون الذي يخص غيره من الكائنات فإذا كان الإنسان شيئًا خبيثا فما الداعي لاستبقائه وما الحاجة إلى استحيائه منذ آلاف السنين.قد يقول البعض هنا: وما يُدرينا أن ما يُنسب إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى من شرائع هي شرائعهم حقا؟ فرد الله على ذلك بقوله سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى..أي سنعلمك الآن درسا لن تنساه أبدا إلا ما نعطيك من تعليم مؤقت ثم ننسخه.ومثال التعليم المؤقت الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة أول الأمر، ثم الأمر بالتوجه شطر الكعبة (البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة).علما أن الخطاب هنا ليس موجها إلى النبي ﷺ فحسب، بل إلى الناس جميعًا، وقد أعلن الله تعالى هنا أن الإنسان لن يستطيع نسيان هذا التعليم مهما حاول بمعنى أن الله تعالى سوف يكتب لهذا التعليم البقاء والثبات، وسيدرك أن فيه علم ما يختلج في أنفسهم من أفكار خفية، وعلم ما يقع في الخارج من أحداث مؤثرة على أعمالهم.ذلك، الناس ثم قال الله تعالى ونيسرك لليسرى...أي أننا نضمن لك إيجاد الأسباب لنشر هذا التعليم باستمرار على نطاق واسع.إذا كان البعض يظن أن الشرع لعنة فسنرى كيف لا يعمل الناس بهذا التعليم.

Page 53

الجزء الخامس سورة مريم ثم قال تعالى فذكر إن نفعت الذكرى..أي لقد ثبت بهذه الأدلة والبراهين أن إصلاح قلوب البشر ممكن بالشرع وبالأمور المتعلقة به، فعليك بالانتفاع من هذه الوسائل لإصلاح البشر.ثم قال الله تعالى (سَيَذكر من يخشى..أي أنك إذا عرضت هذا التعليم فلا بد ينتفع به الذين في قلوبهم خشية الله وهيبته وهذا برهان آخر على أن الخير أو الشر لا ينتقلان بالوراثة، لأن خشية الله إنما تتولد داخل القلوب.أن ثم قال تعالى ويتجنبها الأشقى * الذي يصلى النار الكبرى..أي لن يهرب من العمل بهذا التعليم إلا من قد ألقى نفسه في الشقاء.وهذا أيضًا يؤكد أن الشقاوة إنما هي من حصاد أعمال الإنسان وإلا فكل إنسان طاهر بفطرته.* ه - ويقول الله تعالى في مكان آخر من القرآن الكريم ألم نجعل له عينين ولسانًا وشفتين * وهديناه النَّجْدَينِ (البلد : ۹ - ۱۱)..أي أن الذي يزعم أن البشر آثمون بفطرتهم، وأن الإثم قد انتقل إليهم بالوراثة عليه أن يتفكر: إذا كان الإنسان غير قادر على الانتفاع بالشرع ، وإذا كانت النجاة منحصرة في الكفارة، فلماذا آتينا الإنسان العينين، ولماذا يرى بهما؟ إذا كان قلبه نجساً، وإذا كان تطهيره من خلال الحوار مع بعض المعارف خارج نطاق طاقته، فلماذا جعلنا لـه اللسان والشفتين؟ وإذا كان زعمه هذا صحيحًا فلماذا جعلنا له ضميرًا يميز بين الخير والشر؟ فمثل المؤمن بالكفارة المسيحية كمثل شخص يظن أن جوعه سيزول إذا ما ملأ حفرة بالحجارة.كلا، إنما الشيء النافع ما يأتي بنتيجة منطقية، وحيث إن الكفارة ليست لها نتيجة منطقية معقولة وليست فيها فائدة ثابتة، فلا داعي لها؟ إذا كانت نجاة بني آدم موقوفة على الكفارة فلم جعل الله لهم عينين ولسانًا وشفتين ثم هداهم النجدين.واعلم أن من مزايا القرآن الكريم أنه أحيانًا يبين الحقائق العظيمة في كلمات وجيزة جدًّا.فقد وردت في القرآن كلمات مختلفة كالطريق والسبيل مثلاً بمعنى الدرب الذي يسير فيه الناس، ولكن الله تعالى قد استعمل هنا كلمة "النجد" دون الطريق والسبيل؛ وهذا دليل على أن الموضوع المذكور هنا يتعلق بالنجد، لا

Page 54

الجزء الخامس ٤٧ سورة مريم بالطريق والسبيل.وتقول القواميس إن النجد هو الطريق المرتفع (الأقرب)، ويذكر القرآن في مكان آخر أن السير في الطريق المرتفع يشق على الإنسان، إذ تضيق أنفاسه وتتورم أقدامه وإلى هذا المعنى نفسه قد أشار الله تعالى بقوله وهديناه النجدين، إذ لا يعني النجد هنا الطريق المادي كما نراه مشروحًا بكل وضوح في الآيات التالية، حيث قال الله تعالى فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فكُ رقبة * أو إطعام في يوم ذي مَسْغَبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينًا ذا متربة (البلد: ۱۷-۱۲).فاقتحام العقبة قد عني به هنا إخراج الصدقة وإنفاق المال ومساعدة اليتامى والمساكين فثبت أن المراد من النجدين هنا هو طريق الخير وطريق الشر والقاعدة أن الإنسان لا يكدح للشيء الذي يرثه.خذوا مثلا العيون، فإننا قد أُورثناها بدون أي جهد ومشقة منا، لذلك لا نبذل للرؤية بها جهدًا ولا عناء، وإنما نرى بها تلقائيا.وبالمثل نتكلم باللسان تلقائيًّا، ونمسك بالأيدي تلقائيا، ونمشي بالأرجل تلقائيا، لأننا ورثناها من الآباء.فإذا كنا قد ورثنا الإثم من الآباء فيجب أن لا نعاني في ارتكابه عناء ولا مشقة، ويجب أن لا يكون طريقا صعب الصعود، لأن القوى التي يرثها الأبناء من الآباء لا يجدون في استعمالها من عناء.ولكن الله تعالى يعلن هنا أنه قد جعل لنا النجدين..أي أنكم إذا أردتم التقدم في مجال الخير فلا بد لكم من الجهد والعناء في سبيله، وبالمثل إذا أردتم السير في طريق الشر فلا بد لكم من العناء والمشقة.فثبت أن الإنسان لم يرث الخير أو الشر من الآباء، بل كل واحد منهما مجلوب بجهد الإنسان ومشقته.لو كان الإثم موروثا لوجب أن لا يعاني المرء لدى أول كذبة أو أول سرقة، ولكنا نجد أن المرء إذا كذب في حياته أول كذبة امتقع وجهه واصفر، وإذا قام بأول سرقة أخذ يفرّ من الناس ويهرب، وأحيانًا تصدر منه تصرفات تدل الناس على جريمته.فمن القصص الشهيرة في بلادنا أن أحد البراهمة * قتل بقرة، وكان القانون عندئذ أن البرهمي إذا قتل بقرة قتل.فأخفى البقرة في البيت وخرج.فكلما رأى في السوق شخصين يتكلمان * هم المنتمون إلى أعلى طبقة من الطبقات الأربع في الهندوسية (المترجم).

Page 55

الجزء الخامس ΕΛ سورة مريم أسرع إليهما وقال: ما هذا الحديث عن البقرة؟ فكان يقولان له: كلا، لم نتحدث عن أي بقرة أبدًا.فكان يقول: لا، إنكما تكتمان عني الحقيقة، إنكما تتحدثان عن البقرة حتمًا.أو قال لغيرهما ما هذا الحديث عن العجل؟ فإذا أنكرا الحديث عن أي عجل ولا بقرة، قال لهما لا، إنكما تتحدثان عن العجل.فلم يكد يصل إلى نهاية السوق حتى راب الناسَ ،أمره، فألقوا عليه القبض، وأخذوه إلى بيته، فوجدوا هنالك بقرة ميتة.فالإنسان إذا ارتكب معصية من المعاصي أول مرة لامته نفسه وتندم.فإذا سرق أول مرة هرب من هنا إلى هناك فزعًا، وإذا قطع على أحد الطريق فرّ خائفًا.فلو كان الإثم موروتًا لما سُمي طريقه نجدًا، ولما عانى المرء في ارتكابه أبدًا.٦- ويقول الله تعالى في مكان آخر من القرآن الكريم قال ربنا الذي أعطى كل شيء حَلْقَه...ثم هدى (طه: ٥١)..أي قال موسى لفرعون إن ربنا هو ذلك الذي أعطى كل شيء كفاءاته التي تتناسب مع طاقته ووسعه، ثم أخبره كيف يحقق بها الرقي والكمال.ولا شك أن خلق الإنسان أيضًا مشمول في قوله تعالى أعطى كل شيء وإن التوراة نفسها تسلّم بأن الإنسان قد خُلق لكي يحظى بوصال الله تعالى، وأنه مبارك الذي يستمع الوصاياه ويعمل بها (الأمثال ٨: ٣٤).٧- ويقول الله تعالى في موضع آخر ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن خَلْقَه.حقَّ القولُ من لَأَمْلَنَّ جهنم من الجنّة والناس أجمعين) (السجدة: ١٤).ويبدو لأول وهلة أن مفهوم هذه الآية مخالف لمعاني الآيات السابقة، ولكنه ليس كذلك في الواقع، إذ لم يقل الله هنا "لهدينا كل نفس"، بل الحق أنه لو كانت الآية هكذا لما خالف مفهومها معنى الكلمات السابقة، إذا يقول الله تعالى هنا إن كل نفس من النفوس البشرية خلقناها مزوَّدةً بأسباب هدايتها، ولكن بعضها تلقي هداها بعيدًا، ولو شئنا لآتيناها هداها ثانية بالجبر والإكراه، ولكنا لا نفعل ذلك لأن الإكراه يبطل غاية خلق الإنسان.وهذا دليل آخر على أن النفس البشرية قد خُلقت طاهرة نقية، وأن كل إنسان قد خُلق مع هداه، ولكن البعض يُلقون هداهم بعيدًا بسبب حماقتهم وجهلهم، ولو

Page 56

الجزء الخامس ٤٩ سورة مريم شاء الله تعالى لردّ لهم هداهم الفطري قسرًا..أي لما سمح لهم برفض الهدى، ولكن قد سبق منه القول في الذين يرمون هداهم الفطري أنه سيعاقبهم على عملهم، وإن كان تعالى يود أن ينالوا الهدى وهذا هو مفهوم قوله تعالى ولكن حق القول من لأملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين..أي لقد خلقنا الإنسان بحيث إنه يدخل جهنم نتيجة أعماله السيئة، وإن كنا قد هيأنا لهدايته كل أنواع الأسباب.- ويقول الله تعالى في مكان آخر وأزلفت الجنّة للمتقين) (الشعراء: ٩١)..أي لقد جعلنا الجنة قريبة من أهل التقوى..بمعنى أن فطرتهم النقية تأخذهم إلى من جهة، وأن عون الله يقربهم منها من جهة أخرى، وهكذا فإن الهدى الباطني والهدى الخارجي يمكناتهم من دخول الجنة.الجنة - وقال الله تعالى في القرآن الكريم وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات: ٥٧)..أي أن غايتنا من وراء خلق الجنس البشري كله أن يصيروا عبادًا لنا.وقد شرح القرآن الكريم معنى العبد في موضع آخر بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضيّةً * فادخلي في عبادي * * وادخلي جنتي (الفجر: (۲۸-۳۱)..أي يا أيتها النفس التي رضيت بوصال بالله تعالى عودي إليه وأنت راضية عنه وهو راض عنك..أي أن تلك النفس طاهرة، وقد بلغت من الطهر والقدس حتى صارت محبوبة لدى الله تعالى.فإذا بلغ الإنسان هذه الدرجة صار عبدا لله حقا، وحقق الهدف من خلقه المذكور في قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، وبالتالي استحق حتما بشارة وادخلي في جنتي.فما دام الله تعالى قد حدد الغاية من خلق الناس، وهي أن يصيروا عبادا له يا الله فمن ذا الذي يستطيع أن يبطل هذا القرار الإلهي.علما أن الله تعالى لم يكتف ببيان هذه الغاية من خلق البشر فحسب، بل أخبر أيضًا أنه سيكون بينهم من يحقق هذه الغاية ويتلقى من الله تعالى بشارة: يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيّةً * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي.

Page 57

الجزء الخامس سورة مريم هذا، وقد أشار الله تعالى هنا إلى أمر لطيف آخر وهو أنه تعالى ذكر أن علامة الله النفس المطمئنة كونها راضية مرضيّةً..أي أنها رضيت عن الله كما رضي عنها، بينما يقول الله تعالى عن صحابة النبي ﷺ: رضي الله عنهم ورضوا عنه (التوبة: ١٠٠)؛ ولو تدبرنا الآيات المذكورة أعلاه على ضوء هذه الآية لوجدناها تقول: يا أيتها الجماعة جماعة الصحابة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.إذن فإن هذه الآيات لتشهد على أن صحابة الرسول الله قد بلغوا ذلك المقام الذي يدخل به الإنسان في زمرة عباد الله تعالى، ويرث جنته، محققا الغاية من خلقه.۱۰- وهناك آية أخرى توضح هذا الموضوع، وقد وردت في سياق قصة آدم العنفسها.يقول الله تعالى عن آدم ولم نجد له عزما (طه: ١١٦)..أي أن ما وقع فيه آدم كان خطأ اجتهاديًا، غير متعمد ذلك أن الأخطاء نوعان: خطأ اجتهادي يقع نسيانًا، وخطأ متعمد يتم عن عزيمة وإرادة.ثم للخطأ الاجتهادي أنواع، وللخطأ المتعمد أنواع كذلك.والله تعالى يؤكد هنا أن خطأ آدم كان اجتهاديًّا، ولم يكن من الأخطاء المتعمدة إن آدم ما أراد أن يقع في ذلك الخطأ، ولكنه ارتكبه رغم أنفه وغني عن البيان أن الإثم جزءان، جزء ظاهر، وجزء باطن، وإن ما يحرم الإنسان من النجاة إنما هو الجزء الباطني للإثم.مما لا شك فيه أن الإنسان ينال العقاب بسبب الجزء الظاهر للإثم، ولكن ما يحرمه من جزؤه الباطني.فالسرقة مثلا تعني أخذ متاع الآخرين، ولكن كثيرا ما يخطئ الإنسان فيأخذ معه شيئا لا يملكه.فمثلا تكون قدم البعض ضعيفة الحس، فيلبس حذاء غيره ويذهب به من المسجد مثلاً دون أن يشعر بذلك.ولنفترض أن صاحب الحذاء قبض عليه، وأخذه إلى الحاكم، فأمر بسجنه؛ فمما لا شك فيه أنه قد نال العقاب بسبب الجزء الظاهري من عمله، ولكن قلبه لن يسودّ لأنه لم يأخذ بسببه، الحذاء عمدًا.النجاة هو فذات مرة زارني هنا في قاديان أحد أقارب "نظام"، حاكم ولاية حيدر آباد بالدكن، ليطلب مني الدعاء لبعض مشاكله.فقلت في نفسي إن مثل هؤلاء القوم لا

Page 58

الجزء الخامس ۵۱ سورة مريم يكونون في المتناول كل يوم، فينبغي أن أعظه جيدًا.فدعوته لتناول وجبة العشاء معي و لم أزل أعظه وأنصحه حتى انتصف الليل.قلت له: هل تصلي؟ قال: نعم، أصلي في البيت أحيانًا، أما في السفر فلا لأن الحفاظ على الطهارة أثناء السفر قلت: إنك تملك الملايين، ويصاحبك في هذا السفر نفسه حوالي سبعة من الخدم، ومع ذلك لا تصلي، فكيف يكون حال الفقراء.إن الصلاة ليست أشد فرضا عليهم، بل الجميع سواسية بهذا الشأن، ولكنك قد أوتيت من المرافق والسهوليات ما لم يؤتوا منه شيئا، حيث تسافر في عربات محجوزة من القطار في راحة ويسر؛ فماذا يكون جوابك، وماذا يكون عذرك عند الله إذا سألك عن الصلاة؟ إن الفقير يمكن أن يجيب الله تعالى ربِّ، إنني لم أصل لأني كنت ناقما عليك، وقلت في نفسي: إن ربي لم يكترث لحالي فلماذا أعبده؟ لا شك أن مثل هذا الجواب ضرب من الجنون، ومع ذلك يوجد فيه شيء من المنطق والوزن؛ ولكن ما هو جوابك أنت؟ فرأيت أن حديثي قد ترك فيه وقعا كبيرا، وكاد ينفجر بالبكاء.فوعدني بالمواظبة على أداء الصلوات.ولما فرغنا من الحديث عند منتصف الليل، ذهب إلى مكان إقامته، وأمر خدمه وقال: أيقظوني لصلاة الفجر في كل حال لأني قد تعرضت اليوم لموقف محرج.جدا، وبماذا سأجيب حضرته لو سألني غدًا عن الصلاة.قال الخدم: حضرتك لا تستطيع أن تستيقظ للفجر في الأيام العادية حين تنام في الساعة التاسعة، فكيف تستيقظ في الصباح للصلاة وأنت تنام الآن في هذه الساعة المتأخرة؟ فقال: أيقظوني للفجر في كل حال وإلا فسوف أعاقبكم.فأيقظوه، ولكن المسكين لم يكن متعودًا على ذلك، فهب من فراشه وبدأ يمشي إلى المسجد كالسكران، وكلما تعثر سانده الخدم.فوصل أخيرًا إلى المسجد، وصلى الفجر وهو شبه نائم.وعند الخروج من المسجد لبس لشدة غلبة النوم، حذاء رديئا خشنًا مكان حذائه اللين الثمين.ولما بلغ نصف الطريق نظر أحد الخدم إلى الحذاء، فقال له : حضرة الأمير، لقد لبست حذاء شخص آخر؟ ففتح الأمير عينيه، ونظر إلى قدميه، وقال في فزع: أسرعوا

Page 59

الجزء الخامس ٥٢ سورة مريم الصباح أحد واذهبوا بهذا الحذاء إلى المسجد حتى لا يتهمني بسرقة حذائه.فعرفتُ في أن الأمير صلى الفجر في المسجد عملا بنصيحتي، فوقع في هذه الورطة.فلو أن صاحب الحذاء رآه في قدمي الأمير - الذي لم يكن مكتوبا في جبينه أنه أمير - وأخذه من تلابيبه متهماً إياه بالسرقة، وجرّه إلى الشرطة، فلربما تعرض للعقاب، ولكن عمله هذا لا يحرمه من النجاة إذ لم يفعله عن عمد وإرادة.وبالمثل فإن الزهري والسيلان لهما من الأمراض التي تعد ثمرة الزنى عموما، ولكن من الممكن أن المصاب بهما لم يرتكب الزنى أبدا، بل ارتكبه أبوه أو جده.فمثلا هناك أرملة كان زوجها مصابًا بالزهري، وانتقلت عدواه منه إليها، ثم تزوجها شخص آخر فانتقلت العدوى منها إليه، فهذا الأخير لن يعاقب بسببه بعذاب الجحيم، ولن يسودٌ ،قلبه بل ربما يتطهر قلبه أكثر.فالشيء الذي يسود القلب إنما هو الجزء الباطني للإثم، أما الضرر الذي يصيـ المرء بسبب جزئه الظاهري فإنما هو ضرر مؤقت فقط.فالله تعالى يقول عن آدم أيضًا ولم نجد له عزما..أي أن الخطأ الذي صدر عنه لم يكن عن قصد، وإنما كان خطأ اجتهاديًا، كما تقول التوراة أيضا إن الشيطان قال له إن هذا عمل حسن يساعده على التمييز بين الخير والشر، فظن آدم أنه صادق في قوله، فوقع في الخطأ؛ فثبت أن خطأه كان اجتهاديًا.١١- ويقول الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم: إن الله يغفر الذنوب جميعًا (الزمر : ٥٤)..أي أن ذنوب المرء كلها تغفر لـه بالتوبة الصادقة؟ أن الذنب لا يمكن أن يغفر (متى ۱۲ (۳۲)، ولكنا لا نناقش هنا صحيح أن المسيحية تزعم أي الموقفين صحيح، موقف الإنجيل أم موقف القرآن، وإنما نسجل هنا موقف القرآن بهذا الشأن إن القرآن يؤكد أن التوبة تتسبب في غفران الذنوب، وإذا كان غفران الذنوب ممكنًا، فإلغاء العقاب أيضًا ممكن حتما.١٢- ثم يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ولمن خاف مقام ربه جنتان) (الرحمن: (٤٧) أي أن له جنة في الدنيا وجنة في الآخرة.والواضح أن الجنة الدنيوية لا تعني الأموال والمتع المادية فهناك كثير من عباد الله الصالحين

Page 60

الجزء الخامس ۵۳ سورة مريم الأخيار الذين كانت حالتهم المادية أسوء من الكفار بكثير.خذوا النبي ﷺ مثلا، فإن أحد العمال في أوروبا اليوم يأكل أفضل مما أكله الرسول ، ويلبس أحسن مما لبسه فلا يمكن إذن أن يراد بالجنة الدنيوية النعم المادية، وإلا للزم القول أن العامل الأوروبي في الجنة وأن الصلحاء الكبار والأولياء الأخيار لم يكونوا في الجنة.فالجنة الدنيوية إنما تعني هنا السكينة الروحانية ودخولها يعني التمتع بقرب الله تعالى.فالله وعمل يعلن هنا أن الذي في قلبه خشية الله سيكون مقربا لديه الله في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضًا.وهذا يعني بكل وضوح وجلاء أن بوسع كل إنسان أن يكون مقربًا لدى الله تعالى، أما لو كان الإنسان آتما بالوراثة فأنى لـه أن يحظى بقرب الله تعالى؟ ١٣- ويقول الله تعالى في القرآن الكريم ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى (الإسراء (۷۳.وهذا لا يعني أن الشخص الضرير في هذه الدنيا ٧٣).سيظل ضريرا في الآخرة أيضًا، إن هذا ظلم عظيم؛ إنما تعني الآية الأعمى روحانيا الذي لم يحظ برؤية الله تعالى بالعيون الروحانية.ولهذه الآية مفهومان: سلبي، وإيجابي..أي سيكون في الآخرة أناس ،عميان وسيكون فيها من لن يكونوا عميانًا، فالله تعالى يؤكد هنا أن قلوب الجميع لا تفسد في الدنيا، بل إن قلوب البعض تظل طاهرة في الدنيا، وأن الذي لن يقدر على رؤية الله في الآخرة إنما هو ذلك الذي يصير قلبه فاسدًا في الدنيا.١٤- وكذلك ورد في الحديث الشريف: "كل" مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين)..أي أن كل طفل يولد بفطرة سليمة وبروح مائلة إلى الخير، ثم إن والديه يجعلانه يهوديًا أو مسيحيًا أو مجوسيا.فثبت بذلك أيضا أن كل إنسان يولد بفطرة صحيحة، وأن الشر يتسرب إليه بتأثير من حوله.١٥- وورد في حديث آخر أن الله تعالى قد جعل لكل إنسان قلبا نقيًّا، فيأتي إلى الدنيا ويعمل الحسنات والسيئات، وكلما عمل حسنة تركت في قلبه بقعة بيضاء، وكلما ارتكب سيئة صارت على قلبه بقعة سوداء، وإذا استمر في السيئات

Page 61

الجزء الخامس ٥٤ سورة مريم ازدادت البقع السوداء في قلبه حتى يسود القلب كله في آخر المطاف، وإذا واظب على فعل الخيرات صار قلبه كله أبيض ناصعًا، فلو أن البياض غلب قلبه كله صار في مأمن من السيئات أما لو غلب السواد قلبه كله حُرم الخير نهائيا *.(ابن جرير، قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم).هذا أيضًا يؤكد أن الإنسان يولد بفطرة سليمة تظل بريئة إلى فترة طويلة.فإذا ابيض قلبه كله، وصار الخير هو الصفة الغالبة فيه نال النجاة بدون الإيمان بأي كفارة، أما لو اسود قلبه كله وغلبت عليه السيئات لم تغن عنه أي كفارة شيئًا.ولكن المسيحية تزعم أن آدم ارتكب الإثم، فعوقب عليه، ثم انتقل إثمه إلى ذريته بالوراثة، فما كان بوسع الإنسان بعده أن ينجو بنفسه من هذا الإثم الذي ينتقل إليه بالوراثة تلقائيا، فمست الحاجة إلى الكفارة التي قدمها المسيح حاملاً على رأسه آثام الإنسانية كلها.وهذا يعني أن الإنسان - بحسب العقيدة المسيحية - يُخلق عبدا للشيطان، ولا ينجو من قبضته إلا بالإيمان بكفارة المسيح.لقد سبق أن بينت أن القرآن الكريم يرفض كل هذه العقيدة المسيحية وما يتعلق بها من أمور.إنه يعلن أن الإنسان لم يرث أي إثم، وأنه لم يُخلق آثما، ولا حاجة له إلى أي كفارة ولا فداء.إن فطرته نقية صالحة للتطور والترقي، حتى يصبح محبوبًا لدى الله تعالى.وأنه لو ارتكب إنما من الآثام فتاب عنه فتوبته مقبولة.تعالوا لنرى الآن كيف يرد القرآن الكريم على عقيدة المسيحيين هذه، وهل تؤيد التوراة عقيدتهم أم لا ؟ فإذا لم تؤيدها فيجب ألا تبقى للمسيحيين أيضًا شبهة في أن عقيدتهم باطلة.* وإذا تدبرنا في هذه العقيدة المسيحية نخلص إلى المسائل التالية: الأولى: أن الإثم قد انتقل إلى الإنسان بالوراثة.أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة عن سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه؛ ذاك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (مسند أحمد، باقي مسند المكثرين رقم الحديث ٧٦١١ ).(المترجم)

Page 62

الجزء الخامس 00 الثانية: ولأنه قد ورث الإثم فليس بإمكانه أن يتطهر بنفسه.الثالثة: ولأنه لا يمكنه التطهر بنفسه، اقتضت رحمة الله تعالى كريم - فداء لطهارته.الرابعة: أنه قد تطهر فعلاً بهذه التضحية.ولا بد لنا الآن من فحص هذه المسائل الأربع لمعرفة الحقيقة.الإنساني سورة مريم.الذي هو رحيم فلنتناول أولاً المسألة الأولى القائلة أن آدم ارتكب الإثم، فصار كل النسل آثما، لأن إثمه انتقل إليهم بالوراثة.تعالوا نر الآن هل ارتكب آدم الإثم حقًّا؟ وهل التوراة والإنجيل يُثبتان ذلك؟ فلو ثبت من الكتاب المقدس أنه لم يرتكب الإثم حقا لبطلت هذه المسألة كلها تماما.إن دراستي تكشف أن الكتاب المقدس يعلن أن آدم لم يرتكب الإثم، وأن الشيطان هو الآخر لم يرتكب الإثم، بل هناك ما هو أكثر من ذلك؛ إنه يعلن أن الذي ارتكب الإثم هو الله نفسه، والعياذ بالله.وإليكم أدلتي على ذلك.اعلم أن الكتاب المقدس عبارة عن عدة أسفار تحتوي على أحوال الأمة الإسرائيلية بدءا من موسى حتى المسيح عليهما السلام وحوارييه.والأسفار المشتملة على أحوالهم بداية من موسى ال حتى النبي ملاخي تسمى "العهد القديم"، أما التي تحوي أحوال المسيح الله وحوارييه فتسمى "العهد الجديد".وطبيعي ألا يقيم اليهود للعهد الجديد وزنًا، أما النصارى فيؤمنون بضرورة العمل بالعهدين كليهما.وفي العهد القديم خمسة أسفار لموسى ال، والكتاب الأول منها اسمه سفر التكوين، وفيه ذُكرت قصة آدم اللة التي ورد فيها: " وأقام الرب الإلهُ جَنَّةً في شرقي عدن ووضع فيها آدم الذي جبله.واستنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة بهيّة للنظر، ولذيذة للأكل، وغرس أيضاً شجرةً الحياة، وشجرة معرفة الخير والشر في وسط الجنة".(التكوين ۲ : ۸-۹).

Page 63

الجزء الخامس سورة مريم سوف نرى أكانت شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر شجرتين أم شجرة واحدة.إنها شجرة واحدة عندي، ولكن التوراة لم تحسم الأمر، فتارة تجعلهما واحدة، وتارة أخرى تعتبرهما اثنتين.ثم تقول التوراة: "وأمر الرّبُّ الإلهُ آدم قائلا: "كُل ما تشاء من جميع أشجار الجنّة، ولكن إياك أن تأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنك حين تأكل منها حتما تموت".(المرجع السابق: ١٦-١٧) ثم ورد فيما قالته حواء: "ماعدا ثمر الشجرة التي في وسطها، فقد قال الله : لا تأكلا منه ولا تلمساه لكي لا تموتا".(التكوين ٣: ٣).ثم تخبر التوراة أن الشيطان تقدم - علمًا أن التوراة قد استخدمت كلمة "الحية" للشيطان فقالت الحيّةُ للمرأة: لن تموتا، بل إنّ الله يعرف أنه حين تأكلان مِن ثمرِ هذه الشجرة تنفتح أعينكما فتصيران مثله، قادرين على التمييز بين الخير والشر" (المرجع السابق: ٤-٥).إن التدبر في هذه العبارات يوضح لنا أن الخطأ لم يكن من آدم، ولا من - الشيطان، بل الذنب كله من الله - والعياذ بالله - لأنها تؤكد أن الشجرة كانت شجرة الحياة ومعرفة الخير والشر، ومع ذلك قال الله لآدم: "لأنك حين تأكُلُ منْها حتماً تموت".وهذا يعني أن ما قال الله تعالى لآدم كان - والعياذ بالله كذبا، سواء أكان الموت هنا يعني مونا جسديا أو روحانيا، إذ لا يموت الإنسان موتا روحانيا بمعرفته الخير والشر، بل يوهب حياة روحانية، كما لا يمكن أن يموت موتًا ماديا لأنها شجرة الحياة ولا يمكن أن يموت بأكل ثمرها.فثبت جليًّا أن إله التوراة هو الذي كذب وخدع آدم إذ قال لـــه: لا تأكل من شجرة الحياة وإلا ستموت فورًا.كما أن حواء أيضا لتشهد أن الله تعالى نهاهما عن ثمر تلك الشجرة: "لا تأكلا منه ولا تلمُساه لكي لا تموتا" (التكوين ٣: ٣).تأكلان أما الشيطان فقال لحواء بحسب التوراة : لن تموتا بل إن الله يعرف أنه حين من ثمر هذه الشجرة تنفتح أعينكما فتصيران مثله، قادرين على التمييز بين الخير والشر" المرجع السابق (٤ - ٥؛ وليس في قوله مثقال ذرة من الكذب، إذ

Page 64

الجزء الخامس OV سورة مريم قد وصف الشجرة بالصفتين الموجودتين فيها، أي أنها شجرة الحياة ومعرفة الخير والشر، بمعنى أن الأكل منها يهب الحياة، ويساعد على التمييز بين الخير والشر.فثبت بحسب التوراة أن الشيطان لم يخدع آدم، بل الله تعالى – والعياذ به – هو الذي خدعه.ثم علينا أن نرى هل مات آدم وحواء بأكل ثمر الشجرة؟ كلا، لم يمت آدم ولا حواء، بل ظلا حيين كما أكد لهما الشيطان، وبطل - معاذ الله ما قال الله تعالى له: "لأنك حين تأكُلُ منها حتماً تموت".حقا ويجب أن نرى هل بدأ آدم وحواء يميّزان بين الخير والشر بعد أن أكلا من ثمر الشجرة؟ نعم، إنهما أخذا بعد أكله يميزان بين الخير والشر بحسب التوراة.لقد حاول آدم أن يعرف الخير والشر، وأن يترقى في مجال الخير، ويصبح إنسانا ولا يمكن لإنسان أن يعتبر ذلك سيئة.أما الشيطان فأخبره أن الله تعالى يخدعك حيث يقول لك إنك تموت بأكل الشجرة، ولكنك لن تموت، بل ستحيا، وتصبح عاقلا تميز بين الخير والشر ؛ والتوراة نفسها تخبرنا أن آدم بعد أن أكل من الشجرة صار عاقلاً وبدأ يعرف الخير من الشر؛ فثبت أن الإثم لم يرتكبه آدم ولا الشيطان بل ارتكبه كائن ،آخر ، وهو إله التوراة الذي كذب إذ قال لآدم عن شجرة الحياة إنها شجرة الموت ستموت بأكل ثمرها.وكان الموت هنا يمكن أن يعني موتًا ماديا أو روحانيا، ولكنهما ما ماتا أي موت منهما.إنهما لم يموتا ماديا لأنها كانت شجرة الحياة، ولم يموتا روحانيا لأنها شجرة معرفة الخير والشر أي الشجرة التي تهب أكلها حياة روحانية جديدة.فثبت أن الإثم لم يصدر عن آدم ولا عن الشيطان، بل عن الله – معاذ الله – الذي خدع آدم.ولا يمكن للمسيحية أن تقول هنا إن الذي كذب هو الإله الأب، وليس الإله الابن.ذلك أن الإله في المسيحية هو مجموعة الأقانيم الثلاثة، حيث لا ينفصل الإله الأب عن الإله الابن، ولا الإله الابن عن الإله الروح القدس؛ فثبت أن الإله الأب حين كذب فقد كذب معه الإله الابن والإله الروح القدس كذلك.

Page 65

۵۸ سورة مريم الجزء الخامس إذن فإذا كان الإثم قد انتقل بالوراثة فلا بد من التسليم، بحسب التوراة، بأن هذا الإثم لم يصدر عن آدم بل عن الله - والعياذ به - وبتعبير آخر أن يسوع هو الآثم، وعليه تقع كل المسؤولية، لأنه كذب فيما قال لآدم.فالتوراة، للأسف، تعرض الله تعالى للعالم بصورة مشوهة خطيرة جدا، ويستحيل بعد قراءة هذه العبارات أن يُعد يسوع مخلصًا.فأنى للكاذب المخادع الماكر أن يصير مخلصا للآخرين؟ الله ومن البراهين الدالة على كون آدم غير آثم أن خطأه كان اجتهاديًا، كما ينص عليه القرآن.ولو سلّمنا جدلاً بصحة قصة التوراة فإنها هي الأخرى تدعم موقف القرآن هذا بقولها: "فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه.ذكرًا وأنثى "خلقهم التكوين :۱ (۲۷)..أي أن الله تعالى خلق البشر الذكور منهم والإناث كلهم على صورته.وليس المراد من ذلك طبعا أن الله أنفا وأذنًا وعينا وفما كما عند البشر، بل المراد منه انعكاس صفات الله تعالى في صفات آدم.وما دام تعالى قد خلق آدم على صورته، وأخبره أيضًا أنه قد خلقه ليكون مظهرًا لصفاته تعالى فكيف يمكن ألا يتصف بصفة معرفة الخير والشر؟ وهذا ما قاله الشيطان لآدم.لقد قال له: إن الله تعالى قد جعلك مظهرًا لصفاته، ومن صفاته له معرفة الخير والشر، ولا بد لك من أن تعرفهما كما يعرفهما الله ؛ والسبيل إلى ذلك أن تأكل من شجرة معرفة الخير والشر، إذ كيف تتمكن من معرفتهما بدون الأكل منها، وكيف تصبح مظهرًا كاملاً لصفاته تعالى بدون أن تتحلى بصفة معرفة الخير والشر؛ فمن الضروري أن تأكل من هذه الشجرة، وبتعبير آخر، من الضروري أن تأكل منها حتى تكون مظهرًا لصفاته تعالى، أو بتعبير ثالث من الضروري أن تأكل منها حتى تحقق الغاية التي خلقك الله من أجلها.لنفترض أن كل الحادث وقع كما تقول التوراة، فما ذنب آدم، والحال هذه، لو وقع في خطأ اجتهادي وصدق قول الشيطان بقوة الدليل الذي قدمه إليه.بل إنني أرى أنه بالرغم من أن آدم قد انخدع بهذا الدليل في الماضي، فإنه لو عُرض

Page 66

الجزء الخامس ۵۹ سورة مريم هذا الدليل بالأسلوب نفسه على الناس اليوم لانخدع عدد كبير منهم، موقنين أن يأكل الإنسان من تلك الشجرة، وليس أن يتجنب أكلها.هي أن مشيئة الله إنما إذن فإن إمكانية صدور الخطأ الاجتهادي من آدم لموجودة في بيان التوراة، خاصة وإنها تنص على أن الله تعالى نفسه قد أكد أن معرفة الخير والشر صفة من صفاته تعالى، حيث ورد فيها: "تُمّ قال الرّبُّ الإلهُ: "ها الإنسان قد صار كواحد منا، يميز بين الخير والشر".(التكوين ٣: ٢٢).علما أن النصارى يرون أن كلمة "منا" يراد بها الأقانيم الثلاثة ( A Commentary 24-31 1 on The Bible by Peak: Genesis)، بينما يرى اليهود أن المراد منها الله تعالى وملائكته، لأن الله تعالى كما يعرف الخير والشر كذلك يعرفهما الملائكة؛ فيكون مفهوم هذه العبارة عند اليهود أن آدم قد بدأ يعرف الخير والشر كما يعرفهما الله وملائكته، ويكون مفهومها عند النصارى أن آدم بدأ يعرف الخير والشر كما يعرفهما الإله الأب والإله الابن والإله الروح القدس.لقد اتضح من هذه الفقرة من التوراة أن معرفة الخير والشر من صفات الله تعالى، وأن من عرفهما كان مثل الله تعالى أي على صورته، أو كان على الصورة التي خلقه الله عليها بحسب التوراة.وبالمناسبة، إن فكرة التوراة عن شجرة الحياة مشوشة ومثيرة للضحك، فمرة تقول إنها شجرة واحدة وأخرى تقول إنهما شجرتان فقد جاء في التوراة في مكان أن الله تعالى "غرس أيضاً شجرة الحياة، وشجرة معرفة الخير والشر في وسط الجنة".التكوين (۲ (۹).بينما ورد في مكان آخر منها: "وأوصى الرب آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، ولكنْ إِيّاك أن تأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنك حين تأكل منها حتماً تموت".(المرجع السابق: ١٦ - ١٧).فثبت من هاتين الفقرتين أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة واحدة هي شجرة الحياة ومعرفة الخير والشر كذلك إذ لو كانت ثمة شجرتان لنهاه عن الاثنتين.ولكن ورد في مكان آخر من التوراة أن آدم لما أكل من شجرة معرفة الخير والشر : "ثم قال الرب الإله: «ها الإنسانُ قد صار كواحد منا، يميز بين

Page 67

الجزء الخامس ٦٠ سورة مريم والشر.وقد يُمدُّ يده ويتناول من شجرة الحياة ويأكل، فيحيا إلى الأبد».فأخرجه من جنة عدن" (التكوين ۳ : ۲۲-۲۳).فهنا صارت شجرتان منفصلتان: شجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، لأن آدم لما صار عارفًا للخير والشر نتيجة أكل الشجرة أخرجه الله من جنة عدن حتى لا يأكل من شجرة الحياة أيضًا، فيحيا للأبد.هذا، ويتضح من التوراة أن الموت لم يكن مقدرًا لآدم قبل ارتكاب إثم الأكل من الشجرة، إذا ورد فيها: "لأنك حين تأكُلُ منها حتماً تموت" (التكوين ٢: ١٧).أن الموت قد كُتب لآدم وحواء نتيجة أكلهما من الشجرة، ولو لم يأكلا فهذا يعني منها لما ماتا."I والعباراتُ التالية من الكتاب المقدس أيضا تؤكد هذا: "لا تأكلا منه ولا تلمساه لكي لا تموتا" (التكوين ٣: ٤).ومتى نضحت الخطيئةُ ، أنتجت الموت" (رسالة يعقوب ١: ١٥)."ولهذا، فكما دخلت الخطيئة إلى العالم على يد إنسان واحد، وبدخول الخطيئة دخل الموت" (الرسالة إلى أهل رومية ٥: ١٢).أكلتما فثبت من ذلك أن التوراة تقول من ناحية إن الله تعالى قال لآدم إنكما إذا من تلك الشجرة حل بكما الموت - مع أنها شجرة الحياة، ولا يموت الإنسان بأكلها، بل يحيا - ومن ناحية أخرى تقول إن الموت كتب على آدم وحواء من جراء الخطية، وإلا لما ماتا أبدًا؛ وعندما نقرأ بعد ذلك ما ورد في التكوين ٣: ٢٢ تأخذنا حيرة كبيرة إذ جاء فيه أن الرب أخرج آدم من جنة عدن كيلا يأكل من شجرة الحياة فيحيا إلى الأبد! فما دام آدم قد صار خاطئًا بأكله من شجرة معرفة الخير والشر، فلن يُكتب له بعد ذلك الحياة الأبدية مهما أكل من شجرة الحياة، لأن الخطية نتيجتها الموت.فإما أن يقولوا أن الإثم لا ينتج الموت، بل إن الأكل من تلك الشجرة يهب الحياة، ولكنهم يقولون من جهة أن الإثم نتيجته الموت، ومن جهة أخرى يقولون أن الله تعالى أخرج آدم من جنة عدن لئلا يأكل من شجرة الحياة فيحيا للأبد.

Page 68

الجزء الخامس ٦١ سورة مريم فثبت أن الإثم ليست نتيجته الموت، بل كان بإمكان الإنسان أن يعيش رغم كونه اما نتيجة أكله من تلك الشجرة.وهناك سؤال آخر يطرح نفسه وهو يقول النصارى أن آدم ارتكب الإثم.ونحن نقول: إنه ارتكب الإثم رغم أن أباه وأمه لم يرتكبا أي إثم ؛ فإذا كان بإمكان الابن أن يرتكب الإثم بدون أن يقع فيه أبواه، فيجب أن يكون بإمكانه أيضًا أن يفعل الخير وإن لم يفعله أبواه.وإذا كان بإمكان آدم أن يفعل الخير فكيف لا يكون باقي الناس قادرين على فعل الخير؟ فثبت أن لا دخل للوراثة في قيام المرء بالخير أو الشر، بل إن الله تعالى قد خلق الإنسان قادرًا على التطور والترقي وأيضًا على الانحطاط والتردي.إن آدم لم يكن أبوه ألما، بل لم يكن له أب أصلاً، ومع ذلك وقع في الإثم، وهذا دليل أكيد على أن الخير أو الشر يصدر عن الإنسان في ظروف معينة، ولا دخل للوارثة في ذلك أبدًا.فثبت أن لا حاجة إلى الكفارة والفداء مطلقًا.هذا، وعلينا أن نرى كيف غُفر لآدم ذنبه؟ فإذا كان ذنبه قد غُفر بالتوبة فيمكن أن تغفر ذنوب أولاده بالتوبة أيضًا، وبالتالي لا داعي لأي كفارة لغفرانهم.باختصار فإن شهادة التوراة والإنجيل نفسها تهدم كل الأساس الذي حاولوا بناء الكفّارة عليه زاعمين أن الإنسان لا يقدر بنفسه على التخلص من الإثم فلا بد من الإيمان بالكفارة.هذا، ويتضح لنا من دراسة التوراة أن قصة آدم كلها قصة تمثيلية ومجازية، حيث ورد فيها أن حواء أكلت من ثمر الشجرة، فأعطت آدم فأكلها، "فانفتحت للحال أعينهما، وأدركا أنهما عُريانان" (التكوين ٣: ٧).فكونهما قد صارا عريانين بأكل ثمر الشجرة يؤكد أن القصة استعارة ومجاز.إذن فتأسيس عقيدة خطيرة على قصة مجازية مخالف للعقل تمامًا.ثم ورد في التوراة : "فخاطا لأنفسهما مآزر من أوراق التين، ثم سمع الزوجان صوت الرب الإله ماشيًا في الجنّة عند هبوب ريح النهار" (التكوين ٣: ٧-٨).إن هذه الكلمات أيضًا دليل حاسم على كون القصة استعارة، وأن اللغة المستعلمة فيها لغة مجازية؛ ذلك أن الله تعالى هو خالق الحر والبرد، ولا حاجة به

Page 69

الجزء الخامس ٦٢ سورة مريم إليهما، ولا يمكن أن يقال عنه أنه خرج بالفعل إلى البستان عند هبوب الريح الباردة ليتقى من لظى الحر، كما يفعل الناس عندنا في الصيف فيذهبون إلى المصايف في جبال "كوئته" أو "مري" اتقاء من الحر الشديد.ثم ورد في التوراة: "فاختبآ من حضرة الرب الإله بين شجر الجنّة" (المرجع السابق: ٨).الله الله هذه أيضًا لغة مجازية إذ لا يخفى على الله شيء.وقد أكد القرآن الكريم هو الآخر أنه ما يخفى على من شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى عليم بكل ما هو على وجه الأرض وما تحت الثرى (إبراهيم: ٣٩، وطه: ٧).ولكن التوراة تخبرنا أن آدم وحواء اختفيا في شجر الجنة حتى لا يراهما.ألا يدل ذلك على أن القصة مجاز واستعارة فحسب.وقد ورد في التوراة ما يدل بظاهره على أن علم محدود، حيث قالت: فنادى الرب الإله آدم: أين أنت؟" المرجع السابق (۹).وكأن الله تعالى – الذي يعلم كل ذرة في السماوات والأرض، ولا يخرج عن علمه أي شيء – هو الذي بدأ ينادي في الجنة: أين أنت يا آدم؟ أين غبت يا آدم؟ وهذا أيضًا دليل على أن هذه لغة مجازية، فإن الله تعالى يرى من على عرشه كل ما يحدث في الكون.وإذا كان لا يرى كل شيء فكيف يراقب كل مخلوق في الكون كله؟ ثم ورد في التوراة أن آدم قال : "سمعتُ صوتك في الجنة فاختبأت خشيةً منك لأني عُرْيانٌ" (المرجع السابق: ١٠).هل يُعقل أن يخفى آدم عُريه عن الله تعالى باستتاره وراء أشجار الجنة؟ إذن فهذه الفقرات كلها توضح جليا أن هذه القصة ليست حقيقية، بل قد وردت على سبيل المجاز ، ولا يمكن أن تؤخذ بحرفيتها، لأن لغتها لغة الاستعارة والمجاز.والواضح أن المجاز يحتاج إلى تأويل وتعبير ،دائما، ولا يؤخذ بحرفيته أبدًا.فنقول للمسيحيين إن الكلام الذي تبنون عليه عقيدتكم بأن آدم أذنب، وأن قلبه اسود، مجاز وتمثيل فحسب.فإن مشي وخروجه للنزهة عند الله في الجنة، هبوب الهواء العليل وعدم رؤيته ،آدم ثم نداؤه إياه بصوت عال، أليس كل ذلك

Page 70

الجزء الخامس ٦٣ سورة مريم مجازا واستعارة؟ وهل من العقل والمنطق أن تؤسس عقيدة دينية خطيرة على الكلام المجازي؟ وكما قلت من قبل، فإن وقوع آدم في الخطأ، رغم كونه من دون أب ولا أم، لدليل أكيد آخر على أن صدور الخير والشر من البشر في ظروف معينة ممكن، كما أن زوالهما ممكن أيضًا فلا يبقى للكفارة من حاجة.إذا كان الخير لا يمكن أن يدخل في الإنسان من الخارج، فدخول الشر فيه من الخارج محال أيضًا، وإذا كان الشر يمكن أن يدخل فيه من الخارج فمن الممكن أيضًا أن يدخل فيه الخير من الخارج.وإذا كان آدم - الذي لم يكن له أب ولا أم – قد دخل فيه الشر من الخارج، فمن الممكن تماما أن يدخل الخير في أولاده من الخارج، ويجب ألا يفرّق بين الأمرين.هذا، ويتضح من التوراة أن، آدم رغم اقترافه الإثم، ظل مقربا لدى الله تعالى ( التكوين ۳ (۲۱).فكيف أمكن ذلك، يا ترى؟ وليس عند النصارى أي جواب على هذا إلا قولهم إن الله تعالى قد غفر له ذنبه.ونحن نقول: كذلك تماما يمكن أن يغفر الله ذنوب ذرية آدم أيضًا، بدون أن يحتاج إلى كفارة.ولإثبات الحاجة إلى الكفارة أو لإثبات فساد النفس البشرية فسادًا يستحيل بعده إصلاحها لا بد من إثبات أن الإنسان قد فسد بعد إثم آدم فسادًا لم يستطع بعده التمسك بالخير.فلو ثبت ذلك من الكتاب المقدس فلا بد من التسليم بالكفارة، أما إذا قال الكتاب المقدس نفسه إن الإنسان لم يفسد بعد وقوع آدم في الإثم – الذي ليس إنما في الحقيقة عند القرآن الكريم - بل ظل متمسكا بالخير، فقد بطلت الكفارة من أساسها.إذ لو كان بإمكان الإنسان أن يتحلى بالصلاح، وأن يتجنب - الإثم أيضا بدون أي كفارة، فلم تبق ثمة حاجة إلى شيء جديد من أجل نجاته.ولنتوجه الآن إلى تعليم الإنجيل نفسه لفحص الأمر.لقد ورد فيه: "أما الموتُ فقد ملك منذُ آدم إلى موسى، حتى على الذين لم يرتكبوا خطيئةً شبيهةً بمخالفة آدم، الذي هو رمز للآتي "بعده (رسالة بولس إلى رومية ٥: (١٤).

Page 71

الجزء الخامس ٦٤ سورة مريم علما أن النصارى يقولون إن الموت نتيجة الإثم، وأن المراد من "الآتي" عندهم هنا المسيح، والمراد من مثاله هو آدم وهذا يعني أن بولس نفسه يعترف بوجود كثير من الناس منذ آدم إلى موسى لم يرتكبوا الإثم وهكذا فإن وجود عدد من الناس ممن لم يرتكبوا الإثم لدليل عملي قاطع على أن الإنسان قادر على تجنب الإثم.6 وليكن معلومًا أن هذه العقيدة قد لفقها النصارى في عجلة وبدون ترو حين تعرضوا لشتى الاعتراضات بعد حادث تعليق المسيح على الصليب، ولذلك نجد الحواريين يقولون تارة شيئا، ويعارضونه تارة أخرى.خذوا، مثلاً، هذه الفقرة نفسها التي اعترفوا فيها بوجود كثير من الصلحاء بعد آدم إلى موسى، الذين لم يرتكبوا الإثم وبتعبير ،آخر أنهم اعترفوا أن ذرية آدم لم يرثوا منه الإثم رغم ارتكابه له.ولكنهم عادوا فعارضوا ذلك في الكتاب نفسه إذ قالوا: "هكذا جاز الموتُ على جميع البشر، لأنّهم جميعا أخطأوا" (المرجع السابق: ١٢).ولكنهم واجهوا مشكلة أخرى، وهي أن الناموس أي الشرع بدأ بموسى لا قبله، بحسب اعتقادهم (يوحنا ۱ (۱۷) فالسؤال الذي واجهوه هو: أين كان الإثم قبل نزول الشرع؟ فأجابوا عليه بقولهم: "فإنّ الخطيئة كانت منتشرة في العالم قبل مجيء الشريعة، إلا أنّ الخطيئة ما كانت تسجل، لأن الشريعة لم تكن موجودة" (المرجع السابق: ۱۳).معهم.وكأن الشرع والإثم شيئان منفصلان عندهم.وهذا كلام سليم تماما نتفق عليه فإن الشرع تعليم يؤمر به الناس بفعل شيء أو تركه، وإلا لسخط الله أما الإثم فيعني ارتكاب المرء أمرًا قد نهى عنه الشرع صراحة، وقبل نزول الشرع لا يُعتبر أي عمل إنما.هذا ما نتفق عليه تماما.عليهم، ولكنا نقول: إن السيئة سيئة في كل حال، سواء أنزل الشرع أم لا.فمثلا نزل القرآن وقال لا تظلموا، فإنه إثم كبير؛ فأدركنا أن الظلم معصية.ولكن صاحب الظلم كان سيُعتبر مرتكب عمل سيئ، سواء أنزل هذا الحكم في القرآن أم لا.وهذا هو حال السيئات الأخرى أيضا، فسواء نزل الشرع نزل أم لم

Page 72

الجزء الخامس سورة مريم ينزل، فإن السيئات تظل سيئات، كما أن الحسنات تظل حسنات في كل حال؛ والفرق الوحيد أن البعض سيعتبر أمرًا ما سيئا، بينما لن يعتبره الآخر كذلك؛ والحال نفسه فيما يتعلق بالحسنة.إذن فإن الشعور بالسيئة أو الحسنة لا يتعلق بالشرع، وإنما يتعلق بالفطرة.وهذا ما يؤكده بولس إذ يقول إن الإثم كان موجودًا في الدنيا، ولكنه لم يكن محسوبًا حيث لم يكن الشرع موجودًا.وهذا هو موقفنا أيضا إذ نقول: إذا كان الشرع غير موجود في مكان فكل عمل سيئ سيظل إثما، ولكنه غير محسوب لغياب الشرع هنالك.فمثلا هناك بقعة في الدنيا بين الأدغال أو الجبال يعيش أهلها منعزلين عن باقي العالم، و لم يصل إليها تعليم الإسلام، ولا علم لهم ببعثة رسول الله ، ولا يصلي أهلها الصلوات؛ فلن يقول الله لهم: لم لم تصلوا، ولم لم تصوموا كما علّم الإسلام؟ إذ لا علم لهم بالصلاة والصيام.وقد الحديث * الشريف أيضًا أن أربعة لا حساب عليهم يوم القيامة بحسب صرح الشرع: رجل يولد أصمّ لا يسمع شيئًا، ورجل مجنون، ورجل هرم، ورجل مات و لم يبلغه الإسلام، وأن الله تعالى سيبعث لاختبارهم يوم القيامة رسولاً، فمن صدقه منهم نجا، ومن لم يصدقه عوقب انظر روح المعاني: قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا).وقد بين سيدنا المسيح الموعود ال مستدلاً بآيات من القرآن الكريم، أن بعض الناس سيحاسبون بحسب فطرتهم النقية حقيقة الوحي ص ١٨٦)..أي أنهم ونص الحديث: "عن الأسود بن سريع أن ني الله ﷺ قال: أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة.فأما الأصم فيقول: رب، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: ربِّ، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ، ما أتاني لك رسول؟ فيأخذ مواثيقهم ليطيعُنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار.قال: فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا....عن أبي رافع عن أبي هريرة مثل هذا، غير أنه قال في آخره: فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يُسحب إليها" (مسند أحمد: مسند المدنيين رقم الحديث ١٥٧١٢) (المترجم)

Page 73

الجزء الخامس ٦٦ سورة مريم تعالى لا يحاسبون وفق شرع القرآن الكريم، بل سيحاسبون بحسب ما أودع الله فطرتهم من قوى وكفاءات لأن الفطرة الإنسانية هي الأخرى تفرق بين الخير والشر حتى ولو لم يساعدها الشرع بهذا الصدد؟ وكان حضرة الخليفة الأول للمسيح الموعود الي يحكي بهذا الصدد قصة شهيرة له مع أحد اللصوص الذي جاءه للعلاج.فنصحه حضرته له وقال: لا تسرق أموال الناس، فإنه عمل سيئ جدا؛ كيف تأكل هذا المال الحرام؟ فقال اللص: لقد استغربت من قولك جدا، ويبدو أنك لست مختلفًا عن باقي المشايخ البسطاء.فهل في الدنيا أحد يأكل الرزق الحلال مثلنا؟ فأنت تأخذ من الناس مالهم بمجرد أن تحس نبضهم لثوان، أما نحن فنخرج لكسب الرزق واضعين أرواحنا في أكفّنا.فعند كل خطوة نخاف الشرطة ونخشى أن يقبضوا علينا.ونتخطى شتى الأخطار، ونقابل الموت وجها لوجه؛ وبعد تحمل كل هذه الصعاب نكسب هذا المال.فمن ذا الذي يكسب الحلال بطريق أفضل منا؟ عند سماع هذا الكلام، جذب حضرته أذيال الحديث إلى أمور أخرى حتى ينسى السارق هذا الموضوع لبعض الوقت.ثم بعد برهة من الزمان قال له: كيف تقومون بالسرقة؟ قال: نحن عصابة من سبعة أو ثمانية أشخاص، ولكل واحد منا مهمة خاصة يؤديها.فأحدنا يقوم بالتجسس، ويدلنا على البيت الذي فيه المال.والثاني يكون ماهرًا في كسر جدار البيت، والثالث والرابع يقفان على طرفي الشارع للحراسة، حتى إذا جاء شخص يحذران على الفور، والخامس يقتحم البيت، والسادس يقف بعيدًا.وكلنا ندهن أبداننا بالزيت ونلبس السراويل القصيرة فقط حتى تسهل علينا مهمتنا، ماعدا السادس الذي يقف بعيدا فإنه يلبس لباسًا فاخرا كالشرفاء، وعنده نجمع المال المسروق حتى إذا رآه بعض المارة لم تأخذه ريبة في أمره، بل ظن أن هذا الشريف هو صاحب المال.ثم هناك صائغ نأخذ إليه الحلي المسروقة، فيُذيبها ويصوغها سبائك، فنوزعها فيما بيننا.هنالك قطع حضرته الله على السارق حديثه وقال له: فكيف إذا سطا الصائغ على المال كله ولم يؤتكم منه شيئا؟ فقال من فوره هل تظن أنه سيصبح قليل

Page 74

الجزء الخامس ٦٧ سورة مريم الأمانة لهذه الدرجة ويأكل أموالنا؟ قلت : يبدو أنك أيضا تفرق بين الأمانة والخيانة، وتدرك فطرتك أي الأعمال سيئ وأيها حسن؟ وهذا ما قد ركز عليه المسيح الموعود ال كما أشرتُ، وقال إن بعض الناس سيحاسبون بحسب فطرتهم، فلا يسألهم الله تعالى: لم لم تصلوا الصلاة التي علم النبي إياها، بل سيقول لكل واحد منهم : لقد خُلقت بفطرة تميل إلى عبادة أحد، فهل قمت بعبادته ملبيا نداء فطرتك؟ والأمر نفسه فيما يتعلق بالكذب والسرقة وقطع الطرق.فبعض السذج الجاهلين يأكل أموال الآخرين دون أن يفكر في خطئه، ولكن إذا أكل أحد ماله هو سماه خائنًا كبيرًا؛ وهذا يدل على أنه يدرك بفطرته أن أكل أموال الناس خيانة؟ ومما لا شك فيه أن مثل هؤلاء السذج لا يُعدّون محرمين عند الشرع، ولكنهم مجرمون عند الفطرة حتمًا ويعاقبون بحسبها.فكون الفطرة الإنسانية تعتبر بعض الأعمال إنما ، قضية لا يحوم حول صحتها شك، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : إذا كان هذا صحيحًا فأين مكان الكفارة إذن؟ فلو قال الإنجيل إن الفطرة لعنة لظلت القضية من دون حل، ولكنه يقول إن الشرع لعنة (انظر رسالة بولس إلى أهل غلاطية ٣: ١٣)..أي أن الشرع جاء بأحكام لا يستطيع الإنسان العمل بها، ولذلك قام المسيح بإلغاء الشرع نهائيًا.ولكنا نقول: إن الشرع كان ملغى قبل موسى أيضًا، إذ لم يكن للشرع عندئذ وجود، و لم يكن ثمة حاجة إلى كفارة لنجاة الإنسان، بل نال النجاة بالعمل بأوامر فطرته أو نال العقاب إذ خالف تعليماتها.فما الحاجة إلى الكفارة إذن؟ فكأن المعضلة الحقيقية التي كانت تتطلب حلاً إنما هي أن الله تعالى أوقع الناس في الشقاء بإنزال الشرع.ولكن الكفارة ليست حلاً سليمًا لهذه المعضلة، بل كان حلها بكل بساطة إلغاء الشرع.إن هذا الحل مهما كان بسيطا، لكنه هو الحل الحقيقي، فإن ما ورد في الرسالة إلى رومية ٥ يؤكد أن الشرع لم يوجد قبل موسى، فما كان الناس عندئذ يُعدّون محرمين بحسب الشرع، وبالتالي ما اضطر الله

Page 75

الجزء الخامس لعقابهم أيضًا.كما سورة مريم وجد عندئذ أناس ما كانوا آثمين حتى بحسب الفطرة أيضًا، بحسب هذه الرسالة نفسها.فاتضح من كل هذه العبارات المقتبسة من كتب المسيحيين أن الفساد لم يحصل بإثم آدم أبدًا، بل حصل بخطأ ارتكبه الله نفسه - والعياذ والعياذ به.إنه تعالى أنزل الشرع على موسى، وحين لم يستطع الناس العمل به، اضطر الله لعقابهم بحسب الشرع، فأرسل المسيح وألغى الشرع للأبد.ولكنا نقول: ما كانت ثمة حاجة لإرسال المسيح لإلغاء الشرع، بل إن الله الذي بعث موسى بالشرع كان بإمكانه أن يقول بكل بساطة للنبي يوشع الذي جاء بعده: إن الناس لا يقدرون على العمل بالشرع، فها أنا ألغيه إلى الأبد.ثم نسأل النصارى إذا كان الإثم موجودًا، ولكنه ظل غير محسوب، فأين غاب العدل الإلهي الذي تتشدقون به، فالعدل هو الأساس الثاني لكفّارتكم حيث تقولون: لو غفر الله تعالى للناس ذنوبهم لم يعد عادلاً.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: متى تتغير ماهية شيء من الأشياء بتغيير اسمه؟ فمثلاً إذا سرق شخص وقلنا: إنه لن يعاقب لأن شريعة موسى لم تنزل بعد وإذا سرق شخص آخر قلنا: يجب أن يعاقب في الجحيم الأبدية لأن شريعة موسى تعتبره آثما؛ فكيف يجوز أن الفعل واحد في الحالتين؟ إن الأول سرق كما سرق الثاني، وإذا تركنا الأول وعاقبنا الثاني، فأين العدل هنا؟ وأي إنصاف هذا؟ أو خذوا مثلاً الكذب والظلم والسرقة ، فلو أننا لم نمنع الناس من هذه الأفعال، أو لم نعد صاحب هذه الأفعال ،آئما، فهل يُعدّ هذا تقيًّا طاهر القلب، يا ترى؟ كلا.إن الآثم أو الظالم أو الكاذب أو السارق لن يكون متقيًا بارا لمجرد أننا لم نسمه بهذه الأسماء.وإذا لم يكن هذا انما رغم اقترافه هذه الأفعال، بينما يصبح غيره آنما بارتكابها، فأين العدل ذلك مع والإنصاف؟ إلى هنا أكون قد ناقشت قضية الإثم نقاشا مبدئيًّا وفلسفيًّا.أما الآن فأخبركم أن التوراة تنص على وجود الصالحين في الدنيا بالفعل.فقد ورد عن أخنوخ – وهو ابن لحفيد آدم وأب لجد نوح – أنه بعد أن أنجب متوشالح عاش "ثلاث مئة سنة

Page 76

الجزء الخامس سار فيها مع سورة مريم الله.ووُلِد لهُ بنُون وبنات.وكانت كُلُّ أَيَّامٍ أَخْنُوخ ثلاث مئة وخمساً وستين سنة.وسار أَخْنُوخُ مع الله ، ثُمّ توارى مِن الْوُجُودِ، لأنّ الله نقلهُ إِلَيْهِ" التكوين ٥: ٢١-٢٤) تؤكد هذه العبارة سير أخنوخ مع الله تعالى.والبديهي أن سيره مع الله الله لا يعني أنهما خرجا للسياحة لثلاث مائة سنة، كما يفعل هواة السياحة في هذه الأيام فيقولون لأصحابهم: تعالوا نذهب إلى أمريكا أو نزور بلدا غيرها.بل إن السير الله تعالى تعبير خاص في التوراة، ومعناه أن أخنوخ كان إنسانا بارا متحليًّا مع بصفات كصفات الله تعالى، أي كان يفعل ما يفعل الله تعالى، فكان رحيما بالناس، محسنًا إليهم، محبًّا للجميع، رؤوفًا بهم، منصفا غير ظالم، معينًا للفقراء وغفورًا وغيرها من صفات الله الحسنى.ثم ورد عن أخنوخ أنه رفع إلى السماء، وهذا يعني أنه كان مثل المسيح تماما، وكانت مكانته كمكانته، بل لم يعش المسيح إلا ثلاثين سنة، ولكن أخنوخ عاش ثلاث مائة سنة، وقضى حياته كلها في البر والتقوى حتى صار كمثيل لله تعالى، ورفع إلى السماء.ولو أننا قرأنا هذا مع قول المسيح التالي: "وما صعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السّماءِ" (يوحنا ۳: ۱۳)، لانكشفت علينا مكانة أخنوخ أكثر، وعلمنا أنه جاء من السماء ولذلك صعد إلى السماء.والحق أن قول المسيح الا هذا إنما يعني أنه لا يصعد إلى السماء إلا الذين يأخذهم الله تعالى في كنفه منذ صغرهم، فيعيشون تحت رعايته وحمايته.وكان أخنوخ من هؤلاء المحظوظين، حيث تربى منذ نعومة أظفاره تحت ظل فضل الله ورحمته، ثم رفع إلى السماء كما تقول التوراة.وأما الملك "ملكي صادق "سالم" فقد قالت التوراة في حقه أحسن مما قالته في أخنوخ ، وقد أيد الإنجيل أيضًا ما ورد في التوراة في حقه.تخبرنا التوراة أن إبراهيم لما تعرض للاضطهاد في العراق على يد عمه وإخوته أمره الله تعالى بالهجرة إلى فلسطين مع زوجته ومع لوط الذي كان المؤمن الوحيد به.فوصل إبراهيم إلى

Page 77

الجزء الخامس V.سورة مريم فلسطين بعد أن ذهب إلى مصر حيث تزوج بهاجر.وكان الله تعالى قد بشره أنه تعالى سيعطيه بلاد فلسطين، وسيكون له أتباع فيها فلما استقر بها ونال قبولاً وشعبية من أهلها حسده الملوك المجاورون، فجاءوه يحاربونه، فخرج للتصدي لهم، فهزمهم بإذن الله.وأثناء عودته من الحرب قابله ملك اسمه ملكي صادق ملك شاليم، وكان يُعد من كبار أولياء الله والصالحين الأخيار في زمنه.فقدم له إبراهيم العلي عُشراً من غنائمه، فرفض الملك صادق أن يأخذها، وقال: ليس بي حاجة إلى المال، إنما أريد أن تهب لي من معك من الأسرى.فقال إبراهيم: لا بد أن أعطيك بسبب أن المال حتى لا يقول الناس إنني أصبحت ثريا الملك صادق.وهذا يعني إبراهيم العرضي أن يدخل في طاعة هذا الملك (انظر التكوين: ١٤: ١٨-٢٤).وإن الإنجيل أيضًا قد تناول هذا الحادث بالتفصيل، إذ ورد فيه: "فلأجلنا دخل يسوع إلى هناك سابقاً لنا.وهو هناك يقومُ مُهِمّته نيابة عنا بعدما صار رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (الرسالة إلى العبرانيين ٦: ٢٠)..أي أن الجميع ماتوا.جاء موسى ومات، وجاء داود ،ومات، وجاء سليمان ومات، ولكن الملك صادق هذا لم يمت، كما أن المسيح لم يمت.ثم ورد فيه: "لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي....يبقى كاهنا إلى الأبد" (المرجع السابق ٧ ١-٣).فبقاؤه كاهنًا للأبد يعني أنه لن يأتي عليه الموت إلى الأبد.وورد أيضا: "الذي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك وباركه" (المرجع السابق : ١)..أي أن هذا الملك أعطى إبراهيم البركة، وهذا يعني أنه كان يرى أنه أفضل من إبراهيم.ثم جاء فيه: "الذي قسم لـه إبراهيمُ عُشرًا من كل شيء، المترجم أولاً ملك البر، ثم أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام، بلا أب بلا أم بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبة بابن الله" (المرجع السابق: ٢-٣)..أي لم يكن للملك صادق أب ولا أم، بل كان أزليا أبديًّا مثل الله تعالى.لم يكن لعمره بداية، و لم يكن لحياته نهاية، لم يولد ولن يموت، إنما هو حي إلى الأبد مثل ابن الله المسيح.

Page 78

الجزء الخامس ۷۱ سورة مريم وليس المراد من المسيح هنا من ولد من بطن مريم، بل ذلك المسيح الذي هو الأقانيم الثلاثة.أحد لقد ثبت من هذه العبارات جليًّا أنه كان في الدنيا كائن صالح غير المسيح أيضا، وقد بلغ من البر والصلاح بحيث سُمِّي ملك الصدق والسلام، واستحق أن يهب البركة لإبراهيم.ثم ورد في الإنجيل عن زكريا وزوجته: "وكان كلاهما بارين أمام الله، يسلكان وفقاً لوصايا الرب وأحكامه كلّها بغير لوم" (لوقا ١: ٦).وبشر الملاك زكريا عن يوحنا بقوله: "وسوف يكون عظيماً أمام الرب، ولا يشرب حمراً ولا مُسكراً، ويمتلئ بالروح القدس وهو بعد في بطن امه " (المرجع السابق: ١٥).وهذا يعني أن يوحنا لم ينزل عليه الروح القدس بعد خروجه من بطن أمه، بل نزل عليه وجعله تحت تصرفه وهو في بطنها.ومن الواضح أن الإنسان يرتكب الإثم بعد ولادته أما الذي نزل عليه الروح القدس وهو في بطن أمه فأنى لـه أن يقع في الإثم.فثبت من شهادة الإنجيل نفسه أن يوحنا لم يقترب منه إثم ولا فساد.بل لقد قال المسيح الله في يوحنا: "الحق" أقول لكم: إنه لم يظهر بين من ولدتهم النِّساء أعظمُ من يُوحنا المعمدان" (متى ۱۱: ١١).إذن فالمسيح يرى أن يوحنا أفضل منه إذ كان الاثنان من بين المولودين من النساء.لقد تبين من هذه العبارات أن زكريا الله وزوجته كانا بريئين من أي عيب ومنقصة وسائرين على أحكام الله تعالى وأن يوحنا خرج من بطن أمه مفعمًا بالروح القدس مبرءا من كل عيب.فإذا كان زكريا وزوجته غير آثمين، فلم لا يمكن أن يكون سواهما أيضًا بريئا من الإثم وفق هذا القانون نفسه.فوجود الصالحين الأبرار العاملين بالشرع، والبريئين من العيوب والآثام قبل المسيح وقبل وجود الكفارة، لدليل حاسم على وجود البر في الناس قبل الكفارة؛ فوجوده قبل الكفارة يستلزم وجوده بعدها أيضًا، بدون أن تكون ثمة حاجة إلى أي كفارة وفداء.

Page 79

الجزء الخامس ۷۲ سورة مريم علما أننا حين نواجه علماء المسيحيين بسؤالنا : كيف نال الناجون قبل المسيح النجاة، وكيف حصل الصلاح للصالحين قبله، يقول بعضهم: لقد صار هؤلاء الأولون صالحين وناجين بسبب إيمانهم بكفارة المسيح.والظاهر البين أنه ادعاء فارغ ليس إلا وليس عندهم أي دليل عليه إلا قولهم أن إبراهيم وداود وغيرهما من الأنبياء - عليهم السلام - قد بشروا بمجيء المسيح.والحق أن قولهم هذا أيضًا خدعة فقط، إذ لا يوجد في نبوءات إبراهيم العليا أي بشارة بمجيء المسيح، إنما أنبأ إبراهيم أن الله تعالى سيبارك أولاده وسيظهر بهم جلاله وقداسته التكوين :۱۷ : ۱۹ - ۲۰ ، والتكوين ۲۱ ۱۳).والبديهي أن هذه النبوءة لا تخص فردًا معينًا، بل هي عامة لأولاده، وقد ظهر بحسبها الأنبياء العظام كإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى و داود وزكريا عليهم السلام لا شك أن نبوءات بعض الأنبياء الآخرين تخبر بمجيء مسيح، ولكن شتان بين الإخبار ببعثة نبي، وبين الإخبار بظهور ابن الله تعالى يكون كفارة لذنوب الناس ولن تستطيع الدنيا أن تنال النجاة بدونها.إن كل نبي – تقريبًا – قد أخبر بمجيء الأنبياء الذين جاءوا بعده، فكانت ثمة أنباء من الأنبياء الأولين بظهور يحيى وداود مثلاً، كما كانت لبعثة عيسى أيضا، ولكن هذا لا يعني أنهم أخبروا أن عيسى سيكون كفارة لذنوب الناس بحيث لن تنال الدنيا النجاة بدون الإيمان بها.ثم لو افترضنا أن النبوءة الإبراهيمية كانت تعني ظهور ابن له في المستقبل ستنال الدنيا النجاة بفدائه، لما انطبقت هذه النبوءة على المسيح أبدًا.ذلك لأن دعوى المسيحيين إنما أساسها أن المسيح ابن الله، إذ يقولون أن أبناء آدم آثمون في كل حال، والآثم غير قادر على حمل ذنوب الآخرين، فلم يكن مناص من كائن من غير أبناء آدم، فأرسل الله يسوع ابنه الوحيد ليكون كفارة عن ذنوبهم.ولكن المشكلة أن المسيح إذا كان ابنا الله فهو ليس ابنا ،لإبراهيم، وإذا كان ابنا لإبراهيم فهو ليس ابنا الله تعالى وبالتالي لم يكن كفارة لذنوب الناس.إذن فتطبيقهم النبوءة الإبراهيمية على المسيح تستأصل عقيدة الكفارة من جذورها.إنني لا أزال أتذكر جيدا أني ذهبت ذات مرة إلى لاهور وأنا شاب حيث

Page 80

الجزء الخامس كان سني ۷۳ سورة مريم إذاك الثامنة عشرة تقريبًا، ورغبت في الحوار مع أحد القسيسين.فذهبت إلى أكبر قسيس هنالك، وقد أصبح فيما بعد عميدًا للكلية التبشيرية المسيحية بمدينة سهارنبور فوجهت إليه السؤال نفسه وقلت كيف كان الناس ينالون النجاة قبل المسيح؟ قال: لأنهم هم الآخرون آمنوا بالمسيح؟ قلت: ما رأيك لو قلت إنهم نالوا النجاة نتيجة إيمانهم بي أنا؟ قال: يجب أن تكون لذلك نبوءة سابقة.قلت: كلام سليم، ولكن هلا أخبرتني بنبوءة كهذه لصالح المسيح؟ قال: هناك نبوءة لإبراهيم في حقه.قلت: لو فحصنا النبوءة الإبراهيمية في كل مكان لوجدنا أنها إذا كانت تتحدث عن نزول البركة في بني إسحاق، فإنها تؤكد نزول البركة في بني إسماعيل أيضًا؛ وإذا كان من حقك تطبيق هذه النبوءة الإبراهيمية على المسيح، فلم أنك عاقل.لا يحق لي أن أطبقها على محمد رسول الله الله الذي هو من نسل إسماعيل.ثم قلت له: إذا كان المسيح ابنا لإبراهيم فكيف يكون كفارة.فأخذ هذا القسيس الذي كان سنه قرابة ستين عاما، في اللف والدوران في الحديث، ولم يجد جوابا، وبعد نقاش دار لحوالي ساعة مدّ يديه نحوي على الطريقة الهندية وقال لي: أستميح العذر يا سيدي، فهناك مثل يوناني يقول : إن السؤال يمكن أن يوجهه كل أحمق، أما الجواب فلا بد له من عاقل.فسماني القسيس جاهلاً، وقال عن نفسه إنه لا يملك من الذكاء ما يردّ به على الحمقى.وكنت حينذاك في عنفوان شبابي، أن قلت له: آسف يا سيدي، فقد جئتك وفي ظني إذن، فإذا كان المسيح من أبناء إبراهيم فقد بطلت الكفارة، وإذا كان ابنا لله تعالى فقد بطلت نبوءة إبراهيم، وفي الحالتين يظل الاعتراض كما هو.أما الجواب الثاني فهو أن إبراهيم إذا كان قد أنبأ بظهور شخص عظيم من بين أولاده، كما هو مشهور وشائع في نسله، فعلينا أن نفحص الأمر لنرى من هي تلك الشخصية.وعند التحري نجد شخصين يدعي كل واحد منهما أنه المصداق للنبوءة الإبراهيمية.وحين نسأل المدعي الأول: ما هو دليلك على أنك من نسل إبراهيم يجيب: أنا ابن فلان فلان فلان بن إبراهيم (السيرة النبوية فما كان مني بن بن فلان بن لابن هشام الجزء الأول ص ۱-۲ وحين نوجه السؤال نفسه إلى المدعي الثاني

Page 81

الجزء الخامس ٧٤ سورة مريم يجيب: أمي فلانة، وقد تزوجت بعد ولادتي من فلان ابن فلان ابن فلان بن إبراهيم.فهل في الدنيا عاقل يصدق بأن هذا الثاني هو حقا من أولاد إبراهيم العلة.كلا، بل إن الجميع سيصدقون المدعي الأول الذي يوصل نسبه إلى إبراهيم، ولن يصدقوا المدعي الثاني الذي يعتبر زوج أمه من نسل إبراهيم، وبالتالي يظن أنه من أولاد إبراهيم.هذا هو بالضبط حال المسيح ونبينا الكريم عليهما السلام.فقد ورد عن نسب المسيح في الإنجيل تحت عنوان "نسب المسيح بن داود بن إبراهيم" ما يلي: "ويعقوب أنجب يوسف رجُل مريم التي وُلد منها يسوع الذي يُدعى المسيح" (متى ١٦:١).الله يوسف وهذا يعني أن المسيح لا يصل نسبه إلى إبراهيم، بل يصل إليه نسب الذي تم تزويجه من مريم بعد أن ولدت المسيح.أما نبينا الكريم محمد رسول الله ﷺ فيعلن أن أباه عبد ابن عبد المطلب ابن فلان ابن فلان إلى أن يوصل نسبه إلى إبراهيم العلي ولذلك نقول للمسيحيين: إن الذي تحاولون عبثا تطبيق النبوءة الإبراهيمية على شخصه معتبرين إياه من أولاد إبراهيم، هو نفسه يقول صر راحة إن الذي تم تزويج أمي مريم منه لهو من نسل إبراهيم، أما أنا فلست من أولاد إبراهيم أبدا، ولكن الذي نطبق عليه هذه النبوءة فإنه من نسل إبراهيم يقينًا، فكيف يحق لكم أن تعتبروا المسيح مصداقا لها؟ أما دعوى المسيح بكونه مخلصا للدنيا فقد ادعى به نبینا محمد رسول الله ﷺ أيضًا.قال الله تعالى في القرآن قُلْ إنْ كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (آل عمران: ٣٢)..أي يا محمد، قُلْ للناس إن كنتم تودون أن تحرزوا في الروحانية مقامًا تصبحون به أحباء الله تعالى فعليكم بطاعتي والدخول في بيعتي.وهذا يعني أن الإيمان بمحمد رسول الله ﷺ لا يُكسب الإنسان النجاة فحسب، بل يترقى به حتى يصبح محبوبا لدى الله تعالى.الناس.ويقول الله تعالى أيضا يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم (الأنفال: ٢٥).فالقرآن قد أعلن هنا أن محمدا رسول الله ﷺ يحيي وبما أن الموت نتيجة للإثم بحسب الإنجيل، فإن إعلان القرآن هذا يعني أن النبي

Page 82

الجزء الخامس Vo سورة مريم مخلّص للناس، وأن نجاة الناس من الموت، الذي هو نتيجة للإثم، متوقفة على اتباعهم وهناك سؤال آخر بصدد الكفارة يطرح نفسه وهو: لماذا أُلقيت مسؤولية الكفارة على المسيح بالذات من بين الأقانيم الثلاثة؟ فنحن نسلم جدلاً بكل ما يدعيه المسيحيون، وإن كان كله غباء في غباء.لنفترض (أولاً) أن آدم ارتكب الإثم، و(ثانيا) أن إثمه انتقل إلى أولاده بالوراثة و(ثالثًا) أن الإثم الموروث لا علاج له في داخل الإنسان بل لا بد له من شيء من الخارج، و(رابعا) أن الكفارة هي العلاج لذلك - وإن كان هذا العلاج يشبه المثل السائر عندنا: "ضربه على رُكبته ففقأ عينيه؛ حيث يقولون أن الإثم ما كان لينمحي من الدنيا، ولكنه زال بموت المسيح على الصليب - ولكنا نسأل: إذا كان محو الإثم يتطلب فداء من كائن ذي قدرات إلهية فلم لم يتقدم الإله الأب نفسه لهذا الفداء؟ أليس الإله الأب ذا رحمة لا تعرف الحدود؟ إذا كانت رحمة الإله الأب لا تعرف الحدود فلم لم يتقدم لهذا الفداء؟ ثم ما الذي منع الإله الروح القدس من أن يقدم هذه التضحية؟ وليست لهذا السؤال إلا إجابتان اثنتان فقط : فإما أن يقولوا إنه لو مات الإله الأب أو الإله الروح القدس لأتى الفناء على الكون كله، ولكن التسليم بهذه الإجابة يعني أن الإله الابن كان ناقصا، فقُدِّم للفداء لأن موته ما كان يعرض الكون للفناء.أو يقولوا أن الإله الأب والإله الروح القدس لم يحبا الناس كما أحبهم الإله الابن، فلم يتقدما للفداء من أجلهم.ولكن هذه الإجابة تصم الإلهين الأب والروح القدس بالعيب والمنقصة.ثم إن هذه الإجابة تخالف ما ورد في الإنجيل عن الإله بأنه إله المحبة (رسالة بولس الثانية إلى مؤمني كورنثوس ١٣: ١١)، بينما لم يرد هذا في حق الإله الروح القدس ولا الإله الابن.فالتسليم بأي من الإجابتين يؤدي إلى اعتبار أحد الأقانيم الثلاثة ناقصًا، والناقص لا يمكن أن يكون إلها باعتراف الأديان.ثم هناك سؤال آخر: هل الكفارة ضرورية عند اليهودية؟ إن التوراة في رأينا تؤكد أن لا حاجة لأي كفارة وفداء.ذلك أن الكفارة إنما يُلجأ إليها لو استحال جميع !

Page 83

الجزء الخامس ٧٦ سورة مريم غفران الذنوب، ولكن التوراة تعلن أن غفرانها ممكن، حيث إنها مليئة بتعليم غفران الذنوب، كما أنها تسهب في ذكر التضحيات والقرابين التي نالت القبول عند الله تعالى؛ بل إنها تخبرنا بوجود أناس بعد آدم تقبل الله تضحياتهم فمنحهم قربه.فقد ورد فيها: "وحدث بعد أيام أن قايين قدّم من أثمار الأرض قربانًا للرب، وقدّم هابيل أيضًا من أبكار غنمه ومن سمانها.فنظر الرب إلى هابيل وقربانه، ولكن إلى قايين وقربانه وسقط وجهه.فقال الرب لقايين: لماذا اغتظت، ولماذا لم ينظر.فاغتاظ قايين جدا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا ،رفع، وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها، وأنت تسود عليها"* (التكوين ٤: ٣-٧).علما أن قايين هذا يدعى عندنا قابيل.لقد اتضح من هذه العبارة ما يلي: الأول: أنه بالرغم من إثم آدم فإن قرابين بعض أبنائه كانت تحظى بالقبول عند الله تعالى، حيث تقبل الله قربان هابيل وجعله من المقربين حيث جاء: "فنظر الرب إلى هابيل وقربانه.ونظرُ الرب إلى هابيل لا يعني أنه تعالى اكتفى بالنظر إليه، إنما معناه أن الله تعالى جعله من المقبولين المقربين لديه، معتبرًا قربانه شيئا يزيد درجة صاحبه باستمرار، إذ لا يعني قبول الهدية عند الله تعالى إلا أن ينال صاحبها الجزاء عليها منه الله.وتعالى فترى أن هابيل وقابيل كلاهما من أبناء آدم، وقد ولدا أبناء آدم، وقد ولدا بعد ارتكابه الإثم الذي من المفروض أن يرثاه منه بحسب العقيدة المسيحية، ومع ذلك عندما قربا قربانًا من من الآخر.فلو كان الإثم قد انتقل إليهما بالوراثة لما تُقبل أحدهما ولم يُتقبل من قدما أي قربان أصلاً، أو لم يُتقبل من أيهما إطلاقًا.* ورد في النسخة الأردية مكان العبارة التي تحتها الخط ما تعريبه : "ولكن عليك أن تتغلب عليها".وفي نسخة عربية أخرى: "لكن يجب أن تتحكم فيها".(المترجم)

Page 84

الجزء الخامس VV سورة مريم الثاني: ورد في هذه الفقرة: "إن أحسنت أفلا رفع"..أي إذا صرت صالحا أفلا رفع درجتك وتصير مقبولاً لدى الله تعالى؟ إن هذه الكلمات تؤكد إمكانية صلاحه إذا أراد، لأن كلمة "أفلا رفع" يعني أن باب التقرب إلى وهي طبعًا درجة عالية النجاة.من بني الله مفتوح أمامه، أن وهذا يوضح بالكفارة، وأنهم رغم ارتكابهم الذنوب كانوا يحظون بالقبول لديه تعالى من خلال توبتهم؛ فثبت بذلك أن بإمكان كل إنسان أن يصير صالحًا، وأن يصبح مقربا لدى الله تعالى، وإلا لما قال الله تعالى لقابيل، الذي صار جراء إثمه غير مقبول لديه تعالى: "إن أحسنت أفلا رفع".الثالث: ثم ورد في هذه العبارة: "وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك آدم حينذاك أيضًا كانوا يتقربون إلى الله تعالى بأعمالهم لا اشتياقها".تزعم المسيحية أنه بعد أن ارتكب آدم الإثم غُرس الإثم في قلب الإنسان، وهذا هو معنى الإثم الموروث أيضًا، ولكن التوراة تعلن هنا أن الإثم لن يدخل في قلب الإنسان، بل هو رابض عند باب بيته؛ وهذا يعني أن الإثم لا يوجد في قلب الإنسان بل يأتي من الخارج؛ وبتعبير آخر إن الإثم شيء خارجى وليس شيئًا موروثا مختلفًا بلحم الإنسان ودمه.الرابع: ثم ورد في هذه الفقرة أن الله تعالى قال لقابيل: "وأنت تسود عليها"..أي عليك أن تتغلب على هذه المعصية.والله لا يأمر إلا بما هو ممكن الوقوع، فنحن أيضًا لا نقول للصبي – اللهم إلا إذا كنا نمازحه مزاحًا خاطئًا – أن اذهب واحمل إلينا السيارة أو الفيل مثلاً وإنما نأمره بما في وسعه وطاقته.أو لا يقول مدير مكتب للموظف أن اذهب واحمل إلي عربة القطار، لأنه لو أمره بذلك، سيصفر وجهه، وسيتسلل من غرفته ليقول لزملائه إن حضرة المدير قد صار مجنونا، إذ أمره بما يخرج عن وسعه وطاقته.كذلك تمامًا لو كان التغلب على الإثم مستحيلاً لما أمر الله تعالى قابيل بالتغلب عليه.

Page 85

الجزء الخامس لا جرم ۷۸ سورة مريم أن الله تعالى لم يقبل من قابيل قربانه وقال له لأنك لم تقدم القربان بإخلاص وحسن نية فقربانك مردود ولكنه تعالى أوضح له أيضًا أن هذا لا يعني أن قربانك مردود للأبد ولن يقبل بعد ذلك إلى يوم القيامة، بل قال له: أمامك فرصة للتغلب على المعاصي لتحظى بمرضاتي.وهذا يعني أن الإنسان قادر على أن يتغلب على الإثم بجهده.إذن فالله تعالى يعلن هنا حتى عن إثم قابيل، دعك من إثم آدم، أنه ليس بشيء يستحيل التغلب عليه بل هذا ممكن وعليك أن تسعى لذلك.هذا، وقد اتضح من هذه الفقرة أيضًا أن المسيحيين هم أتباع قابيل، وأن أتباع هابيل.ذلك أن المسيحيين يؤمنون بقربان الكفارة، فلأن قربانهم لا يُقبل مثل قربان ،قابيل فإنهم يعادون محمدا رسول الله ﷺ والمسلمين انتقاماً منهم.وكما أن الله تعالى قال لقابيل: "إن لم تُحسن فعند الباب خطية رابضة، وإليك اشتياقها"، فإننا نرى المشهد نفسه في العالم المسيحي اليوم حيث كثرت الذنوب حتى تجاوزت كل الحدود.وباختصار، فإن التوراة أيضا تؤكد أنه كان بوسع الإنسان أن يصير صالحا بعد اقترافه الإثم أيضًا، وأن بذرة الإثم لم تُغرس في قلبه، بل كان الإثم يهاجمه من خارجه، وأن باب التوبة كان مفتوحا أمامه بعد ارتكاب الإثم، وأن إمكانية التغلب عليه كانت موجودة له، وأنه لم يكن قادرًا على التغلب على الإثم فحسب، بل على أن يصير من عباد الله المقبولين أيضًا.وبالتالي لم يكن ثمة شيء على الإطلاق يضطر إلى الكفارة كما يزعم المسيحيون.ولا يزال هناك سؤالان هامان بصدد الكفارة وهما لنفترض أنه لم يكن للخير وجود في الناس، فاقتضى الأمر فداء عن شرورهم ومعاصيهم، ولكن هل كانت هناك حاجة إلى ابن الله تعالى لهذه الكفارة؟ ثم هل كان المسيح اننا الله حقا؟ وللإجابة على السؤال الأول، نتوجه إلى كتاب المسيح الا نفسه.اعلم أن الكتاب المقدس يخبرنا أن أنبياء الله تعالى قد أتوا بشتى المعجزات والآيات، فكانوا يحيون الموتى، ويشفون المرضى، ويباركون في الطعام وما إلى ذلك (الملوك الثاني ه:

Page 86

الجزء الخامس ۷۹ سورة مريم ٣-١٤).ولكن المسيحيين يزعمون - أقول هنا "المسيحيين يزعمون" لأنهم يعزون إلى الإنجيل أموراً كثيرة من عند أنفسهم لا أثر لها فيه رغم تعرضه للتحريف والتغيير - أن الأنبياء لا يقدرون على مساعدة الإنسان على غفران ذنوبه.إنهم يقدرون على إحياء الموتى كما فعل إيلياء وأليشع (انظر الملوك الثاني ٤: ٣٥)، ولكن لا يستطيعون مساعدة الناس على غفران معاصيهم فاقتضى الأمر فداء من ابن الله تعالى !! تعالوا نر الآن: هل يؤيد الإنجيل هذه العقيدة؟ ورد في الإنجيل أن الناس جاءوا المسيح بمفلوج مطروح على السرير، فلما رآه قال: "ثق يا بني، مغفورةٌ لك خطاياك" فأخذت الناس حيرة من قوله هذا (انظر متى.(۳-۲۹ وهذا بالضبط ما تفعله المسيحية حيث تقول: كيف يمكن للإنسان أن يغفر خطأ غيره.ويقول الإنجيل بعد ذلك: "فعلم المسيح أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم.أيما أيسر : أن يقال مغفورة لك خطاياك ، أم أن يقال قُمْ وامش؟" (المرجع السابق: ٤-٥)..بمعنى أي الأمرين أسهل في رأيكم؟ لا شك أن الأسهل عند المسيحية هو أن يقال للمفلوج "قم وامش"، أما القول "مغفورة لك خطاياك"، فمستحيل عندها.ولكن الإنجيل يخبرنا أن المسيح قال لهم بعدها ولكن" لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قُمْ احمل فراشك واذهب إلى بيتك.فقام ومضى إلى بيته.فلما رأى الجموع تعجبوا ومتحدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا" (المرجع السابق: ٦-٨).إن هذا الحادث من الإنجيل يؤكد أن معجزة غفران الذنب وشفاء المفلوج الذي مشى فورا إلى البيت إنما أتى بها واحد من البشر وليس الله تعالى.ثم ورد في الإنجيل حادث امرأة زانية غفر لها المسيح ذنوبها مع أنها لم تكن مؤمنة به (انظر يوحنا ٨: ١-١١).

Page 87

1.سورة مريم الجزء الخامس وكان السؤال الثاني: إذا كان غفران الذنوب لا يتم إلا بكفارة ابن الله تعالى، فهل كان المسيح ابنا الله حقا؟ واعلم أن ليس عند المسيحيين أي دليل على كون المسيح ابنا الله تعالى حقاً إلا قول المسيح إنه ابن الله.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل كان المسيح بالفعل موصوفا بصفات الله وقدراته؟ فنحن عندما نقول، مثلا، إن الله موجود، فإننا نقدم أيضًا البراهين على وجوده، فنذكر شتى صفاته وقدراته التي لا توجد في الإنسان ولا في أي كائن آخر.ولكن المسيحيين لا يقدمون لنا ما يوجد في المسيح ولا يوجد في الأنبياء الآخرين كبرهان على ألوهيته.بل الحق أن التوراة قد ذكرت كثيرًا من الأمور التي توجد في الأنبياء الآخرين ولا توجد في المسيح، ولكنه بحث منفصل لسنا بصدده الآن.إن أساس المسيحية كله إنما هو قول المسيح إنه ابن الله.فما دام قال إنه ابن الله الله، فقد صار ابن الله ! ونحن نقول: صحيح أنه العلي قال عن نفسه إنه ابن ولكن علينا أن نرى هل استخدم هذا التعبير كمصطلح له معنى خاص، أم بمعناه الحرفي الشائع عند الناس كقولنا: إن هذا ابن زيد وذاك ابن عمرو وفلانا ابن خالد؟ وفيما يتعلق بقول المسيح ال عن نفسه إنه ابن الله فقد ورد في الإنجيل ما يلي: العلية لا "نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك.كلُّ شيء قد دفع إلي من أبي.وليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابنُ أن يعلن له" (متى ١١: ٢٦-٢٧).كما ورد في موضع آخر قوله: "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يوحنا ۳ : ۱۷).وفي هذا القول أيضًا سمى المسيح نفسه ابن الله، ولكنه قد قال هنا شيئًا يتعارض مع ما ورد في مثله الشهير باسم "مثل "الكرم" حيث قال: إنسان غرس كرْمًا، وسلّمه إلى كرّامين، وسافر زمانًا طويلاً.وفي الوقت أرسل إلى الكرامين عبدا لكي يعطوه من ثمر الكرم، فجلده الكرامون وأرسلوه فارغا.فعاد وأرسل عبدًا آخر، فجلدوا ذلك أيضًا وأهانوه وأرسلوه فارغا.ثم عاد فأرسل ثالثا، فجرحوا هذا أيضًا وأخرجوه.فقال صاحب الكرم: ماذا أفعل؟ أُرسل ابني الحبيب،

Page 88

الجزء الخامس ۸۱ سورة مريم لعلهم إذا رأوه يهابون.فلما رآه الكرامون تآمروا فيما بينهم قائلين: هذا هو الوارث، هلُمُّوا نقتله لكي يصير لنا الميراث.فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه.فماذا يفعل بهم صاحب الكرم؟ يأتي ويُهلك هؤلاء الكرامين، ويعطي الكرم لآخرين" (لوقا ٢٠: ٩-١٦).فإن هذا المثل يؤكد أن الابن إنما أُرسل ليقيم الحجة على هؤلاء ويعاقبهم إذ لم يؤدوا لأبيه ما عليهم من ثمر البستان ولكن الفقرة السالفة تتنافى مع هذا المثل إذ ورد فيها: "لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم".ثم ورد أن المسيح قال لتلاميذه: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى ۲۸: ۱۹).وهناك أماكن أخرى أيضاً ورد فيها قول المسيح الا إنه ابن الله، بل الابن الله الوحيد الله تعالى.ولكن ينبغي ألا يغيب عن البال أن المسيح نفسه قال أيضا، وفي أماكن كثيرة من الإنجيل، إنه ابن الإنسان.فلا يحق لنا أن نفضل دعوى لـه على دعوى أخرى، إنما علينا أن نثبت بالأدلة والبراهين لا بمجرد الظن والتخمين، أي القولين هو الصحيح، وأيهما الخطأ.نقرأ في الإنجيل قول المسيح ال "ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم" (متى.(۲۸ : ۲۰ وبالمناسبة فإن هذا ما أعلنه أيضًا مثيل المسيح أعني سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية - عليهما السلام - إذ قال باللغة الفارسية: منه أمر بهي ماد که ماموريــم خدمت مرا آئینه کمالات إسلام ص (٥٥ أي لا تقدّم لي الكرسي فإني مأمور بخدمة الإنسانية.فلأن الناس يقهرون الفقراء عمومًا على الخدمة ويصبّون عليهم أنواع الظلم، صرّح المسيح الله للناس عنه وقال إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم.ولا غرو أنه تعليم سام فيما يتعلق بالأخلاق، ولكن فيما يتعلق بماهية المسيح فثبت به أنه كان ابن الإنسان.

Page 89

الجزء الخامس ۸۲ سورة مريم " ثم قال المسيح ال: "وكما كانت الحالُ في زمن نُوحٍ، كذلك ستكُونُ عِنْد رُجُوعِ ابْنِ الإِنسان" (المرجع السابق ٢٤: ٣٧).وقال أيضًا: "في ساعة لا تظنون يأتي ابن "الإنسان" (المرجع السابق: ٤٤).أي أن بعثة المسيح الأولى كانت كإنسان، وستكون بعثته الثانية كإنسان أيضًا، ولكنه سيأتي في وقت لن يتوقع الناس مجيئه فيه.وفيه إشارة إلى أن الناس يعتبرون بعثة المسيح عبئًا وسيكذبونه كما حصل بالأنبياء الآخرين.وقال المسيح الا أيضًا: "اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابنُ الإنسان" (يوحنا ٦: (٢٧).أي أن الناس يسعون عموما للأشياء المادية من غذاء ولباس وما إلى ذلك، ولكن عليكم أن لا تسعوا للمتع المادية العابرة، وإنما للغذاء الروحاني الذي يهب الحياة الحقيقية، والذي يمدكم به ابنُ الإنسان المسيح.والغريب أنه بالرغم من تعليم المسيح هذا فإن أمته الدنيا، وأكثرها بعدا عن الروحانية.هي أكثر الأمم تكالبًا على وقال المسيح الله: "يا يهوذا ، أبقُبلة تسلّم ابن الإنسان" (لوقا ٢٢: ٤٨).وكان يهوذا هذا أحد تلاميذ المسيح الذي سلّمه لأعدائه نظير ثلاثين شاقلاً.كان المسيح يعيش بعد حادث الصليب مختبئا عن العدو، وكان هو وتلاميذه يلبسون ثيابًا متشابهة، وينقبون وجوههم كيلا يُعرف المسيح من بينهم (انظر يوحنا ٢١ ٤.وكان الأعداء يبحثون عنه، فأعطوا تلميذه يهوذا هذا ثلاثين شاقلاً كرشوة ليدلهم على المسيح.فقال للعدو: تعالوا معي حيث يجلسون معا، فسوف أتقدم والشخص الذي سأقبله هو المسيح.ولكن الله تعالى أخبر المسيح الليل بالوحي بغدر يهوذا وتآمره مع العدو، فلما جاء يهوذا بالشرطة، وتقدم ليقبله قال له المسيح: "يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن الإنسان".فثبت بكل هذه الأقوال للمسيح الله نفسه أنه كان إنسانًا عند بعثته الأولى، وسيكون إنسانًا لدى بعثته الثانية، وأنه كان إنسانًا حين علّق على الصليب.وما دام المسيح الله نفسه يعترف بكونه إنسانًا فكيف جاز للمسيحيين أن يفسروا

Page 90

الجزء الخامس ۸۳ سورة مريم كان كلمة "ابن الله" بما يخالف التوراة والإنجيل كليهما ؟ فإما أن يقولوا أن المسيح - معاذ الله - مجنونا حيث قال تارة إنه ابن الله وأخرى إنه ابن الإنسان؛ أو نحاول إيجاد حل لهذه المعضلة، فنقول إن أحد التعبيرين حقيقة والآخر استعارة، وإذا عرفنا أيهما حقيقة وأيهما مجاز لتوصلنا إلى النتيجة الصحيحة.فلو ثبت أن كلمة "ابن الإنسان" مجاز، لكان المسيح ابنا الله حقيقةً، وأما لو ثبت أن تعبير "ابن الله" مجاز لتبين أن حكاية كون المسيح ابن الله" التي يبني عليها المسيحيون كفارتهم لحكاية باطلة تماما.وحينما ندرس الإنجيل من هذا المنظور نجد المسيح لا يقول: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى ٥: ٩).فالمسيح ال قد أطلق هنا تسمية "أبناء الله" على أناس غيره أيضًا، فثبت بذلك أن أحدًا إذا سُمي ابنا الله فلا يصبح ابنا الله حقيقة، وإلا فإن كل صانعي السلام يمكن أن يدعوا أنهم أبناء الله ،حقا، وأنهم يصلحون لأن يكونوا كفارة وفداء لذنوب الناس.بيد أن هذه العبارة لا تؤكد وجود أبناء الله سوى المسيح فحسب، ولا تؤكد بطلان الكفارة المزعومة فحسب، بل تكشف لنا أمرًا آخر أيضًا، وإليك بيانه.لقد بين المسيح الهنا السبب الذي جعل هؤلاء أبناء لله تعالى.فلو أنه لم يبين السبب لاختلف الناس في بيان السبب والحكمة وراء تسميتهم.فقال المسيح العلي إن الذي ينشر الصلح والسلام هو إنسان مبارك، لأن نشر السلام يجعل الإنسان ابنا لله تعالى؛ وكأنه الله جعل الصلح والسلام شرطًا ليصبح أحد ابنا الله تعالى.ولكن هذا الأمر نفسه يكشف لنا أن المسيح لم يكن ابنا لله تعالى، لعدم توفر هذا الشرط فيه.والدليل على ذلك هو قوله: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض.ما جئت لألقي سلاما بل سيفا" (متى ٣٤:١٠).وهذا يعني أن إنجيل "متى" يسجل في مكان قول المسيح إن الإنسان إذا نشر السلام بين الناس استحق أن يسمى ابنا الله تعالى، بينما يعلن الإنجيل نفسه في

Page 91

الجزء الخامس ٨٤ سورة مريم موضع آخر اعتراف المسيح أن هذه الصفة لم توجد فيه، فثبت أنه لا يمكن أن ابنا لله تعالى.فلربما سمي "ابن الله" لسبب آخر بسيط.يسمى وثمة قول آخر للمسيح قد سمى فيه أناسًا آخرين "آلهة" أو "أبناء الله"، مبينًا أنه ليس ابن الله حقيقة.حيث ورد في الإنجيل أن المسيح قال لليهود: "الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم.خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني.وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تملك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي.أنا والآب واحد".(لقد ظن اليهود بقول المسيح هذا أنه يدعي الألوهية) "فتناول اليهود أيضًا حجارة ليرجُموه.أجابهم يسوع: أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي، بسبب أي عمل منها ترجُمونني؟" (أي أني آمر الناس بالبر، فهل ترجمونني بسبب ذلك؟ إني أدعوهم إلى الحلم والعفو والرحم، فهل تريدون رجمي لهذا السبب؟ إني أعظهم أن يحبّوا الله ويخافوه، فهل ترشقونني من جراء هذا؟ إني أخدم الإنسانية وأنصح الآخرين بخدمة الفقراء، فهل ترجمونني لهذه الجريمة؟ لقد قمت بأعمال حسنة كثيرة أمرني الله بها، فما جنايتي التي بسببها تريدون أن ترجمون؟ "أجابه اليهود قائلين: لسنا نرجُمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تحديف، فإنك، وأنت إنسان، تجعل نفسك إلها؟ أجابهم يسوع: أليس مكتوبًا في ناموسكم "أنا قلت: إنكم آلهة"؟" هي (أي أليس مكتوبًا في التوراة أن الله تعالى قد سمى عباده "أبناء الله"؟) "إن قال "آلهة" لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله - ولا يمكن أن يُنقض المكتوب - فالذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تحدف لأني قلت : إني ابن الله؟"

Page 92

الجزء الخامس ٨٥ سورة مريم (أي لقد أطلق في التوراة اسم "آلهة عليكم، ومع ذلك لم تصيروا آلهة في الحقيقة، و لم تصبحوا كافرين بسبب ذلك، حيث قلتم إنها استعارة ومجاز فحسب، ولكن حين أطلق الله علي اسم "ابن الله" الله" قلتم إنى كافر! إذا كان السابقون لم يصبحوا كافرين رغم تسميتهم بالآلهة فلم تستشيطون غضبا وتسموننى كافرًا لورود اسم "ابن الله" في حقي؟ وتتهموني بادعاء الألوهية بسببه، وتريدون أن ترجمون.فترى أن المسيح ال يعترف هنا صراحة أن اسم "ابن الله" الوارد في حقه في الكتاب المقدس لا يعنى أنه ابن الله تعالى حقيقة "إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا أن الآب في وأنا فيه.فطلبوا أيضًا أن يمسكوه، فخرج من أيديهم" (يوحنا ١٠: ٢٥-٣٩).أي ما الفائدة من النزاع اللفظي؟ عليكم أن تروا أعمالي، فهل هي الموحدين أم أعمال المشركين؟ فإذا كانت أعمالي كلها تكشف توحيد الله وجلاله أعمال وجب عليكم تفسير كلمة "ابن الله" الوارد في الوحي في حقي على ضوء أعمالي.لقد اتضح من هذا أن المسيح الله قد بين بنفسه المراد من قوله إني "ابن الله"، فقال إنني لا أعني بذلك أنني إله بالفعل، بل أسمي نفسي ابن الله على سبيل الاستعارة، تماما كما سُمي بعض الأولين في التوراة آلهة على سبيل الاستعارة، إذ لم يكونوا آلهة في الحقيقة عندكم.والعبارة التي يشير إليها المسيح اللي هنا الواردة في التوراة شرع اليهود نجدها في الزبور كالآتي: "الله قائم في مجمع الله في وسط الآلهة يقضي.حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار.سلاه اقضُوا للذليل ولليتيم.أنصفوا المسكين والبائس.نجوا المسكين والفقير.من يد الأشرار أنقذوا لا يعلمون ولا يفهمون.في الظلمة يتمشون.تتزعزع كل أسس الأرض.أنا قلت: إنكم آلهة وبنو العلى كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقُطون.قُمْ يا الله، دن الأرض، لأنك أنت تمتلك كل الأمم" (المزامير ۸۲: ١-٨).

Page 93

الجزء الخامس ٨٦ سورة مريم فقول داود الله : " في وسط الآلهة يقضي" معناه أن المؤمنين آلهة ويقضي الله بين هؤلاء الآلهة.أما قوله: "قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" فواضح تمام الوضوح، حيث يعلن داود ال لبني إسرائيل أنهم كلهم آلهة وأبناء الله العلي، ولكنه يذكرهم أيضًا أنه بالرغم من تسميته إياهم "آلهة وأبناء الله" فإنهم يموتون كما يموت البشر، لأنهم ليسوا آلهة في الواقع ولا أبناء الله في الحقيقة.أي أنهم لن ينجوا من الموت، ولكن حي لا يموت أبدا.وإنما سُمّوا "آلهة" أحيانًا وأبناء الله" في أحيان أخرى لكي يُنصفوا في الأرض مثل الله تعالى وينفّذوا أوامره في الدنيا، فإذا فعلوا ذلك صاروا مظهرًا الله تعالى.الله وحي ومن الناس من يرون أن الوحي والإلهام ليس إلا ما يجول بقلوب الأنبياء من خواطر وأفكار، وهؤلاء يطلقون على هذا السِّفر زبور داود" معتبرين إياه بنات أفكاره فحسب، ولكنا نحن المسلمين نؤمن، وفق تعليم القرآن، بأن الزبور من الله تعالى، وأنه تعالى هو الذي قال لداود ال إن بني إسرائيل آلهة وأبناء الله تعالى.ولكنه عاد وأوضح لهم الأمر وقال: لا تظنوا أن هذه التسمية حقيقية، بل ستموتون كما يموت البشر، وستأكلون كما يأكل البشر، وستلبسون كما يلبس البشر.لقد سماكم الله آلهة وأبناء له لكي تصلحوا أعمالكم على ضوء هذا اللقب، فتسعوا للتحلي بصفات الله تعالى، وتدعوا الناس إلى العمل بوصاياه تعالى، وتنصفوا الفقراء، وتساعدوا الضعفاء، وترحموا المساكين، وتعفوا عن المسيئين.إن المسيحيين يخدعون عامة الناس بقولهم إن المسيح قد سمي إلها أو ابن الله بالمعنى الحقيقي، ولكن هذه الفقرة من إنجيل يوحنا توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن المسيح قد سمى نفسه ابن الله بالمعنى الذي سمي به داود ال بني إسرائيل "آلهة" و "أبناء الله"، وكما سمي كثير غيرهم آلهة وأبناء الله في التوراة، وإلا لبطل استدلال المسيح المذكور هنا.إذ يقول المسيح لليهود : لا جرم أني أسمي نفسي ابنا الله تعالى، ولكن هذا لا يعني أني ادعيت الألوهية، إذ قد سمي الأولون أيضا آلهة وأبناء الله.أما القول أن المسيح يدعي بذلك أنه ابن الله حقيقة فهو مردود لأنه يُبطل استدلال

Page 94

الجزء الخامس المسيح ۸۷ سورة مريم هذا؛ إذ كان بإمكان اليهود أن يقولوا له إن الأولين قد سموا آلهة وأبناء الله على سبيل الاستعارة، ولكنك تسمي نفسك ابن الله حقيقة، ولكن المسيح يقدم لهم هذه العبارة من الزبور وهذا يكشف بكل جلاء أنه يعترف هنا بأنه لا يسمي نفسه ابن الله إلا بالمعنى الذي سُمّي به الأولون آلهة وأبناء الله تعالى.وإذا كان المسيح ابن الله بالمعنى الذي كان به الأولون آلهة وأبناء الله تعالى للزم أن يكون هؤلاء الأنبياء السابقون من بني إسرائيل صالحين للكفارة تماما كما يصلح لها المسيح عند النصارى، وإذا كان أولئك الأنبياء لا يستحقون ذلك فلا يستحقه المسيح أيضًا، لأن أساس الكفارة إنما هو على كون المسيح ابن الله، ولكن الواقع أن لا خصوصية للمسيح في ذلك، كما أثبتُ من قبل، فهناك مئات الأنبياء وملايين المؤمنين الذين سُمّوا أبناء الله تعالى في التوراة.إلى هنا أكون قد سُقتُ البراهين من التوراة على بطلان زعم المسيحيين أن المسيح الله نفسه قد ادعى أنه ابن الله، فصار كفارة عن ذنوب البشر، حيث أثبت من التوراة أنه اللي كان ابن الله بالمعنى الذي كان الأولون به أبناء الله تعالى.والآن ندرس الأمر من منظور آخر متجهين إلى قوله الثاني إني ابن الإنسان، لنرى أي الأمرين حقيقة كونه الي ابن الله أم كونه ابن الإنسان؟ ونرجع من أجل ذلك إلى كلام المسيح نفسه ثانية؟ اعلم أن أحدا إذا قال إنه ابن الله فادعاؤه هذا قد يكون استعارة وقد يكون حقيقة، ولأن كلا الاحتمالين ،وارد، فلا بد لنا من إيجاد حل للوصول إلى الحقيقة.فمثلا لو قلت لأحد صبيانك مشيرًا إلى بعض زوّارك الشجعان: إنه أسد، ثم زرت حديقة الحيوانات وقلت للصبي مشيرًا إلى الحيوان المعروف بهذا الاسم: إنه أسد، فكيف يعرف الصبي أيهما أسد في الحقيقة وأيهما أسد على سبيل الاستعارة؟ يجب أن تكون هناك علامة مميزة لمعرفة ذلك.والعلامة المميزة هي أن الصبي يقرأ ويرى في كتابه للتاريخ الطبيعي أن للأسد براثن وذنبا ووجها كبيرًا وشكلاً مخيفا، وعندما تقول له عن شخص شجاع إنه أسد يدرك الصبي على الفور أن هذا استعارة إذ لا يرى لهذا الشخص ذنبًا ولا براثن ولا وجهًا كوجه الأسد، بل يجد

Page 95

الجزء الخامس ۸۸ سورة مريم أيديه ومع وجهه كوجوه الآدميين.وعندما تقول له في حديقة الحيوانات: هذا أسد يدرك الصبي أنك تعني بذلك الحيوان المعروف الذي رأى صورته في كتابه.وبالمثل حينما نقول عن أحد إنه ابن الله فكيف يدرك السامع هل قولنا هذا حقيقة أم استعارة.ينبغي أن تكون هناك علامة مميزة لذلك حتى لا يساء الفهم.فمثلاً قال الله تعالى في القرآن الكريم لنبينا محمد : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق (الفتح: ۱۱)، والحقيقة أن اليد التي كانت فوق أيديهم هي يد النبي ﷺ ، لا يد الله الله ذلك لا نقول أن نبينا الله إله.لماذا؟ لأنه لا توجد فيه صفات الله التي ذكرها القرآن في مواضع أخرى مثلاً يقول الله تعالى عن نفسه إنه لا يأكل ولا يشرب، ولكن النبي هل كان يأكل ويشرب؛ ويقول الله عن نفسه إنه لا تأخذه سنة ولا نوم ، ولكن النبي ﷺ كان بحاجة إلى السنة وإلى النوم؛ ويقول الله تعالى عن نفسه إنه لم تكن له صاحبة ، ولكن النبي ﷺ كانت لـه تسع أزواج.فالصفات التي توجد في الله لا توجد في النبي ، وأما الصفات التي تنـــزه الله عنها فهي موجودة في النبي ، ومن أجل ذلك لما قال الله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم أدركنا على الفور أنه استعارة، ولم نقل إن النبي لا إله في الحقيقة بل هو بشر، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين في العالم، ما عدا بعض الجهال منهم.فقد زارني أحد الإخوة قبل فترة، وكان يقرأ القرآن قراءة واضحة جدا رغم كونه أميًّا.فلما سألته عن سبب ذلك قال: هذا بفضل صحبة الشخص الأحمدي الذي كان سببا في انضمامه إلى جماعتنا، فكان يتقن قراءة القرآن بشكل رائع.ثم أخبرني هذا الأخ الجديد: كنت ذات مرة في زيارة بعض أقاربي غير الأحمديين، فقلت لهم أثناء النقاش: انظروا فإن النبي نفسه يعلن إنما أنا بشر مثلكم (فصلت: ( فثاروا كلهم وقالوا لولا أنك من أقاربنا لفعلنا بك كذا وكذا، فالأفضل لك أن ترحل من عندنا على الفور بدون أن تتفوه بكلمة أخرى، فإننا لم نسمع أبدًا من قبل أن محمدا رسول الله ﷺ بشر.إذن فثمة بعض الجهلاء من المسلمين الذين يعتقدون بهذا، ولكن العقلاء يؤمنون

Page 96

الجزء الخامس ۸۹ سورة مريم بأن محمدا رسول الله الله هو أفضل البشر، وسيد الرسل، الله عل، ولكنه بشر على كل حال.فإذا قال المسيح اللي "إني ابن الله"، فعلينا أن نفحص هل كان هو نفسه قد ادعى بما يعزوه المسيحيون إليه أم لم يدع؟ عندما يُسأل المسيحيون عن الأمور المادية الصادرة عن المسيح من أكل وشرب يقولون: إنه أكل وشرب لأنه قد أُرسل إلى الدنيا بجسم إنساني.وإنا لا نخوض هنا في النقاش حول أكله وشربه، ولكنا نقول: لا بد للمسيح – إذا كان إلها – أن يتصف على الأقل بما يتصف به الله تعالى من الأمور الروحانية، إذ لا يمكن أن يخلو الإله بعد مجيئه إلى الدنيا من الكمالات الروحانية التي لا بد من وجودها فيه بصفته إلها.ولكنا نقرأ عن المسيح في الإنجيل: "وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا لـه وسأله: أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال لـه ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله" (مرقس ۱۰: ۱۷-۱۸).يسوع: لماذا تدعوني صالحا؟ إن أول صفة الله هي كونه صالحا لأن صاحب العيب لا يمكن أن يكون إلها، ولكن هذه الصفة الإلهية الأولى أيضا لا توجد في المسيح، بل أنكر وجودها فيه ليس = أحد صالحا إلا واحد، وهو الله".بقوله: "لماذا تدعوني صالحا؟ وبالمناسبة، فإني أنبه الإخوة أن المسيحيين قد حرفوا بعض الفقرات في الإنجيل ومنها هذه الفقرة، إذ جعلوا العبارة الآن كالآتي: "لماذا تسألني عن الصلاح" بدل "لماذا تدعوني صالحا" * (انظر متی ۱۹: ۱۷ من الطبعة الأردية.وذلك بعد ما اعترض عليهم سيدنا المسيح الموعود اللة وقال : تزعمون أن المسيح صار كفارة لأنه ابن الله، مع أن قوله هذا يدل صراحة على أنه لم يكن إلا إذ ينكر كونه صالحًا، وإذا لم يكن كذلك فكيف صار كفارة فقوله هذا يبطل الكفارة من ناحية، ومن ناحية * علما أن هذه العبارة لا تزال كما هي أيضًا في الطبعة العربية التي اقتبسنا منها (المترجم).

Page 97

الجزء الخامس ۹۰ سورة مريم أخرى يؤكد التوحيد (جنگ مقدس ص ١٣٦).فما كان من المسيحيين، بعد سماع هذا الاعتراض إلا أن حرفوا هذه العبارة من إنجيل متى.مع أن هذه الكلمات موجودة في جميع الطبعات القديمة بالإنجليزية واليونانية والألمانية وغيرها، وكذلك الطبعات الأردية الصادرة قبل عام ١٩١٠.وهناك سبعة أو ثمانية عشر مكانًا في الكتاب المقدس حرفوا فيها العبارات نتيجة نقد سيدنا المسيح الموعود اللي لكتابهم.* إن قول المسيح هذا يؤكد أمرين: أولهما أن الله تعالى يتصف بالصلاح لأنه لا يمكن أن يكون إلها بدون الصلاح.والثاني أنه ليس وبالتالي ليس إلها.صالحا، ثم ورد في الإنجيل قول المسيح الا وهو يتحدث عن بعثته الثانية: "فمن شجرة التين تعلموا المثل.متى صار غصنُها رَحْصًا وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب.هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريب على الأبواب.الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول.وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده" (متى ٣٢٢٤-٣٦).والظاهر من قول المسيح الل هذا أنه ينكر كونه عالما للغيب، مع أن من صفات الله تعالى أنه عالم الغيب.فإنكاره بأنه لا يعلم الغيب ولا أخبار المستقبل هو بمنزلة اعتراف منه أن قوله "أنا ابن الله" ليس حقيقة، بل استعارة..ويعني فقط أنه حبيب الله تعالى.هذا، وقد ركز الإنجيل على كلمة "الإله الواحد أيضًا، فقد ورد فيه قول المسيح ال: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه" (يوحنا ٥: ٤٤).فترون أن المسيحية تقدم لنا الثالوث، ولكن المسيح اللي يستخدم هنا صراحة تعبير "الإله الواحد".راجع ملحق "صور لبعض المراجع النادرة".(المترجم)

Page 98

الجزء الخامس ۹۱ سورة مريم كذلك ورد في الإنجيل قوله الي: "وهذه الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته" (المرجع السابق (۱۷: ۳ كان من الممكن أن يقول المسيحيون إنا نعني بالإله الواحد مجموعة الأقانيم الثلاثة : الإله الآب والإله الابن والإله الروح القدس، لأن الواحد عندنا ثلاثة، والثلاثة واحد ولكن هذه الفقرة من يوحنا :١٧: ٣ تبطل تفسيرهم التافه هذا، إذ لم يذكر المسيح اللي هنا نفسه ضمن مصطلح "الإله الواحد" وإنما ذكر نفسه على حدة.ولو كان هو أيضًا إذًا لما ذكر نفسه منفصلاً عن الإله الواحد.فثبت أن الإله الواحد هو غير المسيح، وهذا هو التوحيد، أي أن لا يُشرَك مع الإله الواحد أحدٌ، لا الابن ولا الروح القدس ولا أي شيء آخر.إن هذه الفقرة أيضًا تثبت أن كلمة "ابن "الله" الواردة في حق المسيح إنما هي استعارة فقط، ولا تعني أبدا أن المسيح شريك مع الله في ألوهيته، بل ما هي إلا تعبير عن الحب، شأنها شأن قول الأم لولدها إنك فلذة كبدي، إنك مهجتي، إنك قرة عيني، فمن ذا الذي يحمل قولها هذا محمل الحقيقة؟ وهل يدفنون الولد معها عند وفاتها بحجة أنه في الواقع كبدها وقلبها وعينها وليس طفلاً.هل هناك أحد ارتكب هذه الحماقة؟ وأحيانًا يرى الواحد منا طفلاً لقريب أو صديق له، فيقول له: يا بُنَيَّ؛ فهل، يحق لهذا الطفل أن يدعى بكونه وارثا له، ويقول: لقد سميتني ابنا لك، وكل هؤلاء القوم شهود على ذلك؟ كلا، إن الجميع يعرفون أنها كلمات وشفقة فحسب.فإذا كان للناس الحق أن يتكلموا بمثل هذا الكلام، فإن الله تعالى أيضا كل الحق أن يكلم عباده الأخيار بكلام مماثل تعبيرا عن حبه لهم وعطفه عليهم، فيقول لبعضهم: إنك ابني، كما قال للمسيح وغيره من الأنبياء الكثيرين.فقوله تعالى "إنه أن الله لم يعد إلها واحدا، بل صار هناك – معاذ الله – إلهان أو ثلاثة.ابني" لا يعني فثبت من هذه العبارات أيضا أن المسيح سمي الحقيقة."ابن الله" على سبيل الاستعارة لا

Page 99

الجزء الخامس ۹۲ سورة مريم هذا، ويعتقد المسيحيون أنه لم يكن للمسيح الإله الابن جسد كما ليس للإله الأب ولا للإله الروح القدس جسد (يوحنا ١: ١٤)، ولكنه لما جاء إلى العالم ليصلب كفارةً عن ذنوب الناس تجسد.وبتعبير آخر، إن السبب الوحيد لتجسد المسيح هو أن يُصلب من أجل ذنوب الناس ويموت مرة، لأن الموت نتيجة الإثم؛ فما دام قد حمل ذنوبهم فلا بد أن يموت مرة واحدة، وبموته أُنجزت واكتملت خطة التكفير عن ذنوب العالم.لو كان هذا الادعاء صحيحًا للزم أن لا يكون للمسيح جسد حين عاد إلى الحياة، فإن الهدف الإلهي قد تحقق، وتم غفران ذنوب النوع الإنساني، ولم يعد هناك حاجة لتجسد الإله الابن، بل ينبغي أن يصبح بلا عيب مثل الإله الأب.ولكن الإنجيل يخبرنا أن المسيح حين عاد إلى الحياة – في رأيهم – بعد حادث الصلب كان له جسد، وأنه بجسده صعد إلى السماء، وفي روايات أخرى أنه بجسده صعد إلى * قمة جبل وغاب.وهذا يعني أنه خرج من القبر بجسده، وليس هذا فحسب بل صعد إلى السماء أنه ما كان بحاجة إلى أي جسد.وهكذا فإن صرح ألوهية المسيح يتهدم وينهار، إذ ثبت أن هذا الذي كان عند المسيحيين إلها متساويًا الأب لا يزال حتى اليوم جالسًا في السماء مقيدا في الجسد.أيضًا بجسده، مع کله مع منه الإله أنه ثم لا يخبرنا الإنجيل هل سيُطلق المسيح من قيد الجسد أم لا، بل يتضح عند نزوله الثاني أيضًا سينزل بجسده، حيث ورد: "وحينئذ يبصرون ابن الإنسان آتيا في سحاب بقوة كثيرة ومجد" (مرقس ١٣: ٢٦).علما أن المراد من مجيئه في سحاب هو أن الناس لن يفهموا دعواه بسهولة، بل ستثار ضدها شتى الشكوك والشبهات.إن هذه الفقرة تقول صراحة إن الناس سيرون المسيح نازلاً من السماء في الجسد لدى نزوله الثاني ،أيضًا، والبديهى أنه لن يموت ثانية إذ قد ذاق الموت لدى مجيئه * انظر مرقس ۲۰: ۱۹-۲۰ ، ولوقا ٢٤ : ٥٠-٥٢ ، وقاموس الكتاب (أردو): "عنيا".(المترجم)

Page 100

الجزء الخامس ۹۳ سورة مريم الأول من أجل الكفارة التي قد تمت وانتهت، ولا مجال لموته ثانية.إذن فإما أن يعترف المسيحيون أن المسيح سيبقى مقيدا في سجن الجسد إلى الأبد، ولن يطلق سراحه مطلقًا، وإما أن يعترفوا ببطلان النظرية التى قدموها للعالم بصدد تجسد المسيح.إذ لو كانت تلك النظرية صحيحة لوجب تحرر المسيح من قيد الجسد بعد حادث الصلب، ولكن الإنجيل يقول إنه عاد إلى الحياة بجسده هذا، وصعد إلى السماء بجسده أيضًا.هذا، ويدعي المسيحيون أن المسيح صار كفارة، ولكن إثبات هذه الدعوى يتطلب منهم الرد على سؤال هام هو: هل كان المسيح راضيًا بهذه الكفارة؟ إن دليلهم الوحيد على الكفارة هو قولهم أن الله تعالى لا يستطيع أن يغفر للناس ذنوبهم، فعاقب المسيح كفارةً عن ذنوبهم.إنهم يقولون إذا كان على زيد دين، ورضي بكر بأداء دينه نيابة عنه، فقد سقط الدين عن زيد.لقد صار الناس مدينين لله تعالى نتيجة ذنوبهم، وكان الله غير قادر على غفران ذنوبهم لأنه عادل - علما أن العدل عندهم يقتضي معاقبة الآثم في كل حال - فحل المعضلة بأن أخذ من ابنه هذا الدين نيابة عن الناس.ولكنا نقول: إن الإثم ليس كالمال وإنما مثله كمثل السرطان.فإذا قال آلاف الناس لمريض السرطان لست أنت المصاب بالسرطان بل نحن المصابون به ونحن نتحمل آلامه نيابة عنك، فلن ينفعه قولهم شيئا.وثمة أشياء كثيرة لا بديل لها ولا كفارة لها، وإن الإثم أحد هذه الأشياء.ورغم هذه الحقيقة نفترض أن ما يقوله النصارى صحيح وأن الإثم يمكن أن يُدفَع له عوض وكفارة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يجوز لنا أن نسلب شخصا ماله لنؤدي به دين غيره؟ صحيح أن زيدًا لو أراد طوعًا أن يدفع الدين الواجب على بكر فله أن يفعل ذلك، ولكن لو أخذنا من زيد ماله قهراً لنسدد به دين بكر فلن نكون عادلين أبدا، بل سنظلم ظلما عظيمًا.إنه ليس عدلاً لأننا لم نأخذ المال من الذي عليه الدين، وإنه ظلم لأننا سلبنا شخصاً آخر ماله قهراً.فلو ثبت أن المسيح ال كان راضيا عن أن يؤدي دين ذنوب الناس نيابة عنهم، كما ثبتت القضايا الأخرى أيضا، لثبت أنه صار

Page 101

الجزء الخامس ٩٤ سورة مريم كفارةً، ولكن المسيحيين إذا لم يستطيعوا أن يثبتوا رضى المسيح عن حمل ذنوب الناس، لسقط بناء الكفارة كلها، وإن أثبتوا القضايا الأخرى التي سبق أن أثبت بطلانها في الصفحات الماضية، لأن الذي قدموه للكفارة قد أُرغم عليها إرغاما.هلموا نر ماذا يقول الإنجيل بهذا الصدد.لقد جاء في الإنجيل عن المسيح ال: "وجاءوا إلى ضيعة اسمها جَثْسَيماني، فقال لتلاميذه: اجلسوا ههنا حتى أصلي.ثم أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وابتدأ يدهش ويكتئب.أي أخذ المسيح الا معه للدعاء ثلاثة فقط من تلاميذه).فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت.امكثوا هنا واسهروا.(أي أن المسيح قد ابتعد عن هؤلاء الثلاثة أيضًا حتى لا يأخذه الخجل من وجودهم وهو يبكي ويبتهل خلال الدعاء).ثم تقدم قليلا وخرّ على الأرض، وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن (يعني كان يدعو أن لا يتمكن العدو من صلبه الذي كان من المفروض أن يحمل عن طريقه ذنوب جميع الناس.وقال يا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس.هذا يعني بكل جلاء أنه كان يُرغم على الصلب إرغاما، و لم يكن راضيًا بأن يُصلب).ولكن وليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت.(يعني أنني لا أريد أن أصلب لأكون كفارة، ولكنك تريد صلبي، فماذا أفعل أمام إرادتك.وكأنه تعالى كان يُكرهه على ما لا يريد.ومثله كمثل صاحب مصرف لا يأخذ ماله من المستدين، بل يسلب أحدًا من الناس في السوق ماله، ويظن أن قد تم سداده.ثم جاء ووجدهم نياما، فقال لبطرس يا سمعان، أنت نائم؟ علما أن اسمه الحقيقي سمعان، أما بطرس فهو لقبه ومعناه "الصخرة"، وقد أطلقه عليه المسيح (مرقس ٣: ١٦)، تفاؤلاً منه أنه سيكون بمنزلة الصخرة لصالح المسيحية).أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة.أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف.(أي لأن الله يريد أن أصلب فقلبي لا يخاف، ولكن جسمي يشعر بالضعف لكوني بشرًا).ومضى أيضًا وصلّى قائلاً ذلك الكلام بعينه (أي أنه قال مرة أخرى يا رب أنا لا أريد أن أصلب، ولكن إذا كانت هذه إرادتك فلا اعتراض عندي).ثم رجع ووجدهم أيضًا نياما إذ كانت أعينهم ثقيلة، دينه

Page 102

الجزء الخامس ۹۵ سورة مريم فلم يعلموا بماذا يجيبونه.وهذا يعني أن المسيح كان يأتيهم في قلق وفزع مرة بعد أخرى، لكي يعرف هل يساعده حواريوه في ساعة العسرة تلك، ولكنه في كل مرة كان يجدهم نائمين ثم جاء ثالثة وقال لهم: ناموا الآن واستريحوا يكفي.قد أتت الساعة.هوذا ابن الإنسان يسلَّم إلى أيدي الخطاة.قوموا لنذهب.هوذا الذي يسلّمني قد اقترب" (مرقس ١٤: ٣٢-٤٢).لقد أكدت هذه العبارة أن المسيح لن يصبح كفارة عن طيب نفس، بل كان يريد أن تعبر عنه هذه الكأس بطريق أو بآخر.إذن فكل العملية تمت قسرًا وقهراً.والشهادة الثانية بهذا الصدد هي من إنجيل لوقا الذي يقول: " وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه.ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة وانفصل عنهم نحو رمية حجرة، وجثا على ركبتيه وصلى قائلا: إن شئت أن تجيز عنى هذه الكأس، ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك.وهذا يعني أن هذا الإنجيل أيضًا يؤكد أن المسيح قال الله تعالى إنني لا أريد أن أصلب، ولكن إذا كنت تريد صلبي فأنا راض.وبتعبير آخر، أنا لا أريد تسديد دين الآخرين، ولكن إذا كنت تريد سلبي فماذا أفعل؟) وظهر ملاك من السماء يقويه انظروا فإن الملاك يقوي الرب وهذا كأن يساعد الحصان فأر بل ما دونه من الحيوانات والحشرات.وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد الحاجة، وصار عرفه كقطرات دم نازلة على الأرض.وهذا بالرغم أن تلك الأيام كانت أيام برد قارس، إذ كان الشهر شهر ديسمبر/ كانون الأول، والمكان في الشمال وعلى أحد الجبال.ولكن الحزن كان مستوليا على المسيح بحيث أخذت قطرات العرق تتساقط منه لشدة إلحاحه وابتهاله في الدعاء.ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياما من الحزن.علمًا) أن لوقا يخفي هنا الحق ويقول أمرًا عجيبا، بينما سجل مرقس الأمر الواقع صراحة إذ قال إن المسيح كان يرجع إلى تلاميذه مرة بعد أخرى لشدة الحزن فيجدهم نياما، فيقول لهم قوموا وصلوا، ولكنهم مع ذلك لم يستيقظوا ولكن لوقا خاف شماتة الأعداء، وفكر في نفسه ماذا سيقول الناس عن تلاميذ المسيح أنهم لم يستيقظوا من أجله في ذلك الوقت العصيب

Page 103

الجزء الخامس ٩٦ سورة مريم أيضًا رغم إيقاظه إياهم مرة بعد أخرى، فقال إن المسيح "وجدهم نياما لشدة الحزن." وكأن الإنسان - عند لوقا – ينام وقت الحزن ويستيقظ ويصلي ويدعو عندما لا يكون في حزن ولا فزع؟ فقال لهم: لماذا أنتم نيام؟ قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في "تجربة" (لوقا ٢٢ ٣٩-٤٦) لقد اتضح من هذه الفقرة أيضًا أن المسيح لم يرد أن يُصلب، في حين أن كفارتهم إنما أساسها كله على زعمهم أن المسيح صلب برغبته، فما دام المسيح لم يُصلب برغبته فكيف صار كفارة؟ يقول المسيحيون أحيانًا: ليس هناك من جبر ،وإكراه، لأن المسيح نفسه قال: "ولكن لتكُنْ لا إرادتي بل إرادتك".ولكنا نقول : صحيح أن المسيح لما رأى أن الله يريد صلبه في كل حال قال "ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك"، إذ لا يُتوقع من نبي أن يرفض شيئا يريده الله تعالى؛ ولكن ألا يدل هذا أن المسيح لم يقدم الكفارة برغبته هو، والكفارة لا تصح برغبة الله، وإنما تصح إذا تمت برغبة من يصبح كفارة.ولكن المسيح اللي قال صراحة إني لا أريد أن أكون كفارة، وإن كان رضي بها فيما بعد، حين لم يجد من ذلك بدا.فكان مثله كمثل مسافر يحاصره الصعاليك في فلاة، فيضع ماله في أيديهم ضاحكًا، لأنه يعرف أنه لو رفض قتل؛ ولكن هذا لا يعني أبدًا أنه أعطاهم ماله برضاه ورغبته فلا نقاش في أن الله تعالى أرغم المسيح على الصلب، وإنما السؤال هل تم الصلب بإرادة المسيح نفسه أم لا؟ إذا كان الصلب قد تم بإرادته اللي فقد صار كفارة وإلا فلا.ولكن الفقرات المسجلة أعلاه تكشف بكل جلاء أن المسيح لم يرد أن يُصلب، إذن فكل العملية قمت بالجبر والإكراه وهذا يبطل الكفارة تماماً.يقول بعض النصارى أن هذه الحالة للمسيح كانت مؤقتة وقد زالت فيما بعد.ولكي نعرف صدق هذا الادعاء أو كذبه نتوجه إلى الإنجيل نفسه لنرى حالة المسيح وقت الصلب.لقد حفظت جميع الأناجيل جملة واحدة للمسيح بالعبرانية صرخ بها لربه صرخة أليمة حين عُلّق، ودقت المسامير في أيديه وأرجله، ألا وهي:

Page 104

الجزء الخامس ۹۷ سورة مريم "إيلي إيلي لما شبقتني متى :۲۷ (٤٦ أي إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ فما هي خطيئتي التي من جرائها تخليت عني ولا تنظر إلي برحمة وتحنن.إن ادعاءه هذا أيضًا يبين بوضوح أنه لم يُصلب برغبته، بل قد ظن في وقته الأخير أيضًا أن الله قد خذله وألقاه في المحنة؛ وهذا يعني أنه لم يكن راضيا بالصلب.وحيث إنه لم يكن راضيًا بأن يصلب لا قبل حادث الصليب ولا وقت الحادث، ولم يكن جاهزا لتقديم هذا القربان، فثبت أن صلبه لا يصلح لأن يكون كفارة.ثم لا يزال هناك سؤال آخر يجب الرد عليه: هل كان المسيح بريئا من إثم آدم ليصير كفارة؟ ذلك أن نظرية الكفارة تقول أن الإنسان يستحيل عليه أن يكون طاهراً، لأن آدم وقع في الإثم، وأن الإنسان من نسل آدم والنسل يرث أباه، فلا بد لأولاد آدم أن يرثوا إثمه، ولا يمكن أن يتخلصوا من إثمه؛ وحيث إنهم لا يمكنهم أن ينالوا النجاة؛ ولما لم يكن بمقدور الإنسان الآثم أن يكون كفارة لآثم آخر، فكان لزاما أن يكون ثمة كائن غير آثم يتقدم برغبته ليتحمل عقاب ذنوب الناس نيابة عنهم؛ وهذا الكائن هو المسيح الناصري الذي كان ابن الله، إذ حمل ذنوب الآخرين وصار كفارة عنهم بموته على الصليب.هذه هي نظرية الكفارة.ولو ثبت الآن أن المسيح لم يكن بريئًا من الإثم لبطلت هذه النظرية كلية، لأن غير البريء من الإثم لا يمكن أن يصبح كفارة.يقول المسيحيون عن أنبياء الله الآخرين أنهم لم يكونوا بريئين من الإثم فلا يمكن أن يكونوا كفّارة؛ فما كان لإبراهيم ولا لموسى ولا لداود – عليهم السلام – أن يكونوا كفارة لأنهم أنفسهم كانوا ،آلمين وليس بوسع الآثم أن يحمل وزر الآثم الآخر.ولكنا نجد الإنجيل يعلن أن المسيح نفسه لم يكن بريئا من الإثم، إذن لم يكن بوسعه أن يحمل أوزار الآلمين الآخرين.إن الدليل الذي تقدمه المسيحية على كون الإنسان آثما إنما هو أنه من نسل آدم الآثم فصار آثما مثل أبيه الآثم.ولكنا نقول : إن المسيح أيضا كان من نسل آدم إذ كان ابن حواء، فهو الآخر آثم.

Page 105

الجزء الخامس فمثلاً ۹۸ سورة مريم يقول المسيحيون أن الإنسان ورث الإثم من ،آدم ولما كان المسيح من دون أب، فلم يرث إثم آدم ولكنا نقول: إن الميراث يمكن أن ينتقل من الأب والأم كليهما.إذا كانت الأم مصابة بالزهري أو السل أو الصرع أو الجنون فيمكن أن ينتقل مرضها هذا إلى ابنها أيضًا، وهناك أمثلة كثيرة لذلك فإن الفحص والتحري في أحوال الناس يكشف انتقال عيوب الوالدين الأخلاقية أو البدنية أو النفسية إلى أولادهم بالوراثة، ولا يرثها الأولاد من الأب فقط دون الأم، بل يرثونها من الأم والأب كليهما.فما دام المسيح من أولاد حواء، فقد ورث الإثم من أمه، وصار آثما كأناس آخرين، أيا كان أبوه.إنه لا يمكن أن ينجو من الإثم الموروث إلا إذا أثبت المسيحيون أنه لم يكن من أولاد آدم ولا حواء كليهما.وهناك إمكانية أخرى لبراءته من الإثم الموروث، وهي أن يثبتوا أن حواء لم ترتكب الإثم، إذ يقال عندها إنه لم يكن من نسل آدم الآثم بل كان من أولاد حواء التي لم تقع في الإثم.ولكن الحق أن المسيح لا يمكن أن يُعَدّ بريئا من الإثم في هذه الحالة أيضا، إذ لو سلّمنا جدلاً أن حواء لم تقع في الإثم، وأن آدم وحده الذي وقع فيه، فمع ذلك لا ينجو المسيح من الإثم إلا إذا ولدته حواء نفسها.ولكن المشكلة أن المسيح لم تلده حواء، بل ولدته امرأة اسمها مريم التي جاءت بعد حواء بآلاف السنين، حيث مس خلالها أبناء آدم بنات حواء آلاف المرات، ونتيجة لهذا الاتصال بينهم والمتكرر لآلاف المرات جاءت آلاف الأجيال، حتى ولدت مريم؛ فكيف، يا ترى، يمكن لمريم أن تظل بريئة من إثم آدم رغم كل هذه الاتصالات المتكررة بين أولادهما؟ لو أن مريم ولدت من حواء مباشرة بدون أي فاصل بينهما، ثم لو كانت حواء بريئة من الإثم أيضًا، لجاز القول إن إثم آدم لم ينتقل إلى مريم ولكنها ليست من أولاد حواء مباشرة، بل هي من بنات حواء اللواتي تلوثن بالإثم الموروث آلاف المرات، فكيف يمكن للتى تلوثت بالإثم الموروث من آدم أن تتسبب في براءة المسيح من الإثم؟ وليكن معلومًا أن حواء لم تكن بريئة من الإثم الذي ارتكب في البداية، بل كانت أشد إثما من آدم بحسب التوراة حيث ورد فيها:

Page 106

الجزء الخامس ۹۹ سورة مريم " وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله.(علما أن الحية هي الشيطان في لغة التوراة.فقالت للمرأة: أحقا قال الله : لا تأكلا من كل شجر أن الشيطان لما ذهب إلى المرأة للإغواء، فلم يقل لها: سمعتُ أن الجنة؟ وهذا يعني الله قد نهاكما عن الأكل من شجرة معينة، بل قال لها: هل نهاكما الله عن كل شجر الجنة).فقالت المرأة للحية من ثمر الجنة ،نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا.فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل من يوم منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.الله عالم أنه تأکلان فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر؛ فأخذت ثمرها وأكلت، وأعطت رجُلَها أيضا معها، فأكل.فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان.فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مَآزر.وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار.فاختبأ آدم و امرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة.فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأتُ.فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلتُ.فقال الرب الإله للمرأة ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة الحية غرتني فأكلتُ.فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا، ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية.على بطنك تسعين، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك.وأضع عداوةً بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها.هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه.وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك.بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك.وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التى أوصيتك قائلا: لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك.بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحَسَكَا تُنبت لك، وتأكل عشب الحقل.بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تكوين ٣: ١-١٩)

Page 107

الجزء الخامس هذه هي سورة مريم القصة التي ذكرتها التوراة حول وقوع آدم في الإثم.إنها تكشف أن الشيطان كان في الواقع يقصد إغواء آدم وطرده من الجنة لظنه أن وجود آدم يهدد حكمه وسلطانه؛ أما حواء فما كان الشيطان يستشعر منها أي خطر.وكأن آدم هو الساكن الحقيقي في الجنة، وأما حواء فخُلقت بسبب آدم، كما دخلت الجنة أيضا.فكان الهدف الأساسي للشيطان أن يغوي آدم، ولكنه لم يذهب إليه منه.رأسًا، بل ذهب إلى حواء، وحتّها على أكل ثمر الشجرة، فجعلت آدم يأكل والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا ذهب الشيطان إلى حواء مع أنه كان يريد إغواء آدم في الواقع؟ لم لم يذهب إليه رأسا ؟ والجواب أن الشيطان كان يعرف أنه لو ذهب إلى آدم لإغوائه مباشرة فلن يحقق هدفه لأن آدم لم يقع في خداعه، فذهب أولاً إلى حواء لمعرفته أنها ستقع في فخه بسرعة، فيسهل عليه إغواء آدم بواسطتها.ومن أجل ذلك نجد أن الله تعالى حين سأل :آدم هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها"، أجاب آدم: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلتُ"..أي أن المرأة التي أعطيتني إياها هي التي غرتني، حيث قلت في نفسي إنها عطية منك ولا يمكنها أن تخطئ، فأكلتُ من ثمر الشجرة بسببها.إذن فإن آدم أيضا يؤكد أن المرأة هي غرته، كما نجد أن الشيطان أيضًا ذهب إلى المرأة أولاً وأغواها.لقد اتضح من هذا ما يلي: أولاً- أن حواء هي التي ارتكبت الإثم أولاً.التي ثانيا- أنها كانت أضعف من آدم وأكثر عرضةً للغواية ومن أجل ذلك ذهب الشيطان إليها أولاً.ثالثًا أن المولودين من آدم وحواء كليهما سيكونون أقل رغبة في الإثم ممن يولدون من حواء فقط.ذلك أن الناس قد ورثوا بعض الإثم من آدم وبعضه من حواء، والقاعدة أن اجتماع القوتين العالية والضعيفة ينتج إنتاجا متوسطا، ولكن الذين يولدون من حواء فقط، التي كانت أشد ميلاً إلى الإثم، ستكون ذريتهم أقرب

Page 108

الجزء الخامس 1.1 سورة مريم إلى الإثم حتمًا.إذن فكان المسيح أقرب إلى الإثم من الآخرين لكونه من ذرية حواء وحدها، فلا يمكن أن يكون كفارة للآخرين.قد يقال هنا: إن الله تعالى قادر على أن يخلق الصالحين من بين الذين يولدون من حواء وحدها ونحن نقول: إننا أيضًا نسلم بأن الله قادر على ذلك قدرة مطلقة، ولكن المشكلة أن الكفارة المسيحية ليست قائمة على قدرة الله المطلقة، وإنما أساس الكفارة عندهم أن الإنسان آثم بولادته وأنه قد ورث هذا الإثم من آدم.أما فيما يتعلق بقدرة الله فنحن المسلمين نؤمن بأن الله تعالى قادر على أن يخلق الصالحين من ذرية آدم أيضا، بل إنه قد خلقهم من نسله فعلاً، كما أنه تعالى قادر على أن يخلق الصالحين من بين أولاد حواء الآثمين ولكن المسيحيين يعتقدون أن أولاد الآثم لا يمكن أن يكونوا صالحين أبدا، فما دامت هذه عقيدتهم، فلا حاجة لمناقشة قدرة الله على خلق الصالحين من ذرية الآثمين؟ فلو قالوا إن أولاد حواء أيضا يمكنهم أن يكونوا صالحين، لقلنا في الجواب: إن الله تعالى قادر على أن يخلق الصالحين من ذرية آدم كذلك.فلا داعي إذن إلى القول بالإثم الموروث، ولا حاجة إلى أي قربان من قبل ابن الله كفارةً عن الآثمين وهكذا فإن بناء الكفارة كله ينهار تماما في لمح البصر.على المسيحيين أن يعترفوا ببساطة أن الله قادر على أن يخلق الصالحين من أولاد الآثمين، ولكنهم إذا اعترفوا بهذا لصالح أولاد حواء، ولم يعترفوا به لصالح أولاد آدم، فهو أمر غير معقول.إن السؤال الحيوي هو : هل الله قادر على خلق الصالحين من بين أولاد الآثمين أم لا ؟ فإذا كان قادرًا على خلق الصالحين من أم آثمة، فإنه قادر أيضًا على خلق الصالحين من أب ،آثم، أما إذا لم يكن قادرا على خلق الصالحين من أب ،آثم فلا بد لنا من الإقرار بأنه غير قادر على خلق الصالحين من أم آثمة.إذن فإذا أمكن أن يُخلق المسيح من أم آثمة فيمكن أن يُخلق الصالحون الآخرون أيضا، بل يمكن أن يُخلق منهم من هم أكثر صلاحًا من المسيح لأنهم يحملون الجينات من الأب والأم كليهما.

Page 109

الجزء الخامس أضعف ۱۰۲ سورة مريم لقد سبق أن ذكرتُ شيئا من الحوار الذي جرى بيني وبين القسيس الذي صار فيما بعد عميدًا للكلية التبشيرية بسهارنبور، وكان اسمه wood على ما أظن، وأذكر لكم الآن بقية هذا الحوار.لقد قلت له: أخبرني ماذا سيحصل لو مزجت بين الماء الحار والماء البارد؟ قال: سوف تقل برودة الماء البارد قليلاً، كما ستقل حرارة الماء الحار قليلاً، ليصبح الماء الممزوج فاترا؟ قلت: أخبرني الآن : هل ذهب الشيطان أولاً إلى آدم أم إلى حواء؟ قال : إلى حواء.قلت: هل كان الشيطان يهدف لإغواء حواء أم إغواء آدم؟ قال: إغواء آدم قلت: إذا كان هدفه إغواء آدم فلم لم يذهب إليه رأسا؟ ما الداعي لهذا اللف والدوران؟ قال: لأنه ظن أن حواء أضعف من آدم وإغواءها أسهل، وبعد إغوائها لن يحتاج إلى إغوائه لأنها ستغويه تلقائيا.قلت: هذا يعني أن حواء كانت من آدم؟ قال: نعم.قلت: إذا كانت حواء أضعف من آدم، وهي التي وقعت في الإثم أولاً، وهي التي قامت بإغوائه أيضًا، فكيف يمكن أن يكون الكائن الذي ولد منها وحدها بريئا من الإثم؟ أرجوك أن تضع في حسبانك مثال الماء البارد والماء الحار، ولنقل إن آدم مثله كمثل الماء البارد، وأن مثل حواء كمثل الماء الحار، ولن يكون إثم ذريتهما مثل إثم الذين هم ذرية حواء وحدها، وبالتالي فلا بد أن يكون المسيح المولود من حواء وحدها أكثر إنما من الآخرين.فقال القسيس على ذلك: ألا يخرج الذهب من التراب؟ قلت: هذا هو أصل النزاع بيننا وبينكم.إذا كان خروج الذهب من التراب ممكنًا، فمهما قلتم بإثم آدم إلا أنه لا بد لكم من الاعتراف بإمكانية خروج الصالحين من أولاده، ولن يكونوا بالضرورة آثمين.فلما أفحمته بهذا الدليل قال : لا يخرج الذهب من التراب، وإنما يخرج من الذهب؛ ولأن آدم آثم فلا بد أن يكون أولاده أيضًا ،آثمين، ولن يكونوا صالحين، لأن الذهب يخرج من الذهب.فقلت: فلا بد إذن من الاعتراف بكون ابن حواء أكثر إثما من غيره، لأنها كانت أكثر إثما من آدم؛ فهي التي أكلت ثمر الشجرة الممنوعة، بل أطعمت آدم إياه، وهكذا صار إثمها مزدوجًا.فقال مبهوتا : لا يخرج الذهب

Page 110

الجزء الخامس ۱۰۳ سورة مريم الذهب من معدن التراب، بل المعدن معدن التراب، ولكن قد يخرج منه الذهب.قلت: فلم لا تعترف بذلك بصدد ،آدم وتقول إن خروج الصالحين البريئين من جميع العيوب من بين أولاده، رغم إثمه، ممكن.فلم يبق بعد ذلك أمام المسيحيين إلا أن يقولوا إن المسيح بريء من جميع أنواع الإثم لأنه ابن الله، ولا مجال لأن ينتقل الإثم الموروث إليه، أو أن يكون أقل إنما أو أشده لكونه من نسل حواء وحدها.وكأنهم يقولون: إن المسيح لم يكن بريئًا من الإثم لكونه من بطن مريم وحدها، بل لكونه ابن الله تعالى.ونحن نقول: إذا كانت ولادة المسيح من دون أب خالية من أي حكمة، وإذا كان هو ابن الله حقيقة وأسمى من تأثير إثم آدم أو حواء ولو ولد من أم فقط، فلماذا ظلمه الله تعالى هذا الظلم العظيم إذ خلقه خلقًا جلب عليه الخزي والعار من كل الدنيا، حيث جعله عرضة لأن يقول الناس عنه في مجالسهم إنه ليس ابن الحلال.إذا كان بريئًا من الإثم في كل حال، وأسمى من أن يتأثر من إثم الأب أو الأم، فما الداعي لخلق كل هذه المشاكل له، ولماذا آذى الله مريم والمسيح بتعريضهما لهذه التهمة البشعة.لقد كان ابن الله بالتالي بريئا من كل عيب وإثم، فكان الأولى أن يخلقه الله من أب وأم حتى يظل بريئًا من الإثم بقدرته، ولا يتهم بكونه ولد الحرام.قد يقول المسيحيون هنا: إنكم أيضا تؤمنون بولادة المسيح بدون الأب، معرضين إياه لتهمة الأعداء، وفي نفس الوقت ترفضون فكرة الكفارة المسيحية أيضًا؟ والجواب أن الحكمة في ولادة المسيح من دون أب عندنا هي أن الله تعالى كان قد وعد إبراهيم ببعثة نبي بعد نبي من بين أولاده وببقاء ملكوت الله فيهم ما دامت السماوات والأرض؛ ثم جدد الله هذا الوعد على لسان الأنبياء بعده على التوالي.وقد تحقق هذا الوعد لقرون طويلة بدون انقطاع حتى تجاسرت أمة موسى وأيقنت أنه مهما حدث فإن الله تعالى لن يتخلى عن ذرية إبراهيم، وأن النبوة والسيادة لن أمة تخرجا عن موسى.فلم ينفع اليهود إنذار الأنبياء، فكلما جاءهم نبي وعرض

Page 111

الجزء الخامس 1.2 سورة مريم عليهم تعليمه كما فعل إرميا وغيره كفروا به مستهزئين ساخرين، وظانين أن الله تعالى قد منحهم هذه النعمة للأبد إرميا ۱۸: ۱۸ و ۲۰ : ٢ و ٢٦: ١٠-١١، ١٨).الله تعالى على لسان بعض أنبيائه أن عذراء ستلد ابنا (إشعياء ٧: ١٥، ومتى فأخبرهم نبيًّا بعد نبي.فلما ۱: ۲۳)..بمعنى أن ذلك الموعود سيكون نصفه من بني إسرائيل ونصفه لن يكون منهم.وتحقق هذا النبأ في شخص المسيح إذ وُلد من غير أب، وكان هذا تحذيرًا لليهود أن نصف النبوة قد نزعت منهم - لأن النسب إنما يكون من قبل الأب – فإن لم يرتدعوا بعد ذلك عن الرفض والإنكار فإن النبي القادم لن يكون من بني إسرائيل على الإطلاق لا من قبل أبيه ولا ،أمه وإن كان من بني إبراهيم.وهذا ما حدث بالضبط.لقد كان لإبراهيم وعود كبيرة من الله تعالى ولم يرد أن يحرم اليهود بركات هذه الوعود بدون سبب، فبعث فيهم تواتر بعث الأنبياء من بينهم لمدة طويلة أيقنوا أنه يستحيل أن تنتقل النبوة إلى غير بني إسرائيل.فأنذرهم الله على لسان بعض أنبيائه إنذارًا شديدا كان لا بد أن يرجعوا بعده إلى صوابهم لو كان فيهم مثقال ذرة من الإيمان، ولأدركوا أن شيئًا ما واقع حتما جراء شرورهم.ولكنهم لم يكترثوا لذلك الإنذار بل أصروا على شرورهم إصرارًا.فبعث الله المسيح وفق إنذاره وجعله من دون أب محذرًا اليهود: ها قد نزعتُ نصف النبوة منكم، وسوف أنزع نصفها الباقي إذا لم ترتدعوا عن شروركم.فإن النبي الذي بعثته الآن هو منكم من قبل أمه فقط ولكن ليس له أب منكم ولكن النبي القادم لن يكون من بني إسرائيل إطلاقا، وإن كان من بني إبراهيم.وبالفعل بعث الله تعالى نبينا محمدًا رسول الله ﷺ الذي كان من بني إسماعيل، وانقطعت النبوة من بني إسرائيل للأبد.إذن فلا اعتراض على إيماننا بأن المسيح كان بلا أب، لأن فيه حكمة بالغة، ولكن السبب الذي يذكره المسيحيون لولادته بدون أب فهو مرفوض عندنا، لأنه لا يبرئ ساحة المسيح الله من الإثم، بل يجعله أكثر إنما من غيره؛ وهكذا تبطل فكرة الكفارة تماما.

Page 112

الجزء الخامس 1.0 سورة مريم وهناك سؤال هام آخر بصدد الكفارة وهو: هل من الممكن أن المسيح كفارة عن ذنوب الدنيا حقا؟ صل يصبح والجواب أننا لو سلّمنا جدلاً بما يقوله الإنجيل عن حادث الصليب، فمع ذلك نرى أن المسيح لم يقدم أي قربان في الحقيقة، إذ يتضح لنا من الإنجيل أن المسيح لم يبق في القبر إلا يوما ونصفه أي حوالي ٣٦ ساعة فحسب، حيث وقع حادث الصليب بعد ظهر يوم الجمعة، وقام المسيح صباح يوم الأحد (انظر مرقس ١٦).ولنفترض أن العقيدة المسيحية ببقاء المسيح في جهنم ليوم ونصفه صحيحة، بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف صار بقاء المسيح في جهنم ليوم ونصفه كفارةً عن ذنوب الدنيا، بالرغم أن جهنم عند المسيحيين ،أبدية، وأن كل من يلقى فيها سيمكث فيها إلى الأبد متى :۳ (۱۲؛ وذلك على عكس عقيدتنا نحن المسلمين، حيث نؤمن بأن الله تعالى سيعفو عن أهل النار أيضًا بعد فترة، وذلك لقول الله تعالى في القرآن الكريم فأُمُّه (هاوية (القارعة (۱۰)..أي أن جهنم هي بمنزلة الأم، فكما أن الجنين يخرج من الرحم بعد بقائه فيه لفترة، كذلك سيخرج رحم أهل جهنم بعد مكوثهم فيها لمدة من الزمن، وسيُدخلهم الله في الجنة في النهاية.فمن جهة، ترى المسيحية أن الجحيم أبدية، وأن من دخل فيها لن يخرج منها أبدا، ومن جهة أخرى نجد أن عدد المؤمنين بالمسيح في العالم كله يصل مئات الملايين؛ إذ يبلغ عددهم في هذا العصر وحده قرابة سبعمائة مليون.فلو أن هؤلاء السبعمائة مليون شخص دخلوا النار ، وبقوا فيها إلى الأبد، فيمكن أن تقدروا طول فترة هذا العذاب.وهذا يخص المسيحيين المعاصرين فقط، أما إذا أخذنا في الحسبان كل المسيحيين في جميع العصور فلن نستطيع إحصاء هذه المدة بالأرقام.ولنفترض أن معدل عمر جيل واحد من الناس هو ثلاثون عاما..أي هناك ثلاثة أجيال في كل ،قرن وأن معدل عدد المسيحيين الذين وجدوا على مر العصور هو مائة مليون مسيحي في كل جيل – إذ كانوا في البداية قلة، ثم بلغوا عشرات الآلاف، ثم مئات الآلاف، ثم الملايين حتى وصل عددهم اليوم سبعمائة أو ثمانمائة مليون – ولنفترض أنه قد خلا حتى الآن ٥٧ جيلاً من المسيحيين؛ فإذا ضربنا ٥٧

Page 113

الجزء الخامس 1.7 سورة مريم ۱۰۰ مليون صار المجموع.....٥۷۰۰۰ (خمسة مليارات وسبعمائة ميلون؛ والآن لو ضربنا عذاب خمسة المليارات وسبعمائة المليون مسيحي في الأبدية لعجزنا عن تحديد هذا الزمن بالأرقام.وهذا يعني أن المسيح لو لم يقدم الكفارة عن ذنوب الدنيا لمكث خمسة المليارات وسبعمائة المليون مسيحي في الجحيم إلى أبد الآباد هذا من جهة، ومن جهة أخرى يقول المسيحيون أن الله تعالى أبقى المسيح في جهنم ليوم ونصف فقط مقابل العذاب المؤبد لكل هؤلاء الناس الذين يقدر عددهم بخمسة مليارات وسبعمائة مليون نسمة.يقولون أن الله تعالى عادل! فهل من العدل أن يُعفى خمسة مليارات وسبعمائة مليون من العذاب الأبدي ببقاء المسيح في العذاب ليوم ونصفه فقط؟ إذا كان الأمر يخص الآخرين قرر الله عذابهم في الجحيم إلى أبد الآبدين، وحين خص الأمر ابنه أخرجه الله من الجحيم بعد يوم ونصفه فقط، وقال هذا يكفي كفارة عن ذنوب كل هؤلاء! ومع ذلك إن قصة "العدل الإلهي" هذه تماثل قصة "نور جمال" الشهيرة في بلادنا.يحكى أن أطفالا أشرارًا كانوا يلعبون خارج القرية، فرأوا حمارًا ميتًا، فقالوا فيما بينهم: تعالوا نطبخه ونأكله، ولا بأس إن كان لحما حلالاً أم ميتةً، فإنه لحم على كل حال فطبخوه وأكلوه وعندما وصل الخبر إلى أهل القرية شعروا بالذعر واستنكروا الأمر ، فسارعوا إلى شيخهم وقالوا : لقد قامت القيامة، فقد أكل أولادنا لحم حمار ميت ونخاف أن يحل بنا العذاب قال الشيخ: لا شك أنها معصية كبيرة ولا بد من كفارة تؤدونها فوراً، وإلا أحاط بكم العذاب.فزادهم الشيخ خوفًا على خوف.فقالوا: أخرجنا يا شيخ من هذه الورطة وإلا سنهلك جميعًا.قال: حسنًا، سأنظر في الكتب ثم أخبركم.فلم يزل يتصفح كتب الفقه طيلة اليوم، ثم قال لهم في المساء: لقد وجدت الحل.فقد ورد في الكتب أن كفارة هذه المعصية أن يُنصب عمود، ثم يوضع حوله الخبز حتى يختفي بين أكوام الخبز، ثم يتصدق بالخبز في سبيل الله تعالى.وكانت عادتهم أنهم إذا أخرجوا شيئًا في سبيل الله تعالى قدموه للشيخ، فكان غرضه من هذا أن يعطوه كل هذا الخبز، ليأكل منه ما يأكل، ويبيع الباقي.

Page 114

الجزء الخامس ۱۰۷ سورة مريم وكانت القرية صغيرة فقيرة، فلما سمعوا قوله سُقط في أيديهم، وقالوا لـه: نحن لا نقدر على أداء هذه الكفارة.قال: فستدخلون النار إذن، هكذا ورد في كتب الفقه.فاجتمعوا للمشورة ثانية، وفيما هم يتشاورن إذ قال أحد الأولاد: إن ابن الشيخ "نورجمال" أيضا قد أكل معنا.قالوا: حقا؟ قال: نعم.فقالوا: تعالوا نخبر الشيخ لعله يجد لنا الآن حلاً آخر أسهل.فأتوه وأخبروه أن ابنك "نور جمال" أيضًا قد أكل من لحم الحمار الميت.فقال الشيخ في نفسه إنه هو الآخر سيضطر الآن لدفع الكفارة، فقال: حسنًا، فسأرى في الكتب ثم أخبركم.فتصفح الكتب وقال لهم: أبشروا، فقد وجدت الحل وهو أنكم إذا كنتم لا تستطيعون العمل بالحل الأول، فيكفيكم أن تلقوا العمود على الأرض ويضع كل واحد منكم عليه رغيفا واحدًا، ثم يتصدق بهذا الخبز فقط! ألا تماثل قصة "العدل الإلهي" هذه قصة "نور جمال"؟ فعندما كان الأمر يخص العباد قال الله تعالى : لا بد لهؤلاء خمسة المليارات وسبعمائة المليون أن يبقوا في العذاب إلى الأبد، ولكن حين خص الأمر ابنه قال تعالى : يجب ألا يبقى في العذاب إلا ليوم ونصفه، فهذا يكفي كفارةً عن ذنوب كل أهل الدنيا.ولكن الدنيا لم تفنَ بعد، ولو كتب لها البقاء لألف سنة أخرى أو نصفها لازداد عدد النصارى في هذه المدة - رغم اندحار المسيحية أمام ازدهار الأحمدية إن شاء الله تعالى - بحوالي أربعة مليارات وعندما يثار السؤال عن كفارة ذنوب هذا العدد الضخم من البشر يقال أنها قد تمت ببقاء ابن الله في الجحيم ليوم ونصفه، ولا يقدح ذلك في عدل الله وإنصافه! فليضعوا هذه القضية أمام أي شخص عاقل، بدون أي ذكر للمسيح أو الله، ويقولوا له :فقط كان على شخص دَين قدره مائة وخمسون ألف دينار، فطالبه الناس بتسديده فلم يستطع.فرفعت القضية إلى المحكمة.فقال للقاضي: أرجوك إعفائي من من هذا الدين، فقال القاضي: لا أستطيع ذلك، لأن هذا يخالف العدل، ولا بد من عقابك.ثم دعا القاضي ابنه وقال له : أعط هؤلاء القوم دينارًا ونصفه مكان دفع إليهم ابنه دينارًا ونصفه قال لهم :القاضي: قد تم سداد كل الدين دينهم.فلما

Page 115

الجزء الخامس ۱۰۸ سورة مريم الذي كان لكم عليه.فهل من عاقل في الدنيا يعتبر القاضي مصيبا في حكمه؟ كلا، بل سيقول الجميع إن القاضي ليس خائنًا غير عادل فحسب، بل إنه خداع ومكار وظا لم أيضًا، إذ أخذ من ابنه دينارًا ونصف دينار ودفعه لأصحاب المال قائلا: ها قد دفع لكم مالكم كله.وهذه هي بالضبط فكرة الكفارة المسيحية أيضًا إنها تجعل الله تعالى عرضةً للطعن بدلاً من أن تدفعه عنه، وإن لعبة إلقاء ابنه في الجحيم، ولو ليوم واحد، لا تدل على – أن الله عادل بل تثبت أنه تعالى - والعياذ به - ظالم، بل خداع ومكار أيضًا.فما الداعي إذن لهذه اللعبة؟ قد يقول هنا النصارى هناك بون شاسع بين الله والعبد، فلا غرابة في أن يساوي العذاب الذي ذاقه ابن الله في يوم ونصفه العذاب الذي كان على الناس أن يذوقوه في الجحيم الأبدية.والجواب: إذا كان بين الله - وبين العباد بونا شاسعًا لا حد له، كما يعترفون، فالظاهر البديهي أن تحديد هذا البون الشاسع مستحيل على البشر، لأن تقدير الأشياء غير المحددة خارج عن نطاق العقل الإنساني، فإن التقدير إنما يتم عن الشيء المحدود الذي تكون معرفته داخل نطاق القدرة الإنسانية فاعتقادهم – رغم هذا البون الشاسع بين الله والعباد - أن العذابَ الأبدي الذي كان على خمسة مليارات وسبعمائة مليون مسيحي أن يذوقوه في الجحيم الأبدية، قد ذاقه "الإله" في يوم ونصفه فقط، فصار كفارة لهم، يساوي القول أنهم قد عرفوا بالتحديد المدة التي يذوق فيها الإله عذابًا يذوقه العباد في فترة لا نهاية لها.فكيف عرفوا ذلك، يا ترى، رغم البون الشاسع بين الله والعباد؟ الحق أنه لا يصح في هذه الحالة إبقاء الإله في الجحيم لدقيقة بل لواحد من مليون جزء من الدقيقة، بل إلى لمح البصر أو أقرب.ذلك لأن الأمر هنا يخص العبادَ ذوي القدرات المحدودة والإله ذا القدرة المطلقة؛ فتحديدهم قوى الإله ذي القدرات غير المحدودة قياسًا على قوى الإنسان ذي القوى المحدودة لأمر مناف للعقل والمنطق تماماً.فمن أين جاءوا بهذا الحل؟ وكيف عرفوا بقواهم المحدودة أن الإله ذا القوى غير المحدودة ذاق في يوم ونصفه هو

Page 116

الجزء الخامس ۱۰۹ سورة مريم ذلك العذاب الذي كان على ملايين الملايين من الناس أن يذوقوه في ملايين الملايين من السنين؟ ثم هناك سؤال آخر من ذا الذي دخل الجحيم: "ابن الإنسان" أم "ابن الإله"؟ فلو قالوا إن ابن الإنسان هو الذي دخل الجحيم لكان أمرًا مفهوما، لأن روح ابن الإنسان كانت مخلوقة من الجسد، ومتعلقة بالجسد، ودخلت في الجحيم أيضًا.ولكن المشكلة أنه لم تكن ثمة روح بشرية في المسيح بحسب اعتقادهم.لا شك أن جسده كان جسدًا إنسانيًّا، ولكن الروح التي تحل فيه هي ابن الله.فكان "ابن الله" يسمى ابن الإنسان ما دام مقيدًا في الجسد الإنساني، ولكنه بمجرد أن تحرر من قيد الجسد بالموت على الصليب صار إلها على الفور، فإذا صار إلها لم يعد لدخولــــه في الجحيم معنى ولا قيمة هل الإله أيضًا يحس البرد والحر ويتأذى من شدتهما.إن الروح الإنسانية هي التي تتأذى بالحر إذا دخلت الجحيم، وتحس بالبرد لو أسكنت في المكان البارد، ولكن ما معنى الحر والبرد بالنسبة لابن الله الذي هو إله؛ فهو الذي خلق الجنة والنار، فلا الجنة تجلب له ،الراحة ولا النار تسبب لـه الأذى.ورد في الحديث أن الله تعالى سيُدخل قدمه في النار فتبرد*، لأنها ليست بشيء إزاء الله تعالى.فإذا كان المسيح ابن الإنسان وكانت فيه روح إنسانية فإن الإله ما دخل النار إطلاقا، بل الإنسان هو الذي دخلها؛ وأما إذا كانت في المسيح روح ابن الله، فبمجرد أن انفصلت روحه من قيد الجسد بالموت صارت إلها، وروح الإله لن * ورد في الحديث: "عن أبي هريرة عن النبي الله قال : تحاجَّت النار والجنة، فقالت النار: أُوثرتُ بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم.فقال الله للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي؛ وقال للنار: أنت عذابي، أعذب بك من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها.فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط.فهنالك تمتلئ ويُرْوَى بعضُها إلى بعض" (مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها).(المترجم) أشاء من

Page 117

الجزء الخامس سورة مريم تتأذى شيئًا ولو ألقوها في الجحيم.طبعا لم تكن في المسيح روحان: روح للإنسان وروح للإله، إنما كانت فيه روح واحدة هي روح ابن الله؛ فلما تحررت تلك الروح من قيد الجسد لم تعد الجحيم بالنسبة لها جحيما، و لم تسبب لها شيئا من العذاب ولو ألقوها فيها، لأنها أسمى من الأحاسيس المادية، ولا تؤثر فيها الجنة ولا النار.عبثا.أحيانًا يردّ النصارى على ذلك في فزع: إنه كلام مجازي تأخذونه مأخذ الحقيقة ونحن نقول : إذا كان هذا الكلام مجازًا لا حقيقة فلماذا تبنون على المجاز عقائد جديدة ،غريبة، فهذا أيضًا يُبطل كفارتكم.ذلك أن هذا الكلام إذا كان عندكم مجازا واستعارة، فلا يحق لكم أن تبنوا عليه عقائد جديدة عجيبة ثم تدعوا الناس إلى الإيمان بها.فمثلاً لو قلنا عن شخص إنه أسد، فقال لنا السامع: أين ذنبه وبراثنه، فنجيبه: لقد سميناه أسدًا على سبيل الاستعارة، ولكنك لم تفهم هذه الاستعارة، وظننت أننا سميناه أسدًا في الحقيقة، فلا يحق لنا بعد ذلك أن نسميه أسدًا على سبيل الحقيقة.وبالمثل، إذا قال المسيحيون إن هذا الكلام مجاز فلا بد لهم بعد ذلك من الاعتراف بأن المسيح قد سمي ابن الله على سبيل المجاز، وبالتالي لم يكن بوسعه أن يحمل ذنوب الآخرين، ولا أن يبقى في الجحيم ليوم ونصفه، بل إن كل هذه الأمور باطلة ولا تمت إلى الحقيقة بصلة على الإطلاق.والآن نتوجه إلى سؤال آخر وهو: لنفترض أن الكفارة المسيحية أمر ممكن، وأن المسيح ابن الله، ولكن علينا أن نرى هل قدم المسيح فعلاً تلك التضحية التي يصير بها كفارة أم لا؟ إن الإجابة على هذا السؤال هي بالنفي بحسب ما ورد في الإنجيل.فإن المسيح لم يمت على الصليب، ولم يقدم ذلك القربان الذي يصير به كفارة عن ذنوب الناس.والواقع أن نزول المسيح من الصليب حيًّا لقضية فيها موت المسيحية، أعني لو ثبت أن المسيح قد نزل من الصليب حيًّا لبطلت المسيحية تماما، ولو ثبت أن المسيح قد مات بعد حادث الصليب مونا طبيعيًا لبطلت كل العقائد الخاطئة التي

Page 118

الجزء الخامس ۱۱۱ سورة مريم هي شائعة بين الفرق الإسلامية.فنزول المسيح من على الصليب حيًّا يقضي على المسيحية، وموته الطبيعي يقضي على الشرك والإلحاد الشائعين بين المسلمين.فلو ماتت المسيحية لصار الإسلام حيًّا ثانية، ولو قُضي على الشرك والإلحاد لعادت الحياة للإسلام أيضًا.وقد أنجز سيدنا المسيح الموعود اللي هاتين المهمتين كلتيهما.فمن جهة، قد أنقذ المسيح الناصري الله من الموت الصليبي، وبالتالي من اللعنة، قاضيًا على المسيحية، ومن جهة أخرى قد أنقذ الإسلام من الشرك والإلحاد الشائعين بين المسلمين بإثباته أن المسيح قد مات مونا طبيعيًّا؛ ذلك أن نبي الله عيسى ال الذي العليا - لم يستفض من فيوض محمد رسول الله ﷺ و لم يستفد من دينه، ولم يقتبس من قبسه، ستكون بعثته في ملة الإسلام إهانة حاشا الله - لنبينا الكريم ، بل إن مجيئه لهو تدمير لكل ما أنجزه.فقام سيدنا المسيح الموعود بشن هجومين قضى بهما على المسيحية وعلى الشرك والإلحاد.فبالهجوم الأول أحيا المسيح الناصري ليقضى به على المسيحية، وفي الهجوم الثاني أمات المسيح ليقضى به على الشرك والإلحاد.وذانك إنجازان عظيمان ستذكرهما الدنيا إلى يوم القيامة.ولكن المؤسف أن جماعتنا لم تدرك أهميتهما بعد ولم تولهما العناية الكافية.ذلك لأن الأمور الأخرى التي بينها سيدنا المسيح الموعود ل - من قبيل أين ذهب المسيح أدلة جانبية، أما القضية الجوهرية فإنما هي العليا بعد حادث الصليب - فهي نزول المسيح الناصري الله من الصليب حيًّا.فلو ثبت أن المسيح ال كان قد نزل من الصليب حيا فقد ماتت المسيحية.وهذه حقيقة قد اعترف بها المسيحيون أنفسهم.فقد قال Mr Criltondon، سكرتير عام زمالة الجامعات بلندن، في خطاب ألقاه في مسجد فضل بلندن يوم ۱۱ مارس ١٩٥٦ ما يلي: "إذا صحت النظرية التي تقدمها الجماعة الإسلامية الأحمدية حول وفاة المسيح لگ فلا يمكن للمسيحية البقاء.إذا كان المسيح لم يمت على الصليب حقا لم يعد

Page 119

الجزء الخامس ۱۱۲ سورة مريم ويستوي للمسيحية أساس تقوم عليه، ولا بد، والحال هذه، أن ينهار صرحها كله بالأرض (جريدة الفضل" ۲۷ نوفمبر ١٩٥٦ ص ٤ عمود (۱۱).إذن فإذا ثبت أن المسيح قد مات موته الطبيعي فقد قضى على الشرك والإلحاد من بين المسلمين، وبطل كل ما نسجوه بخيالهم من القصص الواهية، وبطلت كل العقائد الفاسدة التي شاعت بينهم منذ زمن طويل.ذلك أن المسيح إذا كان قد مات ميتة طبيعية فلا بد أن يأتي المسيح الموعود من بين أمة المصطفى ، وبالتالي تتراءى للإسلام والمسلمين غاية عظيمة ينشدونها.ذلك أن الأمم التي تفقد الأمل تموت حتما، ولكن الأمم التي لا تفقد الأمل لا تفنى أبدًا، فكلما أوشكت على الانهيار لمعت لها بارقة أمل وساندتها، ونفخت فيها روح الحماس والنهوض ثانية؛ فتقول في نفسها: لا داعي لليأس والقنوط، فلا تزال أمامنا فرص كثيرة للوصول إلى الدرجات العلا ولكن الأمة التي تفقد الأمل تموت للأبد.فثبت من ذلك أن المسيح الموعود الله قد قام بإنجازين بارزين: أولهما أنه قضى على المسيحية بإثباته أن المسيح الناصري ال كان حيا حين أُنزل من على الصليب، وثانيهما أنه حمى المسلمين من الشرك والإلحاد بإثباته وفاة المسيح بحسب آيات القرآن الكريم.فما أروع هذا الكلام الذي يشبه الشعر بأن المسيح الموعود الليلة أحيا المسيح وقضى على المسيحية، وأمات المسيح وأحيا الإسلام.ذلك أن أساس المسيحية إنما هو على موت المسيح على الصليب، فلو ثبت أنه لم يمت على الصليب، بل ظل على الصليب حيًّا وأنزل منه حيًّا لبطلت الكفارة المسيحية.إذن فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل مات المسيح على الصليب أم لا؟ وهل بالفعل قدّم الفداء الذي صار به كفارة عن ذنوب الناس؟ يتضح لنا من الإنجيل أن المسيح لم يمت على الصليب، كما لم يقدم ذلك القربان الذي يُسمى الكفارة.لو درسنا الإنجيل بتدبر لانكشف علينا أن المعجزة الحقيقية للمسيح اللة التي تفتخر بها المسيحية، والتي نراها مميزة بارزة بين الآثار المسيحية الأولى إنما هي معجزته المشابهة بمعجزة يونان النبي ( يونس ).لقد ظل المسيحيون ضعفاء لمدة

Page 120

الجزء الخامس ۱۱۳ سورة مريم فكان طويلة بعد حادث ،الصليب، فكانوا يفرون من بلد إلى آخر ويعيشون على العموم في الخفاء، لأن الناس كانوا يصبّون عليهم أنواع الظلم والاضطهاد.فعلاوة على الظلم الذي لاقوه في بداية أمرهم على يد اليهود في فلسطين فإنهم أوذوا فيما بعد من قبل الشعوب المشركة ولا سيما الرومان.ذلك أن المسيحي ما كان يمتنع من قوله إن المسيح ملك العالم، ولكن بمجرد أن تخرج هذه الكلمة من فمه حتى كان الروماني يستشيط غضبًا ويعتدي عليه.وكانت المظالم اليهودية قد خفت في تلك الحقبة من الزمن.بل يتضح من بعض الآثار القديمة أن المسيحيين حين كانوا يختفون في بعض المخابئ كان اليهود أيضًا يختفون معهم فرارًا من عدوان الرومان، إذ كانت اليهودية والمسيحية ديانتين متماثلتين و لم يكن المسيحيون قد ابتعدوا بعد عن الشرع الموسوي كما هم ،اليوم، بل كانوا يسعون جاهدين للعمل به.مثل الفريقين إذاك كمثل المسلمين الأحمديين وغيرهم من المسلمين؛ حيث نصلّي كما يصلون، ونصوم كما يصومون، ونحجّ كما يحجون، ونقرأ القرآن كما يقرءون؛ ولو أن أحدًا نظر إلى الفريقين بادئ الرأي، دون النظر إلى الاختلاف العقائدي الموجود بينهما، لقال لا فرق بين المسلمين الأحمديين وغيرهم من المسلمين.وبالمثل كان المسيحيون يؤمنون بالتوراة مثل اليهود، ويُخرجون الصدقات مثلهم، ويؤمنون بضرورة العمل بوصايا التوراة كما كان اليهود يرونه ضروريًا.فبسبب اشتراك الفريقين في العمل بالشرع الموسوي، كان الرومان إذا ثاروا ضد النصارى اضطهدوا معهم اليهود أيضًا معتبرين الفريقين فريقًا واحدا.فكان النصارى في أول أمرهم مضطهدين من قبل اليهود فقط، ولكن الوضع تغير فيما بعد، حيث اضطهد الرومان كلا الفريقين دون التمييز بين مسيحي ويهودي.فكان اليهود أيضًا يختبئون مع النصارى فراراً من الاضطهاد الروماني، كما تدل على ذلك الآثار الموجودة في روما.وإنني أشيد بعزيمة المسيحيين الأوائل إذ ركزوا على التبشير تركيزا كبيرا على الرغم من المعارضة الشديدة من قبل الرومان والاضطهاد الذي لاقوه من قبل الحكومة أيضًا.فكانت لهم في الإمبراطورية الرومانية مراكز كبيرة للتبشير، وبسبب

Page 121

الجزء الخامس ١١٤ سورة مريم تبشيرهم كان الرومان يعارضونهم ويظلمونهم ويسلبونهم أموالهم وعقاراتهم.ولكن الظلم لا يدوم طويلاً، فكانوا يؤذونهم لفترة ثم يُخلون سبيلهم، مثلما يحدث في الهند في هذه الأيام حيث يثور الهندوس في منطقة ما، فيضطهدون المسلمين بينهم، ثم يسود الهدوء ثانية ثم يعتدون على المسلمين في مكان آخر لفترة ثم يسكتون.وكان من مراكز المسيحيين الكبيرة روما وإنطاكية والإسكندرية.فكان القسيسون في هذه المراكز التبشيرية الثلاثة يتعرضون لعدوان العدو الذي كان يغتالهم، أو يصيبهم بالجراح ونتيجة لهذه الاعتداءات المستمرة كان المسيحيون يختفون أحيانًا في بيوتهم أو أحيائهم أو يهربون إلى القرى المجاورة، أو يختفون في الملاجئ الأرضية.إذ كانت العادة عندئذ أن البعض كانوا يبنون قبورهم في الغرف الأرضية بالحفر في الأراضي الجبلية.وكان النصارى يجهزون هذه الحفر والمغارات الأرضية ليعيشوا فيها مختبئين أيام الاضطهاد.ويوجد في روما أماكن كثيرة كهذه التي عاش فيها النصارى لمدة طويلة، والتي تسمى سراديب أو أقبية الموتى Catacombs.ولا تزال بها صور نحتها النصارى حفاظًا على حماسهم الديني وإحياء لذكرى شهدائهم.كما توجد على بعض قبورهم لوحات تحتفظ بمعلومات عن صاحب القبر وحادث استشهاده.ولقد شاهدت بنفسي بعضاً من هذه المغارات والسراديب، إذ يصعب على المرء أن يزروها كلها، حيث تمتد على مسافة سبعين ميلاً تقريبا.إن رؤية هذه السراديب تكشف تاريخ المسيحية القديم، إذ تتجلى بها للرائي نوعية الاضطهاد الذي صُبّ على النصارى قبل ازدهار المسيحية، كما يعرف المرء عقائد النصارى في تلك العصور من خلال العبارات والصور المنحوتة.ولكن، في القرن الثالث الميلادي، تنصر الإمبراطور الروماني نفسه (الموسوعة البريطانية: Church History)، فنالت المسيحية القوة والازدهار.وإن هذه الآثار الموجودة في السراديب هي المصدر الوحيد لمعرفة ما كان قبل ازدهار المسيحية.توجد في هذه السراديب ثلاثة صور على العموم صورة سفينة نوح، وصورة راع حوله ،الخراف وصورة يونان النبي والحوت يبتلعه.وهذا يوضح أن الديانة المسيحية أسست على مبادئ ثلاثة بحسب التاريخ القديم، وبتعبير آخر، كانت

Page 122

الجزء الخامس ۱۱۵ سورة مريم هناك ثلاث قضايا هي وثيقة الصلة بالمسيحية.فصورة راع مع خرافه تشير إلى أن المسيح العلم قد جاء لجمع الخراف الضالة من بني إسرائيل، وصورة سفينة نوح تومئ إلى أن المسيح جاء بصفة منج لهم، وصورة يونان النبي تشير إلى تلك المعجزة التي سنناقشها بعد قليل.إذن فإن هذه الصور الثلاث إيماءة إلى أن المسيحية تتأسس على هذه المبادئ الثلاثة: أولاً- أن المسيح جاء لجمع خرافه الضالة، وثانيًا- أنه مخلص ومنج، وثالثا- أنه قد أُعطي معجزة كمعجزة يونان النبي دليلاً على صدقه.فثبت بذلك أن أساس المسيحية مبني على تلك المعجزة وحدها، بل إنها هي المعجزة الحقيقية عند المسيحية كما أن الآثار القديمة في التراث المسيحي من صور وعبارات منحوتة في أول عهد المسيحية أيضًا تشير إلى هذا الأمر، أعني صورة راع مع خرافه، وصورة سفينة نوح، وصورة يونان النبي وهو يدخل في بطن الحوت.فكل هذا يدل على أن هذه هي معجزة المسيحية، بل إن المسيح العليا نفسه قد اعتبرها معجزته الفريدة والحقيقية.فقد ورد في الإنجيل أن المسيح اللي كان يلقي الوعظ، فحينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم، نريد أن نرى منك آية؟ فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى لــه آية إلا آية يونان النبي.لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال" (متى ١٢: ٣٨-٤٠).فالمسيح الا لم يردّ على هؤلاء بأني قد أريتكم آيات كثيرة فلم لا تنتفعون بها، كما لم يقل لهم إني سأريكم آيات كثيرة، بل قال لهم لن أريكم أي آية إلا آية يونان النبي.وهذا يدل على أن المسيح قد اعتبر آيته هذه هي الآية الحقيقية.والبديهي أن ليس ثمة نبي قد أتى بآية واحدة فقط، بل إن الإنجيل نفسه يخبرنا أن المسيح قد أرى آيات أخرى كثيرة.فقول المسيح ال " ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي" إنما يعني أنه فيما يتعلق باليهودية فإن الآية الهامة والمحورية التي أُعطيها المسيح إنما هي آية يونان النبي، وذلك في رأي المسيح نفسه.وهذا ما تؤكده شهادة النصارى الأوائل أيضًا، كما بينتُ من قبل.والحق أن المسيحي من الزمن الأول هو

Page 123

الجزء الخامس التي ١١٦ سورة مريم الأحق والأولى بأن يفهم الهدف من المسيحية، وإن أول صورة من صورهم الثلاث نحتها المسيحيون الأوائل في السراديب إنما تتعلق بحادث يونان النبي، وهذا دليل على أن المسيحيين الأوائل كانوا يعتقدون أن آية يونان النبي هي معجزة المسيح الحقيقية والحيوية، أما الصورتان الأخريان فهما تابعتان لها..بمعنى أن آية يونان النبي التي أُعطيها المسيح هي نفسها تدل على أن المسيح بعث منجيا، وراعيا كذلك كما سأيين لاحقا، حيث ذهب المسيح اللة لجمع خرافه الضالة إلى إيران وأفغانستان وكشمير، وبلغهم رسالة الله تعالى (80-78 Jesus Died in Kashmir P).إذن فإن آية المسيح الأساسية الفريدة والكاشفة لمكانته العظمى إنما هي آية يونان النبي، وذلك بشهادة المسيحيين الأوائل وأيضًا بحسب قول المسيح ال نفسه.وإنجيل لوقا أيضًا يؤكد ذلك إذ ورد فيه قول المسيح: "هذا الجيل شرير، يطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضًا لهذا الجيل" (لوقا ۱۱: ۲۹-۳۰).وجدير بالملاحظة أن لوقا قد سجل هنا أمرًا زائدا.فبينما يقول "متى" إن المسيح قال عن ذلك الجيل "لا تعطى له آية إلا آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال.رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه لأنهم تابوا بمناداة ،يونان وهوذا أعظم من يونان ههنا متى :۱۲: ٣٨-٤١)، يركز لوقا على قول المسيح "لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضًا لهذا الجيل".وكأنه يركز خاصة على أن المسيح سيكون آية لهذا الجيل على النحو الذي كان عليه يونان النبي آية لأهل نينوى.لقد تبين من هذه الفقرات والأدلة أن الآية التي ظهرت للمسيح في زمنه إنما هي آية يونان النبي.وما هي تلك الآية؟ لقد شرحها المسيح نفسه بقوله: "لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاث أيام وثلاث ليال".

Page 124

الجزء الخامس واعلم ۱۱۷ سورة مريم أن الشبه بين شيئين لا تعني بالضرورة أن يكونا مماثلين في كل شيء تماما، إنما المراد أن يماثلا في الأمور الأساسية الحيوية.وهذا ما يقصده المسيح ال بقوله هذا، أي أن يمكث ثلاثة أيام وثلاث ليال في القبر في حماية الله تعالى كما مكث يونان النبي في بطن الحوت محميًا بيد الله تعالى.ذلك أن دخول أحد في بطن الحوت ليس بمعجزة، فهناك آلاف من الناس قد يلتقمهم الحوت، ولا أحد معجزة.فما هي معجزة يونان النبي إذن؟ إنما هي أنه ظل في بطن الحوت محميًّا بيد الله تعالى ليكون لقومه آية من عند الله.والآن نرى كيف مكث يونان النبي في بطن الحوت ثلاثة أيام.نقرأ في كتابه في يسمي ذلك التوراة ما يلي: "وصار قول الرب إلى يونان بن أَمتَّايَ قائلاً: قُمْ واذهَبْ إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي.فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب.فنزل إلى يافا، ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب.(أي عوضا عن أن يذهب يونس إلى نينوى ليبلغ أهلها رسالة الله، كما يفعل أنبياء الله.ورسله عملاً بأوامره الله فكر في نفسه أن الله رؤوف رحيم كريم، ينذر الناس بالعذاب على لسان رسله أولاً، وحين يتضرعون ويبتهلون يعفو عنهم، فيتهمون الرسل بالافتراء إذ لم يحل بهم العذاب؛ وأنا لست ممن يتحمل هذا الخزي والعار، فلا أذهب إلى نينوى أصلاً).فأرسل الرب ريحًا شديدة إلى البحر، فحدث نوء عظيم في البحر حتى السفينة تنكسر.فخاف الملاحون وصرخوا كلُّ واحد إلى إله، وطرحوا الأمتعة التي كادت في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم.(علما أن السفن في الزمن الغابر كانت شراعية لا تحمل أثقالاً كبيرة، فإذا جاء الطوفان وخاف الناس على غرقها ألقوا بعض أمتعتهم في البحر لتخف السفينة).وأما يونان فكان قد نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوماً ثقيلاً.

Page 125

الجزء الخامس ١١٨ سورة مريم أي أنه فيما كان الآخرون يدعون الله تعالى ويخففون من أحمال السفينة، كان أن يونس يغط في نوم عميق).فجاء إليه رئيس النُّوتية وقال له: ما لك نائما؟ قُمِ اصْرُخ إلى إلهك عسى يفتكر الإله فينا فلا نهلك وقال بعضهم لبعض: هلمّ نلقى قُرَعًا لنعرف بسبب من هذه البلية؟ فألقوا قرعًا، فوقعت القُرْعة على يونان.فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا ؟ ما هو عملك، ومن أين أتيت؟ ما أرضك، ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر.هي (إن بيان التوراة هذا خطأ، إذ لم يكن يونس عبراني الأصل، بل كان من قوم آخرين إذ كان مرسلاً إلى نينوى التي هي عاصمة الدولة الأشورية، فكان أشوريا.علما أن أشور لم تكن في بلاد الشام، وإنما هي من ممالك العراق القديم، وكانت تقع شمالي مدينة بابل، وكانت حدودها تصل إلى أرمينيا شمالاً، وإلى كردستان شرقا، وإلى جزء من الأراضي الواقعة غربي نهر دجلة غربا؛ أي أن أشور كانت تضم جزءا من العراق الحالي أيضا.لقد كانت دولة قوية في الأيام الغابرة، وكانت عاصمتها في البداية مدينة أشور الواقعة على بعد ٦٠ ميلا شمالي الموصل، وتسمى حاليا قلعات شرجت.ثم انتقلت العاصمة إلى مدينة نينوى.والباحثون الأوروبيون أيضًا مختلفون في كون يونس من بني إسرائيل (الموسوعة اليهودية : Jonah).فخاف الرجال خوفًا عظيمًا وقالوا له: لماذا فعلت هذا؟ فإن الرجال عرفوا أنه هارب من وجه الرب لأنه أخبرهم.فقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا، لأن البحر كان يزداد اضطرابًا؟ فقال لهم خُذوني واطرحوني في البحر فيسكُن البحر عنكم، لأني عالم أنه هذا النوء العظيم عليكم.بسيي ولكن الرجال جذفوا ليرجعوا السفينة إلى البر ، فلم يستطيعوا لأن البحر كان يزداد اضطرابًا عليهم.فصرخوا إلى الرب :وقالوا آه يا رب لا نملك من أجل نفس هذا الرجل، ولا تجعل علينا دما بريئًا، لأنك يا رب فعلت كما شئت.ثم أخذوا

Page 126

الجزء الخامس ۱۱۹ سورة مريم يونان وطرحوه في البحر، فوقف البحر عن هيجانه فخاف الرجال من الرب خوفًا عظيمًا، وذبحوا ذبيحة للرب، ونذورا نذورا.وأما الرب فأعدَّ حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال.فصلى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال: دعوتُ من ضيقي الرب فاستجابني.صرخت من جوف الهاوية فسمعت صوتي.لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر جازت فوقي جميع تياراتك ولججك، فقلت: قد طُردت من أمام عينيك، ولكني أعود أنظر إلى هيكل قدسك.قد اكتنفتني مياه إلى أحاط بي عمر.التف عشب البحر برأسي.نزلتُ إلى أسافل الجبال.مغاليق الأرض على إلى الأبد.ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي.حين أعيت في نفسي ذكرتُ الرب، فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك.الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم، أما أنا فبصوت الحمد أذبح لك، وأوفي بما نذرتُه.للرب الخلاص.النفس.وأمر الرب الحوت، فقذف يونان إلى البر.ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قُم اذهَبْ إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد لها المناداة التي أنا مكلّمك بها.فقام يونان وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب.أما نينوى فكانت مدينة عظيمة لله مسيرة ثلاثة أيام.فابتدأ يونان يدخل المدينة مسيرة يوم واحد، ونادى وقال : بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى.فآمن أهل نينوى بالله، ونادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم.وبلغ الأمر ملك نينوى، فقام عن كرسيه، وخلع رداءه عنه، وتغطى بمسح، وجلس على الرماد.ونودي وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه قائلا: لا تذق الناس، ولا البهائم، ولا البقر، ولا الغنم شيئًا.لا تَرْعَ ولا تشرب ماء.وليتغطّ الناس والبهائم، ويصرخوا إلى الله بشدة ويرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم.لعل الله يعود ويندم، ويرجع عن حُمُو غضبه فلا نهلك.

Page 127

الجزء الخامس ۱۲۰ سورة مريم فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه.فغم ذلك يونانَ عَمَّا شديدًا، فاغتاظ وصلى إلى الرب وقال: آه يا رب.أليس هذا كلامي إذ كنتُ بعد في أرضي.لذلك بادرتُ على الهرب على ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف رحيم بطىء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر.فالآن لأن موتي خير من حياتي.فقال الرب: هل اغتظت نفسي مني يا رب، بالصواب؟ خُذ وخرج يونان من المدينة، وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلة، وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة.فأعد الرب الإلهُ يَقْطينةً فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلّصه من غمه.ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحًا عظيمًا.(لاحظ أن التوراة تقول هنا أن يونس صنع لـه المظلة أولاً، ثم أخرج الله اليقطينة؛ مع أنه لم تكن هناك حاجة إلى اليقطينة بعد المظلة، لأن المظلة أروح من اليقطينة.ولكن القرآن الكريم لا يذكر أي مظلة وإنما يذكر اليقطينة فقط (الصافات: ١٤٧)؛ فثبت أن بيان القرآن هو الصحيح والأقرب إلى المنطق).ثم أعدّ الله دودة عند طلوع الفجر في الغد، فضربت اليقطينة فيبست.وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعدَّ ريحًا شرقية حارّة، فضربت الشمس على رأس يونان، فذبُل، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي.فقال الله ليونان: هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة ؟ فقال : اغتظتُ بالصواب حتى الموت.فقال الرب: أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربّيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت أفلا أشفقُ أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة * من الناس الذي لا يعرفون يمينهم من شمالهم، وبهائم كثيرة" (يونان: الإصحاحات ١-٤) * الربوة تعني حوالي عشرة آلاف نسمة.(المترجم)

Page 128

الجزء الخامس ۱۲۱ سورة مريم هذه هي واقعة يونان النبي التي أشار المسيح إليها هنا.إنها توضح لنا أن يونس ال لما تلقى الوحي من الله تعالى أن اذهب إلى قومك وبلغهم رسالات الله، فلم يذهب للتبليغ، بل فكر في نفسه أن رسل الله عندما يبلغون قومهم رسالات الله يبلغونهم أيضًا بعض الأنباء التي فيها إنذار وتحذير من الله تعالى، ولكن الله تعالى رحيم بعباده ويعفو عنهم، وهذا يعرّض رسله للخزي والإهانة.فقرر يونس أن يهرب إلى بلد آخر حتى لا يرى هذا الخزي من قبل قومه.ولكن الله تعالى أراد منه أن يذهب إلى قومه ليبلغهم رسالاته.فألقاه في البحر على يد هؤلاء الملاحين، ثم أمر حونًا كبيرًا ،بابتلاعه فابتلعه وهو حي وتقول التوراة إنه كان يدعو ويبتهل إلى الله تعالى وهو في بطن الحوت والبديهي أن الحي هو الذي يدعو الله تعالى وليس الميت.ثم قذفه الحوت بأمر الله تعالى إلى البر لا في البحر، ثم أرسله الله تعالى إلى نينوى ليبلغهم رسالته فذهب ونجح في دعوتهم.نتوصل من دراسة هذه المعجزة إلى ما يلي: الأول: أن يونس دخل في بطن الحوت وهو حي.الثاني: أنه مكث في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وهو حي.الثالث: أنه خرج من بطنه وهو حي.الرابع: أن زمن دعوته بدأ في الحقيقة بعد خروجه من بطن الحوت.إذ لم يخبر الناس قبل هذا الحادث أن الله تعالى قد بعثه لإصلاحهم من الممكن أن يكون قد ذكر ذلك لبضعة أشخاص، ولكنه لم يوجه دعوته إلى الناس عامة، بل أراد أن يفر إلى بلد آخر، ولكن الله تعالى أرجعه إلى بلده ثانية بعد حادث الحوت ليبلغ قومه رسالة الله، ففعل وآمن به قومه.بعد استيعاب هذه المعجزة جيدًا لا يسع أحدًا أن ينكر أن هذه المعجزة لا تنطبق على المسيح العليا إلا بالشروط الآتية: الأول: أن يدخل المسيح في القبر وهو حي.الثاني: أن يمكث في القبر وهو حي.الثالث: أن يخرج من القبر وهو حي.

Page 129

الجزء الخامس ۱۲۲ سورة مريم الرابع: أن تتاح له فرصة الدعوة الناجحة بعد خروجه من القبر.من فهذه هي الأمور الأربعة التي تستفاد حادث يونان النبي.فإذا كانت قصة الصلب المسيحية صحيحة فثبت أن هذه الأمور الأربعة كلها لم تتحقق في المسيح العليا.أعني: أولاً: إذا كان المسيح قد مات على الصليب، و(ثانيا) إذا كان قد مكث في القبر، بل في الجحيم، وهو ميت، فلم تثبت له أي مشابهة بيونان النبي.ذلك أن يونان دخل في بطن الحوت وهو حي ومكث في بطنه وهو حي، وكان على صلح الله تعالى إذ كان يدعوه ويبتهل إليه؛ ولكن المسيح دخل في القبر وهو ميت، ثم إنه مكث في الجحيم كل هذه الأيام، وهذا يعني أنه صار من المبعدين عن ثالثا: إذا كان المسيح قد خرج من القبر بعد أن عاد إلى الحياة ثانية فلم تثبت مماثلته بيونان النبي، لأن يونان لم يخرج من بطن الحوت بعد أن عاد إلى الحياة ثانية، بل كان حيًّا قبل دخوله في بطنه، وكان حيًّا وهو في بطنه، وكان حيًّا حين خرج مع من بطنه.الله تعالى.رابعا: وإذا كانت مهمة المسيح قد انتهت بعد خروجه من القبر بعد أن عاد إلى الحياة - كما تزعم المسيحية أنه مكث أولاً في الجحيم للأيام الثلاثة كفارةً ذنوب الناس، ثم بعد عودته إلى الحياة صعد إلى السماء ليجلس على عرش أبيه - فلم تثبت له أي مماثلة بيونان النبي.ذلك أن الله تعالى قد أتاح ليونان النبي فرصة الدعوة الناجحة بعد خروجه من بطن الحوت.والحق أن هذه هي معجزته الحقيقية إذ بين الله تعالى للدنيا أن يونان رفض أوامرنا ولم يرد أن يكون رسولاً منا خوفًا منه أن يرفضه القوم فيرى الخزي والهوان من قبلهم فهرب، فألقيناه في بطن الحوت، فلبث في بطنه حيًّا، ثم قذفه الحوت إلى اليابسة بأمرنا، فأرسلناه ثانية إلى بلدة نينوى نفسها، فبلغهم رسالتنا، فجعلناه ناجحا في دعوته.وهكذا كشف الله للدنيا أن الذي يختاره لرسالته فإنه مهما ظن أنه ضعيف ومهما احتقره الناس، فإن الله تعالى قادر على أن يجعل رسالته تنجح على يد هذا الإنسان الضعيف المحتقر نفسه، ويجعله من المقبولين بين القوم.

Page 130

الجزء الخامس ۱۲۳ سورة مريم هذه هي معجزة يونان النبي التي أظهرها الله لأهل نينوى.ولكن قصة المسيح، كما يعرضها المسيحيون على العالم لم تُثبت للمسيح أي مشابهة بيونان النبي؛ لأن معجزة يونان الحقيقية إنما هى أن الله تعالى وفقه للقيام بالدعوة الناجحة، فرأى القوم أن هذا الذي كان قد فر منهم بسبب ضعفه قد صار مصلحًا ناجحًا، فصدقوه وغيّروا ما بأنفسهم.إن أهل نينوى لم يروا يونان النبي وهو يدخل في بطن الحوت، ولم يروه أيضًا وهو يمكث في بطنه حيًّا، ثم لم يروه وهو يخرج من بطنه حيًّا، إذ كان يونان إذاك بعيدا عنهم مسافة ألف ميل تقريبا؟ ولكنه حين عاد إلى نينوى، فرأوا أن ذلك الشخص الذي هرب من عندهم ألا خوفًا من دعوته، قد أخذه الله تعالى وأتى به إليهم ثانية فجعله ناجحا في دعوته.فكانت معجزة عظيمة لهم إذ كشفت لهم عما يملكه الله تعالى من قدرة عظيمة وقوى خارقة.ينجح في فإذا كان المسيح اللي يعلن عن نفسه: "لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضًا لهذا الجيل" (لوقا ۱۱ : ۳۰ ، فالسؤال الذي يفرض نفسه هو: : ما الذي شاهده أهل نينوى.لا شك أن دخول يونان في بطن الحوت ،آية، وأن بقاءه في بطنه حيًّا أيضا آية، وأن خروجه من بطنه حيًّا أيضًا آية، ولكنها آيات لم يراها أهل نينوى، إن الآية التي شاهدوها إنما هي أن يونان النبي سولت له نفسه أن لا يبلغهم رسالات الله ففرّ من عندهم إلى بلد آخر، ولكن الله تعالى اضطره للعودة إليهم من مكان يبعد عنهم مئات الأميال، بعد أن ألقاه في شتى المحن والشدائد ثم أنجز على يده المهمة التي أجلها.لقد كفر به القوم وعارضوه في أول الأمر، ولكنهم اضطروا في آخر المطاف للإذعان له والانقياد.هذه هي الآية التي رآها أهل نينوى.ولن بعثه من تتحقق هذه الآية في المسيح إلا إذا دخل في القبر حيًّا، ومكث في القبر حيًّا، وخرج من القبر حيًّا.غير أن هذه الجزئية من المعجزة أيضا ما كان العدو ليشاهدها.أما إذا قام المسيح ال بدعوة الخراف الضالة من بني إسرائيل، التي كانت تقطن قريبا من نينوى وفي إيران وأفغانستان وكشمير، وأدخلها في دينه، ونجح في إنجاز المهمة

Page 131

١٢٤ سورة مريم الجزء الخامس الله، التي وكلها الله إياه، فقد ثبتت مماثلته بيونان النبي، وانكشفت للدنيا المعجزة التي وعد بالإتيان بها.أما إذا لم يثبت ذلك فلم يأت المسيح بآية كآية يونان النبي.فكما أن يونان النبي ذهب لدعوة قومه بعد خروجه من بطن الحوت، ونجح في دعوتهم، كان لزاما على المسيح أيضًا بعد خروجه من القبر أن يبلغ بني إسرائيل رسالات إلى الهدى.وإن لم يفعل ذلك فلم تتحقق فيه آية ويدعوهم كاملة يونان النبي ولا يجوز القول إنه أرى قومه الآية التي أراها يونان النبي قومه.ذلك أن أهل نينوى رأوا بأم أعينهم أن الشخص الذي هرب من عندهم من دون أن يبلغهم رسالاته منه أنه أحقر من أن يفعل ذلك، قد عاد إليهم ثانية حتى اضطروا للإيمان به، ولكن المسيح إذا كان قد غاب بعد حادث الصليب فكيف ثبت شبهه بيونان، وما الآية التي رآها الناس على يده كما رآها أهل نينوى على يد يونان.إذن فالآية التي كان على المسيح أن يُري الناس إياها كما أراها يونان النبي ظنَّا هي يريهم كيف يحقق أي أن الله تعالى ما يريد على يد عباد يظنون أنهم أحقر من أن يحملوا تلك المسؤولية – فلم يُرها المسيح، وأما الذي لم يُره يونان فقد أراه المسيح.لقد دخل يونان في بطن الحوت ولكن أهل نينوى لم يروا ذلك، ومكث في بطنه حيا ولكنهم لم يروا هذا أيضًا، وخرج من بطنه حيًّا، ولكنهم لم يروا تلك أيضًا؛ ولكن الله تعالى لما أتى به إلى نينوى ثانية أنجز المهمة التي فوضها الله إليه، وبالتالي أخبر الناس أن لا مهرب أمام قدر الله تعالى.لقد هربت من قدره فأتى بي إليكم ثانية.هذه هي الآية التي رأوها على يده.وكل من كان عنده ذرة من العقل إذا تدبر هذه الآية لقال تلقائيا : سجان الله، ما أعظمها آية! كان من يونان يحسب نفسه أحقر من أن يحمل رسالة الله إلى أهل نينوى، فخاف وهرب إلى بلد آخر، ولكن الله تعالى أخذه وأتى به إليهم ثانية، فلما بلغهم رسالاته لم يجدوا بدا الإيمان به والإذعان له، وذلك خلاف ظنه أنهم لن يصدقوه.فكلما تدبر العاقل هذه الآية ازداد إيمانًا بقدرة الله وقال من تلقائيا سبحانك اللهم، ما أعظم شأنك وما أجلَّ قدرتك! تعز من تشاء وتذل من تشاء.أما لو قال يونان لقومه: لقد من

Page 132

الجزء الخامس ۱۲۵ سورة مريم مكثت في بطن الحوت حيًّا، وخرجت من بطنه حيًّا، لرموه بالكذب والخداع، ولم يصدقوه.فشبه المسيح بيونان النبي لا يتحقق إلا إذا دخل القبر حيًّا، ومكث فيه حيًّا، وخرج منه حيًّا، ثم قام بعد حادث الصليب بالدعوة الناجحة في قبائل بني إسرائيل.ولكن الإنجيل يخبرنا أن الآية التي لم يُرها يونان قومه قد أراها المسيح قومه، وأما الآية التي أراها يونان قومه فلم يُرها المسيح قومه.تخبرنا التوراة أن يونان لم يُر أهل نينوى آية دخوله في بطن الحوت حيًّا، ومكوثه فيه حيًّا، وخروجه منه حيًّا، ولكن الإنجيل يقول أن المسيح أرى الناس آية دخوله في القبر، ومكوثه فيه، وخروجه منه ثم تخبرنا التوراة أن الآية التي أراها.يونان قومه هي أنه بعد خروجه من بطن الحوت قام بدعوتهم حتى اضطروا للإيمان به.ولكن الإنجيل يقول أن المسيح غاب بعد خروجه من القبر، دون أن يقوم بأي دعوة وهذا يعني أن الآية التي أتى بها يونان والتي هي آيته الحقيقية لم يأت بها المسيح، وأن ما لم يُره يونان أراه المسيح.منه ثم تخبرنا التوراة أن يونان دخل في بطن الحوت حيا، ومكث فيه حيًّا، وخرج حيا، ولكن المسيحيين يقولون أن المسيح دخل القبر وهو ميت، ومكث في القبر ثلاثة أيام وهو ميت، ثم خرج منه بعد أن عاد إلى الحياة.فلو صح قولهم هذا لثبت أن المسيح لم يُرِ آية يونان النبي؛ وأما لو ثبت أن المسيح قد أرى آية يونان النبي، وأنه لم يمت على الصليب، وأنه لم يمكث في القبر ميتًا، لبطلت فكرة الكفارة كلها، لأن الكفارة إنما تثبت إذا ثبت أن المسيح قد مات على الصليب حاملاً عن الناس ذنوبهم، ولكنه إذا ثبت أنه لم يمت على الصليب فثبت أيضا أنه لم يقدم أي فداء، وبالتالي بطلت الكفارة.إذن فإن حادث الصليب، كما يقدمه المسيحيون، يناقض تماما المعجزة التي أراها يونان النبي، والتي وعد المسيح قومه أنه سيُريهم إياها.هلم الآن لنرى هل تحدث المسيح في نبوءاته عن النتيجة التي استنتجناها من نبوءته عن آية يونان النبي؟ عندما نفحص الإنجيل من هذا المنظور تأخذنا دهشة

Page 133

الجزء الخامس ١٢٦ سورة مريم والمراد من كبيرة، إذ نجد المسيح يقول نفس ما قلناه آنفا بل إن الأنبياء الذين أتوا قبله، والذين بشروا بمجيئه هم الآخرون قد أشاروا إلى هذا الأمر.لقد ورد في التوراة: "يقول السيد الربُ جامعُ مَنْفَيّي إسرائيل أجمعُ بعد إليه إلى مَجْمُوعيه" (إشعياء ٥٦: ٨).فالنبي إشعياء ينبئ هنا أنه سيأتي زمان حين يجمع الله تعالى خراف بني إسرائيل الضالة، وسيبعث نبيًّا يجتمعون حوله.ونبوءته هذه إشارة إلى بعثة المسيح، إذ ليس ثمة شخص آخر سوى المسيح ادعى أنه بعث لجمع خراف بني إسرائيل الضالة.هذه الخراف الضالة القبائل الإسرائيلية العشر التي دمرها وشتتها العراقيون في عهد نبوخذنصر البابلي.والمؤسف في هذا الهجوم أن اليهود كانوا إذاك مصابين بمرض الفرقة والتناحر؛ يعادي بعضهم بعضًا.لقد انقسموا إلى دولتين، تسمى إحداهما إسرائيلية والأخرى يهودية وكانت عاصمة إحداهما ،أورشليم، بينما اتخذت الأخرى لها عاصمة أخرى.ولما هاجم العراقيون اليهود للقضاء على حكمهم انضمت إليهم إحدى الدولتين اليهوديتين المتناحرتين، فاستولى العراقيون على أرض اليهود مستغلين فرقتهم وتشتتهم، ودمروا كل الأماكن المقدسة اليهودية تدميرًا حتى ذبحوا الخنزير في معبد سليمان العليا في أورشليم، وصبّوا على اليهود مظالم كثيرة أخرى.لقد قرر العراقيون قمع اليهود تماما لوجود العداء القديم بين الطرفين.فأخذوا معهم عشرا من القبائل اليهودية ونفوهم إلى الشرق، ولم يبق في فلسطين من اليهود إلا قبيلتان، وهما اللتان ساعدتا العراقيين ضد قومهما.وأما القبائل العشر المنفية فقد اكتفت التوراة بقولها عنهم إن العراقيين قاموا بتشتيتهم في شرق إيران، ولكن بحثنا يؤكد أنهم نُفوا إلى أفغانستان وكشمير، وهكذا حالت بينهم وبين أرضهم مسافة هائلة، و لم يستطيعوا التجمع بعد ذلك كما أراد لهم البابليون، فظلت أحوالهم في طي الكتمان لمدة طويلة.ولكن العراقيين ما شتتوا هؤلاء اليهود كلهم في الشرق، بل أسكنوا بعضهم في بابل وما حولها ليخدموهم.وقد رجع هؤلاء إلى فلسطين ثانية بمساعدة ملوك ميديا وفارس وعمروا أورشليم وقراها مرة أخرى (الموسوعة التوراتية: Cyrus).وقد ورد ذكرهم في

Page 134

الجزء الخامس ۱۲۷ سورة مريم القرآن الكريم أيضًا.بيد أن اليهود الذين تم جلاؤهم إلى كشمير وأفغانستان ما استطاعوا العودة إلى وطنهم.كما أنهم نسوا كثيرًا من عاداتهم وتقاليدهم وحضارتهم متأثرين بالحضارة البوذية بحكم إقامتهم بين البوذيين أحقابًا، فلم يبق محال لعودتهم إلى أرض الوطن.وكان اليهود يظنون أن المسيح سيظهر فيأتي إليهم بهذه الخراف الإسرائيلية الضالة، وفق نبوءة إشعياء التي ذكرتُها آنفًا.بل إن المسيح الله نفسه قد ذكر هذا الأمر في مناسبات عديدة فذات مرة بعث جماعة من تلاميذه للتبشير، وأوصاهم قائلا: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل "الضالة" (متى ١٠: ٥-٦).وقد نصحهم بالذهاب إلى خراف بني إسرائيل الضالة فحسب دون الأمم الأخرى تحقيقا لنبوءة إشعياء بأن بني إسرائيل المشتتين سيجتمعون على يد المسيح ثانية.كذلك ورد في الإنجيل أن امرأة جاءت المسيحَ ال ببنتها التي قد ركبها الجن.ويبدو أن عامة الناس في ذلك العصر كانوا يظنون أن الجن يركبون الناس ويصيبولهم بالمرض، وإذا طُرد الجني تماثل المريض للشفاء.فسمعت المرأة أن المسيح يطرد الجن، فجاءت المسيح مسرعة، وهو خارج إلى جهة، وصرخت إليه قائلة: يا سيد، يا مقدَّس الرب، ارحمني واطرد الجن من بنتي.ولكن المسيح لم يكترث لها لكونها من أمة أخرى.ولكنها استمرت في صياحها والتماسها للمسيح، فقال لـه تلاميذه: هذه امرأة تصرخ إليك من أميال أن تطرد الجن من ابنتها.فأجابهم بقوله: " لم أُرْسَلْ إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (انظر متى ١٥: ٢١-٢٤).فالمسيح اللي قد صرح هنا أن الغاية الحقيقية من بعثته أن يقوم بالدعوة بين القبائل الإسرائيلية العشر المشتتة، ويرجع بهم إلى دينهم.ويبدو أن أنبياء بني إسرائيل كانوا يعرفون، بناء على وحي الله تعالى، أن القبائل الضالة قد نسوا دينهم و لم يعودوا يعملون بشرع موسى، بحكم عيشهم بين الأمم الأخرى، وأن الله تعالى قد قرر أن يرجع بهم إلى دينهم ثانية.وإن كلمات "خراف

Page 135

الجزء الخامس ۱۲۸ سورة مريم بيت إسرائيل الضالة" أيضا تؤكد أن هؤلاء لم يبتعدوا عن أرضهم فحسب، بل عن دينهم أيضا، متأثرين بأهل الأديان الأخرى، فكانوا الخراف الضالة" ظاهرا وباطنا.ومن أجل ذلك قال المسيح الا لليهود إنه لن يريهم إلا آية يونان النبي، وهذه هي آيته الكبرى، مؤكدًا أن مهمته الأصلية إنما هي جمع خراف بيت إسرائيل الضالة هؤلاء.كذلك ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يوحنا ١٠: ١٦).فقد أوضح المسيح اللي هنا أن أولئك اليهود الآخرين يعيشون في بلاد أخرى لا في هذا البلد، وقد قرر الله تعالى أن يأتي بهم.أما هؤلاء فقد كفروا به لعنادهم، ولكن أولئك لن يعاندوه بل سيسرعون إلى تصديقه."I أما قوله وتكون رعية واحدة وراع "واحد فيبين أن معظم قوم موسى كانوا نسوا شرعه فأراد الله تعالى أن يرجع بهم بواسطة المسيح إلى الشرع الموسوي ثانية، ويجعلهم جميعًا أمة واحدة.لقد ثبت من هذه الفقرات أن الله تعالى كان قد أنبأ الأنبياء الأولين عن مهمة المسيح، وهي: الأول: أنه سيبلغ رسالة الله يهود بلاد الشرق كما بلغها يهود فلسطين.الثاني: وأنه إذا كانت الخراف الإسرائيلية من فلسطين لم تستجب لندائه فإن الخراف خارجها ستستجيب لندائه وتؤمن به، وذلك بحسب قول المسيح.الثالث وأنه لم يكن للمسيح الخيار في أن يذهب أو لا يذهب إلى تلك الخراف الضالة، بل كان لزاما عليه أن يذهب إليهم ليبلغهم دعوته.ولو أننا قارنا هذه الاستنتاجات الثلاثة بآية يونان النبي لوجدنا بينهما شبها تاما.فأولا: إن دراسة وقائع يونان النبي تؤكد أنه لم يكن يقطن في نينوى، ولكنه أمر من عند الله تعالى بالذهاب إلى نينوى التي كانت تقع شرقي وطنه ليبلغهم رسالات الله؛ وبالمثل أمر المسيح بالذهاب إلى بلد أجنبي شرقي وطنه لتبليغ دعوته.

Page 136

الجزء الخامس ۱۲۹ سورة مريم ثانيًا: كما يتضح من أحوال يونان النبي أن الله تعالى أرسله إلى نينوى رغم أنفه، إذ هرب من تبليغ أهلها؛ وبالمثل كانت النبوءات تؤكد أن الله تعالى سيضطر المسيح للهجرة من بلده إلى بلد أجنبي، ليوصل رسالته عن طريقه إلى خراف بني إسرائيل الضالة.ثالثا: أن المسيح حين يصل إلى القوم سيصدقونه ويؤمنون بدعواه، كما حصل بيونان النبي حيث إنه لما أُرغمَ على الذهاب إلى أهل نينوى وعرض عليهم دعواه، رفضوه في البداية رفضًا خفيفا، ولكنهم آمنوا به لما رأوا آثار العذاب.وبالاختصار لو قرأنا هذه العبارات مع آية يونان النبي لتبين لنا أن المعجزة التي كان على المسيح أن يريها مثل يونان النبي، ما كانت لتكتمل بدخوله في القبر حيًّا، وبمكوثه فيه حيًّا، وبخروجه منه حيًّا، بل كانت لها جزئية أخرى هي أهم جزئيات هذه المعجزة، ألا وهي أن الله تعالى سيذهب بالمسيح إلى القبائل الإسرائيلية الضالة، ليبلغهم رسالات الله فيستمعون له ويؤمنون به؛ وهي آية سيراها خراف بني إسرائيل الضالة كما رأى أهل نينوى آية يونس.والآن لو فحصنا أحوال المسيح لوجدناها مماثلة لأحوال يونان النبي.لقد ولد المسيح في فلسطين، وكانت لغته عبرانية، وكانت أمه من فلسطين، كما أن الرجل الذي سُمي أباه أيضا، وإخوته الآخرين الذين كانوا أبناء لأبيه، وأبناء عماته كلهم كانوا يسكنون في فلسطين.ثم كان يعيش بين قومه مع تقاليدهم وعاداتهم وثقافتهم وأسلوب عيشهم، وهي كلها أمور ذات أهمية قصوى، إذ يصبح المرء مغرما بها.ولكن البلد الذي كان على المسيح أن يذهب إليها لجمع خراف بني إسرائيل كان بلدا أجنبيا لا يربط المسيحَ به رابط فشتان بين اللغة العبرانية واللغة الأفغانية أو الكشميرية.ثم إن القبائل الإسرائيلية الضالة كانوا قد نسوا تقاليدهم وعاداتهم وثقافتهم نتيجة اختلاطهم بالبوذيين وغيرهم من الشعوب القاطنة في هذه البلاد، وكان من الصعب أن يتخلوا عن هذه التقاليد الجديدة.أضف إلى ذلك السفر الطويل الوعر والشاق بين فلسطين وأفغانستان وكشمير.إذ لم تتيسر في تلك العصور أي تسهيلات في السفر، ثم إن مسافة ألفين ونصف الألف الأميال من

Page 137

الجزء الخامس ۱۳۰ سورة مريم مسافة هائلة.إذن فكما أن يونان النبي خاف من الذهاب إلى نينوى، كان قلب المسيح أيضا ينخلع من أهوال السفر إلى أفغانستان وكشمير؛ إذ كان عليه أن يتخلى عن لسانه ويترك وطنه وأعزته وأقاربه وكان القيام بالدعوة في فلسطين أسهل له، ولكن كما أن يونان النبي لما فر من المسؤولية، أرغمه الله على القيام بها، حيث خلق الظروف التي جعلته يدرك أن لا مهرب لـه أمام قدر الله تعالى، وإنما عليه أن يذهب حيث يريده الله أن يذهب، فعاد إلى أهل نينوى يبلغهم رسالات الله ؛ كذلك خلق الله للمسيح ظروفا مماثلة، حيث اندلعت في البلد موجة عارمة من المعارضة، حتى رُفعت ضده قضية في المحكمة فاضطر للمثول أمامها، فحكمت بإعدامه، فعلق على الصليب، ولكن الله تعالى نجاه من الموت على الصليب حسب وعده اله مثلما نجى يونان من الموت المحقق.فكما أن يونان لما أُلقي في البحر أمر الله تعالى حوتًا من الحيتان بابتلاعه، فمكث في بطنه ثلاثة أيام حيًّا، ثم خرج من بطنه حيًّا؛ مما زاده إيمانًا مع إيمانه بأن ربه عظيم القدرة إذ يحمي عباده بطريق خارق كذلك فعل الله بالمسيح الله، فإنه لما أُنزل من الصليب حيَّا، ومكث في القبر حيًّا، وخرج منه حيًّا، ازداد إيمانًا مع إيمانه وعلم أن ربه عظيم القدرة.بيد أنه لما خرج من القبر اضطرته الظروف للهجرة إلى ذلك البلد الذي أراده الله أن يذهب إليه.ذلك أن الشخص الذي تقرر الدولة إعدامه إذا نجا من الموت فلا يمكنه العيش في أراضيها بعد ذلك، إذ ستقبض عليه ثانية وتعدمه.لا شك أن أي نبي لا يخاف الموت في سبيل الله تعالى، ولكنه لا يمكنه أيضا أن يعيش عيشة العاطلين الكسالى.إنه يُخلَق للعمل، ويعشق العمل.إنه كالآلة التي تعمل كل حين.فما كان المسيح الا ليقضي باقي أيام حياته مختفيًا هنا وهناك بدون القيام بدعوته.لذا فإن حادثة الصليب، إذا كانت قد زادته إيمانًا مع إيمانه، فإنها قد أرغمته أيضًا على الهجرة فورًا من فلسطين إلى بلاد الشرق، مثلما هاجر يونان النبي.فوصل إلى أفغانستان وكشمير وبلغ أهله رسالات ربه.ولا غرو أنه لما حكى لهم ما جرى له وكيف أن الظروف أرغمته على السفر إليهم، ازدادوا إيمانًا مع إيمانهم وامتلأت بحمد الله وشكره قلوبهم.فإن تواريخ كشمير تذكر لنا أن النبي

Page 138

الجزء الخامس ۱۳۱ سورة مريم - يبدو أن الأمير أي المسيح الا لما وصل كشمير كانت في يديه ورجليه جروح الأطباء في تلك العصور لم يكونوا حاذقين - فما زال الأطباء يداوونها لفترة طويلة.فكم كانت فرحة القوم عظيمة وكم ازدادوا إيمانًا وحبًّا الله تعالى لما ذكر لهم المسيح هذه الأحداث المثيرة، وكيف أن الله تعالى قد جاء به إليهم من فلسطين رغم أنفه من أجل هدايتهم وأنه لو بقى هنالك لأخذوه وأعدموه ثانية.مما لا شك فيه أن الله تعالى كان قادرًا على أن ينجيه من الموت ثانية لو حاولوا صلبه مرة أخرى، ولكنه لو بقي في فلسطين لما كان له أي عمل إلا أن يعلق وينزل من على الصليب مرة بعد أخرى، دون أن يقوم بالدعوة مطلقا.من الممكن أن يكون المسيح الله قد واجه بعض المعارضة من قبل بعض القوم، إذ لا بد للنبي من المعارضة، ولكن التاريخ يخبرنا أن هؤلاء القوم أحبوا المسيح بسرعة وسارعوا إلى تصديقه كبي من أنبياء الله تعالى.(Jesus in Heavens On Earth P.368-369) وإننا لو لم نسلم بهذا التفسير لنبوءة المسيح التي وعد فيها بأنه سيُري آية يونان النبي، لم يعد المسيح إنسانًا صالحا وصادقا، ناهيك عن أن يكون كفارة لذنوب الناس.ذلك أن المسيح ينبئ صراحة إنه يدخل القبر حيًّا، ويمكث فيه حيا، ويخرج حيًّا، وأنه لا بد له من أن يذهب بعد ذلك إلى خراف بيت إسرائيل تحقيقا لمشابهته بيونان النبي.متى ذهب يونان لدعوة أهل نينوى، يا ترى؟ طبعا، بعد أن خرج من بطن الحوت.وبالمثل فإن الفترة الحقيقية لدعوة المسيح إنما تبدأ بعد منه الضالة خروجه من القبر.أما إذا لم يقم المسيح بالدعوة بعد خروجه من القبر حيًّا، ولم يجمع الخراف الإسرائيلية الضالة، فقد ثبت أن المسيح وكذلك إشعياء وغيره من الأنبياء السابقين الذين نبئوا عن المسيح أنه سيجمع الخراف الإسرائيلية الضالة كانوا كلهم - والعياذ بالله - كاذبين.إذن فإن هذه الأمور كلها تدل دلالة قطعية أنه لم يكن من المقدر أن يموت المسيح على الصليب، ولا أن يكون كفارة عن ذنوب الناس.وأما إذا سلموا بالكفارة لاستحال أن يُعتبر المسيح صادقًا، لأن التسليم بالكفارة يبطل أكبر نبوءاته،

Page 139

الجزء الخامس ۱۳۲ سورة مريم كما يبطل أيضًا ما نزل على إشعياء من وحى الله الذي أكده النبيون الآخرون أيضا في نبوءاتهم.فثبت أن المسيح لم يقدم ذلك الفداء الذي يعزوه إليه المؤمنون بالكفارة، وأنه لم يصبح كفارة أبدًا.أحداث وهلموا الآن لنرى واقعة تعليق المسيح على الصليب وما واكبها من لنعلم هل تؤكد هي أن المسيح دخل في القبر حيًّا، ومكث فيه حيًّا، وخرج منه حيا، أم أنه دخل في القبر وهو ميت، ومكث فيه وهو ميت، وخرج منه بعد أن عاد إلى الحياة ثانية؟ فيما يلي الأحداث الهامة التي وردت في الإنجيل والتي تدل على أن المسيح لم یمت على الصليب.يوم الجمعة الأول: إن الوالي الذي مثل المسيح أمامه كان ناصحا للمسيح متعاطفًا معه ، وكان صديقا لبعض المؤمنين به متى :۲۷: ١١-٢٤ ولوقا ٢٣: ١-٢٣).وكان ثمة أشخاص ما كانوا من حواريي المسيح في الظاهر ، ولكنهم كانوا يؤمنون به في قلوبهم، وكان يوسف الرامي واحدًا منهم؛ ويتضح من الإنجيل أن يوسف الرامي هذا كان من شرفاء اليهود وأثريائهم وصديقا للوالي بيلاطس (متى ٢٧: ٥٧.ولما عُرض المسيح على بيلاطس حاول مرارا إطلاق سراح المسيح بحيلة أو أخرى.ومن التدابير التي اتخذها لذلك أنه اختار للفصل في قضيته أواخر ساعات الذي يليه السبتُ اليومُ المقدس لدى اليهود متى (٢٣:٥٤).وكان ذلك السبت يوم عيد رسمي أيضًا، وكانت الحكومة الرومانية تطلق فيه سراح أحد المسجونين استرضاء لليهود، وإشعارًا لهم أن الحكومة تحترم ديانتهم.فحاول بيلاطس إطلاق سراح المسيح بحجة هذه المناسبة الرسمية وقال لليهود: علي أن أعفو اليوم عن السجناء في كل حال، فهل أعفو عن المسيح؟ ولكن اليهود لم يرضوا بذلك وقالوا: يمكنك أن تعفو عن فلان السارق، ولكن لا تتركن المسيح بدون العقاب (متى ٢٧: ۲۲-۲۱).هناك اختلافات كثيرة في الأناجيل بهذا الشأن لا داعي للخوض فيها الآن، إلا أنه من المؤكد أن بيلاطس حين كان جالسا على كرسى القضاء ويحاول إطلاق المسيح ال، إذ جاءه رسول من بيته وقال له إن زوجتك بعثثني إليك.أحد

Page 140

الجزء الخامس وصار ۱۳۳ سورة مريم تألمت فهب من كرسيه ليسمع منه رسالتها فإذا هي تقول: لا تعاقب المسيح، فإني البارحة كثيرًا و لم أنم من أجله، لأن الملائكة جاءتني مرارا تقول: لا تعاقبوا هذا البريء حتى لا تهلكوا انظر متى :۲۷ (۱۹) فلما سمع قولها بذل جهده حتى يرضى اليهود بإطلاق سراح المسيح، ولم يدخر وسعا في سبيل ذلك.ولكن اليهود لم يرضوا، وإنما هددوه بالشكاية إلى الإمبراطور في روما بأن بيلاطس قد تمرد عليه ملكًا.فخاف بيلاطس من قولهم، ودعا بماء غسل به يديه قدام الجميع - ذلك لأن اليهود كانوا مولعين بالكلام بلغة التمثيل - وقال : إني بريء من دم هذا البار ومن هذا الإثم، وإنما دمه عليكم وعلى أولادكم.فقال الجميع بصوت واحد: دمه علينا وعلى أولادنا (انظر متى ٢٧: ٢٤-٢٥).فأسلمه إليهم ليصلبوه.ويتضح من الإنجيل أنهم أخذوا المسيح اللة إلى مكان الصلب في الساعة السادسة بحسب توقيت ذلك الزمن * ، أي كان الوقت ما بين الثالثة والرابعة بعد الظهر.وكان عليهم أن يصلبوا معه في ذلك اليوم اثنين من السارقين.والظاهر أن صلب ثلاثة أشخاص يستغرق وقتًا أطول من صلب شخص واحد.* ورد في يوحنا ١٩: ١٤ ما يلي: "وكان استعداد الفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: هوذا ملككم".وقال النصارى في تفسيره: "كان ذلك ما بين الساعة الثالثة والساعة السادسة، إذ رُفع على الصليب في تمام الساعة السادسة.تحدث الإنجيلي مرقس (١٥: (٢٥) عن صلب السيد المسيح في وقت الساعة الثالثة حيث الجلد منذ بدأ جلد السيد، أما الإنجيلي يوحنا فحسبه وقت الساعة السادسة حيث بدأ رفعه على الصليب.يرى البعض أن الساعة السادسة هنا حسب التوقيت الروماني حيث يبدأ اليوم الجديد من منتصف الليل وليس كالتوقيت اليهودي الذي استخدمه الإنجيليون الآخرون، حيث يبدأ اليوم من الغروب إلى الغروب، أي السادسة صباحًا حيث كاد أن يصدر الحكم وتبدأ الإجراءات الفعلية للصلب.وفي بعض المخطوطات وبعض نصوص الآباء جاءت "نحو الساعة الثالثة" وليس "السادسة"." (تفسير العهد الجديد من تفسير وتأملات الآباء الأولين، القمص تادرس يعقوب ملطي كنيسة الشهيد مار جرجس بإسبورتنج) http://www.alkalema.us/newtestament/john19.htm (المترجم)

Page 141

الجزء الخامس ١٣٤ سورة مريم ثم هناك أمر آخر لا يعرفه المسلمون عادة، ولا النصارى لجهلهم بديانتهم.ذلك أن الصلب في ذلك العصر لم يكن كعملية الإعدام في هذه الأيام.وإنما كانوا أولاً يغرزون لذلك خشبا شكله كالآتي: إلا أنه من + ثم كانوا يوقفون المجرم مع هذا الخشب ويمدون يديه إلى الجانبين ويشدونهما به.ثم يدقون المسامير في اللحم اللين من ذراعيه ،وساقيه ثم يتركون المصلوب هكذا معلقا على الخشب ليموت بآلامه جائعًا وعطشًا.وأحيانًا كانوا يدقون مسامير إضافية في ،راحتيه ويعرف الملمون بعلم تشريح الأبدان أن دق المسامير على هذا النحو لا يقضى على حياة الإنسان فورًا، إذ لا تُدق المسامير في العظام، بل في اللحم اللين من الأطراف والأرجل.مما لا شك فيه أن دق المسامير في اللحم خطير ومؤلم جدا – بل إن بعض الناس يطلقون صرخات ألم شديدة عند الحقنة العادية – الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن طريقة الصلب هذه ما كانت تقضي على المجرم فوراً، بل كان الموت يأتيه ببطء في عدة أيام لشدة آلام الجروح.إن تلك الطريقة كانت أكثر فزعًا ورهبة حيث كان المصلوب يصاب بأذى نفسي شديد بمعنى أنه يتأذى برؤية أنهم قد أتوه الآن بالمسامير، ثم أتوه بالمدق، ثم وضعوا المسمار على جسمه، ثم حملوا المدق، ثم بدأوا يدقونها في جسمه، وهذه كلها أمور تنطوي على عنصر الرهبة الشديدة وتصيب النفس بصدمة كبيرة جدا.أما مجرد شق اللحم فما يصيب المجرم بأذى يفوق احتماله.فكم من ضربة سيف يتلقاها المرء أثناء القتال حتى تقطع أوصاله ولكن ضربة السيف لا تصيبه بالهول الشديد لأنها تقع عليه بسرعة ،وفجأة وأحيانًا لا تسبب له الأذى الذي يناله بإبرة حقنة علاجية، لأنه لا يشعر بها إلا بعد أن يقطع السيف جسمه، بل أحيانًا يحمد الله تعالى عندما يرى أن السيف قد قطع اللحم دون العظم.ولكن الطبيب عندما يأخذ إبرة الحقنة بيده فيظن البعض أنه ربما سيذبحه، فيستولي عليه هلع وذعر بشكل غير عادي.

Page 142

الجزء الخامس ١٣٥ سورة مريم وبالمثل إنّ دق المسمار في جسم المرء يصيبه بذعر شديد لأنه يفكر فيما سيفعل بعد ذلك.فلا غرو به أن ما جرى مع المسيح الله قد آذاه أذى نفسيًّا شديدًا جدًّا، ولكنه ما كان أذى يقضى على حياة المرء.كان المسيح مرهف الحس، فشعر بهذا القدر من الأذى بشدة، حتى أغمي عليه، ولكن السارقين المعلقين على يمينه وشماله ما زالا يتمازحان فيما بينهما، بل إن أحدهما سخر بالمسيح قائلا: "إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا." فنهره زميله وقال ألا تخاف الله.أما نحن فنلقى جزاء ما فعلنا، وأما هذا فإنه لم يفعل شيئا (انظر لوقا ٢٣: ٣٩-٤١).فترون أنهما يتمازحان وهما معلقان على الصليب بجنب المسيح ولا يباليان بما فعل بهما، لأنهما من الذين قد قست قلوبهم والذين قد تعودوا على احتمال مثل هذا العناء والمشقة.فهناك أسرة مسلمة أحمدية في كشمير كانت حاكمة على مظفر آباد، ولكن المهاراجا أغار و عليهم وهزمهم وأخذهم أسرى إلى عاصمته سرينغر، وجعل لهم معاشا.وحدث هذا في عهد المهاراجا رنبير سنغ، وهو الذي كان سيدنا الخليفة الأول للمسيح الموعود اللي يعمل عنده كطبيب ملكي.وكان هذا الحاكم المسلم لمنطقة "مظفر آباد" في جلدًا جميلا، وكان المهاراجا معجبًا بفتوته وجماله.وذات يوم سقط هذا الفتى من الحصان أثناء لعبة "بولو"، وكسرت يده.فخضع للعلاج، وجُبر العظم ولكن ظل فيه اعوجاج.وذات يوم سأله المهاراجا وهو في بلاطه: كيف حالك الآن؟ هل جبر العظم؟ قال: نعم.قال أرني فمد إليه يده، فلما رآه قال: إن العظم لم يجبر على ما يرام، بل فيه عوج، وهذا عيب على هذا الفتى الجميل.لم لم تخبرني حتى أمر طبيبي الخاص بعلاج يدك على ما يرام.وكان هذا الفتى جالسًا أمامه على کرسی فضغط على يده بكل سكينة ووقار وكسرها مرة أخرى، وقال للمهاراجا حسنًا، مُره الآن.بعلاجي.فأخذت المهاراجا دهشة كبيرة وكاد يسقط مغشيا عليه، فخرج من البلاط إلى مخدعه.فيوجد في هذه الدنيا ذوو القلوب القوية كهؤلاء الذين لا يكترثون لمثل هذه الأمور.ولكن المسيح ال كان إنسانًا مرهف الحس فأُغمي عليه حين عُلّق على

Page 143

١٣٦ سورة مريم الجزء الخامس الصليب، بينما كان اللصان المعلقان معه يمزحان ويسخران، وعندما أفاق بدأ يئن من شدة الألم وهو في كامل الوعي والحواس، إذ يقول الإنجيل أن أمه جاءته في تلك الآونة، فلما رآها أخذته الرقة، حيث فكّر في معاناة أمه التي ترى ابنها في هذا الوضع، فقال للحواري "توما" وهو يشير إلى أمه : هذه أمك.وقال لأمه: هذا ابنك (يوحنا ٢٦:١٩-٢٧).علما أن البعض يخطئون في تفسير كلمة "توما"، فيظنون أن معناها "التوأم" أي الأخ الذي يولد معك في وقت واحد، ثم يقولون بناء على هذا التفسير الخاطئ أن المسيح لم يولد من غير أب.ولكن هذا غلط، لأن "توما" باللغة العبرانية تعني من الرضاعة.وهذا يعني أن المرأة التي أرضعت المسيح أرضعت أيضا "توما"، أو أن أحا السيدة مريم أرضعت "توما" أيضا، وهكذا كان "توما" أخا المسيح من الرضاعة.على أي حال، لقد أشار المسيح بهذا الكلام الوجيز اللطيف إلى أمر حكيم، حيث قال لتوما إنه معلق على الصليب الآن، وأنه على يقين بوعود الله معه، ولكن من الممكن أنه لم يفهم هذه الوعود الإلهية كما ينبغي فربما قد اقترب أجله، لذا هو يسلّم أمه إليه.كما التمس من أمه أن تعتبر "توما" ابنا لها.6 ونرى أن المسيح الا إذا كان قد عبّر عن حبه لأمه في أي موضع من الإنجيل فقد كان في هذا الموضع، وإلا فربما يظن قارئ الإنجيل أن المسيح الا لم يحب أمه كما يجب.قصارى القول إن المسيح ظل على الصليب في هذه الحالة، فكان يغشى عليه مرة، ويفيق أخرى.وكان الحراس الذين أمرهم بيلاطس بحراسته يكنون لــه الحب، فلما رأوه لا يستطيع تحمل تلك الآلام أسرعوا وملئوا إسفنجة خمرا ومرا وسقوه إياها.علما أن الإنجيل يقول إنهم قدموا له إسفنجة مليئة خلا (مرقس ١٥: ٣٦)، ولكن ما ذكرناه هو الثابت تاريخيا (راجع) الموسوعة اليهودية: Cross).إن المسيحيين يركزون أحيانًا على قولهم أن اليهود قد ظلموا المسيح لدرجة أنهم سقوه إسفنجةً ممزوجة خمرا ومرا وهو يئن تحت وطأة الآلام.ولكن الكتب

Page 144

الجزء الخامس ۱۳۷ سورة مريم الرومانية تؤكد أنهم إذا أرادوا أن يرفقوا بمصلوب وينقذوه من الآلام قدموا لـه مزيج الخمر والمر (الموسوعة اليهودية: Crucifixion).نحن لا ندري ماذا يقول الطب عن هذا المشروب، ولكن كان الاعتقاد السائد عندهم أنه يخفف من آلام شاربه.إذن فإن هذا الحادث أيضًا يكشف أن الذين أمروا بحراسة المسيح كانوا من أتباعه في الخفاء، فحاولوا تخفيف آلامه قدر الإمكان.يوم الجمعة، وكان بني يوم هذا، وقد ذكرتُ من قبل أن المسيح.علّق على الصليب في الساعات الأخيرة من يوم السبت يبدأ بمغيب الشمس؛ علما أن الناس في هذه الأيام يعتبرون بداية اليوم الجديد من منتصف الليل، ولكن في الإسلام يبدأ اليوم الجديد بغروب الشمس، وهذا الطريق نفسه كان متبعا عند إسرائيل.فبما أن السبت كان سيبدأ بغروب الشمس، وحيث إن اليهود كانوا يعتقدون أن المصلوب لو ترك على صليبه في السبت نزل غضب الله (يوحنا) ۱۹: ۳۱)، فحذر بيلاطس اليهود أنه لو بدأ السبت والمسيحُ على صليبه لحل بهم العذاب.هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هبت بأمر الله تعالى عاصفة صارت بها الأرض مظلمة (انظر مرقس ريح ١٥: ٣٣)؛ فازداد اليهود خوفًا من أن يبدأ السبت والمسيح على الصليب، فالتمسوا من بيلاطس إنزاله (انظر يوحنا ١٩: ٣١).ولو أن المسيح القد أنزل من الصليب قبل مغيب الشمس بثلثي الساعة أو نصفها، فإن فترة بقائه على الصليب قلت بهذا المقدار.فإذا كان عُلق في الساعة الثالثة والنصف، وإذا كانت الشمس غابت في الساعة السابعة، فصارت مدة بقائه على الصليب ثلاث ساعات ونصف الساعة؛ ولكنهم أنزلوه قبل مغيب الشمس بحوالي ثلثي الساعة أو نصفها بسبب العاصفة والظلمة خوفا من أن يبدأ السبت؛ فلو طرحنا هذا الوقت لكانت المدة الحقيقية لبقائه على الصليب قرابة ساعتين ونصف الساعة أو ثلاث الساعات.بينما كان بعض الناس لا يموتون على ذلك الصليب رغم بقائهم معلقين عليه لسبعة أيام وما كانوا يموتون إلا من جراء شدة الجوع والعطش أو نتيجة سريان سم الجروح في الجسم.

Page 145

الجزء الخامس ۱۳۸ سورة مريم وكان من عادتهم أن يكسروا عظام الذين يُنزلون من على الصليب وهم أحياء، ولكن بما أن حراس المسيح كانوا من مريديه في الخفاء، فكسروا عظام اللصين، ولم يكسروا عظام المسيح.علما أن الصلب يعني في الحقيقة إخراج نخاع العظام بكسرها، ومنه جاءت تسمية "المصلوب" لأن معظم الناس كانوا لا يموتون على الخشبة، فكانوا يكسرون سيقانهم ويخرجون مخها.ولكن الثابت أن المسيح لم تكسر سيقانه (انظر يوحنا ١٩: ٣٣).ومن الأدلة على نزول المسيح ال من على الصليب حيا ما ورد في الإنجيل أن المسيح عندما أُنزل جاء أحد الجنود سريعًا وطعن جنبه بحربة طعنًا خفيفا، فخرج منه الدم والماء (انظر المرجع السابق: ٣٤).وخروج الدم والماء" ليس مصطلحا له مدلول خاص، إنما معناه أنه خرج من جسد المسيح الدم السائل.أما لو أخذ بيان الإنجيل حرفيًا لكان معنى ذلك أن الدم والماء شيئان مختلفان، بمعنى أن في الدم شيئًا آخر غير المادة السائلة التي تجعله سائلا، أن الأمر ليس كذلك.فليس المراد من ذلك إلا أنه خرج من جسد المسيح الدم مع السائل.ولكن الحراس أشاعوا بين القوم أنه قد مات فلا حاجة لكسر سيقانه.ويبدو أن اليهود أيضا كانوا خائفين في قلوبهم، وكانوا يدركون في قرارة نفوسهم أنهم قد عاقبوا البريء البار، ومن أجل ذلك أصابهم الذعر الشديد حين جاءت العاصفة التي أظلمت الأرض، وظنوا أنها عذاب من الله تعالى، فارتدعوا عن المزيد من العناد والإصرار وقالوا حسنًا، إذا كان قد مات فادفنوه.إن كل هذه الأمور مجتمعة توضح أن موت المسيح على الصليب في تلك الظروف مستحيل.ذلك أن الآخرين كانوا لا يموتون على ذلك الصليب حتى في سبعة أيام، فكان المسؤولون يضطرون لكسر سيقانهم ليموتوا، فكيف مات على الصليب في ثلاث ساعات ونصف، بل في أقل من ذلك، وبخاصة أن الحراس كانوا من أتباعه سرًّا، فلم يدخروا وسعا في التخفيف من آلامه ولم يألوا جهدا في إنقاذه من الموت؟

Page 146

الجزء الخامس ومن ۱۳۹ سورة مريم الأدلة على عدم موت المسيح على الصليب أنهم لما أنزلوه من على الصليب جاء يوسف الرامي إلى بيلاطس وطلب منه تسليم جسد المسيح إليه، فأمر بتسليم جسده إليه متى ٢٧ (٥٨).فذهب يوسف الرامي بجسده، ووضعه في قبر.وليكن معلومًا أن ذلك القبر ما كان كالقبور التي عندنا، إذ لو وضع أحد في قبورنا لبعض الوقت لانقطعت أنفاسه فوراً، إنما كان ذلك القبر غرفة واسعة محفورة في الصخر (متى ٢٧: (٦٠).ثم إن يوسف الرامي كان قد أغلق باب القبر بحجر (المرجع السابق، كيلا يشك الناس في الأمر، وفي الوقت نفسه يدخل الهواء في القبر.من إن هذه الأحداث كلها تؤكد أنه كان من المستحيل أن يموت المسيح على الصليب في هذه الظروف.لا شك أن الإنسان يمكن أن يموت وهو يمشى، أو يقوم مجلسه، ولكنا لا نناقش هذا الأمر هنا، وإنما الأمر الذي نناقشه هو أن الظروف التي مر بها المسيح لا يموت فيها المرء عموما بل يعيش، لذا فإن موت المسيح في تلك الظروف محال.إذ لم يزل مع المسيح منذ بداية الحادث إلى آخره رجال من مريديه أو أصدقائه أو نصحائه فحاولوا جاهدين إنقاذه.ومما يدل على أنهم كانوا ناصحين للمسيح أنه لما أنزل من على الصليب ووضع في القبر طلب اليهود من بيلاطس أن يأمر بحراسة قبره إلى اليوم الثالث إذ كان يدعي بأنه سيعود إلى الحياة بعد ثلاثة أيام كيونان النبي.ولكن بيلاطس رفض أن يعطيهم حراسًا من قبل الحكومة وقال لهم: "عندكم حراس، اذهبوا واضبطوه كما تعلمون المرجع السابق (٦٥ وكان قصد بيلاطس من رفضه هذا أنه لو عين على قبره حراسًا من قبل الحكومة فلن يستطيع المسيح أن يخرج من القبر، إذ لو تشاجر المسيح مع الشرطة لكان ذلك خروجًا منه على القانون؛ أما إذا حرس قبره بعض عامة الناس لسهل على المسيح الدفاع عن نفسه.فرفض أن يبعث الشرطة الحراسة قبره.ثم إن الأحداث التي جرت بعد ذلك أيضا تؤكد أن المسيح اللي لم يمت على الصليب.ذلك لأن المسيح إذا كان قد عاد إلى الحياة بعد الموت، فهذا يعني أنه عاد

Page 147

الجزء الخامس ١٤٠ سورة مريم ابنا الله ثانية، فما كان عليه أن يخشى الناس عندها ولكنا نقرأ في الإنجيل أن المسيح كان، بعد حادث الصليب، ينتقل من مكان إلى مكان مختفيا عن أعين الناس، وكان يقول لأصحابه أن لا يخبروا أحدًا أنه حي؛ بل يتضح من الإنجيل أنه لم يخبر حوارييه أيضا بمكان إقامته.ومن المحتمل أنه قضى تلك الأيام في دار يوسف الرامي، إذ ورد أن المسيح كان يظهر فجأة، ثم يغيب بعد قليل.وذات مرة جاء إلى حوارييه، فرأوه بأم أعينهم ومع ذلك لم يصدقوا أنه المسيح حقا.فقال لهم: هل عندكم شيء للأكل؟ فأعطوه قطعة من السمك وشيئا من العسل.فأكل أمامهم فأيقنوا أنهم يرون المسيح نفسه (لوقا ٢٤: ٣٦-٤٣).والبديهي أن الروح وحدها لا تتصرف هكذا أبدا ، وإنما الإنسان الحي من جسد وروح هو الذي يقوم بمثل هذه الأفعال.فبما أن المسيح اللي كان يستوجب الإعدام وفق قانون الحكومة، وبما أنه كان سيتعرض للصلب مرة أخرى لو وقع في أيدي الشرطة، فكان لزاما عليه أن يعيش في الخفاء والسرية، ويخفي مكان إقامته عن الحواريين أيضًا.قال: إذن، فإن فقرات الإنجيل هذه تدل بما لا يدع مجالا للشك أن المسيح لم يمت على الصليب، بل نزل من الصليب وهو حي، ومكث في القبر وهو حي، وخرج من القبر وهو حي، وأخبر الحواريين أنه حي.ومن الطريف أن الإنجيل يخبرنا أنه لما بلغ الحواري "توما" أن المسيح حي "إن لم أُبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أومن".فدعاه المسيح وقال له: "هات إصبعك إلى هنا، وأبصر يديَّ، وهات يدَك وضعها في جنبي"، لتعلم أني أنا المسيح، ولستُ روحا.(يوحنا ٢٠: ٢٤-.(۲۷ إن كل هذه الأحداث لتكشف بكل وضوح وجلاء أن نبوءة المسيح بأنه سيُري قومه آية يونان النبي قد تحققت مائة بالمائة.إنهم علّقوا المسيح الذي كان من لحم ودم، ولكنه نزل من الصليب حيًّا، ثم دخل القبر حيًّا، وخرج منه حيًّا، ثم لم يزل يختفي عن أعين الناس لأن قانون ذلك البلد لم يسمح له بالعيش فيه؛ وهذا هو

Page 148

الجزء الخامس ١٤١ سورة مريم التدبير الخفي الذي دبره الله تعالى كي يضطر المسيح للهجرة إلى بلاد أفغانستان وكشمير، بحثا عن خراف بني إسرائيل الضالة.كان الله تعالى على علم بأن المسيح لن يرى العيش تحت ظل تلك الظروف أمرًا حكيمًا، وسيخرج بعدها عن طيب خاطر إلى تلك القبائل الضالة التي بعث من أجل هدايتها وإصلاحها.وهذا ما حصل بالضبط.فلما رأى أن عيشه في فلسطين قد أصبح أمراً مستحيلا سافر إلى بلاد الشرق، وما زال يبلغ رسالات الله إلى القبائل اليهودية العشر المستوطنة في أفغانستان وكشمير.إن الجزء الباقي من هذا البحث لا يتعلق بالكتاب المقدس، وإنما يتعلق بتاريخ أفغانستان وكشمير وبعض الروايات القديمة للأفغان.وقد سلّط سيدنا المسيح الموعود الله الضوء على هذا الموضوع مفصلا في كتابه "المسيح الناصري اللي في الهند"، وأثبت بالشهادات التاريخية أن المسيح اللي قد هاجر بعد حادث الصليب إلى أفغانستان وكشمير.وعلاوة على ذلك، فإن بحوثًا أخرى تؤكد أن نبيًّا جاء إلى كشمير مهاجرًا من جهة الغرب، وكان يسمى النبي الأمير، وكان في يديه ورجليه آثار الجروح، وقد بلغ أهل كشمير رسالات الله تعالى.وأعود فأقول: إن الله تعالى قد ذكر في مقطع "كهيعص" أربعًا من صفاته الله لإبطال المسيحية، وهي الكافي والهادي والعليم والصادق.وكما قلت في البداية إن صفتي الكافي والهادي تابعتان لصفتي العليم والصادق لأن العليم يكون كافيا أيضًا، ولأن الصادق يكون هاديًا أيضًا؛ ذلك أن الطبيب إنما يفشل في علاج مرض من الأمراض إذا كان علمه ناقصاً ، أو إذا كان فحصه ناقصا وإن كان علمه كاملاً، لأنه في كلتي الصورتين سيصف دواء خاطئًا، ولكن الطبيب العليم سيعلم المرض جيدا، ويصف الدواء الناجع أيضًا.أما الصادق فمعناه المخلص والوفي، وأي شك أن الصديق المخلص الوفي سيكون هاديًا لصديقه، إذ كيف يمكنه أن يرى صديقه وحبيبه المستحق لرحمته وهو يغرق ثم لا يسعى لإنقاذه، أو يراه يهلك ثم لا يحاول أن يحميه.

Page 149

الجزء الخامس ١٤٢ سورة مريم إن جميع المسائل المتعلقة بالمسيحية إنما تدور حول هذه الصفات الإلهية الأربع.إن المسيحيين أخطئوا في فهم صفات الله العليم والكافي والهادي والصادق، فاختلقوا من عندهم عقائد فاسدة.فبما أن الله تعالى قد تحدث في هذه السورة عن المسيحية فاستهلها خاصة بذكر هذه الصفات الأربع التي تبطل عقائد المسيحيين الخاطئة.لقد ذكرت من قبل أنه قد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قد قال في مقطع "كهيعص" أنه يشير إلى صفات الله تعالى.وهناك رؤيا قديمة لي تدعم هذا الأمر.ذات مرة كنت قادما من السند، فرأيت خلال هذا السفر رؤيا بأن شخصا يقول لي: أنت أيضًا مذكور في "كهيعص".فحيث إن عملي هو في الواقع عمل سيدنا المسيح الموعود الل، وأن حضرته مثيل للمسيح الناصري عليهما السلام، فثبت أنني مذكور في هذا المقطع.ذلك أن هذا المقطع إذا كان يتحدث عن المسيحية، فلا بد أن يكون فيها ذكر المسيح الموعود اللي أيضًا.إن هذا المقطع يتحدث عن المسيحية من حيث كون المسيحيين قد أخطئوا في فهم صفات الله الكافي والهادي والعليم والصادق فاختلقوا لأنفسهم مذهبًا باطلا، وإنه يتحدث عنا، أعني عن المسيح الموعود وجماعته، من حيث إننا قد أبطلنا عقائد المسيحيين على ضوء الصفات المذكورة في هذا المقطع القرآني.وهذا يعني أن هذا المقطع يتحدث عن أتباع المسيح الناصري وكذلك عن أتباع المسيح الموعود المحمدي، ولكنه يخبر عن المسيحيين من حيث أنهم لم ينتبهوا إلى هذه الصفات الإلهية فضلوا عن سواء السبيل، ويتحدث عن جماعة المسيح الموعود اللي بمعنى أن هذه الصفات الإلهية نفسها ساعدتنا فقضينا بها على المسيحية.والحق أن كل الأعمال الروحانية إنما تدار بالصفات الإلهية، ولو أن أحدًا نال علما صحيحًا لتمكن بمساعدة الصفات الإلهية وحدها من دحض جميع الأديان الفاسدة وإبطالها.

Page 150

الجزء الخامس ١٤٣ سورة مريم ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (1) شرح الكلمات : ذكرُ رحمة ربِّك عبده زكريا هناك محذوف هنا وهو "هذا"، والتقدير: ذكر رحمة ربك عبده أي زكريا حين نادى ربه نداء خفيًّا."هذا نادی ناداه صاح به ونادى فلانًا: جالسه في النادي؛ وقيل: فاخره.ونادى بسره : أظهره (الأقرب).التفسير: لقد قلتُ من قبل إن هذه السورة تتحدث عن المسيحية، وتفنّد عقائدها بلفت الأنظار إلى أربع من صفات الله تعالى المذكورة في "كهيعص"؛ الاثنتان منها صفتان أساسيتان، أما الأخريان فهما نتيجة منطقية لهما.والصفتان الأساسيتان هما العالم والصادق، أما الصفتان اللتان هما نتيجتهما الحتمية فهما الكافي والهادي.ولكن لماذا استهل الله تعالى هذه السورة بذكر زكريا الل، وما الحكمة في الحديث عنه قبل التطرق إلى المسيحية؟ هذه مسألة هامة يجب توضيحها؟ اعلم أن زكريا الله هذا هو غير زكريا صاحب الكتاب الموجود في التوراة، والذي جاء في عام ٤٨٧ قبل الميلاد.إن زكريا هذا الذي جاء قبيل المسيح عليهما السلام، والذي كفل أُمَّه، فكان أيضًا نبيًّا بحسب القرآن الكريم، بينما تذكره الأناجيل بصفة كاهن فحسب، وليس كني.غير أن هناك حديثا للرسول ﷺ يحل هذه المعضلة حيث قال : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أبو داود، كتاب الملاحم، باب ما يُذكر في قرن المائة).كما ورد في القرآن الكريم وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم (النور: (٥٦.فالله تعالى قد شبه خلفاء الأمة المحمدية أي المجددين بأنبياء بني إسرائيل كما صرح بذلك النبي بذلك النبي ﷺ في حديث لـه : "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" (مكتوبات الإمام الرباني مجلد ١ مكتوب رقم ٢٦٧ صفحة (٣٣٦) والعلماء الربانيون هنا المجددون ويبدو أن الكتاب المقدس

Page 151

الجزء الخامس ١٤٤ سورة مريم كان يسمي النبي الذي يُبعث لتكميل مهمة نبي آخر كاهنًا.ومن جهة أخرى يتضح من القرآن الكريم أن الكفار كانوا يسمون النبي كاهنا (الطور : (٣٠).فيبدو أن بني إسرائيل كانوا يستخدمون كلمة النبي والكاهن بمعنى واحد، ولكن أهل مكة كانوا يكرهون الكهان، فاعتبروا النبي الله كاهنًا عندما أعلن دعواه.ولكن التدبر في التوراة يكشف لنا أن الله تعالى كان يبعث رسله حتى في المناطق الصغيرة جدًّا نظرا إلى حالة اليهود حتى بعث أحيانًا مئات الأنبياء في وقت واحد الملوك الأول (۲۲ (٦ بل جاء بعض الأنبياء الكبار في زمن واحد، فإن حزقيال ودانيال وإرمياء * كلهم جاءوا في فترة واحدة، وجاء كل واحد منهم بعد الآخر فوراً، بل في حياة الآخر أيضًا.فلا غرابة إذا لم تسم التوراة زكريا نبيا.فما دامت التوراة تعلن أن الله تعالى بعث أحيانًا أربعة مائة نبي في وقت واحد بدون أن تذكر أي منهم الملوك الأول ٢٢: (٦)، فثبت أن الأنبياء قد بعثوا في بني إسرائيل بكثرة بحيث إن التوراة لم تُعنَ بحفظ أسمائهم أيضًا.أما القرآن الكريم فسجل أسماء بعض الأنبياء بحسب ما رآه ضروريا، وهذا ما فعلته التوراة أيضا، وليس بوسعنا معرفة غيرهم من الأنبياء ولا أسمائهم.اسم نبيًّا، على كل حال، فزكريا كاهن عند الإنجيل، ولكن القرآن الكريم يسميه وزكريا ال المذكور هنا هو ذلك الذي كان كفيلاً لأم المسيح اللة والذي بعث في زمن قريب جدا من ظهور المسيح.إن السبب الأول لورود اسم زكريا في القرآن قبل الحديث المسهب عن المسيحية هو وجود النبوءة الشائعة بين اليهود أنه لا بد من نزول إيليا قبل ظهور المسيح؛ وبما أنه كان من المقدر أن يرزق زكريا ابنه يحيى الذي كان إرهاصا* للمسيح..بمعنى أنه جاء ليمهد لمجيء المسيح، وبتعبير آخر جاء ليذكر اليهود بمجيء المسيح ويعرفهم عليه..فلذلك قد ذكر الله تعالى زكريا قبل الحديث عن المسيح.* بعث حزقيال عام ٥٩٥، ودانيال عام ٦٠٧ ، وإرمياء في عام ٦٢٩ قبل الميلاد.ورد في "لسان العرب": الإرهاص هو مقدمة الشيء والإيذان به (المترجم).

Page 152

الجزء الخامس ١٤٥ سورة مريم فإننا نقرأ في التوراة نبوءة ملاخي النبي التالية: "هأنذا أُرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف" ملاخي ٤: (٥).علما أن المراد من "يوم الرب، اليوم العظيم "المخوف" هو مجيء المسيح الناصري، فإنه العلما أعلن دعواه سأله اليهود السؤال نفسه وقالوا: أين إيليا المزمع نزوله؟ فأوضح لهم أنه لم يكن المراد من نزول إيليا إلا مجيء يوحنا وقال: "وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمَعُ أن يأتي" (متى ١١: ١٤).فبما أن المسيح اللي ما كان ليبعث ما لم يأت يحيى – الذي يدعى يو- الإنجيل، والذي كان بُروزًا وظلاً لإيليا - فكان لزاما ذكره قبل ذكر ميلاد المسيح عليهما السلام، إشارة إلى أن نبوءة ملاخي النبي قد تحققت وأن إيليا الذي نبأ ملاخي بنزوله قد جاء، وأن المسيح أيضا قد ظهر.عند الله.في والسبب الثاني لورود قصة زكريا هنا، بحسب ما يتضح من القرآن الكريم، هو أن مريم كانت سببًا لولادة يحيى عليهما السلام، حيث قال الله تعالى كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا قال يا مريم أَنَّى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا رَبَّه قال رَبِّ هَبْ لى منْ لَدُنْكَ ذريّةً طيبةً إنك سميع الدعاء) (آل عمران: ۳۸-۳۹).أي أن زكريا الذي كفل ،مريم، والذي لم يكن قد رُزق أولادًا بعد ذهب مرة إلى مكان عبادته، فوجد عند مريم الصبية الصغيرة في رعايته طعامًا، فسألها كما يسأل الكبار الصغار لطفا ومداعبة : يا ابنتي من أين لك هذا الطعام؟ قالت: هو من يقول المفسرون أن الله تعالى كان يُنزل لمريم الطعام من السماء (الرازي).ولكن لا ذكر للسماء هنا.إنما الواقع أنها أجابت بهذا الجواب نتيجة التربية الحسنة التي تلقتها.فنحن أيضا نعلم صغارنا أنه إذا سألهم أحد من أعطاكم هذا الشيء فقولوا الله تعالى.فلما سمع زكريا من صبية عمرها ثلاث أو أربع سنوات، أن الله تعالى هو الذي يمنحها كل نعمة، وهو الذي أعطاني هذه النعم كلها، تأثر من جوابها تأثرًا كبيرًا.فقال في نفسه ما دام الله تعالى هو الذي يعطي كل شيء في الواقع، حتى إن هذه البنت الصغيرة أيضًا تدرك ذلك، فما لي، وأنا إنسان عاقل

Page 153

الجزء الخامس ١٤٦ سورة مريم مجرب، لا أوقن بأن الله تعالى هو الذي يمنح كل شيء.هنالك دعا زكريا ربَّه..أي أنه لدى سماع جوابها فكر وقال في نفسه عندي أيضًا حاجة، لم لا أسأل الله إياها؟ ليس عندي أي أولاد لو كان عندي ولد مثل ،مريم، وسألته، أَنَّى لك هذا يا - بني، فقال: هذا من عند الله، لأدخل في قلبي السرور كما سرتني مريم بجوابها.إذا فكانت مريم حافزا دفع زكريا الله إلى الدعاء لولادة يحيى، وهكذا فكما أن يحيى بعث إرهاصًا للمسيح صارت مريمُ والده المسيح – بطريق غير مباشر – إرهاصا لولادة يحيى، حيث سُمع دعاء زكريا فولد عنده يحيى.لقد قال الله تعالى هنا ذكرُ رحمة ربِّك عبده زكريا ) ولم يقل "ذكر رحمة ربك زكريا".ذلك لأن فيه حكمة بالغة سأذكرها لاحقا.إنه من مزايا القرآن الكريم أنه ينتقي الكلمات بحيث تأتي كل كلمة بحسب الحاجة، ولا تكون زائدة بلا فائدة.ففي هذه الآية أيضا استخدم القرآن كلمة ذكر التي تقديرها "هذا ذكرُ ، وهي لا تعني سرد واقعة فحسب بل تعني أيضًا التذكير بها، بمعنى أن الواقعة التي يسردها القرآن هنا تبلغ من الأهمية بحيث يجب أن يتذكرها الجميع ويؤمنوا بعظمة الله وقدرته عل.ثم قال الله تعالى رحمة ربك..أي أن هذه القصة آية رحمة من ربِّك.وهنا ينشأ سؤال وهو أن هذه الواقعة كانت دليلاً على رحمة الله بزكريا وعلى ربوبيته لمريم، فلمَ قال الله تعالى رحمة ربك بدلاً من أن يقول (رحمة الرب)؟ والجواب أن ضمير الخطاب في رحمة ربك يدل صراحة على أن هذا ذكر لربوبية الله لمحمد ال ذلك أننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن يحيى كما كان إرهاصا لعيسى عليهما السلام كان عيسى إرهاصا لمحمد رسول الله.وبيان ذلك أن ولادة المسيح من غير أب كانت إيذانًا بانتهاء الدور الموسوي وابتداء الدور الذي يتحقق فيه الوعد الذي قطعه الله تعالى مع إبراهيم في حق ابنه إسماعيل إذ قال: "ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًّا.اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمةً كبيرة" (التكوين (۲۰:۱۷، ۲۱ (۱۸)؛ كما يتحقق فيه الوعد الذي تم على لسان موسی

Page 154

الجزء الخامس ١٤٧ حيث ورد: "يقيم لك الرب إلهك نبيًّا تسمعون" (التثنية ١٨: ١٥).سورة مريم من وسطك من إخوتك مثلي.لــه فلما كانت واقعة زكريا اللي حلقة سلسلة طويلة الحلقات قال الله تعالى من هنا رحمة ربك، ليخبر نبيه محمدا لله أنه من آيات رحمة ربه أنه تعالى قد بدأ يجهز الناس لتصديقه منذ زمن طويل، إذ خلق يجى أولاً ليكون إرهاصا لعيسى، ثم خلق عيسى ليمهد من أجله.ثم أضاف الله تعالى هنا كلمة عبده، مع أن الجملة كانت كاملة بدون هذه الزيادة أيضًا! والحكمة في ذلك أن رحمة الله نوعان رحمة عامة ورحمة خاصة..أعني أن هناك رحمة تنبع من صفة الله "الرحمن" حيث تشمل المؤمن والكافر كليهما؛ وهناك رحمة أخرى مصدرها صفة الله الرحيم"، وتنزل فقط على عباده الذين هم من خدامه من الطراز الأول جزاء لهم.وقوله تعالى رحمة ربك لم يكشف ما إذا كانت هذه الرحمة نابعة من مصدر الرحمانية" أم "الرحيمية"، فجاءت كلمة عبده لتكشف أن تلك الرحمة ليست من منبع الرحمانية والتي هي عامة وتنزل بدون أي عمل ولا خدمة، بل هي من منبع الرحيمية..أي أنها نزلت نتيجة عمل، إذ كان عبدنا زكريا صالحا وقام بخدمات جسيمة.وهذه المعاني كلها قد بينها الله تعالى بإشارات صرفية ونحوية بسيطة.وقد علمنا ذلك أيضا أن من من الداعين من يستحق رحمة الله تعالى ومنهم من لا يستحقها.ولكن صفة الرحمة الإلهية أيضًا لا تتجلى تلقائيا، بل لا بد لإثارتها من بعض الأسباب.فتارةً المصائب، وأخرى اضطهاد العدو، ومرّةً عجز الإنسان وعدم حيلته، يُحدث في قلب المرء هيجانًا غير عادي للدعاء الذي يستنزل رحمة الله من السماء.وهذا يعني أن صفات الله تعالى إنما تظهر نتيجة بعض الحوافز المعينة.وأما الحافز الذي كان وراء نزول رحمة الله على زكريا فقد ذكر في الآية التالية حيث قال الله تعالى إذ نادى ربه نداءً خفيًّا..أي أن نداء زكريا ربَّه هو الذي جلب له الرحمة الإلهية التي لا تنزل إلا على الخدام المخلصين.

Page 155

١٤٨ سورة مريم الجزء الخامس لقد سبق أن سجلت معاني عديدة لكلمة نادى، ومنها صاح به، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا لأن الله تعالى قد صرح هنا أن هذا النداء كان أنداء خفيًّا.فلا بد من أن نأخذ معنى آخر وهو أنه باحَ بسره لربه بصوت خفي.علما أن الدعاء نوعان: أولهما الدعاء الذي يُشرك فيه المرء الآخرين أيضا، فيردد لذلك كلمات الدعاء بصوت عال والثاني الدعاء الذي يقوم به الإنسان على انفراد، ولا يريد أن يُشرك فيه ،غيره، فيدعو بصوت خافت حتى لا يسمعه غيره.فيكون مثلاً في حالة اضطرار شديد، فيخاف أن يسمع الناس صوته لو تضرع في الدعاء أمامهم، فيدعو على الانفراد حتى لا يطّلع أحد على اضطرابه وابتهاله.فالله تعالى يخبرنا هنا أن زكريا نادى ربَّه نداء خفيًّا..أي دعاه ل بصوت خافت، فلم يحب أن يُشرك غيره في دعائه.لم لم يرد زكريا العلي أن يُشرك غيره في دعائه؟ نعرف سبب ذلك مما ورد في سورة آل عمران كما نجد هنا أيضًا الإشارة إلى ذلك السبب، وهو أن المرء عندما يعلم، من خلال بعض الإشارات الإلهية، أن الفيض الرباني سينتقل من شعبه إلى غيره فلا بد أن يتألم لهذا الخبر وإن كان هو لا يزال مهبطا لأنوار الله تعالى.ذلك لأنه لا يريد ينتهي هذا الفيض وهذا النور على يده، بل يتمنى أن تتأخر عنه هذه النهاية قليلاً، فلا يكون هو السراج الأخير الذي لا ينزل بعده على قومه نور من السماء.أن يتضح لنا من سورة آل عمران أنه برؤية الحالة الروحانية العظيمة لمريم عليها السلام تنبه زكريا الله للخطر القادم، وأدرك أن ذلك الشخص الموعود لبني إسرائيل ربما سيولد من بطنها.فمن ناحية تلقى من الله تعالى إشارات بكفالة مريم ورعايتها.كما أخذت مريم نفسها تأتي، رغم سنّها الصغيرة، بأمور تدل على صلاحها وتقواها وحب الله لها.كما أن الله تعالى بدأ يُظهر لها آيات، وجعل الناس يعظمونها لصلاحها وتقواها؛ فكانوا يأتون لها بالهدايا من طعام وثمار وما إلى ذلك.فمن ناحية رأى زكريا أن مريم الصبية زاهدة في الدنيا ، وأنها رغم صغر سنها تدرك أن هذه النعم والهدايا إنما هي من عند الله تعالى، ولم تأت إلا نتيجة لفضل الله

Page 156

الجزء الخامس ١٤٩ سورة مريم ومنته.فبرؤية هذه الأمور والإمارات كلها أدرك زكريا أن ذلك الموعود الذي تنتهي عليه النبوة من بيت بني إسرائيل سيولد من بطن مريم.هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ينظر إلى نبوءات ملاخي والأنبياء الآخرين التي كانت تنذر باقتراب موعد انقطاع النبوة عن بني إسرائيل؛ ففهم زكريا أن فيضان النبوة من بني إسرائيل على وشك الانتهاء.فدعا ربه بالدعاء المذكور في هذه الآيات من القرآن الكريم، وقال: يا رب، كانت لي بغية لم أزل أربّيها في قلبي منذ زمن طويل، وها إني أبوح لك بسريرة قلبي بعد ما غمرني الحزن العميق بسماع قول مريم هذا.هذا هو معنى قوله تعالى إذ نادى ربَّه نداء خفيًّا.إنه بثّ إلى الله تعالى همه المكنون وعرض عليه الا الله أمنيته الغالية التي لم يذكرها له من قبل، وذلك بعد أن تألم قلبه وتهيج للدعاء بسماع قول مريم.مما لا شك فيه أن الله تعالى لا تخفى عليه خافية، ولكن الدعاء الذي يخفيه المرء في نفسه ولا يدعو به يُعتبر سرا مكنونا في المصطلح.وبهذا المعنى نفسه يقول سيدنا المسيح الموعود اللي لربه في بيت شعر له ما تعريبه: رب أعطني ما في قلبي، فلساني لا ينطلق خجلاً وحياء.والحق أن من الأماني والمآرب ما يكنه المرء في نفسه لمدة، ويقول ما الداعي لأن ربي، ولكن بعد حين يقع حدث يضطر بسببه للبوح برغبته المكنونة أمام فقوله تعالى نداء خفياً يشير إلى هذا الأمر نفسه حيث قال زكريا الله يا أسأله ربه رب كانت لي أمنية لم أزل أكتمها في نفسي من زمان، ولكني لم أعد الآن قادرًا مريم وهي أن ترزقني ابنًا.على كتمانها بعد سماع قول هذا، قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَابِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) شرح الكلمات : وَهَنَ: الوهنُ: ضَعف من حيث الخلق والخلق (المفردات).

Page 157

الجزء الخامس ١٥٠ سورة مريم التفسير: إن العظام في الكبر تصبح رخوةً هشةً قابلة للانكسار بسرعة، ومن أجل ذلك نجد أن عظم الشباب يُجبَر بسرعة، ولكن عظم الشيوخ لا يقبل الجبر بسهولة.فقول زكريا رب إني وهن العظم مني يعني أن عظامه قد ضعفت، فلا يقدر الآن على الصبر والاحتمال لشدة الضعف.ثم قال واشتعل الرأس شيئًا..ذلك لأن شعر المرء لا يصاب بالبياض دفعة واحدة، بل عندما يفقد الشعر سواده يميل إلى الاصفرار ، ثم إلى البياض، بيد أن ذلك البياض يكون خفيفًا غير بارز.أما إذا أصبح الإنسان شيئًا هرما اشتد بياض شعره جدا.وعن هذه الحالة نفسها عبر زكريا اللي بقوله واشتعل الرأس شيبا.أما قوله ولم أكن بدعائك رَبِّ شقيا فلفظ بدعائك يمكن أن يفسر كالآتي: "بدعائي إياك"، والمراد أني لم أر الشقاوة والفشل قط بسبب دعائي إياك، أو بسبب الأدعية التي دعوتك بها.وبالنظر إلى أن زكريا نبي فيمكن تفسير لفظ بدعائك بطريق آخر، وهو "بدعائك إياي"..أي لأنك يا رب، دعوتني أي خصصتني بنعمتك وجعلتني من أنبيائك المقربين الذين تكلّمهم، فلم أر الشقاوة في حياتي، ولم أفشل في مقصدي قط، بل كان النجاح حليفي في جميع مقاصدي دائما أبدا.ذلك أن الشقاوة ضدُّ السعادة، والمراد من السعادة أن تكون نصرة الله حليفة للإنسان يحرز بها الخير المنشود.وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَاءِى وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لدُنكَ وَلِيًّا (3) يَرثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (3) شرح الكلمات : موالي: جمعُ مولى، وهو الصاحب ؛ وابن العم (الأقرب).والمراد من الموالي هنا أبناء العم أي الأقارب الشركاء، والمعنى أني أخاف من معاملة الشركاء من بعدي.

Page 158

الجزء الخامس ١٥١ سورة مريم عاقرًا: العاقر مَن لا يولد له، ويُستعمل للذكر والأنثى.وأصل العقر الجرح، يقال عقر النخلة: قطع رأسها كله مع الحمار فيبست (الأقرب).ولأن المرأة أو الرجل الذي لا يولد له يجرح أسرته ويقطع نسلها، فيسمى عاقرا.وليا: الولي: المحب والصديق النصيرُ.قال ابن فارس: وكلَّ مَن وَلِيَ أَمرَ أحدٍ فهو وليه.وقد يُطلق الولي على حافظ النسب (الأقرب).وقال صاحب المفردات: قوله تعالى هَبْ لي من لدنك وليا أي ابنا يكون من أوليائك.التفسير: لقد عبّر زكريا الله في دعائه هذا عن ضرورته الحقة.إنه لم يكن من أهل المال والثراء، إنما كان نبيًّا، فما كان يخاف بعده على مال ولا ثروة، بل كان يخاف على تعليمه.لقد كان العليا من عائلة يعمل أفرادها كأحبار، حيث كان أقاربه أيضًا أحبارًا في معبد سليمان في بيت المقدس وغيره من المعابد (لوقا ١: ٥).فقال لربه إن هؤلاء الأقارب قد صاروا متكالبين على الدنيا بحيث لا يحركون ساكنًا لإنقاذ دينهم اليهودية يبدو أن المناصب الدينية عند اليهود حينذاك أصبحت كالإرث الذي ينتقل من الأب إلى الابن كما حصل بالمسلمين، فإذا مات واحد من أولياء الله تعالى جعلوا ابنه مكانه مهما كان فاسدًا وغافلاً عن الدين، وإذا لم يكن له ابن فأخاه.فكانت حالتهم كحالة المتصوفة المسلمين اليوم، الذين يُلقبون بالأولياء، ولكنهم من الناحية العملية، بعيدون عن الدين بعد الأرض من السماء.كان سيدنا المسيح الموعود اللي يحكي قصة أحد من هؤلاء المتصوفة وكان اسمه..ذات مرة خرج سید پیر" على صهوة حصان لصيد الغزلان.مع العلم أن الصيد ليس حرامًا كما يظن البعض، لأن النبي كان يأمر بالصيد لــه وإن لم يقم هو بنفسه بالصيد.فقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ دعا سعد بن أبي وقاص، وقال له انظر هناك ظبي فارمه بالسهم فلما أراد سعد تصويب سهمه إلى الغزال خده المبارك على كتفه وقال رب اجعل سهمه لا يطيش عن "I سید وضع پیر " النبي الهدف.فالصيد ليس محظورًا.المهم أن سيد" پير ركض بحصانه وراء أحد الغزلان،

Page 159

الجزء الخامس ١٥٢ سورة مريم وكان الغزال قويًّا، فلم يزل يجري ويجري حتى قطع أميالاً عديدة.ولم تكن البنادق إذاك عند الناس، وإنما كانوا يصيدون بالسهام والرماح.فلم يزل "سيد پير" يركض وراء الغزال حتى ألقاه جريحًا.فنزل عن حصانه وهو غضبان، فلما وضع السكين على الغزال ليذبحه فعوضا عن أن يكبر أخذ يقول من فرط الغيظ: أيها الخنزير، لقد قتلت ،حصاني، لقد أرهقت حصاني.فكان غاضبًا على الغزال بسبب هروبه، مع أن كل خائف على حياته لا بد أن يهرب، إنسانًا كان أو حيوانًا.على أية حال، فكان اليهود مصابين بمرض البعد عن الدين مثل ما حصل اليوم بالمسلمين، فإذا كان فيهم رجل صالح تبوأ أولاده مكانه مهما كانوا فاسدين وغافلين عن الدين.وإن زكريا العلية يشير في دعائه إلى هذا الأمر نفسه ويقول لربه وإني خفتُ الموالي من ورائي..أي أنني يا رب أخاف أقاربي بعدي لأني أراهم غير مبالين بالدين.ثم قال وكانت امرأتي عاقرا..أي أن زوجتي أصبحت غير قادرة على أن تلد.لو كانت شابة، أو لو كنتُ أنا شابا، لكانت هناك إمكانية لأن يكون عندنا أولاد.ذلك لأن المرأة الشابة يمكن أن تلد من رجل كبير السن، كما قد تلد المرأة التي قاربت سن الكبر إذا تزوجت من شاب فيقول زكريا اللي لربه إن الأسباب المادية لولادة الابن غير متوفرة في أنا ولا في زوجتي.فهب لي من لدنك وليا..أي أعطني يا رب بمحض فضلك ولدًا يحفظ أفراد أسرتنا من الضياع ويثبتهم على الدين.يرثني ويرث من آل يعقوب...أي يرث ابني هذا مني الحماس لخدمة القوم ونصرة الدين، كما يأخذ أيضًا إرث المحاسن والصالحات كلها التي وُجدت في بني إسرائيل منذ موسى وهارون و داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء.واجعله رَبِّ رضيا )..أي اجعله من المقبولين في حضرتك في الآخرة يا رب.فيا له من دعاء رائع وجامع ولو أننا بيناه بكلماتنا فهو كالآتي: ربِّ، لقد اضمحلت قواي من الداخل، كما قد تشوّه منظري أيضًا.بيد أني معتاد على مننك وألطافك التي لا نهاية لها، فلم أر فشلاً ولا شقاء طيلة حياتي، فصرت بسبب عنايتك أتدلل وأتفاخر بك.إن أقاربي فاسدون ومع ذلك يريدون أن يتبوءوا

Page 160

الجزء الخامس ١٥٣ سورة مريم منصبي الروحاني.أما زوجتي فغير قادرة لأن تلد ومع كل هذا جئتك للسؤال.وما أريده منك هو أن تهب لي ولدًا ، يكون وليا لي وشبيها بي تماما.ولدًا يحيا بعدي، ويحمي أسرتي.ولدا يتخلق بأخلاقي وأخلاق آل يعقوب..فلا يخلّد اسمي اسم أجداده.ثم لا يكون مقبولاً في الناس فحسب، بل يكون أيضا مرضيا عندك يا فقط بل ابنا سبحان الله ! ما ألطفه من دعاء! يقول : لقد فسد جسدي من الداخل، كما تشوه منظري من الخارج.أما زوجتي فأصبحت بلا جدوى.وأما أقاربي فقد عمّهم الفساد.ومع ذلك أسألك أن تعطيني ابنا ولا أسألك، رغم شيخوختي، عاديًا، بل ابنا يتحلى بما في وفي أجداده من مزايا ،ومحاسن، ولا يكون مرضيا عندي فحسب، بل يكون مقبولاً ومحبوبًا لديك أيضًا.هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا العلية.نور أن فلا شك أنه اللي كان يعرف، بناء على النبوءات السابقة، أن نور النبوة على وشك أن ينزع من بني إسرائيل، وأن بعثة النبي الذي ستنتهي به النبوة فيهم موشكة، ولكنه فكر أنه قد يكون هناك سبيل لنجاة قومه من الهلاك والدمار، فدعا الله الا الله أن يهب له ابنا خاصا - وهو يحيى العليا ليجهز قومه للإيمان بذلك النبي الموعود لينصروه ويعزّروه كي ينجوا من العذاب الذي ينتظرهم، فيبقى فيهم الله، أي النبوة، لمدة أطول.ويتضح من أحوال يحيى المذكورة في الإنجيل أن الغاية الأساسية لمجيئه إنما هي يُعدّ القوم للإيمان بالمسيح عليهما السلام.حيث ورد في الإنجيل قول يحيى: أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، ولستُ أهلاً أن أحمل حذاءه.هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" (متى ٣: ١١).فالأمر الذي ركّز عليه يحيى ل وبذل جهوده كلها من أجله إنما هو هو الغاية، بل قد جاء هو لنصرة المسيح.كما نجد أن زكريا العلي أيضًا دعا ربه أن يمهد ابنه الطريق للنبي الموعود لبني إسرائيل، علّه يتمكن من إقناعهم بتصديق المسيح، حتى يُلغى العذاب الذي قد اقترب."أنا أنه ليس

Page 161

الجزء الخامس ١٥٤ سورة مريم أن هذه هي الخلفية لدعاء زكريا العل، ولو درسنا المسيحية على ضوئها لم تبق المسيحية ذات قيمة.ذلك لأنها تدعى بأنها الأساس، بينما تؤكد هذه الخلفية أن المسيحية لم تكن إلا آخر لبنة في ذلك البناء.إذ لم تكن الغاية من المسيحية تأسيس دين جديد وشرع جديد، وإنما كانت إيذانًا من الله تعالى بانتهاء نعمة النبوة والوحي والإلهام المستمرة في بني إسرائيل من زمن طويل.لقد حاول زكريا العليا يستمر نزول هذا النور في قومه لفترة أطول، فدعا رب به الا الله أن يهب له ولدًا يبذل كل ما في وسعه لكيلا يرفض بنو إسرائيل المسيح.فاستجاب الله دعاءه، وبعث يجى، الذي لم يدخر وسعا في أن يجهز قومه للإيمان بالمسيح، ولكن قدر الله غلب، وحلّ قضاؤه وحكمه تعالى.فكما حصل في زمن إبراهيم ال حين جاءه الملائكة – أو الناس بحسب عقيدتنا – بخبر هلاك قرية لوط تألم إبراهيم من أجلهم جدا، فما زال يدعو ربه أن لا يعذبهم.ولقد تحمس في الابتهال والإلحاح أن قال: يا رب، "أفتُهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة؟ أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه.حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تُميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم...فقال الرب: إن وجدتُ في سَدُومَ خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.فأجاب إبراهيم وقال: إني قد شرعتُ أكلّم المولى وأنا تراب ورماد.ربما نقص الخمسون بارا خمسةً.أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال: لا أُهلك إن وجدتُ هناك خمسة وأربعين.فعاد يكلّمه أيضًا وقال عسى أن يوجد هناك أربعون؟ فقال: لا أفعل من أجل الأربعين.فقال: لا يسخط المولى فأتكلم؟ عسى أن جد هناك يو.ثلاثون؟ فقال: لا أفعل إن وجدتُ هناك ثلاثين.فقال: إني قد شرعت أكلم المولى، أن يوجد هناك عشرون؟ فقال: لا أهلك من أجل العشرين.فقال: لا عسى يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط، عسى أن يوجد هناك عشرة؟ فقال: لا أُهلك من أجل العشرة التكوين :۱۸: ۲۳-۳۲).فسكت إبراهيم على ذلك وفهم أن هذه القرية ستدمر حتمًا.

Page 162

الجزء الخامس ١٥٥ سورة مريم فترى أن الله تعالى قد أفرح إبراهيمَ من جهة، ومن جهة أخرى نفّذ قضاءه أيضًا.فكم كان إبراهيم فرحان في بداية دعائه هذا، حيث فكر أن الله تعالى قد من عليه منة عظيمة إذ قبل ابتهاله وبكاءه ووعده بقبول التماسه، فلن يعذب القوم إذا كان فيهم خمسون من الصالحين ثم ما زال إبراهيم ينقص العدد إلى أن وصل إلى العشرة، وبعده توقف لسانه تلقائيا عن المزيد من الكلام إذ قال في نفسه: ماذا أقول لربي أكثر من ذلك.وبالمثل كان ما حصل بزكريا اللا، فلما هاجمه الهم والحزن بأن قومه على وشك الهلاك فكر أنه قد أصبح شيخًا هرما، ولا يستطيع حمل هذا العبء الثقيل أكثر ، فلو أن الله تعالى وهب له ابنا نبيًّا يمهد الطريق للشخص الموعود لبنى إسرائيل، ويدعو الناس إلى الإيمان به، فقد يزول العذاب المحدق بقومه، ويبقى نور النبوة فيهم لفترة أطول.فقال الله له حسنًا، سنهب لك الابن، وسنجعله نبيًّا أيضا، ولكن قدرنا يكون هو الغالب، فإن اليهود لن يؤمنوا رغم ذلك، بل سيقتلون ابنك هذا في السجن.: يَزَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (٤) شرح الكلمات : غلام: الغلام: الطار الشاب؛ أو هو من حين يولد إلى أن يشب، ويُطلق أيضًا على الكهل (الأقرب).وكأنّ الغلام يطلق على الأدوار الأربعة من الحياة ما عدا الشيخوخة.سميا : السمى: مَن كان اسمه اسمك؛ نظيرُك (الأقرب).التفسير : لقد رأيتم أن الذي دعا كان من المصطفين الأخيار، فدعا دعاء كاملا، فانظروا الآن إلى المستجيب الذي يملك الكمال كله حيث قال الله تعالى له: يا زكريا، إنا نبشرك بابن سيبلغ الكهولة ولكنه لن يرى الشيخوخة.

Page 163

الجزء الخامس سورة مريم أما قول الله تعالى اسمه يجى..فاعلم أن الأولاد لما كانوا يسمون بعد الولادة لا قبلها، فالمراد من هذه الجملة أنه إذا وُلد لك هذا الابن فسمه يحيى.وليس المراد منها أن الله تعالى قال لزكريا إن ولدك سيبدأ بترديد "اسمى يحيى" بمجرد أن يولد.وليكن معلومًا أن القرآن الكريم قد سمى الولد يحيى، ولكن جاء اسمه في النسخة الأردية للكتاب المقدس يوحنا، أما في النسخ العبرية واليونانية والإنجليزية فجاء اسمه كالآتي: Joannes yohanan، و John.وإني لا أعلم معنى يوحنا في العبرية، ولكن الاسم العربي "يحيى" له معنى ومغزى ويعني الشخص الذي يعيش إذا فكان في قوله تعالى اسمه يحيى إشارة إلى أن هذا الولد سيعيش وعليك أن تسميه يحيى.أو المعنى أن هذا الولد صفته "يحيى" وسيكتب له الخلود ويتضح من القرآن الكريم أن الشهداء يعيشون إلى الأبد، إذا فكأن في اسم "يحيى" إشارة إلى أن هذا الولد سيستشهد في سبيل الله تعالى، وينال مقامًا عاليًا في الروحانية بحيث يُكتب له الخلود إلى الأبد.والبديهي أن نبيا مثل المسيح لا يمكن أن يموت أبدًا، إذا فكيف يمكن أن يموت النبي الذي نبوته منوطة بالمسيح.إن المسيح لا يمكن أن يموت لأنه إرهاص لنبي لا يمكن أن يموت أعني نبينا محمدًا رسول الله ، وإن يوحنا لا يمكن أن يموت لأنه إرهاص للمسيح الذي لا يمكن أن يموت.وهذا ما قد حصل فعلاً، حيث ترون أن نبينا الله قد أخبرنا أنه قد جاء قبله مائة ألفا ألف وأربعة وعشرون من الرسل (مسند أحمد، باقي مسند الأنصار رقم الحديث ٢١٢٥٧)، ولكنا لا نعرف حتى أسماء مائة منهم.فثبت أن الأنبياء الآخرين قد ماتوا، وأنه ليس بالضرورة أن يعيش كل نبي للأبد، بل إن بعضا منهم قد كتب لهم الخلود، وبعضهم قد ماتوا.وكان يحيى ال من بين الأنبياء الذين العلمية الا كتب لهم الخلود، لأن نبوته منوطة بالمسيح الذي بدوره خالد، لكون نبوته منوطة بمحمد رسول الله ﷺ الذي هو نبي خالد إلى الأبد.ثم قال الله تعالى لم نجعل له من قبل سميا ، والسمي لـه معنيان: الأول: من كان اسمه كاسمك؛ والثاني : مَن كان نظيرك.لقد ظن المفسرون خطأ أن السمي هنا جاء بالمعنى الأول، أي لم يوجد قبل يحيى ال أحد اسمه يحيى (البحر المحيط).28

Page 164

١٥٧ الجزء الخامس سورة مريم وهذا خطأ.فقد ذكرت التوراة نفسها عدة أشخاص كانوا يُدعون يوحنا.فكان أحد أسياد اليهود يسمى يوحنا الملوك الثاني (٢٥ ٢٣.كما كان أحد أحفاد سليمان ال يدعى يوحنا (أخبار الأيام الأول ۳ (۱۵)، وكان واحد من الذين رجعوا من إيران مع عزرا النبي لتعمير أورشليم يدعى يوحنا (عزرا ٨: ١٢).فمن الخطأ القول أنه لم يوجد أحد بهذا الاسم قبل يحيى اللي مطلقا، لأنه خلاف الواقع.والمسيحيون الذين هم دائما بالمرصاد للطعن في الإسلام وجدوا في رأي المفسرين هذا فرصة سانحة للاعتراض على القرآن الكريم، فأخرجوا من التوراة أسماء هؤلاء، ثم راحوا يؤيدون اعتراضهم بقولهم أن محمدًا – والعياذ بالله – سمع من بعض القوم شيئا مما ورد في الإنجيل.فكان مما سمعه أن زكريا صار أبكم لا يتكلم قبل ولادة يحيى، فلما جاءه أقاربه في اليوم الثامن ليختنوا ابنه، واقترحوا أن يكون اسمه زكريا مثل أبيه، قالت أم الولد: لا، بل يسمى يوحنا.فقالوا لها: "ليس في عشيرتك أحدٌ تَسمَّى بهذا الاسم".فأشاروا إلى أبيه الأبكم وقالوا: ماذا يريد أن يسمى الابن، فطلب لوحا وكتب قائلا: اسمه يوحنا.وفي الحال انطلق لسان زكريا وتكلّم (انظر لوقا ١: ٥٧-٦٤).فانخدع محمد بقولهم: "ليس في عشيرتك أحدٌ تَسمَّى بهذا الاسم"، حيث لم يستوعبه محمد ( ) جيدًا، فظن أنه لم يوجد في الدنيا من قبل أحد باسم يوحنا مطلقا، مع أن ما قال الأقارب لزكريا إنما هو أنه لم يوجد في أقاربه أحد بهذا الاسم.فكتب محمد في القرآن أنه لم يوجد في الدنيا أحد بهذا الاسم قبل يوحنا.(تفسير القرآن لـ "ويري") ك الله إن القرآن الكريم لم يقل هذا أبدًا.إن كلمات القرآن واضحة تماما، وإنما المفسرون هم الذين أخطأوا في تفسيرهم.إن كل ما أعلنه القرآن الكريم إنما هـو لم نجعل له من قبل سميا..أي لم نجعل سميا..أي لم نجعل من قبل أحدًا سميا لــــه.فالسؤال الذي الله تعالى يفرض نفسه هنا هو: هل يسمونهم؟ افحصوا عادات المسيحيين أو الهندوس أو المسلمين؟ الجميع يعرف أن آباءهم هم الذين يسمونهم.ولكن الله تعالى يعلن هنا لم نجعل له من قبل سميا..أي لم نُسمّ أحدًا يوحنا قبل ذلك.فلو ثبت بعد ذلك وجود آلاف الملايين أولاد الناس أم أن آباءهم هم الذين يسمي

Page 165

الجزء الخامس ١٥٨ سورة مريم من الناس باسم يوحنا في الدنيا قبل يحيى، فلن يقدح ذلك في القرآن الكريم أبدا؛ ذلك لأن القضية لا تتعلق بوجود أشخاص باسم هذا الاسم قبل يحيى، وإنما السؤال: هل وجد قبله أحد سماه الله نفسه بهذا الاسم؟ فمثلاً يوجد في بلادنا الملايين الذين أسماؤهم محمد، أو عبد الله ، أو عبد الرحمن، أو عبد الرحيم، وكل هؤلاء قد سماهم آباؤهم و لم يسمهم الله تعالى بهذا الاسم.فلو أن الله تعالى قال بعد ذلك لأحد بالإلهام : لقد سمينا مولودك القادم عبد الرحمن، فسمه به، و لم نسم أحدًا بهذا الاسم من قبل؛ فسمّى هذا ولده عبد الرحمن، فهل يجوز لأحد بعد ذلك أن يقول له: كلا، أنت كاذب، فهناك الملايين الذين اسمهم عبد الرحمن؟ أفلا يقول هذا الأب: إنهم ليسوا كابني لأنهم قد سماهم ،آباؤهم، أما ابني فقد سَمَّاه الله بنفسه.فثبت أن لا اعتراض على قول القرآن.هذا إنما يصح الاعتراض لو قال الله تعالى أنه لم يوجد قبل يوحنا أحد دُعي بهذا الاسم ولكن ما يعلنه القرآن هو أن الله تعالى قال إنه لم يسم أحدًا بذلك الاسم.وهذا صحيح تماما، لأن كل أولئك الذين يشير إليهم هؤلاء المسيحيون إنما سماهم آباؤهم، بينما يعلن القرآن الكريم هنا أن الله تعالى هو الذي أطلق ذلك الاسم على ذلك المولود.فلا وجه للاعتراض.هذا، وإن كلمة "السمي" تعني النظير أيضًا في اللغة العربية، وعليه فقوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا يمكن أن يعني أننا لم نجعل له نظيرا ولا مثيلاً..أي أن الله تعالى يشير هنا إلى كون يحيى إنسانًا منقطع النظير.ولو سئلنا: كيف صار يحيى منقطع النظير؟ ألم يكن موسى نظيرا لــــه؟ لقلنا: إن الإنسان يمكن أن يكون منقطع النظير في محاله الخاص.فمثلاً نقول: فلان فارس منقطع النظير، وفلان خطاط لا نظير له، وإن فلانًا رسام لا مثيل له، وإن فلانا مفسر عديم المثال.وهذا لا يعني أن الذي هو منقطع النظير في الفروسية هو بالضرورة عديم المثال في الرسم أيضًا؛ أو أن الذي لا نظير لـه في التفسير هو خطاط منقطع النظير أيضًا.فثبت أن كون أحد عديم المثال في مجال ما لا بالضرورة أن يكون منقطع النظير في كل المزايا والمجالات.تعالوا الآن لنرى المجال الذي فيه كان يحيى العليا عديم النظير.يعني

Page 166

الجزء الخامس ١٥٩ يعني جاء حاملاً سورة مريم يكشف لنا التدبر في الأمر أن يحيى العلية لا هو أول ني اسم نبي آخر وصفاته أعني إلياس ؛ أي أنه أول الأنبياء الذين جعلوا إرهاصا، إذ لا نجد بين جميع الأنبياء السابقين له أحدًا بُعث إرهاصًا لنبي آخر.أما بعد يحيى فجاء عيسى إرهاصا لنبينا محمد رسول الله.ثم جاء حضرة سيد أحمد البريلوي * إرهاصا لسيدنا أحمد المسيح الموعود اللة.إذن فإن قوله تعالى لم نجعل له سميا ) أنه تعالى لم يجعل من قبل أحدًا مثيلا ليحيى، بمعنى أنه أول نبي جاء مثيلا لنبي آخر.وبالفعل ترون أنه بعد بعثة سيدنا المسيح الموعود ال لا بد لنا من ذكر اسم يحيى اللي مرة بعد أخرى؛ ذلك لأن الأنباء تؤكد أن المسيح الموعود سينزل من السماء، وعندما يسألنا المعارضون أين المسيح المزمع نزوله من السماء نرد عليهم ونقول: لقد سئل المسيح الناصري العليا السؤال نفسه عندما أعلن دعواه حيث قال له القوم: لقد وعدنا في كتاب النبي بنزول إيليا ثانية، وأنه سينزل قبل ظهور المسيح، فأين إيليا المزمع نزوله؟ فأجاب المسيح: إن يوحنا هو إيليا، فاقبلوا أو لا تقبلوا (انظر متى ١١: ١٤).كذلك تمامًا لقد بعث الله تعالى في الأمة المحمدية شخصا آخر باسم المسيح الناصري المزمع نزوله من السماء.وهكذا فلا بد لجماعتنا من إحياء اسم يحيى العلا على هذا النحو لأن قضية المشابهة لا تنحل إلا بواسطة يحيى.ملاخي * ولد حضرة سيد أحمد البريلوي – رحمه الله - عام ١٢۰١ الهجري الموافق عام ١٧٨٦ الميلادي في "رائي بريلي" بالهند.كان من أولياء الله الكبار.خرج، بناء على إشارة سماوية، لمحاربة السيخ الحاكمين الذين منعوا المسلمين من القيام بأداء شعائرهم الدينية، وساموهم سوء العذاب.فدارت بين الفريقين معارك ضارية.وأصيب حضرته في إحدى المعارك بجراح تسببت في استشهاده يوم ٢٤ من ذي القعدة ١٢٤٦ الهجري الموافق ٦ مايو ١٨٣١الميلادي.ودفن في "بالا كوت".لقد اعتبره سيدنا المسيح الموعود الل إرهاصا لــه ومجددًا للقرن الثالث عشر، وقد انضم بعض مريديه إلى جماعته العلمية.(المترجم)

Page 167

الجزء الخامس مثيلاً 17.باختصار إن قوله تعالى لم نجعل لــــه سورة مريم من قبل قبل سميا ) يعني أننا لم نجعل لـه من قبل.وهذه خصوصية لم توجد في أي نبي قبل يوحنا.فليدلّنا أحد على ني قبل يوحنا جُعل مثيلاً لإيليا وما دام اليهود والنصارى أنفسهم يعتقدون أنه لم يسبق ليحيى له مثيل في هذا المجال فثبت صدق القـرآن الكريم.وإن كون المرء عديم المثال، كما بينت لا يعنى كونه عديم المثال في كل محال، بل يكفيه أن يكون منقطع النظير في مجال واحد.وكما ذكرنا المجال الذي كان يحيى عديم المثال فيه، فقد يكون فيه خصوصيات أخرى أيضًا جعلته منقطع النظير.وإن الإنجيل أيضًا قد أشاد به بسبب تلك الخصوصية نفسها، حيث قال المسيح: "أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان" (لوقا ۷ (۲۸).مود أنه وهذا يعني أن الإنجيل أيضًا يعده منقطع النظير.بيد أن المثال الذي يذكره الإنجيل هنا غلط إذ يقول: ليس نبي أعظم من يوحنا؟ فمتى كان يوحنا أعظم من مع تابع له؟ وهل كان أعظم من إبراهيم رغم أنه كان تابعا لـه أيضًا؟ فثبت جليًّا أن هذا المثال ،غلط، لأن موسى وإبراهيم وغيرهما الأنبياء من الكثيرين - عليهم السلام - كانوا أعظم من يوحنا ولكن القرآن الكريم لم يذكر هذا المثال لبيان خصوصية يحيى، وإنما اكتفى بقوله لم نجعل له من قبل سميا..أي جعلناه منقطع النظير في مجال ما في حين أن الإنجيل يزعم أن المسيح قال إن يجى كان عديم النظير لأنه كان أعظم الرسل.مع أن هذا مخالف لعقيدة المسيحيين أنفسهم.إذن فقد وجدنا من الإنجيل الدليل على كون يحيى عديم المثال، كما وجدنا البرهان على كون الإنجيل باطلاً مزيفا.وهذا الأمر يماثل قصة المنافقين في القرآن الكريم، حيث يخبر الله تعالى رسوله أن المنافقين يأتونك فيحلفون لك أنك رسول الله، والله يعلم إنك لرسوله ولكن المنافقين كاذبون (المنافقون: ٢).فقد ثبت من هذه الفقرة الإنجيلية - من جهة - أن القرآن الكريم محق في إعلانه بكون يحيى عديم النظير، وأن الإنجيل نفسه يقرّ بذلك، كما ثبت أيضا أن السبب الذي

Page 168

الجزء الخامس ١٦١ سورة مريم ذكره الإنجيل بهذا الصدد يؤكد صدق القرآن وبطلان الإنجيل، لأنه يتنافى مع معتقدات المسيحيين أنفسهم حيث لا يعتقدون بأن يوحنا كان أفضل من جميع الأنبياء والرسل.أما الآن فأخبركم عن أحوال يوحنا، أي يحى، كما وردت في الإنجيل.يقول الإنجيل إن زكريا الكاهن وامرأته أليصابات كانا عجوزين.وكانت أليصابات ،عاقرا ولم يكن لهما ولد.وكانا صالحين بارين.وذات يوم ذهب زكريا ليبخّر البخور في الهيكل.فظهر له ملاك وقال له: "لا تَخَفْ يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنا، وتسمّيه يوحنا.ويكون لك فرح وابتهاج، وكثيرون سيفرحون ،بولادته لأنه يكون عظيما أمام الرب، وخمراً ومسكرًا لا يشرب.ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس.ويردّ كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم.ويتقدم أمامه بروح إيليا وقوته" (لوقا ١: ٥-١٧).ثم ورد أن هذا الملاك هو جبريل، وأن زكريا شك في قول الملاك، فصار أبكم لا يتكلم إلى أن ولد يوحنا وتم ختانه..أي ظل زكريا بدون كلام قرابة عشرة شهور.وهذا الأمر يخالف بيان القرآن الكريم، والبديهي أن ما يقول القرآن هو الأقرب إلى الصواب لكونه لائقًا بمكانة زكريا الذي كان نبيًّا ، أما ما يذكره الإنجيل فلا يليق بمكانة نبي.وثمة فروق أخرى بين بيان الإنجيل وبيان القرآن الكريم، وهي: الأول: يقول القرآن إن الحافز الذي دفع زكريا الله للدعاء هو ذلك الكلام البريء الذي تكلمت به.مريم ولكن الإنجيل ساكت بهذا الصدد، غير أن سكوته لا يرادف إنكاره لهذه الواقعة.إذ ذكر في سياق تلقي زكريا بشارة الابن أنه كان يدعو الله تعالى من أجل الابن، حيث ورد أن الملاك قال له إن "طلبتك قد سمعت (لوقا ۱ (۱۳).بيد أن الإنجيل لم يذكر الحافز على هذا الدعاء.أما القرآن فقد بدأ هذه القصة بذكر هذا الأمر نفسه وقال إن زكريا لما تكلم مع مريم الصبية امتلأ قلبه حماسًا للدعاء بسماع كلامها البريء، فدعا ربه من أجل الابن (آل

Page 169

الجزء الخامس ١٦٢ سورة مريم عمران (۳۸-۳۹.وهذا يعني أن الإنجيل لم يذكر الحافز الأساسي للحدث، وإنما ذكر الجزء الأخير منه، وهذا دليل على نقص الإنجيل.وراء مريم ودليلنا على صحة بيان القرآن هو أن يحيى ولد عند زكريا في أواخر عمره، وهذا باعتراف الإنجيل نفسه، إذ ورد فيه أن الملاك لما بشّره بالولد قال: "كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها" (لوقا ١: ١٩).والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : لماذا لم يقم زكريا بهذا الدعاء من قبل؟ إن دعاءه في أواخر عمره لدليل واضح أنه كان دعائه حافز جديد، وما هو إلا أن كانت قد ولدت في تلك الأيام من عمره، فكان كلامها البريء هو الحافز الجديد الدافع لـه إلى الدعاء.إن هذه القرينة لدليل على أن بيان القرآن هو الصحيح.بيد أن هذا الفرق بين المصدرين ليس باختلاف ذي بال، إذ ليس مثله إلا كمثل شخص يقول عن حدث ما أنه قد حصل في الصباح، بينما يقول غيره إنه قد وقع في الساعة العاشرة صباحًا، والعاقل لن يرى في ذلك اختلافا حقيقيًا.إنما يكون الاختلاف إذا ثبت التعارض والتناقض في البيانين إن كلمات الإنجيل "إن طلبتك قد سمعت" تدل على أنه بدأ سرد القصة من استجابة دعاء زكريا، بينما بدأ سردها القرآن الكريم بالأحداث التي سبقت الدعاء.فسكوت الإنجيل عن تلك الأحداث السابقة دليل أنه لم يذكر ذلك الحافز للدعاء؛ وهذا يدل على كون بيانه ناقصاً، ولكن بيان القرآن خال من هذا العيب.الثاني: يقول الإنجيل إن الملاك هو الذي بشر زكريا بالولد، أما القرآن فيخبر أن الله تعالى هو الذي بشره به ولكن هذا ليس اختلافًا في الحقيقة، لأن الملائكة التي تأتي برسالات الله عادةً، ولأنها لا تتكلم بالغيب من عندها، وإلا لزم اعتبارها آلهة.فلو سلمنا أن الملاك هو الذي قد بشره بالابن فإنما بشره من لذا فيمكننا أن نقول إن الملاك قال كذا، كما يجوز لنا أن نقول إن الله تعالى قال كذا.فإذا كان الإنجيل يخبرنا أن الملاك قال له إن "طلبتك سمعت" فهذا يعني أن عند الله هي تعالى.الله الله تعالى أخبر الملاك أنه قد استجاب دعاء زكريا فكان قول الملاك نيابة عن تعالى.ومثاله كمثل شخص يرى ثمرة المانجو في المنام، وتعبيره أنه سيُرزق ابنا؛ ثم

Page 170

الجزء الخامس ١٦٣ سورة مريم بعد فترة يُرزق ابنا بالفعل، فيقول للناس: لقد أخبرني الله تعالى سلفًا بولادة الابن عندي؛ فهل من عاقل في الدنيا يقول له : إنك كاذب؛ متى أخبرك الله بذلك، إنما رأيت في المنام المانجو فحسب.وكل من يقول مثل هذا الكلام سيعتبره القوم مجنونا، إذ كان الرجل قد أخبر بذلك من عند الله تعالى ولو على شكل رؤية المانجو کلمه في الرؤيا.فيمكننا القول إن الملاك أخبر زكريا بولادة الابن كما يمكننا القول إن الله تعالى أخبره به؛ لأن الملائكة لا تبشر من عندها وإنما من عند الله تعالى.وهذا هو الثابت في موضع آخر من القرآن الكريم حيث سرد الله الحدث نفسه وقال فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى (آل عمران: ٤٠).فترى أن هذه الآية لا تذكر كلام الله تعالى مع زكريا، بل كلام الملائكة معه.فثبت أن ما ورد في سورة مريم بأن الله تعالى قال لزكريا لا يعني أنه تعالى كلّمه مباشرة، بل المراد أنه تعالى من خلال الملائكة أي سيدهم جبريل كما صرح بذلك في سورة آل عمران.فليس هنا أي اختلاف، بل هو مزيد من الشرح اللطيف، حيث بين الله تعالى أن كلام الملاك إنما هو كلامه تعالى في الواقع.فيمكن أن نقول إن الله قال كذا، كما يمكن تماما القول إن الملاك قال كذا.علما أن القسيس "ويري" قد اعترض على هذه الآية من سورة آل عمران قائلا: إن العقلية المسلمة عجيبة، ففي حين يقول الإنجيل إن جبريل هو الذي ظهر لزكريا، يزعم القرآن أن الملائكة هي التي نادته؛ ومع ذلك يعتبره المسلمون اختلافا بسيطا! تفسير القرآن لـ " ويري" مجلد ٢ ص (١٦) وهذا يعني أن "ويري" يقول ساخرًا بالمسلمين إن الاختلاف بين بيان القرآن والإنجيل اختلاف كبير، ولكن هؤلاء السذج لا يدركون ذلك.والحق، كما بينت أن لا فرق بين أن يقال إن الملائكة قالت كذا، وبين أن يقال إن الملاك قال كذا ذلك أن القرآن الكريم يخبرنا أن الله تعالى كلما أنزل وحيًا هاما بعث معه كثيرا من الملائكة.يقول الله تعالى عالم الغيب فلا يُظهِر على غيبه أحدًا * إلا من ارتضى مِن رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه

Page 171

الجزء الخامس ١٦٤ سورة مريم شيء رصَدًا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل عددًا) (الجن: ٢٧ - ٢٩)..أي أن الله تعالى عالم الغيب، ولا يُطلع على غيبه بكثرة أحدًا إلا رسله.كما أن الغيب الذي ينزل من عنده يأتي معه كثير من لحراسته.الملائكة إن هذه الآية تخبرنا أن الله تعالى إذا أنزل وحيًا ذا أهمية خاصة مع ملاك بعث معه ملائكة أخرى تحرس ذلك الوحي.فلا حرج إذا قلنا إن ملاكا نزل لأن الذي يتكلم بذلك الوحي هو أحد الملائكة ولا بأس أيضا لو قلنا إن الملائكة تكلمت بذلك الوحي لأن الكثير من الملائكة تنزل معه.من هنا فإذا قال الله تعالى في القرآن فنادته الملائكة فالمراد أن ذلك الوحي كان وحيا ذا أهمية خاصة، فأرسل ملائكة كثيرة؛ وإذا قال الإنجيل إن ملاكًا بشر زكريا بالولد فلا حرج في ذلك أيضًا، إذ لم يتكلم بالوحي إلا ملاك واحد نيابة عن الجميع.ومثله كمثل وفد من الناس يزور الحاكم أو الوزير، فيقول رجال الصحافة إن الوفد قال للوالي كذا وكذا، مع أن كل الوفد لا يتكلم إنما يتحدث أحدهم نيابة عن الجميع.يتضمن الوفد سبعة أو ثمانية أفراد مثلاً، ولكن لا يتكلم إلا واحد منهم.ولو أن الجميع شرعوا يتكلمون دفعة واحدة فإن الحاكم سيطردهم جميعا لجهلهم بآداب الكلام.الغريب أن هؤلاء الأوروبيين يعرفون جيدا هذا الأدب البسيط للقاء الوفود، ويراعونه في لقاءاتهم كل يوم، ولكنهم حين يقرءون شيئًا مماثلاً له في القرآن الكريم يسخرون ويستهزءون ونعم ما قال الشاعر بالفارسية: این گناهیست که در شهر شما نیز کنند أي أن هذه الجريمة تُرتكب في بلدتكم أيضًا.ونحن أيضا نقول لهؤلاء المعترضين إنكم أنفسكم تتبعون هذا الأسلوب القرآني في لقاءاتكم صباحا ومساء، فلم الاعتراض إذن؟ ثم إننا نجد أمثلة هذا الأسلوب في الكتاب المقدس أيضًا، حيث ورد عن إبراهيم العلية لا :

Page 172

الجزء الخامس ١٦٥ سورة مريم "وظهر له الرب عند بلوطات مَمْرًا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه.فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض، وقال يا سيد، إن كنتُ قد وجدت نعمةً في عينيك فلا تتجاوز عبدَك.ليؤخذ قليل ماء، واغسلوا أرجلكم، واتكتوا تحت الشجرة؛ فآخُذ كسرة خبز، فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم.فقالوا: هكذا تفعل كما تكلمت.فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقًا سميدًا.اعْجُني واصنعي خبزَ مَلَّة.ثم ركض إبراهيم إلى البقر، وأخذ عجلاً رَحْصًا وجيدا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله.ثم أخذ زُبدًا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم.وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا.وقالوا له أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة.فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن.وكانت سارة سامعةً في باب الخيمة وهو وراءه.وكان إبراهيم وسارة شيخين متقدمين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.فضحكت سارة في باطنها قائلةً: أَبَعْدَ فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد شاخ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة قائلة: أفَبالحقيقة ألد وأنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة ابن فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت.فقال: لا، بل ضحكت" (التكوين ١٨: ١-١٥).فالتوراة تخبرنا هنا أن إبراهيم رأى الله تعالى ثم تقول إن ثلاثة من الرجال - بدلاً من إله واحد - شرعوا يتكلمون مع إبراهيم، ثم أكلوا طعامه أيضًا.ثم يغيب الثلاثة كلهم ويتحول الحديث عن الثلاثة إلى الواحد كما يتغير الضمير من الغائب إلى المتكلم حيث ورد: " فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة (أي في فصل الربيع، ويكون لسارة امرأتك ابن.ثم بعد ذلك تقول التوراة إن الله تعالى هو الذي تكلم مع إبراهيم حيث ورد فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟" ذلك لا يجد المسيحيون في هذا الكلام أي غرابة، ولكنهم يستغربون ومع

Page 173

الجزء الخامس ١٦٦ سورة مريم ويسخرون من القرآن الكريم إذا قال إن الملائكة هم الذين بشروا زكريا بالابن؛ مع أنه ليس ثمة اختلاف ولا غرابة في ذلك مطلقًا، كما بينت بالتفصيل.إن الإنجيل يخبر أن ملاكًا واحدًا جاء يبشر زكريا ،بالابن ونعرف من القرآن الكريم أن الله تعالى يبعث ملائكة كثيرة مع كل وحي ذي أهمية خاصة؛ فلا يمكن أن نخطئ الإنجيل، بل إن بيانه صواب، كما أن بيان القرآن الكريم صدق وحق أيضًا.الثالث: ورد في الإنجيل أن يوحنا كان إرهاصًا للمسيح عليهما السلام، ولكن القرآن الكريم لا يذكر ذلك.وهذا الأمر أيضًا من الاختلافات التي يثيرها المسيحيون.والجواب أن القرآن الكريم لم يذكر هذا الأمر هنا في سورة مريم، ولكنه يقول في وصف يحيى في سورة آل عمران مصدقًا بكلمة من الله (الآية: ٤٠).فليس ثمة اختلاف في الحقيقة.ذلك أن الإنجيل ينبئ أن يوحنا سيسير أمام المسيح بروح إيليا وقوته (لوقا ۱: ۱۷)، ويقول القرآن الكريم أنه سيحقق بمجيئه نبوءة وردت في الصحف السابقة.والظاهر أن سرد قصة ما كاملةً في موضع واحد ليس ضروريا، فإن الكتاب المقدس أيضًا قد ذكر جزءا في مكان وآخر في مكان آخر.الرابع: ورد في القرآن الكريم أن زكريا أعطي آيةَ عدم الكلام ثلاثة أيام – سواء أكان توقف عن الكلام قصدًا، أم أن الله تعالى جعل لسانه لا ينطق – بينما يقول الإنجيل إن لسانه توقف عن الكلام عقابًا من الله تعالى، فظل أبكم منذ تلقى البشارة إلى أن وُلد يحيى وجاء يوم ختانه، فسئل عن اسم الولد، فكتب على لوح أن اسمه يحيى، فانفتح لسانه وتكلم (لوقا ١: ٢٠ و ٥٧-٦٤).لا شك أن ثمة اختلاف في بيان القرآن الكريم والإنجيل، وعلى المرء أن يسائل عقله وضميره ليعرف أي البيانين حق وصدق.فهناك كاهن بحسب الإنجيل - والكاهن يماثل المحدَّث عندنا نحن المسلمين - يمنحه الله تعالى الإنعام الإبراهيمي، أعني أن إبراهيم اللي كما وعد في شيخوخته بابن من عند الله تعالى كذلك وعد زكريا العجوز بابن كان موعودًا من قبل جميع الأنبياء في رأي المسيح، وكانت ولادته ضرورية وإلا لم يأت المسيح أيضًا؛ ومع ذلك عندما قال زكريا: أنى يكون

Page 174

الجزء الخامس ١٦٧ سورة مريم لي ولد وأنا شيخ عجوز وامرأتي ،عاقر عاقبه الله تعالى بعذاب، وصيّره أبكم لا يتكلم حوالي عشرة أشهر.وذلك بالرغم أن الفعل نفسه قد صدر عن سارة زوجة إبراهيم، حيث ورد: "فضحكت سارة في باطنها قائلةً: أبَعْدَ فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد "شاخ (التكوين :۱۸ (۱۲ ولكن ما نزل بها أي عذاب، ولم يجعلها الله تعالى بكماء ليوم واحد.إذا كان هذا الفعل جناية كان لزاما أن تعاقب عليه سارة أيضا كما عوقب زكريا للسبب نفسه بالبكم لعشرة أشهر.ثم يتضح من الإنجيل أن زكريا ما قال ذلك إنكاراً، بل عجبًا واستغرابا من قدرة الله تعالى بدليل قول الملاك: "لا تَخَفْ يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت" (لوقا ١: ١٣)..أي أن دعاءك قد استجيب.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل صار زكريا وزوجته عجوزين في ذلك اليوم بالتحديد؟ لا بد أنهما قد شاخا قبل ذلك بفترة.فإذا كانت ولادة الابن أمرًا مستحيلاً في رأي زكريا فلماذا دعا إذا من أجل الابن؟ إن دعاءه هذا، ثم قول الملاك هذا، يؤكدان إيمانه بأن الله قادر كل القدرة على أن يهب له الولد كان زكريا يدرك أنه عجوز، وأن زوجته أيضا عجوز، ولكنه على يقين أن الله تعالى يملك القدرة المطلقة، ومن أجل ذلك كان يواظب على الدعاء من أجل الابن.فلما تلقى الخبر باستجابة دعائه هذا استولت عليه الحيرة وقال في نفسه مستغربا: سبحان الله كيف استجيب هذا الدعاء غير العادي؟ ولكنه لم يكن منكرًا لقدرة الله على ذلك.والبديهي أن العقاب إنما ينزل بالمنكر المتردد، أما المتحير المستغرب فلا يعاقب، بل يعطى الصلات والجوائز.إذن فإن هذه الشهادة من الإنجيل نفسه لتدعم بيان القرآن الكريم بأن زكريا الله تعالى آية على ولادة الابن، ولكنه لم ينكر قدرة الله.فثبت أن الإنجيل قد أخطأ حين قال أن زكريا عوقب فظل أبكم لا يقدر على الكلام قرابة عشرة أشهر، وأن القرآن كان على حق حين قال إن سكوت زكريا استمر ثلاثة أيام فقط، وأن هذا السكوت لم يكن عقابًا من الله تعالى، وإنما لكي يذكر الله تعالى في تلك الأيام بكثرة.يقول الله تعالى آيتُك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذْكُرْ ربَّك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (آل عمران (٤٢).أي أن زكريا منع من طلب من :

Page 175

الجزء الخامس ١٦٨ سورة مريم الحديث مع الناس في تلك الأيام حتى يذكر الله فيها كثيرًا، من غير أن يكون به أي عيب ولا مرض كالعي والخرس كما اتهمه الإنجيل.ومن أجل ذلك قال الله تعالى آيتك ألا تكلّم الناس ثلاث ليال سويًّا ) (مريم: (۱۱)..أي أن علامة ذلك أنك لن تتكلم ثلاث ليال، ولكنك تكون سويا ) أي بريئًا من أي مرض وعيب.فما أصدق ما يقوله القرآن الكريم ! فإن الله تعالى لما استجاب دعاء زكريا قال: دَعْنى يا رب أشكرك الآن.قال: فاعتكف في المسجد ثلاثة أيام منشغلاً بذكري، وهذا سيكون آية على شكرك لي.أما ما يقوله الإنجيل فغلط عقلاً ونقلاً.واعلم أن هناك فرقا بينا بين القرآن الكريم والكتاب المقدس.ذلك أن الكتاب المقدس يتجاسر دائما على اتهام الأنبياء، أما القرآن الكريم فيبرئ ساحتهم من كل تهمة من هذه التهم.فمثلا، يزعم الكتاب المقدس أن هارون وقع في الشرك (الخروج ۳۲ (۱-٦)، ويقول القرآن الكريم إنه لم يقع في الشرك قط (طه: ٩١).ويزعم الكتاب المقدس أن زكريا أنكر قدرة الله تعالى فعوقب (لوقا ١: ٢٠-٢١)، ويقول القرآن الكريم إنه لما تلقى الوعد من الله تعالى التمس منه تعالى أن يأمره بشيء يقوم به شكرًا له الله، فأمره الله تعالى أن يصوم صوم السكوت ثلاثة أيام منشغلاً بذكر الله تعالى، ولكن هذا لم يكن عقابًا ولا مرضًا.ويزعم الكتاب المقدس أن سليمان ال كان محرما مستهترًا وغافلاً عن الدين (الملوك الأول ۱۱: ١-٦) ، ولكن القرآن الكريم يعدّه مؤمنًا صالحا بارا (سورة ص: ۳۱).فما أعظمه من برهان على صدق التاريخ المذكور في القرآن الكريم، وعلى زيف روايات الكتاب المقدس.إذا كان الأنبياء عباد الله الأخيار فصدور هذه المعاصي منهم محال، وإذا لم يكونوا من الأبرار الأخيار فذكرهم بصفتهم أنبياء سخف وحماقة.إن التصرفات التي يعزوها الكتاب المقدس إلى أنبياء الله تعالى لو نُسبت إلى عامة المسيحيين أو القسيسين لثاروا للشجار والقتال، ولكنهم يسلمون بها بكل جسارة في حق أنبياء الله الأطهار ! الخامس: ورد في الإنجيل أن مريم لما حملت وذهبت لزيارة أم يوحنا، امتلأت أم يوحنا بالروح القدس فقالت: "فمن أين لي هذا أن تأتي أُمُّ ربي إلي.فهوذا حين

Page 176

الجزء الخامس ١٦٩ سورة مريم صار صوتُ سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني" (لوقا ١: ٤٣-٤٤).ولكن القرآن الكريم يقول في صفة يحيى وآتيناه الحكم صبيا (مريم: ۱۳)، ويقول إنه كان سيّدا وحصوراً ) (آل عمران: (٤) أي أن الله تعالى قد منحه منذ صغره القوة الروحانية والحكمة الروحانية والحكومة الروحانية، وأنه كان سيدًا وبريئًا من كل عيب ومنقصة.فالمسيحيون يقولون إن كتابهم يعد يحيى عبدا للمسيح، فكيف يعده القرآن سيدا وأنه قد أعطي السيادة منذ نعومة أظفاره؟ والرد على قولهم هذا هو أن فقرات أخرى من الإنجيل تؤكد أن الإنجيلي لوقا قد زاد هذا القول من عنده في إنجيله على سبيل المبالغة فحسب، إذ لا يمت إلى الحقيقة بصلة.لو كان يحيى مجرد خادم للمسيح، كما يزعم لوقا، فما الذي دفع المسيح ليكون تلميذا ليحي؟ إن كتاب الأناجيل قد ظلموا هنا سيدهم المسيح ظلما عظيمًا في محاولتهم لأن يرفعوه أكثر من مكانته الحقيقية.فمثلاً يقول متى في إنجيله إن المسيح جاء إلى يوحنا ليتعمد منه، ولكن يوحنا منعه قائلاً: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي؟ (متى ٣ ١٣-١٤).أي أنك يا سيدي وأستاذي وأنا تلميذك، فكيف أعمدك؟ ثم نسبوا إلى المسيح أنه قال ليوحنا: "اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر" (المرجع السابق (١٥ أي صحيح أنني أعظم منك، ١٥)..ولكن ما دام الأنبياء قد تنبأوا بذلك فلا بد لنا أن نحقق نبأهم.كم هو غير معقول هذا الجواب! ذلك أن المسيح إذا كان أسمى من أن يكون تلميذا ليوحنا فلماذا تنبأ الأنبياء بذلك أصلاً، ولماذا قدر الله تعالى.هكذا.أليس غريبا أن المسيح يذهب إلى يوحنا ليبايع على يده ولكن يوحنا يقول له كيف آخذ منك البيعة وأنت أعظم مني؟ فيجيبه المسيح: لقد أخطأ الأنبياء إذ تنبأوا بأنك ستعمدني.لا شك أنني أعظم منك ولكن ماذا نفعل الآن؟ علينا أن نعمل كما قالوا.إن هذه القصة تشابه ما يعتقد به بعض الشيعة بأن رسول الله ﷺ لما ذهب للقاء الله تعالى ليلة المعراج، وجرى بينهما الحوار، قال النبي : سيدي، قد جئت لزيارتك من مسافة طويلة، فأرجوك ألا تحرمني من رؤية وجهك؟ فكشف الله تعالى

Page 177

الجزء الخامس ۱۷۰ سورة مريم عن الحجاب فإذا بعلي الله جالس أمام النبي ﷺ ! فقال : سيدي، لقد كبّدتني عناء هذا السفر الطويل عبيًّا، فإني أرى هذا الوجه يوميا على الأرض.فقال الله تعالى : هناك سر في ذلك أيضًا.يبدو أن هناك سرا كامنًا كهذا في قصة يوحنا أيضًا، حيث يذهب إليه المسيحُ ليضمه إلى مريديه، فيقول لـه يوحنا كلا، ثم كلا ما كان لي أن آخذ البيعة من سيدي، فيجيبه المسيح: صحيح أنني أنا السيد، ولكن هكذا خرج من فم الأنبياء فلا بد من تحقيق كلامهم.فيا له من كلام سخيف ! وإن مرقس أيضا قد حاول في إنجيله أن يسبغ على هذا الحدث الطابع نفسه، وإن لم يذكر فيه الحوار المذكور في إنجيل لوقا.ثم إن لوقا أيضًا لم يذكر هذا الحوار، بيد أنه ذكر قصة تتلمذ المسيح على يد يوحنا.أما يوحنا فلم يذكر في إنجيله أصلاً أن المسيح قد تعمد على يد يوحنا.ولكن هذا لن يجديه شيئا، لأن الأناجيل الثلاثة تنص على أن يوحنا قد عمّد المسيح، أي صار أستاذا له.لا شك أن المسيح قد صار أعظم من يوحنا درجة، ولكنه صار أعظم منه فيما ،بعد ، أما قبل ذلك فكان تلميذا ليوحنا شأنه شأن كثير من التلامذة الذين يسبقون أساتذتهم فيما بعد.فأحيانًا يكون الأستاذ لم يكمل الثانوية مثلا، ولكن التلميذ يحصل على درجة الماجستير؛ بيد أن هذا لا يجيز للأستاذ أن يرفض تعليم تلميذه في الابتدائية بحجة إنه سيكون أعظم منه.لا شك أنه سيسبق أستاذه حينما يكمل الماجستير، ولكنه لا يمكن أن ينكر أنه كان تلميذا لــــه.إذن فمن الخطأ والعبث القول أن يوحنا، وهو في بطن أمه، قد اعترف بعظمة "I المسيح.إذا كان الأمر كما يقولون فلماذا أمره الله تعالى أن يعمد المسيح.علماً أن القسيس ويري" قد استشاط غضبًا على قول الله تعالى في القرآن ومصدقًا بكلمة من الله ، فقال كيف اعتبر القرآن يوحنا مصدقًا للمسيح مع أنه أدنى منه شأنا (تفسير القرآن لـ "ويري" مجلد ٢ ص ١٦-١٧).والحق أن قول

Page 178

الجزء الخامس ۱۷۱ سورة مريم القسيس "ويري" هذا إنما يدل على غبائه هو، لأن الإنجيل نفسه يؤكد ما قاله القرآن..أي كان يوحنا إرهاصًا للمسيح عليهما السلام.السادس: يقول القرآن الكريم إن الرزق كان يأتي مريم بكرة وعشيا، ولكن الإنجيل لم يذكر ذلك.وهذا الاختلاف ليس بشيء.إن حب الناس للصغار شيء طبيعي.أما إذا كان الأطفال ممن قد نذرهم آباؤهم في سبيل الله تعالى فيبدون نحوهم مزيد الحب وكبير الاحترام كما يُهدونهم الهدايا لمعرفتهم بمكانتهم السامية.أما الذين يجهلون المقام السامي لهؤلاء الأولاد فيعطونهم الصدقات.فكان القوم يأتون مريم بشتى الهدايا حبًّا واحتراما لها.وقد سجل ميور وآرنولد أيضًا في كتبهما روايات مسيحية بهذا المعنى، وقدموها كمعجزة للمسيح (المرجع السابق).بيد أن هذا لا يعني أن نصدق القصص التي ذكرها المفسرون بهذا الصدد.فمثلا قالوا أن زكريا لما رأى الطعام عند مريم شك في أمرها، وظن أن أحد الأشرار يأتيها بالطعام، فكان زكريا يغلق عليها غرفتها، ثم يغلق عليها سبعة أبواب أخرى، ذلك كان يجد عندها رزقًا (الرازي، والميزان في تفسير القرآن للطباطبائي).ويبدو أن المفسرين مولعون جدا بسبعة أبواب.فإذا كان الرزق يأتي عند مريم فمن وراء سبعة أبواب، وإذا كانت زليخا تراود يوسف عن نفسه فمن وراء سبعة أبواب أيضا (الرازي)! مع أن كل ما ذكره القرآن الكريم إنما هو أن زكريا لما وجد عند مريم طعامًا، قال: من آتاك هذا؟ قالت : الله تعالى.فتأثر من الجواب الجميل من صبية بريئة، فدعا ربه وقال: ربِّ أعطني أنا أيضًا ابنًا متحليا بالكمال الروحاني.وكما أسلفت، فإن الروايات اليهودية أيضًا تدعم هذا البيان كما اعترف بذلك وليام ميور وأورنولد في كتبهما.ومع

Page 179

الجزء الخامس ۱۷۲ سورة مريم قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا : قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا )) شرح الكلمات: عتيا: عتا يعتو عتيا: جاوز الحد والعتيّ العاتي.وقال الإمام الراغب في قوله تعالى وقد بلغتُ من الكبر عتيا..أي حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداواتها".التفسير : أي لما تلقى زكريا ال من الله تعالى البشارة بالولد قال: كيف يمكن أن يكون لي ابن وزوجتي عقيم وقد بلغتُ من الشيخوخة الحد الأقصى؟ ولقد انطوت كلمة (غلام على البشارة إلى الأمور التالية: الأول أن المولود سيكون ذكرًا، والثاني أنه سيبلغ سن الكهولة، والثالث أن زكريا سيرى الأيام السارة من حياة ابنه فدهش زكريا الله من عظمة البشارة وقال مستغربًا: لقد أصبحتُ شيخا هرما، وزوجتي عقيم لا تلد ومع ذلك يبشرني ربي بابن، وبأني سأعيش أيامًا بعد ولادته وسأقوم بتربيته؟ فما هذا الوحي الغريب المفعم بالعجائب؟ أما قوله تعالى قال كذلك قال ربُّك هو عليَّ هين، فقد قال عنه المفسرون، خوفًا من المسيحيين، أن قال كذلك هو من كلام الملاك الذي بلّغ زكريا الخبر، أما قال ربك هو علي هين فالقائل فيه الله تعالى (الجامع لأحكام القرآن).مع أنه لا حاجة لهذا الفرق ولا داعي لهذا التأويل، إذ توجد في القرآن الكريم أمثلة كثيرة لانتشار الضمير حيث ينتقل الضمير من الخطاب إلى الغائب ومن الغائب إلى الحاضر.الحق أن ما يقوله الملاك إنما هو قول الله تعالى في الحقيقة، لأنه لا يقول شيئًا من عنده، بل يبلغ كلام الله تعالى.فإذا كانت جملة قال كذلك من مقولة الملاك فإنما هي مقولة الله فى الحقيقة إذ قالها نيابة عن ا الله تعالى، لا من عند نفسه.

Page 180

الجزء الخامس ۱۷۳ سورة مريم کلامه هو الله، الحق أن قوله تعالى قال كذلك قال ربُّك هو على هين ينبهنا أن نعتبر الأمرين من الله تعالى، فإذا نُسب الكلام إلى الملاك فأيقنوا أن منبع وإذا نُسب الكلام إلى الله فأيقنوا أنه تعالى قد تكلم مباشرة.ثم قال الله تعالى وقد خلقتك من قبل و لم تك شيئًا.وأرى أن قوله تعالى خلقتك لا يشير هنا إلى الخلق المادّيّ، إذ لا خصوصية لزكريا في هذا الخلق، وإلا لقال الله تعالى "وقد خلقتُ الكون كله من قبل ولم يك شيئًا".فما دام الله تعالى يوجه الخطاب هنا إلى زكريا خاصة، فثبت أن الحديث هنا لا يدور عن الخلق المادي، وإنما يشير في الواقع إلى أمر آخر، وهو – عندي – ما ذُكر في قوله تعالى نجعل له من قبل سميا.فولادة ابن عند زكريا أولاً، ثم كون الابن يعيش ثانيا، ثم كونه ابنا غير عادي منقطع النظير في مجالات معينة ثالثا كانت أمورًا محيرة حقا.فأجاب الله على الأمرين الأولين بقوله قال كذلك قال ربك هو علي بينما أجاب على الأمر الثالث بقوله وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا..أي لم يكن لك يا زكريا من قبلُ شأن يُذكر، ثم وهبنا لك العلوم والمعارف، كذلك نحن قادرون القدرة كلها على أن نمنح ابنك أيضًا هذه الحقائق لم والمعارف.قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي ءَايَةً قَالَ وَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِمَ النَّاسَ ثَلَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا التفسير: لقد استخدم القرآن في مواضع كثيرة كلمة "الآية" بمعنى الأمر والحكم، ولذلك تُسمَّى جُمل القرآن آيات لكونها تحتوي على أوامر الله تعالى وأحكامه.فقول زكريا رَبِّ اجعل لي آية) يعني ربِّ مُرْني بشيء أقوم يعني ربِّ مُرْني بشيء أقوم به..أي لقد أنعمت علي بنعمة عظيمة أريد أن أشكرك عليها، فأرجوك أن تأمرني بأمر يكون علامة ظاهرة على شكري إياك، فأقوم به وأفرح بأني قد نفذت أمر ربي.يتضح من التوراة أن الله تعالى جعل لبني إسرائيل بعض العلامات بصدد الأنباء

Page 181

١٧٤ الجزء الخامس سورة مريم المستقبلية.فكانت بعضها علامات سماوية، وبعضها عبادات فقط.فقد ورد في التوراة أن الله تعالى عهد إلى نوح الله وأولاده أنه لن يأتي بعد ذلك بطوفان عالمي في المستقبل، وقد جعل قوس قزح علامة على ذلك.ونص العبارة كالآتي: "وكلّم الله نوحا وبنيه معه قائلاً وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم، ومع كلّ ذوات الأنفس الحية التي معكم..الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كلّ حيوان الأرض.أقيم ميثاقي معكم، فلا ينقرض كل ذي جسد أيضًا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضًا طوفان ليخرّب الأرض.وقال الله: هذه علامة الميثاق الذي أنا واضعه بيني وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التي معكم إلى أجيال الدهر.وضعتُ قوسي في السحاب، فتكون علامة ميثاق بيني وبين الأرض فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض وتظهر القوسُ في السحاب أني أذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد.فلا تكون أيضا المياه طوفانًا لتهلك كل ذي جسد.فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا أبديًّا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض.وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الذي أنا أقمتُه وبين كل ذي جسد على الأرض" (التكوين ٩: ٨-١٧).لا شك أن هذه الرواية مشوهة إلا أنها تخبرنا بكل تأكيد بعادات اليهود وتقاليدهم، مبينةً أن الله تعالى إذا عهد إليهم عهدًا جعل على تحقيقه علامة ظاهرة وأحيانًا جعل الله لذلك أمرًا كان على العباد القيام به.فقد ورد في التوراة: "قال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم.هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يُختن منكم كلُّ ذَكَرٍ.فتحتنون في لحم غُرْلَتِكم فيكون علامة عهد بيني وبينكم." من عنده.(التكوين ١٧: ۹ - ۱۱).بيني كذلك جعل الله تعالى السبت علامة عهد له حيث ورد: "وقدسُوا سبوتي فتكون علامةً بيني وبينكم لتعلموا أني أنا الرب إلهكم" (حزقيال ۲۰:۲۰).

Page 182

الجزء الخامس ۱۷۵ سورة مريم فاتضح من هذه الفقرات أن القيام ببعض الحسنات قد جعل علامة ظاهرة على تحقق بعض الأنباء عند بني إسرائيل.وعلى هذا النحو نفسه دعا زكريا ربَّه فقال: ربِّ اجْعَلْ لي آيةً..أي مُرْني بشيء أعمله حتى يصبح وعدك أمرا مفعولاً.ذلك أن العبد إذا وفي بوعده أنجز الله وعده حتمًا كما وعد تماما، و لم يبدله بشكل آخر.ثم تقول الآية: قال آيتك ألا تكلّم الناس ثلاث ليال سويا..أي قال الله تعالى إني آمرك، كعلامة على شكرك لي أن لا تكلّم الناس ثلاث ليال وأنت سليم معافى لا مرض بك ولا عيب وذلك لكي تتمكن من التركيز على ذكر الله في هذه الأيام خاصة.وجدير بالملاحظة هنا أن الله تعالى لا يقول "آيتك ألا تكلم"، وإنما يقول آيتك ألا تكلّم الناس.ذلك أن الإنسان الحائز على الكمال الروحاني لا يكلم الناس فحسب، بل يكلم الله أيضًا.فترى كيف تكلّم زكريا مع ربه كلاما طويلاً إذ قال: رَبِّ إِني وَهَنَ العظمُ مني واشتعل الرأسُ شَيئًا و لم أكن بدعائك رَبِّ شقيًّا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهَبْ لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رَبِّ رضيًّا )).فهذا الكلام كله لم يكن مع بشر، بل مع الله تعالى.ثم إن عباد الله الأخيار يتكلمون أحيانًا مع الملائكة أيضا.فكلمة الناس الواردة هنا قد استثنت الكلام الذي يتم مع الله تعالى والملائكة، مؤكدة أن الله تعالى إنما أمر زكريا بصوم السكوت فقط لكي يركز في هذه الأيام على ذكر الله تركيزا خاصا، وليس المراد أن الله تعالى سلبه قوة النطق تماما.لو كان الأمر هكذا لقال الله تعالى "آيتك ألا تكلّم" بدلاً من أن يقول آيتك ألا تكلّم الناس..أي عليك أن تفرض على نفسك ألا تكلّم الناس في هذه الأيام رغم كونك سليمًا معافى قادرًا على الكلام.لقد اشترط الله تعالى هنا إنجاز وعده بأمر من أوامره، والحكمة في ذلك أن العبد لو نفذ أمر الله تعالى فلا بد أن يتحقق ذلك الوعد ولا يلغى أبدا.

Page 183

الجزء الخامس ١٧٦ سورة مريم وليكن معلوما أن قوله تعالى ثلاث ليال لا يعني الليالي الثلاث فقط، بل يعني الليالي الثلاث مع نهارها ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى وواعدنا ثلاثين ليلة (الأعراف: (١٤٣ ، أي ثلاثين ليلة مع نهارها.موسی فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا شرح ۱۳ ) الكلمات : المحراب : الغرفة؛ أكرمُ مواضع البيت، ومنه سُمّي محراب المسجد وهو مقام الإمام ؛ الموضعُ الذي ينفرد فيه الملك (للتدبر في القضايا فيتباعد عن الناس؛ القصرُ؛ مأوى الأسد (الأقرب).فأوحى: أوحى إليه إيحاء بعثه؛ وأوحى إليه بكذا: ألهمه به (الأقرب).وفي الأساس: وحيتُ إليه وأوحيت إذا كلّمته بما تخفيه عن غيره.وفي المصباح: "وبعض العرب يقول: وحَيتُ إليه ووحيت لـه وأوحيت إليه وله (الأقرب).إذا فالوحي لا يعني الإشارة فقط، بل المراد منه إعلامك صاحبك بأمر ما في خفاء عن الآخرين.بكرة: وهو من طلوع الفجر إلى الضحى (الأقرب).عشيا : العشي: آخر النهار؛ وقيل: من صلاة المغرب إلى العتمة (الأقرب).التفسير: لما أمر زكريا بالسكوت ثلاث ليال مع نهارها ليذكر الله خلالها كثيرا، قرّر العمل بأمر الله تعالى.فخرج من غرفته أو محراب مسجده، وكلّم أصحابه بكلام خافت لم يُسمعه غيرهم.وهذا أيضًا يؤكد أنه لم يفقد القدرة على الكلام بتانا، بل يعني قوله تعالى فأوحى إليهم أنه تكلم معهم بحيث لم يسمع غيرهم.

Page 184

الجزء الخامس ۱۷۷ سورة مريم وفي سورة آل عمران قال الله تعالى آيتك ألا تكلّم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا (الآية: (٤٢) بدلاً من أوحى إليهم.وبما أن كلمة الرمز تعني الإشارة عمومًا ، فقد فسرها المفسرون هنا بمعنى الإشارة متأثرين من بيان الإنجيل (تفسير ابن كثير).ولكن تذكر القواميس أن من معاني الرمز الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين (الأقرب).والظاهر أن الإنسان لا يشير بالشفاه وإنما يتكلم بها كلاما خافتا.فالمراد من الإيماء بالشفاه أن يتكلم الإنسان بحيث لا يرتفع صوته، كقولنا لمن يكون بحنجرته التهاب: تكلّم بحيث لا يرتفع صوتك.بل يقول الثعالبي الإمام في اللغة عن لفظ الرمز: "هو مختص بالشفة" * "فقه اللغة" للثعالبي فصل في تفصيل : تحريكات مختلفة..أي هو مختص بالكلام الخافت بالشفة دون الحنجرة.وهذا المعنى مطابق تماماً لقوله تعالى فأوحى إليهم...بمعنى أن زكريا منع من الكلام بصوت عال، وأُمر بالكلام بالشفاه أي بصوت خافت.ذلك لأنه كان لزاما عليه أن يبلغ أصحابه القريبين بما أمره الله به، فقال لهم بصوت منخفض جدا: سوف أركز على ذكر الله تعالى في الأيام الثلاثة التالية خاصة، فاذكروا الله أنتم أيضًا بكرة وعشيا.ولأن البكرة يطلق على الصباح إلى الظهر، ويطلق العشي على ما بعد زوال الشمس إلى الليل، فالمراد أنني سأقضي كل هذه الأيام في ذكر الله وعبادته، فعليكم أيضًا أن تركزوا فيها على العبادة والذكر.صلے يَيَحْيَى خُذِ الْكِتَبَ بِقُوَّةٍ وَوَاتَيْنَهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ( وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوةَ وَكَانَ تَقِيًّا (3) * شرح الكلمات : حنانًا: الحنان هو الرحمة؛ الرزق البركة؛ الهيبة الوقار ورقة القلب (الأقرب).لم نعثر على هذه العبارة في النسخة المتوفرة لدينا للمصدر المشار إليه.بيد أنه "رَمَزَ بشفته" ("فقه اللغة" للثعالبي : فصل في تقسيم الإشارات) (المترجم) ورد فيه:

Page 185

الجزء الخامس ۱۷۸ سورة مريم والمراد من الحنان هنا رقة القلب.التفسير: نستنبط من هذا أن التوراة وصُحفها لم تكن قد أصبحت منسوخة حتى ذلك الوقت.ذلك لأن يحيى الا لم ينزل عليه أي كتاب جديد بحسب عقيدة المسلمين والمسيحيين أيضًا.فالمراد من الكتاب الذي أمر يحيى بأخذه بقوة هو التوراة.هذا، وإن المسيح ال أيضًا قد تعمد على يد يوحنا (يحيى)، أي اعترف بكونه تابعًا لدينه.وهذا يعني أن المسيح أيضًا لم يأت بدين جديد.ذلك لأن الله تعالى إذا كان قد بعث نبيين في زمن واحد، وإلى شعب واحد، وكان أحدهما تلميذا للآخر، فكيف يمكن أن يكون أحدهما آخذا بالتوراة بقوة، ويكون الآخر ناسخا لها بكتاب جديد يأتي به.إذن فإن قوله تعالى يا يحيى خُذ الكتاب بقوة إشارة إلى أن الشرع الموسوي ما كان ليُنسخ عاجلاً على يد المسيح، إذ لو كان نسخه مقدرا على يد المسيح لما أوصى الله يحيى بهذه الشدة يا يحيى خُذ الكتاب بقوة.إن هذه الكلمات تؤكد أنه كان على بني إسرائيل أن يعملوا بشرع التوراة نفسه.لو كانت التوراة لتنسخ عاجلاً لما أمروا بالعمل بها بهذا التأكيد والشدة.كلا، إن مثل هذه الكلمات لا تقال للعمل المؤقت وإنما تقال إذا كان ذلك الشرع ما زال واجب العمل به لفترة من الزمن.أما قول الله تعالى وآتيناه الحكم صبيًّا فيعني أن الله تعالى قد شرفه بقربه وهو صغير.بمعنى أن الوحي بدأ ينزل عليه وهو لا يزال صغيرًا في أعين القوم، بدليل قولنا: إن فلانا وليد الأمس، إذ لا يعنون بذلك أنه طفل رضيع.ثم إن الصبي يعني الشاب أيضًا.* الغريب أنه قد جاء في ذلك الزمن نبيان الواحد بعد الآخر، وقد استخدم القرآن لكل واحد منهما كلمة صبيًّا.يخبرنا الله تعالى أن أم عيسى ال لما جاءت به قومها قال لها اليهود كيف تكلّم من كان في المهد صبيًّا (مريم: ٣٠).وهذا يعني * ورد في أقرب الموارد الصبي دون الفتى.وفي الصحاح الصبي: الغلام المترجم).

Page 186

الجزء الخامس ۱۷۹ سورة مريم أن الناس سموا عيسى صبيَّا، وأما يحيى فسماه الله صبيًّا.وذلك ليشير إلى أنه إذا كان كلام عيسى ال في صغره معجزة فإن يحيى أيضًا كان موصوفًا بهذا الوصف حيث قال الله عنه وآتيناه الحكم صبيًّا ).بل هناك فرق بينهما وهو أن الذين سموا المسيح الا صبيا هم اليهود، ولكن الله تعالى نفسه قد سمى يحيى صبيًّا.فإذا كان المسيحيون يعظمون المسيح بسبب كلمة قالها أعداؤه في حقه، فلم لا يعظمون يحيى بسبب الكلمة نفسها خاصة وإن الله تعالى هو الذي قالها في حقه لا الأعداء.لا شك أن الله تعالى قد قال عن المسيح يكلم الناسَ في المهد وكَهْلاً (آل عمران (٤٧ ، ولكن فيما يتعلق بتسميته صبيا فلم يطلقها على عيسى إلا الأعداء.وكما أن قوله تعالى وآتيناه الحُكْمَ صبيًّا يمثل لوما للمسيحيين بأنهم إذا كانوا يعظمون المسيح لكونه غالبًا على أعدائه منذ صغره فلم لا يؤتون يحيى العظمة نفسها وقد حظي هو الآخر بقرب الله تعالى منذ الصغر، كذلك قد عُقدت في قوله تعالى وحنانًا من لَدُنَّا وَزَكَاةً وكان تقيَّا المقارنة بين المسيح ويحيى نظرا إلى تعليم المسيح.يركز المسيحيون على أن المسيح علّم الرفق والحكم والعفو، فيرد الله تعالى عليهم بأن يحيى بأن يحيى أيضًا كان متصفا برقة القلب والرفق والحلم.فإذا كان الرفق والحلم سببًا لعظمة عيسى فإن يحيى أيضًا كان عظيمًا مثله لاتصافه بالصفة نفسها.إذا فالله تعالى قد فنّد في هذه السورة مزاعم المسيحيين بذكر كل الأمور التي يستدلون بها على أفضلية المسيح.وإليك بيانها: أولاً: يقال أن المسيح كان حليم القلب ورءوفًا ومحبا للجميع.فرد الله تعالى عليهم بقوله إن يحيى أيضًا كان حليم القلب ورءوفًا ومحبا للجميع.ثانيًا: يقال أن المسيح قد أتى بشرع جديد، فيقول الله تعالى لقد أمرنا يحيى هو الآخر بأخذ الكتاب بقوة.ثالثًا: يقال أن المسيح تكلم وهو صغير، وهذا دليل على أفضليته، فيقول الله تعالى إننا جعلنا يحيى مأمورًا من عندنا وهو صغير، وبعثناه إلى الناس.

Page 187

الجزء الخامس ۱۸۰ سورة مريم رابعا: يقال أن المسيح كان بريئًا من الذنوب، فيقول الله تعالى إن يحيى أيضًا كان مبراً من الذنوب حيث قال وزكاة..أي منحناه الطهر والقدس.لقد وصف الله تعالى يحيى هنا بكل الخصوصيات التي تعزى إلى المسيح ليقيم الحجة على المسيحيين، وقال إذا كنتم تفضلون المسيح على الأنبياء الآخرين بسبب هذه الأمور فلم لا تؤمنون بأفضلية يحيى الذي كان هو الآخر مخصوصا بها.وبعد أن وصف الله تعالى يحيى بأنه آتاه زكاةً قال الآن وكان تقيا..أي كان صاحب تقوى وورع.علما أننا في لغتنا الأردية عندما نقرأ كلمات مترادفة نظن أنها لا تضيف أي مفهوم جديد وإنما جيء بها من أجل تحبير الكلام وتزيينه فقط.ولكن الأمر ليس كذلك في اللغة العربية بل إن كل كلمة فيها تنطوي على دلالة معينة.فقوله تعالى آتيناه زكاة يعني غير ما يعنيه قوله تعالى وكان تقيا.ذلك أن الزكاة في العربية تعني إزالة العيوب الباطنة، أما التقوى فيعني إزالة العيوب الخارجية.فالآية تعني أننا منحناه من عندنا الحلم والرفق، وجعلنا أفكاره المختلجة بداخله طاهرة، كما وهبنا له القوة ضد المساوئ التي تهاجم من الخارج.وَبَرَا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا شرح الكلمات : بَرا: بَرَّ في يمينه: صدق.وبَرَّ والدَه : أحسنَ الطاعة إليه ورفق به وتَحرَّى مَحابَّه وتَوفَّى مكارهه، فهو بَر به وبار (الأقرب).وهذا يعني أن الإنسان إذا حاول إرضاء والده فتخلق في ظاهره وباطنه بكل الأخلاق التي تسرّ أباه، وترك كل المساوئ التي يكرهها فقد صار برا وبارا.غير أن البر أبلغ وأقوى من البار.جبارا : جبر العظم: أصلحه من كَسْرِ ؛ وجَبَر العظم بنفسه: صلح بعد الكسر.وجبر الفقير: أغناه وجبر فلانًا على الأمر : أكرهه (الأقرب).وهذا يعني أن الجبر يعني الخير والإصلاح من جهة، ومن جهة أخرى ينطوي على معنى القسر والظلم.

Page 188

الجزء الخامس ۱۸۱ سورة مريم عصيا : العصي هو العاصي أي الخارج عن الطاعة والمخالف والمعاند (الأقرب).التفسير: لقد أخبر الله تعالى بقوله وبَرًّا بوالديه أن يحيى كان مطيعا كاملاً لوالديه.كان متخلقًا بالأخلاق التي يحبّانها ومتجنبًا لجميع المساوئ التي كانا يكرهانها.ثم قال الله تعالى ولم يكن جبّارًا عصيًّا.لقد وصف الله تعالى يحيى بهذه الصفات خاصة ليفنّد مزاعم النصارى الذين يقدمون بكل زهو وتباه التعليم التالي للمسيح: "من لطمك على خدك الأيمن فحول لـه الآخر أيضًا" (متى ٥: ٣٩).فيرد الله تعالى عليهم ويقول إن يحيى أيضًا لم يكن جبّارًا، وأنه هو الآخر قد دعا الناس إلى ترك الظلم والعدوان.ثم إن النصارى يزعمون أن من أكبر مزايا المسيح قوله: "أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما الله الله متى (۲۲ (۲۱).فيرد الله و عليهم ويقول إن يحيى أيضا لم يكن عصيا.إنه هو الآخر أمر الناس ألا يرتكبوا العصيان بل عليهم أن يعطوا لقيصر ما لقيصر، والله ما الله الله أن إذن فقد وهب الله تعالى ليحيى كل المحاسن التي تُعزى إلى المسيح ال.لا شك المسيح كان أعظم درجة من يحيى عليهما السلام ولكن الحديث هنا لا يدور عن الدرجة والمقام وإنما يخبر الله تعالى هنا أن المسيح لم تكن فيه خصوصية خارقة للعادة.ذلك لأن المسيحيين يبالغون جدا في تعظيم المسيح اللي زاعمين أنه قد وجدت فيه صفات خارقة، ولذلك رد الله تعالى على مزاعمهم هذه، مؤكدًا أن أيضا كان متحليًّا بتلك المزايا والمحاسن؛ فإذا كنتم تبالغون في تعظيم المسيح بسببها فلم لا تفعلون ذلك بحق يحيى أيضًا.وَسَلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (5) التفسير : يظن البعض أن السلام المشار إليه في هذه الآية هو السلام المادي، ولأن السلام كان مقدرًا ليحيى الله يوم موته أيضا فثبت أنه لم يُستشهد.

Page 189

الجزء الخامس ۱۸۲ سورة مريم ولكني أقول إذا كان السلام يعني سلامته من القتل، فما هو المراد إذن من السلام عليه يوم القيامة ؟ فهل سيحاول عدو من أعدائه اغتياله يوم القيامة حتى الله بالسلام في ذلك اليوم أيضًا؟ إذا كان هذا هو مفهوم السلام فسيكون معنى الآية كلها كالآتي: أن يجى سيسلم من القتل يوم يولد، وسيسلم من القتل يوم يموت، وسيسلم من القتل حين يُبعث حيًّا يوم القيامة! وعده الحق أن الله تعالى قد أشار هنا إلى ثلاثة أدوار مختلفة، ولكن أصحاب الرأي المذكور أعلاه قد أخطأوا في فهم هذه الآية الواقع أن حياة الإنسان ثلاث.فتبدأ الحياة الأولى بولادة الإنسان وتنتهي بموته.وأما الثانية فتبدأ بموت الإنسان وتستمر إلى يوم القيامة، وتسمى الحياة البرزخية وأما الثالثة التي تُسمى يوم البعث في القرآن الكريم، فتبدأ بدخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بشكل كامل.فالولادة بداية للحياة الدنيا، والموت بداية للحياة البرزخية، ويوم القيامة بداية للحياة الآخرة.ويخبرنا الله تعالى هنا أن سلامنا سيشمل يحيى في كل هذه الفترات من الحياة؛ فسينزل عليه السلام منا عند ولادته، وسيظل متمتعًا بها في حياته الدنيا كلها.ثم يشمله السلام منا حين يموت وسيظل في سلام خلال حياته البرزخية.ثم يكون في سلام يوم القيامة، وسيظل موردًا لفضل الله ورحمته في حياته الآخرة.وباختصار فلا ذكر للقتل في هذه الآية، وإنما يدور الحديث هنا عن الأنواع الثلاثة من الحياة، حيث أخبر الله تعالى أن يحيى سيكون مورداً السلام الله تعالى في كل فترة من فترات حياته الثلاث.أن هذا السلام الإلهي ليس خاصا أو بيحيى عليهما السلام، بل إن بيد بعیسی جميع المؤمنين يتمتعون به.يقول الله تعالى للنبي ﷺ: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقُل سلام عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة (الأنعام: ٥٥).وبالرغم من أن هذا السلام على المؤمنين كان من عند الله تعالى، ومع ذلك قد استشهد كثير منهم.ثم يقول الله تعالى عن المؤمنين جميعا الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (النحل: ٣٣)..أي الذين تقبض

Page 190

الجزء الخامس ۱۸۳ سورة مريم الملائكة أرواحهم وهم طيبون أطهار فإن الملائكة تقرأ عليهم السلام وتدعوهم إلى الدخول في الجنة.والظاهر أن الملائكة تقبض أرواح الناس بطرق شتى، منها الاستشهاد.فلو كان السلام يعنى السلامة من القتل أفليس عجيبا أن يكون العدو يقتلهم والملائكة تقول لهم سلام عليكم سلام عليكم! أي كانت تقول على عكس ما يجري معهم.ثم ورد في آية أخرى والسّلامُ على مَنِ اتَّبع الهدى (طه: ٤٨).فإذا كان المراد من السلام العصمة من القتل فيجب بحسب هذه الآية أن لا يُقتل أي مؤمن.ثم يقول الله تعالى عن المؤمنين يهدي به اللَّهُ مَن اتَّبَعَ رضوانَه سُبُلَ السلام) (المائدة : (۱۷).علما أن ضمير الغائب في به عائد إلى القرآن الكريم.فلو كان السلام بمعنى العصمة من القتل بيد الأعداء لكان مفهوم هذه الآية أن الله تعالى يمنح المؤمنين حياة لا يُقتلون فيها بيد الأعداء أبدا.وهذا غلط بداهة.الحق أن لكلمة السلام مفاهيم واسعة.لا شك أنها تعني تارةً العصمة من القتل بيد العدو أيضا، ولكنها تعني السلامة من المرض حينًا؛ وتعني الحماية من الفشل حينا آخر.إذن فلا يصح أبدًا تحديد مفهوم لكلمة ذات مدلولات عديدة بغير قرينة قوية ولاسيما إذا كان ذلك المفهوم مخالفا لوقائع التاريخ.فثبت أن السلام هنا ليس سلامًا ماديا، إذ لا يمكن في هذه الحالة تفسير السلام وقت الموت، لأن الإنسان لا يموت إلا جراء مرض أو حادث، فأين السلام إذن؟ مما يدل دلالة واضحة أن السلام هنا لا يعني السلام المادي، وإنما السلام الروحاني.والمراد من السلام على يجى يوم ولادته أنه سيولد بريئا من كل النقائص العقلية والنفسية، والمراد من السلام عليه يوم موته أنه سيظل مبراً من جميع الأمراض الروحانية، وأن الله سيشمله بفضله ورحمته أيضًا يوم يُبعث حيًّا.لقد جاءت هذه الآية أيضًا لإبطال خصوصية تُعزى إلى المسيح العلة.إذ يزعم البعض أنه لم يسلم من مس الشيطان أحد من البشر إلا عيسى وأمه.وهذا لم يقل به المسيحيون بل قاله المسلمون منةً على المسيحيين (تفسير ابن كثير: قوله تعالى وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم).فكان الله تعالى يعلم أنه سيأتي على الناس

Page 191

الجزء الخامس ١٨٤ سورة مريم زمان سيقول فيه المسلمون أن المسيح معصوم من مس الشيطان، وهذه خصوصية ينفرد بها المسيح وحده؛ فرد الله الله على زعمهم فقال عن يحيى الله وسلام عليه يوم ولد..أي لقد كان يحيى تحت ظل سلام الله تعالى منذ يوم ولادته.فإذا كان الشيطان يمس كل إنسان عند ولادته فكيف يمكن أن يقول أحد كم كان مليئا بالسلام والرحمة اليومُ الذي ولد فيه يحيى ومَسَّه فيه الشيطان! إن كل عاقل يدرك أن الشيطان ما دام يمس كل واحد من البشر عند ولادته فلا يمكن القول عن يحيى أن يوم ولادته كان يوم سلام وبركة.إنما يصح هذا القول إذا كان الشيطان لم يمسه عند ولادته.موصوف لقد وصف الله تعالى هنا يحيى ل بكل المحاسن والصفات التي وُجدت في المسيح عند المسيحيين، ذلك لأنه كان من المقدر للمسلمين أن يعرضوا على النصارى كل ما تحلى به رسولنا له من أخلاق سامية وكمالات عالية، وكان لا بد أن يرفضها المسيحيون قائلين أن المحاسن كلها إنما اجتمعت في المسيح فقط؛ فنبه الله وعمل المسلمين بهذه الآيات إلى أن يدرسوا أحوال يوحنا في الإنجيل، فهو وف بكل تلك المحاسن التي تُنسب إلى المسيح، بل أكثر منها.وقد بينت من قبل أن الإنجيل قد سجل قول المسيح عن يوحنا: "أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان (لوقا (۷ (۲۸.كما أن هناك نبوءات عديدة أخرى على لسان الأنبياء السابقين في صالح يوحنا.إذا فليس هناك خصوصية للمسيح حتى يُتخذ إلها أو ابن إله.إننا لا ننكر أن المسيح أعظم من يوحنا، ولكن الزعم أن المسيح اتصف بصفات فريدة خارقة فباطل تماما بحسب الإنجيل أيضًا.بل قد ورد في الإنجيل عن يوحنا: "لأنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرا ومسكرًا لا يشرب" (لوقا ١: ١٥)، في حين لم يكن المسيح يشرب الخمر فحسب، بل صنع الخمر كمعجزة له (يوحنا ٢: ١-١١).ثم إذا كان المسيح يصوم ويقوم بعبادات أخرى فإن يوحنا أيضا كان يفعل مثله.وباختصار فإن الله تعالى قد نبه المسلمين هنا أن عليهم لدى الجدال مع أهل الكتاب أن ينظروا في أحوال يوحنا، وسيجدون أن الأمور التي تعزى إلى المسيح

Page 192

الجزء الخامس ١٨٥ سورة مريم توجد كلها في يوحنا أيضًا.فما خصوصية المسيح في ذلك إذن؟ فبدأ من قوله يا يحيى خُذ الكتاب بقوة حتى آخر هذه السورة قد ساق الله تعالى البراهين على بطلان المسيحية منبها المسلمين أنهم حين يذكرون أخلاق نبيهم العالية فلن يقبلها المسيحيون.وها نحن نخبرهم بطريق الجدال مع هؤلاء القوم عليهم أن يقرءوا في الإنجيل أحوال يوحنا، وسيجدون فيها كل ما يعزوه المسيحيون إلى المسيح.فليقولوا للمسيحيين: ليس للمسيح خصوصية فيما تذكرون حتى تؤلهوه أو تتخذوه ابنا الله تعالى.وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (3) ! شرح الكلمات : ۱۷ انتبذت: يقال انتبذ: اعتزل وتنحى ناحية (الأقرب).شرقيا: الشرقي: المنسوب إلى الشرق، وكلُّ مكان في جهة الشرق، وكلُّ ما اتجه نحو الشرق الأقرب).التفسير : الذكر هنا جاء بمعنى السرد والحكاية أو التذكر، فلو كان المراد من الكتاب هنا القرآن الكريم فستعني هذه الآية: اسرد قصة مريم في القرآن الكريم؛ أما إذا كان الكتاب إشارة إلى الكتاب المقدس فالمعنى استحضر في ذهنك قصة مريم، أو اسردها، كما وردت في الكتاب المقدس.ولكن الظاهر أن كثيرًا من الأباطيل قد دست في الكتاب المقدس فيكون معنى الآية انظر فيما ورد فيه من أحوال مريم، واقرأ أيضًا بيان القرآن الكريم في شأنها، ثم قارن بينهما حتى تعلم أي الكتابين عرض أحوال مريم بما يليق بمكانتها.لقد استهل الله تعالى هذه السورة بقصة زكريا وذكر خلالها ولادة يحيى لأن الأنباء كانت تؤكد أن ولادته تكون إرهاصًا للمسيح، وما كان المسيح ليظهر في الدنيا ما لم يظهر قبله الشخص الذي يكون بروزًا ومظهرًا لإيليا.والآن ذكر الله تعالى قصة مريم بعد قصة يحيى ذلك لأن ظهور يحيى كما كان ضروريا قبل المسيح

Page 193

الجزء الخامس 117 سورة مريم لكونه آية وعلامة على ظهوره، كذلك كانت ولادة المسيح من غير أب آية عظيمة لليهود.فقد حذرهم الله بها أن النبوة ستنقطع الآن الله بها أن النبوة ستنقطع الآن عن بني إسرائيل، وأن هذه النعمة ستُحوَّل الآن إلى إخوانهم الآخرين.مريم لقد سمعنا من سيدنا المسيح الموعود ال عشرات المرات أن ولادة المسيح اللي من غير أب كانت إشارةً من الله تعالى لليهود أنه قد أعرض عنهم وأن النبوة ستنتقل الآن عن بني إسرائيل إلى أمة أخرى بسبب معاصيهم.ذلك أن نَسَب المرء إنما يُعرف من قبل أبيه، فخلق الله المسيحَ من غير أب لينبه اليهود أنه لم يبق بينهم أحد ذَكَرٌ يصلح من أولاده للنبوة.ومن أجل ذلك فإن الذي نجعله الآن نبيًّا مولود من غير أب، وهو إسرائيلي من قبل الأم فقط.ولكن النبي القادم لن يكون إسرائيليا حتى من قبل الأم أيضًا لأن الله تعالى قد قرر أن يقطع كل صلاته عن بني إسرائيل.لقد بين سيدنا المسيح الموعود الي هذا الأمر مرارا وتكراراً في كتبه منها مثلاً كتابه "مواهب الرحمن" وغيره (انظر مواهب الرحمن ص ٢٩٠-٢٩١).وكما قلت فقد سمعنا ذلك من لسانه المباشرة عشرات المرات، حيث بين أن كانت علامة تحذير رباني أنه قد حان أن تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، وآن الأوان لأن تتحقق نبوءة موسى التي قال فيها: "يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك (أي من بني إسماعيل) مثلي" (التثنية ١٨: ١٥).فلأن السيدة مريم أيضا كانت آية من آيات الله تعالى فعلينا أن نفحص جيدًا لنعرف ماذا قال القرآن والكتاب المقدس في وصفها.إن والدة عيسى ال تسمى في اللغة العربية مريم، ونُطقها في العبرية مارية ومريم وميريوم.إن الإنجيل كلما ذكر أم المسيح استخدم كلمة مريم، ولكنه حين ذكر النساء الأخريات سماهن حينًا ،مريم ومارية حينا آخر.فهذه هي الأسماء التي كانت رائجة في ذلك العصر.ويبدو أنهم قد استخدموا لأم المسيح تعظيما للمسيح العين.كلمة مريم فقط نعثر على اسم "مريم" أول مرة في التوراة حيث أطلق هذا الاسم على أخت موسى الخروج (۲۰:۱۵ والأغلب أن أخت موسى هذه هي التي ذهبت تمشي ١٥:

Page 194

الجزء الخامس ۱۸۷ سورة مريم وراءه تبصره عن كثب بعد أن قذفته أمه في النهر كما ورد في القرآن الكريم (القصص: (١٢).ولكن اسمها في التوراة هو مريم لا مريم.ونجد هذا الاسم بعد ذلك في العهد الجديد، حيث جاء نطقها مريم (متی ۱: ۱۸).وقد اختلفوا في معنى كلمة مريم فمن المعاني التي ذكروها: البحر المالح، نجم البحر، الملكة ختم السيّد، أستاذ البحر ؛ مر البحر.علماً أن المر (Myrrh) نوع من الصمغ يُستعمل في بعض الأدوية.ويقول العلماء الذين اهتموا بتحقيق اللغة العبرية إن سبب اختلافهم في بيان معنى مريم يرجع إلى وجود كلمات مشابهة لمريم في العربية والفارسية وبعض اللغات الأخرى التي استنتج منها الناس هذه المعاني المختلفة.خذوا مثلاً "مر البحر"، فإن سبب ذكرهم هذا المعنى هو أن التوراة قد ذكرت اسم أخت موسى "مريم"، و"المر" نوع من الصمغ، و"اليم" هو البحر في اللغة العربية؛ فقالوا إن "مريم" يعني مر البحر.وقد استنتجوا المعاني الأخرى من اللغة الفارسية وبعض اللغات الأخرى.ولكن الباحثين الذين قاموا ببحث متكامل للغة العبرية يقولون إن كلمة مريم تعني الجموح أو السمين.وكلا المعنيين متشابهان لأن الولد الذي يكون سمينا هو الذي يكون جموحًا صعب المراس عادة.ويُظن أن المولود الذي كانت ولادته صعبة لكونه ضخمًا كان يُسمى مريم.وقال البعض الآخر إن معيار الجمال يختلف من بلد إلى آخر، فإن الشعوب السامية، كاليهود والعرب تعتبر الاكتناز علامة الجمال؛ ومن أجل ذلك نجد صاحب قصيدة "بانت سُعادُ" يقول في وصف حبيبته: "هَيفاء مُقبلةً عَجْزاء مدبرة"..أي إذا نظرت إليها قادمةً وجدتها ضامرة البطن دقيقة الخصر، وإذا رأيتها وهي راجعة بدَتْ كبيرة العجيزة.فثبت أن الاكتناز كان معيار الجمال عندهم، ومن أجل ذلك سموا الطفلة الجميلة السمينة مريم.غير أن بعض الباحثين يرون أنهم كانوا يعطون هذا الاسم بسبب الجمال فقط، لا الاكتناز.والأغلب أنهم قالوا ذلك لأن السيدة مريم لا تبدو مكتنزة في الصور الشائعة عند النصارى.

Page 195

الجزء الخامس ۱۸۸ سورة مريم لقد ذكرتُ من قبل أن الإنجيل قد استخدم لفظ مريم أحيانًا، ومارية أحيانًا أخرى، ولكنه كلما ذكر والدة المسيح استخدم لفظ دائما.أن هذا ويبدو الاسم كان شائعًا بكثرة في ذلك العصر حيث سُمّيت به نساء كثيرات في الإنجيل.مريم أحوال مريم: إن الإنجيل صامت كلية فيما يتعلق بأحوال مريم قبل ولادة المسيح العل.فكل ما نعلمه من إنجيل متى ١: ١٨ هو أن مريم العذراء لما حملت بالمسيح أراد خطيبها يوسف أن يطلقها، ولكن الملاك نهاه عن ذلك، معتبرا إياها زوجة ليوسف، وأمره أن يأخذها إلى بيته (متى ۱ (۱۸-۲۰.ولكن هذا الإنجيل لم يذكر شيئًا عن أحوال مريم قبل هذا الحادث.هو أن مريم أما مرقس فلم يذكر في إنجيله معجزة ولادة المسيح بتانا.أما لوقا فقد سجل في إنجيله معجزة ولادة المسيح، ولكنه لم يبدأ الحديث عن مريم إلا بعد أن بشرها الملاك بالحمل بالمسيح، فقد ورد فيه أن مريم كانت عذراء، ومخطوبة إلى يوسف، ولكن قبل أن تُزَفّ إليه جاءها الملاك وبشرها بالحمل فحملت (لوقا ١ (٢٧-٣٥).ولكن لوقا لا يسلط أي ضوء على أحوالها قبل الحمل.إنه صامت كلية عن أحوال والديها وعن صغرها.إن كل ما قاله كانت من أقارب زوجة زكريا، وكانت تتردد إلى بيتها من حين لآخر.أما يوحنا فهو صامت تماما بهذا الشأن.أما القرآن الكريم فقد تحدث عن عائلة مريم وعن أمها أيضا، كما سجل حدث ولادتها الذي ينطوي على إشارة إلى ولادة المسيح أيضًا آل عمران (۳۷) من أجل هذه المعجزة العظيمة كان لزاماً وجود مؤشرات ابتدائية، وإن القرآن الكريم هو الذي ذكر تلك المؤشرات، أما الإنجيل فلم يذكرها أبدًا.يقول الله تعالى في سورة آل عمران إن امرأة من عائلة عمران (أي) من عائلة موسى العلي شعرت في قلبها بأن الدين في انحطاط وفساد، وأن هناك حاجة ماسة إلى الذين يقفون حياتهم لإصلاح الدين، فقررت في نفسها أن الله تعالى لو آتاها ولدا فستنذره في سبيله.

Page 196

الجزء الخامس فقطعت مع ۱۸۹ سورة مريم ربها وعدًا بذلك قائلةً رَبِّ تَقَبَّلْ مني هذا النذر وبارك فيه.فلما وضعت المولود وجدت أنه ليس ذكرًا ، بل هي أنثى.فأصيبت بخيبة الأمل، لأن البنت لن تقدر على تحقيق الهدف الذي من أجله نذرت مولودها.فدعت ربها ثانية في حزن عميق وقالت: رَبِّ ماذا أفعل الآن، فإني قد وضعتُ بنتا، مع أن الله تعالى كان على علم أن الذكر الذي كانت تتمناه لا يمكن أن يفعل ما ستفعله تلك الأنثى.الواقع أن الصالحين في ذلك العصر كانوا يشعرون في أنفسهم بالفساد الذي قد استشرى، ولكن ما كانوا يعرفون الموعد الصحيح لزوال ذلك الفساد.كان الناس يرون الفساد المتفشي، وكان محبو الدين منهم، ذكورًا وإناثًا، متحمسين لإصلاحه.ففكرت النساء أن ينذرن أولادهن لخدمة الدين ولكن ما يدريهن بالموعد المناسب لإصلاحه.فلو أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم عندئذ لولد المسيح قبل الموعد المناسب بعشرين سنة؛ في حين كان لزامًا أن يولد يحيى قبله ليكون إرهاصا لـــه.لذلك فاستجاب الله دعاءها بطريق آخر، فأعطاها بنتا ستلد فيما بعد ولدًا عظيمًا بدلاً من أن يهبها ولدًا يخدم الدين.وهكذا استجيب دعاؤها من جهة، ومن جهة أخرى لم يتغير الموعد المقدر من الله تعالى لإصلاح ذلك العصر.فلو أن الله العليم بالظروف استجاب دعاء أم مريم في حينه ما قدر ابنها على القيام بالخدمة الدينية كانت تريدها.فوهب لها البنت بدل الابن محققًا الأنباء القديمة بأن عذراء ستلد ابنا غير عادي يتسبب في نجاة اليهود إشعياء (٧ : (١٤.كما استجيب دعاء أم مريم أيضا حيث ولدت بنتها هذه ابنا تسبب في نجاة اليهود.التي وباختصار فيما أن أم مريم نذرت مولودها في سبيل الله تعالى فوضعتها تحت رعاية العلماء والأحبار ولكن لا لتترهب وتعيش بدون الزواج، وإنما لكي تتعلم منهم الدين.وقد قلتُ ذلك لأن دعاء أم مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) (آل عمران (۳۷ يوضح جليا أنها فكرت أنها لو وضعت بنتها مريم تحت رعاية العلماء لربوها تربية دينية جيدة، فتتمكن هي الأخرى من تربية أولادها على ما يرام، فسلّمتها للأحبار والزهاد العابدين؛ ومع ذلك كانت تريد لبنتها أن

Page 197

الجزء الخامس تتزوج ۱۹۰ سورة مريم فيكون لديها أولاد تربيهم تربية جيدة، والدليل على ذلك هو دعاؤها لمريم ولأولادها أيضًا بأن يحميهم الله تعالى من الشيطان الرجيم.فاستجاب الله دعاء الأم فكان فضل الله على مريم عظيمًا حيث كفلها زكريا الحبر، كما تربت على يد الأحبار الآخرين، وأولعت بالدين ولعا كبيرا، حتى أيقنت في صغرها أن كل ما يناله المرء إنما يناله من عند الله تعالى.وإن يقينها هذا هو الذي أثر في زكريا بشدة، فدعا ربه أن يرزقه ولدًا، فولد يحيى.وهكذا تسببت أم عيسى في ولادة النبي الذي كان بدوره إرهاصا لعيسى، وبالتالي أوجدت الحل لأكبر معضلة واجهت ابنها فيما بعد.ذلك أن صدق دعوى المسيح ما كان ليتحقق إلا بمجيء إيليا، فتسبب تصرف بريء من أم المسيح في ولادة يحيى الذي صار مثيلاً لإيليا.أما أحوال مريم الأخرى فهي بحسب الإنجيل كالآتي: جاء يوسف بمريم إلى بيته بعد أن حملت بالمسيح (متى ١: ٢٤)، ولكن لم يذكر الإنجيل أي شيء عن زواجهما.وهذا يوضح أن الخطبة كانت تعتبر بمنزلة الزفاف عند اليهود.ولم يمس يوسف مريم حتى ولادة المسيح.أما بعد ولادته فمَسَّها يوسف، فولدت أولادها الآخرين (متى ١: ٢٥).وورد أن.يسوع كان يكن نفوراً تجاه أبويه، وعندما أعلن دعواه لم تؤمن به بل كانت تتعجب منه.أمه، وورد أيضاً: "وفيما هو يكلم الجموع إذا أُمه وإخوته وقفوا خارجًا طالبين أن يكلّموه، فقال له واحد هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك.فأجاب وقال للقائل له مَن هى ،أمّى ، ومَن هم إخوتي؟ ثم مدَّ يدَه نحو تلاميذه وقال: ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي" (متى ١٢: ٤٦ -٥٠).فثبت من ذلك أن المسيح لم يعدّ أُمَّه ولا إخوته من المؤمنين.وهذا يعني السيدة مريم كانت بحسب الإنجيل منكرة كافرة بالمسيح.أن

Page 198

الجزء الخامس ۱۹۱ سورة مريم علما أن مرقس ولوقا قد أكدا هذا الأمر نفسه في إنجيليهما (مرقس ٣: ٣١-٣٥، ولوقا ۸ (۱۹-۲۱) أما يوحنا فقد لزم في إنجيله السكوت تجاه ذلك.أما الإنجيلي متى فزاد الأمر جلاء حيث أخبر أن الناس كانوا يقولون: أليس أم المسيح وإخوته وأخواته كلهن معنا؟ أي قال اليهود إذا كان صادقًا المسيح فلم لم تؤمن به أمه وإخوته وأخواته؟ فقال لهم المسيح: "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه و في بيته" (متى ١٣: ٥٥-٥٧).أي أن ذلّتي بين أهل وطني وعشيرتي ليس دليلاً على كذبي، لأن جميع الأنبياء قد عارضهم أهلهم دائما.وليس هذا فحسب، بل يتضح من إنجيل مرقس أن أقارب المسيح كانوا يعدونه مجنونا حيث ورد: "ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليُمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل" (مرقس ٣: ٢١)..(۲۱).أي أنهم بدلاً من أن يؤمنوا به اعتبروه مجنونا مختل الحواس، وأرادوا أن يمسكوه حتى لا يهيم على وجهه هنا وهناك.لقد اتضح من هذه الأحداث بكل وضوح وجلاء أن مريم وأولادها الآخرين وكذلك يوسف الذي يُدعى أبا للمسيح لم يؤمنوا به، فكان يقابلهم بغلظة وجفاء.حتى إن الإنجيل يقول إنه لم يلتفت إلى أمه حين كان معلقا على الصليب.كان قلب الأم يقاسي آلاما شديدة، فجاءت لترى ابنها المعلق على الصليب، ولكنه لم يتكلم مع أمه بلطف ومحبة حتى في ذلك الوقت العصيب أيضًا، بل لما رآها واقفة قال لتلميذه "توما" مشيراً إليها : هذه أمُّك، وقال لها: "يا امرأةُ، هُوَذا ابنك" (يوحنا ١٩ ٢٦ -٢٧ وكأن المسيح، بحسب الإنجيل أبغض أمه بغضا شديدا جعَله يخاطبها في ذلك الوقت العصيب أيضًا بقوله: "يا امراة" عوضا عن أن يقول لها: يا أماه، أو يا مريم.وهكذا أدى المسيح واجبه الأخلاقي وأخبر أمه بالمأوى الذي تعيش فيه بعده، كما أوصى تلميذه "توما" بخدمتها وعنايتها، ولكن مشاعره تجاه أمه كانت جارحة لدرجة أنه في تلك الساعة الخطيرة التي كان فيها معلقا على الصليب لم يبد نحوها أي حب ولم ينادها قائلاً: يا أمي، بل قال "يا امرأة"! وقد ازداد المسيح جفاء لأمه، بحسب الإنجيل، لدرجة أنه في إحدى المرات قالت امرأة وقد تأثرت من خطاب المسيح: "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين 6

Page 199

الجزء الخامس ۱۹۲ سورة مريم رضعتهما"، فكان من المفروض أن يكظم المسيح غيظه نحو أمه في تلك المناسبة على الأقل، ولكنه لم يملك نفسه حينما سمع ثناء على أمه من فم هذه السيدة، فقال من فوره: "بل" طوبى للذين يسمعون "كلام الله ويحفظونه (انظر لوقا ۱۱: ۲۷-۲۸)..أي أن الأم التي حملتني في بطنها ليست مباركة وأن الثديين اللذين رضعتهما ليسا مباركين، إنما المبارك من يسمع كلام الله ويعمل به.فيبدو من الإنجيل أن المسيح كان لا يملك نفسه لدى سماع مدح لسان الآخرين، وبدا وكأنه عدوّ لدود لأمه، ولا يعتبرها مؤمنة! أمه حتى من ولكن القرآن يخبرنا أن المسيح الله نفسه قال وبَرا بوالدتي (مريم: ۳۳)..أي أن الله تعالى قد جعلني مطيعا لأمي رءوفًا بها ومحباً لها.وللمرء أن يحكم بنفسه أي المصدرين يسرد التاريخ سردًا صحيحًا.يقول الإنجيل من ناحية إن الملاك بشر مريم وقال : "قد وجدت نعمة عند الله، وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا، وتسمينه يسوع.هذا يكون عظيما وابن العلي يُدعى" (لوقا ۱: ۳۰-۳۲).وبالرغم أن بشارة الملاك هذه كانت مستحيلة بالنظر إلى الظروف الظاهرة، وبالرغم أن الله قد حقق هذا المستحيل، وبالرغم أن مريم قد شاهدت بنفسها هذه الآية العظيمة إلا أنها ما زالت بحسب بيان الإنجيل، تعتبر المسيح مجنونا و لم تؤمن به.الحق لو أن امرأة رأت في المنام أنها تلد ابنا، ثم ولدت ابنا بحسب الرؤيا فعلاً، فلا شك أن ولادته تكون آية بيد أن ذلك لا يمكن مقارنته بمعجزة ولادة المسيح.ولو أن امرأة ولدت ابنا بعد بشارة في الرؤيا، ثم كان الابن بارا أيضًا، فمن الممكن أن تسخط عليه أمه حينًا وتقول له إنك لم تؤد حق خدمتي.ولكن المعجزة التي رأتها مريم لم تكن معجزة عادية.فإن الملاك يأتي عذراء، ويبشرها بأنها ستلد ولدا متصفًا بصفات محددة، فتحمل به بالفعل ثم تلد ابنا ينال عزا وصيئًا غير عاديين في الدنيا.فهل من عاقل يمكن أن يصدق بعد هذا الحدث العظيم أن أم ذلك الابن ستعده مجنونًا أو كاذبًا في دعواه؟ كلا، إن التي شاهدت تلك الآية العظيمة على قدرة الله تعالى لا يبقى أمامها مجال للكفر والإنكار.إذن فإن بيان الإنجيل بأن

Page 200

الجزء الخامس المسيح ۱۹۳ سورة مريم كان عاصيا لأمه مرفوض كليةً من حيث العقل أيضًا، أما القرآن الكريم الذي يخبر أن المسيح ال نفسه قال إن الله قد جعلني برا بوالدتي فهو على الحق والصواب.ثم يقول الإنجيل أن مريم كانت كافرة، ولكن القرآن الكريم يعلن عنها فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا (آل عمران (۳۸)..أي أن الله تعالى قد استجاب دعاء أم مريم ، فثَبَّت مريم على الخير، وكتب لها رقيا وعظمة غير عاديين.إذا فالقرآن الكريم يعلن أن مريم كانت من المؤمنين الصالحين من الطراز الأول، أما الإنجيل، الذي يعلن أن مريم هي أم الإله، فيعدها كافرة غير مؤمنة.ثم ورد في القرآن الكريم قول الملائكة لمريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) (آل عمران (٤٣).فالقرآن الكريم يقول ما تقوله الفطرة، أما الإنجيل فيقول ما ترفضه الفطرة؛ إذ لا يمكن أن تكون مريم منكرة للمسيح رغم رؤية هذه الآية العظيمة.فثبت أن موقف القرآن هو الصحيح.لقد قال الأعداء إن محمداً ) كان جاهلاً بالوقائع الصحيحة، فسجل في القرآن ما يخالف الواقع.ونحن نقول لهم: أيها الأغبياء، هلموا بأصحابكم الذين دوّنوا في رأيكم ذلك التاريخ بدقة وصحة، وقارنوا بيانهم مع بيان القرآن الكريم.فإن الذي ترمونه بالجهل بالتاريخ يذكر الحقائق الثابتة، وأما الذين زعمتم أنهم كانوا يعرفون التاريخ الصحيح فيذكرون الأباطيل أليس ذلك برهانا عظيمًا على صدق محمد رسول الله ؟ لقد قال الله تعالى هنا واصطفاك على نساء العالمين.ذلك لأن الإنجيل قد ذكر نسوةً كثيرات باسم مريم، مشيدا بصلاحهن وطهارتمن، أما مريم التي كانت والدة المسيح فقد عرضها المسيحيون أمام العالم كعدو ومعارض للمسيح.فرد الله على زعمهم هذا، وقال إنكم تفضّلون مريم المجدلية وغيرها من النساء على مريم أن لا قيمة لتلك المريمات اللواتي تشيدون بمن إزاءها.إن التي هي أم عيس عيسى، مع مريم التي كانت أفضلهن وأقدسهن هي تلك التي كانت أما للمسيح.

Page 201

الجزء الخامس ١٩٤ سورة مريم يعني ثم يقول الله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (آل عمران (٤٤ والراكع هو من أنعم الله عليه نعمة الإيمان الخالص.فالمعنى: يا مريم كوني مطيعة الله تعالى، وعابدة له، وانضمّي إلى جماعة المؤمنين المخلصين.وهذا أن القرآن يصرح أن مريم كانت من المؤمنين من الطراز الأول، أما الإنجيل فيعد تلك النسوة الخاطئات اللواتي كن يَذْهَنَّ رأس المسيح بالزيت مؤمنات (لوقا ٧: ۳۸-۳۷)، بينما يعتبر مريم التي رأت معجزة ولادة المسيح العظيمة غير مؤمنة! والبديهي أن كل هذه الحقائق أمور عادية وليست من الغيب الخفي عن أعين الناس، ومع ذلك يقول الله تعالى بعد ذكرها ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك)) (آل عمران (٤٥) أي أن هذه الأمور التي تبدو عادية قد أخفاها الإنجيل فصارت في طى الأخبار الغيبية المجهولة.يقول الإنجيل أن مريم كانت كافرة، واعتبرت المسيح مجنونا، ولكنا نخبرك أن كل هذا كذب وهراء.لقد كانت مريم مؤمنة قانتة ومصدقة بالمسيح.يقول القسيس "ويري" أن القرآن لا يعرف وقائع التاريخ الصحيحة (تفسير القرآن لـ "ويري" مجلد ۱ المقدمة ص ٨)، أما القرآن فيقول: تعالوا نحن نخبركم ذلك التاريخ الذي لم يذكره الإنجيل أيضًا.فما أعظمها من آية على صدق القرآن الكريم فالإنجيل الذي هو كتاب المسيحيين، والذي من المفروض أن يذكر الحقائق الثابتة عن المسيح وأمه، يذكر أمورًا خاطئة، أما القرآن الكريم فيذكر عن المسيح وأمه ما هو حق وصدق.ولذلك يقول الله تعالى ذلك أنباء الغيب نوحيه إليك..أي أن هذه الحقائق لم ترد في الإنجيل، بل أخفاها من المسيحيون، وها نحن نكشف القناع عنها، لأن حكاية المسيح لا تكتمل بدونها.الواقع أنه يتضح من بيان الإنجيل أن الحواريين لم يرتدعوا عن اتهام أمّ إلههم لكي يثبتوا أنهم كانوا من المقربين لدى المسيح.لقد ظلم متى ومرقس ولوقا ويوحنا وتوما والدة المسيح ظلما عظيما إذ عرضوها على العالم كامرأة كافرة لا إيمان لها، و لم يفعلوا ذلك إلا لهدف واحد بأن يتظاهروا بقربهم من المسيح.ولكن القرآن قد كشف عن زيفهم مبينًا أن مريم كانت مؤمنة بارة ،قانتة وأن كل ما ورد في الإنجيل خلاف ذلك كذب وافتراء ليس إلا.

Page 202

الجزء الخامس ۱۹۵ سورة مريم لقد اتهم "ويري" القرآن بأنه على الباطل، ولكن القرآن الكريم قد أعلن قبل ثلاثة عشر قرنًا أنه قد ذكر الحقائق التي لا أثر لها في الإنجيل إطلاقا، أو أن الإنجيل قد كذب في شأنها.وهذا دليل بين على صدق القرآن وبطلان الإنجيل.ثم يقول الله تعالى إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًّا.إن وطن مريم وزوجها هو مدينة "الناصرة" بحسب الإنجيل لوقا ١ (٢٦ (٢٧) ويخبرنا القرآن- لا الإنجيل- أن المعبد الذي تعلمت فيه مريم الدين كان في أورشليم.لقد تركتها أمها عند زكريا في أورشليم ليرعاها ويربّيها، بيد أننا نعرف من القرآن الكريم أن أمها لم تتركها هناك لتكون راهبة تبقى في المعبد دائما.ذلك لأن أم مريم قد دعت لمريم بأولاد صالحين متقين؛ وهذا يدل أنها أرادت لبنتها أن تتزوج لا أن تترهب.ويبدو أنها لما وصلت سن البلوغ والشباب أخذتها أمها إلى مدينتها الناصرة.إذًا فالمراد من أهلها المذكورين في قوله تعالى إذ انتبذت أهلها مكانًا شرقيًا أهلها في من الناصرة، وليس أهل أورشليم.فذهبت من عند أقاربها في الناصرة إلى مكان في جهة الشرق.ما هو هذا المكان الشرقي؟ قال المفسرون أن مريم حين رأت مشهد الملاك كانت في مدينة من المدن الشرقية تفسير ترجمان (القرآن).ويقول الإنجيل أنها شاهدت ذلك المشهد وهي مقيمة في الناصرة التي هي وطنها ووطن زوجها يوسف (لوقا ١ (٢٦-٢٧ والناصرة تقع في جهة الشمال من أورشليم لا في جهة الشرق.فلا يمكن أن يراد هنا أن مريم ذهبت من أورشليم إلى الناصرة، بل يتحدث القرآن هنا عن حدث وقع معها وهي في الناصرة.ولكن فيما يتعلق بالتاريخ المذكور في الإنجيل فإن مريم لم تذهب إلى أي مكان شرقي، بل بقيت في مدينتها الواقعة شمالي أورشليم.إن تاريخ الإنجيل ليس تاريخا موثوقا به، ومع ذلك لا يمكننا رفض ما ورد فيه من أحداث إلا بناء على برهان من العقل أو النقل، إذ وقعت تلك الأحداث في فترة قريبة من زمن الإنجيل.فبما أن من معاني الشرقي في العربية: (۱) ما يكون وجهه إلى الشرق، (۲) أو ما يقع في جهة الشرق، فيمكننا بكل سهولة أن نفسر

Page 203

الجزء الخامس ١٩٦ سورة مريم وجهه قوله تعالى إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيًا أنها ذهبت إلى مكان كان إلى الشرق، بدون أن نرفض بيان الإنجيل.وبقي الآن سؤال آخر وهو أن القرآن الكريم لا يذكر إلا ما هو مهم، فهو ليس كتاب قصص حتى يخوض التفاصيل التي لا داعي لها، وإنما يذكر الأمور الهامة فحسب.فالسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : لماذا قال الله تعالى هنا إن مريم ذهبت إلى مكان شرقي؟ يجب أن يكون في المكان الشرقي خصوصية تتعلق بحادث مريم، وإلا أصبح بيان القرآن لغوا لا طائل تحته.فليكن معلومًا أن للشرق أهمية كبيرة عند اليهود.لقد ورد في التوراة: "وغرس الربُّ الإله جنةً في عدن شرقًا، ووضع هناك آدمَ الذي جبله" (التكوين ٢: ٨).فثبت أن هناك صلة وثيقة بين الشرق والجنة وبداية الخلق الإنساني بحسب التوراة.وكان أهل بابل - التي أخذ إليها اليهود أسارى وتأثروا من أفكارها وتقاليدها تأثرًا كبيرًا – يرون أن الشرق مبارك جدًّا، حيث كانوا يعدون الشرق باب النور، وكانوا يعتقدون أن البطل - ويمكن أن تسمّيه زعيمًا ورسولاً – الذي أنقذ الناس من طوفان نوح كان من سكان الشرق وكانوا يعتقدون أن الغرب عالم الأموات.ويقول حزقيال النبي - الذي عاش بين البابليين - في كتابه: "ثم رفعني روح وأتى بي إلى باب بيت الرب الشرقي المتجه نحو الشرق" (حزقيال ١١: ١)..أي أن باب المعبد كان في جهة الشرق.فلأن ضوء الشمس يسطع من جهة الشرق فيبدو أنهم كانوا يجعلون أبواب المعابد في جهة الشرق تفاؤلاً وتبركًا." وورد في الإنجيل أن المجوس جاءوا من جهة الشرق، وقالوا "إننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (متى (٢ (٢) أي عند ولادة المسيح جاء هؤلاء بعد أن رأوا نجما في الشرق موقنين أن الذي جاء خبره في الصحف قد ولد.لقد ورد في التوراة: "يبرز كوكب" من "يعقوب العدد (۲٤ (۱۷.كانت في هذه الفقرة نبوءة بظهور نبي وكانت روايات اليهود تؤكد ظهوره من جهة الشرق، فقال هؤلاء المجوس الذين جاءوا من ناحية الشرق إنهم قد رأوا نجما، فأدركوا أن النبي الذي أكدت الأنباء ظهوره قد ولد.

Page 204

الجزء الخامس ۱۹۷ سورة مريم ثم ورد في العهد الجديد ورأيت" ملاكا آخر طالعا من مشرق الشمس معه حَتُمُ الله الحي" (رؤيا يوحنا اللاهوتي ٧: ٢).لا شك أن هذا المصدر يرجع إلى ما بعد المسيح، ولكن ما أريد تأكيده هنا هو أن الشرق كان يحظى باحترام خاص لدى اليهود والنصارى، فكانوا يجعلون أبواب معابدهم نحو الشرق، بل كان بعضهم يعبدون متجهين إلى الشرق.فيكون مفهوم هذه الآية أن مريم ذهبت للعبادة إلى معبد كان وجهه ناحية الشرق لكي تكون الجنة الأولى والبشارات العظيمة نُصب عينها.علما أن هناك فرقا بين مساجد المسلمين ومعابد المسيحيين.ففي كنائسهم لا يكون وجه الإمام والمأموم إلى جهة واحدة أثناء العبادة كما هو عندنا نحن المسلمين حيث يتجه الإمام والمأموم كلاهما إلى القبلة.بل إن أبواب كنائسهم تكون في جهة الشرق، فيدخل منها الإمام والمأموم، وبعد الدخول يجلسان وجها لوجه للعبادة، وبتعبير آخر يتجه المأموم نحو الغرب والإمام نحو الشرق.فكما قلت إن المسيحيين كانوا يجعلون أبواب كنسائهم إلى جهة الشرق، بل الثابت أن بعض طوائفهم يعبدون متجهين نحو الشرق (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: الوفد الرابع عشر، وفد نصارى نجران إني لم أتمكن من التحقيق فيما إذا كانت هذه عادة كل الطوائف المسيحية أم ،بعضها ولكني أقول بكل يقين إن بعضهم كانوا يعبدون متجهين نحو الشرق.فالمراد هذه الآية أن لما شبّت خلق الله مريم في قلبها حماسًا شديدًا للدعاء، فذهبت من بيتها إلى معبد جعل وجهه نحو الشرق تذكارًا بالجنة الأولى وببداية الخلق الإنساني اللذين لهما صلة بالشرق.من فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا شرح الكلمات : روحنا الروح ما به حياة الأنفس؛ الوحي؛ النبوة؛ جبريلُ (الأقرب).وتسمى النبوة روحًا لأنها تَهَبُ الإنسان حياة جديدة روحانية.ويسمى جبريل روحًا لأنه

Page 205

الجزء الخامس يأتي من الإيمان.۱۹۸ سورة مريم الله تعالى بكلام يهب حياة جديدة.ويسمى الوحي روحًا لأنه أيضا يجدد التفسير: أي أن مريم ألقت ستراً على الباب من أجل الدعاء في خلوة وانفراد.علما أنه في هذه الأيام تتخذ للغرف أبواب يمكن إغلاقها بسهولة، ولكن في ذلك الزمن القديم لم يكن لمثل هذه الأبواب رواج، وإنما كانوا يضعون الستائر مكان الأبواب، حتى إن القصور الملكية كانت بدون أبواب حتى الزمن العباسي.ويتضح من المباني التي بُنيت في عهد الملوك المغول أنهم كانوا يلقون الستائر على أبواب الحجرات من أجل الخلوة والانفراد.لذا فقوله تعالى فاتخذت من دونهم حجابًا يعني أن أن مريم ابتعدت عن القوم لتفعل شيئا لا يمكنها أن تفعله إلا وراء الحجاب والخفاء، وإنما المراد أنها أرادت أن تعبد الله تعالى وتدعوه بهدوء في خلوة، فألقت من دونها ستراً حتى لا يراها الناس في عبادتها ودعائها.لا لقد كان زكريا اللي في المعبد حين تلقى البشارة بالولد، وكانت مريم أيضًا في المعبد حين تلقت من الله البشارة بالولد، حيث يقول الله تعالى إنها كانت في عبادتها وابتهالها في خلوة فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّلَ لها بشرًا سويا..أي جاءها الملاك متمثلاً كإنسان سليم الصحة.ومثله كما يرى المرء في المنام أنه يذبح كبشا ويكون تأويله موت ابن له أو بنت أو قريب أو يرى فأراً وتعبيره شخص منافق.أو يرى أن سارقا قد اقتحم بيته وتأويله الحمو والنسيب.وبالرغم أننا لا نجد في الظاهر أي علاقة بين المنام والتأويل إلا أن هذا هو الأمر الواقع كما يعرف الجميع، لأن الله تعالى يريهم هذه الأحداث بلغة التمثل والصورة وهنا أيضًا يشير الله تعالى إلى هذا الأمر، ويخبرنا أن الملاك تمثل لها على شكل إنسان كامل الصحة.وبتعبير آخر إن هذه الكلمات تصور لنا كيفية نزول الوحى على السيدة مريم لقد قيل لرسولنا الكريم ذات مرة: يا رسول الله كيف ينزل عليك الوحي؟ فقال: أحيانًا ينزل عليّ كصوت الجرس، أي أشعر برنّة جرس، ثم بعده يبدأ الوحي في

Page 206

الجزء الخامس ۱۹۹ سورة مريم النزول؛ وأحيانًا يأتني ملاك من ملائكة الله تعالى في شكل إنسان، ويكلمني، وتارة يأتيني الملاك في شكل آخر.(البخاري : باب كيف كان بدء الوحي) وهنا أيضًا يبين الله تعالى الموضوع نفسه، ويخبر أن ذلك الوحي لم يقع على سمع مريم، ولم يجر على لسانها، بل نزل عليها على شكل رؤيا وكشف.لقد رأت في مختلفة.الكشف أمامها ملاكًا في صورة إنسان سليم الصحة، فبلغها كلام الله تعالى.والحق أننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن كلام الله تعالى هو الذي يتمثل لنا بشتى الصور عند نزوله.إن كلام الله تعالى لما نزل على مريم تمثل لها على شكل إنسان.يقول البعض أن جبريل هو الذي تمثل لها، مع أنهم لو سموه جبريل فإن الحقيقة التي بينتها تبقى كما هي، أي أن كلام الله تعالى هو الذي يتمثل بأشكال مختلفة.فمثلا إذا رأى المرء في المنام باذنجانًا فهذا يعني أن كلام الله تعالى قد اتخذ صورة باذنجان.وإذا رأى ملاكا فمعناه أن كلام الله تعالى قد تمثل على صورة ملاك.زبدة القول إن كلام الله تعالى يتمثل عند نزوله على صور لقد رأيتُ في الرؤيا وأنا صغير أن أحدًا ضرب كأسًا معدنيا، فخرج منه صوت.ثم رأيت أن الصوت أخذ في الانتشار والاتساع كاتساع الماء الذي يلقى فيه حجر فتتحرك أمواجه على شكل دائرة صغيرة، ثم تتسع هذه الدائرة وتتسع.فلم يزل هذا الصوت ينتشر ويتسع في الجو حتى تكوّن في وسط الجو بالضبط إطار فارغ.ثم رأيت أن صورة أخذت تتشكل في الإطار، وتحولت بالتدريج إلى صورة إنسان.ثم تحركت الصورة فجأة، وقفز منها إنسان وجاء ووقف أمامي، وقال: إني ملاك وقد الله تعالى إليك لكي أعلمك تفسير سورة الفاتحة.فبدأ يعلّمني تفسيرها.ولما بلغ قول الله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين قال: إن كل التفاسير السابقة قد انتهت إلى هنا، ولو شئت علمتُك تفسير ما بعده.فقلت: نعم، علمني المزيد.فعلمني تفسير سورة الفاتحة كلها.بعثني فترى هنا أن صوتًا خُلق في البداية وتحول الصوت إطاراً، ثم ظهرت فيه صورة، ثم انقلبت الصورة إنسانًا قفز من الإطار، ووقف أمامي وكلّمني.فكل هذه الأمور تحدث على هذا النحو حيث يتخذ كلامُ الله تعالى أشكالاً مختلفة، ولا غرابة في

Page 207

۲۰۰ سورة مريم الجزء الخامس ذلك.إن الذين لا خبرة لهم بذلك، يجدون فيها الغرابة كلها، ولكن أهل الله تعالى يعرفون أن مثل هذه التجارب تقع بكثرة.وقد مرّت مريم أيضًا بتجربة مماثلة، حيث تمثل لها كلام الله تعالى بشرًا سويًّا واقفا أمامها وهذا الأمر يكشف لنا حقيقة حملها أيضا بأنه لم يكن إلا مثالاً لقول الله تعالى كُن فيكون، وليس أن ملاكًا أو روحًا دخل فيها.يستنتج المسيحيون من قوله تعالى رُوحَنا أن الإله قد دخل في مريم، زاعمين أن القرآن قد أيد هنا عقيدتهم في بُنوّة المسيح.يقولون: ما دام الله يقول هنا أن روحنا) تمثل لمريم، فهذا يعني بكل وضوح أن الله تعالى هو الذي دخل في مريم، فثبت أن الاعتقاد بكون المسيح إلها أو ابن الله صحيح.والجواب أن الإنجيل ما دام يقول أن الملاك قال لمريم "الروح القدس يحل عليك" (لوقا ١: ٣٥)، وما دام القرآن يقول في زعمهم أن الله نفسه دخل في مريم، فكيف صدق القرآن الإنجيل يا تُرى؟ كلا، بل إنه قد فنّده، لأن الإنجيل لا يقول أن الله هو الذي دخل في مريم، بل كل ما يقوله هو إن الروح القدس نزل عليها.هذا، وقد ورد في إنجيل "متى": "وُجدت حُبلى من الروح القدس" (متى ١: ١٨).وهنا قد اشتبه الأمر أكثر، حيث يتضح من كلمات متى أن الروح القدس لم يحل على مريم فحسب، بل دخل فيها.كما ورد في إنجيل متى": "لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس" (متى ١: ٢٠).فهنا بين الإنجيل المراد من حمل مريم من الروح القدس..وهو أنها حملت بنطفة الروح القدس.وهنا أصبح الأمر أكثر تعقيدًا، حيث يطرح سؤال نفسه: هل دخل الله بطن مريم أم الروح القدس؟ لأن "متى" يخبر في إنجيله أن الروح القدس اتصل بمريم ومن نطفته ولد المسيح.فثبت أن زعم المسيحيين أن القرآن يصدق الإنجيل فيما قال لزعم باطل تماما، حيث يعلن القرآن الكريم أن الروح تمثل لمريم وبشرها بالمولود، وليس أن الروح دخل فيها؛ أما الإنجيل فيخبر أن الحمل كان من الروح القدس لا من الله.وهذا يعني أن كلا البيانين مخالف للعقيدة المسيحية.إذ تقول عقيدتهم الشهيرة أن المسيح я

Page 208

الجزء الخامس ۲۰۱ سورة مريم ابن الله والقرآن لا يقول بذلك وأما الإنجيل فبيانه إما يعني أن المسيح كان ابنا للروح القدس، أو يعني أن الروح القدس كان هو الله ؛ وكلا الأمرين مخالف للعقيدة المسيحية.إن القرآن الكريم لم يقل إلا أن ملاكًا تمثل لمريم وبشرها من عند الله تعالى بالابن.فثبت أن زعم المسيحيين – بناء على كلمة أروحنا في القرآن الكريم - أن القرآن يصدق الإنجيل لزعم باطل كلية.قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (3) التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا أن مريم استخدمت كلمة الرحمن عندما استعاذت به، وإن إخبار الله تعالى هو الحق يقينًا.ولكن الغريب أن المسيحية تنكر صفة الله "الرحمن" أصلاً، وإنما أساس المسيحية هو أن الله ليس برحمن.ذلك لأن الله لو كان رحمانًا لغفر الذنوب، ولكن المسيحية تزعم أن الله لا يقدر على أن يغفر لأحد، فهذا يخالف عدله وكأن الفعل الذي يقوم به كل إنسان في الدنيا، فيمدحه الناس بسببه ولا يذمونه، فإن الله تعالى لا يمكنه القيام به.ولكنهم يعودون فيقولون أن رحمة الله اقتضت أن يغفر لعباده، فأرسل ابنه إلى الدنيا، فصلب عوضا عن فلأنه حمل بنفسه ذنوب الناس كلها وصار فداء لهم، فلا حاجة لهم إلى القيام بأي عمل آخر، لأنهم ينالون النجاة نتيجة إيمانهم بالمسيح.فثبت أن المسيحية مبنية تمامًا على أن الله تعالى ليس برحمن.ولكن القرآن الكريم يعلن أن مريم لما رأت الملاك في هذا المشهد قالت له إني أعوذ بالرحمن منكَ إنْ كنتَ تقيًّا.والرحمن هو من يُنعم عليك بدون أي عمل منك.ذنوهم.إن ما رأته السيدة مريم كان ،رؤيا، والإنسان حين يرى في الرؤيا خطرًا يخاف تماما كما يخاف في اليقظة إذا تعرض لخطر.فمثلاً إذا رأيت في الرؤيا أنك على وشك السقوط من مكان عال أصابك الذعر.ولو رأيت في المنام أنك موشك على الغرق فزعت.ولو رأيت أنك تموت فلن تفرح أبدا، بل ستحزن.فلا شك أن ما

Page 209

الجزء الخامس ۲۰۲ سورة مريم رأته مريم كان مشهدًا من الكشف إلا أنها خافت من الملاك الواقف أمامها بصورة إنسان فقالت له إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.إن هذه الكلمات جاءت لبيان حالة قلب مريم وقت الحدث، حيث أخبر الله تعالى أنها خافت من هذا المشهد لدرجة أنها قالت للملاك إن كان فيك ورع وتقوى فإني أبتهل إلى الرحمن أن يحميني من شرك.والرحمن من يتفضل على المرء من دون مقابل من عمل أو جهد.وهذا يعني أن الخوف قد بلغ من مريم كل مبلغ حتى توسلت إلى الله تعالى قائلة يا رب لا تنظر إلى أعمالي، ولا تنظر هل فعلتُ شيئا لمرضاتك أم لا، وإنما أتوسل إليك برحمانيتك أن تحميني من شره.لو أنها توسلت إلى الله تعالى بصفته "الرحيم" لكان مرادها يا رب قد قمت ببعض الأعمال الصالحة، فارحمني جزاء عليها.ولكنها لم تتوسل برحيمية الله تعالى، وإنما توسلت برحمانيته تعبيرًا عن كربها الشديد، وكأنها تقول يا رب، ليس بيدي أي عمل، فارحمني رغم ذلك، وادفع عني كربتي وبلائي.لقد أشير بهذه الألفاظ إلى أمر آخر أيضًا، وهو أن الإنسان إذا كان في المحن، محاطًا بالخطوب والكروب، فعليه أن يدعو الله تعالى أن يا رب، ليس بيدي أي عمل، ومع ذلك أتوسل إليك برحمانيتك، وأسألك أن تنزل علي فضلك.وقالت له مريم إن كنت تقيا...لأن ذكر اسم الله تعالى إنما يؤثر على من يتقي الله تعالى.فكم من مقتول يتوسل إلى قاتله باسم الله تعالى ومع ذلك لا تتولد في قلب القاتل أدنى رحمة.وهذه هي حالة القوم الذين يعارضوننا اليوم، فمهما خوفناهم من الله تعالى لا يرتدعون عما يفعلون.فكانت مريم تعلم أن هذا إن لم يكن صالحًا فلا جدوى من تذكيره بالله تعالى، بل إن هذا العمل سيُعد إساءة إلى الله تعالى.فقالت له إنني أتوسل إليك باسم الله تعالى شريطة أن تكون من أهل الصلاح والتقوى.وإلا فسوف أبتهل إلى ربي أن يحميني بنفسه من أذاك.

Page 210

الجزء الخامس ۲۰۳ سورة مريم قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيَّا : شرح الكلمات : غلامًا : لقد سبق أن بينتُ أن الغلام يُطلق على كل من الصغير والشاب والكهل.(راجع) شرح كلمات الآية رقم (۸).زكيا: الزكي من الزكاة، أي الصلاح، ورجلٌ زكي أي زاك من قوم أتقياء أزكياء.(لسان العرب) التفسير : قال الملاك لمريم لا تخافي، إنما جئتك من عند الله تعالى لأمنحك ولدًا زكيا.العطاء، يعني أنه جاء لإقامة إن كلمة رسول تبطل مزاعم الذين يظنون أن الذي تمثل لمريم هو في الحقيقة زوجها أو زوجًا اختاره الله لها (روح المعاني).ذلك لأنه لا يقول إني جئت لأفعل بك شيئًا، بل يخبرها أني مجرد رسول من عند الله تعالى لأهب لك غلامًا زكيًّا.قد يظن البعض أن قوله لأَهَبَ، الذي فيه معنى علاقة جنسية معها.ولكنه أيضًا ظن باطل، لأن من أساليب القرآن الكريم أنه يبين الأخبار القطعية اليقينية بكلمات يقينية كيلا يحوم حولها شك.فمثلا إذا نبأ عن حدث سيقع في المستقبل ذكره بصيغة الماضي وكأنه يقول اعتبروا هذا الخبر كالحدث الذي قد وقع في الماضي.وهنا أيضا قد أكد القرآن خبر ولادة الابن عندها بقوله لأهَب..أي لأعطي أي كوني على يقين بولادة الابن فكأني قد أعطيتك إياه والجميع يعرف أن الله تعالى هو الذي يهب الولد لا الملاك.فثبت أن كلمة الأهب) إنما تفيد خبر ولادة الابن عندها، وليس إعطاءها الابن.إن النبأ الإلهي يكون خبر يقين، لذا فقد عُدَّ كشيء قد وهب سلفًا، فقال جئتك بحسب الله تعالى لأهب لك غلاما زكيا..أي جئتك لأخبرك بولادة ابن عندك، وحي وثقي بقطعية هذا الكشف وكأنك قد أُعطيت المولود الموعود.

Page 211

الجزء الخامس ٢٠٤ سورة مريم قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (3) شرح الكلمات : بَغِيًّا : البَغْيُ طلب تجاوز الاقتصاد فيما يُتحرى والبَغْي على حزبين: أحدهما محمود وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والثاني مذموم وهو تجاوز الحق إلى الباطل.وبغت المرأةُ بغاء إذا فجرت لتجاوزها إلى ما ليس لها (انظر المفردات).التفسير : إن مريم أيضًا استغربت من البشارة مثل ما استغرب زكريا ببشارة ولادة الابن عنده فقالت أنى يكون لي غلام ؟ لا شك أن الغلام يعني الكهل والشاب أيضًا، ولكنه يعني هنا الولد، لأن هذا من كلام ،مريم، وإن ولادة الولد عندها هو الأمر الذي جعلها تتحير.فقالت كيف ألد ولدا و لم يمسسني بشر ولستُ امرأة فاجرة؟ ولو أننا قلنا إنها استغربت بسبب ظاهر أحوالها وقلنا إن مشاعرها في الرؤيا كانت كمشاعرها في الظاهر، فيكون المعنى أن ولادة الابن عندها كان أمرًا مستحيلاً في الظاهر فاستغربت من هذا الخبر خلال الرؤيا أيضًا.ذلك أن المنام نوعان: فأحيانا يكون المشهد والكلام وحدهما تحت تأثير تأويل الرؤيا، أما الأحاسيس القلبية فلا تكون تحت تأثيره ومثاله أن يرى المرء في المنام أن ابنه قد قتل، وأنه فرحان بقتله، مع أنه لا يفرح بقتله في الظاهر، بل يبكي ويحزن؛ ففرحته على قتل ابنه يعني أن مشاعره أيضًا كانت تحت تأثير تأويل الرؤيا لأن تأويل قتله أنه سيكون صالحا، وسيقف حياته على خدمة الدين، وإلا لبكى ولم يفرح.وأحيانًا يرى في المنام أن ابنه قتل وأنه يبكي عليه، أنه كان ينبغي عليه أن مع يفرح المشهد، ولكن بكاءه في الرؤيا يدل على أن مشاعره لم تكن تحت تأثير تأويل الرؤيا، بل كانت تحت تأثير ظاهر الأحوال.إذن فمشاعر القلب أحيانًا تكون تحت تأثير تأويل الرؤيا وأحيانًا لا تكون كذلك.ومثاله الآخر أن المرء يرى في المنام قصب السكر، فيفرح كثيرا، في حين أن تعبير القصب الهم والغم؛ فسروره في المنام يدل على أنه لم يكن تحت تأثير تأويل و بهذا

Page 212

الجزء الخامس ٢٠٥ سورة مريم الرؤيا، بل كان تحت تأثير ظاهر الأحوال، لأن المرء يفرح إذا وجد القصب، ففرح في المنام أيضًا.ولو رأى أنه بكى حينها فكان معناه أنه كان تحت تأثير تأويل منامه.إن هذه قضية معقدة ولا يفهمها إلا الذين وهبوا علم تعبير الرؤيا.فلو فهمنا من قولها هذا أنها قالته بتأثير ظاهر أحوالها لكان المراد أنها قالت هكذا لأن التفوه بمثل هذه الأمور أمر منكر غير مستحب، فكأنها قالت له: يا ويلتي، ماذا تقول؟ متى تلد النساء بدون الرجال؟ أما لو اعتبرنا قولها هذا خاضعًا لتأثير تأويل الرؤيا لكان المراد أنها قالت هذا في فلا معنى لأن دهشة واستغراب: هل بالفعل سيعاملني الله تعالى بهذا اللطف والكرم؟ وباختصار، لقد ثبت من هذه الآية بكل جلاء أن السيدة مريم قد فهمت من ذلك أنها ستلد ولدا بدون زواج وقبل الزواج، لأن قولها و لم يمسسني بشر يدل أنها قد فهمت من هذه الرؤيا أنها ستُرزق الولد بعد هذه الرؤيا وقبل الزواج، وإلا تنفي مريم أية علاقة جنسية في الماضي.ثم إن قولها ولم أكُ بغيا أيضا يدعم هذا المعنى حيث إنها تنفي به أي علاقات غير شرعية مع أحد في الماضي، بينما كان قولها ولم يمسسني بشر كان نفيا لعلاقة شرعية في الماضي؛ وليس في قولها أي ذكر للزواج أو عدمه في المستقبل.وهذا يدل أنها لم تنف ولادة الابن عندها في المستقبل لكونها منذورة في سبيل الله تعالى، وإنما نفت ولادة الابن عندها نظراً إلى ماضيها الذي كان من المحال أن تُرزق فيه الولد لو كان المستقبل في نظرها لقالت إن زواجي مستحيل فكيف أرزق الولد، أو لم تتعجب إطلاقا من وعد الولد لأن احتمال زواجها كان أمرًا واردا.قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا : شرح الكلمات : ج أن مقضيَّا: هناك كلمتان في العربية القضاء والقدر، ويظن الناس على العموم معناهما واحد، مع أن الأمر ليس كذلك.فقد قال صاحب المفردات: "القضاء فصلُ

Page 213

الجزء الخامس ٢٠٦ سورة مريم الأمر قولاً كان أو فعلاً، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري؛ والقضاء من الله أخص من القدر لأنه الفصلُ بينَ التقدير، فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطعُ.وهذا كما قال أبو عبيدة لعُمر - رضي الله عنهما – لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أَتَفرُّ من القضاء؟ قال: أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله؛ تنبيها أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مَدفَعَ لـه".(المفردات) وبيان ذلك أنه ورد في التاريخ أن سيدنا عمر الله لما ذهب إلى الشام استقبله جنود المسلمين وقائدهم أبو عبيدة، وكان وباء الطاعون، الذي دعي باسم عمواس، قد تفشى في بعض مناطق الشام.فجمع الصحابة واستشارهم، وقال لهم: كان الطاعون يتفشى في الشام من قبل أيضًا، فماذا كان يفعل أهلها؟ قالوا: كانوا يبتعدون عن مكان الطاعون، إلى أن تخف وطأة هذا الوباء.وأشار الصحابة على ألا يذهب إلى مكان الطاعون، فقرر العمل بذلك.فلما علم بذلك أبو عبيدة عمر الله مكان الذي كان شديد التمسك بالظاهر، قال: أتفرّ من القضاء؟ فأجابه عمر رضي عنهما مشيرًا إلى عادة أهل الشام هذه وقال : أفرُّ من قضاء الله إلى قدر الله.بمعنى أن الله تعالى قد جعل قانونًا عامًا وقانونا خاصا، والقانون العام هو أن الذي يفر من مكان الطاعون إلى مكان نقى الهواء ينجو من هذا الوباء.فما دام الفرار الطاعون أيضًا من قوانين الله تعالى فإني لا أخالف أيا من قوانينه ، وإنما أفرّ من الله، قضائه إلى قدره أي من قانونه الخاص إلى قانونه العام.فسيدنا عمر ه قد فرق هنا بين القضاء والقدر، وقد قال صاحب المفردات إن ما يقصده سيدنا عمر هو "أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله فكأنه أوضح بأنه لم يدخل بعد في منطقة الطاعون، ومن نواميس الله تعالى أن المرء إذا ابتعد من المنطقة المضروبة بوباء الطاعون نجا منه، وأنا أنتفع من هذا الناموس الإلهي.التفسير: ليس المراد من قوله تعالى هو على هين أن هذا الأمر صعب على الناس ولكنه سهل لي ؛ ذلك لأن الأمر المشار إليه ليس صعبًا على الناس فحسب بل

Page 214

الجزء الخامس ۲۰۷ سورة مريم هو مستحيل تمامًا.إذن فليس هنا أي مقارنة بين قدرة الله وقدرة البشر، وإنما هذا الله تعالى بأنه إذا أراد شيئًا فكل شيء هين وسهل عليه.إعلام من أما قوله تعالى ولنجعله آية للناس ورحمة منا فاعلم أن اللام في ولنجعله للعاقبة، والمراد أننا فاعلون ذلك حتمًا، فيصبح هذا الولد آية ورحمة للناس من قبلنا.أي أننا حين نخلقه من دون أب سيكون ذلك علامة على أننا على وشك أن ننقل النور الإبراهيمي من بني إسحاق إلى بني إسماعيل، ويكون هذا رحمة منا.والسؤال الذي يفرض نفسه هنا : إذا كانت النبوة قد انقطعت عن بني إسرائيل من خلال المسيح فكيف صار هو رحمة للناس.وجواب ذلك (أولاً) أن قوله تعالى ورحمة منا إشارة إلى تعليم المسيح، حيث أخبر الله تعالى أن الخشونة والقسوة الموجودة في اليهود ستُزال بواسطة المسيح الذي سيدعو الناس إلى المحبة والرفق، ويعمل جاهدًا على نشر الرحمة، وهكذا سيكون ظهوره مدعاة رحمة للدنيا.وثانيا، أن بي آخر الزمان ما كان ليولد إلا بانتقال النبوة من بني إسحاق إلى إسماعيل.فبما أن المسيح كان سببًا لظهور من هو رحمة للعالمين وجاء ليمهد لنزول تعليم الرحمة فقال الله تعالى إننا جعلناه رحمة منا..أي جعلناه سببًا لتحقق تلك النبوءة العظيمة المتعلقة بظهور نبي آخر الزمان.وكأن المسيح كان مفتاحا للباب الذي كان من المقدر أن تنزل بانفتاحه رحمة عظيمة من الله تعالى.ما أعظم هذا الكلام دليلاً على كمال القرآن فبالرغم من أن المسيح ال سيد للنصارى، إلا أن الإنجيل حين تحدث عن نبوءة ولادته لم يذكر أنه سيعمل على نشر المحبة بين الناس.ولكن القرآن الكريم حين ذكر نبوءة ولادته ذكر أيضا أن الله تعالى كان قد أخبر مريم قبل ولادته أنه سينشر تعليم المحبة.إن هذا الأمر إذا كان يشكل برهانًا عظيمًا على صدق القرآن وكماله وعدله فإنه أيضًا دليل على كون الإنجيل ناقصاً.إن أكبر مزايا المسيح ال تعليمه الداعي إلى الرحمة، ولكن الإنجيل لم يذكر ذلك، ولو تلميحا، حين ذكر نبوءة ،ولادته أما القرآن الكريم فسجل هذا الأمر.

Page 215

الجزء الخامس ۲۰۸ سورة مريم ولا يعزُبَنّ عن البال أن كل نبي كان في حد ذاته آية من آيات الله تعالى، ولكن من دأب المسيحيين استغلال بعض الكلمات بطريق خاطئ.فمثلاً لا شك أن قوله تعالى ولنجعله آية للناس ورحمة منا دليل على عظمة المسيح الله، ونحن المسلمين أيضًا نعترف بعظمته، ولكن المسيحيين يستغلون مثل هذه الكلمات فيُطرون المسيح إطراء كبيرا.إننا لا نقلل من عظمة المسيح، كلا، بل إننا نعتقد أنه نبي عظيم ورسول كريم، ولكنا لا نؤمن بأنه كان يملك من الكمالات ما لا يوجد في غيره من الأنبياء، أو أنه كان أكثر كمالاً من رسولنا الكريم.يستنتج المسيحيون من قوله تعالى ولنجعله آيةً للناس أن هذا اعتراف من القرآن بأهمية خارقة للمسيح.ولكنه استنتاج غير سليم، إذ يتضح من دراسة القرآن الكريم أنه قد استخدم هذا اللفظ في حق الأنبياء الآخرين أيضًا.فمثلاً قد سرد تعالى في القرآن رؤيا لأحد من الأنبياء ثم قال له النجعلك آيةً للناس (البقرة: ٢٦٠).وقد قال ذلك للنبي حزقيال الذي كان أدنى درجة من موسى وداود عليهم السلام.بل قد استخدم الله تعالى هذا اللفظ في حق ناقة دَعْك من نبي، فقال هذه ناقةُ الله لكم آيةً (الأعراف: (٧٤.فإذا كانت الناقة يمكن أن تكون آية، فما فضل المسيح العليا في كونه آية؟ ثم قال الله تعالى لفرعون فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية (يونس: ۹۳).فالقرآن الكريم قد استخدم لفظ "آية" للأنبياء الآخرين علاوة على المسيح، وللحيوانات أيضًا، بل حتى لفرعون عدو الله وعل.فثبت أن لفظ الآية إلا أن المسيح كان سببا لجلاء حقانية الله تعالى، وليس أنه أفضل من لا يعني الآخرين.كما ليس في قوله تعالى ورحمة منا أيضًا ما يدل على فضل خارق للمسيح العليا، إذ سبق أن قيل في حق يحيى الله أيضًا وحنانًا من لدنا، وكلمة الحنان تعني الرحمة في اللغة العربية حيث ورد في القواميس أن الحنان تنطوي على معنى

Page 216

الجزء الخامس ۲۰۹ سورة مريم التعبير عن المحبة مع صوت*، كحنين الأم إلى ولدها حيث تداعبه وتلاطفه ببعض الكلمات.فالحنان تدل على كمال الحب المعبر عنه بكلمات.ومثل هذه المحبة لا تتولد بدون رحمة، بل إن منبعها الرحمة دائمًا.فثبت أن الحنان مرادف للرحمة.فالله تعالى يؤكد هنا أنه منح يحيى العليا الرحمة.بل لقد قال الله تعالى عن يحيى ما لم يقل عن المسيح إذ بين أنه قد أعطاه هذا الحنان أو الرحمة من عنده ، بينما قال عن المسيح إنه جعله للناس رحمة، فالله تعالى قد نسب الرحمة هنا إلى نفسه لا إلى المسيح.فكان يحيى رحمة متجسدة، أما المسيح فبعث إلى الناس كآية رحمة فقط.والظاهر أن الرحمة المتجسدة شيء عظيم.عیسی اسیک ثم إن رسولنا الكريم لم يُسمَّ رحمة فحسب، بل قال الله تعالى له وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: ١٠٨).وهذا يعني أن ال لم يسم رحمة، بل سمي آية رحمة، وأما يحيى فسُمِّي رحمة من لدن الله تعالى، وأما رسولنا الكريم فلم يُجعل رحمة مختصة بقوم أو بزمان، بل جعل رحمة لكل العالم ولكل الأزمان إلى يوم القيامة.وكأن النبي (۱) جُعل رحمة، وليس أنه بعث رحمةً بالناس؛ (۲) وأنه لم يُجعل رحمة مختصة بقوم معين أو زمان معين، بل جعل رحمة للعالمين.قد يقول هنا بعض المسيحيين نحن لا نسلم بأن جملة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين تعني أنه جعل رحمة لكل العالم، إذ قد ورد عن مريم أيضًا إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (آل عمران: ٤٣)، وعندما تفسرون هذه الآية تقولون إن مريم فضلت على نساء قومها فقط؛ فإذا كان لفظ نساء العالمين يعني هنا نساء قومها فقط، فلمَ لا يُفهم هنا أن محمدًا (ﷺ) جعل رحمة لقومه فحسب، وليس لكل الدنيا.ورد في أقرب الموارد حنّت المرأة : إذا اشتاقت إلى ولدها وحنت القوسُ: صوتت.وحنَّ القضيب: صوّت عند ليه والحنانة: القوس المصوتة.والحنين صوت الطرب عن حزن وفرح (المترجم).

Page 217

الجزء الخامس ۲۱۰ سورة مريم والجواب أن الكلمة قد يكون لها مدلول محدود أو غير محدود أيضا، وإن السياق هو الذي يحدد هذا الأمر.وفي سورة الأنبياء حين ذكر الله تعالى أفضلية نبينا ذكرها بعد ذكر الأمم غير العربية وخاصة بني إسرائيل، حيث أعلن الله تعالى قبل هذا أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء: ١٠٦).فثبت أن هذه الأفضلية هي على جميع الناس بما فيهم بنو إسرائيل، وأنه وعد واسع النطاق جدا.فلو لم يكن هنا ذكر للشعوب غير العربية لجاز لكم القول أن محمدا كان رحمة للعرب فقط مثلما كانت مريم أفضل من نساء قومها بني إسرائيل فحسب.ولكن القرآن لا يذكر هنا العرب، بل الشعوب الأخرى، ويخبر أن الله تعالى سينزع نعمه من بني إسرائيل ويهبها للمسلمين.فثبت من السياق بكل وضوح أن النبي ﷺ كان رحمة للشعوب الأخرى أيضًا.ولكن الوعد الذي قطعه الله تعالى لمريم فجاء في سياق قومها فقط.فلا يمكن أن يقال عن الوعد الذي قُطع للنبي أنه مختص بقومه فقط، لأن الله تعالى قد ذكر هناك شعبًا آخر كان يحسب نفسه أنه أفضل شعب في العالم کله، ووعد بأنه نعمه سينزع منهم ويهبها للمسلمين.فثبت أن النبي ﷺ لم يكن رحمة للقبائل العربية فحسب، بل لشعوب العالم كله.أما قول الله تعالى وكان أمرًا مقضيَّا فاعلم أن الله تعالى قال من قبل هو علي هين..أي إذا أراد الله تعالى أن يخلق أحدًا من غير أب فهو أمر سهل بالنسبة الله تعالى، لذا يخبر الآن أن ولادة الابن عند مريم من غير أب كان قضاء الله تعالى لكي تنقطع النبوة عن بني إسرائيل وتنتقل إلى بني إسماعيل.وكان أمرًا مبرما لا يمكن إلغاؤه أبدا، بل أصدر الله ولا الأوامر بتنفيذه وإمضائه.فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا : التفسير : كيف حملت مريم، هذا سر إلهي أسمى أسمى من القانون الطبيعي، أو إذا كان ضمن القوانين الطبيعية فإنه لا يزال حتى الآن سرًّا مكنونا بالنسبة للإنسان.وهناك الكثير من أسرار القوانين الطبيعية التي لم يتمكن الإنسان بعد من الاطلاع عليها.

Page 218

الجزء الخامس ۲۱۱ سورة مريم حکمت خذوا القنبلة الذرية مثلا، فلم يكن للإنسان أي علم بها، ولكن الإنسان اكتشفها الآن؟ وبالمثل هناك أسرار كثيرة في خلق الله تعالى التي لم يكتشفها الإنسان بعد، ومنها الولادة من غير أب.إن الله الذي خلق كل الكون بقوله كُن لقادر على أن يحدث في الأنثى تغييرات غير مسبوقة.غير أننا نجد في التاريخ أيضا شهادات تؤكد ولادة أولاد آخرين من غير أب.ومثاله جدّة أسرة "منجو" التي الصين ودُمرت في حوالي السنة الستة أو السابعة الميلادية.يخبرنا التاريخ أن هذه الجدة حملت من دون زواج.فأثار الناس ضجة كبيرة، ولكن هذه السيدة، وكانت بنتا لراع، أخبرتهم أن لا ذنب لها في ذلك، بل إن ملاكا ظهر لها وهي ترعى الغنم، وقال لها: ها أنا ألقي عليك نور الله تعالى، وستلدين ولدا سيكون ابنه ملكًا على بلاد الصين كلها.فصرتُ حاملاً بعد ذلك، فما ذني في ذلك؟ فقال القوم إن هذه تخبرنا بخبر المستقبل.فلننتظر ونرى ماذا يحدث.فولدت بعد تسعة أشهر ابنًا.فقالوا: ها قد تحقق الشطر الأول من خبرها، ولننتظر باقي الخبر أيضًا.فشب ابنها وتزوج في سن الثامنة عشرة أو العشرين ثم لم تمض فترة طويلة حتى رزق هو الآخر ابنا.ولما بلغ هذا الابن الخامسة أو السادسة عشرة من عمره عمت الفوضى في البلاد.وكان هذا الشاب فتى شجاعًا، فجمع حوله لفيفا من الشباب، وشن الهجوم على القرى المجاورة واستولى عليها.فشجعه هذا النصر إلى المزيد من الإقدام، فتقدم وأخذ يحرز الانتصار تلو الانتصار حتى صار ملكًا على الصين كلها.فأكدت هذه الأحداث صدق قول هذه السيدة بأن الله تعالى هو الذي أخبرها بهذا الخبر.خان كما ورد عن جنكيز خان أن الأمر نفسه وقع مع أمه.علما أن للأتراك فرعين: أحدهما البرلاس الذي أسرتُنا منه، والفرع الآخر الذي كان منه جنكيز خان وباتو وجتلائي خان وغيرهم من المشاهير.فلما مات أبو جنكيز وصارت أمه أرملة، رضي بها القوم ملكة على البلاد بحسب عادتهم.وبعد فترة من الزمن دعت الملكة حاشيتها في البلاط وأخبرتهم أنها قد صارت حاملاً.فثاروا عليها وهددوها بالقتل.فقالت: لا ذنب لي في ذلك.لقد رأيت في المنام أن نورا من الله تعالى قد

Page 219

الجزء الخامس ۲۱۲ سورة مريم أتاني ودخل في كياني، وأخبرتُ أني سألد ابنا سيكون ملكًا على العالم.فلما استيقظتُ كنت حاملاً.فهدأ القوم بقولها وقرروا الانتظار إلى أن يتحقق هذا الخبر.فولدت جنكيز خان الذي صار ملكًا على العالم، ونشر الدمار في كل مكان.وقد وردت في الموسوعة البريطانية أحداث مماثلة كثيرة والغريب في الأمر أن أمهات كل هؤلاء المواليد الذين ولدوا هذه الولادة العجيبة قد رأين الرؤى قبل ولادتهم (موسوعة الأديان مجلد ۱۲ Virgin Birth).لذا فلا يمكننا أن نتهمهن بالفاحشة أو الكذب.إذا فلا غرابة في ولادة المسيح الا من غير أب، إذ نجد في التاريخ ذكر ولادات عديدة مماثلة لولادته.أما قوله تعالى فحملته فالمراد من الحمل هنا الحمل الذي تم نتيجة هذه الرؤيا.وهذا ما قال به سيدنا المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام.فقد قال في كتابه "مواهب الرحمن" بكل وضوح وجلاء إن من عقائدنا أن المسيح قد ولد من غير أب (مواهب الرحمن ص ٢٩٥).وكان حضرته العليا يصرح أنه ليس أمامنا إلا خياران اثنان: فإما أن نسلم بأن المسيح الله قد ولد بأمر الله تعالى، وإما أن نقول أنه ولد ولادة غير شرعية.فعيسى ال قد ولد من غير أب بحسب عقيدة المسيح الموعود الل، وهذا ما نعتقد به نحن أيضًا.ولقد ركزتُ هنا على هذا الأمر خاصة لأن المولوي محمد علي، أمير غير المبايعين * ، قد كتب أن المسيح بن مريم ال قد ولد من نطفة أبيه 6 يوسف (بيان القرآن مجلد ٢ ص ٨٥٥ تحت قوله تعالى فحملته فانتبذت به مكانا قصيّا، وحقيقة المسيح ص.(۸).مع أنني قد بيّنتُ من قبل أن يوسف لم يمس مريم إلا بعد ولادة المسيح بحسب الإنجيل أيضًا.⭑ هم الذين لم يبايعوا الخليفة الثاني للمسيح الموعود العلا، رافضين استمرار نظام الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية، وانشقوا عنها وغادروا قاديان، متخذين لاهور مركزا لهم، واشتهروا فيما بعد بالأحمديين اللاهوريين (المترجم).

Page 220

الجزء الخامس ۲۱۳ سورة مريم أما قوله تعالى فانتبذت به مكانًا قصيا فيدل على أن مريم اضطرت خلال حملها للذهاب إلى مكان بعيد.وحين نفحص الإنجيل بهذا الصدد نجد فيه تفصيل هذا الحادث إلى حد ما، ولا بد لنا من التسليم بهذا التفصيل طالما لا نجد ما يدل على بطلانه.فقد ورد في الإنجيل: "وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يُكتتب كل المسكونة.وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية.فذهب الجميع ليكتتبوا..كل واحد إلى مدينته.فصعد يوسف أيضًا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى" (لوقا ٢: ١-٥).فثبت من هذه الفقرة الإنجيلية أن مريم أيضًا ذهبت مع يوسف إلى بيت لحم للإحصاء.ولكن يقول الإنجيل بعد ذلك إن الناس جاءوا بكثرة للإحصاء فلم يجدا مكانًا للمبيت في السراي، فباتا في الخارج، وهنالك بدأت مريم تشعر آلام المخاض، فوضعت الوليد (المرجع السابق: ٧).واعلم أن بيت لحم تقع جنوبي أورشليم على بُعد خمسة أميال، وأرضها خصبة تاريخ بائبل (بالأردية) ص ٤٨٤).وهي تقع في جنوب الناصرة أيضا بمسافة سبعين ميلا تقريبا.فقوله تعالى فانتبذت به مكانًا قصيًّا إشارة إلى سفر مريم هذا جدا المذكور في الإنجيل والذي قامت به من الناصرة إلى بيت لحم.فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مِّنسِيًّا (3) شرح الكلمات : المخاض: أي الطلق وهو وجع الولادة (التاج).ومخضت الحامل ومخضت مخاضا : دنا ولادها وضربها الطلقُ فهي ماخضُ (الأقرب).وأكبر علامة على اقتراب موعد الولادة هذه الآلام.

Page 221

الجزء الخامس ٢١٤ سورة مريم جذع: الجذع: يُطلق على ساق النخلة، وأيضًا على فرع كبير لها.التفسير: إن لجوء مريم إلى النخلة دليل على أنها لم تكن في بيتها.وقد سبق أن بينت أن مريم وزوجها لم يجدا المكان في النزل بحسب الإنجيل، فاضطرا للمبيت في العراء، ويبدو أنها وجدت هناك نخلة فذهبت إليها.يقول المفسرون عندنا أنها ذهبت إلى النخلة لتستند إليها تخفيفا لآلامها (مجمع البيان).ولكنهم قد اخترعوا عذر الاستناد خوفًا من الروايات المسيحية كما سأبين لاحقا.فما دامت كل الأشجار تهيئ الظل والسند أيضا في وقت واحد، فلماذا، يا هو أن تری، قالوا إنها ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليها؟ إن سببه في الواقع فكرة الانسجام مع الروايات المسيحية كانت غالبة على أذهانهم.لا شك أن الإنسان يكون بحاجة إلى السند أيضًا وقت ،الآلام، فالنسوة ذوات الخبرة يضعن أيديهن في يد المرأة عند الولادة وينصحنها أن تضغط علي أيديهن بكل قوة، وعندما تفعل ذلك تجد بعض الراحة من آلامها كما تسهل الولادة أيضًا.فلا غرو أن المرأة تحتاج إلى شيء تستند إليه وقت الآلام، غير أني أرى أن السبب الذي ذكره المفسرون هنا ليس صحيحًا.أما قوله تعالى قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنتُ نسيا منسيا فقال البعض أنها قالت ذلك خوفا من طعن الناس لأن الولد كان من غير أب (تفسير ابن كثير).ولكني أرى أن هذا غلط، فإن أهل الخبرة يعرفون أن المرأة عند ولادة مولودها الأول تعاني على الدوام آلاما شديدة حتى تقول من تلقائها يا ليتني مت قبل هذا.لقد لاحظت هذا الأمر في بيتي مع زوجاتي وبناتي أيضًا.مما لا شك فيه أن ولادة مولود عند عذراء أمر غير عادي، ولكن هكذا تقول النساء دائما عندما يقاسين آلاما شديدة عند وضعهن لمولودهن البكر.فلا غرابة في ذلك أبدًا.غير أني أرى أن هذه الآية تنطوي على تفنيد خفيّ للرواية الواردة في كتب الحديث بأن كل مولود يمسه الشيطان عند ولادته ،فيصرخ، ولكن المسيح لم يمسه الشيطان عند ولادته (البخاري: كتاب التفسير، باب "منه آيات محكمات").الحق أن المولود يصرخ عند الولادة

Page 222

الجزء الخامس فهي ۲۱۵ سورة مريم لكون المخرج ضيقًا جدا، فيخرج من رحم أمه وهو يعاني آلاما شديدة.أما الأم الأخرى تصرخ لأن عظامها تتكسر آنذاك فالله تعالى قد أشار بذكر آلام مريم إلى أن المسيح أيضًا لا بد أن يكون قد ذاق آلاما شديدة، ولا بد أن يكون قد أطلق صرخات عالية.فَنَادَنَهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( وَهُزِيَ إِلَيْكِ يجذع النَّخْلَةِ تُسَقِطَ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (3) شرح الكلمات: تحتك: كلمة "تحت" هي ضد فوق كما تعني الناحية السفلى لأنها تكون إلى جهة الأسفل.فمثلا إذا كنت ماشيًا على جبل فإن الناحية التي ينحدر إليها الجبل تكون تحتك، كما أن المكان الذي أنت واقف فيه أيضًا يكون تحتك.سَرِيًّا : من سرى يسري، وقوله تعالى قد جعل ربُّك تحتك سريًّا أي نهرًا يسري.وقيل: بل ذلك من السرو أي الرفعة.(انظر المفردات) هزي: الهز: تحريك الشيء.وهزي إليك بجذع النخلة أي حركي (انظر ناداها لسان العرب).التفسير: لقد انتقلت أذهان المفسرين من قول الله تعالى قد جعل ربك تحتك سريا إلى التحت الذي يكون تحت قدم المرء.فيقولون لأن عیسی كان تحت مريم عند ولادته فهو الذي ناداها من تحتها (روح المعاني)، بينما قال البعض إن الملاك من جهة أرجلها (الدر المنثور).مما لا شك فيه أن المنادي هو الملاك، ولكن من الغباء القول أن الملاك ناداها من الجهة التحتانية من جسدها.إنما المراد أن الملاك ناداها من جهة منحدر الأرض وأخبرها أن هنا ماء ذلك أن المكان الذي ولد فيه عيسى كان في سفح جبل وكانت في الأرض المنخفضة هناك عين ماء، حيث تتضح لنا من الإنجيل أن ولدت ابنها في بيت لحم التي تقع على رأس جبل يبلغ ارتفاعه ٢٣٥٠ قدمًا مريم من

Page 223

الجزء الخامس ٢١٦ سورة مريم مريم سمعت الصوت من الناحية سطح البحر.وهناك وديان خضراء حولها، وهي أكثر الأماكن خضرةً في منطقة يهوذا كلها، وأن بها ثلاثة عيون للماء وتسمى عيون سليمان.وهذه العيون تمد مدينة بيت لحم بالماء.وهذا يعني أن لا ماء في المدينة، وإنما تُجلب المياه من عين سليمان عبر الأنابيب.وهناك عين ماء في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة عند السفح على بعد نصف ميل (قاموس الكتاب المقدس للدكتور جورج).فالمراد من قوله تعالى فناداها تحتها أن من التي فيها عين ماء.ذلك أن المرء يعرف المكان من جهة الصوت أيضًا.فمثلاً لو ناداك أحد من شمالك لعرفت على الفور أن الصوت قادم من جهة الشمال وليس من جهة اليمين.فلكي يدل مريم على مكان الماء ناداها الملاك من منحدر الجبل.وليس المراد أنه ناداها من تحت جسدها.والتاريخ الجغرافي لهذه المنطقة أيضا يدل على وجود عيون ماء فيها.الواقع أن الإنجيل يخبرنا أن مريم لما ذهبت إلى بيت لحم لم تجد مكانا للمبيت داخل المدينة، فباتت خارجها.كما يضيف الإنجيل أنها باتت في المكان الذي كان الرعاة يرعون فيه مواشيهم لوقا :۲ (۸ ومن المعروف أن الرعاة يرعون المواشي على مسافة من المدن ومن أجل ذلك ورد في الإنجيل أنهما أضحعا الوليد في مذود.فثبت أنهما باتا في مكان بين المدينة والعيون.وربما فكرت مريم أنها لو أقامت في المدينة لقال الناس لمن هذا الوليد، فالأفضل أن يقيما خارج المدينة.فأقامت على بعد منها حيث العيون التي لم يكن لها علم بوجودها لكونها غريبة في تلك المنطقة، فأخبرها الله تعالى بواسطة الملاك أن هناك عين ماء في الجهة الفلانية.ولربما أراد الله تعالى بذلك إثبات مماثلة بين المسيح وإسماعيل عليهما السلام، فإن الأخير أيضًا لما تُرك في أرض مكة نادى الملاك أُمَّه أن الله تعالى قد فجر عينًا تحت رجلي ولدك.على كل حال لقد كان هذا آية من الله تعالى حيث أخبر مريم وقت الشدة والحزن أن هناك عين ماء يمكن أن تسد به حاجتها.

Page 224

الجزء الخامس بعضهم القديمة هذه.۲۱۷ سورة مريم إن المفسرين عندنا يفسرون قوله تعالى قد جعل ربك تحتك سريًّا أن الله تعالى قد خلق تحتك طفلاً رائعًا، أي أن ولدك هذا سيكون له شأن، بينما قال أن هذا بيان لعظمة المسيح الخارقة (الرازي).والواقع أن عند المفسرين ولعا غريبًا لمدح المسيح ونسج القصص لتعظيمه في كل مناسبة وأخرى.فإذا كان الحديث عن ولادته قالوا: إن المسيح هو المولود الوحيد في الدنيا الذي لم يمسه الشيطان عند الولادة، وإذا ذُكر موته قالوا أن الله تعالى رفعه إلى السماء حيًّا.وهذا المعنى الذي يذكرونه لقوله تعالى قد جعل ربك تحتك سريًّا نتيجة لعقليتهم مع أن الأمر واضح تماما.كانت مريم وولدها بحاجة إلى الماء من أجل النظافة عند الوضع، ففكرت من أين تجد الماء لغسل الثياب والمولود، فناداها الملاك أن الماء موجود عند منحدر الجبل، فيمكنها أن تسدّ حاجتها منه.ووجود عيون عند منحدر الجبل ببيت لحم ثابت جغرافيا.ثم في الآية التالية يقول الله تعالى فكلي واشربي وقري عينًا.فبما أن الله تعالى قد ذكر النخلة من قبل، فالمراد كلي الآن من ثمر النخلة، واشربي من عين الماء، ونظفي به الثياب والمولود وافرحي.وهذا يدل بكل وضوح أنه ليس في لفظ سريا ما يدل على رفعة المسيح، بل يفيد وجود العين.كانت عند منحدر الجبل عين ماء، فقال الله لها كلي من ثمر النخل، واشربي من ماء العين، وقري عينًا.هنا نواجه معضلة كبيرة لا بد لنا من حلها.إن التاريخ المسيحي يقول لنا أن المسيح العلا ولد في ٢٥ ديسمبر، ويقول لوقا إن أوغسطس قيصر كان قد أصدر في تلك الأيام أمرًا بإحصاء سكان مملكته، فذهب يوسف مع مريم من الناصرة إلى أن بيت لحم من أجل التسجيل، وهنالك وُلد المسيح (لوقا ٢: ١-٥).وهذا يعني المسيح ولد في بيت لحم أيام الإحصاء الأول في ۲٥ ديسمبر.ولكن القرآن الكريم يعلن أن المسيح قد وُلد في الأيام التي تثمر فيها النخل والنخل لا تثمر في شهر ديسمبر إلا نادراً، وتثمر في شهري يوليو وأغسطس بكثرة.وعندما نجمع بين هذا وبين إخبار الله تعالى لمريم بعين ماء لتنظف به ثيابها وتغسل مولودها، لتبين لنا أن الولادة تمت في الحقيقة في يوليو أو أغسطس، لا في ديسمبر.ذلك أن غسل الوليد

Page 225

۲۱۸ سورة مريم الجزء الخامس الجديد بماء العين في شهر البرد القارس، وخاصة على جبل واقع في شمال الجزيرة العربية لأمر مخالف للعقل تمامًا.ولكن التاريخ المسيحي ينص على أن ولادة المسيح في شهر ديسمبر.فهناك تعارض واضح بما ورد في تاريخهم وما يعلنه القرآن الكريم بأن الملاك قال لمريم وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليكِ رُطَبًا جنيًّا، مع أن الرطب لا توجد في شهر ديسمبر إلا نادراً وتوجد بكثرة في شهري يوليو وأغسطس.فإذا كان صحيحًا أن المسيح قد وُلد في ديسمبر فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا ذكر القرآن الرطب مع أنها لا توجد في ذلك الموسم؟ وخوفا من هذا الاعتراض نفسه قال المفسرون عندنا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه أثناء الوضع.لقد فكروا أن المسيحيين يقولون أن المسيح قد ولد في ديسمبر، والنخل لا تحمل الرطب في ذلك الشهر إلا قليلا؛ فلماذا ذهبت إلى النخلة التي لم يكن بها ثمر؟ فأجابوا على ذلك أنها ذهبت إلى جذع النخلة لتستند إليه، غاضين الطرف عما قال الله تعالى بعد ذلك في القرآن الكريم وهزي إليك بجذع النخلة تُساقط عليك رُطَبًا جنيًّا ! فلأن المفسرين سمعوا من المسيحيين أن المسيح ولد في ديسمبر، ولأن النخل لا تثمر الرطب في ديسمبر إلا قليلا، فقالوا أن مريم ذهبت إلى جذع النخلة التي جف ثمرها لتستند إليه.بيد أن بعض المفسرين فكروا في قول الله تعالى وهزي إليك بجذع النخلة تُساقِط عليكِ رُطَبًا جنيًّا * فكلي واشربي ، فقالوا أن ذلك معجزة.فكانت مريم تهز النخلة التي لا ثمر بها، فكانت تساقط عليها رطبا جنيًّا! (تفسير الرازي، وأضواء البيان) والمشكلة الثانية التي نواجهها هي أن هذا الحادث وقع في منطقة يهوذا.والقرآن الكريم يذكر هنا النخل، ولكن تاريخ التوراة يذكر الزيتون واللوز والعنب بين مزروعات منطقة يهوذا، ولا ذكر فيها للنخل (قاموس الكتاب: تحت بيت لحم ص ١٦٦).والأغرب من ذلك أن العنب واللوز والزيتون لا تثمر في ديسمبر.وهذا يعني أن القرآن الكريم يذكر الرطب وهي لا تكون في ديسمبر إلا قليلا؛ أما تاريخ التوراة فيذكر الزيتون واللوز والعنب كمزروعات منطقة يهوذا ولا تذكر النخل من بينها، ثم إن هذه الثلاثة أيضًا لا توجد في ديسمبر.

Page 226

الجزء الخامس ۲۱۹ سورة مريم لننظر الآن فيما إذا كانت النخل تزرع في المنطقة التي ولد فيها المسيح بحسب الإنجيل أم لا؟ عندما نتصفح التوراة نجد أنها تشهد على وجود النخل في تلك المنطقة، حيث ورد: "وبنُو القيني حَمي موسى صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا التي في جنوبي عَرَادَ القضاة ١٦:١).ومنطقة عراد هذه تقع على بعد مائة ميل تقريبًا من بيت لحم، ولأن "مدينة النخل" كانت تقع في شمال عراد فثبت أن وجود النخل على مقربة من بيت لحم أمر مؤكد.ثم إن منطقة يهوذا التي فيها بيت لحم قريبة من الجزيرة العربية فوجود النخل فيها أقرب إلى القياس.لقد ثبت بهذا وجود النخل في تلك المنطقة، بيد أن السؤال الثاني لا يزال بدون جواب حتى الآن هو أن القرآن يعلن أن النخل كانت محملة برطب يانعة صالحة للأكل في الأيام التي ولد فيها المسيح الله، وذلك على عكس ما يقول المسيحيون بأن المسيح ولد في شهر ديسمبر الذي تندر فيه الرطب.وهذا يوصلنا إلى النتيجة الحتمية بأن القرآن الكريم يؤكد أن المسيح ال قد ولد في الفصل الذي تحمل فيه النخل رطبا جنيًّا.أما التواريخ المسيحية فتخبرنا أن المسيح قد ولد في ٢٥ ديسمبر، أو في إبريل عند البعض (موسوعة الأديان مجلد 3 : CHRISTMAS)، وقلّما تحمل النخلُ رطبًا جنيًّا في ديسمبر أو إبريل.فلا مناص لنا من المزيد من البحث والفحص لحل هذه القضية.لقد سبق أن قلت إن علينا أن نسلّم بما يقوله لوقا إن لم نجد ما يدل على بطلانه ولكن هذه الآية القرآنية اضطرتنا الآن لأن نبحث عن السبب الذي صار به هذان البيانان على طرفي نقيض.حينما نعود وندرس التاريخ ثانية نجد أن لوقا قد أخطأ في تحديد زمن الإحصاء الأول للسكان.إذ يقول إن يوسف ومريم ذهبا من الناصرة إلى بيت لحم بهدف التسجيل.ولكن دراسة تاريخ روما تكشف لنا أن العام الذي ولد فيه المسيح لم يجر فيه أي إحصاء على الإطلاق.يقول جوزيفوس، وهو أكبر مؤرخ من زمن

Page 227

الجزء الخامس ۲۲۰ سورة مريم المسيح، أن الإحصاء الأول قد جرى في العام السابع بعد الميلاد، ولم يقع قبل ذلك أي إحصاء إطلاقا.ويضيف جوزيفوس أن الإحصاء كان أمرا غريبا لليهود حتى قالوا في حيرة ودهشة: ماذا يريدون من ذلك؟ (الموسوعة التوراتية مجلد ١: Chronology) فلو كان الإحصاء قد جرى قبل ذلك بسبع سنوات أيضًا لما استغربوا عند الإحصاء الثاني.كما يتضح من التاريخ أنه عند وفاة الملك هيرودس (Herod) كان كونستيلس واروس واليا على تلك المنطقة وليس كيرينيوس (Quirnius) كما يقول لوقا.بل يتضح من التاريخ الرومي أن الواليين اللذين سبقاه هما تيتنيوس (Titnis) وسينتينيوس (Sentinis)، وقد حكّم الأول في العام العاشر قبل الميلاد، بينما حكم الثاني ما بين التاسع والسادس قبل الميلاد (المرجع السابق).وقد ثبت بذلك أنه يكن قبل ولادة المسيح ال بعشر سنوات وحتى وفاة هيرودس أي وال اسمه كيرينيوس (Quirnius).فإذا لم يكن في هذه السنين أي وال بهذا الاسم، وإذا لم يجر في تلك الفترة أي تسجيل بحسب المؤرخ جوزيفوس، فثبت أن الذاكرة قد خانت لوقا، فالتبست الأحداث عليه فإما أنه سمع عن الإحصاء الأول الذي جرى بعد سنين كثيرة، فظن أنه قد حصل قبل ذلك وأن يوسف ومريم سافرا إلى بيت لحم لذلك الإحصاء، فربط حدث ولادة المسيح بذلك السفر؛ أو أنه قد خلط الأحداث وزيفها عمدًا؛ وهذه هي الحقيقة.والآن أخبركم بما يدل على أن بيان القرآن هو الحق.الأمر الواقع أن السيدة مريم حملت من غير زوج فأثار خطيبها ضجة أن الحمل ليس منه فأمره الله تعالى في الرؤيا أن يأخذ مريم إلى بيته، لأن ما تقوله هي صدق وحق.فاطمأن صاحب الرؤيا بأن خطيبته لم ترتكب أي فاحشة، ولكن أهل المدينة لا يمكن أن يطمئنوا، بل كل من يسمع بولادة المولود سيقول إنه ولد الحرام.وليس بوسع أي زوج أن يتحمل اتهام الناس لزوجته بالفاحشة فلأنه كان يخاف العار، فمكث في بيته مع مريم ثلاثة أو أربعة أشهر أمكن فيها إخفاء الحمل، فلما رأى أن كتمانه مستحيل، ذهب بمريم إلى منطقة بعيدة عن مدينته، حيث ولد المولود.

Page 228

الجزء الخامس ۲۲۱ سورة مريم برأت ساحة مريم عنه أما المشكلة التي واجهت لوقا في بيان هذه الحقيقة فهي كالآتي: لم ير لوقا معجزة كافية في ظهور الملاك لمريم وتبشيره إياها بالحمل، فأراد أن يضيف إلى ذلك بعض معجزات المسيح أيضا، ليعطي انطباعًا أن مريم ما إن حملت بالمسيح حتى أخذت معجزات ربِّهم في الظهور بدون توقف فيقول مثلاً أن مريم الحامل لما ذهبت لزيارة زوجة زكريا قالت الأخيرة: "فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي".وأضافت قائلة: فهوذا حين صار صوتُ سلامك في أذني ارتكض الجنين بابتهاج في بطني (لوقا ١: ٤٣-٤٤.فإذا كانت معجزات المسيح أخذت في الظهور من حين الحمل فما الحاجة إلى إخفاء الحمل يا تُرى؟ ولكن الأحداث الحقيقية كانت تؤكد أن يوسف ومريم مكثا خارج مدينتهما لفترة طويلة.لا شك أن رؤيا يوسف عنده، ولكن هذه الرؤيا ما كانت لتدفع اللوم الذي كان سيلقاه من قبل القوم ومن أجل ذلك أقام مع مريم طالما أمكن إخفاء الحمل، ولما رأى أن إخفاء حملها أصبح أمرًا مستحيلاً أخذها إلى مكان بعيد، لكي لا يتعرض للوم القوم ولكي يولد الوليد خارج المدينة.ولكن لوقا كان يهدف التأكيد على ألوهية المسيح، فراح يعزو إليه المعجزات منذ أن حملته ،مريم، وقال أن زوجة زكريا قالت لمريم الحامل حين جاءت إليها ها قد جاءتني أم ربي، بل قال إن يوحنا نفسه يركض فرحًا وهو في بطن أمه فظن لوقا أنه إذا ثبت ذهاب مريم بعيدا عن أهلها بسبب الحمل لقال الناس أن مريم وزوجها خافا لومة اللائمين رغم مشاهدتهما كل هذه الآيات والمعجزات؛ ولكن ما كان بوسعه، ،، من ناحية أخرى، أن ينكر ذهابهما بعيدًا عن أهلهما؛ فكان عليه أن يرد على سؤال هام وهو: إذا كان الحمل معجزة من الله تعالى، وإذا كانت معجزات المسيح قد بدأت تظهر منذ لحظة الحمل، فما الداعي لإخفاء ذلك الحمل؟ وإذا لم يكن هناك داع لإخفائه فلماذا ذهبا بعيدا عن أهلهما؟ فلكي يتفادى لوقا هذا الاعتراض أوجد من عنده مبرراً لسفرهما إلى بيت لحم، فربط سفرهما بحادث الإحصاء الذي تم في الواقع بعد سبع سنوات من ولادة المسيح، فأوهم الناس أنهما لم يذهبا إلى بيت لحم إخفاء بدأ للحمل، وإنما من أجل الإحصاء الذي لم يكن لهما بد من السفر من أجله.

Page 229

الجزء الخامس ۲۲۲ سورة مريم فبناء على التاريخ الرومي، يمكننا القول إن لوقا حاول كتمان الحق، إذ لم يجر ذلك الإحصاء في ذلك العام، ولم يسافر يوسف ومريم عندئذ من أجل التسجيل، وإنما ذهبا إخفاء للولادة.وهذا هو الأمر الواقع أيضًا.فإن يوسف قد أتى بمريم إلى بيته بناء على أمر الله تعالى، ولكنه لما رأى أن إخفاء الحمل أصبح مستحيلاً، وأنه سيتعرض الآن للخزي والعار، خرج بها بعيدًا عن المدينة بحجة ما.والظاهر أنه لو رجع إلى مدينته بعد ولادة المولود فورًا للامه القوم قائلين: أنى لك هذا المولود و لم تمض على زواجك خمسة أشهر فقط؟ ولو أنه رجع بمريم ومولودها بعد تسعة أشهر بالضبط من الحمل لعرف القوم أنه ليس بمولود جديد، بل هو ابن خمسة أشهر.و لم يكن ثمة سبيل لإخفاء الأمر إلا أن يظل بعيدا عن مدينته عدة سنوات لأن الصبي الكبير لا يمكن معرفة عمره بالتحديد والواقع أن يوسف قد اضطر بالفعل للمكوث بعيدا عن مدينته سنوات عديدة.وعندي أن فترة مكوثه خارج المدينة تتراوح ما بين ثمانية أو تسعة أعوام.وباختصار، فإن يوسف لما زفَ مريم إلى بيته كان قد مضى على حملها بعض الوقت، فلو أنه أخذها بعيدًا عن المدينة ومكث هنالك لبضع سنوات، لأمكن إخفاء الحمل، ولظن الناس أن ولادة عيسى كانت بحمل شرعي؛ أما إذا رجع بمريم بعد ولادة الوليد فورًا لانكشف السر حتمًا.فمثلاً لو كان يوسف زف مريم إلى بيته في شهر إبريل لعد الناس حملها من إبريل، وعليه فينبغي أن تضع المولود في ديسمبر في رأيهم.ولكن المولود لو أتى في أغسطس أو سبتمبر لقال القوم إنه ولد الحرام، لأن زوجها قد زفها إلى بيته في إبريل.أما إذا أخذها إلى الخارج، لتضع الوليد بعيدًا عن القوم، ثم أتى بها بعد أن مضت على زفافها تسعة أشهر، لقال الرائي إن المولود ليس ابن شهر واحد أبدًا.ولو قال لهم يوسف إنه قد ولد في ديسمبر لردوا عليه كلا إنه ابن ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر.فمن ذا الذي لا يستطيع التمييز بين ابن شهر وابن أربعة أشهر؟ فما كان أمام يوسف أي سبيل لإخفاء الأمر إلا أن يظل بعيدا عن مدينته سنوات عديدة.فبما أن القرآن الكريم يخبرنا أن المسيح الله قد ولد في الأيام التي يصير ثمر النخل فيها رطبا جنيًّا – وهذا

Page 230

الجزء الخامس ۲۲۳ سورة مريم الموسم هو يوليو وأغسطس على العموم – فيمكننا القول إن المسيح قد وُلد في يوليو أو أغسطس، حيث حملت به مريم في أكتوبر أو نوفمبر.فإذا كان قد ولد في يوليو أو بداية أغسطس فتكون قد حملت به في أكتوبر أما إذا كان قد ولد في وسط أغسطس أو أواخره فتكون قد حملت بـه في شهر نوفمبر.على كل حال، يبدو من التاريخ المذكور في القرآن الكريم أن مريم حملت بالمسيح ما بين منتصف أكتوبر ومنتصف نوفمبر، حيث ولدته في الفصل الذي يجنى فيه ثمر النخل قد حملت به في نوفمبر، فلا بد أن تكون قد أخبرت أمها بذلك، فإذا كانت مريم عادةً.ولا بد أن أمها أيضًا قد أبلغت الأقارب بالحادث الذين لا بد أن يكونوا قد حزنوا وقلقوا من جرائه، ثم ذهبوا إلى يوسف وتوسلوا إليه أن يأخذ مريم إلى بيته، حتى يظل الأمر سرًّا مكتومًا.فأراد يوسف أن يرفض هذا الالتماس، ولكن الله تعالى نهاه عن ذلك في الرؤيا وأمره أن يأخذها إلى بيته فيوسف الذي كان يخاف الله تعالى، ويخاف لومة الناس، زفٌ مريم إلى بيته امتثالاً لأمر الله تعالى.لنفترض أنه أخذها إلى بيته في شهر فبراير أو مارس، ولما رأى في شهر مايو أو يونيو أن إخفاء الحمل مستحيل الآن خرج معها بحجة من الحجج نحو الجنوب، فولدت المولود في بيت لحم.فلو أنهما جاءا بالمولود إلى المدينة عندئذ لعدا من الأغبياء إذ لم يخرجا من مدينتهما إلا ليخفي موعد ولادة الوليد، حتى لا يقول له الناس كيف رُزقت المولود و لم تزف زوجتك إلى بيتك إلا في شهر مارس.ولو أنهما أتيا به بعد ستة أشهر أيضًا لعدا من الأغبياء، لأنهما سيضطران للقول أننا قد رُزقنا هذا المولود قبل شهر، في حين كان عمره الحقيقي أربعة أو خمسة شهور؛ إذ إن الفرق بين ابن شهر وابن أنهما قد مكثا بعيدا عن مدينتهما سنوات = خمسة أشهر كبير جدا.إذا فلا بد من عديدة كيلا يعرف القوم سنّ المولود الحقيقي، ولكي يظل أمر الحمل الخارق في طي الكتمان.ويتضح من إنجيل "متى" أيضًا أنهما مكثا في مصر عدة سنوات (انظر متى ٢: +1-01).

Page 231

الجزء الخامس ٢٢٤ سورة مريم فالأحداث تؤكد أن يوسف ومريم قد مكثا بعيدًا عن مدينتهما خوفا من لوم القوم، ولكن لوقا يزعم أن المسيح بدأ يأتي بالمعجزات وهو في بطن أمه، وأن الجميع عرفوا أنها حامل بالروح القدس.فإذا كان الجميع قد عرفوا بالأمر وإذا كانت معجزات المسيح أيضا قد أخذت في الظهور، فما كانا بحاجة إلى أن يخفيا الحمل، ويفرّا من المدينة وحيث إن الأحداث تؤكد أنهما خرجا من مدينتهما، وأن المولود قد ولد في الخارج، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا خرجا من المدينة؟ فاختلق لوقا من عنده الجواب عليه وقال إنهما سافرا من أجل الإحصاء، مع أن الإحصاء المشار إليه قد جرى بعد ولادة المسيح بسبع سنوات.لقد قال لوقا في نفسه لقد انقضت على تلك الأحداث سبعون أو ثمانون سنة علما أن لوقا قد كتب إنجيله بعد حادث الصليب بفترة طويلة - فمن ذا الذي سيحفظ عام الإحصاء، فلا بأس لو قلتُ إن يوسف ومريم لم يذهبا من الناصرة إلى بيت لحم إلا من أجل التسجيل.ولكن القرآن الذي لا يقول إلا الحق، قد بين ما يتفق والفطرة تماما، ويتضح منه أن المسيح لم يولد في ديسمبر، كما يزعم النصارى، وإنما وُلد في شهر يوليو أو أغسطس حين يتهيأ ثمر النخل للقطاف بكثرة.إن المسيحيين إنما ذكروا ميلاد المسيح في ديسمبر لكي يظل الأمر الواقع خافيًا على قوم يوسف، فيظنوا أن ولادة المسيح كانت نتيجة حمل شرعي بعد الزواج.هذا، وقد ذكر الإنجيل موعد ميلاد المسيح كالآتي: " وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيّتهم." (لوقا ٢: ٨).وإن في ذلك لدلالة بينة على أن الفصل كان صيفا وليس شتاء قارسًا فإن ديسمبر شهر برد قارس ومطر غزير وضباب كثيف في فلسطين.فمن ذا يمكن أن يصدق أن الرعاة كانوا يبيتون في العراء مع قطعانهم في ذلك الطقس القاسي.فثبت جليًّا أن الوقت كان صيفا.وقد قال مفسر الإنجيل العميد.A.J.GRIEVE M.A.D معلقا على ما قاله لوقا هنا ما يلي:

Page 232

الجزء الخامس ٢٢٥ سورة مريم إن هذا الموعد لا يمكن أن يكون في شهر ديسمبر.إن عيد ميلاد المسيح عندنا تقليد قد اخترع فيما بعد، وقد بدأ أولاً في بلاد الغرب ) A Commentary On The P.(Bible 727 كما كتب Bishop Georns: ليس هناك شهادة قطعية على أن ٢٥ ديسمبر هو يوم ميلاد المسيح.ولو أننا سلّمنا بقصة ولادة المسيح كما ذكرها لوقا بأن الرعاة كانوا يحرسون قطعانهم في العراء في منطقة بيت لحم في تلك الأيام، لثبت أن ميلاد المسيح لم يكن في فصل الشتاء، حين تنخفض درجة الحرارة جدا حتى يصبح سقوط الثلج على منطقة يهوذا الجبلية أمرا عاديًا.يبدو أن عيد الميلاد عندنا قد تم تحديده في حوالي عام ٣٠٠ الميلادي وبعد نقاشات طويلة.Rise Of Christianity).فثبت من p.هذه الأقوال أن ولادة المسيح اللة لم تكن في شهر ديسمبر.وخلاصة القول إن الله تعالى يقول في القرآن الكريم أن مريم لما شعرت بآلام المخاض ذهبت إلى نخلة مليئة بالرطب اليانع ولكن الوقت الذي يذكره الإنجيل لولادة المسيح ال لا توجد فيه الرطب.وقد بينت السبب وراء ورود هذا الخطأ في بيان الإنجيل، وهو أن لوقا يزعم في إنجيله أن هذا الحمل لم تطلع عليه مريم فحسب، بل إنها لما ذهبت لزيارة أختها أليصابات زوجة زكريا ارتكض يحيى في بطنها فرحًا، وهكذا عرف الآخرون أيضًا أن مريم حامل.ثم إن القرآن الكريم يكتفي بإفادتنا أن مريم تعجبت من الحمل، ولكن الإنجيل يقول أن الملاك لما بشرها بالحمل فلم تتعجب على حملها من غير زوج فحسب، بل فرحت وقالت له: "هو ذا أنا أَمَةُ الربِّ، ليكُنْ لي كقولك" (لوقا ١: ٣٨).لقد وجد لوقا هنا تعارضًا صارحًا، وهو أنه إذا كانت مريم قد صارت حاملاً بالمسيح، وإذا كان القوم يعرفون أن هذا الحمل من الروح القدس وليس من أي أب، وإذا كانت مريم مطمئنة بقول الملاك، بل كانت فرحانة بمثل ذلك الحمل، فلماذا غابت إذن؟ إن الأناجيل كلها متفقة على أن المولود قد ولد في مكان بعيد عن مدينتها.فالسؤال الذي يفرض نفسه هو : لماذا ذهبت إلى مكان آخر، ولماذا لم

Page 233

الجزء الخامس ٢٢٦ سورة مريم - تتم الولادة في مدينتها الأم؟ فلكي يخفي لوقا السبب الحقيقي لغياب مريم – وهو المحاولة لإخفاء حقيقة حمل ابنها - اختلق من عنده عذرًا آخر وقال كان الوقت وقت الإحصاء، فسافرت إلى بيت لحم من أجل تسجيل اسمها، وكان ذلك في شهر ديسمبر.وكان غرضهما من ذلك أن يقولا للناس أن المسيح قد وُلد في ديسمبر عند اكتمال تسعة أشهر على مجيء مريم إلى بيت يوسف، وهكذا ظل أمر الحمل الخارق مستورا.أما القرآن الكريم الذي ما كان له إلا أن يذكر القصة على حقيقتها، فقد ذكر التاريخ بدءًا من اليوم الذي حملت فيه مريم، بينما حاول الإنجيل أن يختلق التاريخ من اليوم الذي جاءت مريم إلى بيت يوسف.وبتعبير آخر، قد حملت مريم في شهر نوفمبر بحسب القرآن الكريم، واكتملت تسعة شهور لحملها في أواخر يوليو القادم، حيث يولد بعض المواليد بعد ثمانية أشهر ونصف، وبعضهم بعد تسعة أشهر، وبعضهم بعد تسعة أشهر ونصف من الحمل؛ فيمكن أن نقول إن المسيح ولد ما بين ١٥ يوليو و ١٥ أغسطس.وهذا موعد تكثر فيه الرطب.ولكن الإنجيل يقول أن ميلاد المسيح كان في ٢٥ ديسمبر.ولو بدأنا العد التنازلي من ٢٥ ديسمبر كان يوم حمل مريم ٢٥ مارس ولأن النصارى يذكرون تاريخ ميلاد المسيح بحسب اليوم الذي زفّ فيه يوسف مريم إلى بيته، فيبدو أنه أخذها إلى بيته في شهر مارس.لنفترض أنها صارت حاملاً في ١٥ نوفمبر وحيث إن الحمل لا يبقى خافيا في شهره الرابع، فعندما عرف يوسف بحملها أخذها إلى بيته بأمر الله تعالى؛ فلكي يوهم المسيحيون القومَ أن الحمل لم يكن بطريق الحرام، بدءوا العدّ من شهر مارس أخذ فيه يوسف مريم إلى البيت، وقالوا أنه ولد بعد تسعة أشهر التاريخ في شهر ديسمبر.فالنصارى كانوا مضطرين لأن يحددوا ميلاد المسيح في ٢٥ ديسمبر، وإلا ماذا كان جوابهم على سؤال الناس أن زفت إلى يوسف في مارس فكيف جاء المولود في يوليو أو أغسطس؟ فما كان عندهم إلا خيار واحد وهو أن يخفوا اليوم الحقيقي لولادة المسيح، ويحددوه في يوم الذي آخر.مريم من ذلك ما دامت قد

Page 234

۲۲۷ سورة مريم الجزء الخامس قصارى القول إن مريم حملت في شهر نوفمبر، وفي مارس التالي كبر الجنين وأصبح كتمان الحمل ضربًا من المحال.فلما سمع يوسف بذلك أراد أن يطلقها، ولكن الله تعالى أخبره في الرؤيا أنها لم تحمل نتيجة فاحشة، بل معجزةً من عندنا.فأيقن أن الحمل بمحض أمر الله تعالى، فوقف بجنبها وأخذها إلى بيته في شهر مارس، وربما في شهر فبراير.ثم في شهر مايو أو يونيو أخذها خارج الناصرة بحجة ما، وفي أواخر شهر يوليو أو في أغسطس وُلد المسيح الله.فظل يوسف خارج الناصرة بضع سنين، ثم عاد إليها وأخبر القوم أن الولد قد ولد في شهر ديسمبر؛ ومن الممكن أنه أخبرهم باليوم الصحيح لولادته، ولكن كتاب الإنجيل قالوا من عند أنفسهم أن ميلاد المسيح كان في ديسمبر حيث تكتمل فيه تسعة أشهر على مجيء مريم إلى بيت يوسف في شهر مارس، وذلك لكي يظن الناس أن المسيح كان من أولاد يوسف.وبهذا تنحل معضلة النخلة ورُطَبها التي ذكرها القرآن الكريم لدى ولادة المسيح، لأن الرطب تكثر في شهر يوليو وأغسطس.ومن البديهي أن يوسف كان يخجل من الحمل الخارق وكان يحاول إخفاءه، فما كان أمامه من حيلة إلا أن يتظاهر بأن الحمل حصل بعد زفافها إليه، وكان سبيله أن يذكر تاريخ الحمل مؤخرًا بأربعة أو خمسة أشهر من اليوم ،الحقيقي وبالتالي كان لا بد له من أن يذكر تاريخ الولادة أيضًا مؤخرًا بهذا القدر من الشهور من الممكن أن الإحصاء الذي جرى بعد ولادة المسيح بسبعة أعوام كان في شهر ديسمبر نفسه، فاستغل لوقا هذه المناسبة وقال أن هذا الإحصاء تم في عام ولادة المسيح.ذلك أن لوقا قد ألف إنجيله بعد الميلاد بحوالي سبعين أو ثمانين سنة، ومن ذا الذي يحفظ بعد انقضاء هذه السنين الطويلة عام الإحصاء بالضبط؟ بهذا الشرح، وهو شرح هام جدا، ومدعم بالأحداث المذكورة في التاريخ الرومي، ومؤيد بضوء روايات الإنجيل نفسه تنحل قضية ذكر النخلة وثمرها في القرآن الكريم لدى حادث ولادة المسيح.

Page 235

الجزء الخامس صلے ۲۲۸ سورة مريم فَكُلِي وَأَشْرَبِي وَقَرَى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَينَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِيَ إِنِّي نَذَرْتُ ۲۷ لِلرَّحْمَن صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) أعني التفسير: يقول المفسرون أن المراد من الصوم هنا صوم الصمت (فتح البيان)..بمعنى أنها مُنعت من الكلام معهم منعًا بأنا.ولكني أرى أن هذا باطل.الواقع أن مريم قد أُمرت بمثل الصوم الذي صامه زكريا ال.وقد سبق أن ذكرت أن الله تعالى إنما نهاه عن الخوض في حديث الدنيا، وعن أن يتكلم بصوت عال، ولم يمنعه من الكلام بصوت خافض عند الحاجة.وقد أُمرت مريم أيضا بمثل هذا الصوم، أن الله تعالى أمرها ألا تخوض في الحديث خوضًا، بل تقضي معظم وقتها في ذکر الله تعالى.فليس المراد من الصوم هنا الصوم العادي حيث يترك الإنسان طعامه وشرابه خاصةً لأن مريم كانت في النفاس آنذاك، والمرأة لا تصوم في حالة النفاس.ثم إن قوله تعالى لمريم فكلي واشربي أيضًا يؤكد أنها لم تؤمر بالصوم المعروف.فثبت أن المراد من صومها إنما هو ألا تخوض في الحديث مع الآخرين كثيرا، لأن الله تعالى يقول لها بعد ذلك فقولي إني نذرتُ للرحمن صوما؛ فلو كان الكلام ممنوعا لها بتاتا، فكيف يمكنها أن تقول للناس إني صائمة.فثبت أنه لم يحظر عليها الكلام كلية، بل سمح لها بالكلام عند الضرورة.غير أنه تعالى أوصاها بذكر الله في ذلك اليوم ذكرًا كثيرًا.والحكمة في ذلك عندي أن الوليد كان قد ولد جديدا، وكان لا بد أن يسألها كل من يلقاها : ابنُ مَن هذا؟ فأمر الله تعالى بقضاء ذلك اليوم في ذكر الله ذكرًا كثيرًا، وإذا سألها أحد شيئًا تقول له: لقد نذرت للرحمن أن أظل منشغلة بذكر الله اليوم كل الوقت.وهكذا ينتهي الحديث، ولن يكون هناك المزيد من الحوار.فالصوم هنا يعني الكف عن فضول الكلام والإكثار من ذكر الله تعالى.وقد اتضحت هنا مسألة أخرى أيضًا، وهي أن ذكر الله تعالى ليس محظورًا في حالة النفاس والحيض.يظن البعض خطاً أن ذكر الله في القلب أيضًا محظور على الحائض والنافس.مع أنها لو حظر عليها ذكر الله تعالى لماتت روحانيتها تماما.

Page 236

الجزء الخامس ۲۲۹ سورة مريم ولكن البعض يرى أنه يجوز للحائض والنافس أن تذكر الله تعالى باللسان.كان حضرة الخليفة الأول للمسيح الموعود ل يرى أن الحائض يمكنها قراءة القرآن ممسكة المصحف في يدها التي عليها ثوب أو منديل أو يكون المصحف موضوعا على ثوب طاهر، ولكن لا يجوز لها أخذ المصحف بيدها العارية لأن هناك احتمالا أن يكون بيدها شيء من نجاسة الحيض.فالنسوة اللواتي قد تعلمن القرآن الكريم من حضرة الخليفة الأول الله يتلون القرآن في أيام الحيض أو النفاس والمصحف موضوع أمامهن على ثوب طاهر.أنا لست من أصحاب هذه العقيدة، ولكني لا أمنع من يفعل ذلك، لأن القرآن كلام الله تعالى في كل حال فإذا كان أحد يرى جواز قراءة الحائض لكلام الله تعالى بهذه الطريقة فما الحرج في ذلك؟ صلے فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (2) ومع الله ونبيه (ابن كثير).أنه التفسير : يقول المفسرون أن المعنى هنا أن مريم لما فرغت من الولادة وقويت على المشي جاءت قومها محتضنة ابنها، فقالوا لها متهمين إياها: ما هذه الفعلة الشنيعة التي فعلتها؟ فقالت: لا تسألوني، بل اسألوا هذا المولود.فتكلم المسيح وقال: أنا عبد وهذا يعني أن المسيح قد كذب في أول معجزة تُنسب إليه.ذلك أنه لم يكن نبیا آنئذ، ذلك قال إنني نبي الله.قال إن الله تعالى أوصاني بالصلاة، مع كان لا يصلي، وإنما كان عندئذ يبول ويتبرز في أسماله وينجسها.فكأن المسيح، بحسب المفسرين، بدأ يتدرب على قول الكذب وهو في حضن أمه، ففي السن الذي لم تفرض عليه الصلاة قال إني أصلي، وفي الوقت الذي كان لا يزال ناقص الوعي والإدراك قال إني قد بُعثتُ نبيًّا من الله تعالى.وحجة المفسرين على قولهم هذا هو قول الله تعالى تحمله) وقوله تعالى ويكلّم الناس في المهد )) (آل عمران: ٤٧).تعالوا نر الآن ماذا يقول الإنجيل بهذا الشأن..

Page 237

الجزء الخامس ٢٣٠ سورة مريم يقول "مرقس" في إنجيله إن يسوع كان في مدينة الناصرة عند ظهور يوحنا (مرقس ۱: ۹).ويقول "متى" في إنجيله إنه لما أُلقي القبض على يحيى خرج يسوع يعني أن من الناصرة إلى مدينة كفرناحوم في منطقة الجليل (متى ٤: ١٣).وهذا "مرقس" و"متى" لا يذكران إطلاقا موعد رجوع المسيح إلى الناصرة بعد ولادته، وإنما يخبران أنه كان في الناصرة عند ظهور يوحنا، وأنه هاجر منها إلى كفرناحوم عندما أُلقي القبض على يوحنا.وهذا يعني أن المسيح الا لما شبّ وترعرع بدأ يتردد إلى الناصرة.أما لوقا فيتضح من إنجيله أن يوسف ومريم ذهبا إلى الناصرة بعد ولادة المسيح ببضعة أيام، وهناك تربى المسيح (لوقا ۲ (۳۹) وهذا يعني أن يوحنا ومتى ومرقس كلهم صامتون تماما بهذا الصدد، وأن لوقا هو الوحيد الذي يقول أن المسيح ذهب بعد الولادة إلى الناصرة.وورد في إنجيل لوقا أيضًا أن ملاك الله ظهر لمريم في الناصرة، وهناك بشرها بالحمل.وهذا يؤكد أن مريم كانت تقيم في الناصرة، ثم عند الإحصاء سافرت إلى بيت لحم، وبعد ولادة المسيح هنالك رجعت إلى مدينتها الناصرة ثانية، وأن المسيح مكث في الناصرة نفسها إلى أن أعلن يوحنا نبوته (انظر لوقا ١: ٢٦-٢٧).إذا فكانت السيدة مريم، بحسب هذه الرواية من سكان الناصرة، وأنها رجعت إلى وطنها بالمسيح بعد ولادته مباشرة.فلو كان هذا البيان صحيحًا لكان مفهوم هذه الآية القرآنية أن المسيح بدأ يكلم الناس بعد ولادته فورا، إذ يقول الله تعالى فأتت به قومها تحمله...إلخ..أي أن مريم حملت المسيح إلى أقاربها ومعارفها، فكلّمهم بهذا الكلام.ولكن فحص الأمر أكثر يكشف لنا أن قول لوقا بأن مريم كانت الناصرة قول باطل.وإليكم بيان ذلك.يقول متى في إنجيله أن مريم حين ولدت المسيح كانت في بيت لحم، ولكنه لا يذكر سكان من عن مدينتها الأم.بل يذكر في الباب الثاني في إنجيله ما يجعل المرء يظن أن وطنها كان قريبا من بيت لحم وإن لم يكن بيت لحم نفسها.ثم يقول متى إن

Page 238

۲۳۱ سورة مريم الجزء الخامس الملك هيرودس لما كان يشك أن هذا المولود الجديد سيثير القلاقل ضده حينما يكبر.ذلك لأن كهانا من المجوس القادمين من الشرق أخبروه أن مولودًا يحمل هذه الصفات قد ولد، وأنهم قد جاءوا من الشرق بعد رؤية نجمه في السماء؛ فأمرهم الملك أن يدلّوه على هذا المولود إن وجدوه.وكان بنيته أن يقتله حتى لا يضرّ بملكه.ولكن المجوس، بحسب متى، لما رأوا المسيح أتاهم الملاك في الحلم وقال لهم: لا ترجعوا إلى هيرودس بخبر الوليد فانصرفوا إلى بلادهم من طريق آخر.وبعد عودتهم ظهر الملاك ليوسف في المنام وقال: قُمْ وخُذ الصبي وأُمَّه، واهرب إلى مصر، لأن الملك مزمع على قتل الصبي.فهرب يوسف مع مريم والصبي إلى مصر.ولما رأى الملك أن المجوس قد رجعوا إلى بلادهم من دون أن يرجعوا إليه بخبر الوليد، غضب غضبا شديدا، فأمر بقتل جميع الصبيان الموجودين في بيت لحم وضواحيها سنتان فما دونها - أرى أن هذه القصة قد اخترعت تقليدًا لما وقع ممن الله تعالى أعمارهم لموسى العلية في صغره - فهرب يوسف بالمسيح إلى مصر بناء على وحي الذي أمره أن يمكث هنالك حتى يأمره بالعودة (انظر متى ٢).فترون أن هذا البيان يختلف تماماً مع بيان لوقا فإن لوقا يقول أن مريم رجعت إلى الناصرة بعد ولادة المسيح مباشرة، بينما يقول متى إنها هربت إلى مصر، وأن هذا ليس أمراً قياسيًا، بل إن الله تعالى هو الذي أمر يوسف بالوحي بألا يرجع إلى مدينته، بل بالأحرى أن يهرب بمريم وابنها إلى مصر، ويمكث هناك حتى يأمره ثانيةً بالوحي بما يجب.فأقام يوسف في مصر حتى مات الملك هيرودس، فأخبر الله يوسف بموته بالوحي، وأمره بالعودة إلى بلاد إسرائيل، فرجع.ولكنه لما علم أن أَرْخيلاوس ابن هيرودس صار ملكًا جديدًا على بلاد إسرائيل أي على منطقة يهوذا خاف أنه إذا عاد إلى وطنه فسيُقتل وهذا يعني أن يوسف كان بحسب الإنجيل من سكان بلدة من بلدان منطقة يهوذا).فأخبره الله بذلك (وكأن الله تعالى كان لا يعلم من قبل أن أرخيلاؤس قد صار (ملكا وأمره بالانصراف إلى منطقة الجليل، فأتى وسكن في مدينة تدعى الناصرة، لكي يتم ما قيل على لسان الأنبياء إن المسيح سيُدعى ناصريًّا (متی ۲: ۱-۲۳).

Page 239

الجزء الخامس هذه العبارة تفيد ما يلي: ۲۳۲ الأول: أن المسيح اللة ولد في بيت لحم.الثاني: بعد الولادة أخذ يوسف مريم وابنها إلى مصر بأمر الله تعالى.الثالث: أنه مكث هناك حتى وفاة الملك هيرودس.الرابع: سورة مريم أن الله تعالى أمر يوسف لدى وفاة الملك بالعودة إلى الوطن.الخامس: أنه لما خاف العودة إلى مدينته ذهب بأمر الله تعالى وسكن بالناصرة في منطقة الجليل.السادس: وأن الله تعالى أمره بالذهاب إلى الناصرة تحقيقا لما وعد على لسان أنبيائه أن المسيح سيُدعى ناصريًّا.والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: إذا كان يوسف من سكان الناصرة من قبل فلماذا أمره الله تعالى عندئذ بالذهاب إليها حتى يتحقق قول الأنبياء بأنه سيدعى ناصريا؟ هذا يدل صراحة أن يوسف لم يكن من سكان الناصرة، بل كان وطنه قرية أخرى، وأنه أقام بالناصرة بعد العودة من مصر.لقد ثبت من ذلك أن وطن المسيح لم يكن مدينة الناصرة، وأنه لم يؤت به إليها بعد الولادة فورا، وإنما بعد العودة من مصر.وحتى لو كان قد أُخذ إلى الناصرة فور الولادة فلا مجال أيضًا لكلامه مع أقاربه، لأنهم لم يكونوا في الناصرة، في حين أن القرآن الكريم يشير إلى كلامه مع أقاربه حيث قال الله تعالى فأتت به قومها..أي أهلها وأقاربها.لقد تبين لنا من هاتين الفقرتين من الإنجيل أن لوقا يقول أن يوسف ومريم ذهبا بعد ولادة المسيح فوراً إلى الناصرة، ولكن متى يخبر أن الناصرة لم تكن وطنهما؟ ثم حتى لو كانت أمه قد أخذته إلى الناصرة، فلا مجال لكلامه هنالك أيضًا، لأن القرآن يذكر كلامه في مكان فيه قوم مريم وعشيرتها.أما إذا كان المسيح قد ذهب إلى مصر فور ولادته، ثم عاد إلى الناصرة التي لم تكن وطنًا له، فلم يعد هناك أي مجال لكلامه في الصغر أيضًا.ذلك أن المسيح، بحسب الإنجيل، مكث في الناصرة حتى أعلن يوحنا نبوته بل حتى ألقي القبض على يوحنا.فلا يمكن اعتبار كلامه هذا

Page 240

الجزء الخامس ۲۳۳ سورة مريم ما قبل دعوى يوحنا أيضا، لأنه كان عندئذ في الناصرة التي لم يكن بها أقارب مريم الذين تكلم معهم هذا الكلام.ويتضح من إنجيل متى أن المسيح قد زار أورشليم، التي كانت مدينته الأُمّ في المناطق المجاورة لها، مرتين؛ مرةً وهو في الثانية عشرة من عمره، وثانيةً وهو في الثاني والثلاثين من عمره متى.(۲۱) ولا بد أن هذه المكالمة التي تمت بينه وبين أقارب أمه قد حصلت في إحدى هاتين الزيارتين.ولكن لم يُذكر عن المسيح حدث ذو بال لدى زيارته الأولى حين كان سنّه اثني عشر، سوى أنه كان يصغي إلى حديث الكبار ويعاف اللعب واللهو.لذا يبدو أن هذه المكالمة التي جرت بينه وأهله كانت لدى سفره الثاني لأورشليم – التي كان أقاربه ساكنين في ضواحيها – حين زارها لنشر دعوته فيها، وقد زارها في حوالي السنة الثالثة من بعثته، حيث كان قد أعلن دعواه قبل ذلك بعامين (انظر متى (۲۱) وإن هذه الكلمات التي عزاها القرآن إلى المسيح تبدو ملائمة تماما بتلك المناسبة، ولكنها لا تنسجم إطلاقا مع زيارته الأولى حين كان لا يزال صبيا.خلاصة الكلام أن القرآن الكريم يعلن أن المسيح تكلم مع أقاربه، ويقول الإنجيل أنه ذهب بعد الولادة إلى الناصرة لا إلى مدينته الأم؛ وهذا يؤكد أنه ذهب إلى مدينته في وقت آخر والمكان الثاني الذي زاره المسيح هو أورشليم وما حولها من القرى، وزيارته لهذا المكان مرتين أمر مؤكد.لقد زار أورشليم المرة الأولى في صغره حين كان أبواه غير مطلعين على كفاءاته وصفاته، وزارها المرة الثانية لتبليغ دعوته، وكان كلامه مع أقاربه في المرة الثانية.فثبت أن قوله تعالى فأتت به قومها تحمله إشارة إلى تلك الحقبة من الزمن حين كان المسيح قد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره، وكان قد أعلن دعواه.وهنا يطرح سؤال نفسه: ما هو المراد إذن من لفظ تحمله؟ فإن الأم إنما تحمل طفلها حين يكون صغيرًا.الجواب أنه مما لا شك فيه أن لفظ الحمل يعني احتضان المولود، ولكنه يعني المساندة والتأييد والنصرة أيضًا بدليل قوله تعالى في القرآن الكريم مثل الذين

Page 241

الجزء الخامس ٢٣٤ يعني سورة مريم حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا (الجمعة: ٦)..فترى أن الله تعالى يقول هنا حُمّلوا التوراة، ولكن هذا لا أنه تعالى وضع التوراة على رؤوسهم، وإنما المعنى أنه أمرهم بتأييدها وتوقيرها.ثم يقول الله تعالى ثم لم يحملوها..وليس معناه أن كل يهودي نبذ التوراة من يده، إنما المراد أنهم تركوا ود تبلیغ رسالة التوراة وتأييدها.فقد قال الإمام الراغب في تفسيره: "كلفوا أن يقوموا بحقها فلم يحملوها" (المفردات)..أي لقد أمر اليهود أن يؤدوا حق التوراة، ويؤيدوها ويقوموا بحمايتها ظاهرا وباطنا، ويعملوا بأحكامها، ويدعوا الآخرين إليها، ولكنهم لم يعملوا بهذه الوصية.فالله تعالى حين قال حمّلوا التوراة لم يقصد أنه وضعها على رؤوسهم، وحين قال ثم لم يحملوها فلم يكن المراد أن كل يهودي رمى بالتوراة على الأرض، بل الواقع أنه تعالى لما قال ثم لم يحملوها كان اليهود يحملون التوراة في الظاهر، ولما قال حُمّلوا التوراة لم يحملهم على رؤوسهم أي كتاب في الظاهر.فثبت أن الحمل يعني أحيانًا النصرة والتأييد والتشجيع ورفع المعنويات أيضًا.فالإنجيل يقول أن أم المسيح لم تؤمن به مرقس ۳: ٣١-٣٥)، فأعلن القرآن الكريم أنها أنت به قومها تحمله..أي أن أُمَّه صدقته وأيدت دعواه وعملت بتعاليمه لما أعلن النبوة.فالقرآن يفند بقوله تعالى فأتت به قومها تحمله التهمة التي قد ألصقها الإنجيل بأمّ المسيح الله، وأخبر أنها جاءت مع المسيح تصدقه وتؤيده معه وتقول للناس : كيف تسمونه ولد الحرام؟ هل أولاد الحرام يكونون كمثل هذا الولد.تكلموا لتعرفوا أولد حرام هو أم ولد حلال؟ ثم يخبر الله تعالى أنهم قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فَريًّا..أي لقد ارتكبت فعلاً نجساً، ولذلك بدأ ابنك أيضا يكذب على الله تعالى وكأنهم قالوا لها لأنه ولد الحرام فلذلك يتكلم بمثل هذا الكلام.يَتأُخْتَ هَرُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (3)

Page 242

الجزء الخامس ٢٣٥ التفسير: أي يا أخت هارون، كيف جئت هذه الفعلة الشنيعة مع يكن شخصا سيئًا، ولم تكن أُمُّك امرأة فاحشة؟ سورة مريم أن أباك لم يقول المفسرون أنه كان لمريم أخ من أم أخرى اسمه هارون (تفسير مظهري).ولكن لا أثر لهذه القصة في تاريخ اليهود، فلا يمكن الأخذ بمثل هذا القول العاري من الدليل والبرهان.ويقول بعضهم إن اليهود سموا مريم أخت هارون لكونها من نسل هارون العليا.ودليلهم هو أن أليصابات زوجة زكريا كانت من قبيلة هارون العلة بحسب التوراة، وكانت مريم من أقارب أليصابات فسماها القرآن أخت هارون (ترجمة القرآن لجورج سيل.وهذا المعنى قد ذكره أولئك النصارى الذين كانوا منصفين، غير متعصبين.في حين أن بعض المسيحيين قد طعنوا في القرآن هذه الآية، بسبب وقالوا إن هذا دليل على أن محمدا ) كان يجهل التاريخ جهلاً تاما حتى إنه لم يعرف أن هارون قد خلا قبل المسيح بأربعة عشر قرنًا (ينابيع الإسلام ص ١٠٤).وذلك بالرغم أن بعض المسيحيين الآخرين أنفسهم قد ردُّوا على الاعتراض وقالوا: إنه قول باطل.إن محمدا ﷺ كان على علم تام بتاريخ عصر موسى وهارون، حيث ذكر القرآن الكريم في مواضع عديدة منه بعض الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى وهارون عليهم السلام فلا قيمة لهذا الطعن لما كانت أليصابات من أسرة هارون ال، وكانت مريم من أقاربها، فسماها القرآن أخت هارون (تفسير القرآن لـ "ويري").ويبدو من الحديث الشريف أن هذا الطعن قد ذكر أمام النبي ﷺ ذات مرة، فقال : ذلك كعادة اليهود حيث كانوا يسمون أولادهم بأسماء أنبيائهم وصلحائهم (فتح البيان، وابن جرير).بيد أني أرى أن هذه الآية تنطوي على مفهوم آخر أيضًا يدل على أنهم قد سموا أخت هارون تعييرا بها وسخرية.ذلك لأن هارون كانت له شقيقة لم تكن أختا حقيقية لموسى.ويرى بعض المؤرخين أنها لم تكن أخنًا غير شقيقة لموسى، بل مريم

Page 243

الجزء الخامس ٢٣٦ سورة مريم كانت أختا لزوجة موسى، وكانت تُدعى أيضا مريم.ويتضح من التوراة أنها وأخاه هارون قد اعترضا على موسى لزواجه من امرأة كُوشية (العدد ١٢: ١).ويتضح من القرآن الكريم أن هذا الطعن كان شديدًا وكأنهم اعتبروا علاقة موسى مع المرأة الكوشية علاقة غير شرعية، حيث قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا (الأحزاب: (۷۰).ويبدو أن موسى ال قد مريم لا إما بالزواج من امرأة مومسة، أو من امرأة متزوجة سلفا.وأيا كانت نوعية التهمة بالضبط، فإن التوراة تخبرنا أن مريم التي اتهمت موسى أصيبت بمرض الجذام عقابا على جريمتها.ولكن الغريب أن التوراة تخبر، من ناحية، أن هارون وأخته كلاهما قد اتهما موسى بالفاحشة، ولكنها من جهة أخرى، تذكر أن مريم وحدها نالت العقاب، أما هارون فلم يقع عليه أي عقاب.وهذا يدل على أن هارون لم يتهم موسى، وإنما أضافت التوراة اسم هارون كعادتها للطعن في أنبياء الله تعالى، وإلا لكان من الواجب عقاب المحرمين على جناية واحدة.فثبت أن مريم وحدها التي طعنت في موسى.وتضيف التوراة أن هارون شفع لمريم هذه، فدعا لها موسی، فعفا الله عنها، فشفيت من الجذام بعد سبعة أيام.ولكن مريم هذه التي كانت تذكر في التوراة بكل عظمة وإجلال قبل هذا الحادث، لم تُذكر بعد ذلك بأي إكرام، بل إن البعض قد اتهمها بمساوئ أخرى أيضًا العدد) ۱۲ : ١٥).فأرى أن قول اليهود للسيدة مريم يا أخت هارون كان على سبيل التعيير والسخرية، فقالوا يا مريم لقد ارتكبت جريمة بشعة تستحقين عليها عقابًا كالجذام مثل أخت هارون فقد أثرت فتنة كالتي أثارتها مريم أخت هارون.إنها اتهمت موسى بالفاحشة، وأما أنت فقد ارتكبت الفاحشة، مع أن أباك لم يكن من الأشرار، كما لم تكن أمك من المومسات.فما هذا الشر الذي أثرته؟ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (3)

Page 244

الجزء الخامس العلمية ۲۳۷ سورة مريم التفسير: لقد سبق أن بينت أننا نؤمن بأن المسيح الله قد ولد من غير أب وكانت ولادته آية من الله تعالى، وذلك لأن الله تعالى كان قد قرر نقل النبوة من نسل موسى إلى بني إسماعيل.كانت النبوة مستمرة في بني إسحاق منذ زمن طويل، فما كانوا ليتخيلوا أن النبوة يمكن أن تُنزع من بيت بني إسرائيل وتنقل إلى أمة أخرى.فكانوا بحاجة إلى هزة عنيفة، وتمثلت هذه الهزة في صورة ولادة المسيح اللي من غير أب.لا شك أن ولادته كانت معجزة ولكنها انطوت على نوع من الابتلاء والاختبار ذلك لأن المعجزات أنواع؛ فمنها ما يكون سببًا لهداية الناس وإتماما للحجة عليهم، وهي من المعجزات التي يمكن إقناع العدو بها، إذ لو استحال إقناع المعارض بها ما كانت حجة عليه.فالمعجزات التي تقع حجة على المنكرين لا بد لها أن تكون مما يمكن إقناع العدو به.فمثلاً، هناك نبوءة قد أُدليت وأُعلنت، فاعترض عليها المعارض وناقشها من شتى النواحي، ثم تحققت النبوءة في آخر المطاف؛ فهذه معجزة لا يسع أحدًا إنكارها إلا المعاندين المتعنتين.فمثلاً، إن إعجاز القرآن لمعجزة يمكننا إقناع المسيحي بها.نقول له: ها هو القرآن أمامك، فأت بكتاب مثله إن كنت من القادرين.وبالمثل إن الإتيان بالمعارف الإلهية أو الاطلاع على دقائق أسرار الفطرة معجزة يمكن إقناع كل إنسان بها.فالمعجزات التي غايتها هداية القوم لا بد لها أن تكون مما يمكن إقناع العدو به.ولكن هناك نوع من المعجزات التي تقع لتقوية إيمان المؤمنين فحسب، وليس من الضروري إقناع الناس بها.إنها تظهر لزيادة إيمان المؤمنين فحسب، وتقع بحيث يصدقها المؤمن ولكن الكافر لا يقتنع بها.ومثاله أن الماء انفجر ذات مرة من بين أصابع رسولنا الكريم ، وأن قدحا من الماء سدّ حاجة كثير من الناس، أو أن الطعام كان قليلا، ولكن ببركة دعاء النبي أكله عدد لا بأس به من القوم حتى شبعوا (مسلم: كتاب الفضائل، باب معجزات النبي ، البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، وباب غزوة الحديبية).وكان من قبيل هذه المعجزات أيضًا سقوط بقعات حبر أحمر من الغيب على قميص لسيدنا المسيح الموعود العلي (سرمه جشم آريه ص ۱۸۰ الهامش).

Page 245

الجزء الخامس ۲۳۸ سورة مريم ومثاله الآخر ما رأيته في حالة الكشف بأن المسك قد وضع في فمي، ولما استيقظت كان فمي يتضوع مسكًا.فأيقظتُ زوجتي وقلت لها: شُمِّي فإني لأجد ريح شيء طيب من فمي.فشمت فمي وقالت هذه رائحة المسك.فلا شك أن هذه المعجزة قد زادتني أنا وزوجتي إيمانًا، ولكن لا تأثير لها على الآخرين.وذات يوم كنتُ صائمًا وشعرت بالعطش الشديد، وبينا أنا أقاسي آلام العطش إذ استولت علي حالة من الغيبوبة، فرأيت أن ملاكًا قد جاء، ووضع في فمي قطعة "البان" *.ولما استيقظت لم أجد للعطش أثرا على الإطلاق.من إن هذه المعجزات تظهر لتقوية الإيمان وتخص المؤمنين.إن المؤمن يصدقها، ولكن غير المؤمن سيقول إن الرجل قد اختلق هذا الإفك وأمر أتباعه بنشره.ولكن هنالك من المعجزات التي تكون آية، أي تقع لإتمام الحجة على المعارضين ويمكن عرضها على الأعداء علانية بدون تردد.ثم هناك من المعجزات التي تكون اختبارية تنطوي على عنصر من الألم والحزن، ولكن الله تعالى يظهرها لبعض الحكم؛ وكانت ولادة المسيح الله من قبيل هذه المعجزات.فإن الله تعالى أخبر اليهود من خلالها أن النبوة على وشك الانتهاء من بينهم، وعلامة ذلك أنه قد خلق المسيح من دون أب كان من المحال لأهل الدين اليهودي أن يصدقوا أن النبوة ستُنزع منهم وستنقل إلى أمة أخرى، وأراد الله تعالى أن يلفت أنظار الأمة اليهودية إلى محمد رسول الله ، فخلق المسيح من بطن عذراء.لا شك أن ولادته كانت معجزة، ولكنها لم تكن بمعجزة لليهود إطلاقًا.فكذبوها بمجرد أن سمعوا عنها، وقالوا إنه – معاذ الله – ولد الحرام.بل لم تكن هذه المعجزة مدعاة لتقوية إيمان المسيح نفسه، فلذلك كان يسمي نفسه ابن الإنسان خجلاً، لأن الناس لا بد أن يكونوا يسألونه عن أبيه، فكان يجيب أنا ابن الإنسان.بينما اتبع القرآن طريقا سهلاً فنسبه إلى أمه وسماه ابن مريم.فلا شك أن * "البان" في الأصل اسم شجرة في الهند.يلقون في ورقها بعض البهارات مثل الهيل وغيره مع حلويات معطرة، ويضعونها في الفم، فتنظف الفم وتعطره، كما تفرّح القلب.(المترجم)

Page 246

الجزء الخامس ۲۳۹ سورة مريم ولادته معجزة، ولكنها صارت حجر عثرة لبني إسرائيل، وتنبيها للنصارى بأن النبي الذي تؤمنون به ليس له أب من بنى إسرائيل، وهكذا فإن الله تعالى قد غير مسرى مع أمة النبوة بواسطته، وكشف أن النبي القادم لن يُبعث من بينكم بل يكون من أخرى.إذا فجاءت هذه العثرة لتلفت الأنظار إلى محمد رسول الله ﷺ تجهيزا للمسيحيين لكي يدخلوا في الإسلام.ثم يقول الله تعالى فأشارت إليه..أي لما جاءت مريم مع المسيح إلى قومها قالوا يا مريم كيف ارتكبت الفاحشة أنك عائلة شريفة؟ فأومأت إلى من المسيح.وهذا يعني أن مريم كانت تعرف أن المسيح سيرد عليهم حتمًا.وهذه الجملة أيضا تفنّد موقف أولئك الذين يزعمون أن المسيح قد تكلم عندئذ كمعجزة.إذ كيف عرفت مريم أنه سيتكلم عندئذ؟ فقوله تعالى فأشارت إليه يدل بكل وضوح أن المسيح كان يتكلم من قبل أيضًا، ولذلك عرفت مريم أنه سيتكلم في تلك المناسبة أيضا.ولو قيل هنا أن مريم كانت قد أخبرت سلفًا أنه يكلم الناس في المهد و كهلا (آل عمران: ٤٧)..ولذلك أشارت إليه، فالجواب أن هذا الوحي الذي تلقته مريم عن كلام مولودها لا يحدّد المناسبة التي سيتكلم فيها الوليد، وإنما يخبر إنه سيكلم الناس فقط.فلو كان هناك وعد إلهي لمريم بأن وليدها سيكلم الناس دائما خلال فترة رضاعته لفهمنا أنه كان يكلم من قبل ولذلك أشارت إليه مريم في تلك المناسبة أيضًا.ولكن لا أحد يقول بكلام المسيح في زمن رضاعته قبل ذلك الحادث ولا بعده، فلا يمكن أن يكون الوعد الإلهي المذكور في سورة آل عمران هو الذي جعل مريم تشير إلى وليدها ليتكلم.بل الواقع أنها أشارت إلى وليدها دحضا لطعن اليهود الذين اتهموها بارتكاب الفاحشة وجلب العار على عائلتها وقومها؛ فردت على طعنهم بأن أشارت إلى ولدها وقالت يمكن أن تكلموه لتعرفوا هل هو حصيلة الفاحشة.لو صح ظنكم فكيف جاء هذا الطفل العظيم نتيجة الفاحشة؟ إن هذا الصبي في حد ذاته يمثل ردًّا مفحما على شبهاتكم ووساوسكم، ويبرئ ساحتي من تهمتكم.

Page 247

الجزء الخامس ٢٤٠ سورة مريم أما قوله تعالى قالوا كيف نكلّم من كان في المهد صبيا، فيقدم كدليل على كلام المسيح الا في بداية طفولته.فليكن معلوماً بهذا الصدد أن المهد يُطلق على زمن التحضير والإعداد أيضًا.يقول الله تعالى في القرآن الكريم ومهدت لـه تمهيدًا) (المدثر: ١٥)..أي أتيتُ الكافر مالاً وثراء، وهيأت لرقيه وتقدمه أسبابًا كثيرة.فثبت أن كلمة المهد تُستعمل أيضا لفترة التحضير والإعداد وهو زمن الشباب، لأن الإنسان يستجمع فيه شتى القوى ليستهلكها في المستقبل.وهنا أيضًا قد استعمل القرآن لفظ المهد على سبيل الاستعارة بمعنى زمن الشباب.وإن كبار القوم يذكرون عموما شبابهم بمثل هذه الألفاظ، ولا يعنون بذلك أنهم لا يزالون في المهد والأرجوحة، وإنما المراد أنهم لا يزالون صغارًا جدا مقارنة بهم.فمثلاً كان عمر النبي ﷺ قرابة ستين سنة وقت صلح الحديبية، وكان قد دخل في الشيخوخة، ومع ذلك لما جاءه أحد رؤساء مكة الكافرين للتفاوض خاطب نبينا مرة بعد أخرى يا ابني أنصحك أن ترضى بقولي.ذلك لأن هذا الرئيس كان يبلغ من العمر حوالي ثمانين سنة.فلا غرابة لو قال كبار القوم عن أحد: كيف نكلّمه وهو وليد الأمس.وكان المولوي سيد محمد أحسن الأمروهي كلما غضب بشدة قال لأعضاء مؤسسة "أنجمن"*: كيف تتكلمون أمامي أيها الأطفال الرضع المولودون أمس؟ أفلا يكون مهزلة لو أخذ أحد قول المولوي الأمروهي هذا، وقال إن اللجنة التي شكلها سيدنا المسيح الموعود ال كان بين أعضائها البالغ عددهم أربعة عشر شاب واحد، أما الآخرون فكانوا أطفالاً رُعًا؟ فقول اليهود يماثل قول المولوي سيد محمد أحسن المحترم.لقد قالوا كيف نكلّم هذا الصبي الذي كان يلعب أمام أعيننا أمس في أسماله الوسخة.كلهم * كلمة "أنجمن" تعني حرفيا مجموعة النجوم، والمراد منها هنا المجلس الإداري المركزي الــــذي شكله سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي الا لمساعدته في إدارة أعمال الجماعة، وكان حضرة المفسر والمولوي الأمروهي – رضي عنهما – من كبار أعضاء هذا المجلس.(المترجم) الله

Page 248

الجزء الخامس ٢٤١ سورة مريم بمعنى أنه لا يزال في سن التعلم، فماذا سيعلّمنا نحن حتى نكلمه؟ وكأنهم قد تظاهروا بعلمهم وتفاخروا بفضلهم وسنّهم.فاستنتاج بعض المسلمين من قوله تعالى ويكلّم الناس في المهد وكهلا بأنه كان بمثابة نبأ من الله تعالى بأن المسيح سيتكلم في صغره وفي مهده المادي استنتاج خاطئ.ذلك لأن الله تعالى قد أضاف مع المهد كهلا أيضًا.فإذا كان كلام المسيح في المهد معجزة فهل كان كلامه في كهولته أيضًا معجزة؟ ألا يتكلم الناس في سنّ الكهولة..أي ما بين ٣٣ إلى ٥٠ عاما ؟ هل يُعتبر كلام الكهل أيضًا من كبار المعجزات؟ إذا فوجود لفظ كهلاً مع المهد يدل أن هذه الآية لا تشير إلى معجزة كلامه في موعد خاص، وإنما إلى معجزة نوعية كلامه.لو كان المراد هنا كلامه في عمر معين لما أُضيف هنا كلمة كهلا).إذا كان الكلام في الكهولة يُعدّ ،معجزة، فيمكن أن يعد الكلام في المهد أيضًا معجزة؛ أما إذا كان الكلام في الكهولة أمرًا عاديًا، فلا بد أن يراد بالمهد هنا ذلك السن الذي يتكلم فيه عامة الأولاد.وقد يقال هنا: فلماذا أوحى الله تعالى إذا لمريم بأنه سيكلم الناس في المهد؟ والجواب أن السبب وراء إخبار الله لمريم بكلام المسيح في المهد هو نفس السبب الذي كان إخباره لها بكلامه في الكهولة.ألا يتكلم الناس في الكهولة؟ فإذا كانوا يتكلمون فلماذا نبأها الله تعالى بكلامه حين يكون كهلاً؟ فثبت أن هناك سببًا آخر وراء هذه النبوءة، وعلينا أن نبحث عنه.لا بد أن يكون في کلامه عنصر الإعجاز، وإلا لما أنبأ الله تعالى بذلك، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو هل كان كلامه معجزة نظراً لعمره أم لسبب آخر ؟ نحن نسلّم أن الوليد الذي عمره شهران إذا تكلم لكان معجزة عظيمة، ولكن المشكلة أن القرآن الكريم قد قال هنا إنه سيتكلم في سن الخمسين أيضًا؛ فكيف صار كلامه في سن الخمسين أيضا معجزة يا ترى؟ والجواب هو نفس ما ذكرته أعلاه بأن الكلام يكون في حد ذاته معجزة أيضًا بغض النظر عن العمر.فمثلا إن القرآن الكريم لمعجزة عظيمة جدا، ولكن هل

Page 249

الجزء الخامس ٢٤٢ ومع سورة مريم نزل القرآن على النبي ﷺ وعمره شهران أم أربعون عاما؟ لقد بدأ نـزوله على النبي الله في سن الأربعين، واستمر نزوله حتى سن الثالثة والستين، ذلك نعد هذا الكلام معجزة؟ فهل نعتبره معجزة لأنه نزل عليه وسنه شهران وثلاثة أشهر؟ كلا، بل نعدّه معجزة لنوعية هذا الكلام؟ فإننا نؤمن بأن القرآن كلام عظيم منقطع النظير حتى إن العالم كله لعاجز عن أن يأتي بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.فالمراد من قوله تعالى ويكلّم الناس في المهد وكهلا أن المسيح سيتكلم كلامًا إعجازيا في زمن شبابه وإعداده، وكذلك في زمن كهولته.والحق أن الأنبياء كلهم يتكلمون بمثل هذا الكلام لكونهم من المحبوبين المقربين لدى الله تعالى.فهذا هو رسولنا الكريم ﷺ الذي لم يزل يتكلم بكلام لا يبلغ شأوه كلام المسيح ولا كلام موسى عليهما السلام؛ إذ لا قيمة التوراة والإنجيل إزاء القرآن الكريم؟ مع أنه قد تكلم بهذا الكلام منذ سن الأربعين.فالله تعالى وحده الذي كان قادرًا على أن يخبر إذاك أن المسيح سيتكلم بمثل هذا الكلام العظيم.إذًا فالمعجزة لا تكمن في أن يتكلم ولد سنه شهران، وإنما تكمن في المزايا والمحاسن التي يتسم بها هذا الكلام.فلا داعي لتفسير لفظ في المهد بأن المسيح تكلم في صغره، بل إذا كان قد تكلم في شبابه بما ليس في وسع الإنسان العادي أن يتفوه به فكان ذلك أيضا معجزة.شأنه شأن رسولنا الكريم الذي تكلم بالقرآن في سن الأربعين، ومع ذلك كان كلامه معجزة منقطعة النظير.فكما أن كلام النبي ﷺ وموسى وغيرهما من الأنبياء في السن المتقدمة كلامًا إعجازيًّا، وكان الله تعالى وحده القادر على التنبؤ بنوعية کلامهم كذلك الحال بالنسبة لكلام المسيح.فثبت أن الله تعالى ما أنبأ عن كلام لأنه سيتكلم في المهد، وإنما أنبأ بذلك نظرًا إلى نوعية كلامه إذ سيكون متحليا بصفة ،الإعجاز، ومن أجل ذلك ذكر الله تعالى مع المهد كلمة الكهل أيضًا؛ ذلك لأن الكلام الخاص كما يكون إعجازيا في الشباب يكون إعجازيا في الكهولة والشيخوخة أيضا.المسيح

Page 250

الجزء الخامس ٢٤٣ سورة مريم قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَاتَننِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (3) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَنِي بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ( وَبَرَّأُ بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) التفسير: وجدير بالذكر أيضًا أن قوله تعالى ويكلم الناس في المهد لو فُسّر بأن المسيح اللي قد تكلم بهذا الكلام وهو طفل رضيع، لأصبحت كل الأمور المذكورة في هذه الآيات كذبًا وزوراً.فلو كان قد تكلم بهذا الكلام وهو صبي عمره شهران فتدبروا في ما يقول؟ يقول إني عبد الله.ولا يراد بقوله العلي إني عبد الله أنه مجرد مخلوق من خلق الله تعالى، لأن جميع الخلق متساوون معه في هذه الصفة، في حين أن المسيح يذكر هنا خصوصياته التي يتميز بها على الآخرين.إنما المراد من قوله إني عبد الله أنه مطيع الله تعالى طاعة كاملة، وكاشف للصفات الإلهية والأخلاق الربانية للعالم.فلو سلّمنا الآن أن المسيح الطفل الرضيع قد قال هذا الكلام فلا شك أنه قد كذب، ولم يأت بأي معجزة؛ إذ كان عندها لا يزال بحاجة إلى أمه لتطهره من النجاسة، وترضعه من ثديها فكيف يمكن أن يقول إني وهو ممسك بثدي أمه يمتصه.لقد كان مشهدًا مثيرا بالفعل! إذ كان يقول للناس إني عبد الله، ثم يدير وجهه إلى أمه ويرضع ثديها.فهذا يعني أنه كان يتصرف تصرُّف المواليد الرُّضَع، ومع ذلك كان يدعي أنه من المقربين الأطهار عبد الله الكبار ! ثم إن كل ما قاله يصبح كذبا وزوراً.يقول إني عبد الله، وأؤدي الصلاة، مع أنه لم يكن يقوم عندئذ بأي عبادة، بل لو أنه بدأ الصلاة وفق ادعائه هذا، لرمته أمه بعيدا وذهبت ليظل ملطحًا بنجاساته طوال النهار.ثم يقول أتاني الكتاب).وأي كتاب أعطاه الله في ذلك الوقت، يا ترى؟ ثم يقول وجعلني نبيا ، مع أن هذا كذب، لأنه لم يكن قد بعث نبيا في ذلك الوقت.

Page 251

الجزء الخامس ٢٤٤ سورة مريم ثم يقول وجعلني مباركًا أينما كنت.كان لا يستطيع المشي أيضًا، بل كانت أمه تحتضنه هنا وهناك، ومع ذلك يقول إن بركة الله أينما ذهبت! معي أنه كان لا يقدر على أن يتطهر من مع ثم يقول وأوصاني بالصلاة ، 6 نجاسته، بل كان الآخرون يقومون بتنظيفه وتطهيره.ثم إنه كان لا يعرف عندها كيف يصلي؟ ثم قال وأوصاني الله ب الزكاة.كانت أمه هي التي تصنع له الخرق والأسمال، ومع ذلك يقول إن الله تعالى أمرني بأداء الزكاة.وثم قال وبَرًّا بوالدتي...أي جعلني الله مطيعا لأمي.متى كان بوسعه عندها أُمَّه؟ بل بالعكس كانت تسقيه لبنها وتحمله هنا وهناك؛ وتبيت لياليها أن يطيع ساهرة على راحته.ثم قال ولم يجعلني جبّارًا شقيًّا.كان يبكي لو قرصه أحد قرصة بيده، فأنى له أن يكون عندئذ جبارا شقيًّا.إذا فلو سلمنا بأنه قد تكلم بهذا الكلام في صغره لعد كلامه هذا كله كذبًا وزوراً.يقول الناس إن هذا الكلام الذي جرى على لسانه في الصغر كان في الواقع أنباء لتتحقق في المستقبل.وأنا أقول: إذا كانوا يعتبرون كل هذه الأمور أخبارًا مستقبلية، فلماذا لا يعتبرون كلامه في المهد أيضًا من الأنباء المستقبلية، لتنحل المشكلة كلها؟ من ثم علينا أن نفكر ماذا أراد الله بهذا؟ يقول أصحاب الرأي الأول: كان الهدف كلامه بهذا الأسلوب أن يري الله تعالى معجزة لليهود.ولكنا نرى أن اليهود لم ينتفعوا من هذه المعجزة شيئا، إنما ازدادوا كفرا وإنكارا، وقالوا إن كل ما يقول المسيح كذب وافتراء.إنه يقول: لقد أتاني أنه لا أي كتاب.ويقول: لقد جعلني الله نبيا، مع الكتاب، الله أنه ليس معه مع يستطيع بنفسه أن يطهر نفسه من النجاسة، بل إن أمه هي التي تقوم بتنظيفه وتطهيره.ويقول إن الله أمرني بالزكاة مع أنه لا يملك قرشًا واحدا.

Page 252

الجزء الخامس ٢٤٥ سورة مريم ولو قيل: إن كلامه في ذلك العمر الصغير كان حجة على المعارضين..أي لم تكمن المعجزة في أي شيء سوى أنه تكلم في ذلك العمر الصغير، فالجواب: ما الداعي إذن لأن يتفوه بكل تلك الأمور التي كانت كذبًا في كذب؟ كان يكفيه أن يقول مثلا: "كيف حالك يا عم.ما هذا الذي تقوله، يا عم؟ ألا تخاف الله تعالى." فلو أنه تفوه بهذه الكلمات فقط لهرب على الفور كل الفقهاء والفريسيين الكبار ذوي العمائم والعباءات دون أن يتكلم بكل هذه الأكاذيب.الحقيقة أن السيدة مريم ظلت مقيمة في مكان خارج مدينتها بعد ولادة المسيح لمدة طويلة، ولما بلغ الثلاثين من عمره (لوقا ۳: ٢٣) وشرفه الله تعالى بالنبوة رجعت معه إلى قومها.ويبدو أن أقاربها المشاكسين ظلوا متربصين بها، فلم ينفعها غيابها عن المدينة، واطلع هؤلاء على السر الذي حاولت كتمانه، أو أن الله تعالى نفسه أراد أن يفشو سرها لتزداد المعجزة جلاء وعيانا.....فلما رجعت ورأوا معها مولودها المشهور الخبر عيّروها به فما استطاعت الرد عليهم خجلاً، بل أشارت إليه.ولكن الولد أصبح الآن شابا، وقد صار نبيًّا، فرد عليهم وقال: ما هذا الهراء الذي تهذون به.إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيًّا..أي أنني إنسان متخلق بأخلاق الله، وإن صفاته تعالى تنعكس في أعمالي وتصرفاتي.وقد أعطاني الله الكتاب، وبعثني نبيًّا.فهل مثلي يكون من أولاد الحرام؟ ثم قال وجعلني مباركًا أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمتُ حيًّا ).فلو قلنا أنه قد نطق بهذا الكلام وهو طفل رضيع، فهذا يعني أنه كان في أيام رضاعته يتجول في المدينة هنا وهناك ويؤدي الصلوات، ويؤتي الزكاة، لا يعتقد به أي من المسلمين ولا النصارى.أما إذا قالوا أنها كانت أنباء تتعلق بالمستقبل، قلنا: لقد تكلم المسيح بهذا الكلام في تلك السن الصغيرة لكي يصدقه الناس، بيد أن الذي حصل فعلاً هو أن هذا الكلام زادهم نفوراً وإعراضاً، حيث قالوا: إنه شخص كذاب، انظروا إلى حالته وإلى أكاذيبه.لا شك أنه حين قال لهم آتاني الكتاب ردوا عليه بأنك تكذب مع أنه أمر

Page 253

الجزء الخامس ٢٤٦ سورة مريم كذبًا صريحًا.أرنا ، أين هذا الكتاب؟ ولو افترضنا أنه أراهم الكتاب فأيضا ما كان بوسعه أن يعمل بذلك الكتاب في تلك السن.ثم إنه لما قال وجعلني نبيا فلا بد أنهم قد ردوا عليه: كيف جعلك الله تعالى نبيا وأنت لا تزال تمص ثدي أمك.ولما قال لهم وجعلني مباركًا أينما كنت فلا بد أنهم قالوا له: إنك لا تترك حضن أمك، ومع ذلك تقول إني مبارك من عند الله تعالى أينما ذهبت! ولما قال لهم وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيًّا فلا بد أنهم يكونون قد ردوا عليه قائلين: حسنًا، أخبرنا كم صلاة أديتها حتى اليوم؟ ثم كيف تزعم أن الله تعالى قد أمرك بأداء الزكاة وليس عندك قرش واحد؟ ولما قال لهم وبَراً بوالدتي فلا بد أنهم قالوا له: كيف تزعم أنك جد محسن إلى أمك، ومطيع لها تماما، مع أنك تنجس ثيابها بالبول، وتمتص دمها أي لبنها.ولما قال لهم ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا..أي لستُ ممن يظلم الناس ويهضم حقوقهم، فلا بد أنهم أجابوه : أَنَّى لك أن تظلم الناس وأنت لا تزال بحاجة إلى مساعدة الآخرين في كل شيء.ولكن المسيح الله لو لم يتفوه بكل "هذه الأباطيل"، وإنما اكتفى بقوله: يا عم، لم تظلم أُمّي، وما هذا الهراء الذي تهذي به ضدها، لهرب عنه أحبار اليهود ورهبانهم.إذا فإن هذه الدعاوى العريضة لا تترك هذا الحدث معجزة أبدا، وإنما تجعله كذبًا صريحًا لا يمكن أن يقتنع منه العدو أبدًا.فالواقع لقد جئت أن هذه الأقوال ترجع إلى الزمن الذي كان المسيح فيه فتى يافعا عمره ثلاثون سنة، وجاء إلى أورشليم.كانت أمه أيضًا في رفقته، وكانت تدرك أن أقاربها سيطيلون عليها لسان الطعن بسبب ولدها.فلما قالوا لها يا مريم شيئًا فريًّا قالت لم تعيرونني؟ اسألوه هو ؟ فقال لهم المسيح ال: ما هذه الأقاويل التي تهذون بها.إن الله تعالى قد جعلني نبيًّا، ومنحني الورع والطهر، ووهب لي علمًا وأخلاقًا فاضلة.لو كانت أمي امرأة فاحشة لما جعلني الله بَرًّا بها.إنه لبِرُّ أُمّي وتقواها الذي بسببه قد اختارها الله تعالى ورزقها ابنا بارا مثلي.

Page 254

الجزء الخامس ٢٤٧ سورة مريم فليس المراد من المهد هنا زمن الطفولة والصغر، وإنما قد تكلم المسيح بين سن بهذا الكلام فيما بعد حين بلغ ثلاثين سنة أي قبل الكهولة التي هي الثلاثين إلى الخمسين حيث تبدأ بعده الشيخوخة.لقد بعث المسيح نبيا في سن الثلاثين، وبقي في وطنه حتى الثالثة والثلاثين من عمره فتكلم مع أهل وطنه في المهد والكهولة، أما في الشيخوخة فتكلم مع أهل البلاد الأخرى.لقد بينتُ في تفسير هذه الآيات حتى الآن نظرية القرآن الكريم حول كلام المسيح ال..أي هل تكلم بهذا الكلام حين كان طفلاً رضيعا في حضن أمه، أم حين شرفه الله تعالى بالنبوة.ولكن هذه الآيات، كما هو واضح للجميع، لا تخص المسلمين وحدهم بل المسيحيين أيضًا، الذين قد يقولون إن بيان القرآن عن زعيمهم غلط؛ لذا أبين الآن ما إذا كان المسيحيون يصدقون بأن المسيح قال إني آتاني الكتاب وجعلني نبيا أم لا؟ إن المفسرين والكتاب المسيحيين الذين قاموا بتفسير القرآن وألفوا كتبا عن الإسلام قد استشاطوا غضبًا عند قراءة هذه الآية، وشنوا هجومًا شرسًا على رسول الله ، وقالوا إنه - والعياذ بالله - قد عزا إلى المسيح هذه المفتريات دعما لدعواه (تفسير القرآن لـ "ويري" مجلد ۳).عبد الله وهذا يعني حصل هو أنهم أتاحوا بذلك للمسيحيين الفرصة لكي يسبّوا ويكذبوا سيدهم ومولاهم محمدا رسول الله ! إنهم يقولون إن المسيح إله، فأنى له أن يقول إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًّا.ويقولون في غضب وكره شديدين أن محمدا - والعياذ بالله - قد أراد أن يثبت دعواه، فعزا إلى المسيح هذه الكلمات والدعاوى كذبًا وافتراء.إن المسيح لم يقل هذا الكلام قط، فلا يمكن أن يعزى إلى المسيح بحال من الأحوال.أن علماء المسلمين قد نسبوا بأقوالهم معجزةً إلى المسيح، ولكن ما إذا فلا يمكننا والحال ،هذه أن نتجاوز هذه الآيات بدون أن نبرهن بما لا يدع مجالا للشك على أن ما ذكره القرآن هنا هو الحق، وأن الأناجيل أيضا تؤكد ما جاء في القرآن الكريم.فالأمر لا يخص تعليم الإسلام أو تاريخه فحسب حتى نمر به

Page 255

الجزء الخامس ٢٤٨ سورة مريم أمة، صامتين وظانين أنه أمر لا علاقة له بالأغيار كلا، بل إنها أمور تخص زعيم وقد أعلن القرآن أن زعيمهم قد قالها فعلاً؛ لذا يحق لأتباع هذا الزعيم أن يقولوا لنا بالله فأتوا برهانكم من الإنجيل إن كنتم صادقين، وإلا فقد ثبت أن القرآن - والعياذ من افتراء البشر، وأنه قد حاول خداع الناس.أما إذا ثبت أن ما قاله القرآن الكريم هو الحق، وأن هذا ما يؤكده الإنجيل أيضًا، حُلّت لنا قضيتان، أعني أن هذا سيكون دليلاً على أن المسيح لم يتكلم بذلك الكلام في طفولته، كما أنه سيشكل برهانًا على أن المسيح لم يدع الألوهية قط، بل كان إنسانًا كغيره من البشر الموجودين في الدنيا.إن من الأمور التي يعزوها القرآن إلى المسيح ال قوله إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيًّا.وإذا ثبتت هذه الأمور لم يبق هناك شك ولا شبهة في أن المسيح لم يكن إلها ولا ابن إله، بل كان مجرد نبي من عند الله تعالى.بيد أنه مما لا شك فيه أن من حق المسيحيين أن يغضبوا هنا ويقولوا أن القرآن قد نسب إلى المسيح دعاوى لا حقيقة لها، ولكن ليس من حقهم أن يلجأوا إلى البذاءة والسباب.والواقع أننا عندما نقرأ الإنجيل بإمعان وتدبر نجد أن عقائد المسيحيين إنما هي حصيلة سوء الفهم، وأن ما يقوله القرآن الكريم هو الحق والصواب، وإليك بيان ذلك.فنتوجه عبد الأمر الأول: إن أول ما نسبه القرآن الكريم هنا إلى المسيح هو قوله الله.فلو أن الإنجيل قال أيضا إن المسيح عبد الله لثبت أن القرآن على الحق.أولاً إلى هذا الأمر ونقدم على صدق بيان القرآن العبارة التالية من الإنجيل: "ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرَّب من إبليس.فبعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاعَ أخيرًا، فتقدَّمَ إليه المحرب وقال له: إن كنتَ ابن الله فقُلْ أن تصير هذه الحجارة خبزًا؟ فأجاب :وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله.ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه

Page 256

الجزء الخامس ٢٤٩ سورة مريم على جناح الهيكل وقال له: إن كنتَ ابن الله فاطرَح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.قال له يسوع مكتوب أيضًا لا تحرّب الرب إلهك.ثم أخذه أيضًا إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي.حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.(أقول: إن هذه الفقرة تبين أنه بالرغم أن المسيح لم يسجد للشيطان إلا أن أُمته سيسجدون للشيطان في آخر المطاف، لأن الإنجيل يخبر أن ملك الدنيا يتيسر نتيجة السجود للشيطان).ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت ، فصارت تخدمه" (متى ٤: ١- ١١).كم هي مفصلة وصريحة هذه الفقرة في دلالتها على كون المسيح واحدا من البشر ! فإن أول ما ورد هنا أن الشيطان جاء لاختباره ولا أحد من العقلاء يمكن أن يصدق أن الشيطان الذي جاء لاختبار المسيح كان لا يعرف من هو الإله، وما هي صفاته، وما قدرته.فحيثما ذُكر الشيطان في الكتاب المقدس نعرف منه أن الشيطان كائن متمرد، لم تتيسر له معرفة الله تعالى كاملة، ولكنا نعرف من بيان الكتاب المقدس أيضًا أن الشيطان كان يعرف من هو الإله، وما هي صفاته وقدراته.فذهاب الشيطان إلى المسيح لاختباره، رغم معرفته أن اختبار الله تعالى محال، يكشف بجلاء أن الشيطان كان يعلم أن المسيح ليس بإله، وإلا فما الحاجة لأن يذهب لاختبار الإله؟ ثم ورد أن المسيح: "بعد ما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا".فلو كان المراد من صيامه أربعين نهارًا وليلة أنه لم يأكل في كل هذه المدة فلا غرابة في ذلك، فإن السيد "غاندي" كان يصوم شهرين متتابعين.* زعيم سياسي هندوسي شهير.(المترجم)

Page 257

الجزء الخامس ٢٥٠ سورة مريم ثم إن الإنجيل يذكر هنا فقط جوعه دون العطش، وهذا يعني أن صيام المسيح كان عبارة عن الامتناع عن أكل الطعام دون الشراب كما كان السيد "غاندي" يفعل حيث كان لا يأكل الطعام خلال صيامه، ولكن كان يشرب الماء الفواكه! وعصير على أية حال إن الإنجيل يخبرنا أنه لما انتهى صوم المسيح جاع، وجوعه يدل على أنه كان إنسانًا، وليس إلها لأن الجوع إنما يصيب الإنسان وليس الإلة.يقول المسيحيون على ذلك أن المسيح كان في الجسد الإنساني لذا كان بحاجة إلى الحوائج البشرية.ولكنا نحن المسلمين نرى أن جسد المسيح كان جسد بشر كما أن روحه أيضًا كان روح بشر.ونقول للمسيحيين: لقد أقررتم على الأقل بكون جسد المسيح جسدا بشريا.وبقي الآن السؤال: هل كان في المسيح روح بشر أم روح إله؟ والجملة التالية تجيب على ذلك حيث ورد أن الشيطان قال له: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا؟ فأجاب :وقال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله." والبين أن تحويل الحجارة إلى خبز هو في قدرة الله وليس في مقدرة الإنسان.ولذلك قال الشيطان ليسوع: ما دمت تدعي أنك ابن الله، والناس أيضا يظنون أنك كائن خارق، فحول هذه الحجارة خبزًا.ولكن المسيح لم يقدر على ذلك.وهذا يدل على أنه لم يملك أي قدرة كقدرة الله تعالى.ويقول المسيحيون على ذلك: إن عدم تحويله الحجارة إلى خبز ليس دليلا على أنه لم يملك أي قدرة كقدرة الله تعالى، لأن الأمر كان يتوقف على مشيئة المسيح.لم.فإنه لو شاء لحوّل الحجارة خبزًا، ولكن لم يرد ذلك، فلم تتحول الحجارة خبزاً.فإذا كان المسيح لم يُر معجزة تحويل الحجارة خبزًا فليس في ذلك دليل على عجزه، وإنما المراد منه أنه لما رأى جسارة الشيطان ووقاحته رفض طلبه قائلا: من أنت حتى تأمرني بهذه الأوامر.فاخسأ عني فإني لن أحوّل الحجارة خبزاً.

Page 258

الجزء الخامس ٢٥١ سورة مريم والجواب على ذلك هو: علينا أن نتدبر فيما قاله المسيح ردا على الشيطان لمعرفة السبب الحقيقي وراء عدم تحويله الحجارة خبزاً.فلو أن المسيح قال له: لن أحول الحجارة خبزاً، فإن تحويلها خبزًا يتوقف على مشيئتي لا على إرادتك؛ فمن أنت حتى تُجبرني على ذلك؟ أقول: لو كان هذا هو جواب المسيح فيمكن القول أنه لم يحول الحجارة خبزًا لأنه لم يرد ذلك، وليس لأنه لم يقدر على ذلك.ولكن لم يجب هكذا، وإنما قال: "مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة المسيح تخرج من فم الله." وهنا سؤال يفرض نفسه وهو : من هما الكائنان اللذان كانا يتحاوران هناك؟ هل كان ثمة أي كائن يأكل الخبز سوى المسيح؟ فالبديهي أن الشيطان لا يأكل الخبز، بل المسيح هو الذي كان يأكل الخبز والمسيح يجيب أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، وكأن المسيح يقر هنا بأنه إنسان ومحتاج إلى الخبز، ولكن الله تعالى إذا لم يعطني الطعام بعد فعلي أن أثق بوعد الله تعالى، وألا أخوض في مثل هذا الكلام التافه بأن تتحول الحجارة خبزا.ثم إن ما قاله المسيح بعد ذلك: "بل" بكل كلمة تخرج من فم الله"، فهو أيضا يخص نفسه هو.فثبت أن المسيح كان يحيا بكلام الله تعالى، والبديهي أن الذي يحيى بكلام الله تعالى لا يمكن أن يكون إلها.ثم تقول هذه الفقرة: "ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنتَ ابن الله فاطرَحْ نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك." أي أن الشيطان طلب من المسيح أن يلقي بنفسه من على الهيكل، فيصدق بأنه إله، لأن الإله لا يمكن أن يصاب بجراح.يوصي فأجابه المسيح وقال: "مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك." أي لن أفعل هذا أيضًا لأني لا أريد أن أجرب إلهي.إني عبد الله، وعباد الله مأمورون بألا يجربوا رهم.

Page 259

الجزء الخامس ٢٥٢ سورة مريم ممالك جميع ثم تقول الفقرة: "ثم أخذه أيضًا إبليس إلى جبل عال جدا وأراه العالم ومجدها وقال له: أعطيك هذه جميعها إِنْ حَرَرت وسجدت لي." هذا دليل آخر على أن المسيح لم يكن إها.ذلك لأن الله تعالى مالك الأشياء كلها، ولكن الشيطان يعد المسيح بكل تلك الأشياء إذا سجد لـه.وهذا يدل صراحة على أن الشيطان كان يعلم أن المسيح ليس إلها، إذ لا أحد يقول للإله سأعطيك كل هذه الأشياء.ولا معنى أن يُعطى الله ما يملكه هو سلفا.فثبت أن المسيح لو كان إلها عند الشيطان لما قال لـه إني سأعطيك نعم الدنيا كلها على أن تسجد لي.ثم يجب أن يلاحظ هنا أن المسيح ما قال للشيطان في الجواب بأني أنا مالك هذه الأشياء كلها.وهذا أيضًا أنه يوضح الآخر كان هو یری أنه عبد من عباد الله تعالى.لو كان المسيح إلها لكان جوابه: إنني أنا الإله، وإن هذه الأشياء كلها هي ملكي؛ فماذا تقصد من قولك أنك ستمنحني ما أملكه سلفا؟ إنما أجابه المسيح: "اذهب يا شيطان، لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد." وكأن المسيح اللي قد اعترف هنا أنه عبد الله وحده، فليس لـه إلا أن يسجد لله ويعبد ربه وحده.وقد ذكر لوقا (٤ : ١-١٣) أيضًا نفس الأمور، إلا أنه زاد على بيان متى أمرًا واحدًا.لقد ورد في متى أن المسيح اختبر بعد أن جاع أربعين نهارا وليلة، بينما ورد في لوقا أن الشيطان لم يزل يختبر المسيح أربعين يومًا.وحده، والغريب أن المشايخ يزعمون أن المسيح لم يمسه الشيطان قط، بينما يعلن يومًا.الله الإنجيل أن الشيطان لم يزل يذهب بالمسيح هنا وهناك، ويختبره طيلة أربعين يوم وهذا يعني أن الذين يتخذون المسيح إلها لا يبرءونه من مس الشيطان، ولكن أتباع محمد رسول الله ﷺ يرون أن سائر الأنبياء قد مسهم الشيطان، اللهم إلا "ابن المزعوم"، بالرغم من أن أمة المسيح نفسها تقرّ بأن الشيطان لم يزل يذهب به هنا وهناك ويجربه طيلة أربعين يوما !

Page 260

الجزء الخامس ٢٥٣ سورة مريم والأغرب من ذلك أن المشايخ يقولون أن الشيطان لم يمس المسيح عندما كان وليدا، بينما يعلن الإنجيل أن المسيح كان يسير مع الشيطان حتى بعد بلوغه سن الرشد والعقل، وليس لدقيقة أو دقيقين، بل أربعين يوما بدون انقطاع.ثم ورد في إنجيل يوحنا قول المسيح: "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون.أما نحن فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص هو من اليهود" (يوحنا ٤ : ٢٢).لقد تبين من هنا أيضًا أن المسيح ال كان يعد نفسه عبدا الله تعالى، لأنه يقول إننا نحن اليهود نعبد الله الذي ،نعلمه وأما أنتم فتعبدون الذي لا تعلمونه.ثم إن من أكبر صفات الإله معرفة علم الغيب ولا بد لمدعي الألوهية من أن يعلم الغيب.ولكن المسيح يقول: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب" (مرقس ۱۳ (۳۲).علما أن هناك اختلافًا حول المراد من ذلك اليوم وتلك الساعة"، فالبعض يرى أن المقصود به القيامة، بينما يرى البعض الآخر أن المراد المجيء الثاني للمسيح (تفسير مرقس أورد ص (۲۷۷) وأيا كان المراد، فإن المسيح يعلن أن لا علم له ولا للملائكة بذلك اليوم وتلك الساعة، إنما علمهما عند الله.وهذا أن المسيح ال يعترف هنا بأنه لا يعلم الغيب، إنما الله وحده الذي عنده علم الغيب.فلو كان المسيح الله إلها لعلم هذا الغيب حتمًا.يعني وكذلك ورد في الإنجيل: "وفيما هو خارج إلى الطريق ركض واحد وجثا له وسأله : أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال لـه يسوع: لماذا تدعوني صالحا.أحد صالحا إلا واحد وهو الله." (مرقس ١٠:.(۱۸-۱۷ ليس لقد قام المسيح العلم هنا باثنين من الدعاوى: أولهما ليس أحد صالحًا إلا الله.والثانية: أن المسيح ليس صالحًا؛ والنتيجة الحتمية لذلك واحدة وهي أن المسيح لم

Page 261

الجزء الخامس ٢٥٤ سورة مريم يكن إلها.فسواء أن استعملتم الكلية الصغرى للمنطق أم الكلية الكبرى فلن تتوصلوا إلا إلى هذه النتيجة.فثبت جليًّا أن المسيح ال يعترف هنا بكونه إنسانًا.وليكن معلوماً هنا أن بعض المسلمين يثورون غضبًا أكثر من المسيحيين أنفسهم لدى سماع هذا الدليل لعدم تدبرهم حقيقة الأمر، فيقولون: ألم يكن المسيح اللي صالحا؟ ولو وجه هذا السؤال إلى أحد منا نحن المسلمين الأحمديين لأجاب : اسأل النصارى بدلاً مني، لأن هذا قد ورد في كتابهم، وعليهم تقع مسؤولية الجواب، لا علينا.أما إذا لم يكن لنا بد من الإجابة على ذلك فنقول إن الصلاح الذي أشار إليه المسيح هو صلاح ذاتي.ذلك لأن صلاح العباد يكون مكتسبا، أما صلاح الله فذاتي غير مكتسب؛ ولذلك يسمى الله تعالى قدوسًا، ولكن الإنسان لا يسمى قدوسًا إنه تعالى قدّوس لأن ذاته تعالى منزه عن أي منقصة وعيب، أما الإنسان فيتخلص من العيوب بالجهد والمحاولة لم يأت على الله تعالى وقت كان فيه ناقصا ، فحاول أن يحرز الكمال، ولكن الإنسان يكون ناقصا في أول أمره، ثم يحرز الكمال شيئًا فشيئًا.إنه يكون في البداية طفلاً، وحين يبلغ سن الرشد والعقل يبدأ في أداء الصلاة فتأخذه صلاته كل يوم إلى الأمام بالتدريج.ولكن الله تعالى هو هو منذ الأزل.لم يكن أقل قداسة في الماضي، ولم تزدد قدوسيته اليوم.ولكن صلاح الإنسان ينقص ويزداد وإن كان نبيًّا.عندما يكون صغيرًا يكون أقل صلاحًا، وحينما يأخذ في إدراك الحقائق يزداد صلاحًا؛ وعندما ينزل عليه الشرع أو الإلهام يتقدم في الروحانية أكثر فأكثر.فالمسيح الا لما قال إنه ليس صالحًا، فإنما كان يقصد أن صلاحه ليس ذاتيا، إنما هو صلاح مجلوب.

Page 262

الجزء الخامس ٢٥٥ سورة مريم كذلك ورد في الإنجيل أن الناس جاءوه بامرأة وقالوا لقد أمسكها القوم وهي تزني، وعقاب الزانية هو الرجم بحسب شرع موسى، وقد جئناك بها، فماذا ترى أنت؟ فقال لهم :المسيح من كان منكم بلا إثم فليتقدم وليرمها قبل الجميع.فلما سمعوا هربوا جميعًا.فقال المسيح للمرأة: أين هؤلاء الذين أدانوك.قالت: لقد هربوا.قال: اذهبي، فأنا أيضًا لا أدينك.وفيما يلي نص الإنجيل بهذا الصدد: "وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأةً أُمسكت في زنا.ولما أقاموها في الوسط قالوا له: يا معلم، هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل، وموسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجَم؛ فماذا تقول أنت؟ قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه وأما يسوع فانحنى إلى أسفل، وكان يكتب بإصبعه على الأرض.ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر.ثم انحنى أيضًا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض.وأما هم فلما سمعوا وكانت ضمائرهم تُبكتهم خرجوا واحدا فواحدا مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين وبقي يسوع وحده والمرأةُ واقفة في الوسط.فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحدا سوى المرأة قال لها يا امرأةُ، أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دائك أحد؟ فقالت لا أَحَدَ يا سيّدُ.فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك.اذهبي ولا تخطئي أيضًا." (يوحنا ٨: ٣-١١) فترى أن الكتبة والفريسيين يقولون إن شريعة موسى تأمر برجم مثل هذه المرأة، ولكن المسيح يقول لهم: يجب أن يرجمها أولاً من ليس لـــه خطيئة.فلما فر الجميع من هناك قال المسيح لها أنا الآخر لا أدينك.وهذا أنه يعلن هنا أنه هو الآخر ليس مبراً من الإثم.فثبت أن المسيح اعترف بكونه غير مبرء من الإثم، وبتعبير آخر، بكونه عبدا من عباد الله تعالى.الأمر الثاني والأمر الثاني الذي عزاه القرآن الكريم هنا إلى المسيح اللي أنه قال لقومه إن الله تعالى قد أتاني الكتاب.ونقرأ في الإنجيل قول المسيح: "لستُ أفعل شيئا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي" (يوحنا ۸: (۲۸).

Page 263

الجزء الخامس ٢٥٦ سورة مريم شيئا.فثبت بذلك أن المسيح اللي لم يعرض على الناس أي تعليم من عند نفسه، بل كل ما عرضه عليهم كان مما علمه الله تعالى، حيث يقول إنني لا أقول شيئًا من عندي، بل أقول لكم ما علمني أبي؛ إذ لا يحق لي أن أقول من عند نفسي ويقول المسيح ال أيضًا: "لا تظنوا أني جئتُ لأنقُض الناموس أو الأنبياء.ما جئت لأنقض بل لأكمل.فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل" (متى ٥: ١٧-١٨).هذه الفقرة تكشف جليًّا أن المسيح لقد بعث إلى اليهود لترويج التوراة بينهم.فثبت أن ما عزاه القرآن إلى المسيح بأنه قال إن الله تعالى آتاني الكتاب صدق وحق تماما.لقد قال اللي أتاني الكتاب لأنه كان مأمورًا بالعمل بكتاب نبي سابق ودعوة الآخرين إلى العمل به، وأيضًا لأنه كان يتعلم التفسير الصحيح لذلك الكتاب السابق من خلال وحي الله تعالى.هذان الأمران كلاهما ثابتان من الإنجيل، فقد أعلن المسيح العلم أنه لم يأت إلا لترويج التوراة ودعوة الناس إلى العمل بها، كما أكد أنه لا يعرض على الناس شيئًا من عنده، وإنما يقول لهم ما يعلمه الله تعالى.الأمر الثالث ثم يعلن القرآن الكريم أن المسيح ال قال وجعلني نبيا..أي أنه أخبر الناس أنه نبي من عند الله تعالى.وهذا أيضًا ثابت من الإنجيل حيث ورد فيه قول المسيح: "والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه" (يوحنا ۸ (۲۹).هذه الكلمات ليست إلا تفسيرًا لما ورد في القرآن وجعلني نبيا ، لأن النبي من يرسله الله تعالى لهداية الناس.ثم ورد في الإنجيل أن الفريسيين لما قالوا للمسيح: "لنا أب واحد هو الله.فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبّونني لأني خرجتُ من قبل الله وأتيتُ، لأني لم آت من نفسي، بل ذاك أرسلني." (يوحنا ٨: ٤١-٤٢).هو

Page 264

الجزء الخامس ٢٥٧ سورة مريم إن قوله الا ذاك أرسلني لبرهان ساطع على نبوته ورسالته.إذا فقد ثبت من هذه الفقرة أيضا أن ليس في تسمية المسيح الله نفسه "ابن الله" أي دليل على ألوهيته، لأن اليهود أيضًا كانوا يسمون أنفسهم أبناء الله تعالى حيث يقول الفريسيون هنا: "لنا أب واحد هو الله " فلم يكن للمسيح أي خصوصية في كونه ابن الله، إذ كان هذا التعبير شائعًا بكثرة بين اليهود حتى سموا أنفسهم أبناء الله تعالى.ولا غرابة في شيوع مثل هذه التعابير بينهم، لأن الذين في قلوبهم حب صادق لله تعالى، والذين لا يتهافتون على المتع المادية فحسب، بل يرغبون في الوصال بالله تعالى رغبة صادقة فإنهم يرون الله تعالى على صورة الأم والأب عند استيلاء مشاعر الحب الإلهي عليهم؛ بل إن الله تعالى نفسه يتجلى أحيانًا لعباده المصطفين الأخيار في رؤاهم وكشوفهم على صورة الأم أو الأب.لقد كتب سيدنا المسيح الموعود لأني رأيت الله تعالى على صورة أبي (جريدة "الحكم" عدد رضي - ١٩٠٢/٥/١٠ ص ٧).وأنا أيضا قد رأيت الله تعالى ذات مرة على صورة أمي الله تعالى عنها فعباد الله الذين قد يخلصون حبهم الله تعالى يرون ربهم كالأب والأم عند فورة مشاعر الحب الإلهي.كما أن الله تعالى حينما يبدي لهم حبه من خلال الكشوف والرؤى فإنما يتجلى عليهم عادة على صورة الأب والأم.أما السؤال : متى يتجلى في صورة الأب ومتى يظهر في صورة الأم فهو سر دقيق من الأسرار الروحانية.إن كل واحد من الأبوين يُعَدّ رمزًا للحب غير أن هناك فرقًا بين حبهما، فحب الأُمّ له لون ولحب الأب لون آخر، كما أن مسئوليات الأم مختلفة عن واجبات الأب.فإذا أراد الله تعالى أن يلفت نظر الإنسان إلى حب كحب الأم ومسؤوليات كمسؤولياتها فإنه يتجلى عليه على شكل أمه؛ وإذا أراد ا الله لفت أنظار الإنسان إلى محبة كمحبة الأب وواجبات كواجباته فإنه يظهر عليه على شكل أبيه.ولما كان الأتباع والمؤمنون يسمعون من أنبيائهم أن الله تعالى يحبهم كحب الأمهات والآباء، فيستخدم هؤلاء أي الأتباع أيضا مثل هذه الكلمات تقليدًا بأنبيائهم.وهذا ما حدث باليهود أيضًا.فلما بُعث فيهم الأنبياء، وأكثروا أمامهم من ذكر حب الله لهم ولطفه بهم، وقالوا إن الله تعالى يحبنا كحب

Page 265

الجزء الخامس ٢٥٨ سورة مريم الأم لابنها أو كحب الأب لابنه، جعل اليهود أيضًا يسمون الله أبا لهم.وقد استخدم المسيح ال أيضًا التعبير نفسه، فقال إن الله أبي.وثمة أمر آخر نستنتجه من هذه الفقرة.يقول المسيح ال هنا : " لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجتُ من قبل الله وأتيتُ." وهذا يعني أن من مقتضى الحب أن يحب المرء كل من هو محبوب للحبيب بغض النظر عن المراتب..أي على المرء أن لا يقول إن فلانا أقل مني شأنا فكيف أبدي نحوه الاحترام والتقدير.كلا، إنما عليه أن يقول: ما دام حبيبي يحب فلانًا فمن واجبي أن أحب حبيب حبيبي، وإن كان أقل شأنا.يحكى عن حضرة الشاه ولي الله – رحمه الله – أن الملك جاء لزيارته ذات مرة، فقام ترحيبا به ثم جلس ثم جاء وزيره لزيارة حضرة الشاه، فلم يقم له الشاه بل ظل جالسًا.ثم جاء حارس من حراس الملك، فقام حضرة الشاه لاستقباله، ثم جلس.فلما خرج هؤلاء الزوار من عنده قيل لــه: لما جاءك الملك قمت لاستقباله، وعندما جاءك الوزير لم تقم لـه، ولكن حين جاءك الحارس قمت لـه؟ فقال: لقد قمت للملك لأنني مأمور بطاعته، و لم أقم للوزير مني لأني غير مأمور بطاعته.وأما الحارس فقمت لـه لأنه حافظ للقرآن الكريم.فترى أن الحارس كان حافظا لكلام الله تعالى الذي هو حبيب حضرة الشاه، فقام لاستقباله رغم كونه أدنى درجة من الوزير من المنظور الدنيوي.وهذا ما يوضحه المسيح الهنا ويقول : لو كنتم ترون الله أبًا لكم لأحببتموني أيضا، ولم تعارضوني.له ونظرا إلى هذه الحقيقة نفسها قد قال سيدنا المسيح الموعود اللي في بيت شعر ه بالفارسية: "خاكم نثار كوچهء آل محمد است ( مجموعة اشتهارات مجلد ۱ ص ۹۷) أي ليتني كنت ترابًا في ديار آل محمد.فمن جهة كان حضرته العليا يعلن أنه أعظم درجة من سيدنا الإمام حسين ، حيث كان يقول للمعارضين اسألوا علماءكم هل المسيح الذي تنتظرونه من السماء يكون أعظم شأنا من الإمام الحسين الا الله أم لا؟ ومن جهة أخرى، كان يتمنى أن تصبح نفسه فدى للإمام

Page 266

الجزء الخامس ٢٥٩ سورة مريم الحسين الله له ولأولاده وأحفاده أجمعين، وكان يقول من الواجب علينا أن نكن غاية الاحترام والتبجيل لكل هؤلاء لأنهم أولاد نبينا محمد رسول الله ﷺ فثبت أن المرتبة والدرجة شيء، أما الحب فشيء مختلف تمامًا.أجل ذلك ومن قال المسيح ال لليهود لو كنتم تحبون الله تعالى حقا ولو كنتم أبناءه لأحببتموني حتمًا.فعدم حبكم لي دليل واضح على أنكم لستم أبناءه.ذلك "لأني خرجتُ من قبل الله وأتيتُ"..أي أن كل ما يأتي من الحبـ من الحبيب حبيب، ولكنكم لا تكنون لي الحب، فثبت أنكم لا تحبّون حبيبكم حقا.ورد في الحديث الشريف أن رسول الله الله كان ،واقفًا، فجاء السحاب وأمطر.فلما أخذت قطرات الغيث في النزول أخرج النبي ل لسانه الشريف وتلقى به القطرات.ثم فكر أن الناس حوله ربما يظنون أنه قد أتى عملاً لا يليق بمكانته، * فقال: هذه نعمة جديدة من ربي.ولقد أشار المسيح اللة إلى المعنى نفسه وقال: "لأني خرجت من قبل الله وأتيت"..أي أنني نعمة جديدة من الله تعالى، فلم لا تقدرونني إن كنتم تحبون الله تعالى حقا.ثم قال المسيح ال: "لأني لم آتِ من نفسي، بل ذاك أرسلني." وهذا دليل بين على أن المسيح لما قال إني ابن الله فإنما قاله بمعنى أنه مرسل من عند الله تعالى.هذا، وقد ورد في الإنجيل أن المسيح ذهب ذات مرة إلى بعض البيع في الناصرة يوم السبت، فدفع إليه سفر إشعيا النبي ليلقي منه الوعظ.فأخذ الكتاب وأخرج منه الموضع الذي ورد فيه روحُ الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين.أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في الحرّية، وأكرزَ بسَنَة الرب المقبولة" (لوقا ٤: ١٦-١٩).* " ورد في الحديث: قال أنس: أصابنا، ونحن مع رسول الله ، ومطر.قال: فحسر رسول الله ثوبه حتى أصابه من المطر.فقلنا يا رسول الله : لِمَ صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث وجل" (مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء).(المترجم) عهد بربه

Page 267

٢٦٠ سورة مريم الجزء الخامس ثم ألقى المسيح اللي الوعظ على ضوء هذه الفقرة.فلما انتهى من الوعظ "جميعُ الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه.فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم" (المرجع السابق: ۲۰-۲۱).أي أن هذه النبوءة لإشعياء النبي قد تحققت اليوم.أما النبوءة التي قد أشار إليها المسيح الا هنا فقد قال فيها إشعياء النبي: "روحُ السيد الرب عليَّ، لأن الرب مسحني، لأبشر المساكين.أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمَسْيِّين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا.لأعزّي كل النائحين، لأجعل لنائحي صهيون، لأعطيهم جمالاً عوضا عن الرماد، ودهن فرح عوضا عن النوح، ورادء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة، فيُدعون أشجار البرِّ غَرْسَ الربِّ للتمجيد" (إشعياء ٦١: ١-٣).فيرى المسيحيون أن نبوءة إشعياء النبي هذه تنطبق على المسيح العل.فإذا صح ذلك فقد ثبت أن الموعود في هذه النبوءة ليس بإله بل إنسان، كما تدل على ذلك كلمة "أرسلني" التي ترادف ما ذكره القرآن على لسان المسيح وجعلني نبيا.وجدير بالذكر هنا أن كلمات نبوءة إشعياء هذه تشبه تماما الكلمات الواردة في نبوءة "المصلح الموعود".* يشير حضرة المفسر هنا إلى نبوءة لسيدنا المسيح الموعود ال، أخبر فيها بأن الله تعالى قد أنبأه بأنه تعالى سيهب لـه ابنًا عظيما سيكون مصلحًا كبيرًا، وقد اشتهرت هذه النبوءة في جماعتنا باسم "نبوءة المصلح الموعود"؛ وقد تحققت هذه النبوءة في شخص المفسر نفسه.وفيما نصها العربي كما ذكرها سيدنا المسيح الموعود اللة: * "ان الله بشرني وقال: سمعتُ تضرعاتك ودعواتك، وإني معطيك ما سألت مني وأنت من المنعمين.وما أدراك ما أعطيك؟ آية رحمة وفضل وقربة وفتح وظفر.فسلام عليك أنت من المظفرين.إنا نبشرك بغلام اسمه عنموايل وبشير أنيق الشكل دقيق العقل ومن المقربين.يأتي من السماء، والفضل ينزل بنزوله.وهو نور ومبارك وطيب ومن المطهرين يُفشي البركات، ويغذي الخلق من الطيبات، وينصر الدين.ويسمو ويعرج ويرقى، ويعالج كل عليل ومرضى، وكان بأنفاسه من الشافين.وإنه آية من آياتي، وعلم لتأييداتي، ليعلم الذين كذبوا أني معك بفضلي المبين، وليجيء الحق بمجيئه، ويزهق الباطل بظهوره، وليتجلى قدرتي ويظهر عظمتي، ويعلو الدين ويلمع البراهين، ولينجو طلاب الحياة من أكف موت

Page 268

الجزء الخامس ٢٦١ سورة مريم هذا؟ ثم ورد في إنجيل متى: "ولما دخل أورشليم ارتحت المدينة كلُّها قائلةً: مَن فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل" (متى ٢١: ١٠-١١).وهذا ما أكده القرآن الكريم إذ أخبر أن المسيح اللي قال للناس إن الله تعالى جعلني نبيًّا.ويقول يوحنا في إنجيله إن المسيح الذهب ذات يوم إلى الهيكل وأخذ يعلّم القوم، فتعجب اليهود وقالوا: كيف صار عالما بدون أن يتعلم.فقال المسيح لهم: "تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني" (يوحنا ٧: ١٤-١٦).فهنا أيضًا قد أعلن المسيح الا أنه رسول من الله تعالى.ذلك أن كمال الله تعالى كمال ذاتي، ولو كان المسيح إلها أو ابن الإله فكان لزاما أن يتصف بهذه المعارف ككمال ذاتي؛ ولكنه يقر هنا بأنه ليس فيه أي كمال ذاتي، بل إن الله تعالى الإيمان والنور، وليبعث أصحاب القبور من القبور، وليعلم الذين كفروا بالله ورسوله وكتابه أنهم كانوا على خطأ ولتستبين سبيل المجرمين.فسيُعطَى لك غلام ذكي من صلبك وذريتك ونسلك، ويكون من عبادنا الوجيهين.ضيف جميل يأتيك من لدنا.نقي من كلّ دَرَنِ وشَين وشنار وشرارة، وعيب وعارِ وعرارة، ومن الطيبين.وهو كلمة الله.خُلِقَ مِن كلمات تمجيدية.وهو فهيم وذهين وحَسِين.قد مُلِئَ قلبه علما، وباطنه حلمًا، وصدره سلما، وأُعطي له نفس مسيحي، وبورك بالروح الأمين.يوم الاثنين.فواها لك يا يوم الاثنين، يأتي فيك أرواح المباركين.ولد صالح كريم ذكي مبارك.مَظهَرُ الأول والآخر.مظهر الحق والعلاء، كأن الله نزل من السماء.يظهر بظهوره جلالُ رب العالمين.يأتيك نور ممسوح بعطر الرحمن، القائم تحت ظلّ الله المنان.يفُك رقاب الأسارى وينجي المسجونين.يُعظَّم شأنه، ويُرفع اسمه وبرهانه، ويُنشر ذكره وريحانه إلى أقصى الأرضين.إمام هُمَام، يبارك منه أقوام، ويأتي معه شفاء ولا يبقى سقام، وينتفع به أنام.ينمو سريعًا سريعًا كأنه عردام، ثم يُرفع إلى نقطته النفسية التي مقام.وكان أمرًا مقضيَّا قدره قادر علام فتبارك الله خيرُ المقدرين." التبليغ.ص هذا اللفظ في كتاب آخر لسيدنا أحمد ال بقراءة "عمانوئيل"، ويبدو أنه الأصح.انظُرْ * لقد ورد "انجام آتهم" ، الخزائن الروحانية ج ١١ ص ٦٢.(المترجم) ** قد ** "I مي (185-181 له أخبر رسول الله ﷺ أن المسيح الموعود يتزوج ويولد له.ففي هذا إشارة إلى أن الله يعطيه ولدًا صالحا يشابه أباه ولا يأباه، ويكون من عباد الله المكرمين.والسرّ في ذلك أن الله لا يبشر الأنبياء والأولياء بذرية إلا إذا قدر توليد الصالحين.وهذه هي البشارة التي قد بُشرت بها من سنين ومن قبل هذه الدعوى، ليعرفني الله بهذا العلم في أعين الذين يستشرفون وكانوا للمسيح كالمجلوذين.انتهى كلام سيدنا المسيح الموعود العليا - المترجم)

Page 269

الجزء الخامس ٢٦٢ سورة مريم هو الذي بعثه، وليس هذا التعليم إلا من عنده تعالى.لقد قال سيدنا المسيح الموعود الله أيضًا بهذا المعنى في بيت شعر لـــه: دگر استاد را نامی ندانـــم که خواندم در دبستان محمد (استفتاء (بالأردو) ص ۱۲۳) أي أنا لا أعرف اسم أي أستاذ آخر، فإني قد تعلمت في مدرسة محمد رسول..أي ليست معارفي إلا من معارف القرآن الكريم.لا شك أنه العليا قد ذكر هنا اسم الرسول من باب الأدب والاحترام ولكنه في الحقيقة يشير إلى تعليم القرآن الكريم الذي هو تنزيل من رب العالمين فشعره هذا يماثل في المعنى قول المسيح الناصري عليهما السلام إن "تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني".ثم يضيف المسيح الله ويقول: "إن شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم: هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي" (يوحنا ۷ (۱۷)..أي أن الباحثين عن الحق بصدق لو فحصوا الأمر لعلموا أن هذا التعليم ليس مني، بل هو من ربي.لقد أعلن المسيح الله من قبل أن الله تعالى هو الذي بعثه، أما هنا فيصر على دعواه ويقول إن هذا التعليم ليس من اختراعي، وإنما تلقيته من عند الله تعالى.ثم يركز المسيح اللي على هذا الأمر أكثر فيقول: "من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، أما من يطلب مَجْدَ الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" (المرجع السابق: ١٨).يزعم وهنا أيضًا يركز المسيح ال مرة أخرى على كونه رسولاً، ويقول إن الذي أنه ينشر العلوم من عنده لكاذب، أما الذي يقول إني أنشر هذا العلم بعد أن الله تعالى فصادق.وكأن المسيح ال يكذب هنا المسيحيين الذين يزعمون أن المسيح إله وأنه قد تكلم بناء على علمه الذاتي، ويصدق المسلمين الذين يعتقدون أنه كان عبدًا الله تعالى.أتلقاه من ثم ورد في الإنجيل قول المسيح الل: "وإن كنتُ أنا أدين فدَينُوني حق، لأني لست وحدي، بل أنا والآبُ الذي أرسلني" (يوحنا : ١٦).فهو اللي قد أصر

Page 270

الجزء الخامس ٢٦٣ سورة مريم هنا أيضًا على كونه مرسلاً من الله تعالى وبتعبير آخر، قد صدق المسيح اللي هنا ما عزاه إليه القرآن وقال وجعلني نبيا.ويضيف المسيح اللة ويقول : "وأيضًا في ناموسكم (التثنية ١٧: ٧، و١٩: ١٦) مكتوب أن شهادة رجُلين حق.أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآبُ الذي أرسلني" (يوحنا ٨: ١٧-١٨).فالمسيح الله يقدم هنا شهادتين على صدقه الأولى أنه هو نفسه يقول إنه صادق، والثانية أن الله تعالى أيضًا يشهد على صدقه اللي ثم يقول لليهود ما دامت شريعتكم تعلن أن شهادة شاهدين تُعتبر صادقة، فلم لا تعدونني صادقًا مع أن اثنين يشهدان على صدقي.والحق أن قول المسيح ل "أنا هو الشاهد لنفسي" هو نفس الدليل الذي قد العلية لا ذكره القرآن الكريم في قول الله تعالى فقد لبثت فيكم عمرا قبله أفلا من تعقلون (يونس: (۱۷).ذلك لأن بعض الشاهدين لا يكون صادقًا، وهناك آلاف الأمثلة على ذلك فليس المراد من قول المسيح هذا أنه ما دام يقول إنه صادق فهو صادق حتما، بل إنه قد قدم هنا حياته الطاهرة السابقة لدعواه كدليل على صدقه، فقال إن حياتي السابقة الطاهرة هي الشهادة الأولى على صدقي، أما الشهادة الثانية فهي الآيات التي قد أظهرها الله تعالى تأييدًا لي.والواقع أن هذه هي خلاصة حياة الأنبياء، ولا قيمة لما سواها من الخصومات والنزاعات.ولقد قدمت الدليل نفسه في كتابي "دعوة الأمير"، وقلت إن هذا الدليل يماثل قولهم بالفارسية: "آفتاب آمد دليل آفتاب".أي لو سألك أحد ما الدليل على طلوع الشمس، فلن تقول لـه إلا إن الشمس نفسها دليل على وجودها.وبالمثل، لو كان ثمة إنسان تكون حياته كلها کصفحة مفتوحة للجميع، فيعرف الأصدقاء والأغيار أنه لا يكذب أبدا، بل يصدق القول حتى في أشد المواقف خطورة، ثم ادعى هذا بأن الله تعالى قد أوحى إليه بكذا وكذا، فلن يرفض ادعاءه هذا ولن يكذبه إلا الأحمق الغبي.بيد أنه لا بد لمثل

Page 271

الجزء الخامس ٢٦٤ سورة مريم هذه الشهادة أن تكون سيرة هذا الإنسان وأعماله وأخلاقه ككتاب مفتوح للجميع فعلاً.أما الذي لا يعرف الناس أحوال حياته فلا يمكنه أن يعلن بأن حياتي السابقة لشهادة قاطعة على صدق ما أقول.أتذكر جيدا أنه كان في جماعتنا في زمن الخليفة الأول له شخص حكيم مخلص، فانضم فيما بعد إلى غير المبايعين، ثم من الله عليه، فعاد ودخل في جماعة المبايعين ثانية.وذات مرة قال هذا الشخص لأحد وهو يخاصمه: إن شخصي نفسه لبرهان على صدق ما أقول؟ وكنتُ إذاك صبيا، ومع ذلك ضحكت من قوله، وقلت في نفسي: كيف يمكن أن يكون شخصه دليلاً للناس على صدقه وأحوال حياته غير معروفة لهم.إذن فلا يمكن لأحد أن يستشهد بهذا الدليل على صدقه إلا من تكون حياته السابقة كتابًا مفتوحا للناس، وقد فحصوا ونقبوا عن كل صغيرة وكبيرة في حياته.أما حياة الإنسان العادي فتكون في خفاء، فأَنَّى له أن يقدمها دليلاً على صدقه.هذا، وثمة أدلة أخرى على صدق الأنبياء يخطئ بعض الناس بصددها أيضًا، فيقدمونها أحيانًا على صدقهم مع أنها لا تنطبق عليهم إطلاقا بالنظر إلى السياق.فمثلاً كان هناك أخ في جماعتنا، وقد توفي الآن في ١٩٥٦)، وكان اسمه السيد سيد أحمد نور الكابلي، وكان يدعي النبوة أيضًا.فقابله أحد من جماعتنا، وعندما رجع قال لي : إنني أعرف الرد على كل ما يقوله الكابلي إلا دليلاً واحدا.لقد قال لي: إنكم تقولون إني مجنون مع أن القرآن الكريم يخبرنا أنه ما من نبي ورسول إلا وقد اتهم بالجنون؛ فاتهامكم إياي بالجنون دليل على صدقي، لا على كذبي! فقلت لهذا الأخ: كان الجواب سهلاً جدا.كان عليك أن تجيبه أن الناس يتهمون الأنبياء بالجنون بسبب نبوتهم وبعد أن يعلنوا هذه الدعوى، أما أنت يا أخانا فكنا نشد وثاقك بالأحبال حتى قبل ادعائك بالنبوة.فشتان بين أن يدعي الناس نبيًّا من الأنبياء بالجنون.فلو كان هذا الأخ سليم العقل قبل دعواه بالنبوة واتهمه الناس بعد ذلك لكان في قوله بعض الوزن مجنون أنه أن نبي، وبين يتهم والثقل، ولكن الواقع أن الناس قد صفّدوه مراراً بالحبال بسبب جنونه قبل ادعائه.

Page 272

الجزء الخامس ٢٦٥ سورة مريم فمن الأدلة على صدق النبي أن حياته قبل الدعوى تبلغ من الطهر والورع بحيث إن الناس يجدونها مبرأة من العيوب والنقائص رغم أنه قد ذاق من الحياة حلوها ومرها.إن الناس حوله يختبرونه في كل صغيرة وكبيرة، وتأتي عليه الشدائد بحيث لا يبقى له منجى ولا مخلص منها إلا بالكذب، ومع ذلك لا يكذب، فيدرك الناس أنه إنسان صالح صادق ولكن حياة عامة الناس لا تكون مكشوفة جلية للجميع.فعشرات منهم يكونون سارقين، ولكن الناس لا يعرفون ذلك.وعشرات منهم يكونون كاذبين، ولكن أحوالهم لا تنكشف على القوم، فيبقى كذبهم أمرًا مستورًا.فثبت أن الأنبياء وحدهم الذين يحق لهم أن يستشهدوا بهذه الآية على صدقهم.إن النبي وحده الذي يمكنه أن يتحدى القوم بقوله: لقد رأيتم حياتي وأحوالي، لقد جربتم أخلاقي وعاداتي، ورأيتم أني لا أكذب أبدًا؛ فما دمت لم أكذب على الناس قط، فكيف يمكن أن أفتري على الله تعالى؟ وهذا الدليل نفسه يقدمه المسيح اللي هنا ويقول: "وأيضا في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق.أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآبُ الذي أرسلني".أما إذا ظننا أن قوله "أنا هو الشاهد لنفسي" يعني أنني ما دمتُ أنا أقول إني صادق، فلا شك في صدقي، لاختلت الموازين وعمت الفوضى.فمتى يحق لشخص متهم بجريمة أن يقول للمحكمة: إني صادق لأني أنا الشاهد لنفسي، والشاهد الثاني هو الله تعالى؟ إنه لو قال ذلك لضحك الجميع عليه.فثبت أن المسيح ال قد قدم هنا الدليل الذي قد صار مثلاً سائرًا أعني قولهم إن الشمس نفسها دليل على طلوعها إن المسيح الله لا يقدم شخصه هنا دليلا على صدقه، وإنما يتحدى القوم بناء على حياته السابقة لدعواه.غير أن هذا يؤكد في كل حال أنه كان عبد الله ورسوله، و لم يدع الألوهية قط.العليا الأدلة على أن المسيح الله ليس باله ما ورد في الإنجيل كالآتي: "والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أُوصَنَّا لابن داود.مبارك الآتي باسم الرب أُوصَنَّا في الأعالي" (متى ۲۱: ۹).ومن

Page 273

الجزء الخامس ٢٦٦ سورة مريم أي كانت هناك نبوءة عن مجيء المسيح، فلما تحققت بمجيء عيسى العلي قال الناس في فرحة وابتهاج إن الذي بُشِّرنا بمجيئه قد جاء من عند الله تعالى.فترى أن المسيح ال قد سُمِّي هنا ابن داود، أي عُدَّ فردًا من بني إسرائيل، ولم يُسَمَّ إها.ثم ورد في مكان آخر من الإنجيل: "ولما كان السبت ابتدأ يعلم في المجمع، وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين من أين لهذا هذه؟ وما هذه الحكمة التي أُعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه؟ أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ههنا عندنا".(أي أن إخوته وأخواته كلهم متفقون معنا في الدين وليسوا معه، فمن أين لـــه هذه المعارف؟ فأجابهم يسوع وقال:) يعني "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته" (مرقس ٦: ٢-٤).ثم ورد هذا المعنى نفسه في مكان آخر من الإنجيل حيث جاء: "لأن يسوع نفسه شهد أنه ليس لنبي كرامة في وطنه" (يوحنا ٤: ٤٤.فترى أن المسيح قد سمى نفسه هنا نبيا بكل صراحة وجلاء، إذ يقول لا يهان النبي إلا في وطنه وبين أقاربه وأهل بيته.وهذا أيضًا أن بعض أقاربه أيضًا كانوا يعارضونه حتمًا.ثم ورد في الإنجيل قول المسيح الآب" قد أرسلني والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي" (يوحنا ٥: ٣٦-٣٧).فهنا أيضًا قد سمى المسيح الله نفسه رسولاً من الله تعالى مرتين وفي مكان واحد.ويقول الإنجيل أيضًا: "قالت له المرأة يا سيد أرى أنك نبي" (يوحنا ٤: ١٩).وهذا يعني أن الناس أنفسهم كانوا يسمونه نبيًّا كما كان نفسه يفعل.ولكن المسيحيين اليوم يسمونه إلها.فقد ثبت من هذه الفقرات الإنجيلية أن السباب والشتائم التي كالها المسيحيون ضد النبي ﷺ بسبب ما ورد هنا في القرآن الكريم إنما كالوها ضد المسيح ال نفسه الذي ادعى فعلاً بما عزاه إليه القرآن من الدعاوى.

Page 274

الجزء الخامس ٢٦٧ سورة مريم الأمر الرابع: بعد ذلك قال القرآن الكريم هنا على لسان المسيح اللي وجعلني مباركًا أينما كنت.وهذه الألفاظ أيضًا تدل على أن المسيح ال كان بشرًا.ذلك لأن الله تعالى صاحب البركة في حد ذاته أما الإنسان فإنما ينال البركة من عند الله تعالى.فالله مبارك، والإنسان مبارك.إن أحد أبنائي أيضًا يدعى "مبارك"، وعندما يناديه أحد بالخطأ "مبارك" أقوم بتصويب خطئه وأقول له: إنه "مبارك"، وليس مبارك، لأن الله تعالى هو المبارك.وهنا يعلن المسيح الا أن الله تعالى قد جعلني مباركًا، فالذي يكون مباركا لا بد أن يكون بشرا، إذ ليس بوسع أحد أن يهب البركة الله تعالى.إن قوى الله وقدراتها كلها ذاتية، إذ لا يكتسب ل أي قوة من غيره.فلو ثبت أن المسيح ال كان مباركًا..أي كان لا يهب البركة بل كان يسأل البركة من الله الله لثبت أيضا أنه كان بشرًا.لقد ورد في الإنجيل قول المسيح ال: والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني كان بحاجة إلى المساعدة، وأن الله تعالى قد الآب وحدي (وهذا يعني أن المسيح ساعده)، لأني في كل حين أفعل ما يُرضيه" (يوحنا ٨: ٢٩).ثم ورد في الإنجيل أن المسيح اللي جاءه ذات مرة زوّار كثيرون، ومعه تلاميذه: "فأمرهم أن يجعلوا الجميع يتكئون رفاقًا رفاقًا على العشب الأخضر.فاتكأوا صفوفًا صفوفًا مئةً مئة وخمسين خمسين.فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع نظره نحو السماء وبارك *.ثم كسر الأرغفة، وأعطى تلاميذه ليقدموا إليهم.وقسم السمكتين للجميع.فأكل الجميع وشبعوا" (مرقس ٦: ٣٩-٤٢)..أي أن المسيح قد طلب البركة من الله تعالى رافعًا وجهه إلى السماء، فأنـزل الله تعالى البركة في الطعام.فترى أن مرقس قد اعترف هنا أن الله تعالى مبارك وأن المسيح الله مبارك.* علما أنهم قد حرفوا الترجمة العربية هنا فقالوا أن المسيح "بارك"، ولكن قد ورد في النس الأردية والإنجليزية أنه "دعا للبركة" (المترجم).

Page 275

الجزء الخامس ٢٦٨ سورة مريم وقد ورد هذا المعنى نفسه في موضع آخر من الإنجيل حيث جاء: "فأمر الجَمْعَ أن يتكثوا على الأرض.وأخذ السبع خبزات، وشكر، وكسر، وأعطى تلاميذه ليقدموا، فقدموا إلى الجمع.وكان معهم قليل من صغار السمك، فبارك، وقال أن يقدموا هذه أيضًا فأكلوا وشبعوا" (مرقس ٨: ٦-٨).هذه فترى أن هذه العبارة تقول أن المسيح "شكر" والواضح أنه قد شكر الله تعالى.ثم ترى هنا مرة أخرى أنه لطلب البركة، وأن البركة نزلت من الله تعالى.إننا لسنا هنا بصدد أن نناقش ماهية هذه المعجزة وإنما نقصد من عرض الفقرات أن نبرهن على أن الإنجيل نفسه يؤكد أن المسيح ال قد دعا الله تعالى للبركة فمنحه إياها، تماما كما أعلنه القرآن على لسان المسيح الله وجعلني مباركًا أينما كنتُ.فثبت أن بيان القرآن الكريم صدق وحق.أما إذا اعتبروا بيان القرآن الكريم غلطا لصار بيان الإنجيل أيضًا غلطا ساقطا عن الاعتبار.أنها لقد وردت في الحديث أيضًا واقعات مماثلة لهذه.فروي عن عائشة قالت: كنا اشترينا ذات مرة غَلّةً، فما زلنا نأكل منها وهي لا تنفد.ففكّرتُ أخيرًا أن أرى كم بقي منها، فلما قمتُ بكيلها نفدت بعد أيام (انظر الترمذي، أبواب صفة القيامة).مما لا شك فيه أنه يمكن للمرء المدبر الحكيم أن يجعل الشيء القليل يكفيه، ولكن في بعض الأحيان تحل البركة في الشيء وتستمر بدون أي تدخل من البشر.وهذا سر ليس بوسع الإنسان بيانه.فمثلا إن عائلتي كبيرة؛ فعندي أربع زوجات، و ٢٢ ولدًا وبنتا، ثم لي أحفاد وحفيدات.وليس عند بعض أولادي أي عمل ولا وظيفة بعد، وبعضهم يعملون ولكنهم يعملون في سبيل الدين، ورواتبهم ضئيلة جدا لا تكفي لمعاشهم؛ وأنفق أنا عليهم دائما لسدّ بعض حاجاتهم.وقد رأيتُ أنني كلما جلست للحساب أُصبت بالقلق والحزن ظَنَّا أن لا سبيل لسد هذه النفقات.ولكني لو لم أقم بأي حساب لوجدت المال ولسدَّ الله تعالى حاجاتي كلها.وذات مرة ذهبتُ إلى النهر في رحلة ترفيهية.وكنا قد طبخنا دجاجة وبطة صغيرتين.وكان هذا الطبيخ كافيًا لنا.ولكنا لما جلسنا بعد أداء صلاة المغرب مني

Page 276

الجزء الخامس ٢٦٩ سورة مريم عندنا جاءنا ثلاثون أو أربعون شخصاً من القرى المجاورة.كان اثنان منهم من جماعتنا، والباقون من أقاربهما غير الأحمديين.ولم يخبرني هؤلاء عن الغرض من زيارتهم.وكنت أظن أنهم جاءوا لمجرد الزيارة وسوف يرجعون بعد قليل، ولكنهم جلسوا حتى حانت صلاة العشاء.فلما سألتهم أخيرًا عن سبب زيارتهم قالوا: نرجوكم أن تعقدوا القران لبعض أقاربنا قلت حسنًا فألقيت الخطبة وعقدت القرآن.ولكنهم ظلوا جالسين بعده أيضًا.وأغلب ظني أنهم كانوا ينوون ألا يرجعوا إلا بعد أكل الطعام عندنا فغلبني البخل أول الأمر وقلت في نفسي سننتظر أكثر لعلهم يرجعون.ولكني لما وجدتهم لا يبرحون المكان أرسلت إلى زوجتي أم طاهر - رضي الله عنها - وقلت لها : لقد جاءنا الضيوف وهم أربعون تقريبا، وأفراد عائلتنا سبعة، إضافة إلى حوالي عشرين شخصا آخرين ممن يعملون في مكتبي وغيرهم؛ فماذا ستفعلين لطعامهم؟ فأرسلت في الجواب وقالت: إننا في انتظاركم، أما الضيوف فقد تكلمت مع الطباخ، فلا يأخذكم قلق في شأن الضيوف.فدعونا الجميع إلى المائدة، فأكلوا حتى شبعوا.وبعد فراغي من العمل ذهبتُ إلى أهلي وقلت لأم طاهر -رضي الله عنها - يبدو أنه لم يبق لك أي طعام اليوم؟ قالت: كلا، لقد أكلت، وقد بقي منه شيء.فلا غرو أن ما حدث كان فيه دخل لتدبير الطباخ أيضا، ولكن كان فيه بركة وفضل من الله تعالى حتمًا، حيث جلس على هذا الطعام المصنوع من لحم البطتين الصغيرتين حوالي سبعين شخصا فأكلوا حتى شبعوا.فكما قلت إن بركة الله تنزل بطرق شتى، إلا أنها تنطوي على عنصر الإخفاء والكتمان أيضًا.فإنني، كما بينت من قبل، كلما أجلس لحساب نفقاتي أصاب بالقلق والخوف، ولكن لو لم أقم بأي حساب لسُدّت الحاجات والنفقات تلقائيا من حيث لا أدري.وإن ما حدث مع عيسى ال في هذه الواقعات كان من هذا القبيل.وكما بينت، قد وردت في كتب الحديث أحداث مماثلة عديدة حصلت مع رسول الله ﷺ أيضًا.

Page 277

الجزء الخامس ۲۷۰ سورة مريم ثم إن متى أيضًا يذكر هذا الأمر في إنجيله حيث قال: "وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز، "ودعا للبركة"، وكسر ، وأعطى التلاميذ وقال: خُذوا كلوا، هذا هو جسدي.وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يُسفَك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى ٢٦:.(٢٦-٢٨ فترى هنا أيضا أن المسيح الله سأل البركة ثم كسر الخبز.علما أن هذا الحدث هو الأساس لعبادة العشاء الرباني لدى المسيحيين.ثم ورد في الإنجيل أن السيدة مريم لما حملت بالمسيح ذهبت لزيارة أم يحيى التي قالت لمريم: "مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك" (انظر لوقا ١: ٤١-٤٢).هذه الفقرة أيضًا تصديق لما حكاه القرآن على لسان المسيح وقال وجعلني مباركًا.* ثم ورد في الإنجيل: "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما.أما هو فقال: بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لوقا ۱۱: ۲۷-۲۸).الله ومن الناس أيضا تؤكد قصارى القول إنه توجد في الإنجيل شهادات من صحة ما حكاه القرآن على لسان المسيح وجعلني مباركا.الأمر الخامس: بعد ذلك يقول القرآن الكريم إن المسيح الله قال وأوصاني بالصلاة.وهذه الصفة أيضًا تختص بالبشر، إذ ليس هناك من يوصي الله تعالى ويأمره بشيء، كما أنه لا مجال لأن يؤدي الله تعالى الصلاة.ثم إن الإنجيل أيضًا يؤكد أداء المسيح الصلاة حيث ورد: "وفيما هو يصلي على انفراد كان التلاميذ فسألهم قائلا: من تقول الجموع أني أنا؟" (لوقا ۹: ١٨).معه، * علما أن ما ورد في النسخة الأردية فتعريبه : مبارك البطن الذي حملك، ومباركان الثديان اللذان رضعتهما (المترجم)

Page 278

الجزء الخامس ۲۷۱ سورة مريم لقد اتضح من هذه الفقرة جليًّا أن المسيح ال كان معتادا على الدعاء، وكان من أجل رقيه ونجاح دعوته.ذلك لأن قوله: "من تقُول الجموع أني أنه كان دائم التفكير فيما يظن الناس به، فهل يعتبرونه صادقا أم يدعو عادة أنا؟" يوضح كاذبًا؟ فثبت أن المسيح ال كان يدعو لنجاح دعوته وانتشار جماعته.ثم ورد في الإنجيل: "وإذْ كان يصلي في موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا ربُّ، عَلّمنا أن نصلي كما علّم يوحنا أيضًا تلاميذه.قال لهم: متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتَكُن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.خُبْزَنا كَفافَنا أَعْطنا كل يوم.واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل مَن يُذنب إلينا.ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير" (لوقا ١١: ١-٤).لقد اتضح من هذا أيضًا أن المسيح الليل كان معتادًا على الدعاء.وإن جملة "وإذ كان يصلي في موضع لما فرغ" تدل على أنه كان يدعو في مكان ما في خلوة، فتأثر أتباعه من بكائه وابتهاله في الدعاء، فسألوه أن يعلمهم ماذا يقولون في دعائهم.فعلمهم هذا الدعاء.شتان " إن هذا الدعاء هو بمثابة سورة الفاتحة للمسيحيين.ولكن التدبر يكشف أنه بين دعائهم هذا وبين فاتحة القرآن الكريم.فإن سورة الفاتحة تبدأ بقول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم..أي أقوم بهذا الدعاء مستعينا بالله الذي يعطينا بدون سؤال، ويأتي بأحسن النتائج لأعمالنا.وهذا يعني أن الله تعالى قد علمنا دعاء حتى قبل أن نبدأ بدعاء الفاتحة، أن بمعنى الداعي يستثير قبل الدعاء أيضا تلك الصفات الإلهية التي هي وثيقة الصلة باستجابة الدعاء، لكي يساعده الله تعالى على القيام بدعاء الفاتحة بحسن النية، ويهيئ لـــه الأسباب التي يترقى بها الإنسان في الدنيا، والتي تقع في قبضة الله وتصرفه وحده، وأن يوفقه في الأخذ بتلك الأسباب بشكل سليم، وأن يرتب عليها أحسن النتائج وأفضلها التي يستحق بها الإنسان المزيد من الجوائز والصلات من عند الله تعالى.

Page 279

الجزء الخامس ۲۷۲ سورة مريم فيا له من دعاء جامع كامل ! فإن الداعي، حتى قبل البدء في الدعاء، يسأل الله تعالى أن يعينه على ما يستجاب به دعاؤه ويتحقق مراده، فيتوسل إليه تعالى من خلال رحمانيته ورحيميته بأن يشمله بعونه ويمده بالأسباب، بل يرتب عليها أفضل النتائج وأحسنها.يوم ثم يقول الداعي الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك الدين.فيذكر في دعائه أربعًا من صفات الله تعالى.وهذه الصفات الأربع هي الصفات الأساسية الحيوية التي ترتكز عليها صفات الله الأخرى.بينما يقول المسيح ال إزاءها: "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك".وهذا يعني أنه العلية لا الله تعالى قدوسًا، مع أن القدوس هي صفة من الصفات يسمي التي ترتكز حول هذه الصفات الأربعة المحورية.ثم إن سورة الفاتحة تذكر في بدايتها لفظ "الله"، وهو اسم ذاتي لذات البارئ تعالى، بينما يذكر المسيح هنا "أبانا"، مع أن كلمة "أبانا" تشير إلى صفة إلهية واحدة فقط..أعني أنها إنما تدل على أن الله تعالى متصف بالشفقة والرحمة مثل الأب.والحق أنه ليس الأب وحده الذي يتحلى بالرحمة، بل إن الرحمة توجد في الأم والأخ والمعلّم ،والملك، فكل هؤلاء يعاملون الناس بمحبة وإحسان في نطاق مجالاتهم ودرجاتهم.أما القرآن الكريم فقد استخدم لفظ "الله"، وهو اسمه الذاتي والمستجمع لصفاته الحميدة كلها.لا شك أن الأب يكون محبا، ولكن لا مقارنة بين حبه وحب الله، لأن الله تعالى يستجمع في ذاته محبة الأب والأم والابن والأخ والمعلم وكبير القرية والملك ،وغيرهم، ولكن الأب لا يتحلى بمحبة هؤلاء الآخرين كلهم.إذا فمن فضائل دعاء القرآن أنه قد ذكر فيه أولاً اسم الذاتي المستجمع لجميع كمالاته ومحاسنه الله ثم بدأ تقسيم هذه الصفات وقال: رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.ولكن الإنجيل اكتفى بقوله "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك".مع أن التقديس يمكن أن يكون حقيقيًا وغير حقيقى أيضًا.فالبعض يقدسون الأصنام مع أنها غير مقدسة.الله

Page 280

الجزء الخامس ۲۷۳ سورة مريم ثم إن الإنجيل لم يقل إنك قدوس، بل قال "ليتقدس اسمك"..أي ليقدّسك الناسُ، مع أن هؤلاء المقدسين قد يكونون صادقين أو كاذبين في تقديسهم.ثم ورد في الدعاء الإنجيلي: ليأت ملكوتك"، بينما يعلن القرآن مالك يوم الدين..أي أن القرآن لا ينتظر ملكوت الله على الأرض، بل يعلن أن ملكوته محيط بالكون كله.ثم إن الإنجيل قد اكتفى بقوله ليأت" ملكوتك، ولكن القرآن الكريم يخبر أن مجرد الملك ليس بشيء، لأنه يأتي ،ويزول، ولكن مُلك الله تعالى لا يزال يتسع ويمتد إلى النهاية..أي لا زوال لـه إلى الأبد، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى مالك يوم الدين.ثم يقول الإنجيل: "لتَكُن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض." وهذه الكلمات تتنافى تماما عظمة الله مع وتسيء إليه والله إساءة كبيرة.ذلك لأنه تعالى هو الذي يحقق حاجات الآخرين، بينما يقول دعاء الإنجيل لتَكُن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.فمثل دعاء الإنجيل كمثل دعاء الفقراء الذين إذا أعطاهم أحد شيئًا دعوا له قائلين: حقق الله أمانيك.وقد ذكر القرآن الكريم بعد ذلك كلمة لم يذكرها الإنجيل بتاتا.فبعد ذكر صفات الله تعالى علم القرآنُ الداعي أن يقول الله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين..أي أن يعترف الداعي بقدرات الله تعالى ويقرّ بعبوديته لــــه.وكما قلت، لا أثر لمثل هذا الدعاء في الإنجيل.ثم يعلمنا القرآن الكريم اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم..أي على الإنسان أن يقول يا رب إن علي القيام بأعمال الدنيا والدين، وإن علي واجبات أرضية وفرائض سماوية كذلك.فمثلاً إذا كان أبا فعليه واجبات الأب، وإذا كانت أما فعليها مسؤوليات الأم، وإذا كان في الجيش فعليه واجبات الجندي، وإذا كان قائداً فعليه واجبات القيادة، وإذا كان ملكا فعليه واجبات الملك كان فيلسوفا فعليه واجبات ،فلسفية، وإذا كان صانعا فعليه مسؤوليات صناعية.فواجبات المرء تتعدد بتعدد الأعمال، لذلك يقول الداعي يا رب، أرني في كل عمل وإذا

Page 281

الجزء الخامس ٢٧٤ سورة مريم من أعمالي أقرب طريق إلى النجاح والفلاح.ولكن الإنجيل يقول إن المسيح ال علم دعاء " خُبْزَنَا كَفافَنا أَعْطنا كل يوم.وكأنه يعلّمهم أن يطلبوا خبز كل يوم مثلما تفعل بعض الحيوانات كالقط أو الغراب وغيرهما حيث تقترب من المرء وهو يأكل الطعام، فيرمى إليه قطعة من طعامه.ثم ورد في الدعاء الإنجيلي: "واغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضا نغفر لكل من به يُذنب إلينا." أما القرآن الكريم فعلّمنا في الفاتحة دعاء غير المغضوب عليهم ولا الضالين.وهكذا أخبرنا أن الإثم نوعان: إيجابي وسلبي..بمعنى أن بعض الذنوب تتعلق بالنواهي..أي أنها تتولد بارتكاب ما نهى الله عنه ، وبعضها تتعلق بالأوامر..أي أنها تنشأ بترك ما أمر الله تعالى به ودعاء الإنجيل يخص الذنوب الإيجابية فقط، دون الذنوب السلبية..بمعنى أنه يعلّم المرء أن يستغفر ربه بصدد الذنوب التي وقع فيها، ولكنه لا يعلمه أن يسأل الله تعالى أي يحفظه من التقاعس عن القيام بما أمر الله من الصالحات.ولكن القرآن الكريم قد ذكر المعاصي الإيجابية في كلمة غير المغضوب عليهم ، وكذلك الآثام السلبية في كلمة ولا الضالين..أي ربَّنا من مغبة السيئات التي ارتكبناها، وأيضًا احمنا من أن نتقاعس عن القيام بما أمرتنا به من خير، فننحرف عن جادة الصواب.وأخيرًا يقول الدعاء الإنجيلي: ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نَجِّنا من الشرير." أن هذه الجملة نتيجة للجملة السابقة، وليس فيها أي معنى زائد.ولكن القرآن الكريم لا يرى أي حاجة إلى دعاء كهذا، لأن الله تعالى لو دلّنا على صراط المنعم عليهم استجابةً لدعائنا اهدنا الصراط المستقيم فلن نقع بفضله في التجربة احفظنا والواقع أبدًا.الله على كل حال، فإن هذه الفقرة الإنجيلية تؤكد أن المسيح ال كان يدعو تعالى ويصلي له كما تدل على البون الشاسع بين دعاء القرآن ودعاء الإنجيل.ثم ورد في موضع آخر من الإنجيل عن المسيح ال: "وأما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي" (لوقا ٥: (١٦).

Page 282

الجزء الخامس ۲۷۵ سورة مريم فما أعظمه وأوضحه من برهان على صدق ما قاله القرآن الكريم على لسان المسيح الله وأوصاني بالصلاة)).ذلك لأن "أوصاه بكذا" يعني عهد إليه (الأقرب) أي أمره بالقيام به دائمًا.علما أن الأمر هو الطلب بفعل شيء فحسب، أما الوصية فمدلولها أكثر من ذلك حيث تعني الإلزام بالقيام بشيء على الدوام.فالمراد من قول المسيح الله وأوصاني بالصلاة أنه تعالى قد ألزم علي كواجب أن أدعوه وأبتهل إليه على الدوام.والعبارات التي أوردتها هنا من الإنجيل توضح أن المسيح اللي كان كثير الدعاء دائما.دائم طلبت * ثم يذكر الإنجيل دعاء المسيح اللي في مكان آخر حيث قال لرجل: "ولكني من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لوقا ۲۲ (۳۲).كما ورد عن المسيح الا في الإنجيل وانفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وصلى" (لوقا :۲۲: ٤١)..أي ذهب المسيح اللي بعيدا عن القوم مئة وخمسين قدمًا تقريباً، ثم صلى جالسًا كما نجلس نحن المسلمين في القعدة الأخيرة في الصلاة.ثم ورد في المكان نفسه بعد بضع جمل: "وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة، وصار عرفه كقطرات نازلة على الأرض.ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه، فوجدهم نياما من الحزن، فقال لهم: لماذا أنتم نيام.قوموا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (لوقا ٢٢: ٤٤-٤٦)..أي كان المسيح اللي يدعو في صلاته بإلحاح وابتهال شديدين حتى بدا كأن العرق الكثير النازل من جسده ليس عرقًا وإنما هو دم.انظروا هنا كم يحب المسيحيون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فإنهم ناموا بدلاً من أن يصلوا مع المسيح ال ، ومع ذلك يقولون أنهم ناموا لشدة الحزن عليه.العلية لا والزكاة هو الشيء الثاني المذكور هنا على لسان المسيح ال: وأوصاني بالصلاة والزكاة وليكن معلوماً عن الزكاة أن مهمة الأنبياء إنما هي أن يوزعوا * علما أن ما ورد في النسخة الأردية هو "دعوتُ من أجلك"، عوضا عن "طلبت من أجلك".(المترجم)

Page 283

الجزء الخامس ٢٧٦ سورة مريم على الناس كل ما حباهم الله تعالى به من النعم.فالحق أن المراد من إخراج الأنبياء للزكاة هو حثهم أتباعهم على أدائها.ورد في الإنجيل أن الفريسيين جاءوا المسيح الله وقالوا له: أيجوز أن تُعطى جزيةٌ لقيصر؟ وكان غرضهم من ذلك أنه إذا أجاب بالإيجاب فيثيرون القوم ضده بحجة أنه يتملق للحكومة ويأمرهم بأداء الجزية لها، أما إذا أجاب بالنفي فيثيرون الضجة بأن المسيح قد تمرد على الحكومة - وهي المكيدة نفسها التي قد لجأ إليها المشايخ ضدنا اليوم - ففطن المسيح العلم النواياهم الخبيثة حيث ورد: "فعلم يسوعُ خبثهم وقال: لماذا تحرّبونني يا مُراؤون؟ أَرُوني معاملة الجزية.فقدموا لـه دينارا، فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له لقيصر.فقال لهم: أَعْطُوا إذا ما لقيصر لقيصر وما الله الله.فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا (انظر متى ۲۲ : ۱۸ -.(۲۲ لقد تبين من ذلك أن المسيح الله قد أقر بقانون إخراج حق الله تعالى من المال، وهذا هو ما يسمى الزكاة.وجاء في موضع آخر من الإنجيل: "وأما يسوع فدعا تلاميذه وقال: إني أُشفق على الجمع لأن الآنَ لهم ثلاثة أيام يمكثون معي وليس لهم ما يأكلون.ولستُ أريد أن أصر فهم صائمين لئلا يخوِّروا في الطريق.فقال له تلاميذه: من أين لنا في البرية خبر بهذا المقدار حتى يُشبع جمعًا هذا عدده؟ فقال لهم يسوع: كم عندكم من الخبز؟ قالوا: سبعة وقليل من صغار السمك.فأمر الجموع أن يتكثوا على الأرض، وأخذ السبع خبزات والسمك وشكر وكسر، وأعطى تلاميذه، والتلاميذُ أعطوا الجمع.فأكل الجميع وشبعوا.ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة، والأكلون كانوا أربعة آلاف رجلٍ ما عدا النساء والأولاد.ثم صرف الجموع، وصعد إلى السفينة، وجاء إلى تخوم مَجْدَلَ" (متى ١٥: ۳۲-۳۹).إن بيان الإنجيل مبالغ فيه عادةً فربما كان الضيوف أربعة أو خمسة، ولكن كاتب الإنجيل ضخم العدد وجعَله أربعة آلاف شأنه شأن السيخ عندنا، فإذا طرق أحدهم باب صاحبه يسأله من الطارق؟ فيجيب: جيش.فيقول: كم عددهم؟

Page 284

الجزء الخامس ۲۷۷ سورة مريم فيقول : مئة ألف أو يزيدون فيجعلون من الشخص الواحد مئة ألف وأكثر.كذلك يبالغ كتاب الإنجيل في بيان الأرقام بشكل مذهل.وعلى سبيل المثال، قد بالغوا في ذكر عدد قوم موسى مبالغة خرافية، مع أنهم لم يكونوا أمة كبيرة العليا حينذاك.على أية حال، إن هذا الحادث أيضا يؤكد أن المسيح اللي كان يشفق على الجياع، وكان من عادتهم إطعام الفقراء والجائعين.وقد ذكر هذا الحادث في مواضع أخرى من الإنجيل أيضًا.بعد ذلك يحكي لنا القرآن الكريم قول المسيح اللي وبرا بوالدتي..أي لقد جعلني الله تعالى محسنًا إلى أمي وهذا ما يؤكده الإنجيل أيضًا حيث جاء: "ثم نزل معهما (أي مع أمه وزوجها، وجاء إلى الناصرة، وكان خاضعا لهما.وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها (لوقا :٢: ٥١).فثبت أن المسيح العليا كان مطيعا لأمه.أن لوقا يذكر في إنجيله أن المسيح كان مطيعا لأمه، إلا أن أصحاب ومع الأناجيل الأخرى يقولون إنه الي كان يعصيها.فتارةً نهر أمه بشدة، وتارةً أخرى قال لها: إني لا أعرفك.وتارةً ثالثة قال لها: اذهبي عني، فإني لن آتي وراءك.ولكن القرآن الكريم قد أكد في كل مكان أن المسيح كان مطيعا لأمه ومحسنًا إليها على الدوام.ثم يقول القرآن الكريم على لسان المسيح اللة ولم يجعَلْني جبّارًا شقيًّا.ولفظ "الجبار" من الأضداد.فمن معانيه إصلاح الشيء المكسور، وأيضا التعالي بهضم حق الغير وإهانته.فكأن من الناس من ينال الرفعة والعظمة بطريق مشروع، ومنهم من يحاول الصعود بإسقاط الآخر وإهانته.وهذا يعني أن الله تعالى إذا وُصف بكونه "جباراً" فالمعنى أنه تعالى يُصلح ما فسد ويجبر ما كسر، وحين يوصف الإنسان بكونه جباراً فالمراد أنه يريد الصعود بظلم الآخرين وإسقاطهم.إذا فالجبار من الناس من ليس حليما ولا رؤوفا بالناس.وعليه فيعني قول المسيح اللي يجعَلْني جبّارًا شقيًّا أن الله تعالى قد هذب أخلاقي وجعلني حليما ومحبا للناس.لم

Page 285

الجزء الخامس ۲۷۸ سورة مريم ونجد في الإنجيل بهذا الشأن قول المسيح ال: "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هين، وحملي خفيف" (متی ۱۱: ۲۹).لقد وصف المسيح اللي نفسه هنا بأنه حليم القلب ومتواضع، وأنه لا يظلم أحدًا.إنه لا يسلب حقوق الآخرين، بل إذا أمرهم بشيء فإنما يأمرهم به لأنه نافع لهم، وليس لأنه يريد أن يتحكم عليهم.ثم ورد في موضع آخر من الإنجيل قول المسيح ال : "قولوا لابنة صهيون: هوذا مَلكُك يأتيك وديعًا راكبًا على أتان وجَحْش ابن أتان" (متى ٢١: ٥).وهنا أيضًا يصف المسيح الله نفسه بالدعة والرفق، أي أنه ليس ممن يتكبرون على الآخرين بإضعافهم وإهانتهم، بل لقد جاء خادما للقوم.بيد أن الإنجيل يقدم المسيحَ الهنا بشكل مضحك، حيث يذكر أنه دخل المدينة على جحش كان في الواقع ملكًا لشخص آخر فاستولى عليه المسيح، حيث ورد: "ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون حينئذ أرسل يسوعُ تلميذين قائلا لهما: اذْهَبا إلى القرية التي أمامكما، فللوقت تجدان أتانا مربوطةً وجحشا معها، فحُلّاهما وأتياني بهما.وإن قال لكما أحد شيئًا فقُولا: الربُّ محتاج إليهما" (متى ٢١: ۱-۳).والوصف الثاني الذي وصف به المسيح الله هنا في القرآن الكريم هو عدم الشقاوة حيث قال المسيح اللة ولم يجعلني جبارًا شقيا.العليا لم يجعلني جبارًا شقيًّا.والشقاوة ضد السعادة.علما أن هناك الكلمات التي يتضح مرادها بذاتها، ولكن هنا بعض التي لا يتضح مفهومها إلا بأضدادها مثل الشقي والسعيد.فإذا راجعت القواميس لمعرفة معنى السعيد مثلاً تجدها تقول: السعيد مَن لم يكن شقيا.وإذا بحثت فيها عن معنى الشقي وجدتها تقول: الشقى من لم يكن سعيدًا.فكلتا الكلمتين ضد، والمتصفح للقاموس يتحير ويقول من أين أعرف معناهما.ولكنه حين يرى المشتقات الأخرى لمادة "سعد" يتبيّن له أن السعيد من يحقق مطلبه بمساعدة غيره، وأن هذا اللفظ لا يمكن إطلاقه على الله تعالى.أما الشقي فهو من يفشل في جلب المعونة من من الكلمات

Page 286

الجزء الخامس ۲۷۹ سورة مريم غيره.إذا فالشقي من يُحرم من المساعدة المشروعة من الآخرين، ولا يؤيده أحد ولا ينصره.فلنرجع المسيح الآن إلى الإنجيل لنعرف موقفه من بيان القرآن هذا.لقد ورد فيه قول ال: "قد كلّمتكم بهذا ليكون لكم في سلام في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم" (يوحنا ١٦: ٣٣).أي ستحل بكم المصائب، حتى سيتمنى الناس أن يسحقوكم، ولكن كونوا على يقين أنني أنا الغالب في آخر المطاف.إن كل نبي جاء إلى الدنيا قد عرض على العالم الدعوى نفسها، فقال أنا الغالب في نهاية الأمر، وليس لكل من يتصدى لي إلا الفشل ولكن الغريب أن الناس يثورون غضبا عندما نقول لهم نحن المسلمين الأحمديين الكلام نفسه، فيقولون كيف يمكنكم أن تقولوا إنكم الغالبون في النهاية.هذا على الرغم أن المدعين الكاذبين أيضًا يعلنون أن الفتح لهم في نهاية المطاف.إن الذي يعده الله تعالى بالفتح والنصر إذا لم يقل إني أنا الغالب فماذا يقول يا ترى؟ وإن المسيح العلي أيضًا يعلن هنا الأمر نفسه ويقول "ولكن ثقوا أنا قد غلبتُ العالم"، وكأنه قد قال هنا نفس ما عزا إليه القرآن الكريم بأنه قال أن الله تعالى لم يجعلني كذلك ورد في الإنجيل أن المسيح النصح الحواريين أنهم إذا ذهبوا إلى مدينة للتبليغ والدعوة "اشفوا المرضى الذين فيها، وقولوا لهم قد اقترب منكم ملكوتُ الله" (لوقا ١٠: ٩)..أي عليهم أن يوقنوا بأن النجاح على الأبواب وأن النصر قريب.فثبت من ذلك أن كل تلك الأمور التي نسبها القرآن الكريم إلى المسيح الله لموجودة في الإنجيل أيضًا.فزعم المسيحيين أن القرآن قد نسب إلى المسيح ما لم يقله قط يمثل برهانا ساطعًا على كذبهم أو على جهلهم بكتبهم.شقيا.وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أُمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (3) التفسير: لقد وصف الله تعالى يحيى ال أيضًا بهذه المزايا نفسها فقال وسلام عليه يومَ وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا ) (مريم: (١٦).غير أن ثمة فرقًا، وهو أن

Page 287

الجزء الخامس ۲۸۰ سورة مريم الله تعالى نفسه قد شهد بذلك عن يحيى ال، أما المسيح الله فيقول بنفسه عن نفسه والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت يوم أبعث حيًّا ).وهناك أمران خاطئان يستنتجهما البعض من قول المسيح الل هذا، فيقال أن قوله والسلام عليَّ يوم ولدت دليل على أن الشيطان لم يمس المسيح قط، وأن قوله ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا دليل على أنه لم يعلق على الصليب (فتح البيان، وتفسير القرآن لـ "ويري" مجلد ۱ ص ۲۱).وأقول: إذا كان قول المسيح والسلام عليَّ يوم ولدت دليلاً على براءته من الشيطان، فلم لا يسلمون ببراءة يحيى من مس الشيطان لقوله تعالى عنه الله وسلام عليه يومَ وُلد ).مس الحق أنه ليس في هذه الكلمات أي دليل على أن المسيح وحده معصوم من مس الشيطان، وإنما معناها أن الله تعالى قد جعل في المسيح البركة منذ يوم ولادته.ولا خصوصية للمسيح الله في ذلك، فإن موسى وداود وسليمان وآلاف وآلاف غيرهم من الأنبياء - عليهم السلام - كانوا كلهم مباركين منذ ولادتهم.أما استدلالهم الآخر من قول المسيح إنه سيكون عليه سلام (يوم يموت بأنه لم يعلق على الصليب فهو الآخر غلط ذلك لأن تعليقه على الصليب لا ينافي كونه تحت السلام، بل إن موته على الصليب هو الذي ينافي السلام.إذ جاء في العهد القديم: "وإذا كان على إنسان خطيّةٌ حقها الموتُ فقُتل وعلقته على خشبة، فلا ثبت حته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلَّق ملعون لأن المعلَّق ملعون من الله" (التثنية ۲۱: ۲۳-۲۲).فالمراد من السلام على المسيح يوم يموت أنه لن يموت ميتة ملعونة، بل سيموت ميتة رضوان من الله تعالى، وأن الله تعالى سيرفعه إليه.فثبت بذلك أن سلامة المسيح يوم يموت تنفي موته على الصليب، ولكنها لا تنفي تعليقه على الصليب.بيد أنه لا يمكن أن يُستنتج من ذلك أن يحيى ل لم يُستشهد، ذلك لأن قتل المرء بيد العدو في سبيل الله تعالى لا يتنافى مع السلام كان الخليفة الأول له يعتقد في أول الأمر بعدم استشهاد يحيى ال ، ولكن لما عُرضت عليه أقوال كثيرة تؤكد 6.

Page 288

الجزء الخامس ۲۸۱ سورة مريم استشهاد يحيى عدّل حضرته موقفه.وفي الفترة التي كان حضرته يعتقد بعدم شهادة يحيى ل كان يستدل على موقفه بقول الله تعالى وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا.مع أن الموت لا يتنافى مع السلام، سواء كان موتًا طبيعيًا بالحمى وغيرها، أو قتلاً بالسيف.ولكن الموت على الصليب كان منافيًا للسلام حتمًا.وإن يحيى الا لم يمت على الصليب، فلا يمكن أن تكون هذه الكلمات القرآنية نفيًا لقتله.أما قول الله تعالى للمسيح أنه سيشمله بالسلام يوم موته فينفي موته على الصليب يقينًا، لأنه ميتة ملعونة بحسب التوراة.إن هذه الآية تدل في بادئ الرأي، على عظمة المسيح الله، ولكنها في الواقع تنفي كون المسيح اللي إلها، مؤكدةً أنه كان بشرًا فحسب.ذلك لأن قوله ال والسلام على يوم ولدت ويوم أموت يوم أبعث حيا يصرح أن السلام قد نزل على المسيح من قبل غيره، فالذي أنزلَ السلام هو غيرُ مَن نزل عليه السلام.ومعلوم للجميع أن "السلام" من أسماء الله تعالى، ومن أجل ذلك نسمي أولادنا عبد السلام، أو نحيي الآخرين بقولنا "سلام" عليه" أو "السلام عليكم".ولكن قولنا هذا لا يعني أن هذا الذي سلّمنا عليه لن يُقتل أبدًا، أو لن يُعلق على الصليب أبدًا.وبالمثل نقول في صلواتنا السلام عليك أيها النبي".ولكن لا يمكننا أن نقول "السلام على الله، اللهم إلا أن يقال ذلك على سبيل المجاز والاستعارة.فمثلاً قد يتصور أحدنا في مخيلته ربَّه، فيستولي عليه حب الله تعالى حتى يصبح نشوانًا في حبه تعالى، فيقول لربه في نشوته هذه "السلام عليك"، ولكن قوله هذا سيُعتبر مجرد استعارة، ولن يُحمل على الحقيقة أبدا.يعني قصارى القول إننا كلما استعملنا لأحد كلمة السلام فإنما نعني بذلك أنه بشر وأنه يفتقر إلى السلام، وأن الله تعالى هو وحده واهب السلام.فقول المسيح ال والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت السلام قد نزل عليه وقت ميلاده ووقت موته من قبل من هو السلام.وقوله العلمي ويوم أبعث حيا) يعني أن السلام سينزل عليه يوم يُبعث بعد الموت.فكلمة أبعث حيا أيضا تدل دلالة واضحة على أن واهب السلام هو غيرُ مَن يتلقى السلام.

Page 289

الجزء الخامس ۲۸۲ سورة مريم وكما قلت سابقا إن هذه الآية تدل في بادئ الرأي، على عظمة المسيح العلمية لا ، حيث يقول المرء في نفسه كم كان المسيح عظيم الشأن حيث شمله السلام يوم ميلاده ويوم موته ويوم يُبعث بعد الموت؛ ولكن مفهومها الحقيقي هو أن المسيح ال ليس إلا بشرًا، وليس بإله أبدًا.إذا فكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يطعن المسيحيون في القرآن الكريم ويقولوا إنه قد افترى على المسيح هذه الكلمات ليثبت أن إلههم كان مجرد إنسان وللرد على هذا الطعن المحتمل من قبلهم علينا بدارسة الإنجيل بتدبر وإمعان لنعرف ما يقول بهذا الصدد.وليكن معلومًا أن قوله يوم أُبعَثُ حيًّا يمكن أن يفسر بمفهومين: مفهوم من وجهة النظر الإسلامية ومفهوم من وجهة النظر المسيحية، إذ يوجد بين الوجهتين بون شاسع جدا.نحن نؤمن بأن المسيح لم يمت على الصليب، وإنما قد عُلّق على الصليب وصار كالميت فقط، فالمراد من يومَ أُبعث حيًّا ذلك الوقت الذي علق فيه المسيح على الصليب، حيث طرأت عليه حالة كحالة الموت، ولكنه شمله السلام من عند الله تعالى، فأنقذ من ذلك الموت.أما المسيحيون فيقولون أن المسيح قد مات على الصليب حقيقة وأن الله تعالى أحياه بعد ثلاثة أيام، فيكون المراد من يومَ أُبعث حيا من وجهة نظر المسيحيين ذلك الوقت الذي أعيد فيه إلى الحياة ثانية في زعمهم.لكل يسمى مسيحي، العلمية لا وهو الحجة مما لا شك فيه أن الوقت الذي سيُعاد فيه الإنسان من الموت الحقيقي إلى الحياة ثانية أيضا بعثًا، ولكنا لا نملك أي دليل على نزول السلام عليه عندها، أما المعنى الذي بينته لقوله تعالى يوم أبعث حيًّا فبوسعنا أن نقدم عليه الدليل ، حيث إنه من الثابت من الإنجيل أن الله تعالى أنقذ المسيح في حالة شبيهة بالموت ونجاه من الموت على الصليب.كما يمكننا أن نقیم عليهم، بالنظر إلى معناهم، بقولنا لهم إنكم أنفسكم تعترفون بأن المسيح كان قد مات، ثم أعيد إلى الحياة، وهذا يعني نزول السلام عليه عندئذ كما أعلن القرآن الكريم.ولكنا لو قلنا لهم إن يوم أبعث حيا) يعني أن السلام سيشمل المسيح في الآخرة فلا دليل بيدنا على ذلك؛ مع أنه يجب على المرء أن يكون بيده دليل على

Page 290

الجزء الخامس ۲۸۳ سورة مريم صدق موقفه وإلا لم يقتنع الخصم بقوله أبدًا.لا جرم أن هناك أشياء لا تحتم على المرء تقديم الدليل عليها، ولكنها أمور لا علاقة لها بالعقائد.فمثلاً إذا أثبتنا بالبراهين لشخص غير مؤمن أن الإنسان يُبعث بعد الموت فهذا يكفينا، ولا حاجة بنا أن نقدم له البراهين على نوعية نعماء الجنة وأشكالها، إذ يدخل هذا في إيماننا فقط، ولا علاقة لــه بمعتقداتنا التي يجب أن نقدّم الأدلة عليها لإقناع الخصم.وكذلك لو جاءنا أحد وطالبنا قائلا يجب أن تبرهنوا على أن كل ما يتمناه المرء في الجنة سيجده، لقلنا لـه إنه سؤال لا طائل وراءه؛ لأن ما يخصك من عقيدتنا إنما أن الإنسان يُبعث بعد الموت، أما كيفية معاملة الله معه فهو ليس مما يجب علينا أن نبرهن عليه إن هذه الأمور تدخل في الذوقيات عند البعض، بينما اعتبره البعض الآخر من الإيمانيات وقال إن المؤمنين يفرحون بما وعدهم الله به وأن الله تعالى قد أعد لهم في الآخرة نعما عظيمة.بيد أنه لا حاجة بنا أن نبرهن على ذلك حتى يقتنع به الخصم.هو أما هنا فقد قدم القرآن دعوى عظيمة وقال إن المسيح اللي قد شمله السلام وقت ،ميلاده كما ظل مورداً للسلام فيما بعد أيضًا؛ لذا فلا بد لنا من أن تكون بأيدينا أدلة على نزول السلام على المسيح العلي فتعالوا الآن لنرى هل يتحدث الإنجيل عن هذا السلام النازل على المسيح أم لا؟ تكشف لنا دراسة الإنجيل أن الرعاة – الذين كانوا يرعون غنمهم خارج المدينة، والذين قد ولد المسيح ال قريبا من مكانهم في البرية - رأوا في حالة من الكشف ملائكة تقول : "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لوقا.(١٣:٢-١٤ لقد تضمنت هذه الفقرة ثلاثة أمور أولها المجد أي الحمد لله في السماء، وثانيها: السلام الله على الأرض، وثالثها: رضا الله عن الناس.والأمر الأول، أي الحمد الله في الأعالي يخص الله تعالى، ولا نقاش في ذلك.أما الأمر الثاني أي السلام الله على الأرض، فلا يمكن التسليم بأنه يخص الله تعالى، لأنه تعالى صاحب السلام وله السلام في كل مكان ولا خوف عليه أبدًا حتى يدعو

Page 291

الجزء الخامس ٢٨٤ سورة مريم الله الإنسان بأن يكون الله السلام على الأرض.إنما البشر هم الذين يكونون بحاجة إلى السلام على الأرض، وهم الذين يمنحهم تعالى السلام.أما الأمر الثالث أي رضا الله عن الناس، فأيضا يخص البشر كلهم، والمراد أن يتبع الناس أوامر الله تعالى ويحظوا برضوانه.ونعود بالحديث ثانية إلى الأمر الثاني المتعلق بالسلام الله على الأرض، ونقول: حيث إن هذا الكشف قد رآه الرعاة عند ولادة المسيح فلا شك أن السلام المذكور هنا يخص المسيح حتما، وإلا لوجب التسليم بأن الله تعالى يتمتع بالسلام في السماء، ولكنه لا يتمتع به على الأرض؛ وهذا غلط بالبداهة، إذ لم يتعرض الله الله لخطر في الماضي قط، ولن يتعرض لخطر في المستقبل أبدًا.فثبت أن "السلام الله على الأرض" يخص المسيح ال..وهذا يعني أن الإنجيل أيضًا يؤكد أن الله تعالى قد أنزل على المسيح السلام عند ميلاده، مثلما أعلن القرآن الكريم.ثم ورد في الإنجيل قول المسيح الله: "وأنا لستُ وحدي لأن الآب معي" (يوحنا ١٦ (٣٢) أي لو أردتم أن تخذلوني فشأنكم إن أخوف ما يمكن أن أخافه منكم هو أن تتخلوا عني وقت الشدائد والمحن، ولكن لا أبالي بذلك، لأني لست وحيدًا، بل إن معي ربي.إن وقوفكم بجانبي لن يزيدني قوة، وإن خذلانكم لي لن يُضعفني شيئا.وهذا يعني أن الإنجيل يؤكد نزول السلام على المسيح ال عند ولادته وأيضًا في أيام حياته فيما بعد على الدوام.أما عند الصليب حين مات المسيح بالفعل عند المسيحيين واليهود، وحين دخل في حالة شبيهة بالموت عندنا نحن المسلمين، فأيضا لم يتركه الله تعالى، بل شمله السلام من عنده تعالى.فقد ورد في العهد الجديد: "يسوع" الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال ويشفي جميع المتسلط يصنع خيرا عليهم إبليس، لأن الله كان معه" (أعمال الرسل ۱۰: ۳۸).ثم يؤكد العهد الجديد نزول السلام على المسيح في الوقت الذي يموت الإنسان مونا حقيقيًّا حيث جاء: "ها أنا أنظر السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائما عن يمين الله" (أعمال الرسل ٧: (٥٦).

Page 292

الجزء الخامس ٢٨٥ سورة مريم كما ورد في موضع آخر قول المسيح : "منذ الآن يكون ابن الإنسان جالسا عن يمين قوة الله" (لوقا ٢٢ ٦٩..أي سيظن العدو بناء على حادث الصليب أنه قد دمرني ولكني سأجلس على يمين الله تعالى، وسيتغمدني بفضله ورحمته عل.هو إن هذه وعود بنزول السلام على المسيح ال كما وردت في العهد الجديد، وإنها لبرهان حاسم على أن المسيح الله كان بشراً، لا إلها، لأن الدليل على نزول السلام على المسيح هنا هو كون الله تعالى معه، فثبت أن الله تعالى الذي كان يهب هذا السلام للمسيح.أما لو كان المسيح إلها حقا لقال إني إله، وموت الإله محال.ولكنه لم يقل هذا، كما لم يقل أني أتمتع بالسلام بقوتي وقدرتي، بل قال إن الله تعالى معي.فثبت أن المسيح اللي كان بشرًا، لا إلها.وثمة أمر آخر جدير بالذكر هنا، وهو أن الله تعالى قد ذكر يحيى مع المسيح.عليهما السلام - لينبه أن الأول قد جاء إرهاصًا للأخير ، ولكن صفاتهما المذكورة هنا متشابهة جدا حتى يخيل للمرء أنهما قطعتان من جوهر واحد.فقد ذكر القرآن الكريم أن عيسى ال قال إن الله تعالى قد أتاني الكتاب وجعلني نبيا ، وقال، إزاء ذلك، في ذكر يحيى ال يا يحيى خُذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًّا.فأخبر أن كليهما قد أُوتي النبوة والكتاب في شبابه.ثم ورد في القرآن الكريم قول عيسى الله وجعلني مباركًا أينما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمْتُ حيَّا، بينما ورد عن يحيى اللي قول الله تعالى إننا وهبنا له حنانًا من لدنا وزكاةً وكان تقيا.ثم ورد في القرآن الكريم قول المسيح الله إن الله تعالى قد جعلني برا بوالدتي و لم يجعلني جبّارًا شقيًّا، في حين قال الله تعالى عن يحيى اللي إننا جعلناه برا بوالديه و لم يكن جباراً عصيا )).كذلك يقول المسيح ال والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ، بينما يقول الله تعالى عن يحيى الله وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيا.

Page 293

الجزء الخامس ٢٨٦ سورة مريم فترى أن هناك تشابها كبيرًا بين صفات النبيين.فمثلاً يقول المسيح العلي وأوصاني بالصلاة والزكاة، وأوصاه أو وصاه بكذا يعني عهد إليه..أي أمره به بكل شدة وقوة.أما يحيى الليل فقد قال الله تعالى عنه أيضا خذ الكتاب بقوة.ثم قال الله تعالى عن يحيى لو لم يكن جبّارًا شقيا ، بينما ورد في القرآن قول عيسى ال ولم يجعلني جبارًا شقيًّا.فترى أن الله تعالى قد ركز هنا على بيان صفة ذاتية ليحيى لأن كون المرء غير عاص صفة ذاتية، بينما ركز الله تعالى على صفة قومية، لأن كون المرء غير شقي، أي كونه ناجحا، صفة قومية.ذلك لأن نجاح الزعيم الروحاني أو النبي إنما هو غلبة قومه وانتشارهم في العالم.فثبت أن الله تعالى قد بين هنا صفة قومية للمسيح وصفة ذاتية ليحيى عليهما السلام.وكان هذا في الحقيقة إعلامًا من الله تعالى أنه لن يُكتب البقاء لأتباع يحيى كأمة منفصلة، أما المؤمنون بالمسيح الا فيبقون في العالم كأمة.ذلك لأن يحيى اللي كان من الأنبياء الذين جاءوا في الوسط، وكانوا كمجددين، أما المسيح ال فكان الحلقة الأخيرة من السلسلة الموسوية.ومن سنة الله تعالى أن النبي الذي يكون بمنزلة أول أو آخر حلقة في سلسلة النبوة، فإن الله تعالى يوليه أهمية كبيرة، ويكتب لاسمه وعمله وجماعته البقاء.أما النبيين الذين يأتون في الوسط فتُضَمّ إنجازاتهم إلى إنجازات النبي الذي هو مؤسس تلك السلسلة للنبوة، ولا تبقى لهم مكانة منفصلة.وعلى سبيل المثال، كان داود نبيًّا عظيمًا، ولكن أعماله قد ضمت إلى إنجازات موسى عليهما السلام وكان إشعياء وإرمياء وحزقيال وعزرا أيضًا من الأنبياء العظام، ولكن أعمالهم أيضا قد أدمجت في أعمال العلية لا.أما موسی عیسی العلية لا السلسلة فنالت أعماله مكانة منفصلة بارزة، ذلك لأنه كان الحلقة الأخيرة من الموسوية.ومن أجل ذلك قال حضرة محيي الدين ابن عربي أن المسيح الموعود العلي سيقف يوم القيامة ممسكًا لواءً صغيرًا تحت اللواء الكبير لمحمد رسول الله ﷺ (الفتوحات المكية: السفر الثالث، الباب الرابع والعشرون ص (١٧٦).وكأنه يعني إنه سيكتب البقاء لاسم المسيح الموعود الة على شكل جماعة بارزة ضمن الأمة الكبيرة لرسول الله ، أما غيره من كبار المسلمين فتُضَمّ أعمالهم إلى أعمال رسول الله

Page 294

الجزء الخامس ۲۸۷ سورة مريم.وكأن صورة المسيح الموعود سوف ترى منفصلة أيضًا على نطاق ضيق إعلامًا أنه قد بلغ في طاعة محمد رسول الله العلي درجة عظيمة بحيث نال بها مكانة منفصلة أيضًا.من وجدير بالذكر أيضًا أن الله تعالى نفسه قال عن يحيى العلمية وسلام عليه ، بينما قال المسيح بنفسه عن نفسه والسلام علي.وكل واحد من القولين يفوق الآخر بشكل ما.فما قيل في يحيى اللي فهو أفضل مما ورد عن المسيح العلية لا حيث إن الله تعالى نفسه شهد بنزول السلام على يحيى، ولا شك أن لشهادة الله أهميتها ومكانتها أما ما ورد عن المسيح فهو أفضل مما ورد عن يحيى من حيث إن المسيح نفسه قام بهذا الإعلان بعد أن بشره الله بذلك حتما.لا شك أن المسيح العليا لم يصرح هنا بأن الله تعالى قد وعده بالسلام إلا أن قوله هذا يدل أن الله تعالى هو الذي بشره بذلك فقام بهذا الإعلان للناس غير أن المسيح قد نسب ذلك السلام إلى نفسه، وهذا يعني أن صفة الله "كُن فيكون" قد تجلت في المسيح ال حيث أعلن بنفسه والسلام علي..ولن تقدر قوة في العالم على أن تجردني من هذا السلام.كما أن هذه المقارنة تكشف لنا أن السلام قد شمل ولادة يحيى كما شمل ولادة المسيح عليهما السلام فلو ظننا أن هذا يعني فقط أن يحيى وعيسى سينجوان من الموت عند ولادتهما، فلم تعد لهما أي خصوصية في هذا الأمر، فإن جميع المواليد الذين يحيون بعد ولادتهم إنما يحيون نتيجة السلام الذي يشملهم من عند الله تعالى.الحق أن هذه الألفاظ قد جاءت لتدل على أن ولادتهما تنطوي على آية من عند الله تعالى.وكأن نزول السلام عليهما لا يدل هنا على السلامة الجسمانية أي أنهم سيُرزقان الحياة، بل المراد أن السلام سينزل بسببهما على الدنيا، إذ سيأتيان بآيات من الله تعالى بحيث إن ولادتهما ستتسبب في نجاة العالم من الكفر والإلحاد.فكل من نظر إلى ولادة يحيى وعيسى الإعجازية وإنجازاتهما المدهشة، وكل من شاهد الانقلاب العظيم الذي أحدثاه في العالم، وكل من رأى الآيات السماوية التي ظهرت على أيديهما، لا بد أن يزداد إيمانًا، ويكره الكفر والإلحاد، ويخرج من

Page 295

الجزء الخامس ۲۸۸ سورة مريم ظلمات الشبهات والوساوس، وسيتجلى له نور الله فيدرك أن ربنا لا ذو قدرة واسعة.يعني ثم قال الله تعالى إن السلام شمل يحيى وعيسى لدى موتهما أيضًا.ولكن هذا لا أن موتهما كان خاليًا من أي تدخل من البشر كما يظن البعض عن يحيى العليا.ذلك لأن المرء ما دام لا مفر له من الموت فلا فرق بين أن يُستشهد وبين أن يموت مونا طبيعيًّا.فإما أن يقال أن السلام هنا يعني نجاته من الموت أبدا، ولكن هذا غلط، وإلا لما قال الله تعالى هنا إنه سيكون في سلام يوم يموت، بل لقال إنه سيكون في مأمن من الموت أبدا.فما دام الله تعالى لا ينفي موته فلا فرق في أن يموت على يد بعض البشر أو أن يموت على يد بعض الملائكة.إذا فلا بد لنا من تفسير هذه الآية بما يؤكد نزول السلام على يجى وعيسى رغم موتهما.وهذا التفسير هو أن موتهما لن يحول دون الغاية التي قاما من أجلها وبعثا لتحقيقها.إنهما سيموتان حتما، ولكن سيبقى اسمهما خالدا.سيأتي عليهما الفناء، ولكن أعمالهما لن تفنى وهكذا يكون موتهما موت سلام.وأي شك في أن المرء إذا لم تمت دعوته بموته، وإذا لم يتضرر عمله بوفاته، بل صار بعده أكثر ازدهارا وأوسع انتشارًا من ذي قبل، فميتته ميتة سلام! أما إذا مات عمله بموته، وانمحى اسمه بفنائه، فلا شك أن ميتته ميتة دمار وهلاك.ولكن إذا استمر عمله في الانتشار والازدهار فلن نسميه ميتًا.ورد في التاريخ أن المأمون الرشيد أمر ابنيه بالتعلم على يد الفراء النحوي الشهير.وذات يوم أراد الفراء أن ينهض لبعض شأنه، فابتدر الأميران إلى نعل الأستاذ يقدّمانه إليه.فتنازعا أيهما يقدّمه، لأن كل واحد منهما كان يريد أن ينال شرف وضع النعل أمام أستاذه.وأخيرًا اصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما

Page 296

الجزء الخامس ۲۸۹ سورة مريم فردًا من النعلين أمامه.ولما بلغ ذلك المأمون قال للفراء : ما هلَك مَن خلف مثلك * (تاريخ بغداد للبغدادي مجلد ١٤ ص ١٥٠).أي أن المعلم الذي يكن له تلاميذه مثل هذا الأدب الجم لا يمكن أن يموت أبدًا.إذا فالشخص الذي يترك وراءه جماعة من أتباعه الذين يخلّدون اسمه وعمله فموته ميتة سلام، إذ لا شك أن الموت قد حلّ به، ولكنه لم يعرقل عمله.فعندما نقول إن موت فلان موت سلام فلا ذلك استحالة قتله بيد أحد، يعني ذلك لأن الذي قد مات فليس مهما أن يموت بطريق معين.إن ميتة سلام هي الموت الذي لا يفنى به عمل صاحبه، بل إنه ينجح في مقصده.لا شك أن يحيى اللي قد مات وانمحى أي أثر لجماعته، ومع ذلك كلما يذكره المسلمون يقولون: يحيى ال.وكلما قرءوا في القرآن الكريم قول الله تعالى في شأنه وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا جدّدوا ذكراه وتراءت لهم أحداث حياته، وامتلأت قلوبهم بمشاعر الحب والاحترام نحوه.فثبت أنه الله حي رغم موته، وسيظل خالدًا إلى يوم القيامة.وهذا هو حال المسيح العل أيضًا.لا جرم أن أتباعه موجودون اليوم، ولكن الأمر الواقع أنه ليس خالدًا من خلالهم، لأنهم لا يعرضون المسيح أمام العالم، وإنما يعرضون ابن الله الذي لا وجود لـه في الواقع.الحق أن المسيح إذا كان خالدًا اليوم فإنما هو خالد من خلال الإسلام والقرآن الكريم وجماعتنا؛ ذلك لأن الإسلام والقرآن وحدهما اللذان يعرضان على العالم المسيح الحقيقي.فالمراد من السلام على يحيى وعيسى أنه سيُكتب لهما ولتعليمهما الحقيقي الخلود في العالم؛ وسيكون النجاح حليفهما في أهدافهما، ثم يرثان الحياة الأبدية من خلال القرآن والإسلام.* نص ما ورد في المصدر المشار إليه هو : قال له : مَن أعز الناس؟ قال: ما أعرف أعز من أمير المؤمنين.قال: بلى، من إذا نهض تَقاتَلَ على تقديم نعليه وليَّا عهدِ المسلمين حتى رضي كل واحد أن يقدّم له فردا".(المترجم)

Page 297

سورة مريم الجزء الخامس ۲۹۰ وبعد ذلك يقول القرآن الكريم عن يحيى ا إن السلام سيشمله يوم يبعث حيا، بينما ورد عن عيسى الله أنه قال إن السلام على يوم أبعث حيًّا.والسؤال هنا: ما هو الدليل على ذلك، ومن ذا الذي سيرى في يوم البعث أن السلام قد شملهما؟ إذ يمكن لكل امرئ أن يدعي بأنه سيتبوأ الدرجات العلى يوم يُبعث حيًّا، وليس بيدنا طريق لمعرفة صدقه أو كذبه في دعواه.النبي والجواب الأول على ذلك هو أن صدق المرء في دعواه يقاس على ما سبق منه من أقوال وأعمال وهذا القانون مطبق في كل مكان في العالم.لقد قدّم القرآن الكريم هذا الأمر كبرهان على البعث بعد الموت، حيث لفت انتباه معارضي إلى الأنباء التي تخص هلاكهم وغلبة الإسلام والتي قد أُنيطت بها بعض الوعود التي ستتحقق في الآخرة؛ وقال لهم: ألا ترون أن العقل لم يكن يصدق تحقق الأنباء المتعلقة بالرقي المادي للمسلمين، مع ذلك قد تحققت فعلاً، فيمكنكم أن تقيسوا بذلك صدق الأنباء المتعلقة بالآخرة وتعرفوا أنها هي الأخرى ستتحقق حتما في يوم من الأيام.وهذا الدليل نفسه قد ساقه القرآن الكريم هنا، فذكر ثلاثة أمور، واستشهد بالأمرين الأولين المتعلقين بالحياة الدنيا على صدق الأمر الثالث المتعلق بالآخرة، حتى لا يتردد أحد في تصديقه مدركًا أن الأمرين الأولين ما داما قد تحققا رغم الظروف غير المواتية جدًّا، فلم لا يتحقق الأمر الثالث أيضًا.ومن البديهي أنه إذا أتى أحدًا إلى الدنيا، وأنبأ أنه سيُحدث انقلابًا عظيمًا ، ثم بالفعل أحدث بجهوده وتضحياته وإيثاره وصلاحه وورعه وطهارته انقلابًا طيبًا عظيمًا ما كان أحد ليتوقعه أبدا، فإن ذلك يكون أيضا برهانا على صدق الأنباء التي أخبر بها هذا الإنسان حول الآخرة.لقد جاء يحيى والمسيح عليهما السلام، وأعلنا أن الله تعالى سيظهر من خلالهما مجده وقدوسيته، وأنهما سيبذران في الدنيا بذرة الخير، وسيمحوان الكفر والمكائد الشيطانية من العالم.فعارضهما الناس، وحاولت الدولة قمعهما، وقام الأعداء بتعذيبهما، فقتلوا الواحد وعلّقوا الآخر على الصليب.ولكن

Page 298

الجزء الخامس ۲۹۱ سورة مريم بالرغم من أنهم حاولوا عرقلة طريقهما بكل وسيلة ممكنة إلا أن التعليم الذي جاءا به قد انتشر في العالم في نهاية المطاف.لقد هلك أعداء يحيى وعيسى رغم كونهم ذوي قوة ومنعة وانمحت الحكومات القوية المعادية لهما، بينما صار النجاح حليفهما.فما دام الأمر الأول الذي أخبرا به قد تم فلا بد أن يعترف كل إنسان أن الأمر الثاني أيضا سيتحقق لا محالة.لو أن عيسى قال "والسلام على يوم أُبعث حيا" كان هناك مجال لأن يشك المعارض ويقول : كيف أصدق أن السلام سيشمل المسيح عندما يُبعث.ولكن الله تعالى قد ذكر هذا الأمر بعد الأمرين الآخرين وهما والسلام على يوم ولدت ويوم أموت.وهذا يعني أن الله تعالى قد أكد نـزول السلام على المسيح في مناسبات ثلاث: عند ولادته عند موته، وعند بعثه بعد الموت.وعلى المرء أن يتوقف هنا ويتدبر الأمر.فمن ذا الذي كان بإمكانه أن يقول عند ولادة يحيى في بيت زكريا - عليهما السلام - إن هذا المولود سيكون إنسانا عظيمًا حتى إنه يتسبب في نجاة الدنيا؟ الذي كان بوسعه أن يقول عن عيسى ال عند ولادته إن هذا الصبي سيكون نبيًّا عظيمًا، وسيحرز رقيا مدهشا رغم الظروف غير المواتية؟ كلا، ما كان لأحد أن يقول ذلك، لأن البشر لا يعرفون أخبار المستقبل.ولكن الله تعالى قد أنبأ بهذه الأمور حتى قبل مولد يحيى وعيسى، ثم حصل كما أخبر الله به إن الإدلاء بهذه الأنباء من عند الله تعالى قبل مولدهما، ثم تحقق هذه الأنباء، لبرهان أكيد على أن ولادتهما كانت معجزة، وأن ما أخبر الله به قد تحقق فعلاً.ومن ثم قال يحيى وعيسى - عليهما السلام - إن ربنا معنا وإنه لن يخذلنا أبدًا.وقولهم هذا يماثل ما قلتُ أنا ذات مرة لمسؤول حكومي.وكان ذلك في ١٩ مارس عــــام ١٩٥٣ حين بعث حاكم إقليم البنجاب بموجب قانون الأمان رسالة إلي مع مدير الأمن يحذرني فيها.فقلت لرسوله: إن عنقي في يد الحاكم الذي بعثك، ولكن رقبته في يد ربي.إنه قد فعل بي ما شاء، فلينظر الآن كيف يُظهر لي ربي يــد قهــره وقدرته عل.ولما أراد مدير الأمن الانصراف أوضحت له الأمر ثانية وقلت: إني لم أقل هذا من فورة حماس، بل إن هذا هو القدر الذي لا بد له أن يتمّ، وعنـدما

Page 299

الجزء الخامس ۲۹۲ سورة مريم يتمّ سأذكرك وأقول: ها قد تم ما قلتُ في صاحبك.فلما طرد الحاكم من منصبه بعثتُ إلى ذلك المسؤول الكبير في الشرطة وقلت له : أتتذكر ما كنــت قلــت لك؟ قال : نعم أتذكر جيدًا، وكنت قد ذكرتُ ذلك لبعض معارفي أيضا.كمـا بلغني أن هذا المسؤول قال لشخص آخر : يبدو أن الله تعالى قد وضع يــــده علــــى رقبتي أيضًا.فلا شك أن الإنسان فان، ولكن إذا كتب لاسمه وعمله وتعليمه الخلود فلا الله يموت أبدا، بل يصبح خالدًا إلى الأبد.وهذه هي الحقيقة التي قد بينها المسيح ال في قوله والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموتُ..أي لن أتمتع بسلام من الله تعالى في حياتي فحسب بل بعد موتي أيضًا.ذلك لأن الإنسان لا يملك بعد موته شيئا، أما في حياته فيمكن للناس أن يقولوا: كان هذا شديد الذكاء ومحتالاً وخداعا، فقام بغزو العالم بمكره وكيده.ولكن بعد الموت لا يبقى هناك من فرصة للمكر والخداع والنفوذ والسلطة أو خدمة الخلق، بل بعد ذلك اسم أحد إن شاء.فترى أن يحيى الله قد مات، والمسيح الله أيضًا قد مات، ولكن اسمهما خالد حتى اليوم.فما دام هذان الأمران اللذان هما شبه المستحيل قد تحققا فلم تبق هناك أي شبهة في تحقق الأمر الثالث أيضًا.لا شك أن نزول السلام بعد الموت أمر غير مرئي، ولكن الله تعالى قد ذكره مع الأمرين الأولين المرئيين اللذين كانا كالمستحيل ومع ذلك تحققا، وهكذا أكد أن السلام في الآخرة أيضًا أمر محقق حتما.يعني أن هو الذي يخلد والجواب الثاني هو أنه بالإضافة إلى البعث بعد الموت هناك بعث آخر مقدر لكل نبي في هذه الدنيا أيضًا، حيث يظهر في الدنيا ثانية في شخص نبي آخر.وهذا من سنة الله تعالى أن يبعث بعد كل نبي صادق نبيا آخر يصدق النبي السابق، وهكذا يُظهر الله على الناس صدق النبي الأول مرة أخرى، ويُنزل عليه السلام ثانية بشهادة النبي الجديد.لقد جاء موسى العليا إلى الدنيا، وقام بإنجازات عظيمة، ولكن بعد انقضاء فترة طويلة على بعثته أخذ الناس يشكون في صدقه

Page 300

الجزء الخامس ۲۹۳ سورة مريم رويدا رويدا، فبعث الله تعالى المسيحَ الذي شهد على صدق موسى أمام الناس، وهكذا نال موسى حياة جديدة من خلال المسيح الناصري عليهما السلام.أما يحى منه موسى والمسيح فقد نالا الحياة ثانية من خلال محمد رسول الله ﷺ أما النبي ﷺ فيقول الله بشأنه أَفَمَنْ كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد قبله كتاب ومن إماما ورحمةً أولئك يؤمنون به ومَن يكفُرْ به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (هود: ١٨)..أي كيف يمكن أن يكون كاذبًا من احتوت حياته على آلاف الآيات من عند الله تعالى، بالإضافة إلى الأنباء التي نبّأ بها موسى في حقه ، كما سنبعث بعد وفاته مأمورًا من عندنا ليعلن أن محمدا الله كان رسولاً صادقًا من عند الله تعالى.بتعبير آخر، يعلن الله تعالى هنا أن ذلك ماضي هذا الرسول ﷺ، وهذا حاله، أما فيما يتعلق بمستقبله فإننا لن نزال نبعث من عندنا من السماء أناسا سيشهدون أن محمدا كان رسولاً صادقًا من عند الله تعالى.وكأن هذا سيكون بمنزلة بعثة ثانية لرسولنا الكريم.ومن أجل ذلك نجد أن الله تعالى قد عبّر في سورة الجمعة عن مجيء الرسول ﷺ في "الآخرين" بلفظ البعث إذ قال هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم (الجمعة: ٣، ٤)..أي أن الله تعالى قد قدر الرسولنا الله بعثتين: بعثة في الأولين الأميين، وبعثة في الآخرين.ولقد استخدم المسيح الناصري الا في قوله (ويوم أبعث حيا كلمة البعث نفسها التي قد وردت بحق نبينا ﷺ في سورة الجمعة.فثبت من ذلك أن أساليب القرآن استعمال كلمة البعث أيضًا بمعنى مجيء نبي يُحيى بشخصه النبي السابق له، ويكشف صدقه على الدنيا.من فالمراد من قول المسيح الله والسلام على يوم أبعث حيا أنه حين يأتي بعدي نبي ،آخر ويقوم بتصديقي، ستدركون عندها أن ما أقول لكم إنما أقوله من عند الله تعالى.إن ذلك النبي سيأتي من بلد آخر ومن شعب آخر، ولكنه سيكون مصدقا لي.وبالفعل لما جاء نبينا محمد رسول الله ﷺ قام بتصديق المسيح ال، 6

Page 301

الجزء الخامس ٢٩٤ سورة مريم وهكذا تحقق ما أخبر المسيح وقال والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًّا، كما أنه قام بتصديق يحيى ا ، أيضا ، محققا ما قال الله تعالى عن يحيى وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حيًّا ).وعليه فلا حاجة لتطبيق هذه الآية على يوم القيامة، إذ يمكن مشاهدة نزول سلام الله على يحيى وعيسى في هذه الدنيا نفسها لدى بعثتهما الثانية.ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ شرح الكلمات : يمترون: من الامتراء وهو الاختلاف حيث يطعن كل من الخصمين في قول صاحبه ويجادله ،وينازعه ويتردد في قبول موقفه.التفسير: إضافة إلى جانب ما يوجد بين النصارى واليهود من اختلاف حول المسيح الله، فإن المسيحيين أنفسهم مختلفون فيما بينهم حوله، مما يشكل برهانا على أنهم ليسوا على الحق.فمنهم من يقول أن أم المسيح هي الأخرى كانت إلهةً، ومنهم من ينكر ذلك.ومنهم من يقول أن المسيح كان في الواقع جزءاً من الإله، ومنهم من يقول أن الله تعالى خلق روحًا خصها بفضله ورحمته.ثم إلى جانب الاختلاف الموجود بين اليهود والمسيحيين حول حادث الصليب، فإن المسيحيين أنفسهم يختلفون حوله.ولربما لا يوجد في العالم شخصية أخرى قد اختلف الناس حولها هذا الاختلاف الشديد، حيث تجد المسلمين أيضًا مختلفين في أمره العلل اختلافا كبيرًا.فمثلا نقول نحن المسلمين الأحمديين إن المسيح قد لحق بالأموات، أما غالبية المسلمين الآخرين فيقولون أنه لم يمت، بل هو موجود في السماء حيا.ثم هناك اختلاف كبير حول حادث الصليب أيضًا.يقول عامة المسلمين أن المسيح لم يعلق على الصليب أصلاً، بينما نؤمن نحن المسلمين الأحمديين أنه قد علّق على الصليب فعلاً، ولكنه لم يمت عليه.ويقول اليهود أنه عُلّق على الصليب ومات

Page 302

الجزء الخامس ۲۹۵ سورة مريم عليه، بينما يقول المسيحيون أنه عُلّق على الصليب ومات عليه، ثم أُعيد إلى الحياة ثانية.وهذا يعني أن أربعة من الطوائف الكبيرة في العالم لمختلفة في حادث الصليب نفسه اختلافا كبيرًا.فمن جهة، هناك اختلاف كبير حول المسيح ال بين اليهود والنصارى ،والمسلمين كما أن هناك اختلافا كبيرًا حوله بين شتى فرق اليهود، ثم إن الفرق المسيحية نفسها تختلف حوله العليا.من ثم إن ولادة المسيح أيضًا لأمر قد تضاربت حوله الآراء.فنحن المسلمين الأحمديين نؤمن بأن الله تعالى قد خلقه العليا كمعجزة بمحض قدرته الكاملة غير أب.بينما يقول غير المبايعين أن المسيح كان من نطفة يوسف النجار.ويقول المسيحيون أنه كان من نطفة الله الله ، أما اليهود فيقولون أنه كان من نطفة الحرام.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى هنا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون.والحق أن قول الله هذا يمثل توبيحًا للمسيحيين.ذلك لأنه ليست في الدنيا حقيقة هي أكثر صدقًا الله ويقينا من وجود تعالى، بينما لا جد عند النصارى أمر يو واحد يقيني حول المسيح اللي فثبت أن قول الله تعالى هذا جاء تعييرًا وتوبيخا للمسيحيين حيث قيل إنهم يؤلهون المسيح مع أنهم لا يعلمون أي شيء عنه علم اليقين.وها نحن نخبركم عنه خبر اليقين.إنه كان رسولاً منا بعثناه لإصلاح الدنيا.لقد سمي المسيح الهنا عيسى ابن مريم، والمسيحيون يتضايقون من هذه التسمية أيضًا ويقولون: لماذا سمى القرآن مسيحنا ابن مريم"، مع أنه ابن الله.لم يفعل القرآن ذلك إلا لإيذائنا وتجريح مشاعرنا، ولكي يرفض كونه إلها.والواقع أن الإنجيل نفسه قد سمى المسيح اللي " ابن مريم"، حيث ورد فيه: "أليس هذا هو النجار ابنُ مريم وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته ههنا عندنا.فكانوا يعثرون "به مرقس :٦: ٣ أي أن الناس لما رأوا المسيح قالوا كيف يقوم هذا بدعاوى عريضة بأن الله تعالى قد قطع معي وعودًا عظيمة، وتفضل علي بنعم كثيرة؟ أليس هو ابن مريم؟ أليس هو ذلك النجار الذي كان يصلح لنا الأسرة والطاولات.

Page 303

الجزء الخامس ٢٩٦ سورة مريم في عهد سيدنا المسيح الموعود ال كان حضرة المولوي عبد الكريم السيالكوتي له يؤمّ الناس في الصلاة.كان الله عذب اللحن، رفيع الصوت، ومثير الخطاب.ورغم أنني كنت إذاك صغير السن، إلا أني أتذكر جيدا أنه كلما تناول في خطبه المعنى المذكور أعلاه قال بحماس شديد ما الذي يمكن للمسيحيين أن يقدموه إزاءنا.دع الحديث عن نبينا محمد رسول الله ﷺ فإنه أسمى شأنا كثيرًا.لقد جاء نائب له الله لإحياء الإسلام في هذا العصر.ونحن نعلم أنه ينحدر من أسرة نبيلة، ومن ذرية الملوك، ويشهد تاريخ آلاف السنين على عظمة أسرته.وعلى النقيض لا يزال صوت المسيح الأول اللي يتردد في آذاني وهو يقول: ها قد جاء النجار، فمن أراد فأرمم له سريره الذي قد فسد ومن شاء فأصلح له كرسيه الذي قد انكسر.هذه هي دلالة الفقرة الإنجيلية المذكورة أعلاه، حيث عير اليهود المسيح وقالوا: أليس هو النجارُ ابن مريم؟ وكما تلاحظ فإنهم لم يقولوا إنه ابن يوسف النجار، بل قالوا: النجار ابن مريم؛ وهذا يعني أن المسيح اللي أيضًا كان يعمل نجارًا.لا شك أن المسيح كان يسمي نفسه ابن آدم بحسب ما ورد في أماكن كثيرة من الإنجيل، ولكن لا خصوصية للمسيح الليلة في ذلك، فجميع البشر مشتركون معه في هذا الأمر.أما القرآن الكريم فيسمي المسيح باسم يُعرف به بسهولة.ولو أن القرآن دعاه عيسى بن آدم لظل الإشكال في مكانه إذ يوجد في الدنيا آلاف الناس الذين اسمهم عيسى، وهم من أبناء آدم طبعًا.فلو سماه القرآن ابن آدم فقط لزاد الإشكال أكثر، لأن الجميع أبناء آدم فكيف يتم تمييزه عن الآخرين يا ترى؟ أما اسم "ابن الله" الذي يطلقه المسيحيون على المسيح ال، فقد ورد في التوراة بكثرة، فما كان صالحا لتمييز المسيح عن الآخرين بصورة قطعية، لأن الصالحين الأبرار هم أبناء الله تعالى بحسب التوراة.أما إذا كان المسيحيون يفسرون لفظ ابن الله بمعنى الابن الحقيقي لله تعالى فيجب أن يقدموا على ذلك ظاهرة، ولكن لا وجود لمثل هذه البراهين.جميع دلائل

Page 304

الجزء الخامس ۲۹۷ سورة مريم فالواقع أن معرفة المسيح وتمييزه إنما تتم بذلك الاسم الذي قد اختاره الله لــه في القرآن الكريم أي "ابن "مريم".ذلك أننا كما قلت، لو نادينا عيسى فقط لوجدنا في كل محافظة عشرات الناس الذين اسمهم عيسى.ويوجد في جماعتنا أيضًا عدة أشخاص بهذا الاسم، وإن قل استعماله الآن حيث يحب الناس محمدا وأحمد أكثر من عيسى، فيفضلون تسمية أولادهم محمد وأحمد.أما المسلمون القدامى فيوجد بينهم مئات باسم عيسى.إذا فلو سُمي المسيح باسم عيسى فقط لم يدل هذا على شخصه بصورة قطعية.ولو سمي عیسی ابن ادم لظلت المشكلة كما.لأن كل من عيسى هو من أبناء آدم أيضًا، ولا خصوصية للمسيح في ذلك.اسمه هي، ولو سمى ابن الله لقال الناس إنه كذب وافتراء فدفعًا للبس والإشكال أطلق القرآن على المسيح اسم عيسى ابن مريم"، وهو اسم لا يمكن الاعتراض عليه بوجه من الوجوه.فالجميع راضون ،به ويعترفون أنه هو الاسم المناسب جدا لمعرفة شخص المسيح العلية.فثبت أن الاسم الذي اختاره الإنجيل والمسيحيون للمسيح اسم خاطئ، وأن الاسم الذي اختاره القرآن الكريم لــه هو الحق والصواب.مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَنَهُ ۚ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (2) شرح الكلمات : ما كان الله : يقال "ما كان له أن يفعل "كذا أي أنه لا يقدر على فعل كذا يعني لكون الفعل أسمى من طاقته أو لكونه لا يليق بمكانته.وكأنه أن ذلك الفعل يفوق طاقة ذلك الشخص أو أن ذلك الشخص أسمى من أن يقوم بذلك الفعل.التفسير وغني عن البيان أن أحد المفهومين المذكورين أعلاه لا ينطبق هنا..أي أن قوله تعالى ما كان الله أَن يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد سُبْحَانَهُ لا يعني أبدا أن ليس في الله القدرة على أن يكون له ولد.إذ يمكن أن يعزى مثل هذا القول إلى النساء،

Page 305

الجزء الخامس ۲۹۸ سورة مريم ولكن لا يقال هكذا عن الله تعالى.إذا فإن المعنى الثاني هو الذي ينطبق هنا..أي أن الله تعالى أسمى من أن يعزى إليه مثل هذا الأمر الدال على الضعف والهوان، فيقال أنه قد اتخذ ولدًا.والجدير بالذكر أن الله تعالى قد قال هنا ما كان الله أن يتخذ من ولد، ولم يقل "ما كان الله أن يكون له ولد"، والظاهر أن هناك فرقا بين التعبيرين.وقد قال القرآن هكذا لأن المسيحيين أنفسهم مختلفون في هذا الأمر.فمنهم من يعتقد أن الله تعالى قد اتخذ ولدًا، ومنهم من يقول أن الله ولدًا.ويرى الفريق الأول أنه إذا قيل للناس أن المسيح ابن الله فلن يصدّقوا ذلك، إذ سيقولون: هل كانت ثمة امرأة أنشأ الله معها العلاقات الزوجية، فولدت له ابنا؟ ومن أجل ذلك يقول هؤلاء أن الله تعالى قد اتخذ ولدًا ولا يقولون أن الله ولدًا، زاعمين أن عظمة الله تعالى وقداسته شاءت أن يتخذ لنفسه ولدًا، فاتخذ المسيح ولدًا لـــه.فتعبير ما كان الله أن يتخذ ولد راجع إلى هذا الاختلاف الموجود بين النصارى والمعنى أنه لمما يتنافى مع عظمة الله تمامًا أن يتخذ من ولد.وهذا التعبير يدحض زعم الفريقين كليهما، سواء أقالوا إن الله اتخذ ولدًا أو قالوا أن الله ولدًا.ذلك أنه ما دام اتخاذ الولد يتنافى مع من عظمة الله تعالى، فوجود الولد له له أيضًا ليتعارض مع عظمته تعالى تمامًا.وليكن معلوما أن القاعدة تقول إن البينة على المدعي.فمثلا لو قال المرء لصاحبه إن على رأسك ،قرنين، فكذبه هذا، فلا يمكن للمدعي أن يقول له: حسنًا، إذا لم يكن على رأسك قرنان فهات بالبينة.ولو قال ذلك لعده الجميع مجنونا، وقالوا له: كلا، إنما عليك أنت البينة ،والبرهان لأنك أنت المدعي، وليس على صاحبك أن يقدم أي برهان على ما تدعيه أنت.فبما أن المسيحيين يدعون أن المسيح ال كان ابن الله تعالى فعليهم تقع مسؤولية تقديم الأدلة على صدق دعواهم.وغاية ما يمكن أن يدللوا به هو قولهم أن المسيح قد سُمِّي في الإنجيل في الإنجيل "ابن الله" فهو ابن الله عندنا.فلنرجع إلى الإنجيل لنرى هل وردت كلمة ابن الله في الإنجيل بالمفهوم الذي يزعمه المسيحيون.

Page 306

۲۹۹ سورة مريم الجزء الخامس ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "ولكن الذين حسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون، إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضًا لأنهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة" (لوقا ٢٠: ٣٥-٣٦).يوضح المسيح اللي هنا أن بعض الناس ينذرون حياتهم في سبيل الله تعالى، وهؤلاء لا يموتون موتًا روحانيا أبدًا، ويُسمَّون أبناء الله تعالى.وكأن المسيح ال يسمي كل الصالحين الأبرار "أبناء الله".ثم ورد في العهد القديم أن الله تعالى قال لإرميا: "لأني صرتُ لإسرائيل أبًا، وأفرايم هو "بكري" (إرمياء ۳۱ (۹) وهنا قد سمى الله تعالى بني إسرائيل كلهم "أبناء الله"، بينما اعتبر أفرايم، وهي إحدى القبائل الإسرائيلية، الابن البكر لـــه.ثم ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "فليضئ نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات" (متى ٥: ١٦).وهنا قد المسيح ال كل الذين كان يخاطبهم أبناء الله تعالى.سمى ثم ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه (متى ٦ ٨) ثم إن المسيح اللي قد اعتبر الله تعالى أبًا للجميع في الدعاء الذي علمه أتباعه حيث أمرهم أن يدعوا الله تعالى قائلين "أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك" (متى ٦: ٩).كما ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يَغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي" (متى ٦: ١٤).ثم نجد في الإنجيل المسيح اللي يلوم الصائمين المرائين ويقول إن هؤلاء لا يستحقون أي جزاء على صيامهم: "لا تَظهَرْ" للناس صائما، بل لأبيك الذي في الخفاء.فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (متى ٦: ۱۷-۱۸).ثم ورد في الإنجيل قول المسيح العل: "ولا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها.بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يُهلك النفس والجسد كليهما في جهنم.أليس عصفوران يُباعان بفلس، وواحد منهما لا

Page 307

الجزء الخامس سورة مريم يسقط على الأرض بدون أبيكم.وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" متی ۱۰: ۲۸-۳۰).كما ورد في الإنجيل قوله العلي: "و إن لم تغفروا أنتم لا يغفر أبوكم الذي في السماوات أيضًا زلاتكم (مرقس ١١ (٢٦).فترى أن البشر كلهم قد اعتبروا هنا أبناء الله تعالى.ثم ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "فكونوا رحماء كما أن أباكم أيضا رحيم" (لوقا 6: ٣٦).كما ورد في موضع آخر قوله : "وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه" (لوقا ١٢: ٣٠).كما جاء أيضًا: "لأن أباكم قد سُرَّ أن يعطيكم الملكوت" (لوقا ۱۲: ۳۲).ثم ورد في الإنجيل أن اليهود قالوا: "لنا أب واحد وهو الله " (يوحنا ٨: ٤١).وهذا يدل على أن هذا التعبير كان شائعا بين اليهود، فكانوا يسمون أنفسهم أبناء الله تعالى.كما أن التوراة نفسها أطلقت هذا الاسم على اليهود.ثم إن المسيح اللي نفسه قد سمى الجميع أبناء الله تعالى، ونصحهم أن يدعوا الله تعالى قائلين "أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك".وإذا فحصنا رسائل الحواريين وجدناها تؤكد الأمر نفسه حيث ورد: "إله وآب واحد للكُلّ، الذي على الكلّ، وبالكلّ، وفي كلّكم" (الرسالة إلى أهل أفسس ٤: ٦)..أي أن الله تعالى أب لجميع البشر، وأن البشر كلهم أبناؤه.كما ورد في التوراة أيضًا أن الله تعالى قال: "إسرائيل" ابني البكر" (الخروج ٤: (٢٢).فثبت من هذا أن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مليء بعبارات تنص أن جميع البشر، بما فيهم البار والشرير، أبناء الله تعالى وخاصة الأبرار منهم، وبالأخص حواريو المسيح وبنو إسرائيل؛ فكانوا يقولون أن الله تعالى هو أبوهم، كما أن الله تعالى نفسه كان يسميهم أبناءه.كما نجد أن المسيح ال نفسه كان يعلم الناس أن ينادوا الله تعالى في دعائهم "أبانا".فإذا كان الإنجيل يذكر في موضع ما أن المسيح ابن الله تعالى، فلا مناص لنا من أن نفسر هذا التعبير على ضوء ما هو ثابت

Page 308

الجزء الخامس ۳۰۱ سورة مريم في المواضع الأخرى من الكتاب المقدس.ولا يجوز لنا إطلاقًا أن نأخذه بأي مفهوم سواه.كما لا يحق للمسيحيين أن يؤلهوا المسيح لمجرد أن الإنجيل قد سماه ابن تعالى.من مع يعتبر الله الله قصارى القول إن الله تعالى يعلن في القرآن ما كان الله أن يتخذ من ولد..أي أنه مما يتنافى عظمة الله تماما أن يتخذ أحدًا ولدا له الله.أما أن أحدًا بمنزلة الولد فهو شيء مختلف تماما، إذ ليس معناه إلا أن الله تعالى يعده من أحبته المقربين.ولكن القول أن الله تعالى "اتخذ" "ولدا يرادف القول أن الله تعالى ولدًا في الحقيقة؛ مع أن الله تعالى لا يمنح أحدًا منزلة ابن حقيقي لـــه.ذلك لأن الابن الحقيقي يرث أباه، ومن المستحيل أن يجعل الله أحدًا وارثا له له لأنه تعالى حي لا يموت.كما أن الابن الحقيقي يرث من أبيه يده وأنفه وأذنه ووجهه وغيرها الأعضاء كلها، ومن المحال أن يرث عبد من العباد صفات الله تعالى حقيقةً.إن التحلي بصفات كصفات الله تعالى شيء، أما اقتناء صفات الله تعالى بالإرث فشيء مختلف تماما.إن التحلي بصفات كصفات الله تعالى ممكن ويتأتى بالجهد والاكتساب، شأن التلميذ الذي يأخذ ما يأخذ من أستاذه بالجهد والاكتساب.أما الابن فيأخذ من أبيه كثيرًا من الأشياء بالوراثة وأخذ أي شيء من الله تعالى بالوارثة محال، إذ لا يمنح أحد شيئًا من عند الله تعالى إلا من خلال الاكتساب أو على سبيل العطاء.وعلى سبيل المثال، إن الإنجليز بيضُ اللون، وكلما ولد عندهم مولود جاء أبيض اللون، و لم يحدث قط أنهم دعوا ولدًا من أولادهم بعد فترة من ولادته، وقالوا لـه تعالوا نمنحك شيئا من بياضنا.وبالمثل كلما جاء مولود عند الأفارقة جاء أسود اللون، ولم يحدث قط أن دعا أحدهم ولده وقال لـه تعال أعطك من سوادي أو أمنحك من شعري وأنفى وأذني ووجهي وما إلى ذلك.إنه يولد آخذًا كل هذه الأشياء والصفات من آبائه بالوراثة.ولكن لا يمكن أن يكون أحد ابنا الله تعالى على هذا النحو، كما لا يليق بالله تعالى أن يُعزى إليه مثل هذه الأمور.

Page 309

الجزء الخامس يسمي ۳۰۲ سورة مريم أما أن الله تعالى أحدًا من العباد ابنا له تعبيرًا عن حبه لـه وعطفه عليه فلا خصوصية للمسيح ال في ذلك، إذ يخبرنا الإنجيل أن البشر كلهم، بما فيهم الفاجر والبار، أبناء الله تعالى (لوقا ٦ ٣٥).أما الآن فلنفحص الكتاب المقدس لنرى هل يوجد فيه ما يدعم ما أعلنه القرآن الكريم في قول الله تعالى ما كان الله أن يتخذ من ولد.ولا يغيبن عن البال أن القرآن الكريم يستعمل لفظ "الله" للذي هو متصف بالصفات الحسنة والمحامد كلها، والذي هو خالق الكون كله ومالكه.وهو اسم علم له.ولا يوجد اسم عَلم لذات البارئ تعالى في أي لغة من اللغات إلا العربية.لا شك أن التوراة قد استعملت لفظ "يهوه" استعمالاً يوهم وكأنه عَلَمٌ لذات البارئ ،تعالى، ولكنه ليس كذلك في الواقع.الحق أن هناك تشابها كبيرا بين العربية والعبرية وذلك لأن إبراهيم ال كان وطنه الأصلي العراق الذي هو جزء من الجزيرة العربية، ثم هاجر إبراهيم من العراق إلى كنعان وأقام هناك.ثم فيما بعد انتقل قومه من هناك إلى مصر.وأثناء إقامة إبراهيم في كنعان جاءت الحكمة الربانية بابنه إسماعيل إلى مكة؛ بينما مكث الابن الآخر إسحاق مع إبراهيم؛ ومن أجل ذلك كان بين اللغتين اللتين تكلما بهما شَبَة كبير جدًّا.والحق أنه كان بين العربية في البداية.ولفظ "يهوه الذي يقال عنه أنه عَلَمٌ لذات والعبرية فرق ضئيل جدا البارئ تعالى في التوراة إنما هو في الحقيقة لفظ اسمي، عربي " معدل.على كل حال، يوجد في التوراة لفظ "يهوه" حيث ورد: "أنا ومجدي لا أعطيه لآخر" (إشعياء ٤٢: ٨).هذا يهوه وهذه الجملة تحتوي على نفس المعنى الذي قد ذكره الله تعالى في قوله ما كان لله أن يتخذ من ولد، حيث جاء: "أنا هذا ، ومجدي لا أعطيه لآخر"..اسمي، يهوه.أي ليس بوسع أي كائن أن يشترك معي في عظمتي وجبروتي وقدرتي.* علما أن هذا اللفظ قد ورد في بعض النسخ العربية مترجمًا كالآتي: "أنا الرب"، بينما ورد في النسخة الأردية كالآتي: "يهوواه".(المترجم).

Page 310

الجزء الخامس ٣٠٣ سورة مريم والواقع أن لفظ "يهوه" أصله "يا هو "..أي يا من هو غائب عن الأنظار.فثبت بذلك أن "يهوه" أيضًا اسم صفاتي الله تعالى وليس علما له ، إذ ليست فيه أي دلالة إلا أن الله تعالى موجود ولكنه غائب عن الأنظار؛ ذلك أن "ياء" في "يهوه" هي للنداء، وتدل على شيء موجود، وأما "هو" فيدل على أنه موجود ولكنه غائب عن الأنظار، ولذا لا يمكن أن يسمى "أنت" بل : "هو" فحسب.فثبت أن "يهوه" ليس عَلَمًا الله تعالى.ويمكن للمرء أن يقدر بذلك التشابه الكبير بين العربية والعبرية.لا شك أن العبرية قد تغيرت كثيرًا بمرور الزمن الطويل، ومع ذلك نجد حتى في عصر المسيح العليا، الذي كان آخر حقبة بالنسبة للأمة اليهودية حيث تشتتت وتفرقت بعدها تماما، تشابها كبيرًا بين اللغتين حتى يخيَّل للمرء أن العبرية صورة مشوهة للعربية.فنرى أن آخر ما تفوه به المسيح اللي بحسب إجماع الباحثين قبل أن يُغشى عليه معلقا على الصليب هو قوله : "أيلي أيلي لما شبقتني متى :۲۷: ٤٦، ومرقس ١٥: ٣٤).جملة عربية في الحقيقة، لأن لفظ "أيلي أيلي" يماثل "إيلي إيلي" في العربية أي "إلهي إلهي"، حيث يقال للإله في العبرية "أيل"، وفي العربية "إيل"، فيقول أهل العبرانية "جبرايل" و"أسرافيل" بينما يقول العرب "جبر إيل"، و"إسرافيل".وأما لفظ "لما" فهو في الأصل "لم"، وأما "شبقتَني" فهو سبقتني أي تركتني.والمعنى: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ إذ يقال: سبقه أي تركه وراءه وذهب.فكأن المسيح الله دعا ربه وقال: يا رب يا رب، لم تركتني وراءك وحيدا وذهبت.لم لم تكن معي حتى وهي تساعدني ؟ فما أشبه هذه الجملة العبرية بالعربية.وكما قلت فإن هذه هي الجملة الوحيدة من كلام المسيح التي هي محفوظة في الإنجيل بصورة يقينية.إذ ليس هناك أي شهادة قاطعة على صدق ما يعزى إلى المسيح في الإنجيل من كلام آخر، في حين أن الباحثين كلهم مجمعون على أن هذه الجملة من كلام المسيح حتمًا ويقينًا.فثبت أن العبرية ليست بلغة منفصلة، وإنما هي لهجة مشوهة من العربية.ولو أدخلت تعديلاً بسيطا في العبرية صارت عربية.

Page 311

الجزء الخامس ٣٠٤ سورة مريم قصارى القول إن أهل العبرية يستخدمون لفظ "أيل" بمعنى الله تعالى.كما أنهم يستعملون كلمة "أيلوهيم" أيضًا الله الله (The United Bible سفر الخروج ٦: ٢).ولفظ "هيم" هنا صورة مبدلة لضمير الجمع للغائب في العربية "هم"، والمعنى الحرفي لـ هو آلهة ويعني في الحقيقة الإله العظيم أو الإله الكبير."أيلوهيم" هو كان العرب في الماضي يقولون للمخاطب "أنت"، أما اليوم فبدءوا يقولون "أنتم" أيضًا.كان العرب يخاطبون رسول الله دائما بقولهم: أنت، (البخاري: کتاب الجنائز، باب الدخول على الميت، ولكنهم اليوم يخاطبون كلّ كبير من القوم من معلم أو مسؤول حكومي أو حاكم محافظة أو وال بصيغة "أنتم" بدل "أنت".كذلك لما تطور أهل العبرية أيضًا ثقافة وحضارةً أخذوا يستخدمون كلمة " أيلوهيم" تعظيمًا وإجلالاً لله تعالى.والحق أن هذه الكلمة صورة مبدلة للكلمة العربية "آلهة".وهذا يعني أن ما يقال له في العربية آلهة وإله وإيل، يُطلق عليه في العبرية أيلوهيم وأيلواه ويهوه وأيل.ولكن ليس أي من هذه الألفاظ العبرية اسما عَلَما لذات البارئ ،تعالى، وإنما هي كلها أسماء صفاتية الله.بعد هذه الكلمة التمهيدية أود أن أحيطكم علما أنه بالرغم أن التوراة لم تستخدم لفظ "الله" لذات البارئ ،، إلا أن العهد القديم يؤكد كون الله تعالى واحدا لا شريك له، حيث جاء: "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا ربُّ واحد" (التثنية (٦: (٤.ففي لفظ "رب" واحد" دلالة واضحة على كونه تعالى وحده لا شريك لــه.فثبت بذلك أن التوراة هي الأخرى تؤكد ما أعلنه القرآن الكريم في قوله تعالى ما كان الله أن يتخذ من ولد.ثم ورد في موضع آخر من التوراة: "أنا يهوه.هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخَرَ" (إشعياء ٤٢ ٨ فلفظ ومجدي لا أعطيه لآخَرَ" يشبه تماما قول الله تعالى في القرآن الكريم ما كان الله أن يتخذ من ولد..أي ليس له ولد، كما لن يتخذ أحدا ابنا له وكأنه تعالى يعلن هنا إذا قال أحد أني قد اتخذت أحدا ابنا لي ومنحته قدرتي وقوتي، فهذا أيضًا غلط كلا، فإني لا أمنح أحدًا صفاتي أبدا.

Page 312

الجزء الخامس ٣٠٥ سورة مريم والآن نفحص الإنجيل نفسه الذي يبنون ألوهية المسيح اللي على ما ورد فيه.إن دراسة الإنجيل تكشف أنه هو الآخر يعلّم أن الله تعالى واحد لا شريك لــه.حيث ورد فيه أن شخصاً جاء المسيح وسأله عن أكبر وصية.فأجابه المسيح: إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد" (مرقس ۱۲: ۲۹) ثم إن رسائل حواربي المسيح الله أيضًا تنص على ذلك حيث جاء فيها: "الله الحكيمِ وَحْدَهُ، بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد" (رسالة بولس إلى أهل رومية ١٦: ٢٧).فترى أن صاحب الرسالة قد ذكر هنا المسيح إزاء الله الأحد، ودعا أن يكون المجد لله وحده بواسطة المسيح.ويقول حواري آخر: "لكنني لهذا رُحمتُ ليُظهر يسوع المسيح في أنا أوّلاً كل أناة مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية.ومَلكُ الدهور الذي لا يفنى ولا يُرَى، الإله الحكيم ،وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور." (رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس ١: ١٦-١٧).لقد وصف الله تعالى في هذه الفقرة بكونه أزليَّا، ملكًا، غير فان، غير مرئي (ولكن المسيح كان مرئيا (منظورًا واحدًا وحكيمًا.ومن الواضح الجلي أن وجود الإله المتصف بهذه الصفات كلها يغني الناس عن أي إله آخر ثم نقرأ في رسالة أخرى: "الإله الحكيمُ الوحيد مخلصنا" (رسالة يهوذا: ٢٥).فترى أن العهد القديم يعلن أن الله تعالى واحد لا شريك له، كما ينص عليه العهد الجديد أيضًا فثبت أن التوراة والإنجيل كلاهما يتفقان مع القرآن الكريم، إذ يعلن كلاهما ما يعلّمه القرآن الكريم في قوله تعالى ما كان الله أن يتخذ من ولد.ولكن المؤسف أن كلا الفريقين اليهود والنصارى قد اختلقوا الشرك صنوفا وألوانًا منحرفين عن جادة الحق.إن دراسة التوراة تكشف لنا أن جميع الأنبياء الذين بعثوا إلى اليهود قالوا لهم: لقد بذلنا كل ما في وسعنا لنشرح لكم أن الله تعالى واحد لا شريك له، ولكنكم قوم لا يفقهون حديثا وتعودون إلى الشرك مرة بعد أخرى.

Page 313

الجزء الخامس ٣٠٦ سورة مريم بعد ذلك يقدم الله تعالى هنا دليلاً على وحدانيته فيقول سبحانه.وكأنه تعالى يقول إننا لا نركز على التوحيد تقليدًا بالتوراة، بل على أساس الدليل والبرهان، وهذا الدليل هو سبحانه.والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا تخلّف بعض الكائنات أولادًا؟ لو تدبرت في الكون تبين لك أن قانون الولادة إنما يعمل في الكائنات التي تفنى قبل إنجاز مهمتها.فمثلا إن عمل الإنسان لا ينتهي في الدنيا، بل يموت الإنسان قبل إتمامه، فيحتاج إلى أولاد وبالمثل إن الحاجة إلى الخراف موجودة، ولكنها أيضًا تموت، فتخلف وراءها أولادًا وإن الحاجة إلى الجبال لموجودة، ولكنها لا تفنى فلا تحتاج إلى أي أولاد ولا يزال الإنسان حتى اليوم بحاجة إلى الشمس والقمر والنجوم كاحتياجه إليها في الماضي، ولكن هذه الأجرام أيضًا موجودة، فلا حاجة لها إلى أي أولاد فثبت بذلك أن قانون التناسل إنما هو جار في الأشياء التي تفنى قبل أداء مهمتها، وأما الأشياء التي تدوم ما دامت الحاجة إليها فلا تناسل فيها.وهذا هو الدليل الذي قد ذكره الله تعالى في قوله سبحانه..أي أن التدبر في حكمة قانون الولادة سيكشف لكم الأسباب وراء وجود الولد، وهي: الأول الشهوة الجنسية..أي أن الله تعالى قد جعل في جسم الإنسان بعض المواد التي إذا بقيت بداخله أضرت بصحته، فلا بد من طردها من الجسد.فتخرج هذه المواد حتما إما من خلال العلاقة الجنسية بين الزوجين أو عن طريق الاحتلام أثناء المنام.والثاني: أن كل امرئ بحاجة إلى من يؤنسه ويواسيه وإلا فلن يرتاح بالا ولا يجد سكينة ولا طمأنينة ورد في التوراة أن آدم في بداية أمره كان يهيم على وجهه مكتئبا رغم تيسر شتى أسباب الراحة فقال الله تعالى إن آدم بحاجة إلى زوجة، هلم نخلق له زوجة، فخلق له ،حواء، فزال اكتئابه وقلقه (انظر التكوين ٢: ١٨-٢٢).فالإنسان عندما لا يفرح ولا يرتاح بالا بمفرده فإنه يحتاج إلى أنيس.والثالث: أن الذي يموت قبل إكمال المهمة المنوطة به يكون بحاجة إلى ولد يتمّ عمله حتى لا يتضرر بموته العمل الذي بدأه.

Page 314

الجزء الخامس هذه هي ۳۰۷ سورة مريم الدواعي الثلاثة إلى وجود الولد، وهي كلها تدل على وجود النقص والعيب في صاحبها.فالتسليم بأن في الله تعالى – والعياذ به – مادة لا بد من طردها من داخله وإلا لتضرر بما يعني أن الله تعالى لا يخلو – والعياذ بالله – من عيب ومنقصة.أما القول أن الله تعالى لا يرتاح بالاً من دون أنيس يواسيه فأيضا يدل على النقصان فيه، حاشا لله.والقول أن الله تعالى سيموت لذا لا بد له من ولد يخلفه في الكون يدل على العيب والمنقصة أيضًا.ومن أجل ذلك قال الله تعالى هنا ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه..أي أن الدواعي الثلاثة لوجود الولد تدل على العيب والنقص وإنه لمن المستحيل لمن هو كامل في ذاته أن يكون فيه أي مادة ضارة به، أو أن يحتاج إلى جليس أنيس، أو أن يموت؛ إذا فلا حاجة بها إلى أي ولد.وكان من الممكن أن يقول قائل: إن الله تعالى بحاجة إلى الولد ليساعده، فدفعًا لهذه الشبهة قال الله تعالى في الجملة التالية إذا قضى أمرًا فإنما يقول لـه كُنْ فيكون.هذا، ويعترض البعض على قول الله هذا، ويقولون ما هو الذي يقول الله لـه "كن"؟ وقصدهم بهذا الاعتراض إثبات أزلية المادة التي خلق الله منها الأشياء.* اعلم أن لفظ "كُن" يقال للمخاطب، كما يفيد مجرد التمني أيضا.فإن رسول الله ﷺ لما خرج في غزوة تبوك ناحية الشام تخلف عنه صحابي له اسمه أبو خيثمة.وكان النبي يحبه ويثق به كثيرًا، وكان على يقين أن هذا الصحابي لا يمكن أن يتقاعس عن أداء الواجب.ولكن النبي ﷺ لما سار بالصحابة بعيدا عن المدينة، وتفقد الجيش لم يجد أبا خيثمة.فبلغ منه الله الحزن كل مبلغ حيث كان يحسن بأبي خيثمة الظن، ومع ذلك تخلف عنه الله في القتال.فلما سار النبي ﷺ بالجيش أخبره بعض صحابته هذا راكب مقبل وراءنا.فنظر النبي إلى الوراء وقال "كُن أبا يشير حضرة المفسر له هنا إلى العقيدة الهندوسية القائلة بأن المادة والأرواح أزليتان مثل الله تعالى، وأنه تعالى ليس خالقًا لهما، بل إنه قام بتركيب المادة والروح معًا، فخلق منهما الأشياء.(المترجم)

Page 315

الجزء الخامس ٣٠٨ سورة مريم به ربا خيثمة".فلما سكن الغبار واقترب الفارس فإذا هو أبو خيثمة.فحمد النبي وشكره حيث حقق ما تمناه السيرة الحلبية: الجزء الثالث ص ١٣٣ غزوة تبوك).فقوله "كُن أبا خيثمة" لا يعني أن الفارس القادم كان غير أبي خيثمة، ولما قال النبي هذا الكلام صار أبا خيثمة.وإنما يعني الفارس هو أبو خيثمة.110 أن النبي تمنى يا ليت هذا فمن الأساليب العربية استخدام "كُن" تعبيراً عن أمنية وإرادة أيضا، وليس لتغيير هيئة شيء موجود وهذا هو المراد من قول الله هذا، وكأنه يعلن هنا أن إرادتنا وحدها تكفي لحدوث شيء، فما إن نريد شيئا إلا ويقع وفق مشيئتنا.فثبت بطلان ما يقول البعض أن كلمة "كُن فيكون" تؤكد أن المادة والروح موجودان منذ الأزل مثل الله تعالى، وأنه تعالى إنما يأمرهما فيتشكلان بالشكل الذي يريده الله لهما.والحق أن هذا الاعتراض ناشئ عن الجهل باللغة العربية.لا شك أن لفظ يقال للمخاطب أيضًا، ولكنه يُستعمل أيضا لمجرد التمني والإرادة بدون أن يوجه الكلام إلى أحد، كقول الرسول هنا : "كُن أبا خيثمة"؛ إذ لم يكن يعني أن يتحول الفارس القادم أيا كان إلى أبي خيثمة، وإنما تمنى أن يكون الفارس أبا خيثمة.وبالمثل عندما يريد تعالى شيئا فيقع كما يريد الله غير أننا لا يمكننا أن نقول أن الله تعالى يتمنى ذلك الشيء.لا شك أن البشر إذا أرادوا شيئًا قالوا يا ليت هذا يحدث، ولكن الله تعالى إذا أراد شيئًا أعرب عن إرادته فتأخذ مشيئته في التحقق والوجود من دون تأخير.وهذا هو معنى "كُن فيكون".الله وليكن معلومًا أن من مزايا اللغة العربية أن كلماتها تدل على مدلولها تماما.فمثلا، قبل بضعة أيام تلقيتُ رسالة من أحد الإخوة السوريين، وكانت ضمنها هذه الكلمات "إذا أراد الله بشيء".فوقع في بالي عندها أن كلمة "شيء" تتضمن معنى الإرادة والمشيئة أيضًا حيث تعني: "ما يراد ويُشاء"، وفيه رد على الذين يطعنون في قول الله تعالى في القرآن الكريم إن الله على كل شيء قدير قائلين: هذا يعني أن الله قادر على قتل نفسه أيضًا ذلك لأن كلمة "شيء تعني

Page 316

الجزء الخامس ۳۰۹ سورة مريم المشيئة والمراد.فيكون تقدير قوله تعالى إن الله على كل شيء قدير كالآتي: "إن الله على كل مشيئته قدير.فكيف يمكن يا ترى أن يشاء الله قتله وموته هو." إذًا فلا يصح الاعتراض على قوله تعالى إن الله على كل شيء قدير.به أما قول الله تعالى هنا إذا قضى أمرًا فتقديره: "إذا أراد شيئًا مما أمر وأجازه".وكأن أمرا يعني هنا "مأموراً به" مثلما جاءت كلمة "شيئًا" بمعنى "مشيئة".فلا مجال للاعتراض على هذه التعابير القرآنية.إذ يعني قوله تعالى إن الله على كل شيء قدير أنه تعالى قادر على كل ما شاء وأراد، بينما يعني قوله تعالى إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون أنه تعالى حين يقرر ما هو ضمن أحكامه ولائق بعظمته و فإنما يقول "كُن" فيقع ما قضى به.فالأمر هنا يعني فقط الشيء الذي قد صدر القرار الإلهي سلفًا بجوازه، والذي قد رضي به، والذي هو لائق بشأنه وعظمته فلا يصح أن يعزى إلى الله تعالى ما هو لغو وعبث، ثم الله يقال كيف يمكن أن يفعل الله تعالى ذلك؟ : وبالفعل يوجد هناك من يقول أن الله إذا أراد أن يسرق فهل يسرق؟ والرد عليه هو : يجب أن نرى هل يأمر أحد نفسه بنفسه أن يذهب ويسرق؟ ثم هل السرقة من الأمور التي تليق بالله تعالى ويرضى بها؟ فثبت أن هذا الاعتراض دليل على غباء صاحبه فقط.باختصار، إن الله تعالى يعلن في هذه الآية أنه لا يحتاج إلى الولد إلا من هو غير قادر على القيام بمهمته، فيحتاج إلى مساعدة من غيره.ولكن الله تعالى في غنى عن مساعد ومعين، وإنه فعّال لما يريد بمفرده؛ فكيف يمكن إذا التسليم بوجود ابن لـــه أو الروح القدس؟ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٢) التفسير: أي ما دمتم أنتم تؤمنون بأن الله تعالى فعّال لما يريد، وقادر على كل شيء، فما الداعي لأن تتركوا القادر المطلق وتقولوا قد اتخذ الله ولدا؟ إن الله ربي

Page 317

الجزء الخامس ۳۱۰ سورة مريم وربكم هو مالكي ومالككم أيضًا، فلمَ هذا النزاع والعداء؟ اتركوا النزاع، فهذا صراط مستقيم.لقد انحرفتم إلى أشياء تسلّمون بعدم الحاجة إليها.فتعلمون أن الله تعالى أسمى من الموت والفناء حتى يحتاج إلى الولد.وتسلّمون أنه تعالى في غنى عن الزوجة.وتدركون أن الله تعالى أعظم من أن تكون فيه المادة تتسبب في إنجاب الأولاد.فما دمتم تعترفون بكل هذه الحقائق فتعالوا واعبدوا الله متمسكين بالصراط المستقيم.لم تنحرفون عن الصراط المستقيم وتسلكون سبلاً جائرة؟ وحده، فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مِّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ۳۸ من التفسير : الأحزاب جمع الحزب ومعناه "الجماعة من الناس".غير أن أهل اللغة يرون أنه لا يعني الجماعة من الناس فحسب، بل معناه "كل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإنْ لم يلق بعضهم بعضا" (الأقرب).لا شك أنك لو رأيت خمسين أو ستين رجلاً واقفين في مكان فلك أن تسميهم حزبًا طائفة بمعنى الناس، ولكن كلمة الحزب تُطلق خاصة على قوم يحملون فكرة واحدة وعقيدة واحدة.فمثلا هناك جمع من الناس بينهم المسيحيون واليهود والمسلمون والملحدون والمنتمون إلى الجماعات السياسية، فلن تسميهم حزبًا في المصطلح، وإنما تطلق كلمة الحزب على مجموعة من الناس يكون طابع أفكارهم وأعمالهم الدينية والحضارية والسياسية موحدا.إذا فقوله تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم لا يمكن أن يؤخذ بمعنى أي جماعة من الناس، إذ كيف يختلف فيما بينهم مَن لا رغبة لهم في المسيح ولا علاقة لهم به، وإنما المختلفون هنا من ينتمون إلى المسيح العليا.بيد أن كلمة الحزب إذا أخذت بمعنى قوم" تشاكلت قلوبهم وأعمالهم" واجهنا إشكال آخر، وهو ما دامت أفكارهم وأعمالهم موحدة فأين مجال الاختلاف

Page 318

۳۱۱ سورة مريم الجزء الخامس بينهم؟ فثمة تعارض فيما يقوله القرآن على ما يبدو، حيث يقال من جهة إنهم = متحدون في أهوائهم وأعمالهم ويقال من جهة أخرى، إنهم مختلفون؟ فليكن معلومًا أن الاختلاف إنما يقع حيث الاتفاق والاتحاد.فإن الناس، كما قلت، إذا لم يكونوا راغبين في شيء فلا مجال لأن يختلفوا فيه أيضًا.إنما يكتسب الاختلاف الأهمية إذا كان القوم موحدين في أفكارهم وأعمالهم أولاً، ثم يختلفون.وعلى سبيل المثال لو اختلف المسلمون في القرآن الكريم لكانت لاختلافهم أهمية كبيرة حيث يقال إنهم يؤمنون بالقرآن الكريم، ومع ذلك يختلفون فيه.ولكن إذا اختلف المسيحيون فيما بينهم حول القرآن الكريم فلا أهمية لاختلافهم، لأن الجميع يقول إنهم لا يؤمنون بالقرآن فما قيمة اختلافهم حوله فثبت أن الاختلاف إنما يكون ذا أهمية إذا ما حصل بين قوم أفكارهم وعقائدهم موحدة.وإن كلمة من بينهم أيضا تكشف أن الحزب لم يرد هنا بمعناه العام أي "الجماعة من الناس"، بل بمعنى القوم ذوي العقائد والأفكار الواحدة؛ ومثل هذا الاختلاف هو الذي يبعث على الاستغراب والعجب، حيث يقال إنهم يؤمنون بكتاب واحد ورسول واحد وغاية واحدة، ومع ذلك يختلفون! فقول الله تعالى فاختلف الأحزاب من بينهم..يعني أن هؤلاء الذين يؤمنون بالمسيح ويحبونه كان كتابهم ،واحدا، وعقيدتهم واحدة، وأعمالهم واحدة، ومع اختلفوا فيما بينهم للأسف الشديد فمنهم من يقول أن مريم كانت بشراً ومع ذلك وضعت الله ولدًا (لوقا ١: ٢٦-٣٥).ومنهم من يقول أن الله تعالى وكانت تتصف بصفات إلهية؛ فقد أعلن البابا قبل حوالي سنة ونصف أن هي العقيدة الرسمية للكاثوليك.ومنهم من يقول أن الإله واحد، وأن المسيح لم يكن إلا مظهرًا للصفات الإلهية، وأنه جاء إلى الدنيا كإنسان.ومنهم من يقول أن المسيح كان إلها، وأنه كان إلا متجسدا؛ وأنه لا بد من الإيمان بثلاث شخصيات كل واحدة منهن إله.بينما يقول البعض الآخر أنه لا حاجة للإيمان بثلاث شخصيات إلهية، بل يكفي الإيمان بثلاثة مظاهر للإله.ويقول هؤلاء أن المسيح الذي جاء في الدنيا كان بشرًا، ولكنهم يقولون أيضا أن الإله الابن كان غير الإله هذه مريم ذلك كانت زوجة

Page 319

الجزء الخامس ۳۱۲ سورة مريم الأب، وأنه (أي الإله (الابن سرى في المسيح الإنسان الذي جاء إلى الدنيا.إنهم لا يؤمنون بوجود ثلاث شخصيات إلهية، بل بوجود ثلاث صور للإله، حيث يقولون أن الإله أب من جهة، وأنه ابن من جهة أخرى، وأنه الروح القدس من جهة ثالثة.بينما يقول الذين يؤمنون بوجود ثلاث شخصيات إلهية أن الإله الأب وجود منفصل، وأن الإله الابن وجود منفصل، وأن الإله الروح القدس وجود منفصل.فإلى ذلك الاختلاف يشير الله تعالى في قوله فاختلف الأحزاب من بينهم..أي أن هؤلاء المؤمنين بالمسيح رغم اشتراكهم في الدين والعقيدة والعمل قد وقعوا في الاختلاف! ثم يقول الله تعالى فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم.إن الاختلاف الموجود بين هؤلاء يحتم اعتبار أحد الفريقين على الحق والفريق الآخر على الضلال.فمهما تعددت فرقهم إلا أنهم سيُعَدُّون فريقين بسبب الاختلاف، ولا بد من اعتبار أحدهما على الحق والآخر على الباطل.ويقول الله تعالى: الويل للذين وقعوا منهم في العقائد الباطلة.لقد بعث الله الأحد عبدًا من عباده لنشر التوحيد، ولكنهم اتخذوا هذا العبد هو الآخر إها.وإنها لجريمة شنيعة قد ارتكبوها، فلهم العذاب واللعنة علما أن الويل يعني العذاب وأيضًا اللعنة.فالمعنى أن الذين كفروا بالمثول أمام ربهم في يوم عظيم سيحل بهم عذابي، وسأقول لهم: اخسأوا عني ولا تكلمون لا شك أن الإنسان يتمنى شهود ذلك اليوم العظيم، ويود أن يشاهد الله تعالى فيه، ظنَّا أنه منه سيتلقى منه الجوائز ،والصلات ولكنه لو أتى الله تعالى محرمًا فمن ذا الذي يكون أكثر منه ذلة وأشد منه شقاء؟ ورد في التاريخ أن الصحابي ضرار له كان ضمن الجيش المسلم الذي خرج لمحاربة جنود قيصر فتقدم قائد من الجيش المسيحي مبارزا المسلمين، وقتل كثيرًا منهم.فدعا قائد الجيش المسلم أبو عبيد الله ضرارًا وأمره بقتاله.فخرج ووقف مواجها للمحارب الكافر.ولكنه ولى مدبرًا فجأة وأخذ يجري إلى خيمته.فاستولى اليأس والقنوط على جنود المسلمين، وبدأ النصارى يرفعون الهتافات فرحًا وابتهاجا.فبعث أبو عبيدة أحدًا من جنوده إلى ضرار يسأله عن سبب الفرار من

Page 320

الجزء الخامس ۳۱۳ سورة مريم ساحة القتال.فوجده الرسول وهو يخرج من خيمته.فقال لـه: يا ضرار، لقد لطخت اليوم سمعة المسلمين كلهم، وقد اكتسحت موجة من اليأس الجيش المسلم من جراء ما فعلت لماذا فررت من القتال؟ قال ضرار: الواقع أنني لما خرجتُ لمبارزة قائد الكافرين ووقفت إزاءه وجهًا لوجه تذكرت فجأة أنني ألبس الدرع منذ الصباح.وكنت أعرف أن هذا الكافر يحسن الضرب بالسيف والطعن بالرمح.فقلت في نفسي يا ضرار، هل تكره لقاء الله تعالى حيث خرجت لقتال هذا الكافر لابسا الدرع خوفا من أن يقتلك بضربة أو طعنة؟ فلو قتلت اليوم فليس بك إلا الجحيم، لأن الله تعالى سيقول لك إنك لم ترد لقائي.لو أحببت لقائي لما خرجت لساحة القتال لابسًا الدرع.فجريتُ إلى خيمتي لأخلع الدرع، حتى إذا قُتلتُ لقيتُ ربي ضاحكًا مسرورًا.فليس المراد من "يوم عظيم" إلا يوم لقاء الله تعالى، ولكن لا معنى للقاء الله تعالى إلا إذا سُرِّ العبد بذلك.ولكن الله تعالى يعلن هنا فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم..أي ما أتعسه حظًّا وما أكثره لعنة ذلك المرء الذي حين يلاقيه ربه يتمنى الفرار من عنده بدلاً من أن يُسرِّ بلقائه.وهذا هو الخزي والهوان الذي سيصيب هؤلاء القوم لأنهم قطعوا صلتهم عن الذي كان من واجبهم أن يكونوا على صلة به ، ورفعوا عبدًا متواضعًا من عباد الله تعالى إلى منصب الألوهية.صلے أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّلِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) التفسير : لقد قال علماء الصرف والنحو - على العموم – في قوله تعالى أسمع بهم وأبصر إنه تعجب، والمعنى ما أكثرهم سمعا وما أحدهم بصرا في ذلك اليوم! بينما قال بعض النحويين إنه ليس تعجبًا، بل هو أمر حقيقة (إملاء ما من به الرحمن)، والمعنى يا مخاطب، أسمع هؤلاء وأَرهم حالهم..أي اكشف لهم حالتهم الحقيقية تماما.

Page 321

الجزء الخامس ٣١٤ سورة مريم ولكني أرى أن المعنى الأول هو الأجدر بالأخذ لكونه مطابقا لاستعمال العرب.ثم قال الله تعالى يوم يأتوننا..ذلك لأنه ستنكشف في ذلك اليوم الأمور كلها، ويزول كل إشكال وانحراف قد تطرق إلى مسائل الدين، وتُزال الغشاوة التي تغطي أبصار الناس نتيجة الأباطيل والخرافات المنسوجة من قبل الأحبار والرهبان والكهان والمشايخ.فتسمع الآذان عندها الحقيقة، وسترى الأبصار الحق عيانًا.ولكن ماذا ستكون نتيجة انكشاف الحقيقة عندئذ سيفرح المؤمن لدى انجلاتها لإيمانه بها في الدنيا أيضًا، إذ لا ينكشف عليه شيء جديد، بل سيتجلى عليه نفس ما كان مؤمنًا به في الحياة الدنيا.فالمؤمن الذي يؤمن بأن الله حميد، مجيد، غفار، ستار، مهیمن ،شکور ،غفور ،رب ،رحمن رحيم ومالك يوم الدين..سيتيسر له إدراك أوسع بكثير لصفة الرحمن والرحيم ومالك يوم الدين وغيرها من صفاته الله عند انكشاف الحقيقة عليه يوم القيامة ومثوله أمام الله تعالى؛ الله تعالى؛ ومع ذلك سيكون مسروراً لمعرفته أنه كان يسير في الدنيا على جادة الحق والصواب.شأنه شأن المرء الذي يرى خضرة من بعيد، وحين يقترب منها يشهد مشهدًا آخر تماما لانكشاف الحقيقة عليه.ورغم وجود البون الشاسع بين مشاعره لدى رؤية الخضرة من بعد وبين رؤيته الخمائل الخضراء عن قريب، إلا أن هذا لا ينقص من ابتهاجه وإنما يزيده فرحة وسروراً.أما الكافر فمثله كمثل المسافر الذي يرى أفعى كبيرة من بعيد، ولكنه لضعف بصره يظنها تلة من التلال فيمشي نحوها ليقضي عليها الليل في مأمن من هجوم الضواري؛ ولكنه حين يقترب من المكان يجد أنه ليس بتلة بل هي حية ضخمة، فتستولي عليه الحسرة واليأس.هذا ما سيحدث بالكفار يوم القيامة، فعندما تنجلي عليهم الحقيقة يقولون يا حسرتنا ما هذا الذي حدث.إنه عكس ما ظنناه.أما قوله تعالى لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين فهو لا يعني أن الإنسان لقوله تعالى (أسمع بهم وأبصر..أي يصير في ضلال مبين بعد أن يصبح مصداقاً بعد انجلاء الحقائق عليه كلا، بل حين تنفتح عينه وبصره فإنه ينال الهدى.إنما

Page 322

الجزء الخامس المراد ٣١٥ سورة مريم من هذه الجملة أنهم سيدركون عندها أن ما آمنوا به كان باطلا، ولكن هذا الإدراك لن ينفعهم عندها شيئا، إذ يُجزَى المرء عندئذ بحسب ما آمن به من قبل.إن المسيحي الذي يدرك عندئذ أن الله تعالى واحد لا شريك له لن يتطهر من الشرك بإدراكه ،هذا وإلا فلماذا سيُلقى في النار ؟ فثبت أن قوله تعالى الكن الظالمون اليوم في ضلال مبين يعني أنهم سيدركون عندئذ أنهم كانوا في ضلال مبين، وليس أنهم سيضلون عندئذ.وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْخَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٤) التفسير: لقد سمى الله تعالى ذلك اليوم يوم الحسرة لانجلاء الحقيقة فيه، وبما أنها ستكون على عكس ما آمنوا به، فيتحسرون ويتأسفون بانكشاف خطأ معتقداتهم.ثم يقول الله تعالى إذ قُضي الأمر أي يوم يقضى بحسب الحقائق، أو يوم يتم الإعلان عن أمر الله وقضائه.وبما أن الإعلان عن قضائه تعالى سيتم تأييدا للحق لا للباطل، فيقولون والحسرة تعتصر قلوبهم يا ليتنا آمنا بالحق من قبل.ثم يقول الله تعالى وهم في غفلة وهم لا يؤمنون..أي أنهم رغم إدراك الحقائق كلها سيظلون فرسى للغفلة، ولن يتخذوا الخطوة إلى الإيمان.هنا تنكشف لنا حقيقة عجيبة، وهي أن القلوب لا تتغير فجأة رغم رؤية الحق عيانًا.فإن الله تعالى يقول هنا أسمع بهم وأبصر أي بالرغم أنهم حينذاك سيسمعون ويبصرون أيضًا، يوم يأتوننا ) أي أنهم يكونون ماثلين أمامنا، إذ قضى الأمر أي يكون القرار قد صدر من قبلنا، وهم في غفلة لا وهم يؤمنون..إلا أن قلوبهم لن تتطهر جراء ما سبق منهم من الكفر والسيئات، فيُدخلون في الجحيم.وهذا يدل على أن المرء، رغم انكشاف الحق عليه، لا يترك سيرته الأولى بسبب تعوده عليها، وإنما يؤثر الظلمة على النور.فترى أن الكفار يرون الآيات بكل أنواعها ومع ذلك يصرون على الرفض والإعراض، ولا تتطهر

Page 323

٣١٦ سورة مريم حتى يسري إليها نور الله تعالى.إنهم يرون الآيات ذلك يظلون ومع الجزء الخامس قلوبهم قليلاً بعيدين عن الهدى.إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤) التفسير: لقد أخبر الله تعالى في الآيات السابقة أن الحقيقة ستنكشف على المسيحيين يوما، فيدركون أن الله تعالى ليس معهم، بل هو مع دين آخر، ومع ذلك سيُعرضون عن قبول الحق.أما الآن فيقول الله تعالى إنا نحن نرث الأرض ومَن عليها وإلينا يُرجعون..أي أن هؤلاء سينالون الحكم على الناس والأموال، أما يوم الفصل فينزع منهم الحكم ليوهَب للمؤمنين والمتمسكين بالحق.وكأن هذه الآية تنبئ عن غلبة الإسلام والأحمدية، كما أنها إلى تشير أن المسيحية ستكون غالبة على العالم كله في تلك الأيام.لا شك أن المسيحية كانت تتمتع بالحكم وقت نزول هذه الآيات، ولكنه كان حكمًا محدودًا جدًّا، بينما يخبر الله تعالى هنا أنه سينزع منهم حكم العالم كله في يوم من الأيام، وكان هذا نبأ بوقوع العالم كله في نفوذهم وتحت سيطرتهم، إذ لا يُنزع الشيء من أحد إلا إذا كان في يده.فالإعلان الرباني عن انتزاع حكم العالم من يد المسيحيين يتضمن في الحقيقة نبوءتين.فمثل هذا الإعلان كمثل شخص يقول عن رجل فقير إنه سينزع من يد هذا الفقير مائة مليون دينار.فهذا القول ينطوي على مفهومين: أولهما أن هذا الفقير سيملك مئة مليون دينار بعد أيام، والثاني أن هذا المبلغ سينـــزع منه فيما بعد.فثبت أن قوله تعالى إنا نحن نرث الأرض ومن عليها قد انطوى على نبوءتين: إحداهما أن المسيحيين سيستولون على مقادير العالم كله في يوم من الأيام، ويرثون الأرض كلها، ويقع أهلها كلهم تحت سيطرتهم، والثانية أن الله سيرث الأرض ومن عليها في يوم من الأيام..أي سينزع من المسيحيين حكم العالم ليرثه عباده الصالحون.

Page 324

الجزء الخامس ۳۱۷ سورة مريم واعلم أن قوله تعالى إنا نحن نرث الأرض يشير إلى القوة المادية للمسيحيين، أما قوله تعالى ومن عليها فهو عن كثرتهم العددية في العالم في الزمن الموعود.أي أنهم لن يتمتعوا بالنفوذ المادي في العالم ولن يأخذوا زمام حكمه في أيديهم فحسب بل سيكثر أتباع المسيحية أيضًا في الأرض.وبالفعل قد اكتشفت أمريكا التي تقع في قبضة المسيحيين بعد نزول هذا النبأ القرآني.فلو انتزع أمريكا فإنما ينتزعها من يد المسيحيين لأنهم الغالبون هناك.ولو انتزع الله الفيليبين يعني الله أنه تعالى فإنما ينتزعها من يد المسيحيين أنفسهم.ولو انتزعت كثير من المناطق ذات الأكثرية المسيحية بالصين، حيث توجد بها مئات الملايين من المسيحيين، فإنما تُنزع من المسيحيين أنفسهم.ولو انتزعت أستراليا فإنما تُنزع من المسيحيين أنفسهم.ولو انتزعت روسيا فإنما تنزع من المسيحيين أنفسهم وإن كانت الدهرية قد سادتها.ولو انتزعت أوروبا فإنما تنزع من المسيحيين أنفسهم.ولو انتزعت أفريقيا فإنما تنزع معظمها من المسيحيين أنفسهم ولو انتزعت الجزر فإنما تنزع من المسيحيين أنفسهم.قصارى القول إن قوله تعالى إنا نحن نرث الأرض ومن عليها سينتزع الأرض وأهلها من أيدي المسيحيين الذين سيكونون مسيطرين عليها..أي أن أهلها سيقبلون عندئذ ملكوت الله الواحد الأحد.لقد نبأت الآية السالفة أن المسيحيين لم يؤمنوا كأمة، أما الآن فأخبرت هذه الآية أن المسيحية ستبقى كأُمّة إلى القيامة، ولكنا سننزع منها الأكثرية العددية، فتصبح الأرض الله تعالى..أي للذين يعبدون الله الواحد الأحد، كما أن أهلها أيضًا يكونون كلهم تحت نفوذ عباد الله الموحدين.وكأن هذا نبأ باستقطاب الأحمدية لمعظم سكان المعمورة، وباندحار المسيحية على يد الأحمدية.يوم ثم يقول الله تعالى وإلينا يُرجعون..أي أن المسيحيين معرضون اليوم عن الله الأحد، ويعبدون عبدًا من عباده، ولكنهم سيُرجعون إلى الله تعالى بعد أن يذوقوا الذل والهوان في طوافهم حول المسيح.بمعنى أن دعوة الإسلام ستصلهم، فيدخلون

Page 325

الجزء الخامس ۳۱۸ سورة مريم فيه شاهدين أن "لا إله إلا الله محمد رسول الله، تاركين الشرك وراجعين إلى توحيد الله تعالى.من وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ) ٤٢ التفسير: اعلم أن "الكتاب" لفظ عام، وقد ورد في القرآن بمعنى القرآن الكريم تارة، وبمعنى الكتاب المقدس تارة أخرى، وقد جاء هنا بمعنى القرآن الكريم؛ والمراد هذه الآية: اذكر إبراهيم في ضوء القرآن..أي تحدث عنه كما وصفه القرآن الكريم، وليس كما ذكره الكتاب المقدس.ذلك لأن إبراهيم العلا لم يوصف في الكتاب المقدس "صديقا"، وإنما اتهم فيه بالكذب، حيث قيل أنه سمى زوجته أخنًا خوفًا من الملك.جاء في الكتاب المقدس بهذا الصدد: "وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب، وسكن بين قادَسَ وشُورَ، وَتَعَرَّبَ في جرار.وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة.فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب إليها.فقال: يا سيّدُ أَأُمّةً بارّةً تقتل؟ ألم يقُل هو لي: إنها أختي، وهي أيضًا نفسها قالت هو أخي؟ بسلامة قلبي ونقاوة يديَّ فعلتُ هذا فقال له الله في الحلم: أنا أيضًا علمت أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، وأنا أيضا أمسكتك عن أن تخطئ إلي، لذلك لم أَدَعْك تمسها.فالآن رُدَّ امرأةَ الرجل، فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا.وإن كنتَ لست تردّها فاعلم أنك موتًا تموت أنت وكلُّ من لك.فبكر أبيمالك في الغد ودعا جميع عبيده ، وتكلم بكل هذا الكلام في مسامعهم.فخاف الرجالُ جدًّا.ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عليّ وعلى مملكتي خطيّةً عظيمةً؟ أعمالاً لا تُعمل عملت بي.وقال أبيمالك لإبراهيم: ماذا رأيت حتى عملت هذا الشيء؟ فقال إبراهيم: إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتَّةَ، فيقتلونني لأجل امرأتي.وبالحقيقة أيضًا

Page 326

الجزء الخامس ۳۱۹ سورة مريم هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجةً.وحدَث لما أتاهَني الله من بيت أبي أني قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين إلي : في كل مكان نأتي إليه قولي عني هو أخي" (التكوين ٢٠: ۱-۱۳).لقد اتضح من هذه الفقرة أن الكتاب المقدس يصم إبراهيم بالكذب، ولا يسميه صديقًا، حيث خاف الملك وقال لزوجته أن تقول للملك إنه أخي، ومن أجل ذلك يأمر الله تعالى هنا نبيه لله أن يتحدث عن إبراهيم على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، وليس كما ورد في الكتاب المقدس، لأن ما جاء فيه عن إبراهيم ال كذب وافتراء، إذ كان صديقا نبيًّا.ولفظ الصديق له مدلولات عديدة.وأولها: "من كثر منه الصدق" (المفردات).أي أنه يسعى دائما أن يقول الحق والصدق إلا ما شذ وندر.المفهوم الثاني هو "مَن لا يكذب قط" (المرجع السابق)..أي أنه يتوخى الحيطة القصوى في الكلام حتى أنه لا يكذب ولو خطأ.والمعنى الثالث هو "من لا يتأتى منه منه الكذب لتعوده الصدق" (المرجع السابق)..أي أنه معتاد على الصدق بحيث لا يمكن أن يتفوه بكلمة كاذبة.وكأن الفرق بين المفهوم الثاني والثالث هو أن الثاني لا يكذب، أما الثالث فلا يمكنه أن يكذب، إذ صار الصدق فطرته الثانية.والمفهوم الرابع هو "من" صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله" (المرجع السابق)..أي من كان قوله صدقا واعتقاده أيضًا حقا.فمثلاً هناك واعتقاده أيضًا حقا.فمثلاً هناك مسيحي يرى أن ابنه يقتل شخصًا، فتُرفع القضية في المحكمة، ويدعى المسيحي ليدلي بشهادته، فيصدق القول غير مكترث لابنه ويشهد أن ابنه هو القاتل.ومثل هذا الإنسان يمكن أن يسمى صادقًا، ولكنه لا يمكن أن يسمى صدّيقًا، لأن الصديق إنما هو "من صدق بقوله واعتقاده"..أي أنه يكون صادقا في قوله واعتقاده أيضًا.لا شك أن هذا المسيحى كان صادقًا في شهادته ولكنه ليس متمسكا بالصدق في اعتقاده.فهو صادق ولكنه ليس بصديق.

Page 327

الجزء الخامس ٣٢٠ سورة مريم " ثم ورد في المفهوم الرابع وحقق صدقه بفعله أي أن عمله أيضًا يؤيد صدقه في قوله واعتقاده وكأن هذه الدرجة هي كمال الصديقية.ثم ورد: "الصدّيقون هم قوم دُوَينَ الأنبياء في "الفضيلة" (المرجع السابق).ولكن من بما أن هذه الكلمة قد وردت عن إبراهيم العلا فلا مناص لنا أن نأخذ من معانيها ما يتفق ومكانته الله، وهو المعنى الثالث والرابع..أي أن إبراهيم العلي كان معتادا على الصدق بحيث إن صدور الكذب عنه كان أمرًا مستحيلاً لأن الصدق قد صار فطرته الثانية أو أنه اللي كان صادقًا لدرجة أنه كان صادق القول والاعتقاد والعمل أيضًا.وثمة إشكال آخر يتطلب توضيحا، وهو أنه يتضح من القرآن الكريم أن الصديق أدنى درجة من النبي، فإذا قيل عن شخص إنه نبي فيُفهم تلقائيا أنه متصف بصفة الصدّيقية أيضًا؛ إذًا فلم قال الله تعالى عن إبراهيم إنه كان صديقا نبيا ؟ فهل يعني يعني هذا أنه صار أوّلاً صديقًا ثم نبيًّا، أم أنه كان صديقا ونبيا في وقت واحد؟ فليكن معلومًا أن كل الصفات الحسنة، وليست الصديقية وحدها، تتضمن مفهومين، أو تُستعمل بطريقين؛ فهي تُستعمل كصفة و كدرجة أيضًا.فمثلا عندما نقول عن شخص إنه كاذب فالمعنى أن فيه صفة الكذب، ولكن هذا الاستعمال قد أيضًا أنه معتاد على الكذب والافتراء حتى نال درجة الكاذب.فكما قلت إن الكلمات الصفاتية تُستعمل بطريقين: فحينا تدل على صدور الفعل ولو مرة واحدة، وحينا آخر تدل على تبوئه درجةً عالية في ذلك المجال، أو أنه قد اعتاد على ذلك الفعل بحيث أصبح صفة ذاتية فيه.فالكلمات مثل الصالح والصديق والشهيد حين ترد صفةً تدل على أن الموصوف بها أعلى درجة من ذلك في الحقيقة.فمثلا كل نبي يكون مؤمنًا أيضا – فقد ورد عن النبي ﷺ نفسه في القـــرآن الكــريم وأُمرت أن أكون من المؤمنين (يونس: ١٠٥)، ولكن هذا لا أن الدرجة الحقيقية له هي درجة المؤمن فحسب - كما أن كل شهيد يكون صالحا أيضًا، وكل صديق يكون شهيدًا وصالحا أيضا، وكل نبي يكون صديقا وشهيدًا وصالحا أيضًا.ولكن إذا أريد بيان الدرجة فلا تُستعمل هذه الكلمات إلا لصاحب يعني

Page 328

الجزء الخامس ۳۲۱ سورة مريم تلك الدرجة فقط، لا لغيره، لأن بيان درجة أحد يعني أن هذه خصوصيته المسلم بها.فمثلا إذا كان أحد متبونا درجة الصدّيق فهذا يعني أن أكبر إنجاز حققه هذا الشخص في حياته هو أنه قد نال مقام الصدِّيقية؛ وإذا أردنا بيان مكانته الحقيقية فلن نستعمل له كلمة الشهيد مثلاً.وبالمثل إن النبوة هي المقام الحقيقي لكل نبي، فلو أردنا الدلالة على مقامه الحقيقي استعملنا له كلمة النبي فقط، ولن نستعمل له عندئذ كلمة الصدّيق، لأن الصدِّيقية مشمولة في النبوة.ذلك أنه إذا وردت في وصف شخص كلمة أدنى من فثبت مع كلمة أعلى فلا يراد بذلك بيان درجته وإنما يراد به الإشارة إلى صفة مميزة فيه.وقد وردت هنا كلمة صديقا للإشارة إلى صفة مميزة لإبراهيم ال، وليس للدلالة على مكانته الحقيقية.بل المراد أنه كان نبيًّا من لدنا، وكانت صفته البارزة أنه كان منقطع النظير في مجال الصدق في عصره.فالصديق هنا لا يدل على مقام إبراهيم، وإنما على كونه مثلا أعلى في مجال الصدق.من هو إبراهيم، ولماذا ذكر هنا؟ هذا سؤال طبيعي ينشأ هنا.والغريب أن هذه السورة قد تحدثت عن يحيى أولاً ثم عن المسيح، وقد أخذت الآن في ذكر إبراهيم.ثم تذكر إسحاق ويعقوب وموسى، ثم إسماعيل عليهم السلام أجمعين.يقول المسيحيون بهذا الصدد أن محمداً ( ) قد ذكر هؤلاء الأنبياء بهذا الترتيب لأنه كان يجهل زمن بعثتهم.فذكر إبراهيم بعد المسيح مع أن إبراهيم قد خلا قبله بزمن طويل.ثم ذكر إسماعيل بعد موسى، في حين أن إسماعيل كان قبله (تفسير القرآن بجلاء لـ "ويري" مجلد (٢).والحق أن القرآن قد ذكر الأنبياء حسب تسلسل عصورهم أيضًا، وهذا يعني أنه كان على علم بتاريخ الأنبياء.بل لقد فنّد بعض الكتاب الأوروبيين أنفسهم الزعم أن محمدا ( كان يجهل زمن بعثة الأنبياء؛ وقالوا إن القرآن نفسه كلما ذكرهم من حيث التاريخ ذكرهم وفق عصور بعثتهم؛ فإذا ذكرهم في موضع بخلاف ذلك فلا بد أن يكون لذلك حكمة.إذا فمن المسيحيين أنفسهم من دحضوا الاعتراض الذي قد

Page 329

الجزء الخامس ۳۲۲ سورة مريم آثاره بعض منهم.فباطل زعمهم أن محمدا رسول الله ﷺ كان جاهلا بتاريخ أن الأنبياء عليهم السلام.وأرى أن الحكمة في ذكر القرآن إبراهيم بعد ذكر المسيح عليهما السلام هي المسيحية تعدّ نفسها فرعًا للأمة الموسوية، بينما تعتبر الأمة الموسوية نفسها حلقة من السلسلة الإبراهيمية؛ وهذا يعني أن المسيح يتصل بإبراهيم في نهاية المطاف.وهذا ما يخبرنا الإنجيل أيضًا، إذ يصف المسيحَ أنه وارث عرش إبراهيم تارة، وأنه وراث عرش داود تارة أخرى متى ١ ١ ، لوقا ۱ (۳۲.إذا فكلما يتطرق الحديث إلى صدق المسيح فلا بد من ذكر إبراهيم أيضًا، ذلك لأن المسيحية إذا كانت فرعًا أصله الأمةُ الإبراهيمية، وما دام الأصل يؤكد أن الله واحد، بينما يعلن الفرع أن الله اثنان أو ثلاثة، فلا بد من اعتبار الفرع على الخطأ والباطل.إذا كان مؤسس السلسلة الموسوية أو مؤسس بني إسرائيل عدوا للشرك فكيف يمكن أن يكون فرد من هذه السلسلة داعيًا إلى الشرك.ومن أجل ذلك بدأ الله تعالى الحديث في هذه السورة بذكر زكريا الذي كان والد يحيى.ثم تحدث عن يحيى الذي كان بدوره إرهاصا للمسيح.ثم ذكر المسيح وقدّم البراهين على أنه كان عبدًا موحدًا لله تعالى؛ وأنه لم يعلّم الشرك والوثنية قط، بل دعا إلى عبادة الإله الواحد دائما.أما الآن فيقول الله تعالى إننا نقدم أمامكم برهانا آخر على ما قلنا إنكم تزعمون أن المسيح كان متصفا بالألوهية، وأنه جاء كآخر مخلص للدنيا، وأنه لا نبي بعده.ونحن نعود بكم إلى إبراهيم، لنذكركم أنه كان يؤمن بإله واحد وكان عدوا شديدا للشرك والوثنية.ويمكنكم أن تدركوا أن الأصل ما دام لا يقبل شيئًا فكيف يمكن أن يدعي الفرع بوجود ذلك الشيء فيه.إذًا فهذا الترتيب الطبيعى الذي بسببه ذكر الله إبراهيم بعد المسيح - عليهما حيث دعا الأمة المسيحية إلى التفكير في ما كان إبراهيم يدعو إليه.فأمرهم أن يقرءوا ما ورد في التوراة من تعليم إبراهيم بتأن وتدبر؛ ثم يقارنوه مع ما يعزونه إلى المسيح من تعليم فإذا كان تعليمه خلاف تعليم المسيح المزعوم لثبت أن ما قال الله في القرآن الكريم عن المسيح هو الصدق والحق.فثبت من ذلك أن لا السلام

Page 330

الجزء الخامس مبرر ۳۲۳ سورة مريم للاعتراض على القرآن إذا ذكر إبراهيم بعد ذكر المسيح، بل هذا هو الترتيب الطبيعي في هذا السياق.السلسلة وكان وراء اختيار هذا الترتيب سببان: الأول هو الإعلان أن مؤسس الموسوية أو مؤسس بني إسرائيل كان عدوا للشرك، فكيف يمكن أن يدعو فرد من نسله إلى الوثنية والشرك.والسبب الثاني هو التذكير بأن إبراهيم قد أنبأ بنزول البركات على اثنين من أبنائه، أحدهما هو إسحاق الذي كان مؤسس السلسلة الموسوية، والثاني هو إسماعيل.وكان لزامًا أن تنتهي السلسلة الموسوية حتى يبدأ تحقق الوعود الإبراهيمية في حق السلسلة الإسماعيلية.فانتهت السلسلة الموسوية بمجيء المسيح الذي كان من غير أب لتبدأ السلسلة الإسماعيلية.ومن أجل ذلك استهل الله تعالى هذه السورة بالحديث عن زكريا الذي كان والدًا لمن جاء إرهاصًا للمسيح.ثم ذكر يحيى إرهاص المسيح.ثم تحدث عن المسيح، وقدّم البراهين على كونه موحدا.ثم ذكر إبراهيم منبها أن المسيحية إذا كانت فرعًا للأمة الإبراهيمية فليفكر المسيحيون ويروا هل يوجد الشرك في الأصل الذي هم فرع منه فما دام إبراهيم، الذي هو الأصل الذي هم فرع منه موحدا فكيف صار أحد من نسله داعيا إلى الشرك والوثنية؟ ثم ذكر الله تعالى بعد ذلك في هذه السورة إسحاق ويعقوب وموسى مبينا أن قطعت لإسحاق قد تمت وأُنجزت وأن عهد بني إسحاق قد انتهى.الوعود التي فليتذكروا الآن أن الله تعالى قد وعد إبراهيم بالبركة في إسماعيل أيضا، وتحقيقا لذلك الوعد في حق بني إسماعيل قد جاء محمد رسول الله ﷺ.فلم تعترضون عليه ولولا هذا المعنى لصار هذا الترتيب بلا جدوى ولا مغزى، إذ لم يأت إبراهيم بعد المسيح، ولا موسى بعد إسماعيل.فالانتقال من ذكر المسيح إلى ذكر إبراهيم فموسى فإسماعيل - عليهم السلام أجمعين - يدل بكل جلاء أن الموضوع المذكور هنا هو نفس ما ذكرته آنفًا.وإن هذا العلم عن ترتيب ذكر الأنبياء لهو مما خصني وحدي، إذ لم يرد هذا المعنى في أي من التفاسير التي تمت خلال ثلاثة الله أنا به

Page 331

٣٢٤ سورة مريم الجزء الخامس عشر قرنا الماضية، ولم يخبر أحد من المفسرين عن السر الكامن وراء هذا الترتيب الغريب.وإنما كشف الله تعالى هذا المعنى عليّ أنا وحدي فضلا منه ورحمة، مما انكشفت به حكمة هذا الترتيب وأهميتها تماما.لقد ذكر الكتاب المقدس إبراهيم باسم أبرام حيث جاء فيه: "ولما كان أبرام ابنَ تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له: أنا الله القدير.سِرْ أمامي وكُنْ كاملاً، فأَجعَلَ عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرًا جدًّا.فسقط أبرام على وجهه، وتكلّم الله معه قائلاً: أما أنا فهوذا عهدي معك، وتكون أبا الجمهور من الأمم.فلا يُدعى اسمك بعد أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم، لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم." (التكوين ١٧: ١-٥) وورد في الموسوعة التوراتية أن لفظ "إبراهام" لا معنى له، وإنما هو لقب صاغوه إشارةً إلى اسمه الأصلي الكبير.(مجلد ١: Abraham) ولكن هذا غلط الواقع أن بين العربية والعبرية تشابها كبيرا.والفرق الوحيد أن العبرية ظلت متروكة لا يتكلم بها أحد لمئات السنين، فصارت دقائقها نسيا منسيا.أما العربية فلم يزل لها رواج على الدوام، ولذا يدرك الناس دقائقها.ولو أن الناس لم ينسوا العبرية لعلموا أنها مشتقة من العربية، وبتعبير آخر، أن العبرية لهجة مشوهة من العربية.خذوا مثلا المقولة الشهيرة للمسيح: "إيلي إيلي لَما شَبَقْتَي" (متى ٢٧: ٤٦)، فما أشبهها بالعربية.فكلمة "إيلي إيلي" إنما هي في الأصل "إلهي إلهي"، حيث يعني "إيل" في العربية الإله، فنطقوه بالعبرية "أيل".وأما "لما" فهي "لم"، وأما "شبقتني" فهي "سبقتني".إن هذا التشابه الكبير بين اللغتين يحتم علينا أن نبحث فيما إذا كان لفظ "أبرام" في العربية على مفهوم خاص أم لا؟ وبالفعل يكشف لنا البحث أن لفظ "إبرام" يعني في العربية إحكام الأمر وإتقانه، فيقال "أبرَمَ الكلام" أي أحكمه، وأبرمَ عليه في "الجدال" أي ألح قاصدًا إفحامه (الأقرب).فـــ "أبرام" هو من يحسن الكلام ويتقن الجدال بحيث يبين للخصم موقفه فيبكته.علما أن الأسماء التي يختارها الله تعالى لأنبيائه تومئ في الحقيقة إلى الإنجازات التي سيقومون بها في حياتهم.ويحدث أحيانًا أن من يسمي من يسمي النبي باسم لا يكون من

Page 332

الجزء الخامس ٣٢٥ سورة مريم سماه به المؤمنين مثل نبينا محمد رسول الله ، حيث لم يسمه الله تعالى بهذا الاسم، وإنما جده، فاستحسنت أُمه هذا الاسم أيضًا، بيد أن الله تعالى هو الذي تصرف في قلوبهما وجعلهما يسميانه بنفس الاسم الذي كان موجودًا في النبوءات.وهذا هو حال أسماء الأنبياء الآخرين أيضًا.خذوا مثلا اسم إسحاق الذي هو في الواقع من الضحك، فكان فيه إشارة إلى كون هذا المولود ضحوكًا بشوشًا.فقد ورد في التوراة أن إبراهيم لما بشر بولادة إسحاق فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعم وسيدي قد "شاخ (التكوين ١٨: ١٢).فإن هذه الواقعة تؤكد أن اسم إسحاق وثيق الصلة بالضحك، ولكن لما كان كتبة الكتاب المقدس يجهلون هذه اللغة فكتبوا إضحاق عوضا عن "إضحاك"، فعربه العرب وكتبوا إسحاق.كما أن اسم "إسماعيل" مشتق من "سمع"، ومفهومه أن الله تعالى سيستجيب دعاءه.وهذا ما حصل بالفعل حيث ركل إسماعيل الوليد الأرض خلال بكائه نباً واضطرابه، فانفجرت عين الماء.فكانت هذه الأسماء مشابهة في الظاهر، بأسماء الناس الآخرين، ولكنها قد أطلقت عليهم بوحي أو تصرف من الله تعالى لتحقيق غاية معينة.لا شك أن نبينا محمدا لم يسمه أبواه بناء على وحي الله تعالى، غير أن الله تعالى هو الذي تصرف فيهما وجعلهما يطلقان عليه هذا الاسم الذي ورد في النبوءات السابقة.وبالمثل كان أبو إبراهيم أو عمه مشركًا، ولكن الله تعالى تصرف فيه وجعله يسميه بالاسم الذي كان يمثل عن المنجزات التي كانت ستتم على يده العليا.كان مولد إبراهيم ال العراق الذي هو جزء من الجزيرة العربية، والذي لغة أهلها العربية - أما العبرية فهي شكل مشوه مشتق من العربية – فجعل الله تعالى أباه يطلق عليه اسم أبرام الذي كان ينطوي على نبوءة بأن الله تعالى يزوده بالقدرة الفائقة على المناظرة والنقاش، فيقدّم البراهين على صدق موقفه حتى يُفحم الخصم ويبكته.وهذه هي الصفة البارزة التي نراها في إبراهيم على ضوء ما ذكره القرآن الكريم عنه من أحداث ووقائع.فمثلاً يذكر القرآن أن إبراهيم الخاض ذات

Page 333

الجزء الخامس مرة النقاش مع ٣٢٦ سورة مريم الملك، واستدل على صحة موقفه بطلوع الشمس وغروبها فبهت الذي كفر (البقرة: (۲۵۹).أي أن الملك الكافر لم يقدر على دحض البراهين التي قدمها إبراهيم العليا.كما أنه اللي أثبت التوحيد بالأدلة المستقاة من نظام الشمس والقمر والنجوم، فسقط في أيدي المشركين، وشرعوا يكسرون أصنامهم.فثبت أن اللي قد ساق لهم الأدلة الدامغة التي أفحمهم بها، فأدركوا أن هذا قد قضى إبراهيم على ديانتهم.ألا وتؤكد روايات اليهود أيضًا أن إبراهيم الله كان منذ صغره قوي الحجة في الجدال.حيث ورد فيها أن أباه أمره ذات مرة بالجلوس في دكانه ليبيع الأصنام لمن يأتي لشرائها.أن جاءه شيخ عجوز وأبدى رغبته في شراء صنم.فقال لـه إبراهيم: أي صنم؟ فأشار العجوز إلى صنم.فحمل الصنم ووضعه أمامه وقال له : كم عمرك أيها الشيخ؟ قال: سبعون سنة.قال: إن هذا الصنم قد نُحت أمس، وأما أنت فقد بلغت سبعين سنة.تستحي مع هذا السن الكبير من أن تسجد لمن عمره يوم واحد.فتأثر العجوز من قوله وذهب لسبيله دون أن يشتري الصنم.فلما بلغ ذلك إخوة إبراهيم العلي شكوه إلى أبيهم وقالوا إنه ينفر الزبائن من شراء الأصنام.فسأله أبوه عن الأمر، فقال: نعم هذا صحيح، ولكن هل يليق بذلك الشيخ العجوز أن يخرّ أمام صنم قد نُحت بالأمس؟ (الموسوعة اليهودية مجلد ۱ : Abram) فثبت بذلك أن تقديم البراهين الدامغة أثناء النقاش دعمًا للحق وإفحاما للخصم هو الصفة المميزة في حياة إبراهيم ال.وهذا ما تؤكده لكم دراسة القرآن الكريم، وهذا ما ينص عليه الكتاب المقدس أيضًا.كان إذا، لم يكن إبراهيم اسما بلا معنى، بل كان ينطوي على نبوءة أنه سيتقن النقاش، ويقدم للخصم البراهين الساطعة الكاشفة للحقيقة، كما حصل مع ذلك الشيخ العجوز حيث لم يقدر على الصمود أمام حجة إبراهيم، بل أدرك أن ركوعه أمام الصنم لا يصح أبدا، فلاذ بالفرار تاركا الصنم وراءه.وظني أن لفظ أبرام في اللغة العبرية أيضًا كان يؤدي المعنى نفسه، وأن الله تعالى قد جعل أهل إبراهيم يسمونه بهذا الاسم لينبئ أنه سيكون مناظرًا رائعا.ولكن

Page 334

الجزء الخامس ۳۲۷ سورة مريم جهل الناس بالعبرية انخدع علماء بني إسرائيل فظنوا أن هذا اللفظ لا معنى له، مع أن الكتاب المقدس نفسه قد بين السبب وراء تحول أبرام إلى أبراهام، حيث قيل: "تكون أبا لجمهور من الأمم.فلا يدعى اسمك بعد أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم.ومن قواعد اللغة العبرية زيادة الهاء للجمع.وكأن المعنى أن إبراهيم لن يظل فردًا واحدا، بل يصبح أمة وهذا ما قاله القرآن الكريم أيضًا في قوله تعالى إن إبراهيم كان أُمّة) (النحل: (۱۲۱).وبتعبير آخر صار إبراهيم من "أبرام" إلى "أبراهام".وهذا يعني والقافية.مع قولهم أنه اسم قد أن الكتاب المقدس أيضًا يذكر نفس ما أعلنه القرآن.ولكن هؤلاء الجاهلين، الذين قد اندثرت لغتهم، يزعمون أن أبرام سمي أبراهام لمجرد السجع أنه لفظ ذو معنى، ويدل على حقيقة عظيمة.أما أُطلق على إبراهيم من قبل مشرك، فلا قيمة لمثل هذا القول.ذلك لأن نبينا محمدًا رسول الله له أيضًا لم يسمه الله تعالى بنفسه، وإنما تصرف عل في الذين سموه.أحد، وإن لم يؤمن بالدين الحق أن ينكر أن الله تعالى هو المتصرف في وليس بوسع - كل شيء.فما دام الشجر تحت تصرف الله ، وما دامت نوى المانجو – مثلا في تصرفه، وإذا كانت نبات الخيار في تصرفه ، فكيف يمكن أن لا يكون أبو إبراهيم تحت تصرف الله تعالى؟ وكيف لا يمكنه الا الله أن يجعل أبا إبراهيم يطلق عليه اسما يتضمن الدلالة على ما سيقوم به هذا الطفل من أعمال ومنجزات؟ وقد تحول "أبرام" إلى "أبراهام" لأن من قواعد العبرية، كما قلتُ، أنهم يزيدون الهاء للدلالة على الجمع ويمكن أن ندرك من ذلك أن حرف الهاء أيضا ينطوي على دلالة مشابهة.وبالفعل نرى أنه في العربية يُستخدم ضمير "هم" للجمع.فالظن أن لفظ "أبرام" مهمل لا معنى لــه، وأن "أبرام" جعل "أبراهام" من أجل الوزن والسجع فقط، إنما منشؤه الجهل بحقائق اللغة.يتضح من الكتاب المقدس أن إبراهيم ل كان من سكان "أور" بالعراق.كان قومه يعبدون النجوم.وكان اسم أبيه تارح بينما سمى القرآن أباه "آزر" وذلك في سورة الأنعام الآية (٧٥ ولا غرابة في ذلك، إذ لو جاز لهم أن يحوّلوا أبراهام إلى

Page 335

الجزء الخامس ۳۲۸ سورة مريم إبراهيم، وعيسى إلى يسوع وحنوك إلى إدريس ويوحنا إلى يحيى، فلا اعتراض على أن يعربوا تارح إلى آزر إذ يتضح من دراسة القرآن الكريم أنه يستعمل فقط الأسماء التي يسهل نطقها على العرب، أو أنه يصوغ أسماء جديدة بترجمة الأسماء الأصلية مثل إدريس الذي يرادف حنوك معنى.فمن الممكن أن يكون القرآن الكريم قد حوّل تارح إلى آزر عند التعريب، إذ تتحول التاء إلى الزاء، وتأتي الألف في الصدارة بحسب قواعد القلب، وأما الحاء فيؤدي معنى التكريم.فيبدو أن نطق "تارح" كان صعبًا على العرب، فحوّلوا تارح إلى آزر، فكانوا ينطقونه في البداية زار، ثم آزر أو قد يكون هذا اسما لبعض أقارب إبراهيم العلة الآخرين.على كل حال، إن القرآن قد استخدم الاسم المعرب ولا مجال للاعتراض على تحول تارح إلى آزر.وقد يكون ثمة اشتراك معنوي بين تارح وآزر ولكن لا علم لنا بمعنى لفظ تارح"، فلا يمكننا أن نقول شيئا على وجه اليقين ولكن من الممكن أن يكشف لنا البحث والتحقيق وجود اشتراك معنوي بين الكلمتين ومهما يكن فإن آزر اسم معرب العليا مع أبيه.ثم وورد عن إبراهيم العلي أنه هاجر من وطنه إلى مصر إثر خلافه هاجر من مصر إلى كنعان (الموسوعة اليهودية مجلد ١: Abram).كان حضرة الخليفة الأول لله لسيدنا المسيح الموعود الله يرى ويجزم أن آزر لم يكن أبا لإبراهيم العل، بل هو العلم، بل هو عم له، وكان أبوه قد توفي.وتوضح بعض الروايات اليهودية أيضًا أن إبراهيم كان يتيمًا.وكان حضرة الخليفة الأول له يقول إن الأب يعني العم أيضًا بحسب القرآن الكريم، حيث ورد فيه أن يعقوب اللي قال لأبنائه أما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدًا) (البقرة: ١٣٤).فهنا قد سمى هؤلاء إسماعيل أبا هذا لهم، مع أنه كان عما لهم في الواقع.فثبت أن الأب قد يعني العم في العربية.صحيح، وهذا ممكن، ومع ذلك هناك سؤال يفرض نفسه: هل كان آزر عما لإبراهيم بالفعل؟ كان السبب الأساسي لرأي الخليفة الأول له هذا هو قوله:

Page 336

الجزء الخامس ۳۲۹ سورة مريم كيف يمكن أن يكون مثل هذا المشرك الكبير أبا لإبراهيم العل؟ ولكنها في الواقع مسألة ذوقية وليست بدليل، فيرى البعض في ذلك حرجًا، بينما لا حرج في ذلك عند البعض.فعلينا أن نبني رأينا على التاريخ الذي يبدو منه أن آزر كان أبا لإبراهيم العلية.أما فيما يتعلق بالاختلاف الموجود بين الكتاب المقدس والقرآن الكريم حول اسم هذا الشخص فكما بينتُ من قبل إن القرآن يذكر الأسماء في شكل معرب، أو يصوغ اسما عربيًّا بترجمة الاسم الأجنبي، فهذا الاختلاف ليس دليلاً على أن بيان القرآن ،غلط، حتى نضطر لإثبات أن الاسمين لشخصين.كان إبراهيم أبا للعالم الروحاني، وكانت عملية إصلاح العالم في المستقبل منوطة بذريته، سواء أكانوا ذريته من الناحية المادية أو الروحانية.قال الله تعالى في القرآن الكريم: ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعَلْنا في ذريته النبوة والكتاب (العنكبوت (۲۸.وكأنه تعالى وعد هنا إبراهيم الا أن الأنبياء سيبعثون في المستقبل من نسله هو.وفي الكتاب المقدس أيضًا وعد من الله تعالى لذرية إسحاق بأنهم سيزدهرون وأن جميع أمم الأرض سيتبركون منهم (التكوين ٢٢: ١٥-١٨).بالمثل قد ورد في الكتاب المقدس وعد الله لذرية إسماعيل بالبركة حيث قال: وابن" الجارية أيضًا سأجعله أُمّة لأنه من نسلك" (التكوين ۲۱: ۱۳).كما ورد أيضًا : ونادى" ملاك الله هاجَرَ من السماء وقال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو.قومي واحملي الغلام، وشُدِّي يدك به، لأنى سأجعله أُمّة عظيمة" (التكوين ۲۱: ۱۷، ۱۸).وهذا يوضح أن الوعد لم يكن يخص بابن واحد لإبراهيم، بل بالاثنين كليهما.كما ورد في الكتاب المقدس أيضًا: "فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق.وأُقيم عهدي معه عهدًا أبديا لنسله من بعده.وأما إسماعيل فقد سمعتُ لك فيه.ها أنا أباركه، وأُثْمره وأكثره كثيرًا جدًّا، اثني عشر رئيسا يلد،

Page 337

الجزء الخامس ٣٣٠ سورة مريم وأجعله أُمّةً كبيرة.ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية.فلما فرغ من الكلام معه صعد (۲۲-۱۹:۱۷ الله عن إبراهيم." (التكوين وهذا يوضح أن الله تعالى كان قد وعد إبراهيم بالبركة في إسماعيل وإسحاق كليهما، ولكنه تعالى أخبر أيضًا أن هذا العهد سيتحقق أولاً عن طريق إسحاق ثم عن طريق إسماعيل عليهما السلام.= ويؤكد الكتاب المقدس في موضع آخر أيضًا أن هذا العهد كان في حق الابنين كليهما حيث جاء: "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهدًا أبديًّا، لأكون إما لك ولنسلك من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان مُلكًا أبديًّا، وأكون إلههم." (التكوين ١٧: ۷-۸) وهذا يبين أن هذا العهد الإلهي لم يكن خاصا ببني إسحاق، بل كان يخص بكل نسل إبراهيم وبكل أجيالهم.غير أن الله تعالى قد أوضح أنه سيحقق وعده هذا في حق بني إسحاق أولاً، ثم في حق بني إسماعيل.إذا فكان لزاما أن السلسلة تنتهي الموسوية في يوم من الأيام حتى يتحقق ما وعد الله به في حق بني إسماعيل أيضًا.هذا، وقد وعد الله تعالى في الفقرة الأخيرة أنه سيعطي إبراهيم ونسله من بعده ملك كنعان.ولو أن أرض كنعان لم تقع في قبضة المسلمين قط لقال المسيحيون أن بني إسحاق قد أعطوا ملك كنعان بينما ظل المسلمون محرومين منه.فأعطى الله المسلمين أرض كنعان أيضًا.بل الواقع أن فترة حكم اليهود على أرض كنعان أقل من فترة حكم المسلمين عليها.لقد فتح المسلمون "القدس" في العام السادس عشر الهجري، فظلت تحت حكمهم حتى عام ١٣٦٧ الهجري (١٩٤٧ الميلادي) حين احتلها اليهود ثانية، بالإضافة إلى فترة ٥٢ سنة ظلت القدس خلالها في قبضة المسيحيين خلال الحروب الصليبية.ولو طرحنا ۱۰۸ عامًا هذه لصارت فترة حكم المسلمين على القدس ١٢٥٩ عامًا.والفترة الزمنية بين موسى والمسيح أيضا ١٣٠٠ عام، ولكن اليهود ظلوا محرومين من أرض كنعان ٢٠٠ عام بل أكثر من ذلك أيضا.ففي عام ٧٣٣ قبل الميلاد استولى الآشوريون على فلسطين، وأخضعوا

Page 338

الجزء الخامس ۳۳۱ سورة مريم اليهود تحت حكمهم، فكانوا يؤدون لهم الجزية.ثم في عام ٦٠٨ قبل الميلاد هزم الملك المصري "نيكو" الآشوريين فصار اليهود تحت حكم المصريين بدل الآشوريين.ثم في عام ٥٨٧ قبل الميلاد هجم الملك البابلي نبوخذنصر على أورشليم، وقام بنفي اليهود من أرضهم.وإن فترة الحكّام الأجانب هذه وحدها تصبح ١٤٦ سنة.أضف إلى ذلك حوالي ۷۰ سنة التي قضاها اليهود في الجلاء، والتي بعد انقضائها سمح لهم ملك ميديا وفارس بالعودة إلى أورشليم ثانية.وهذا أن اليهود حكموا القدس لمدة ١٠٨٤ سنة، أما المسلمون فحكموها ١٢٥٩ يعني عاما.(انظر فتوح البلدان للبلاذري: أمر فلسطين ص ١٤٤، والكامل في التاريخ لابن الأثير مجلد ٢ ذكر فتح بيت المقدس ص ٤٩٩ ، وأخبار الأيام الثاني ۳٥ : ۲۰ - ۲۱ ، وأخبار الملوك الثاني :٢٥ ٨- ١١، وقاموس الكتاب (أردو) ص ٥٧-٥٨، و = (History of Egypt p.69-61 إذا فهذه الجزئية من النبوءة أيضًا كانت إيذانًا بأن فترة تحقق العهد الإبراهيمي في حق بني إسحاق كانت قد اكتملت وانتهت لتُعطى أرض كنعان الآن لأتباع الدين الحق بدلاً من بني إسحاق.وبالفعل ظلت كنعان في العصر الإبراهيمي الأول في قبضة اليهود منذ موسى حتى المسيح أقل مما ظلت تحت حكم المسلمين خلال العصر الإبراهيمي الثاني.وعندما ترجع كنعان إلى المسلمين ثانية فلن تخرج من أيديهم أبدا إن شاء الله تعالى.وقصارى القول إن المسيح اللي كان آخر حلقة من سلسلة الوعود الإبراهيمية، وأن إبراهيم اللي كان موحدًا، ومن أجل ذلك قد تطرق الحديث هنا في هذه السورة بعد ذكر المسيح إلى إبراهيم الذي كان المورث الأعلى.ذلك لينبه الله تعالى إلى أنه كان المقدر أن من ينبع من هذا المنبع نهران، وقد انتهى أحد النهرين عند المسيح، وكان لزاما أن ينبع منه بعد ذلك النهرُ الثاني ليكمل جريانه.فعاد القرآن بالحديث ثانية إلى إبراهيم وذكر إسحاق ويعقوب وموسى للإشارة إلى النهر الأول نهر بني إسرائيل.لقد سبق أن بينت أن إبراهيم الله كان، بحسب الكتاب المقدس، من العليا "أور" إحدى مدن كلديا (Chaldea) أي كان مولده العراق؛ وكان قومه يعبدون سكان

Page 339

۳۳۲ سورة مريم الجزء الخامس النجوم.وكان أبوه مشركا بحسب القرآن الكريم.لقد انكشفت على إبراهيم شناعة الشرك وأبوه حي، فكان يعظه ألا يشرك بالله تعالى.فغضب عليه أبوه ذات مرة، فهدده، وأمره أن يهجره ويغيب عن أنظاره لبعض الوقت حتى لا يصيبه بضرر.فلما رأى إبراهيم شدة غضب أبيه هاجر من وطنه.ويتضح من القرآن أن زوجته سارة ولوطًا كانا من المهاجرين معه.وقد وعد إبراهيم أباه لدى الهجرة أنه سيدعو الله لمغفرته (الصافات: ١٠٠، العنكبوت: ٢٧، الممتحنة: ٥).وفي هذا دليل على جواز الدعاء للمشرك في حياته، بل يجوز الدعاء للمشرك الميت الذي لم ذلك دعا المشركين، من ومع الكريم تتم الحجة عليه، حيث عد النبي (مسند أحمد مجلد ه ص أُمَّه السيدة آمنة *.(٣٥٥ وبعد الهجرة رزق إبراهيم العلي الأولاد حيث لم يكن له أي أولاد من قبل.ويقول الكتاب المقدس إن أبا إبراهيم قد أخذ معه إبراهيم ولوطا وهاجر من "أُور" الكلدانيين إلى مكان اسمه "حاران".وهذا يعني أن القرآن الكريم يذكر أن إبراهيم قد هاجر من المكان الذي كان فيه أبوه، بينما يخبر الكتاب المقدس أن أباه ترك وطنه قاصدًا ،كنعان ولكنه أقام في "حاران" ومات هناك (التكوين ۱۱: ۳۱-۳۲).ثم يقول الكتاب المقدس في التكوين ۱۲ إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يجتاز حاران تاركًا أباه وأقاربه هناك، ليُريه الله الأرض التي سيستوطن بها.فخرج إبراهيم برفقة لوط وزوجته سارة والخدم، وأتى أرض كنعان.ثم وقعت مجاعة شديدة في البلاد، فذهب إبراهيم إلى مصر.فوقعت هناك أحداث تمخضت عن حصول إبراهيم على هاجر التي صارت زوجته الثانية ثم عاد إبراهيم إلى كنعان ثانية.وإن الكتاب المقدس لا يذكر السبب الذي جعل أبا إبراهيم يخرج معه من "أور" الكلدانيين.بينما يتضح من القرآن الكريم أن إبراهيم هو وحده الذي غادر وطنه، سبب هجرته اختلافه مع دين أبيه وقومه.وكان هذا سببًا طبيعيًّا معقولاً.إن وكان * ورد في المرجع المشار إليه أن النبي قال لأصحابه : استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذَنْ لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي." (المترجم)

Page 340

الجزء الخامس ۳۳۳ سورة مريم السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي جعل أبا إبراهيم يغادر وطنه؟ يجب أن يكون وراء ذلك سبب، ولكن الكتاب المقدس لا يذكر أي لذلك.سبب ثم إن الكتاب المقدس صامت عن سبب ذهاب أبي إبراهيم إلى كنعان؟ لقد هاجر إبراهيم إلى كنعان لأنها الأرض الموعودة لـه وذريته، ولكن لماذا فكر أبوه في الهجرة إلى ذلك البلد؟ حين أنه ثم إن الكتاب المقدس صامت أيضًا عن سبب إقامة أبي إبراهيم في حاران في خرج قاصدًا أرض كنعان.ثم يقول الكتاب المقدس أن الله تعالى أمر إبراهيم بالرحيل من حاران تاركًا وراءه أباه وقبيلته.والسؤال نفسه يثار هنا: لم أمره الله بذلك؟ إن الكتاب المقدس يأمر بالإحسان إلى الوالدين (الأمثال ٢٣ ٢٢-٢٥)، كما ينص عليه القرآن الكريم أيضًا (البقرة: (٨٤.لا شك أن القرآن الكريم قد ذكر أن أبا إبراهيم اللي كان مشركا، فانفصل عنه بسبب شركه (مريم: ٤٣ - ٤٩ ) ، ولكن الكتاب المقدس، من جهة، لا يعتبر أباه مشركا، ومن جهة أخرى، يخبر أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى كنعان تاركا وراءه أباه وقبيلته! اور ثم إن الكتاب المقدس لم يوضح ما هي قبيلة إبراهيم التي أُمر بالرحيل تاركًا إياها وراءه؟ يتضح من سفر التكوين في الكتاب المقدس أن تارح خرج من إبراهيم وزوجته ولوطا فقط التكوين ١١: ٣١)، بينما يخبر معه الكلدانيين آخذا القرآن الكريم أن أباه لم يكن في رفقته في هذه الهجرة، وإنما رافقه في هجرته زوجته ولوط فقط.فما هي تلك القبيلة التي أُمر إبراهيم بالرحيل تاركًا إياها وراءه؟ لم تكن هذه القبيلة إلا إبراهيم ولوط وسارة، وكانا معه في هجرته إلى كنعان أيضًا.فمن هؤلاء الذين تركهم وراءه يا ترى؟ فالكتاب المقدس لا يخبرنا أولاً لماذا أمر الله تعالى إبراهيم بترك أبيه وراءه، مع أن الشرع ينص على البر بالوالدين ثم لا يخبرنا الكتاب المقدس ما هي تلك القبيلة التي تركها إبراهيم وراءه.فإن الذين خرجوا من "أور" كانوا أربعة فقط، وأن الأب كان قد مات في حران فمَن هم أولئك الذين قد تركهم إبراهيم في حران لدى

Page 341

الجزء الخامس ٣٣٤ سورة مريم ذهابه إلى كنعان؟ إذا فبيان الكتاب المقدس مبهم العقل.جدا، ويتضمن أموراً كثيرة تخالف كانت مدينة حران تقع ما بين منطقة الكلدانيين والشام على الطريق المؤدي إلى فلسطين.وكانت مدينة كبيرة حيث كانت مقراً للقوافل التجارية، وكانت تسمى باب التجارة.كما كانت مركزا دينيا حيث كان بها معبد كبير لإله القمر، يحجّ إليه عبدة القمر لتقديم القرابين والنذور.وإن روايات التلمود - والتلمود عبارة عن أحاديث اليهود - أيضًا تصدق بيان القرآن الكريم، حيث تنص على أن أبا إبراهيم كان مشركا، بل مشركًا كبيرًا حيث كان يتولى كهانة معابد المشركين.وأنه كان يبيع الأصنام (35.The Talmud p).كما توضح الروايات التلمودية أيضًا أن ملك تلك البلاد كان يعبد الأصنام، وأنه أراد أن يحرق إبراهيم في النار، كما ورد في القرآن.و باختصار يوجد عن إبراهيم روايات من أنواع ثلاثة: أولها قرآنية، وثانيها كتابية، وثالثها تلمودية.أما الروايات الكتابية فهي مشوهة وغير معقولة جدا يتعذر تصديق شيء منها بيقين.فإن الكتاب المقدس يقول، كما ذكرت من قبل، أن أبا إبراهيم أيضًا قد غادر وطنه، ولكن لا يذكر سببًا لتركه الوطن.أما القرآن الكريم فيخبرنا أن إبراهيم هاجر من وطنه، لأن أباه كان مشركا، وكان قومه حتى تلك يعبدون النجوم، واحتدّ الخلاف بينه وبينهم حتى اضطر للهجرة من الوطن.ثم يذكر الكتاب المقدس أن أباه "تارح" أيضا كان ينوي الذهاب إلى كنعان، ولكنه لم يذكر السبب وراء ذهابه إلى هناك؛ كما لم يخبرنا أنه إذا كان قد خرج ليذهب إلى كنعان فلماذا أقام في الطريق بحران.ثم إنه يقول أن الله تعالى أمر أن يرتحل من حران تاركا وراءه أباه وقبيلته، ولكنه لا يبين ما القبيلة التي تركها وراءه؟ إذ لم يخرج مع إبراهيم إلى كنعان إلا لوط وسارة، ولم يكن أي من أقاربه في هذه القافلة فما هي إذا تلك القبيلة التي أمره الله وراءه؟ كما أنه لا يوضح لنا لماذا أمره الله تعالى بترك أبيه وراءه ما دام هو لم يكن مشركًا بحسب الكتاب المقدس.إبراهيم هي بتركها

Page 342

الجزء الخامس ٣٣٥ سورة مريم فثبت أن بيان القرآن الكريم أقرب إلى الصواب، رغم كونه مخالفا لما ورد في روايات الكتاب المقدس.إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَأْبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا تاء، التفسير: اعلم أن يا أبت هو في الأصل "يا أبي"، فأبدلت ياء المتكلم حيث تقول العرب: يا أبي، ويا أَبَت.أما قوله تعالى ما لا يسمع ولا يُبصر فيبين أن السمع والبصر من أهم صفات الله تعالى، أما الصفات الأخرى فهي تابعة لهما.فلولا أن الله تعالى سميع وبصير لما بقي على وجوده برهان يمكن مشاهدته فإن أكبر دليل على وجود البارئ تعالى إنما هو استجابته أدعيتنا، حيث ندعو الله تعالى يا ربِّ حقق لنا أُمنيتنا كذا، فيتحقق ما نريد، فنعرف بذلك أن الله تعالى موجود.أما إذا لم يثبت أن الله تعالى يسمع ويرى فلا يمكن للبشر الاتصال به إذ لا يمكن الاتصال بالغير إلا بطريقين اثنين: إما الأذن أو بالعين؛ فالإنسان يدرك بسماع صوت أحد أنه في حاجة إليه، فيأتيه لمساعدته، أو أنه يرى أحدًا فيدرك أنه في مصيبة، فيسرع إلى نجدته.فلا يمكننا تقديم البرهان على وجود إله هو على صلة مع البشر إلا إذا كان الله الموصل وفا بصفة السمع والبصر.وهذا هو البرهان الذي يذكره إبراهيم اللي هنا على بطلان عبادة الأصنام، فيقول يا أبت لم تعبُد ما لا يسمع ولا يبصر؟ أي ما الجدوى من عبادة الأصنام العارية من هاتين الصفتين؟ ثم يقول ولا يُغني عنك شيئًا.يقال "ما أغنى فلان شيئًا: لم ينفع في مهم ولم يَكْف مَؤُونةً" (الأقرب).فمثلاً لو كان على المرء دين، فدفع غيره دينه نيابة عنه، أو لو كان هناك مريض فسعى أحد لعلاجه، فإنه قد أغنى عنه، وكفاه في حمل هذا الثقل.فيقول إبراهيم لأبيه إن هذه الأصنام لا تغني عنك شيئًا، ولا يمكن أن تحمل عنك أي حمل ولا ثقل، فما الفائدة من عبادتها؟

Page 343

الجزء الخامس ٣٣٦ سورة مريم والحق أن قوله ولا يغني عنك شيئًا تتمة للدليل الذي ذكر في قوله تعالى لا يسمع ولا يُبصر )).ذلك أن المرء لو كان لديه ، أذن، ولو سمع صوت شخص يستنجد به من مكان بعيد، ولكنه لا يقدر على نجدته لكونه أعرج لا يقدر على المشي، فما الفائدة من سمعه؟ أو لو رأى شخصًا يوشك على الغرق، ولكنه لا يملك من الهمة ما يدفعه إلى إنقاذه فما الجدوى من بصره؟ إن السمع والبصر إنما ينفعان ما دام صاحبها قادرًا على النصرة والنجدة فثبت أن الدليل المذكور في قوله لا يغني عنك شيئًا إنما هو يكتمل بالجملة السابقة ما لا يسمع ولا يبصر.ذلك أن المرء يطلع على مصيبة غيره بطريقين اثنين: إما بالسمع أو بالبصر.ولكن مجرد السمع والبصر لا يكفيان إذا لم يكن صاحبهما قادرًا على تحقيق نيته في نصرة غيره، أما إذا قدر على ذلك صارت صداقته ذات جدوى فعلاً.فلذلك يقول إبراهيم إن هذه الأصنام لا تسمع نداءك، ولا تبصر بليتك، ولا تقدر على أن تكفيك في رد بلاء؛ أفليست عبادتها إذا حماقة ما بعدها حماقة؟ قد يقول هنا قائل: من ذا الذي يزعم أن الأصنام لا تسمع أو لا تبصر؟ كلا، بل إنها تسمع وتبصر بحسب اعتقادنا.وإذا كانت أصنامنا لا تسمع ولا تبصر بحسب رأيكم، فما هو دليلكم أنتم على أن ربكم يسمع ويرى؟ والجواب أن الدليل على أن ربنا الله سميع هو أنه يجيب دعاءنا وابتهالنا.وأما الدليل على كونه بصيرا فهو أنه عندما يرانا في مصيبة يأتي لنجدتنا.فعون الله لنا وتلبيته لحاجاتنا لبرهان أكيد على أنه يسمع ويرى.ولكن الأصنام لا تلبي حاجة، ولا تساعده في مصيبة، فثبت أنها لا تسمع ولا تبصر، إذ كيف يمكن أن تسمع هي صوت مستنجد أو ترى أحدًا في بلية ومع ذلك لا تأتي لنجدته؟ لأحد أننا في ورد في الحديث أن أحد الصحابة قال إن ما هداني إلى الإسلام هو الجاهلية كنا نحب الأصنام جدا، حتى إذا خرجنا في سفر أخذنا معنا صنما لكي نكون ببركته في مأمن من البلايا والمصائب.وذات مرة خرجت في سفر وأخذت معي صنما، وفي الطريق تذكرت حاجة وأردت الذهاب إلى مكان لسدّها، وكان معي متاع كثير لم أقدر على حمله معي.فتركت أمتعتي في العراء، ووضعت الصنم

Page 344

الجزء الخامس ۳۳۷ سورة مريم عندها وقلت: سيدي أرجوك حراسة متاعي حتى أعود من حاجتي.فرجعتُ فرحًا مطمئنا بأني قد وضعتُ متاعي تحت رعاية ربي.ولما رجعتُ وجدت ثعلبا قد رفع رجله يبول على الصنم.فغضبت غضبًا شديدًا ورميت الصنم بعيدا، وقلت: لم تقدر يا لعين على حماية نفسك من الثعلب الضعيف، فأَنَّى لك أن تحرس متاعي؟ فقلت في نفسي إن ما يقوله المسلمون حق، فلما رجعت أسلمتُ.ويقول صحابي آخر: أردت أن أخرج في سفر، وكان عندي متاع كثير، ففكرت أن حمل صنمٍ حَجَري في السفر مع المتاع الكثير صعب.فصنعت صنما من دقيق وأخذته معي في السفر فنفد الطعام في الطريق، ولم يبق معنا شيئًا لنأكل، ولما جهد بنا الجوع كسرتُ الصنم وعجنت العجين وصنعت منه الخبز وأكلته.وقلت في نفسي ما هذا الإله الذي قد أكلته ، و لم يضرني شيئًا؟ فأسلمتُ.* هذا هو المراد من قوله تعالى ولا يغني عنك شيئًا.قد يقول قائل هنا: إن ما يتمنى الناس يتحقق لهم على طريق الصدفة أيضًا، فكيف يُعتبر تحقق أمانيهم دليلاً على وجود الله تعالى؟ فمثلاً يُرزق البعض ابنا فيقول إن هذا ببركة سجودي لقبر فلان من أولياء الله تعالى، أو إذا حالفه النجاح في أمر قال إن هذا ببركة الطعام الذي وزعته على ضريح فلان من الأولياء.فليكن معلوماً بهذا الشأن أن الله تعالى قد ذكر في قوله ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئًا ثلاثة أمور كل واحد منها وثيق الصلة بالآخر، وكلها مجتمعةً * ورد في كتب الحديث : "في رواية مسلم وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسم.ومن جملة ما يتحدثون به أنه قال واحد: ما نفع أحداً صنمه مثل ما نفعني.قالوا كيف هذا؟ قال: صنعته من الحيس، فجاء القحط، فكنتُ أكله يوماً فيوماً.وقال آخر: رأيت ثعلبين جاءا وصعدا فوق رأس صنم لي وبالا عليه، فقلت: أَرَبُّ يبول الثعلبان برأسه؟ فجئتك يا رسول الله وأسلمتُ، كذا في المرقاة.(تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، كتاب الاستئذان والآداب عـــــن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في إنشاد الشعر) (المترجم)

Page 345

الجزء الخامس ۳۳۸ سورة مريم كلها، بمعنى تشكل الدليل..أي أن هذا الدليل القرآني يكتمل باجتماع السمع والبصر والإغناء أنه إذا اكتملت هذه السلسلة المتكونة من هذه الحلقات الثلاث فلا يمكن أن يُعد الأمر صدفةً، ولا يمكن أن يعزى إلى صنم من الأصنام.فمثلاً إذا دعا المرء لأمر، ثم تحقق مطلبه، نستنتج من ذلك أن تحققه نتيجة لاستجابة الله لدعائه.ولكن إذا لم يكن هناك أي دعاء كما لم يكن النجاح غير عادي، فلا يمكن أن يُعتبر ذلك نتيجة الدعاء، إذ تقع في الدنيا بعض الأمور عن طريق الصدفة أيضًا.يَتَأْبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ) شرح الكلمات : سَوِيًّا السوي: هو المستوي؛ وأيضا الاستواء والإنصاف (المنجد).التفسير: قوله أهدك صراطًا سويًّا يعنى أرشدك إلى صراط خال من العوج، لا إفراط فيه ولا تفريط.إنني أرى أن أكبر اختبار واجه إبراهيم الا في حياته إنما هو أنه كان عليه أن يذهب إلى أبيه، أو لعمه عند البعض، ويقول له يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطًا سويًّا.ذلك لأنه من الصعب جدا أن يقول المرء للكبار مثل هذا الكلام.كان أكبر ابتلاء مر به إبراهيم في حياته هو أن الله تعالى بعثه في زمن كان أبوه الذي أنجبه أو عمه الذي رباه موجودًا فيه، فاضطر لأن يقول له إنك يا أبي على الخطأ فاتبعني أهدك صراطًا سويا..وكأنه قال له: يا أبت، اليوم أنا أبوك وأنت ابنى من حيث الروحانية.لا شك أن الأولاد يتكلمون بمثل هذا الكلام بسبب سذاجتهم أحيانًا، فمثلاً يأتيني أحفادي الصغار في بعض الأحيان وعندما أُمسك بيد أُمّ بعضهم حبًّا وحنانًا وأقول أمامه: هذه بنتي، فيقول هذا الصغير أيضًا: هذه هذا بنتي.صحيح بالنسبة للأطفال الصغار، ولكن من

Page 346

الجزء الخامس ۳۳۹ سورة مريم الصعوبة بمكان أن يذهب الفتى إلى أبيه ويقول له يا أبي، لم تعد منذ اليوم أبا لي، بل صرت أنا أبا لك.ولست أهلاً لتربيتي، لذا فمن الآن فصاعدا لن تنبهني على أخطائي، بل أنا سأنبهك على أخطائك.إن التفوه بهذا الكلام صعب جدا جدا.صلے ٤٥ يَتأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَنَ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلرَّحْمَن عَصِيًّا (٤) شرح الكلمات هو لا تعبد: عبد الله: طاع له وخضع وذل؛ وخدم (الأقرب).فالمراد من لا تعبد الشيطان أي لا تُطعه ولا تخضع له التفسير: قال الله تعالى هنا لا تعبد الشيطان، مع أنه لا أحد في الدنيا يعبد الشيطان.فثبت أن العبادة لا تعني السجود فحسب، بل من معانيها أيضا أن يطيع الإنسان غيره طاعة كاملة دونما فحص وبرهان.فإذا كان المرء يطيع زملاء السوء دون أن يفحص الأمر بعقله فهو الآخر مشرك.وإذا كان يطيع هوى النفس ولا يراجع عقله فهو أيضًا مشرك ذلك لأن أبا إبراهيم اللي ما كان يعبد الشيطان بل الأصنام، ولكنه يخبره إنما تعبد الشيطان، وهذا يعني أن اتباع أمر بدون التعقل بمنزلة العبادة للشيطان، سواء أكان هذا الشيطان نفس المرء أو زملاء السوء أو الأرواح الشريرة ، لأن الشيطان يكون من نفس المرء، ومن زملاء السوء، ومن الأرواح الشريرة أيضًا التي تتغلب على المرء عندما يصبح مغرماً بالإثم، فتحته على المزيد من السوء والمعصية.عندما لا ينتقد المرء ما توسوس له نفسه من الشر والسوء، وحينما لا يفحص المرء ما يأمره به زملاؤه حتى يعرف الرديء من الجيد، وعندما يقع في الأرجاس جراء سوء أعماله بحيث يتم له الاتصال بالأرواح الشريرة الشيطانية، فإنه في كل هذه الأحوال إنما يعبد الشيطان في مصطلح القرآن الكريم.أن ترك المرء نقد الأمور بلا سبب ورضاه بالمنكرات بدون أي اعتراض لهو والواقع نوع من العبادة للشيطان.يجب ألا يُفهم من هنا أن المفسر له يعتقد بوجود الكائنات الوهمية التي يظن العامة أنها تتلبس الناس أو تعمل للبعض.راجع الجزء الرابع من هذا التفسير ص ٩٤ سورة الحجر قوله تعالى "والجان خلقناه من قبل من نار السموم".(المترجم)

Page 347

الجزء الخامس ٣٤٠ سورة مريم فالله تعالى قد نبه بقوله لا تعبد الشيطان إلى أن المرء إذا رأى منكرًا في أحد فلم ينتقده، ورضي بما يأمره غيره من دون أن يتدبره ويفحصه فقد اعتبره إلها، لأن الله تعالى هو وحده الذي لا يُسأل عما يأمر به فإذا أيقن المرء بأن الله تعالى موجود فلا بد له من طاعة أوامره بدون سؤال وتردد ، ولكن إذا لم تكن الأوامر من الله تعالى أو ممن ينوب عنه، فلا بد من فحص كل أمر ونقده قبل الطاعة.وإن قوله تعالى إن الشيطان كان للرحمن عصيا أيضا يؤكد أن المراد من عبادة الشيطان إنما هو الطاعة بدون فحص وتدبر، ولا يعني عبادة الأصنام المادية، إذ متى رأى الناس الأحجار تنكر رحمانية الله تعالى؟ وكيف يمكنها ذلك جماد وهي لا حراك بها، في حين أن الله تعالى يعلن هنا إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا، والعصي هو العاصي أي الخارج عن الطاعة والآثم (الأقرب).أما الأصنام فأنَّى لها الله تعالى؟ فإنها لو أُلقيت في الكنيف لم تدر أنها ملقاة في النجاسة أم أنها أمام شخص قد خر أمامها ساجدًا إذا فلفظ عصيا قد زاد الأمر جلاء حيث بين أن قوله تعالى لا تعبد الشيطان ليس المقصود به النهي عن عبادة الأصنام المادية، بل يعني النهي عن اتباع أمر ما بدون تحر وفحص.أن تعصي يَتَأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَان وَلِيًّا (3) التفسير: لقد استخدم الله هنا لفظ الرحمن في سياق العذاب حيث جاء أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن، مع أن العذاب لا ينزل وفق صفة الله "الرحمن"، وإنما بحسب صفاته الأخرى الدالة على عقابه الذي يستوجبه العصاة كصفة الجبار والقهار وذي الانتقام! فما الحكمة في ذلك؟ فاعلم أن كل صفة من صفات الله المتعلقة بالعذاب إنما تتجلى بسبب من الأسباب.فتارة ينكر المرء صفة الربوبية فتتجلى صفة العذاب، وأخرى يتصرف بما يتنافى مع صفة الرحيمية فتتجلى صفة العذاب، وحينًا ينكر صفة المالكية فتظهر

Page 348

الجزء الخامس ٣٤١ سورة مريم معنی ويدمرهم تدميرًا.مع صفة العذاب، ومرة ينكر صفة الإحياء فتتجلى صفة العذاب، وفي بعض الأحيان ينكر صفة الإغناء فتتجلى صفة العذاب.فالصفات الإلهية المتعلقة بالعذاب ليست بصفات مستقلة في الله تعالى، أي لا تتجلى صفة العذاب من تلقائها دونما سبب، وإنما تتجلى نتيجة رفض الإنسان لبعض صفات الله الحسنى ولو ظننا أن صفة العذاب في الله صفة مستقلة لكان ذلك أن ربنا – حاشا لله – ظالم حيث يريد بطبيعته أن يسحق العباد بالعذاب ذات أن هذا من سيرة الجبابرة الظالمين، ويتنافى تماما مع البارئ والله الذي هو في الواقع جد رحيم كريم.فبما أن صفاته المتعلقة بالعذاب غير مستقلة، ولا تظهر إلا بسبب صفة إلهية ،أخرى، فلا بد لنا من التسليم أن صفة العذاب إنما تتجلى بسبب مخالفة الناس لصفة الله الرحمن تارة، والرحيم تارة أخرى، والغفّار حينًا، والستار حينا آخر.فمثلا يستر الله على ذنوب شخص مرة بعد أخرى لكونه تعالى ستّارا، ومع ذلك لا يتورع هذا من غشيان المعاصي، فيحل به العذاب من عند الله تعالى.فلا شك أن العذاب قد نزل عليه، ولكنه نـزل بسبب صفة الله "الستار".أو أن الله تعالى يرزق أحد عباده رغدًا، ولكنه يزداد عصيانًا له ، وعندما يرى الله تعالى معاصيه المتكررة ينزل عليه العذاب.فلا أنه قد نال العذاب، ولكنه كان نتيجة لصفة الله "الرزاق"؛ حيث تلقى العذاب حين أساء إلى هذه الصفة الإلهية.فقول إبراهيم لأبيه إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن) يعني أني أخاف جرم أن يصيبك من 6 الله العذاب الذي يحل نتيجة الإساءة إلى صفة الرحمانية.لقد منحك الله الأحجار والنار والماء، وقد أنعم عليك بهذه النعم كلها نتيجة رحمانيته ، ولكنك جعلتها شريكا مع الله تعالى.اعلم أن كل ما يوجد في الدنيا من أصنام وشرك إنما هي ذات صلة بصفة الله الرحمن.فمثلا إن الله تعالى بعث المسيح ال إلى الدنيا، وكان الهدف من بعثته أن يخدم عباده ، ولكنهم قد اتخذوا المسيح نفسه إلها.فثبت أن الشرك والوثنية إنما يتولد نتيجة إنكار صفة الله الرحمن.ومن أجل ذلك تجد المسيحيين والهندوس

Page 349

الجزء الخامس ليس ٣٤٢ سورة مريم برحمانية الله ينكرون صفة الله الرحمن.إن الهندوس لما تدبروا في تعليمهم اضطروا للقول أن الله عالقاً للمادة والأرواح، إذ لو آمنوا بأن الله خالق لهما لآمنوا أيضًا تعالى، والإيمان بالرحمن يعني القضاء على الديانة الهندوسية.وبالمثل لو أن المسيحيين آمنوا برحمانية الله تعالى لزم عليهم الاعتراف بأن الشرع ليس لعنة، بل إن رحمانية الله تقتضي نزول الهداية من عنده تعالى؛ وإذا لم يكن الشرع لعنة، بل يؤدي العمل به إلى النجاة لوجب إنكار الكفارة والفداء؛ وإنكار الكفارة ينفي بنوة المسيح الله تعالى، وبطلان بنوة المسيح الله تعالى يرادف هلاك المسيحية.فثبت بذلك أن أكبر ما يكفر به المشرك هو صفة الله الرحمن، فكأن هذه الصفة الإلهية تعلن للأمم الوثنية أن إساءتكم بحقي قد بلغت منتهاها، فلا بد أن يحل بكم العذاب.فقوله إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن لا الرحمانية تنزل العذاب، بل المراد أنما ينزل عليهم العذاب لانتهاكهم حرمة هذه الصفة.يعني أن صفة أما قول إبراهيم العلم فتكون للشيطان وليا فهو الآخر يؤكد أن عبادة الشيطان لا تعني هنا عبادة الأصنام، إذ كان أبو إبراهيم وليا للشيطان من قبل.لقد بينت من قبل أن الإنسان ينشئ صلته بالشيطان بطرق ثلاث: أُولاها نفسه، إذ تأمره بالسوء وتغويه فيكون على صلة مع الشيطان والثانية الصحبة الشريرة، والثالث اتصاله المباشر بالشيطان، فتؤثر فيه الأرواح الشريرة الشيطانية وتزيده ضلالاً على ضلال.لقد قال إبراهيم لأبيه أوّلاً لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا)، ثم قال لـه إنك إن لم ترتدع عن عبادته فأخاف أن تسبب صفة الله الرحمن في جلب العذاب عليك، فتكون للشيطان وليا.وهذا يعني أن ولاية الشيطان أخطر من عبادته.ذلك لأن الإنسان يطيع الشيطان في أول الأمر نتيجة ما توسوس بـه نفسه من أفكار فاسدة أو جراء الصحبة الشريرة، ولكنه عندما يزداد سوءا يكون لـــه اتصال مباشر بالشيطان، شأن المؤمنين الذين إذا ازدادوا خيرًا وصلاحًا كان لهم اتصال مباشر بالملائكة.

Page 350

الجزء الخامس ٣٤٣ صلے سورة مريم قَالَ أَرَاغِبُ أَنتَ عَنْ وَالِهَتِى يَنإِبْرَاهِيمُ لَإِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَليًّا شرح الكلمات: راغب أنت عن آلهتي: رغب فيه وإليه أراده بالحرص عليه وأحبه.ورغب عنه: أعرض عنه ولم يُرده (الأقرب).لأَرْجُمَنّك: رحمه: رماه بالحجارة؛ قتله؛ قذفه؛ لعنه؛ شتمه؛ هجره؛ طرده (الأقرب).مَليًّا : المليُّ هو "الطويل من الزمان، ولكن هذا لا يعني قرنًا أو قرنين من الزمان، إذ يقال "مرَّ" ملي من الليل" أي "قطعة منه لم تُحدّ" (انظر المنجد).التفسير: لقد تبين من قول والد إبراهيم الا هذا أن المرء إذا كان مؤمنًا بما يخالف الحقيقة بناء على ما سمعه من الآباء، ثم خالفه أحد ثارت ثائرته وأبدى الغيرة بشكل مذهل.أما إذا كان مؤمنًا بشيء أو منكرًا له على أساس البرهان والمنطق لكان غضبه وغيرته خاضعًا للدليل والعقل، ولكن إذا لم يكن غضبه مبنيا على أساس الدليل والعقل لم يكن سلوكه أيضًا متسمًا بالمنطق والتعقل.خذوا مثلاً نبينا محمدا ، فقد جاءه المعارضون وقالوا له إننا نرفض ما تقول.كان أبو جهل من أقاربه ، ولكنه عارضه بشدة وصار أكبر عدو له كما كان بين أصدقائه أيضًا من لم يصدقه.فمثلاً كان حكيم بن حزام صديقًا حميما للنبي ، ولكنه ظل على شركه، ولم يؤمن به إلا بعد فترة طويلة.كان حكيم يحب النبي ﷺ حبًّا جما.وذات مرة سافر إلى الشام * للتجارة، فرأى في السوق عباءة جميلة غالية، فقال في 6 صل الله نفسه، رغم كفره بالنبي ، إن هذه العباءة لا تليق إلا محمد (ﷺ).وكان النبي إذاك قد هاجر من مكة إلى المدينة.فرجع حكيم إلى مكة من الشام، ثم سافر * ورد في المصدر المشار إليه أنه شهد الموسم واشترى الحلة من هناك (المترجم)

Page 351

الجزء الخامس من ٣٤٤ سورة مريم مكة إلى المدينة ليقدّم العباءة هدية للنبي.فجاءه وقدمها لــه قائلاً: لقد قلت في نفسي إنها لا تليق إلا بك.فقال النبي : أعجبتني هذه العباءة جدا حتى كم ثمنه؟ قال: أي ثمن؟ إنما هي هدية صديق لصديق.فقال النبي : إنني أقدر صداقتك كل التقدير، ولكني قد أخذت على نفسي عهدًا أني لن أقبل هدية من مشرك أبدًا.فإما أن تأخذها أو تأخذ ثمنها؟ فحزن حكيم حزنا شديدا، وقال: لقد اشتريتها لك من أرض بعيدة لأهديها لك، وأنت لا تقبلها مني، وأنا لا أريد أن يلبسها غيرك.حسنًا، إني آخذ ثمنها ما دمت تصرّ على ذلك.فدفع له النبي ﷺ الثمن وأخذ منه العباءة.(مسند أحمد، مسند المكيين رقم الحديث ١٤٧٨٤) فترى أن النبي ﷺ كان له أيضًا أعداء، بل قد بلغ ببعضهم البغض كل مبلغ.يقول الصحابي عمرو بن العاص إنه كان يكره النبي الله الله في أيام كفره كراهة شديدة منعته حتى النظر إلى وجهه (مسلم) كتاب الإيمان باب كون الإسلام يهدم ما قبله).وبالرغم من هذا البغض الشديد من قبل الكفار لما رشق النبي بالأحجار من قبل أهل الطائف لم يغضب و لم يقل بسبب غضبه لأرجمنكم أنا أيضا، بل لما جاءه ملاك وقال له لقد بعثني الله إليك لأعذب هؤلاء القوم إن شئت.فلو شئت أطبقتُ عليهم هذا الجبل الذي أمامنا ودمرتهم بزلزال تدميرا.فقال : کلا، فإن أهلكتهم فمن يؤمن بي (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين.ثم دعا له هه ر به وقال: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.فاصفَح عنهم، واغفر لهم خطيئتهم.فبما أن النبي الله كان يملك البرهان والدليل على صحة عقيدته، لذلك إذا غضب على أعدائه غضب بناء على دليل وبرهان، وإذا عفا عنهم فأيضًا على أساس من البرهان والمنطق.وبالمثل كان إبراهيم اللي يملك البرهان على صحة معتقده، فإذا غضب على شيء غضب بناء على البرهان والدليل.ولكن أباه لم يملك أي برهان أو منطق على عقيدته فكان غضبه أيضًا بلا دليل.إذ لم يقل له إبراهيم الا إلا إنها ، يا أبي أمور سيئة لا خير فيها ولا جدوى، فلم تصدق ما لا دليل على صحته؟ عليك أن تصدّق أمرًا من الأمور بعد فحصه ونقده جيدا.فإنه

Page 352

الجزء الخامس ٣٤٥ سورة مريم من الشرك أن يقبل الإنسان ما يقوله صاحبه بدون أن يفحصه وينقده.وكان غاية ما يُتوقع من أبيه هو أن يقول له: كيف تعظني وأنت ابن أمس! ولكنه استشاط غضبًا وأخذ يسب إبراهيم العلة ويشتمه، ويدعو عليه بالويل والثبور، ويهدده بالقتل والرجم والمقاطعة والطرد من البيت.بيد أنه كان أفضل من مشايخ اليوم، لأنه رغم غيظه الشديد فكر أنه ابنه، فأمره بأن يغيب عن أنظاره لبعض الوقت حتى لا يصيبه بأذى.أما المشايخ عندنا فإنهم وأتباعهم قد فتشوا عن الأحمديين وقتلوهم في الفتنة التي اندلعت ضدنا في ١٩٥٣ ، حتى قالوا من فورة غيظهم لأتباعهم: اختطفوا نساء الأحمديين أيضًا ولا ذنب عليكم أما أبو إبراهيم فكان مشركا حتى نهاه الله عن الدعاء له، ولكن هذا المشرك المستشيط غضبا يقول لإبراهيم: أنا غضبان الآن، دَعْني وَحْدي لبعض الوقت حتى لا أؤذيك، وأعود إلى صوابي.علمًا أن قوله "واهجُرْني مليا" لا يعني أن يهجره لسنين طويلة، بل المراد أن يغيب عن نظره لبعض الوقت حتى تهدأ ثورة غضبه.ذلك لأن لفظ الملي، كما ذكرنا لدى زمنا طويلاً وقطعة من الليل أيضًا، حيث يقال "مر ملي من الليل"، وهذا يعني أنه إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة مثلاً ومضت منه ست أو ساعات مثلاً فقد مر ملي منه.فكان أبوه يقصد أن يغيب عن أنظاره لبعض شرح سبع الكلمات، يعني الوقت حتى يزول غضبه.صلح قَالَ سَلَامُ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (3) حفيا : الحفي: العالم يتعلم الشيء باستقصاء؛ المبالغ في الإكرام والبر، والمظهر السرور والفرح، والمكثر السؤال عن حال الرجل (الأقرب).التفسير: لما رأى إبراهيم الغيظ أبيه قال له إنك تثور غضبا علي لأني لا أؤمن بالهتك الباطلة، أما أنا بالرغم أنك لا تؤمن بربي الذي هو الإله الحق فإني لا أقول إلا أن يرحمك الله إنك تريد رشقي وقتلي وقذفي بين القوم، وتود أن تسبني وتلعنني وتقاطعني وتطردني من البيت لأني لا أؤمن بآلهتك الباطلة، أما أنا فأدعو

Page 353

الجزء الخامس ٣٤٦ سورة مريم الله تعالى أن يشملك برحمته الواسعة رغم أنك تكفر بربي الذي هو الإله الحق.لا شك أنك على الخطأ، ولكن ربي قادر على أن يغفر لك زلتك، لذلك سأتوسل إليه ل بالمغفرة لك.ثم قال إنه كان بي حفيًّا..أي أن ربي يغمرني بالحفاوة والإكرام، ويفرح على نجاحي فرحًا عظيمًا، ويعتني بي جدا، ويحزن لحزني بشدة.وعندما أنظر إلى ربي المحسن ويمتلئ قلبي حبا له، أقول في نفسي: هناك نموذج مصغر لهذا الحب والحنان في أبي وأمي أيضًا؛ فمن واجبي أن أحبهما وأعاملهما بالبر والإكرام.وكأن إبراهيم العلا يقول: ليس مصدر حبي لله تعالى أن والدي يحبانني ويحسنان إلي، بل الحق أني حين أشاهد أن ربي يخصني بهذا الحب الجم ويتولى حاجاتي بهذا الشكل المدهش أفكر أن هناك نموذجًا لهذا الحب والحنان في والدي أيضًا، فمن مقتضى لله تعالى أن أحبهما أيضًا.فما أرفع المكانة التي تبوأها إبراهيم ال في الورع والتقوى.فمن الناس من يعمل الصالحات بالنظر إلى من هو دون، ومنهم من يعملها نظرا إلى من هو أعلى؛ وكان إبراهيم من الفئة الأخيرة، حيث يقول إننى لا أحب الله تعالى نتيجة حبي لوالدي، بل إن الألطاف الإلهية هي التي تحفزني على أن أحب والديّ أيضًا.فإني حين أشاهد الحب واللطف والإكرام الذي يغمرني به محسني وربي أقول في نفسي هناك نموذج لهذه الرحمة الإلهية في والديّ أيضًا، فمن واجبي أن أحبهما وأحسن إليهما.وهذا ما يدفعني لإكرامك وإجلالك يا أبي وإني أدعو ربي أن يغفر لك خطيئتك، ويرحمك.وَأَعْتَزِلُكُم وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا : التفسير: فلما قال له أبوه اتركني وشأني، قال: حسنًا، فإني أنا الآخر لا أستطيع العيش معكم تريدون أن تعبدوا الأصنام، وأنا أريد أن أعبد ربي.تسخطون على عبادة رب واحد، وأنا لا أرضى بعبادة الأصنام.فها أنا أعتزلكم.

Page 354

الجزء الخامس ٣٤٧ سورة مريم علما أن قوله أعتزلكم وما تدعون من دون الله لا يعني أنه أعلن اعتزاله عبادة أصنامهم في ذلك اليوم فهو لم يكن يعبدها من قبل، وإنما المعنى أنه سيتركهم في ديارهم مع أصنامهم وأدعو ربي..أي سأذهب إلى حيث لا يُرى إلا الله تعالى.ثم قال عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا..أي رغم أن هذه الهجرة ستكون بمثابة موتي في الظاهر، حيث أضطر لترك وطني وقومي وعشيرتي ومعارفي وأصدقائي، إلا أنني حين أدعو ربي الذي يحبني فسأنال بغيتي؛ فيتيسر لي ثانية الأصدقاء والزملاء والمواسون والقوم أيضًا.صلے فَلَمَّا اعْتَزَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيًّا ) التفسير: أي أن إبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون من دون الله تعالى آتاه الله إسحاق ويعقوب.أما قول الله تعالى وكلاً جعلنا نبيًّا فاعلم أن لفظ كلاً يأتي للاثنين أيضًا، كما ورد هنا وفي مواضع أخرى أيضًا من القرآن الكريم.والمراد من كلاً هنا إسحاق ويعقوب دون إبراهيم – عليهم السلام – إذ صار إبراهيم نبيا من قبل هذا الكلام.وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٤) التفسير: اعلم أن الرحمة لها مفهومان في مصطلح القرآن الكريم.أولهما النعم التي نتمتع بها نتيجة الرحمة الإلهية العامة الشاملة للجميع.فمثلا لو سأل امرؤ ربه أن يرزقه ولدا برحمته فوهبه ولدًا، أو لو دعا شخص ربه أن يكتب لـه النجاح في قضية في المحكمة، فكان النجاح حليفه، أو دعا رجل ربه بسعة الرزق، ثم زال ضيقه، فلا شك أن كل هذه الأحداث كانت نتيجة رحمة الله تعالى، ولكنها مظاهر

Page 355

الجزء الخامس ٣٤٨ کا سورة مريم هو لرحمته العامة، التي لا تفرّق بين كافر ومؤمن ومنافق.والنوع الثاني من رحمة الله تلك النعم التي يخص بها بعض عباده ولا يشترك معهم فيها غيرهم.والحديث هنا يدور حول رحمة الله الخاصة، حيث يقول الله تعالى إننا لم نعامل إبراهيم وإسحاق ويعقوب معاملة عادية، بل خولنا لهم رحمتنا نفسها.إن الشيء الذي وهبناه لهم ليس ولدًا أو مالاً أو منصبًا أو درجة، بل وَهَبْنا لهم من رحمتنا أي أننا وهبنا لهم الرحمة نفسها، وقلنا لهم سلوا ما شئتم نُعْطِكم.ومثله كمثل ما حصل بحضرة الخليفة الأول للمسيح الموعود ال.فكان له يقول إنني لما ذهبتُ للحج، واكتحلت عيني برؤية الكعبة المشرفة لأول مرة، تذكرت أنه قد ورد في الحديث أن الدعاء الذي يدعو به المرء ربه عل عند أول نظرة إلى بيت الله الحرام محاب ومقبول.فقلت في نفسي بماذا أدع؟ ففكرت طويلا وقلت في نفسي لو دعوت اليوم دعاء واستجيب، فإني لا بد أن أحتاج غدًا أيضا لشيء آخر، فماذا أفعل عندئذ؛ فعلي أن أقوم بدعاء جامع لكل حاجاتي طوال حياتي.فدعوت ربي قائلاً: ربِّ اجعل بفضلك كل دعاء أقوم به في حياتي دعاء محابا.وتأسيا بحضرة الخليفة الأول له قد دعوتُ أنا الآخر هذا الدعاء نفسه عندما وقع نظري لأول مرة على الكعبة المشرفة وهذا ما يقول الله تعالى هنا ووهبنا لهم من رحمتنا..أي قلنا لهم لا تهب لكم نعمة واحدة، تعالوا تعطكم رحمتنا نفسها.وكأنهم عثروا على زنبيل كـ "زنبيل عُمر العيّار"، الذي كان كلما احتاج إلى شيء أدخل يده في زنبيله وأخرجه منه.ثم يقول الله تعالى وجعلنا لهم لسان صدق عَليًّا.اعلم أن لفظ الصدق إذا أضيف إلى شيء دل على كونه صادقًا ومرضيًّا..أي كاملاً ومرغوباً فيه.فمثلا لو قلنا إنه "تمرُ صدق" فالمعنى أن فيه كل المواصفات التي يجب أن توجد في التمر الجيد، أي أنه تمر طيب شهي لذيذ.أو لو قلنا مثلا إن هذا "شمام صدق" فالمراد أنه يوجد فيه على وجه التمام والكمال كل ما يوصف به الشمام الجيد من رائحة وطعم.فالمراد من قوله تعالى وجعلنا لهم لسان صدق عَليًّا..أنهم أُعطوا من الله

Page 356

الجزء الخامس ٣٤٩ سورة مريم تعالى لسانًا متصفًا بالكمال ،والرضا، بمعنى أن الله تعالى وفقهم لأن يتكلموا بكلام رائع خال من القسوة والجفاء، ومنزه عن الحقد والبغضاء.ثم إنه كان كلاماً حكيمًا يُعجب سامعه.غير أن اللسان كما لسانهم فإنه قد يعني يعني لسان الآخرين في حقهم.وعليه فالمعنى أننا منحنا لهم جماعة أو أتباعًا كانوا يتكلمون عنهم بكلام رائع مرضي.وهذا يعني أنه كما كان كلام هؤلاء المحظوظين رائعًا عظيمًا، كذلك قد وهبهم تعالى أتباعاً مخلصين قد أثنوا عليهم ثناء صادقًا كاملاً مرضيًّا.الله ثم إذا أضفت الصدق إلى شيء دل على دوامه وعليه فالمعنى أننا وهبنا لهم كلامًا كُتب له الدوام والخلود.أما إذا أُريد باللسان لسان غيرهم فالمراد أن الله تعالى سيخلق في الدنيا دائمًا أناسًا يثنون على إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويشيدون بهم، ويحيون ذكرهم، وينشرون حكمتهم.أما لفظ (عليًّا الذي ورد هنا صفة للسان، فله مدلولات ثلاثة: المرتفع، الشريف، والشديد (الأقرب).وعليه فيكون المراد من قوله تعالى وجعلنا لهم لسان صدق عليا كما يلي: الأول، أنهم قد أعطوا لسانًا رفيعًا..أي أنهم كانوا يتكلمون بكلام عال حكيم بريء من الحقد والشحناء، القلب بنور الإيمان، ويهذب الأخلاق، ويزيد المرء يعمر طهارة وقداسة.والثاني: أن الله تعالى كتب لهم مدحا عظيمًا رفيعا..أي كان الناس يثنون عليهم ثناء عاليًا.ومثاله الدعاء الذي عُلّمت إياه أمةُ المصطفى ، أعني: اللهم صل على * محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.فكأنهم إذا أُعطوا لسانًا فكان عاليًا، وإذا كتب لهم ثناء فكان رفيعا أيضًا.

Page 357

الجزء الخامس ٣٥٠ سورة مريم الثالث: أما إذا اعتبرنا لفظ "عليا" بمعنى الشريف، فالمعنى أنهم وهبوا لسانًا شريفا..أي كان كلامهم لطيفًا بريئًا من الشر، وكانت أقوالهم خالية من البغض والشحناء.فكانوا يتكلمون دائمًا بكلام مهذب طاهر.الرابع: أو المعنى أننا وهبنا لهم ثناء شريفا..أي كان الناس يشيدون بأخلاقهم الفاضلة، معترفين بكونهم من عباد الله المقدسين المقربين.الخامس: وإذا اعتبرنا لفظ "عليًّا" بمعنى الشديد فالمراد أننا أعطيناهم لسانا شديدا..أي لسانا شجاعًا لا يخاف في بيان الحق لومة لائم.فإذا قابلهم مشرك أو من يتوقح في حق الله تعالى قالوا له بصراحة وصرامة: لا علاقة لنا بك، فنحن وأنت على طرفي نقيض.السادس: أو المعنى أنهم تلقوا منا ثناءً شديدًا..أي منحنا لهم أتباعًا مدحوهم رغم الشدائد، فلو وُضع أحدهم تحت السيف لما ارتدع عن قوله: نعم الرجل إبراهيم، ونعم الرجل إسحاق، ونعم الرجل يعقوب.وبالفعل ترى أن المسلمين لا يذكرون أحدًا من هؤلاء الأنبياء بدون أن يقولوا عليه السلام.كما أنهم يقرون بعد كل صلاة أن الله تعالى قد صلى على إبراهيم وآله وأنزل عليه وعلى آله بركات كثيرة.وهذا يعني أن هذا النبأ إنما يتحقق في هذا العصر على يد المسلمين وحدهم.إذًا فلقوله تعالى (وجعلنا لهم لسان صدق عليا عشرة مفاهيم.ج وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخَلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ) التفسير: يذكر الله تعالى الآن موسى بعد الحديث عن إسحاق ويعقوب عليهم السلام جميعًا.والحق أن إسحاق ويعقوب قد ذكرا هنا ضمنيًّا هنا ضمنيا مع إبراهيم الذي هو المقصود الحقيقي هنا كما يدل على ذلك قول الله تعالى من قبل واذكر في الكتاب إبراهيم.وقد ذكر الله تعالى إسحاق ويعقوب هنا للإشارة إلى أحد شقي العهد الإبراهيمي الذي كان خاصا ببني إسحاق.أما الآن فيذكر الله تعالى السلسلة

Page 358

الجزء الخامس ٣٥١ سورة مريم الموسوية، لينبه إلى أن العهد الذي قطع الله تعالى مع نسل إبراهيم، والذي كان من المقدر أن يتحقق أحد شقيه على يد بني إسحاق، كانت فيه إشارة إلى مقام روحاني خاص وهو المقام الموسوي.ذلك أنه كان من علامات ذلك العهد الإبراهيمي إعطاء أرض كنعان لذرية إبراهيم كما ورد في التوراة (التثنية ١: ٥-٩)؛ وقد وقعت كنعان في قبضة بني إسرائيل في عهد موسى ال، كما وضع الأساس للنبوة التشريعية فيهم بواسطة موسى نفسه.قصارى القول لكي يشرح الله تعالى لنا ماهية السلسلة المسيحية قد لفت أنظارنا أولاً إلى إبراهيم، ثم بيّن لنا أن الوعود التي قطعها الله تعالى مع إبراهيم في حق نسله قد بدأ تحققها أولاً من خلال إسحاق وذريته، وكان لموسى صلة وثيقة بتحقق هذه الحكمة وراء ذكر موسى هنا بعد الحديث عن إبراهيم الوعود نفسها.هذه هي وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أجمعين.يقول الله تعالى واذْكُرْ في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولاً نبيا..وأخلص الشيء يعني جعله مختارا خالصا من كل الشوائب والمفاسد.واعلم أن الناس نوعان مخلص ومخلص والمخلص من ينزه معاملاته كلها عن المداهنة بكل أنواعها، ويطهر قلبه من النفاق كليًّا.أما المخلص فهو من يتولى الله بنفسه تطهيره من كل فكر فاسد ووهم باطل ووسوسة وشبهة وكأن المخلص من يختاره الله تعالى لنفسه من العباد، ويطهره من كل رجس ودرن ومثاله ما تفعله ربة البيت بالقمح أو الخضار أو اللحم وما إلى ذلك.فبرغم أن هذه الأشياء تكون متوافرة في البيت، أو قد أُحضرت من السوق، ولكن ربة البيت حين أرادت استعمالها اهتمت بتجهيزها وتنظيفها بطريق خاص.فهي إذا أردت أن تصنع من القمح دقيقًا، قامت بتصفيته من كل شيء فاسد من حجر أو ورق أو قش.أو إذا أردت أن تعجن الدقيق لتصنع منه الخبز قامت بتنقيته بالغربال أو إذا أردت طبخ اللحم أزالت منه ما لا يصلح للأكل من الغدد الفاسدة وغيرها.وإذا أرادت طبخ الخضار غسلتها جيدا ليزول منها التراب أو تقوم بقشرها فترى أن الوقت الذي يُجعَل فيه الشيء

Page 359

الجزء الخامس ٣٥٢ سورة مريم مخلصا هو وقت استعماله.إن الشيء الطيب طيب في كل حال، ولكنه يطهر من الشوائب تماما وقت استهلاكه.فقوله تعالى إنه كان مخلصاً أن يعني موسی ولد في عصر أراد الله تعالى فيه أن يختار واحدا من البشر لخدمة معينة، فانتقاه الله من بين الجميع، وطهره تطهيرًا لكي يصلح للقيام بما أراد أن يفوّض إليه من مهام على ما يرام.وهذا يوضح أن الإنسان لا يصير نبيًّا عن طريق الصدفة، بل يختار الله تعالى نفسا من النفوس ويعدها لذلك إعدادًا.فكلمة مخلصاً تدل على أن الله تعالى أراد تفويض خدمة معينة لموسى العليا.أما قول الله تعالى وكان رسولاً نبيًّا )..فبين فيه الخدمة التي فوضها إلى موسى بعد أن جعله مخلصا.كان من الممكن أن يُفوَّض إليه ما يُفوَّض إلى الصالحين أو الشهداء أو الصدّيقين ولكن الله تعالى يخبر هنا أننا بعد أن اخترناه، شرفناه بمقام الرسالة والنبوة.يقول عامة المفسرين والمتكلمين عندنا أن الرسول من يأتي بكتاب، والنبي من لا يأتي بكتاب، وإنما يؤمر من عند الله تعالى بهداية الناس (فتح البيان).تصفح أي تفسير من التفاسير تجد فيه هذا المعنى.مع أنه لو هذا المفهوم للرسول فماذا إذا؟ فالنبي عندهم من يُبعث من عند الله تعالى بدون أي كتاب، ولكن الله رسولاً مع كتاب فلا بد أن يكون نبيًّا أيضًا.فما الداعي القرآن هنا نبيًّا بعد أن سماه رسولاً؟ أن النبي عندهم لا يكون رسولاً بالضرورة، ولكن ألا يكون الرسول نبيًّا بالضرورة؟ إذ من المستحيل أن يكون أحدٌ مبعوثا من عند الله تعالى، ويأتي بكتاب ومع ذلك لا يكون نبيا بينما يمكن أن يكون أحد نبيًّا بدون أن يأتي بكتاب ولكن القرآن الكريم قد سمى موسى رسولاً ثم نبيا حيث قال وكان رسولاً نبيًّا.ولو كان المراد هنا بيان درجة موسى ال لقال الله تعالى "وكان نبيًّا رسولاً..أي كان نبيا كما أعطيناه الكتاب أيضًا.ولكنه تعالى يسميه رسولاً ثم نبيًّا.فماذا تعني هذه الجملة القرآنية على ضوء ما يقوله عامة المسلمين؟ إنما الجاهل الذي يقول مثلا: فلان سنه أربعون يعني النبي الذي يُبعث أن يسمي عند من موسی صح صحيح

Page 360

الجزء الخامس ٣٥٣ سورة مريم مبعوثا من سنة، ولكن سنّه عشر سنوات أيضًا.بيد أنه يمكن لأحد أن يقول: إن فلانا سنه عشرة أعوام، ولكن الله تعالى أخبرني أنه سيعيش أربعين سنة.إن القرآن الكريم كتاب حكيم وهو كلام رب عليم؛ فكيف يمكن أن يقول إن فلانا رسول وني أيضًا، في حين أن النبوة مشمولة في الرسالة؛ إذ من المحال أن يكون أحد عند الله تعالى، ويأتي بكتاب، ومع ذلك لا يكون نبيًّا.فثبت أن ما يقوله هؤلاء المفسرون لا ينطبق هنا، بل لا بد لنا من تفسير قوله تعالى إنه كان رسولاً نبيًّا بمفهوم آخر.وليس ذلك المفهوم إلا ما تذكره جماعتنا أي أن الرسول يعني من يُرسل ويُبعث، والنبي يعني من ينبئ ويخبر.وهذا صحيح تماما، حيث يكون الإنسان أولاً مرسَلاً ثم نبيًّا ، أي أنه يُرسل من عند الله تعالى أولاً، ثم يخبر الناس بما عنده من أخبار إلهية.فثبت أن الرسالة مقامها قبل النبوة، إذ يستحيل أن يكون أحد نبيًّا ما لم يكن مرسلاً.فمثلاً لما قال الله تعالى لنبينا يا محمد، إني أبعثك لإصلاح الدنيا فصار له رسولاً، وعندما قال النبي يا أهل إني أخبركم من عند الله تعالى بكذا وكذا من الأخبار والأنباء، فصار نبيًّا.وبالمثل حين قال الله تعالى لعيسى الله يا عيسى إني أرسلك إلى الناس فصار رسولاً، وحينما قال عيسى يا أيها الناس إني أخبركم بأن الله تعالى قد أمركم بكذا فصار نبيًّا.ذلك أن الرسول هو من يتلقى رسالة ما، والنبي من يخبر برسالة ما، إذ لا بد له أن أولاً ثم يخبر بما سمعه؛ وإلا فكيف يمكن أن يبلغ أولاً ويسمع يسمع فيما بعد.ومن أجل ذلك كلما ورد في القرآن الكريم لفظا الرسول والنبي معا ذكر الرسول قبل النبي.قال الله تعالى ما كان محمد أبا أَحَدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين (الأحزاب: ٤١)، وقال تعالى الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأُمِّي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل (الأعراف: ١٥٨)، وقال تعالى فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمّي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (الأعراف: ١٥٩).فترى في كل هذه المواضع أن الرسول ذكر قبل النبي.مكة 6 ويقول الله تعالى في هذه السورة نفسها عن إسماعيل الا وكان رسولاً نبيًّا ، لم يؤت أي كتاب باعتراف الجميع، وإنما كان تابعًا للشرع الذي أتى أنه به

Page 361

الجزء الخامس ٣٥٤ سورة مريم إبراهيم عليهما السلام ولم يؤمن بإبراهيم إلا إسماعيل وإسحاق ولوط وبعض من خدمه؛ فإذا كان إسماعيل الذي جاء بعد إبراهيم مباشرة قد أوتي كتابا منفصلا فمن الذي عمل بشرعه؟ فثبت أن ما يذكره القرآن الكريم هنا عن إسماعيل أيضا يفند المعنى الذي يذكره غير الأحمديين حول النبي والرسول.الواقع أن الرسول والنبي شيء واحد، لأن الرسول يعني المرسل (MASSENGER)، والنبي يعني من يأتي بالأنباء بكثرة.ومن الواضح أن الذي يبعثه الله رسولاً رسولاً لا بد أن يعطيه رسالة ما، والشخص الذي يخبر الناس بأخبار الغيب لا بد أن يكون مرسلاً من تعالى أيضًا.فالمأمور من عند الله تعالى يسمى رسولاً من حيث كونه مرسلاً من عنده ا الله ويسمى نبيا من حيث إخباره الناس بالغيب.فالذي يكون رسولاً لا بد أن يكون نبيًّا أيضًا لأن الله تعالى لا يبعث أحدًا بغير رسالة ما، أما الذي يكون نبيًّا فلا بد أن يكون رسولاً أيضًا، لأنه إذا لم يكن من عند الله تعالى فهو مفتر بلا شك، والمأمورون من عند الله تعالى لا مرسلاً يكونون مفترين.عند الله وَنَادَيْنَهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَهُ يَجِيَّا ) شرح الكلمات: جانب الجانب الناحية والطرف (الأقرب).الطور : الجبلُ ؛ جبل قرب أيلةَ إلى سيناء أو سينين (الأقرب).الأيمن : اليمين؛ ذو اليمن (الأقرب).ولفظ الأيمن يفيد هنا صفةً للجانب أو للطور.فإذا كان بمعنى اليمين وصفة للجانب فالمعنى أننا نادينا موسى من الناحية اليمنى لجبل الطور.أما إذا كان صفة للطور فالمعنى أننا نادينا موسى من الطور الذي كان على يمينه.ولكن هذا المعنى لا يدل على حكمة ما ، فالأولى أن نفسر الأيمن بمعنى المبارك ذي اليمن، فيكون مفهوم

Page 362

الجزء الخامس ٣٥٥ سورة مريم الله تعالى الآية أننا نادينا موسى من الناحية المباركة من جبل الطور..أي ناحيته التي كانت مهبطا لوحي الله تعالى في الماضي أيضًا، وبتعبير آخر، ناديناه من الطور المبارك.التفسير: يتضح من هذه الآية أن المكان الذي يكون مهبطا لوحي يصبح مباركًا.لقد رأيت أن بعض حديثي العهد في جماعتنا حين يرون أفراد جماعتنا يقبلون يدي يتساءلون: أليس تقبيل الأيدي شركا؟ ويثار هذا السؤال خاصة من قبل الإخوة الجدد القادمين من فرقة "أهل الحديث".مع أن الثابت من الحديث بكل جلاء أن الصحابة أيضًا كانوا يقبلون يد الرسول ﷺ (ابن ماجه: أبواب الأدب، باب الرجل يقبل يد الرجل.إن هؤلاء يُسمون "أهل الحديث"، ولكنهم ينسون مثل هذه الأحاديث الواقع أن الجماد أيضا يصبح مباركًا باتصاله بشخص مبارك.كما أن المكان الذي ينزل فيه وحي الله تعالى أيضا يصبح مباركًا.في أيام الفتن الأخيرة كان بعض المسؤولين يزورونني حاملين إلي رسائل الحكام، وكلما جاءوني قالوا لي معتذرين: قد جئناك بهذا مضطرين خجلين، لأن الحكومة هي التي حملتنا هذه المسؤولية الحساسة، فماذا نفعل إذا لم نطع أوامرها؟ وذات مرة اعتذر أحدهم بهذا الأسلوب فقلت له: أخبرني، هل كان نعل الرسول مباركًا أم لا؟ قال: نعم، لأن الرسول الله كان يلبسها.فقلت: أخبرني الآن، هل كان حذاء أبي جهل منحوسًا أم لا ؟ قال بكل تأكيد، لكونه في قدم أبي جهل.قلت: ما هي الميزة الذاتية في نعل الرسول ﷺ حتى اعتبرناه مباركا، وما هو القبح الذاتي في حذاء أبي جهل حتى اعتبرناه منحوسًا ؟ ثم قلت له: إن الإنسان يُعَدَّ بارا لو صار سلاحًا لشخص بار ولو بغير إرادة، وبالمثل إنه يُعَد شريرًا لو صار سلاحًا لبعض الأشرار ولو من غير إرادة.كذلك صار ذلك الجبل مباركا لنـزول كلام على موسى في بعض نواحيه.ما هي الميزة الذاتية في الكعبة حتى تعتبر مكانًا مباركًا ؟ إنما تلك الميزة أنها مكان قد نزل كلام الله تعالى عنده، وقام أنبياء الله تعالى بالعبادة والدعاء ،قربه فنزلت عليهم نعمه وبركاته.فالمكان الذي تنزل فيه بركات الله على أحد يظل مباركًا على الدوام.بل الحق أن انتزاع الله

Page 363

٣٥٦ سورة مريم الجزء الخامس البركة من الإنسان ممكن لأنه إذا صار آثما متنكبًا عن سبيل الخير حُرم من بركة الله تعالى، ولكن الأشياء التي لا حياة فيها لا ترتكب الإثم، فإذا نزلت فيها البركة من عند الله تعالى مرة ظلت مباركة على الدوام، ولا تنزع منها البركة أبدًا.هذا، وإن هذه الجملة القرآنية تتضمن الإشارة إلى أن الوحي بجانب الطور كان جد مبارك لموسى العلية وقومه.أما قوله تعالى وقربناه نجيًّا فاعلم أن لفظ (نجيا) له ثلاثة معان: الأول: مَن تُساره، والثاني: مَن تحدّثه والثالث: السريع يقال "ناقة نجيّة" أي سريعة (الأقرب).ويمكن انطباق هذه المفاهيم الثلاثة كلها هنا كالآتي: الأول: أننا قربنا موسى إلينا من خلال كلام ،سريّ، أي بإطلاعه على العلوم الروحانية ودقائق العرفان.علما أن الكلام السري لا يعني هنا التوراة، إذ لم تكن سرًّا مخفيًّا على الناس، وإنما نزلت لكي يطلعوا عليها لأن الشرع إنما ينزل لهداية الناس.فثبت أن لفظ نحيا هنا يشير فقط إلى الأمور التي اطلع عليها موسى دون الناس.ثم من الناحية العقلية أيضًا لا يمكن أن يسمى سرا إلا الشيء الخفي الذي لا يطلع عليه الآخرون.إذا فالمراد من هذه الآية أننا قربنا موسى إلينا، وتحدثنا معه بكلام لم يشرك معه فيه أحد.لقد كشفنا عليه علوما روحانية، وتحدثنا معه حديث المحبة والأنس وأعثرناه على أسرارنا الخاصة.إن هذه الجملة تتضمن الإشارة أيضًا إلى أن الذين يكشف الله عليهم أسرار الشرع أو الروحانية يجعلهم من المقربين لديه.الثاني: ويعني النجي أيضًا "مَن تُحدّثه"، وعليه فالمراد من قوله تعالى وقربناه إلينا عبر كلامنا معه.فأنزل الله عليه التوراة التي انتفع بها أننا قربنا موسی الناس ألفي سنة.الثالث: ومن معاني النجي "السريع"، فالمراد أننا قد اخترنا موسى، ثم قلنا لــه: تعال إلينا بسرعة، فجاءنا مسرعًا.كما سجل القرآن الكريم في موضع آخر قول العلي وعجلت إليك ربِّ لترضى (طه: (٨٥.كما يمكن أن يكون المعنى موسی أننا قربناه إلينا مسرعين إليه..أي أننا أمرناه بالإسراع إلينا، كما بدأنا نسارع إليه

Page 364

الجزء الخامس ٣٥٧ سورة مريم حبًّا وشوقا إليه.وهذا المعنى مشابه لما ورد في الحديث الشريف بأن العبد إذا أتى الله مشيا أتى الله إليه هرولة (مسلم، كتاب العلم، باب فضل الذكر).لقد بدأ موسى يجري إلى الله تعالى، كما أخذ الله يسرع إليه، حتى تم اللقاء.وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَرُونَ نَبِيًّا (٤) ٥٤ التفسير: ورد في موضع آخر في القرآن أن موسى العلن دعا ربه واجعل الله لي وزيرا من أهلي)) (طه) (۳۰)..أي هب لي مساعدًا من أقاربي.فاستجاب الله ٣٠)..دعاءه ووهب لأخيه هارون أيضًا منصب النبوة.أما قوله تعالى هنا ووهبنا لــه من رحمتنا أخاه هارون نبيًّا فهو إشارة إلى أن طابع نبوة هارون مختلف عن طابع نبوة الأنبياء الآخرين، حيث قيل إن موسى مُنح هارون رحمة من الله.وكأن مقام هارون من موسى - عليهما السلام - هو مقام الخادم والتابع من سيده.ج وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً التفسير : هنا قد عاد الله تعالى بالحديث كله إلى إسماعيل العلا ثانية، لينبه أن السلسلة المسيحية ليست سلسلة مستقلة، وإنما هي حلقة من السلسلة الموسوية.وكانت السلسلة الموسوية وثيقة الصلة بإبراهيم الليل الذي كان له ابنان إسماعيل وإسحاق.وكان ثمة وعد من الله لإبراهيم بأنه تعالى سيبارك في إسحاق ونسله، وسينجز وعده من خلال إسحاق.كما كان هناك وعد من الله تعالى لإبراهيم في حق إسماعيل بأنه تعالى سيباركه ،وسيكتره ويجعله أمة كبيرة.وتكشف لنا التوراة أيضا أن هذا العهد الإبراهيمي سيتحقق من خلال الولدين كليهما وإن كان إنجازه سيبدأ على يد إسحاق أوّلاً.ومن أجل ذلك قد بدأ الله تعالى الحديث في هذه السورة بذكر إبراهيم أولاً ثم إسحاق.ثم بعد ذلك تحدث عن موسى تنبيها

Page 365

الجزء الخامس ٣٥٨ سورة مريم للنصارى إلى أن عيسى لم يكن إلا بمثابة حلقة أخيرة من إحدى السلسلتين لنسل إبراهيم، فكيف ترفعون المسيح إلى السماء ظانين أن المخلص الأخير الموعود للدنيا قد أتى في شخصه إنكم تعرفون أننا وعدنا إبراهيم في حق إسحاق وأيضا في حق إسماعيل.وقد أنجزنا وعدنا الخاص بنسل إسحاق، وجاء المسيح إلى الدنيا كآخر حلقة من سلسلة ذلك الوعد ويجب عليكم الآن أن تتذكروا الابن الآخر لإبراهيم.ألم يكن لزاما علينا أن ننجز ما وعدنا إبراهيم في حق هذا الابن أيضًا؟ لقد بعثنا نبيا عظيمًا كموسى إنجازا لوعدنا في حق بني إسحاق، أما الآن فقد حان إنجاز الوعد الخاص بإسماعيل، فبعثنا من نسله محمدا رسول الله.باختصار قد ذكر الله تعالى إسماعيل هنا للإشارة إلى الظهور الثاني لتحقق الوعود الإبراهيمية، حيث نبه المسيحيين أن اعتبار ما تزعمونه عن المسيح صحيحًا يماثل إلغاء وعود الله تعالى في حق إسماعيل، وضياع الأدعية الإبراهيمية، مع أن الله تعالى قد قطع مع إبراهيم الوعود من نوعين: وعود في حق إسحاق ووعود في حق إسماعيل.وبتعبير آخر، قد وعد الله تعالى إبراهيم بسلسلتين من البركات من نسله، واحدة من بني إسحاق، وأخرى من بني إسماعيل.وبرغم أن إسماعيل كان ابنه الأكبر إلا أن الله تعالى أخبره أنه سيبدأ إنجاز وعده بواسطة إسحاق.فبدأت السلسلة الأولى من تلك البركات من خلال بني إسحاق، فوهبهم الله الحكم والنبوة لمدة ألفي عام.ولو أن هذه البركات الإبراهيمية انتهت عند المسيح لصار وعد الله تعالى في حق إسماعيل باطلاً كلية فقول النصارى أن المسيح قد نال مقاما انتهت عنده بركات العهد الإبراهيمي يخالف التوراة مخالفة صارخة.فعليهم أن يتجهوا الآن إلى السلسلة الأخرى من بركات إبراهيم التي بدأناها من نسل ابنه الثاني إسماعيل.أما قوله تعالى إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا فهو بمثابة تعنيف شديد للمسيحيين واليهود، حيث بين الله تعالى لهم أن إسماعيل كان صادق الوعد في رأيكم، ولكني لست صادق الوعد عندكم كان إسماعيل على أهبة الاستعداد دائما لأن يضحي بحياته في سبيلنا، وذلك بحسب اعترافكم حيث ورد في الكتاب

Page 366

الجزء الخامس ٣٥٩ سورة مريم المقدس نفسه: "يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه.وأمام جميع إخوته يسكُن التكوين ١٦: (۱۲)..أي أنه سيقضي حياته كلها تحت ظلال السيوف، وسيظل دائما في حرب ضد إخوته في سبيل الدين.كما ورد فيه أيضًا: "وكان الله مع الغلام فكبر" التكوين (۲۱ (۲۰) وهذا يعني أن الكتاب المقدس نفسه يشهد على أن إسماعيل قد مر بظروف حالكة السواد ومع ذلك لم يترك ربَّه فما دام إسماعيل قد بلغ هذه الدرجة من التضحية في سبيل الدين، وظل مستعدًا لأن يلقي نفسه في الأخطار والمهالك ابتغاء مرضاة الله تعالى، فهل تريدون، يا أتباع المسيح، أن أخذل مثل هذا الإنسان العظيم ولا أحقق الوعود التي قطعتها في حق أولاده، رغم أنه كان رسولاً نبيًّا ؟؟ أي لقد بعثه إلى الدنيا، وأخبرتُ بواسطته بعض الأنباء وكأنه تعالى يعلن هنا أن النبوءات التي أخبرتُ بها في حق إسماعيل أخبار مزدوجة، حيث وعدتُ إبراهيم أولاً بالبركة في نسل إسماعيل، ثم أكدت هذا الوعد ثانية فيما أوحيت إلى إسماعيل نفسه الذي كان صادق الوعد.فهل تريدون مني أيها النصارى أن أخلف هذه الوعود فأكذب إبراهيم، وأكذب إسماعيل الذي كان صادق الوعد، كما أكذب نفسي أيضًا؟ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ، مَرْضِيًّا (3) التفسير: لما قال الله تعالى لإسماعيل الي إني سأخرج من نسلك قوما سيكونون حملة لواء الرشد والهدى، صمّم على أن يعلم أولاده البر والتقوى على الدوام، ليتم وعد الله على ما يرام.فكان يأمر أهله بالصلاة والدعاء والزكاة، ويقوم بالمهام التي عهدها الله إليه أحسن قيام فرضي الله عنه رضوانًا كبيرًا.ورغم هـذه الحقائق كلها تقولون أن الله تعالى قد اتخذ المسيح ابنا، ثم بعثه إلى الدنيا، وأنه لـــن يبعث الله بعده أحدا لنجاة الناس؟ هل من العقل والمنطق أن لا تتحقق نبوءاتنا التي لا نزال نؤكدها باستمرار منذ زمن بعيد؟ إنه لمن المؤسف أن المفسرين لم يدركوا الحكمة وراء ذكر الله تعالى إسماعيل هنا؟ ولماذا ذكر قبله موسى وهارون؟ ولماذا ذكر قبلهما إسحاق ويعقوب؟ ولماذا ذكر

Page 367

الجزء الخامس ٣٦٠ سورة مريم قبلهما إبراهيم؟ إنما اكتفى المفسرون بقولهم إن الله تعالى قد ذكرهم ذكرًا عشوائيا من غير حكمة وغاية.وكأنهم يقولون أن الله تعالى - والعياذ به – قد فعل كما نفعل نحن البشر حيث نذكر بعض الأحيان بالخطأ أسماء القوم ذكرًا عشوائيا لا ترتيب فيه ولا نظام.مع أن الواقع أن الله تعالى قد ذكر هنا اسم كل نبي في محلــه وفق هذا الترتيب لهدف خاص فكان من المفروض أن يذكر زكريا أولاً، ثم يحيى ثم المسيح ثم إبراهيم ثم إسحاق ويعقوب ثم موسى وهارون، وأخيرًا إسماعيل.ذلك لأنه تعالى استهدف من هذا الترتيب أن يبين أن نزول البركات في نســــل بـني إسحاق قد تم وانتهى، فليتجهوا الآن إلى نسل بني إسماعيل.فالله الذي قد أخــرج من الابن الأول هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء، ألا يخرج من الابن الثاني سلسلة أخرى طبقا لما وعد؟ ج وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) التفسير: ينشأ حول هذه الآية سؤالان؛ الأول من هو إدريس العلة؟ والثاني: لماذا ذكر إدريس هنا؟ إن أكثر المفسرين متفقون على أن إدريس هو أخنوخ * الذي هو وَلَدُ سِبطِ آدم، وهو جد نوح عليهم السلام أجمعين فتح البيان، الدر المنثور)؛ واسمه بالإنجليزيــــة.Enoch هو ويقول بعضهم إن إدريس هو إلياس.وقد كان السبب الأول الذي حدا بهم إلى اتخاذ هذا الرأي فهو اعتقاد البعض أن إلياس قد رفع إلى السماء أيضًا.أما السبب الثاني أنه كانت هناك نبوءة عن نزول إيليا من السماء ثانية قبل ظهور المسيح، فهذا التشابه بين المسيح وإلياس جعلهم يظنون أن إدريس هو إلياس.ولكن أصحاب هذا الرأي قلة.ومما يدل على خطأ هذا الرأي أيضا أن القرآن قد ذكـــــر إلياس في مواضع أخرى، ومن غير المعقول أن يذكر القرآن إلياس هنا باسم آخـــــر.* علما أن ما ورد في الأصل الأردو هو حنوك، أما المصادر العربية فتذكره أخنوخ (المترجم).

Page 368

الجزء الخامس ٣٦١ سورة مريم لو كان النطق بلفظ إلياس صعبًا على العرب لقلنا إن أصحاب هذا الرأي علـــى الحق، ولكن ما دام أن القرآن الكريم قد استعمل اسم إلياس في مواضع أخرى فمن الخطأ تماما اعتبار إدريس هو إلياس، إذ لا دليل على صحة هذا الرأي.كما أن هناك تشابها بين أخنوخ وإدريس من حيث المعنى.فأخنوخ يعني في العبرية Dedication أي وقفُ الشيء، أو Instruction أي التعليم والتدريس (الموسوعة التوراتية مجلد : Enoch).أما إدريس فيعني كثير الدارسة والتدريس، إذ هـو مشتق من درس.وكأن إدريس يتضمن أيضًا.معنى Dedication و Instruction كليهما، لأن المرء إذا عكف على عمل صار ماهرًا فيه، ونذر نفسه لـــه.فترى أن "إدريس" يعني في العربية ما يعني "أخنوخ" في العبرية.يقول صاحب أقرب الموارد عن إدريس إنه عَلَم أعجمي".ذلك أن العلم إذا كان غير منصرف كان أعجميًّا.فلولا أنه عَلَمٌ غير منصرف لكان عربيًّا.أما ابن السكيت فيرى أنه غير منصرف ولكنه علم عربي.وقد تمسك برأيه هذا بشدة وهو يدعي أن لإدريس معنى في العربية.فهو مشتق من الدرس مثل إبليس الذي اشتق من الإبلاس، ويعقوب من العقب، وإسرائيل من الإسرال.وأقول : إن هناك أسماء أخرى أيضًا - لم يذكرها ابن السكيت – قد اشتقت من الكلمات العربية مثل إضحاق من الضحك وإسماعيل من السمع.= غير أن رأي ابن السكيت هذا مرفوض عند اللغويين الآخرين، وحجتهم في ذلك أنه لو كان لفظ "إدريس" لفظًا عربيًّا لما كان غير منصرف، فمنع صرفه دليل على عجمته، لأن العلم العربي يكون منصرفا.ويرى الأصمعي والقرطبي وصاحب الكشاف أنه يجوز أن يكون معنى "إدريس" في تلك اللغة الأجنبية قريبًا من ذلك، فحسبه ابن السكيت السكيت من الدرس خطأ، وظنّه عربيًّا.(تفسير القرطبي) ولكنني أرى أن كلا الفريقين على الخطأ.لقد أخطأ ابن السكيت حين اعتـبر "إدريس" عربيًّا، إذ لو كان عربيًّا لما كان غير منصرف بحسب قواعد اللغة.أمــــا

Page 369

الجزء الخامس يعد ٣٦٢ سورة مريم العلماء الآخرون الذين قالوا إن إدريس لفظ أعجمي ولذلك صار غير منصرف، فهم أيضًا لم يدركوا الحقيقة المبتغاة.ذلك لأن هؤلاء أيضًا يعترفون أن اسمه أخنوخ.إذا فإدريس ترجمة لــ "أخنوخ".وما دام هذا الاسم اسما مترجما فإنه لم عَلَمًا، وبالتالي لم يعد غير منصرف، لأن الاسم يمنع من الصرف إذا كان علمًا أعجميًّا.إذا كان إدريس ترجمة للفظ "أخنوخ" فقد زالت عنه العلمية، ولو كـــان إدريس علمًا فليس هو اسما للنبي أخنوخ، بل هو اسم نبي آخر.أما إذا كان إدريس اسما لأخنوخ نفسه فثبت أنه ترجمة لأخنوخ وبالتالي فإنه يفقد العلمية.إذًا فالذين قالوا أن إدريس غير منصرف قد وقعوا في الخطأ يقينًا، إذ ليس هناك سبب ظـاهر لاعتباره غير منصرف.تعالوا نتدبر الآن فيما جعل العرب يعتبرون إدريس غير منصرف مع أنه ترجمة للفظ أخنوخ.لا شك أن اسم إدريس كان متداولاً بين العرب، وقد اعتبروه ممنوعًا من الصرف حتى قبل نزول القرآن الكريم.إذا فعلينا أن نعرف السبب الذي دفعهم إلى اعتباره خطاً، ممنوعا من الصرف؟ الواقع أن علماءنا ما زالوا منخدعين أن لهم باعًا طويلة في دراســة اللغــات الأجنبية مثلما أنهم أساتذة اللغة العربية.لقد كانوا جهابذة اللغة العربية بلا مـــــراء، ولكن دراستهم للغات الأجنبية كانت محدودة جدا، كما كانت معلومــــاتهـم عـــــن الأديان الأخرى ضئيلة وسطحية للغاية.فعندما نطالع التفاسير، ونقرأ ما نقلوا فيها عن الكتاب المقدس من أحداث ومعلومات ينتابنا الخجل الشديد؛ لأن ما عزوه إلى التوراة والإنجيل خلاف للواقع ولا يوجد له فيهما من أثر.لقد ذكــــروا في تفاسيرهم أموراً كثيرة لا تمت إلى الحقيقة بصلة.يقولون هذا ما ورد في التوراة وهذا ما يقول الإنجيل، مع أن هذه الأقوال لا يوجد لها أصل لا في التوراة ولا في الإنجيل.ذلك لأنهم أثبتوا في تفاسيرهم ما سمعوه شفاهة أفواه اليهود.كـــان هؤلاء اليهود يتلاعبون معهم، ويمدونهم بمعلومات زائفة ولكنهم كانوا يصدقون اليهود، دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث والتحقيق ظانين أنهم لا بد أن يكونوا أمناء فيما يخبرونهم عن ديانتهم، فكلما أرادوا معلومة تتعلق بالعهد القديم ذهبوا من

Page 370

الجزء الخامس ٣٦٣ سورة مريم الله عنهما - إلى أولئك اليهود، فنسجوا لهم قصصًا ملفقة، فأثبتوها في تفاسيرهم، مما كان يجعل اليهود يضحكون على سذاجتهم ساخرين.لا جرم أن هذا الأمر كان دليلاً على طيبة علمائنا وصفاء قلوبهم، ولكنـــه يكشف لنا أيضًا أن معلوماتهم عن الديانات الأخرى كانت ناقصة ومحدودة جدا.وإن وفق الله تعالى المسلمين في يوم من الأيام لتطهير تفاسيرهم من الإسرائيليات لكان هذا حدثًا في غاية الأهمية، وجديرا بأن يخلصنا مما نتعرض له الآن من الحرج أمام أتباع الديانات الأخرى.ذلك لأن تفاسيرهم مليئة بالكثير من الأمور الخاطئة المتعلقة بالتوراة والإنجيل.لقد ورد في كتب الحديث أن أحدًا سأل ابن عباس به مسألة، فقال سأجيبك غدًا.ويقول الراوي: لما ذهب السائل دعاني ابن عباس وقال: اذهب إلى فلان اليهودي واسأله ماذا ورد في كتبهم بصدد هذا السؤال؟ فقص عليه اليهودي قصة سخيفة للغاية.ولما حضره السائل في اليوم التالي حكــــى له ابن عباس نفس القصة التافهة التي ذكرها اليهودي فلا شك أن الذنب هنـــا ذنب اليهودي، ولكن قد حصل تقصير من ابن عباس أيضًا - حيث صدق اليهودي الكافر الخبيث من غير تحر وفحص.لا شك أن ما فعله ابن عباس له إنما فعله لصفاء قلبه وحسن نواياه، ولكن وجود مثل هـذه القصــة في تفاسيرنا لعار كبير علينا.إننا في هذا التفسير أيضًا نقوم بالبحث، ولكننا نستعين فيه بالمصادر العربية وغيرها من الكتب العبرية واليونانية ونقلب المعاجم، ونتصفح التاريخ، ثم نثبت وندون ما خلصنا إليه.ومن الممكن تماما أن تظل بعض الأخطاء في بحوثنا، إلا أن ما نقوله يكون أقرب إلى الحق والصواب، لأن بحثنا مبني علـــى حقائق اللغة وأسرارها ووقائع التاريخ.ولكن تفسير بعض هؤلاء المفسرين مبني على أحداث ملفقة وقصص سخيفة فارغة.إذا فهناك بون شاسع بيننا وبينهم.إذ كان بعضهم يذهب إلى اليهود ويسألهم في بعض القضايا فكان اليهود يتكلمون معهم مستهزئين فكانوا يصدّقون قول هؤلاء الأشرار.فمثلاً عندما أراد بعضهم تفسير كلمة "الرعد" ذهب إلى حبر من أحبار اليهود فسأله عن الرعد.فقال لـه ساخرا: إن الرعد ملاك في السماء، لـه كذا من الأجنحة.وكلما حرك أجنحتـــــه رضي

Page 371

الجزء الخامس ٣٦٤ سورة مريم خرج من كل جناح صوت كصوت الصفارة.ثم يتحول الصوت طاؤوسًا، تخرج من جناحه نار، ومن تلك النار يتولد الرعد والبرق.فكان هذا كله استهزاء وسخرية من قبل الحبر اليهودي، ولكن صاحبه المسلم صدّقه لسذاجته، وظن أن هذا هو تفسير الرعد.وقد حط هذا الأسلوب تفاسيرنا جدًا من الناحية العلمية.وقصارى القول إنه من الحقائق الثابتة أن إدريس كان اسما متداولاً بين العرب قبل الإسلام، وأن هناك تشابها بين إدريس وأخنوخ من حيث المفهوم.والسؤال الذي يفرض نفسه هو : لماذا أطلقوا على أخنوخ اسم إدريس؟ : قد يرجع ذلك إلى أن بعض الناس يكون لهم اسمان.وقد رأينا عديدا من الناس الذين دعاهم البعض بغير اسمهم المعروف، ثم تبين عند السؤال أن لهم اسمين.فمن التفسيرات المحتملة أن أخنوخ كان يدعى إدريس أيضًا.ولكن المشكلة أن لا أثــــر لاسم إدريس في كتب اليهود ،نعم نجد اسم "إدراس" (Esdras) في العهد القديم المعروف بـ " The Apocrypha"، والذي هو شبه المسلم به عند اليــ The Apocrypha, The American Translation p.xi) ، ولكن الأحداث التي ذكرها القرآن الكريم عن إدريس لا تنطبق على إدراس (Edras)، إنما تنطبق هود على أخنوخ.فلا يمكننا أن نحل هذه المعضلة بقولنا أن إدريس اسم آخر لأخنوخ.وهناك حل آخر لهذه المعضلة.ذلك أن الناس قد يترجمون اسم الشخص المنتمي لشعب آخر إلى لغتهم بغية التوضيح.وهذا ما حصل بأخنوخ.يبدو أن أحد اليهود قد ذكر اسم أخنوخ عند صديقه العربي، فقال له العربي في حيرة: ومـا هـو أخنوخ؟ وكان اليهودي شخصاً ذكيا وملما بالعربية – حيث كان اليهود مقيمين حتى في المدينة أيضًا - ففسر لصاحبه معنى أخنوخ، وقال: يمكنك أن تعتبر أن أخنوخ يعني إدريس؛ وبأن العربي الذي سمع هذا الاسم ظن أنه اسم علم وأعجمي أيضًا، لأن الذي يذكره أمامه شخص من العجم.لذلك أرى أن هذا هو السبب وراء اعتبار اسم إدريس ممنوعًا من الصرف.شأنه شأن لفظ "وليام William بالإنجليزية الذي يعني صاحب العزم، لأنه في الواقع مركب من كلمتين همــا Will ومعناها الإرادة والعزيمة ،و Helm، ومعناه الخوذ الحديدي؛ فيكون معنى William

Page 372

الجزء الخامس ٣٦٥ سورة مريم بالعربية صاحب العزم الحديدي أو الذي هو من أولي العزم.فإذا تحدثنا مثلا عـــــن شخص من الأشخاص أمام بعض الإنجليز وقلنا له إن ذلك من ذوي العزم، فسألنا ما هو ذو العزم، قلنا له إنه "وليام" بلغتك..وكأننا نترجم للغته هو اسم ذلك الشخص.وهذا الأسلوب ليس متبعا لدى أهل الدنيا فحسب، بل هو متبع عند الله تعالى أيضًا.هناك رؤيا لي قد نُشرت مفصلة في جريدة "الفضل" عدد ٢٤ يونيو ١٩٢٤، وقد رأيت فيها أني قد ذهبت إلى إنجلترا، ودخلت فيها كقائد فاتح، وظني أني أنــــا وليام William الفاتح.وذلك لأني قد سُمِّيتُ في بعض الإلهامات "ذا العزم"، فأراني الله تعالى هذه الرؤيا على شكل ترجمة لهذا اللقب.فالأمر الواقع عندي أن لفظ حنوك * قد تُرجم للعرب بلفظ إدريس، فظنوا أنه علم، ولما كان المترجم من غير العرب ظنوا أن إدريس علم أعجمي.والحقيقة أن العربية والعبرية لغة واحدة إلا أن العرب واليهود قد نسوا هذه الحقيقة بمرور الأيام، فظن العرب أن العبرية لغة مختلفة تماما عن العربية، كما ظن اليهود أن العربية لغة أجنبية، في حين أن العربية هي اللغة الأم، أما العبرية فكانت لغة بعض القبائـــــل العربية.ولا قيمة للاختلاف الموجود بين اللغتين، إذ نرى أنه حتى اللغة الواحدة منطقة إلى أخرى لهجةً ونطقاً.عندما ذهبت للحج أقمت في جدة عند رجل تاجر يدعى السيد أبا بكر.وكان عنده خادم من أهل اليمن.فكنت أتكلم معه بالعربية، وكان يفهم كلامي جيدا على العموم، غير أنه أحيانًا كان ينظر إلى وجهي في حيرة لعدم فهمه لمـا أقــــول.فسألت البعض عن السبب، فأخبرني أن ذلك لوجود اختلاف كبير بين الحجازيين واليمنيين في استعمال بعض الكلمات.ثم حكى لي حادثة طريفة.قال: كانت بمكة سيدة من أهل الثراء، وكان عندها خادم يمني - علمًا أن أهل اليمن يفدون إلى مكة بكثرة طلبًا للعلم، وبما أنه لا دخل لهم يعيشون به، فإنهم يعملـــون كخـــــدام في تختلف * من أي أخنوخ بحسب المصادر العربية كما ذكرنا من قبل (المترجم).

Page 373

٣٦٦ سورة مريم 1128 الجزء الخامس البيوت، ومن أجل ذلك تجد في بيوت مكة الكثير من الخدام اليمنيين – وكانـــــت هذه السيدة تدخن النارجيلية مثل الكثير من المكيين الذين يحبون التدخين بالنارجيلية البلورية النفيسة ذات النقوش الجميلة.وذات يوم أرادت السيدة تغيير ماء النارجيلية، فقالت لخادمها اليمني: الشيشة".ولكن هذه الجملة تعني في اللهجة اليمنية: "اكسر النارجيلية".فقال لها الخادم في حيرة: "ستي هذا أي سيدتي هذه نارجيلية جيدة.فقالت في غضب: لقد أمرتك أن "غير الشيشة"، وأنت لا تغيّرها؟ فقال ثانية: "ستّي هذا طيّب".فنهرته بشدة.فأخذ النارجيلية ورمى بها عرض الحائط وكسرها.فصرخت المرأة وقالت: ماذا فعلت يا لعين؟ لم كسرت هذا الشيء الثمين؟ قال: لقد قلتُ لك مراراً إنه جميل ثمين فلا تضيعيه، ولكنك أصررت على كسره، وتثورين الآن غضبا عندما نفّذت أوامرك؟ فازدادت غضبًا على غضب.وأخيرًا أخبرها البعض أن لا ذنب للخادم لأن التغيير يعني التكسير عند أهل اليمن.إذا فاللغة.تتعرض لتغيرات كبيرة من منطقة إلى أخرى وهذا هو السبب وراء الاختلاف الموجود بين العربية والعبرية.ذلك أن إسماعيل وإسحاق كانا من أبنـــاء إبراهيم عليهم السلام، ولكن بما أن الواحد منهما كان يسكن في منطقة والآخر في منطقة أخرى، فأدى اختلاف المكانين إلى الاختلاف بين العربية والعبرية.ورغم هذا الاختلاف بين اللغتين ستجد أن كل كلمة في العبرية تشبه كلمة في العربية إلا ما شذ وندر.خذوا مثلا لفظ حنوك، فيوجد لـه أصل عربي وهو حنك.ثم إن صرخة المسيح على الصليب "إيلي إيلي لما شبقتني" أيضًا كلام عربي، حيث صار "سبقتني" عندهم "شبقتني".وبالمثل إن لفظ إسماعيل مركـب مـــن و"إيل"، فيقال له في العبرية "يشمعئيل" (الكتاب المقدس بالعبرية).فثبت أن العربية والعبرية لغة واحدة في الحقيقة والسؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس عما هي الحقيقة والواقع وإنما هو عما يراه العرب.إن العبرية لغة أجنبية عند العرب، كما يرى أهل العبرية أن العربية لغة أجنبية.لذلك فالشخص الذي أخـــبر العرب عن أخنوخ مترجما إياه إلى العربية وقال إنه "إدريس" كان شخصا عبرانيا،

Page 374

الجزء الخامس ٣٦٧ سورة مريم لذلك اعتبر العرب لفظ "إدريس" ممنوعًا من الصرف ظانين أنه علم أعجمي.هذا هو السبب وراء اعتباره ممنوعًا من الصرف وإلا فهو لفظ عربي مشتق من الدرس.علما أن ابن السكيت قد ذكر أمثلة قليلة جدًّا فقال أن يعقوب من العقب وإسرائيل من إسرال، ولكن الواقع أن جميع الكلمات العبرية تشبه الكلمات العربية.الحق أن العربية والعبرية ،أختان أو يمكن القول إن العربية أم والعبرية سليلتها.لا شك أن السنسيكريتية وغيرها أيضًا سليلات للعربية، ولكنها بمنزلة الحفيدات، أما العبرية فقد خرجت من بطن العربية.فبما أن أهل العبرية أخبروا العـــرب عـــن أخنــــوخ مترجمين إياه على شكل إدريس فظن هؤلاء أن "إدريس" علم أعجمي.ولقد قال الأصمعي والقرطبي والزمخشري إن من يقول بكون "إدريس" لفظًا عربيا هـو جاهل، ولكن قولهم هذا يشكل دليلا على جهلهم.هم.إذ الواقع أن يعقوب مشتق من العقب، وإسماعيل مركب من "سمع" و"إيل"، وإدريس من الدرس.أما يسوع فهو مشتق من ساع يسوع أي هلك وزال.إذ إنه كان من المقدر أن يعلق المسيح الليلة على الصليب، فسُمي يسوع للإشارة بأنه سيقع في بلية شديدة؛ مثلما جعل الله تعالى أُمَّ الرسول الله وجَدَّه يسمّيانه محمدا ، دلالة على نجاحه في هدفه وسمو سیر ته و إذا فإن هذا الخطأ أو الإشكال راجع إلى جهل هؤلاء بدقائق العربية والعبريــــة.ولذلك ترى أن الذين اعتبروا "إدريس" أعجميًّا قالوا أنه لا معنى لــه مثلما قالوا عن إسماعيل وإضحاق وإسرائيل، مع أن جميع هذه الأسماء لها مفاهيم ومعان.لقد قال ابن السكيت إن إسرائيل من إسرال وهذا غلط لأن إسرائيل في العبرية هـو يسرائيل الذي يعني "بطل الله" لأنه مركب من "يسر" أي المحارب الشجاع البطــــل "إيل" أي الإله.أما حنوك الذي يسمى بالإنجليزية Enokh فمعنـــاه الــــدارس الجيد أو المدرّس كما بينت من قبل؛ فثبت أن إدريس ترجمة عربية الحنوك.ولكن بما أن العرب قد أخبروا عن معنى حنوك على شكل لفظ إدريس ظنوا أن "إدريس" علم، وبما أنهم سمعوا هذا المعنى التفسيري لحنوك من اليهود اعتبروه أعجميا أيضا، فصار إدريس عندهم عَلمًا أعجميا ممنوعا من الصرف.ومن

Page 375

الجزء الخامس ٣٦٨ سورة مريم لقد ذُكر اسم حنوك أي إدريس في التوراة في أماكن عديدة حيث جاء في سفر التكوين أن قايين - وهو الذي يسمى في العربية قابيل، وقام بقتل أخيه هابيل – كان له ابن اسمه حنوك.ووُلد لحنوك عيراد، وعيرادُ ولَد مَحُويائيل، ومحويائيلُ ولَد متوشائيل، ومتوشائيلُ ولَد لامَكَ، وولد لامك يابالَ ويُوبالَ من زوجة، وتوبال قايين من زوجة أخرى (انظر سفر التكوين ٤: ١٧-٢١).ثم جاء ذكر حنوك في موضع آخر حيث ورد أن الله تعالى رزق آدم مكان هابيل ابنا آخر اسمه شيث فولد شيت أنوش، وولد أنوش قينان، وولد قينان مَهْلَلْئِيلَ، وولد مَهْلَلْيلُ يارَدَ ، وولد يارَدُ أخنوخ وولد حنوك متوشالح، وولد متو شالَحُ لامك، وولد لامك نوحا (التكوين ٥: ٣ - ٢٩).لقد تبين من هذه الفقرات أن اسم حنوك (أو أخنوخ كان قد لقي القبـول والرواج منذ بداية الإنسانية، حيث وجد شخصان بهذا الاسم في بضعة أجيال من ذرية آدم الله؛ أحدهما حنوك بن قابيل، والثاني حفيد شيث في جيله الخامس، والذي يسمى إدريس أيضًا، وكان هذا جدا لنوح اللي.وبحسب الروايات الإسلامية عن نسب آدم كان النبي الأول هو آدم الأب، والنبي الثاني هو شيث بن آدم، والنبي الثالث هو حنوك الذي كان حفيــــدا لآدم في جيله الخامس، والنبي الرابع هو نوح حفيد حنوك.أحوال حنوك لقد ورد في التوراة أن أخنوخ عاش ثلاثمائة وخمسا وستين سنة.وبعد ولادة ابنه الأول متوشالح أي في سن الخامس والستين صار أخنوخ مقربـــا لدى الله تعالى، وظل في هذا المقام ثلاث مئة عام ونص العبارة هـ : "وسارَ أخنوخ مع بعد ما ولد متوشالح ثلاث مئة سنة...وسار أخنوخ مع الله و لم يوجد لأن الله أخذه" (التكوين ٥: ٢٢-٢٤).والمفهوم الجلي لهذه العبارة أن حنوك، أو إدريس، عاش في معية الله، وظل متمتعا بمعية الله وقربه حتى الموت.ولكن الويل للذين يشددون على التمسك بحرفية الكلام، حيث يرى بعض المعجبين بالخرافات يهودًا ومسلمين، أن جملة "ولم يوجد الله

Page 376

الجزء الخامس ٣٦٩ سورة مريم لأن الله أخذه" تعني هؤلاء المسلمين ضمن قائمة المرفوعين إلى السماء التي تضم المسيح الناصري أيضًا.أنه تعالى قد رفعه إلى السماء.وهكذا صار إدريس، بحسب ولكن العهد القديم نفسه يذكر أمرًا آخر وهو وسار أخنوخ مع الله"، فإذا كان حنوك ك لما " يسير مع هؤلاء يصرون على التمسك بالمعنى الحرفي الجملة و لم يوجد لأن الله أخذه" فلا بد لهم من أن يفسروا جملة وسار أخنوخ مع الله" أيضًا تفسيرًا حرفيا؛ فيقولوا أن بلغ خمسا وستين سنة صعد إلى السماء، وصعدت معه امرأته، وولد لــــه هناك كثير من البنين والبنات التكوين ٥: ٢٣)؛ ذلك لأن سيره مع الله تعالى وولادة البنين والبنات عنده قد حصل في ذلك العمر نفسه، ثم ظل هناك الله تعالى طوال حياته أو عليهم أن يقولوا أن حنوك لم يصعد إلى السماء قط، بل خمسا وستين سنة هبط الله نفسه إلى الأرض ليسير معه حنوك باقي عمـــــره.ولكن بما أن صعود الله الا الله إلى السماء بعد ذلك الحدث ليس بثابت مــن العهــد القديم، فلا مناص لهم من التسليم أنه تعالى أقام منذ ذلك فصاعدًا على الأرض! إذا فقضية صعوده إلى السماء في سن الثلاث مائة وخمس وستين عاما لا تثبــت من هذه العبارة بشكل من الأشكال.لما بلغ = خلاصة القول إنهم قد فسروا فقرات الكتاب المقدس تفسيرًا غير طبيعي ومنافيا للسنة الإلهية، فعزوا إلى الله تعالى وإلى الكتاب المقدس المهازل التي لا يقبلها العقل مع أن المعنى كان بسيطا واضحًا بأن حنوك ظل مقربًا لدى الله تعالى في حياته وسيكون بعد مماته أيضًا من المقربين.بتاتًا.لقد ورد تعبير السير مع الله تعالى في حق أشخاص آخرين أيضا في الكتاب المقدس، ولكن لا أحد من هؤلاء يفسره هناك بمعنى الصعود في السماء.فقد ورد "I عن نوح ال مثلاً : وسار" نوحٌ مع الله" (التكوين ٦: (٩).وورد عن إبراهيم ال أن الله تعالى قال لـــه : "سر" أمامي، وكُن كاملاً" (التكوين ١٧: ١).

Page 377

الجزء الخامس ۳۷۰ سورة مريم ثم يخاطب الله تعالى بني إسرائيل كلهم ويقول: أيها الإنسان، ماذا يطلب منك الرب؟ إنما يطلب منك أن تسلك" متواضعًا مع إلهك" (ميخا ٦: ٨).فهل يعني يسير بنو إسرائيل كلهم مع الله تعالى منكسري الرأس سيرًا حرفيًّا.ذلك أن المعنى يعني أنه نقله من فثبت أن السير مع الله تعالى لا يعني أبدًا أن الله تعالى مقيم في مكان معين حيث يسير الإنسان معه، كما أن أخذ الله لأحد لا مكان إلى آخر، وإنما أنه مات ميتة حسنة، وأنه سيكون بعد موته أيضا من المقربين لدى الله تعالى.لقد ذكر حنوك أو إدريس في العهد الجديد أيضا، ولكن المسيحيين قد كتبوه فيه حنوق بدل حنوك تظاهرًا بعلمهم.ولكنه غلط، حيث بينت من قبل أن أصله، وهو "حنك"، موجود في العربية.ورد في العهد الجديد: "بالإيمان نُقل أخنوخ لكـ لا يرى الموت.ولم يوجد لأن الله "نقله (رسالة بولس إلى العبرانيين ١١: ٥).هذه العبارة توضح جليا أن بولس كان متأثراً بالعقيدة العامة لليهود أن حنـــوك نجا من الموت لصلاحه، فرفع إلى السماء.ذلك بالرغم أن هذه العقيدة تتعارض مع المسيحية؛ حيث إن المسيحية إنما ترى أن الموت مآل الإثم، وأن الإثم شيء موروث، وأن جميع بني آدم آثمون، وأن المسيح قد خلصهم من الإثم الموروث بتقديم الفداء.ولكن بولس لم يفكر هنا أن حنوك نال النجاة بدون المسيح وصار صالحًا، في حين أن المسيحيين، بل الحواريين أيضًا لم يقدروا على النجاة من الموت رغم إيمانهم بالفداء والكفارة، وبتعبير آخر لم يستطيعوا أن يكونوا صالحين.فما دام المسيحيون لم يستطيعوا أن ينجوا من الموت رغم إيمانهم بالكفارة أي لم يتطهروا من الإثم، بينما نجا حنوك من الموت بدون الإيمان بالمسيح وصار صالحا؛ فقد ثبت بذلك بكل جلاء أن نظرية الكفارة باطلة تماما.ويرى بعض علماء الكتاب المقدس أن دانيآل المذكور في حزقيال ١٤: ١٤ إنما هو في الحقيقة حنوك أي إدريس.لقد ورد هنالك وكان فيها هؤلاء الرجال الثلاثة نوح ودانيآلُ وأيوب، فإنهم إنما يخلصون أنفسهم ببرهم، يقول السيد الربُّ" حزقيال ١٤:١٤).

Page 378

الجزء الخامس ۳۷۱ سورة مريم يقول حزقيال هنا إن الله تعالى يقول لي إن اليهود قد فسدوا الآن لدرجة أنه لو كان بينهم نوح ودانيآلُ وأيوب أيضًا لم ينج الله اليهود من عذابه بسبب هؤلاء.وإنما نجا هؤلاء الأنبياء بأنفسهم فقط.ومن وقد علّق أحد علماء الكتاب المقدس واسمه Helevy، بعده عالم آخر اسمه Cheyne على هذه الكلمات وأثبتا أن ورود اسم دانيآل هنا تصحيف، إذ الصحيح هو حنوك أي إدريس (الموسوعة التوراتية: Enoch).ذلك لأن حزقيال كان قبل المسيح قرابة ستة قرون أو ستة قرون إلا ربع، وهذا هو زمن دانيال أيضًا.ولكن السياق يوضح أن الحديث هنا إنما هو عن الأنبياء القدامى، لذا يبدو أن دانیال ذكـــــر هنا خطأ، إذ المراد إنما هو حنوك في الحقيقة.اسم لا حاجة بنا للخوض فيما إذا كان رأي هؤلاء العلماء صائبا أم لا، إلا أن ذلك يدل على أن علماء اليهود والنصارى أنفسهم يعترفون بتسرب الأخطاء في العهــد القديم عند كتابته.وهذا مثال واحد من الأمثلة الكثيرة.كما ورد في موضع آخر في التوراة: "ها أنت أحكم من دانيآل" (حزقيال ۲۸: ۳).وهنا أيضا يرى هؤلاء العلماء أن هذا الأمر خطأ، إذ الصحيح حنوك بدلاً مـــــن دانيال.فإذا كان هؤلاء العلماء مصيبين في استدلالهم، ويبدو أنهم كذلك، توصلنا إلى نتيجتين: أولاهما أن حنوك كان مضرب الأمثال في الحكمة والورع عنــد أنبيـاء العهد القديم.وثانيتهما هي ما قد ذكرناه آنفًا أعني تسرب الأخطاء إلى التوراة عمدًا أو سهوا بيد الكتاب.ذكر حنوك في الروايات اليهودية والمسيحية لقد ورد في كتاب يهودي شهير Targum - وهو مجموعة أحاديث اليهود، كما عندنا "مشكاة المصابيح" – أن حنوك كان عبدًا بارا لله تعالى، وأنه تعالى رفعه إلى السماء بعد أن منحه لقب "متاترن" (Metatron) أي العالم الكبير، و"سفرا ربه" Safra Rabba)..أي عالم المعارف الدينية (الموسوعة اليهودية مجلد ه: Enoch).فالســـفر

Page 379

الجزء الخامس في العربية يعني ۳۷۲ سورة مريم الكتاب وجمعه الأسفار ، فـ "سفرا ربه" هو عالم المعارف الإلهية.أما "متاترن" فلم أتمكن من البحث بصدده غير أنه يعني عالم الدين على ما يبدو.ولكن بعض المصادر اليهودية تقول أن حنوك انحرف عن طريق الصلاح في آخر عمره، فرفعه الله إلى السماء لكيلا يصير فاسقًا فتكون عاقبته وخيمة.كمـا قيـــل أيضًا أنه لم يُصعد إلى السماء، بل مات بالطاعون (المرجع السابق).وقد ورد في كتب اليهود أيضًا أن حنوك اخترع علم الكتابة والفلك والحساب (الموسوعة اليهودية مجلد ٥ نقلا عن سفر يوهاسين Sefer Yuhasin لقد.( وردت في كتب المسلمين أيضًا روايات بأن حنوك اخترع علــم الكتابـــة والفلك (قصص الأنبياء للنجار ص (۲۸) ويبدو أنهم قد نقلوها عن اليهود.كان اسم حنوك قد اندثر تقريبا في التاريخ اليهودي البدائي، ولكنه صار يُذكر في كتبهم ثانية بعد بضعة قرون حيث أخذوا فيما بعد ينشرون كتابا باسم ســـفر حنوك.وقد ورد في هذا السفر أن الله تعالى ترك الأرض بسبب ذنوب العباد، ورفع حنوك إلى السماء، وجعله حافظًا على كنوز السماء، وسيدا على الملائكة، ورئيسا على حاشيته المقربين من حول العرش.فهو مطلع على الأسرار كلها، وأن الملائكة تسانده وتؤيده وأنه وجه الله تعالى، وأنه يقوم بتنفيذ أوامر الله تعالى في الكون ويعلم المعارف الروحانية، ويأخذ الأرواح إلى مكان الراحة والسكينة، وأنـــه قــــد سُمِّي أمير فم أمير فم الله تعالى، وأمير التوراة، وأمير الحكمة، وأمير العقل، وأمير العظمــة والجبروت.هو الذي نزل بالرسالة على موسى؛ وهذا يعني أنه منح المنصب الذي يتولاه جبرائيل.وورد في سفر حكالوت (Sefer hekalot أي تذكرة الأنبياء والأولياء، أن الربي إسماعيل لما صعد إلى السماء لقي في السماء السابعة حنوك (إدريس) الذي قد منح منصب متاترن.فحكى له حنوك قصة صعوده إلى السماء كالآتي: بسبب الشر في الأرض الذي خلقه شمهازائی Shamazai) وعزائيل (Azael) رفع الله تعالى حنوك إلى السماء، لكي يعلم أنه تعالى ليس بظالم.

Page 380

الجزء الخامس ۳۷۳ سورة مريم علما أن عزائيل هذا يسمى في العربية عزازيل.والمراد مــن هــذه الفقرة أن الشيطان لما نشر الشر والفساد في الأرض، وعصى الناس أوامر الله تعالى، رأى الله استياء حنوك من هذا الشر، فرفعه إلى السماء، ومنحه هناك منصب متاترن، وفتح عليه أبواب الحكمة كلها وجعله رئيس الملائكة، وحوّل جسده المادي إلى جسم روحاني.وهناك كتاب آخر زمن تأليفه متأخر عن المصدر المذكور أعلاه، ويسمى حـــي حنوك (Hayye Hanok)، ويمكن أن نسميه بالعربية "حياةُ حُنك"، أي حياة شخص لبيب خبير حنكته التجارب.وقد ورد فيه أن حنوك كان راهبًا صالحا.بعثه نداء السماء إلى أهل الأرض، فأتى وعلمهم التوبة.فاجتمع حوله تلاميذ كثيرون.وظل يزداد حكمةً ومعرفة حتى اختير ملكًا.لقد وطّد الأمن والسلام في الدنيا طيلة ٢٤٣ عاما.ولكنه في آخر المطاف رغب في حياة الخلوة ،والخمول، فتخلى عن عرشه.ولكنه كان يظهر لتعليم الناس من حين لآخر.وبعد برهة من الزمن أمره الله تعالى بمغادرة الأرض والعودة إلى السماء، وسُلّم إليه الحكم على أبناء الله تعالى – وأبناء الملائكة عند اليهود - فصعد في السماء على صهوة حصان كما صعد إيليا النبي في السماء.واجتمع أناس كثيرون لكي يشاهدوا صعوده في السماء، متوسلين إليه أن يبقى بين ظهرانيهم ولا يذهب إلى السماء، ولكنه لم يستمع لـهـم وصعد في السماء.الله تعالى هم وقد ورد في كتب بعض اليهود الآخرين أنه عندما نزل شرع موسى صار حنوك تابعًا له، وإن كان من قبل ملتزمًا فقط بالشرع الذي أتى به نوح والذي كان يشتمل على سبع وصايا فقط.(الموسوعة اليهودية مجلد ه: Enoch).إن هذه الرواية الأخيرة تشبه الطريفة التي ضمنها الشاعر الفارسي في بيته التالي: چه خوش گفت أست سعدي در زلیخا ألا يا أيها الساقي أدمر كأسا وناولها

Page 381

الجزء الخامس ٣٧٤ سورة مريم أي ما أروع ما قال الشاعر سعدي في بيت شعر لـه في كتاب لــــــه اسم "زليخا": "ألا يا أيها الساقي أدر كأسًا و ناولها".مع أن الكتاب "زليخا" ليس من تأليف الشاعر الفارسي سعدي، إنما هو من مصنفات الملا جامي.كما أن الأمر المذكور هنا لا هو من قول سعدي ولا الملا جامي، بل هو قول حافظ شيرازي (انظر ديوان حافظ المترجم ص (۲) وهذا ما حصل في هذه الرواية اليهودية أيضا حيث قيل هنا أن حنوك كان تابعا لشرع نوح، في حين كان نوح حفيدا لحنوك.أما ما ورد عن حنوك في المصادر المسيحية فقد سبق أن سجلت فقرة من رسالة العبرانيين.وقد ذكر حنوك في مصدرين آخرين مسيحيين أيضا يُعَدّان السماوية عند المسيحيين.يقال أنهما قد ألفا قبل المسيح ال، ولكن لا أثر لهما إلا من الصحف عند المسيحيين.وأحد هذين المصدرين هو "صحيفة حنوك" عند الكنيسة الحبشية، أما المصدر الثاني فهو الآخر يُعد "صحيفة حنوك" عند كنيسة Slavonic الروسية.والصحيفة الحبشية ليست سوى مجموعة روايات ناقصة، أما الصحيفة الروسية فهي كتاب مفصل.ويتضح من هاتين الصحيفتين أن حنوك كان يسير في الأرض وفي ملائكة الله.ثم عاد إلى أقاربه وأخبرهم بما رآه في السماء، ثم رفع إلى السماء مع.السماء وهو حي ليستقر هناك.لقد قام حنوك في رحلته إلى السماء بما يلي: ١- اطلع على أسرار السماوات والأرض.۲- وكشف عليه النواميس الطبيعية كلها.رأى أبناء الله - أي ملائكة الله - الذين كانوا قد عوقبوا على ارتكابهم الفاحشة مع بنات البشر.٤- وشفع لهؤلاء الملائكة الذين كانوا يعاقبون (الموسوعة اليهودية مجلد ه: Enoch).إن المصادر اليهودية والمسيحية كلتيهما تتحدثان عن كتاب حنوك على العموم، ولكن بدون تحديد كتاب معين.وقد بدأ العلماء المسيحيون في القرن الثالث الميلادي يفتون أن هذا الكتاب مختلق مزور، ثم بعد القرن التاسع من الميلاد لم يعد له من أثر في التراث المسيحي.غير أن أحد السيّاح باسم بروس (Bruce) عثر على نسختين من هذا الكتاب في أرض الحبشة في ۱۷۷۳ م ، وقد نُشرت له في القرن التاسع عشر طبعات عديدة.ويبدو من تاريخ هاتين النسختين أن الكتاب كان

Page 382

الجزء الخامس ۳۷۵ سورة مريم باللغة العبرية أصلاً ، فترجم إلى اليونانية، ثم إلى الحبشية ثم إلى اللاتينية.ثم في عام ١٨٨٦-١٨٨٧ عثروا على أجزاء من النسخة اليونانية، وتم طبعها.ويُعدّ هذا الكتاب مصدرًا هاما جدًّا في المصادر المسيحية، فهو يلقى الضوء على تاريخ الديانة اليهودية والأفكار اليهودية الدينية ما قبل المسيح ال.(الموسوعة اليهودية مجلد ٥: Enoch ص ۱۷۸-۱۷۹) ويوجد ثمة كتاب باللغة السلافية أي الروسية باسم "أسرار حنوك".وهـو لا يوجد إلا بهذه اللغة، وقد تمت الآن ترجمته إلى الألمانية والإنجليزية.ذُكرت فيه وقائع حياة حنوك بالتفصيل نسبيًّا، وبصورة مرتبة منسقة.وقد تم تأليفه أصلاً باللغـــة اليونانية، ثم نُقل إلى اللغة السلافية.ويبدو أن بعض أجزائها مترجمة من العبريـــة.ويرى العالم الشهير تشارلس Charless أن معظم هذا الكتاب يبدو مـــن تـــأليف شخص واحد كان مصريًّا على الأغلب حيث تجد في الكتاب انعكاساً للأفكار المصرية.ويرى العلماء أن هذا الكتاب قد صُنّف ما بين الخمسين والسبعين سنة قبل الميلاد.وقد وردت في هذا الكتاب فكرة جديدة بأن أيضا توجد في السماء، وأنها في السماء الثالثة، وأن الملائكة الآثمين يُسكنون في السماء الثانية (The (Lost Books Of The Bible p.83-84 جهنم إن الوقائع المذكورة أعلاه عن حنوك تشبه وقائع عديد من الأنبياء، بل تشبه أحداث شتى الصالحين في مختلف الأمم مثل إلياس وحرقيــــول (Hercules) وجينيميد (Genymede) وسمير أميس (Semiramis) وزيسوثروس (Xisuthrus) والملك أناكوس (Annacus) (الموسوعة اليهودية مجلد ٥: Enoch).كما أنها تشبه أحـــــوال الملك البابلي أيميدورانكي (Emmeduranki)، وهو السابع من الملوك البابليين الأوائل.ويرى البعض أن حنوك هو في الواقع اسم إله الشمس، ثم بعد مرور الوقـــــت اعتبر اسم شخص لأن عمره كما يقال كان ٣٦٥ عاما مثل السنة الشمسية التي تتكون من ٣٦٥ يومًا.(المرجع السابق).

Page 383

الجزء الخامس ٣٧٦ سورة مريم إنه من المستغرب أن هؤلاء الكتاب المسيحيين اعتبروا حنوك إله الشمس بسبب عمره الذي كان ٣٦٥ عاما، ولكنهم لم يفكروا أن الكتاب المقدس نفسه يعلن أن أبناء حنوك وبناته وأحفاده وحفيداته قد بلغوا من العمر ثمانية أو تسعة وحتى عشرة قرون.فبدلا فبدلاً من أن يعتبروا هذا الشخص الحقيقي وجودًا خياليا بسبب عمره البالغ ٣٦٥ سنة، لم لا يقولون إن هؤلاء أشخاص حقيقيون ولكن أعمــارهم خياليــة خرافية؟ أما المصادر الإسلامية فقد ذُكر فيها حنوك باسم إدريس، كما بينا من قبل.والحق أن معنى إدريس وحنوك واحد، ولذلك فإن قول المفسرين أنهمــا شـخص واحد قول صائب تمامًا على ما يبدو.كما أن الإشارة التي قام بها القرآن الكريم إلى أحوال إدريس العليا أيضا تشبه هذا القول.ورد في الحديث أن النبي ﷺ وجد في معراجه إدريس العليا في السماء الرابعــــة (ابن كثير).كما تذكر التفاسير، نقلاً عما ورد في الإسرائيليات، أن إدريس العلا صعد إلى السماء الرابعة بواسطة ملاك كان صديقًا له، وأن عزرائيل توفاه هنالك في السماء.ولكن بعض المفسرين الآخرين يرون أنه لم يتوف.فقال مجاهد إن إدريس لم يمت، بل رفع إلى السماء كما رفع عيسى.وفي رواية عن ابن عباس له أن إدريس رفع إلى السماء السادسة.وعن الحسن أنه أخذ إلى الجنة.(المرجــــع السابق، وروح المعاني إن هذه الروايات كلها إسرائيليات، أعني ليس منها ما رُوي عن الرسول ، اللهم إلا الحديث الذي يذكر أنه الله لقد رأى في معراجه إدريس في السماء الرابعة.ففيما يتعلق بكتب الروايات الإسلامية فقد ذكر فيها المسلمون كثيرا من الترهات الموجودة في الإسرائيليات، ولكن فيما يتعلق بالتراث الديني الإسلامي فإن ما ورد في الحديث إنما هو أن إدريس كان في السماء الرابعة بينما اكتفى القرآن الكريم بقوله إن إدريس كان كثير الصدق ونبيًّا، وأن الله تعالى رفعه إلى مكان على.والحق أن هذا هو كل ما يمكن أن يُعتبر حقا من أحوال حنوك، وهذا هو ما ينص عليـــه لله سفر التكوين أيضًا حيث ورد فيه أن إدريس كان يسير مع الله تعالى أي أنه كان

Page 384

الجزء الخامس ۳۷۷ سورة مريم صالحا، وأن الله تعالى أخذه إلى مقام عال، أي أنه مات ميتة حسنة، وأن الله تعالى قد بوأه بعد الموت درجة رفيعة.وأما ما يروى عن إدريس العلم أنه قد جيء ء له بحصان من السماء، فركبــــه وصعد إلى السماء، فيُذكر مثله تماما في الروايات الشائعة بين المسلمين حــــول المعراج.إذ قد شاع بين المسلمين أن النبي الله لقد جيء له بدابة من السماء اسمهـــا البراق، فركبها وصعد في السماء (البخاري: بدء الخلق، باب ذكر الملائكة).والحق أن صعود النبي الله هذا كان من قبيل الكشوف اللطيفة العالية.فالإنسان يمكن أن يصعد إلى السماوات بجسم نوراني ويرى الله تعالى أيضًا.ولكن هذا الجسد المادي يصلح لهذه الأمور، فلا يذهب إلى السماوات العلا، ولا يتمكن من رؤية البارئ تعالى أيضًا.إن محبّي الخرافات يفسرون هذه الأمور الروحانيــة تفسيراً ماديــــا، ويقولون أقوالاً سخيفة غير معقولة؛ مما يُضعف إيمان الناس، فيقعون في متاهات الاختلاف بين الدين والعلم.ليت هؤلاء أبقوا الحقيقة على حالها، ولم يجعلوا الدين لعبة ومهزلة! سير حنوك مع الله تعالى أما ما ورد عن حنوك أنه كان يسير مع الله تعالى فقد وردت كلمات مماثلة في حق إسماعيل الله أيضًا حيث قيل: "وكان الله مع الغلام" التكوين ٢١ : ٢٠).والحق أن هذه الكلمات أقوى معنى من السير مع الله تعالى.ذلك أنها تعني أن الله تعالى كان مع إسماعيل كل حين سواء كان سائرًا أو قائمًا أو قاعدًا أو نائما.وهذا هو التشابه الذي بسببه قد ذكر القرآن الكريم إسماعيل وإدريس معًا.لقد ذكر إدريس في القرآن مرتين مرة في سورة الأنبياء حيث قال الله تعالى وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصابرين (الآية: (٨٦)، ومرة أخرى هنا في سورة مريم، حيث قال الله تعالى واذْكُرْ في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكـــان رسولاً نبيًّا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيًّا * واذْكُرْ في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًّا * ورفَعناه مكانا عليا (الآيات: ٥٥-٥٨).

Page 385

الجزء الخامس ۳۷۸ سورة مريم فبما أنه قد وردت في صحف الله كلمات السير مع الله تعالى في حــق هــذين النبيين فإن القرآن الكريم أيضًا قد ذكرهما معًا في كل مرة.وهنا يطرح سؤال نفسه وهو: إذا كان إسماعيل وإدريس يُذكران معًا لوجود هذا التشابه بينهما، فما الحكمة في لفت الأنظار إلى إدريس هنا في سياق الموضوع الذي هو قيد البحث.فإن الله تعالى يبين هنا أن زكريا دعا الله تعالى أن يرزقــــه بولد، فاستجاب له ربه ورزقه يحيى، الذي كان لا بد من بعثته قبـــل محــيء المسيح كإرهاص له.ثم ذكر الله تعالى المسيح الذي هو المقصود الحقيقي هنــا، حيث بين الله تعالى أن عقائد العالم المسيحي حول المسيح خاطئة وباطلة تماما، فلم يكن المسيح إلها ولا ابن الإله، بل كان حلقة من السلسلة الموسوية.ثم نبه الله تعالى إلى أن السلسلة الموس رية بدأت نتيجة دعاء إبراهيم؛ فكان الله تعالى قـــد قـطـع = سو لإبراهيم وعدين وعدًا يخص إسماعيل ونسله، وآخر يخص إسحاق ونسله.ومـــن أجل ذلك قد تحدث الله تعالى بعد ذكر المسيح عن إبراهيم أولاً فإسحاق ويعقوب فموسى وهارون؛ ليبين ل أنه قد أنجز وعده مع إبراهيم الخاص برقي بني إسحاق، وقد انتهى تحقيقه عند المسيح.ثم بعد ذلك ذكر الله إسماعيل تنبيها لأتباع المسيح إلى وعد الله الخاص بإسماعيل أيضًا، إذ كيف يمكن الله الذي قد أنجز وعده مع بـــني إسحاق لهذه الفترة الطويلة أن لا يحقق الوعود الخاصة بإسماعيل، الذي كان عظيم الصلاح وصادق الوعد ومرضي الأعمال عند ربه..فكأن الله تعالى يقول كيف لا نفي بوعدنا لمن كان وفيًّا معنا لهذه الدرجة، وكيف يمكن أن تبطل وعودنا في حقه؟ فذكرهم الله بوعده الخاص بإسماعيل حيث قال واذكر في الكتاب إسماعيل.ومن الملاحظ هنا أن الله تعالى لم يذكر هنا رسولنا الكريم ، ذلك لأنه مشمول في هذا الوعد الخاص بإسماعيل العل.ولكن السؤال الذي نناقشه الآن هو لماذا ذكر الله تعالى إدريس بعـــد ذكــ إسماعيل في هذا السياق؟ فما الحكمة في ذلك؟

Page 386

الجزء الخامس ۳۷۹ سورة مريم ليكن معلومًا أن الفكرة التي تؤسس عليها ألوهية المسيح الا إنما هي صعوده في السماء، وصعوده في السماء أمر يتفق فيه معظم المسلمين للأسف مع النصارى الشديد، فهم الآخرون يقولون أن المسيح حي، وجالس في السماء.إن النصارى لا يستدلون على ألوهية المسيح بولادته من غير أب، بل بصعوده في السماء.فيوجـــــد بينهم من يقولون دون أن يروا في ذلك حرجًا، أن المسيح كان ابنا ليوسف النجار، وحجتهم أن كون المسيح ابنا لمريم إذا كان لا يتنافى مع ألوهيته، فكونه ابنا ليوسف النجار لا يقدح في ألوهيته شيئًا أيضًا.فثبت أن النصارى لا يؤسسون ألوهية المسيح على ولادته الغريبة وإنما على صعوده في السماء حيًّا.وهي فكرة لم تكن قد أبطلت ودحضت بعد، في حين أن الله تعالى قد رد هنا على جميع مطاعن المسيحيين الأخرى.ومن أجل ذلك قد ذكر الله تعالى هنا إدريس، لينبه أن الإنجيل كما ذكر صعود المسيح إلى السماء فقد ذكر صعود إدريس أو حنوك أيضا إليهـا، بل بكلمات أروع وأقوى.فالكلمات التي وردت في حق المسيح اللي إنما هـي: "وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء" (لوقا ٢٤: ٥١).أما إدريس العلية لا الع فقد ورد عنه أنه سار مع الله تعالى، ولم يوجد لأن الله أخذه" (التكوين ٥: ٢٤).فإذا أمكن اعتبار المسيح إلها أو ابن الإله بسبب صعوده في السماء فعلـــــى العــــالم المسيحي أن يعترف بألوهية إدريس أيضًا، فهو الآخر قد أصعد إلى السماء بحسب الكتاب المقدس.إذا فإن إدريس هو الشخص الوحيد الذي عن طريقه يتم الرد على الفكرة التي يبني عليها المسيحيون ألوهية المسيح ال ألا وهي صعوده في السماء حيا.وهـذا أمر لا يسلم به الناس في حق أي من أنبياء الله السابقين، لا في حق زكريا ولا يحيى ولا إبراهيم ولا إسحاق ولا يعقوب ولا ،موسى ولا هارون، ولا إسماعيل عليهم السلام، إنما يسلمون به في حق إدريس فقط.ورواياتهم تؤكد صعوده في السماء بشكل أروع وأقوى مما صعد به المسيح في السماء.فلذلك قال الله تعالى هنـــا واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًّا * ورفعناه مكانـــا عليـــا..أي تزعمون أن المسيح صعد إلى السماء، وها نحن نقدم إزاء المسيح مثال إدريس الذي

Page 387

الجزء الخامس ۳۸۰ سورة مريم كان أفضل منه بهذا الشأن، فإذا كان هذا الأمر يجعل المسيح شريكا مع الله تعالى في ألوهيته في زعمكم، فإن إدريس أحق وأولى بأن يصير شر شريكا مع الله تعالى.وفي القرآن الكريم أيضًا لم يقل الله تعالى في المسيح ال إلا بل رفعه إليه (النساء: ١٥٩)، بينما قال عن إدريس ال ورفعناه مكانا عليا.ثم إن حديث المعراج أيضا يذكر أن النبي ﷺ قد رأى المسيح الا في السماء الثانية، بينما رأى إدريس العلة في السماء الرابعة دلائل النبوة للبيهقي مجلد ٢ باب الدليل على أن النبي ﷺ عرج به إلى السماء)..وهذا يعني أن إدريس رُفع إلى مقام أعلى من المسيح أيضًا.فكأن الله تعالى يقول: إذا كنتم تؤلهون المسيح بناء على هذه الكلمـــات فـلــم لا تؤلهون إدريس إذن؟ أُوْلَتِبِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا ۚ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايَتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (3) من التفسير : هنا يذكر الله تعالى نتيجة البحث الذي سبق بيانه ويقول أولئك الذين أنعم الله عليهم النبيين ذرية آدم..أي بالرغم من كل النعم والصلات التي نزلت على زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس عليهم السلام، فإن هؤلاء كلهم لم يكونوا أكثر من بشر.لا شك أنهم كانوا أنبياء الله تعالى ولكن لم يكن أحد منهم إلها أو ابن الإله أبدا.فلو تدبرتم في أحداث حياة المسيح أو موسى أو إبراهيم أو غيرهـ لوجدتم أنهم كانوا من ذرية آدم أو من أولاد الذين حملناهم مع نوح في السفينة أو من أولاد إبراهيم أو إسحاق.وهؤلاء الذين هديناهم واصطفيناهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن كانوا يخرّون ساجدين باكين، لأنهم كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هـو وحده ربهم.هم

Page 388

۳۸۱ الجزء الخامس سورة مريم وقال المفسرون هنا إن قوله تعالى من ذرية آدم إشارة إلى إدريس، وأن قوله تعالى وممن حملنا مع نوح إشارة إلى إبراهيم وحده، وقوله تعالى ومن ذرية إبراهيم إشارة إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب كما أنهم يرون أنه هناك محذوفا قبل قوله تعالى وإسرائيل، والتقدير "ومن ذرية إسرائيل" وفيه إشارة إلى موسى وهارون وزكريا ويحى وعيسى (القرطبي، وصفوة التفاسير.وكأن هذه الكلمات تضمنت قائمة الأنبياء المذكورين من قبل، حيث قيل إن هؤلاء كلهم كانوا عبــــادًا لنا وممن هدينا واجتبينا.هنا ينشأ سؤال وهو: ما هو معطوف عليه لقوله تعالى وممن هدينا واجتبينا ؟ أرى أنه عطف على قوله تعالى من النبيين..أي أن أولئك النبيين كانوا ممــــن هدينا واجتبينا.وقد يقال هنا: ألا يكون الأنبياء من أهل الهدى والاجتباء حتى يؤكد الله تعالى أنه هداهم واجتباهم؟ فما دام تعالى قد سماهم أنبياء فكونهم من المهديين والمجتــبـين أمر مفهوم.فلماذا ذكر الله على حدة أنه هداهم واجتباهم؟ فاعلم أن الإنسان يوصف بصفة معينة دفعًا لإشكال معين عنه.ومن الثابــــت البين أن الأنبياء قد اتهموا في الديانتين اليهودية والمسيحية بالإثم والخطيئة عموما.اقرأ الكتاب المقدس فستجد فيه أن اليهود قد رموا نوحا العلة بتهم بشعة، وعزوا إلى لوط اللي أفعالاً نجسة، واعتبروا داود ال ،آئما وعدوا هارون اللي عاصيا.فما من نبي إلا وقد جعلوه من الخطاة الآثمين التكوين ٩ ٢٤ ، و١٩: ٣١-٣٦).بل لقد ورد في الإنجيل أن المسيح قال: "جميعُ الذين أتوا قبلي هم سُرّاق ولصوص" (يوحنا ۱۰ (۸) فترى أن كلا الفريقين يعتبر أنبياء الله تعالى آثمين.فيعزو إليهم اليهود الإثم تغطية لذنوبهم ،هم، وأما المسيحيون فيعدّون أنبياء الله من العصاة لكي يُثبتوا أن جميع هؤلاء كانوا آثمين فلا يمكن أن يكونوا سببا لنجاة الآخرين، وإنما النجــــاة الإيمان بكفارة المسيح.فلكل واحد من الفريقين هدف محدد لتأثيم أنبياء الله تعالى.وردا على هذه الأفكار من الطرفين قال الله تعالى أن هؤلاء كانوا ممــــن هــدينـا واجتبينا، مؤكدًا أن هؤلاء لم ينالوا من قبلنا هذا اللقب عن فراغ وعبثا، بل كانوا في

Page 389

الجزء الخامس ۳۸۲ سورة مريم بالفعل ممن هداهم الله واصطفاهم.إنكم تتهمونهم بمعصية الله تعالى مع أنهم كلمـــا ثليت عليهم آيات الله خروا له ساجدين باكين.صلے خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَوٰةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٢) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا فَأُوْلَتِبِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (3) جَنَّتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا شرح الكلمات: غَيًّا : الغيُّ: الضلالُ؛ الخيب؛ الانهماك في الجهل؛ الهلاك (الأقرب).وورد في المفردات: "الغي جهل من اعتقاد فاسد." التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن أمم هؤلاء الأنبياء فسدوا رويدا رويدا حتى بلغ بهم الأمر أنهم لم يلتزموا بأداء الصلاة، أو أنهم فقدوا الرغبة في الدعاء، واتبعـــــوا الشهوات.واعلم أن من معاني الشهوة الزنا أيضًا، ولكنها لم ترد هنا بهذا المعنى، بل يعني أنهم اتبعوا الاجتهادات الخاطئة والتأويلات الباطلة التي فسروا بها كلام الله بحسب أهوائهم، فكان عاقبة أمرهم الضلال.الحق أن الإنسان إذا لم يفسر كتاب الله بحسب ما ورد في الكتــاب نفســه، ويفسره وفق اجتهاده، زلت قدمه إلى التأويلات الخاطئة تدريجيا، فيهلك في نهاية المطاف.ذلك أن ذلك الكتاب هو الذي فتح باب الهدى والنجاح والعلم والنجاة، ولكن المرء لو حاول أن يقحم في هذا الكتاب أمورًا جديدة بناء على يمليه عليــــه عقله واجتهاده لاشتبه هدي الله الموجود في الكتاب.وبما أنه يتبع أهواء نفسه فإن الدمار يحيط به ويهلكه.

Page 390

۳۸۳ سورة مريم الجزء الخامس ومن الانهماك في الجهل أن يتبع الإنسان ما لا صلة له بإصلاح الحالة الروحانية أو بقرب الله تعالى، وإنما يشتغل باستخراج الجديد من النكات والطرائف، فينحرف عن الحق والمعرفة أكثر فأكثر.ذات مرة حضر أحد المشايخ إلى الخليفة الأول للمسيح الموعود الل، وقــال له: لقد جئتك لأني أقوم بوعظ الناس، والوعظ يتطلب أمرين: المبكيات والمضحكات..أي ما يجعل الحضور يبكون ويضحكون.وبما أنك قد طالعت كتبا كثيرة وضخمة، فأرجوك أن تدلني على كتاب يحتوي على المبكيـــات والمضحكات حتى أنتفع به في وعظي.والإنسان يتبع مثل هذه الترهات والتوافه عندما يتردى.حينما لا يكون عنــــد الناس عادة التدبر في كتاب الله تعالى يتجهون إلى غرائب القصص والأساطير، ثم يظنون أنها التفسير لكلام الله تعالى.لقد وجدت بعض المفسرين القدامى قد ذكروا في تفاسيرهم من القصص الخرافية التافهة ما يدل بوضوح على أنهم لم يعتادوا التدبر في القرآن.فلم يكن لهم هي الهماك في الحكمة، بل انهماك في الجهل.فمثلاً إذا كتب أحد أن للملاك منهم عشرة أجنحة، فكر غيره في إمكانية أن توجد رواية تقول أن للملاك خمسة عشر جناحًا.فإذا قال له بعض اليهود نعم هناك رواية بهذا المعنى، قال هذا في تفسيره ليس للملاك عشرة أجنحة، وإنما خمسة عشر جناحًا.ثم يطلع يهودي آخر بقوله إن للملاك مئة جناح ، فيقول المفسر أن الملائكة لها مئة أجنحة (ابن كثير).ولكـــن المفسرين لا يكتفون بذلك أيضًا، بل يتنافسون بعد ذلك في البحث عن رواية تذكر أن للملائكة ألف جناح فيلفق أحد اليهود رواية بهذا المعنى، فيفرح المفسر بأنه قد وجد أخيرًا رواية تقول أن للملائكة ألف جناح.ويشيد الناس بعلمه في غبطة و سرور قائلين: سبحان إن شيخنا هذا علامة كبير إذ عثر على رواية تقول أن للملائكة ألف جناح.وهكذا فهم يبحثون عن ما هو لغو وخرافة تاركين الحقيقة، أن اللغو لا علاقة له ،بالدين ولا بالإيمان ولا بالله تعالى، إنما هو جهل مع وغباء.الله،

Page 391

الجزء الخامس ٣٨٤ سورة مريم ولو أن اليهود تدبروا في التوراة ولو أن النصارى تدبروا في الإنجيل، فإنهم، رغم كون كتبهم ،محرفة ما ارتكبوا هذه الحماقة.كذلك لو أن المسلمين تدبروا القرآن لما وقعوا في هذه الجهالة ولكنهم تركوا التدبر في القرآن الكريم، كما ترك اليهود والنصارى التدبر في التوراة والإنجيل فلم يتسبب كتاب الله تعالى في هدايتهم، بل وقعوا في الضلال.لقد ذكر صاحب المفردات للغي تفسيرًا لطيفًا فقال: "الغي جهل من اعتقاد فاسد." أي أن الغي هو تلك الجهالة التي تنشأ حين يعزو الإنسان إلى كتاب الله تعالى ودينه عقائد خاطئة وروايات باطلة.ولو أن الناس أقاموا الصلاة، واهتموا بالدعاء والبكاء والإنابة إلى الله تعالى، ورجعوا لهدايتهم إلى وحي الله وكتابه بدلاً من أن يتبعوا اجتهاداتهم الخاطئة، لما لقوا هذا المصير.ولكنهم تركــــوا الأمـــــرين كليهما فكان من المحتم أن يكون مآلهم الضلال والفشل والجهل والهــلاك، كمـا حصل فعلاً.الحق أن الكسل عن الصلاة يحرم الإنسان وصال الله تعالى ومعرفة صفاته، فيكون مآله الغي والضلال.إن قلة الدعاء تؤدي إلى الفشل.وأما اتباع الشهوات فيقلل رغبة المرء في العلم والبرهان ويزيده جهلاً وغباء، واجتماع هذه الأشياء كلها يؤدي إلى الدمار.ثم يقول الله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون شيئًا.واعلم أن العمل الصالح لا يعني العمل الحسن، إنما يعني العمل الذي يتفق مع مقتضى الحال.فمثلا لو أن المرء بدأ يصلي وقت الجهاد فلا شك أنه يقوم بعمل حسن، ولكنه ليس بعمل صالح ولو أن أحدًا بدأ يلقي الوعظ وقـــــت الصلاة، فإنه عمل ،حسن، ولكنه ليس بعمل صالح ولو أمسك المرء عن الطعام يوم العيد - أنا لا أقول إنه يصوم لأن الشيطان هو الذي يصوم يوم العيد أو لم يهتم بالغسل والنظافة، فيمكننا أن نسميه زاهدًا في الدنيا، إلا أن عمله لن يُعد عملاً ولذلك نجد أن القرآن الكريم لا يحث على العمل الحسن وإنما على العمـــل صالحا.- الصالح.فهو يأمرك بالصدقة وقت الصدقة، والصلاة وقت الصلاة، والجهاد وقـــــت

Page 392

الجزء الخامس وما هي ٣٨٥ ني سورة مريم الجهاد، وذكر الله وقت الذكر، وحفظ السرِّ وقت السِّرّية.والذين يعملون بحسب مقتضى الحال يعدهم الله تعالى ويقول فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون شيئًا ).تلك الجنة؟ قال الله تعالى في وصفها جنات عدن.وبطبيعة الحــــال ليس المراد من عدن هنا أرض عدن الواقعة في جنوب غرب الجزيرة العربية، بل المعنى أن تلك الجنات جنات خلود ودوام.ذلك أن لفظ العــــدن الدوام والخلود، حيث ورد في القاموس عدن بالمكان : أقام به ؛ وأقام البلد: توطنه، وقيل جنات عدن أي جناتُ إقامة لمكان الخلود (الأقرب).والمراد من قول الله تعالى التي وعد الرحمن عباده بالغيب أنه قد وعدهم بهذه الجنات حين لم تكن مرئية لهم، أي حين لم تكن هناك أية آثار لحصولهم على هذه ذلك قد حصلوا عليها.وهذه الجنات قد نالها المسلمون في هذه الدنيا، كما قد وعدهم الله تعالى بها في الآخرة أيضًا.وحيث إنهم قد نالوهـا في الدنيا رغم استحالة حصولهم عليها في الظاهر، فهذا برهان على أن ما يدعي بـه محمد رسول الله ﷺ إنما يدعيه بناء على أمر الله تعالى وأن الوعد الثاني أيضا سيتحقق حتمًا كما تحقق الوعد الأول.منه الجنات، ومع كما يمكن أن يراد بقوله تعالى بالغيب أن الله الرحمن قد وعدهم بهذه الجنات نتيجة إيمانهم بالغيب.بمعنى أنهم لم يروا الله تعالى، ولكنهم لما سمعوا البراهين على وجوده آمنوا به.إنهم لم يشاهدوا الملائكة، ولكنهم لما سمعوا الأدلة على وجودهـا صدقوا بها.إنهم لم يجربوا الحياة بعد الموت، ولكنهم عندما سمعوا الدلائل علــــى وجودها آمنوا بها وأيقنوا أن هناك حياة بعد الموت.إنهم لم يروا الجنات، ولكن لما قال الله لهم آمنوا بالجنة صدّقوا بها.لذلك يقول الله تعالى فبما أنهم قد ضربوا أروع مثال للإيمان بالغيب، فصدقوا بهذه الأشياء الغائبة الخفية عن أنظارهم ابتغاء مرضاتنا وتصديقا لقولنا، فسندخلهم في جنات غيبية أي جنات تفوق تصوراتهم.ثم يقول الله تعالى إنه كان وعده ماتيا..والمأتي ما يؤتاه ويُحضر إليه، المراد أنهم سيؤتى بهم إلى تلك الجنات وكأنهم سيعطونها جبرًا وقسرًا..بمعنى أن هؤلاء لا يتمنون أي جنة وإنما يريدون وصال الله تعالى، ولكن بما أن الله تعالى قد وعـــــدهـم

Page 393

الجزء الخامس ٣٨٦ سورة مريم بالجنات فسيقال لهم لا بد لكم من أن تدخلوها أيضًا فكأن ما وعدوا سيؤتى به، فيدخلون الجنات.إن هذا الكلام يدل على كمال الإحسان، حيث يخبر الله تعالى أنه لن يكون بوسعهم أن يرفضوا عرضنا هذا.لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (3) التفسير : يمكن أن تكون كلمة إلا سلامًا في قوله تعالى لا يسمعون فيهـا لغوا إلا سلامًا استثناء متصلاً، وقد يكون استثناء منقطعًا.فإذا كان استثناء متصلاً فالمعنى أنه إذا كان في الجنة شيء من فضول الكلام مما لا يُعتد بـه فأيضــا يكون سلامًا.ذلك أن اللغو يعني ما لا يُعتد به (المفردات).فمثلاً لو بينت شيئًا في دقيقتين في حين أنك تستطيع بيانه في دقيقة واحدة فالكلام الزائد الذي استغرق دقيقة زائدة يُعَدّ لغوًا.فلقد وجدتُ أن بعض الناس يأتي لمقابلتي، فيبدأ في بيان قصة كلها لغو ولا علاقة لـه مطلقًا بغايته الأساسية.فيقول مثلاً هناك صديق حميم لي في مدينة "دلهى" ، وذهبت لزيارته قبل أيام، وقد دار بيننا كذا وكذا من الأمور.ثم حصل الشجار بيني وبين فلان، فاضطررت للمجيء إلى مدينة لاهـــور، وقابلـــت هناك فلانًا وفلانًا.ثم جئتُ هنا لبعض حاجاتي، ففكرت أن أزور حضرتكم أيضًا.وهكذا يحكي قصة طويلة لا علاقة لها بقصده الحقيقي.فثبت بذلك أن المرء يتكلم بكلام زائد حتى في حديثه عن بعض الأمور الهامة أيضًا.ولذلك يقول الله تعالى هنا لا يسمعون فيها لغوا.وقد يقول هنا قائل: لنفترض أن أحدًا يتحدث في الجنة بكلام لغو، فماذا إذا؟ ورداً على هذا الافتراض قال الله تعالى إلا سلاما ))..أى لو سلمنا جدلاً أن أحدًا سيتفوه في الجنات بلغو من الكلام فلن يكون حتى لغوه شرا بل يكــــون ســـــلاما

Page 394

الجزء الخامس ۳۸۷ سورة مريم وخيرًا.وبتعبير آخر، أنه إذا خرج من فم أحد في الجنة كلام زائد فلن يكون إلا كلمة سلام فقط.أما إذا كان الاستثناء هنا منقطعًا فالمعنى أنه لن يقترب من أهل الجنة اللغو أبدا، بل سيتكلمون في كل مكان بما فيه ،سلام، لأنهم يكونون عند الله الذي هو السلام، وفي دار هي السلام، وبين الملائكة الذين يقولون لهم سلاما سلامًا.وثمة أمر آخر قد نبهت إليه هذه الآية، وهو أن الله تعالى لا يقول هنا أنهم في الجنة لن يأتوا اللغو من الأعمال، إنما يقول إنهم لن يسمعوا اللغو من الكلام.ذلك لأن الإنسان يحسن الظن حين يخص الأمر بنفسه، أما فيما يتعلق بالآخرين فإنـه توّاق إلى سماع عيوبهم وإشاعتها.ولكن الله تعالى يخبر هنا أن أهل الجنة سيتبوءون من الصلاح والتقوى درجة بحيث لن يسيء أحد الظن بغيره.والمكــان الــذي لا يحتمل الواحد من سكانه أن يسمع شيئا من الكلام السيئ عن غيره لا بد أن يكون مقاما عاليًا في الصلاح والخير.أما قول الله تعالى ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا، فقد قال البعض أن معناه أن أهل الجنة لن يُعطوا إلا وجبتين وجبة في الصباح وأخرى في المساء، لأن الله تعالى قد نهى عن الإسراف! ولكن هذا غلط، لأن البكرة والعشي لها مفهوم أوسع من ذلك، إذ لا يعني لفظ البكرة الصباح فحسب بل يعني أول النهار أيضا (لسان العرب).كما أن العشي لا يعني المساء فقط، بل يعني المساء فقط، بل يعني أيضًا ما بين زوال الشمس إلى الصباح (الأقرب).فالمعنى أنهم سيعطون رزقهم كل حين.وقد يقول هنا قائل كيف يمكن أن يأكل المرء في كل وقــــت؟ والجواب أن الرزق يعني الشيء الموهوب، وذلك الشيء الذي يُعطونه في الجنة كل حـــيـن هـو رؤية الله وكلامه وهما ليس مما يصيب المرء بالتخمة.ثم يجب أن يؤخذ في الحسبان أن الله تعالى لم يقل هنا "ولهم الرزق"، بل قال تعالى ولهم رزقهم..أي أنهم يُعطون رزقًا ملائماً لهم.فثبت أن الرزق لا يعني هنا الطعام فقط، بل رزقا يناسب حالهم، ولن يعطوه صباحا ومساء، بل سيمدون به كل حين وآن.

Page 395

الجزء الخامس ۳۸۸ ثم قال تلك الجنة التي نُورتُ من عبادنا من كان تقيا..أي أن تلك التي سنجعل عبادنا المتقين ورثة لها.سورة مريم هي الجنة وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) التفسير : يقول المفسرون في شأن نزول هذه الآية أن النبي ﷺ سُئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فوعد بالإجابة عن قريب، ولكن جبريـــل بالوحي، فوقع في ابتلاء كبير.ولما نزل جبريل بعد فترة، اشتكى إليه النبي ﷺ وقال : يا صاح، لم احتبست عني؟ قال : إنما نأتي حين يأمرنا ربك، ولا نأتيك حين لا يأمرنا (روح المعاني).تأخر عنه بغض النظر عن صحة هذه الرواية أو خطئها، فهناك سؤال يطرح نفسه: ما هي علاقة هذا الحادث بالسياق؟ فالله تعالى يبين هنا أن عيسى كان عبدًا مقربـــا لنـــا، ولكنه لم يكن إلها ولا ابن إله.لقد خلا من قبله كثير من الرسل الذين كانوا مثله.ثم إنه لم يكن إلا حلقة من السلسلة الروحانية التي بدأت في نسل إسحاق.فكيف يمكنكم، أيها المسيحيون، أن تعتبروه آخر مخلّص ظهر في الدنيا؟ إن زعمكم يعني أن جميع الوعود التي قطع الله تعالى في حق إسماعيل كانت باطلة.ثم يوض تعالى أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس كلـ كانوا من عبادنا المصطفين الأخيار، وكانوا بحاجة إلى جناتنا.وكان عيسى أيضا بحاجة إلى جنتنا.الله وفي هذا السياق يزعم المفسرون أن الملائكة قالت للنبي ﷺ إنما نتنزل بأمر الله تعالى، فإذا لم يأمرنا بالنزول فما ذنبنا في ذلك؟ ولكن هذا المعنى لا ينسجم مع السياق مطلقا.والحق أن هؤلاء المفسرين لو تدبروا القرآن الكريم، واستعانوا بالله تعالى بالدعاء، ولم يتأثروا بالقصص التافهة لهداهم الله إلى الحقيقة، وحماهم من

Page 396

الجزء الخامس ۳۸۹ سورة مريم هذه الأخطاء الفادحة.ولكن المشكلة أنهم بدلاً من أن يتدبروا في القرآن اختاروا القصص والأساطير، فضلُّوا عن الحقيقة ضلالاً بعيدًا.إنني لما أردت إلقاء الدرس في تفسير سورة الكهف، تدبرت فيها، ففهمت موضوع السورة كلها إلا آية واحدة منها فأمعنت النظر فيها طويلا، ولكن ظــــل الإشكال كما هو، وفشلت في فهم ارتباطها بالسياق.وأخيرًا بـدأت في إلقـــاء الدرس، وكلما اقتربت من تلك الآية ازددت قلقًا وقلت في نفسي مــــاذا سأقول حولها.حتى إذا بقيت دونها آيتان أو ثلاث بلغ بي الخوف الذروة.ولكني ما إن وصلت إلى الآية التي قبلها حتى بدا لي أن تلك الآية قد صارت لي جلية المعنى، ولم يبق هناك غموض فيها ولا إشكال.فالحق أن المرء لو أخذ في الحسبان ترتيب القرآن وتعوَّدَ على التدبر والإمعان فيه، لانحلت له كثير من الإشكالات تلقائيا.أما الذي يتتبع القصص والأساطير، تاركًا التدبر في القرآن الكريم، فيضل وينحرف، كما يعزو إلى الله تعالى ما يتنـــافي عظمته وعل.مع وأبين لكم الآن كيف أن مفهوم هذه الآية سهل الفهم بسيط، ولكن المفسرين جعلوه لا السياق مطلقًا.لقد قال الله تعالى في الآية السابقة لا ينسجم مع يسمعون فيها لغوا إلا سلاما..أي أن اللغو لن يقترب من أهل الجنة أبدا، وإنمـــا يجدون السلام في كل مكان والجميع يعرف أن المراد من الســـلام هـو السلام عليكم.فالآية تعني أن أهل الجنة سيتلقون السلام بكثرة، ولكن لم يوضح هنا ذا الذي سيبعث لهم هذا السلام.تیک منه.وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجد هذا الأمر مشروحًا في مواضع أخرى قال الله تعالى عن أهل الجنة ويُلقون فيها تحيَّةً وسلاماً (الفرقان: ٧٦).فهذه الآية تذكر الموضوع السابق نفسه ولكن بأسلوب آخر.وقد قال الله تعالى عن أهل الجنة في موضع آخر والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم (الرعد: (٢٤-٢٥.وهنا علمنا أن ملائكة الله الذين سيحضرون أصحاب الجنة ويبلغونهم هذا السلام.هم

Page 397

۳۹۰ الجزء الخامس سورة مريم ولكن الله تعالى يذكر في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها أمراً زائداً حيث يقول الله تلك الجنة التي نُورث من عبادنا من كان تقيا.ومن الواضح أن الذي يرث هو الابن لا غير.فالحق أن الله تعالى قد اعتبر هنا كل عبد تقي ابن تقى ابنا لـ تعالى.إن الجنة بيت الله تعالى، وسيُنزل فيه عباده المؤمنين المتقين، ولكنه تعالى يوضح أننا لن ندخل عبدنا المؤمن التقي في الجنة كضيف أو صديق أو سائل، وإنما 28 ننزله في الجنة بصفة ابن لنا ونورثه إياها ونقول له اذهب وعش خالدا فيها.وقد حقق الله بذلك غرضين : فأولاً إنه تعالى قد أبطل بذلك الزعم القائل أن خصوصية المسيح أنه ابن الله تعالى، حيث أوضح تعالى أن كل مؤمن تقي ابن الله تعالى.وثانيا، قد أشار الله تعالى بذلك أن المؤمنين سيُعطون نعيم الجنة كحق لهـــم تكريما لهم.ذلك أنه فيما يتعلق بالعطاء فإن السائل الفقير أيضا يتلقى عطاء ولكنه يكون صدقة، ولكن نعيم الجنة لن يكون صدقة على أهلها، إنما يكون ميراثا لهـــم، وسيُقال لهم حين يُعطونه أن هذا حقكم كحق الولد في مال والده.بيد أن هنـاك رقا واضحًا وهو أنهم سيرثون هذا الميراث وأبوهم حي.والآن فبما أن الله تعالى قد اعتبر بقوله نُورث كل مؤمن ابنا له وأخبر أن الجنة عطاء ميراث، وأخبر أن أهل الجنة سيتلقون فيها سلاما، فكان طبيعيا أن يفكر كل مؤمن أنني ما دُمتُ قد أصبحت ابنا الله تعالى فكان ينبغي أن أتلقى هدية السلام هذه من الله الذي هو أبي ! فجاء الجواب على هذا السؤال الطبيعى على لسان الملائكة الذين قاموا بتبليغ هذا السلام لهم في قول الله تعالى وما نتنـــزل إلا بأمر ربك..أي أيها المؤمن إنما نهديك هذا السلام من عند الله تعالى، وليس من تلقاء أنفسنا.لا شك أننا نحن الذين نوصل السلام إلى أهل الجنة، ولكنه في الواقع من عند ربك، إذ من المحال أن نفعل شيئًا من عند أنفسنا، ولسنا إلا مبلغين.هذا هو المراد هنا ولا مجال هنا لما يذكره المفسرون بأن جبريل توقف عن النزول على النبي ل فترة من الزمن، فأصابه و حزن شديد، فنــــــــزلت هــذه الآية.ذلك لأن هذا المفهوم غير منسجم مع السياق كما بينت.إن المفهوم الحقيقي إنما هو أن الملائكة ينزلون على أهل الجنة بالسلام، فيقول هؤلاء في أنفسهم: ما

Page 398

۳۹۱ سورة مريم الجزء الخامس هذا السلام؟ هل هو من أبينا الروحاني الله أم من غيره؟ فيجيبهم الملائكة إنه مـــــن أبيكم، ولسنا إلا مبلغين.ثم يقولون له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك..أي أنها هدية غالية لدرجة أنه تعالى قد بعث معنا حرسًا يحفظونها من أمامها ومن خلفها حتى لا تضيع.ثم يقولون وما كان ربك نسيا..أي كيف يمكن أن يُنزل الله في بيته أولاده الروحانيين، ثم ينسى أن يُهدي لهم.السلام فكما أنكم أحببتم الله تعالى ولم تنسوه، فإنه تعالى أيضًا لم ينسكم، بل بعثنا لكي نهدي لكم منه سلامًا.غير أن هذه الآية تتضمن الإشارة إلى أمر آخر أيضًا، وإليك بيانه.إن سورة مريم تحتوي على ذكر إبراهيم وغيره من الأنبياء الذين كانوا من نسله بمن فيهم موسى، الذي يحوي كتابه، بالإضافة إلى وحيه أحوال إبراهيم وأولاده.فلما أعلن النبي ﷺ دعواه قال اليهود والنصارى كيف أتى هذا النبي من العرب؟ يجب أن يأتي النبي من بني إسرائيل (أولاد يعقوب).فرد الله على أهل الكتاب بلسان الملائكة إنما نتنزل بأمر ربنا.إنه تعالى بعثنا برسالته إلى العرب فذهبنا بها إليهم.ولو أنه بعثنا إلى بني إسرائيل لذهبنا إليهم فعَلامَ الاعتراض؟ يمكن أن يقال إن هذا الشخص لا تتوافر فيه صفات الأنبياء، ولكن لا يحق لأحد أن يقول كيف نزل كلام شخص من العرب، لأن الوحى إنما ينزل بأمر الله تعالى، وأن الذين يصيرون مهبطًا لوحي الله تعالى يُعطون جنة الدنيا وجنة الآخرة.فقد أُعطي موسى أرض كنعان، وأما محمد رسول الله ﷺ فقد أُعطي الجزيرة العربية، وفلسطين والدنيا كلها أيضًا.الله على ثم ورد وما كان ربك نسيا..أي أن الله تعالى كان قد نبأ على لسان موسى أنه سيبعث نبيا من بين إخوة بني إسرائيل أي بني إسماعيل، كما أخبر على لســــان النبي إشعياء أنه سيُنزل وحيه بين العرب أيضًا؛ فكيف يمكن أن يبطل وعد الله الذي تم على لسان اثنين من أنبيائه.إذا كان اليهود والنصارى قد نسوا ذلك فإن الله تعالى لا ينسى أبدًا.فأَنَّى الله تعالى أن ينسى ما أوحى به إلى موسى فقال: "أقيم

Page 399

الجزء الخامس ۳۹۲ سورة مريم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه" (التثنية ١٨ : ١٨-١٩).وكيف يمكن أن ينسى الله تعالى ما أوحى به إلى إشعياء النبي المحال بأن الوحي سينزل على العرب أيضًا (إشعياء ۲۱: ١٣-١٧، و٩: ٦-٧).ومن الله تعالى وحيه الذي أنزله على عيسى، فقال بناء عليه للحواريين: ینسی أيضا أن "إن لي أموراً كثيرةً أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.وأمــــا متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية" (يوحنا ١٦: ١٢-١٣).فكان لا بد من ظهور ذلك النبي الذي يعلّم العالم الأسرار الروحانية كلها.رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَأَصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (2) التفسير : يقال : اصطبر على الشيء، أي تمسك به بشجاعة وجلد.غير أن الله تعالى لا يقول هنا "اصطبر على عبادته"، بل يقول واصطبر لعبادته، ومعنـــاه عليك أن تبدي الشجاعة والجلد من أجل عبادته وهكذا قد بين الله تعالى الله.لرسوله بقوله فاعبده واصطبر لعبادته أن القوم لن يسمحوا لك بأن تعبد الله عبادة خالصة، فلا تكترث لهم، بل عليك التحلي بالشجاعة والجلد بهذا الصدد.ثم قال تعالى لعبادته..أي يجب أن تتحلى بهذه المزايا من أجل العبادة فقط.ذلك لأن الإنسان يمكن أن يقوم بالعبادة لأسباب أخرى أيضًا، لذلك يأمرنا الله تعالى أن نبدي الشجاعة من أجل العبادة ونتحلى بالجلد من أجل العبادة، ونتصف بالثبات من أجل العبادة.فكأنه تعالى يريد منا أن لا نحب العبادة لمآرب أخرى، وإنما نحب الأشياء الأخرى حبا للعبادة، فلا تكون العبادة سببًا بل تصبح هدفًا وغاية.فقوله تعالى واصطبر لعبادته يعني أن عليك أن تتحلى بالبسالة والشجاعة حبًّا للعبادة، وليس لكي تبقى قائمًا على العبادة.عليك أن تتصف بالبسالة حبــــا

Page 400

الجزء الخامس ۳۹۳ سورة مريم الله لعبادته ، وتتشجع حبًّا لها، وتبدي الثبات حبا لها، حتى تكون عبادتك أفضـــل = وأعلى درجة، وحتى لا تكون عبادتك سببًا، بل تصبح غاية وهدفا.أما قوله تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما فقد أشار بــه إلى أن الله تعالى سيكشف الآن عمليًّا أنه رب العالمين وليس برب بني إسرائيل فقط.وَيَقُولُ الْإِنسَنُ أَعِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (3) أَوَلَا يَذْكُرُ الإِنسَنُ أَنَّا خَلَقْنَهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) التفسير: لقد ظلت الحياة بعد الموت على مر العصور موضع شك وشبهة لدى الناس، أيا كان شعبهم أو ديانتهم.ذلك لأن تلك الحياة لا تُرى، كما لا تبقى بالناس أي صلة بالموتى إلا الذين يكونون من الطراز الأول من الروحانيين.ولكن الغريب أن تلك الحياة التي يشك فيها أكثر من أي شيء آخر، فإنها هي أكثر مــا يوقن به الناس حيث يوزعون الطعام والثياب على الفقراء باسم موتاهم، كمـــا يتمنون زيارتهم أيضًا.إذا نظرت إلى سلوك الناس وجدتهم لا يوقنون بالحياة بعد الموت، حيث لا تجد في تصرفاتهم أي أثر للإيمان بالحياة بعد الموت، مع أن المرء إذا كان مؤمنًا حقا بالمثول أمام الله تعالى بعد الموت ليحاسبه على أعماله للزم أن يؤثر هذا الإيمان في حياته ويُصلح أعماله ويطهر أفكاره.فبالرغم أنك لا تجد لإيمانه أي تأثير على حياته، إلا أنك تجده يقوم بكثير من الأعمال الخيرية إيصالاً لثوابها إلى أقاربه الموتى، فيُطعم الفقراء الطعام، ويوزع عليهم الثياب باسم هؤلاء الأموات.إنه تناقض غريب نراه في عمل الإنسان.وبسبب هذه الحالة المريبة في عمله لا نستطيع أن نجزم فيما إذا كان غير موقن بالحياة بعد الموت، أم أنه موقن بها.فإننا حين ننظر إلى حياته هو لا نجد في أعماله وتصرفاته تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت كما ينبغي، ولكننا حين ننظر إلى مشاعره تجاه أقاربه الموتى نجد في قلبه لوعة ولهفة لأن يكونوا أحياء حتى يلقاهم.

Page 401

الجزء الخامس ٣٩٤ سورة مريم فهناك فئة من الناس تقول أن لا حياة لنا بعد الموت، وثمة فئة أخرى تؤمن بالحياة بعد الموت.ولكن الذين يؤمنون بالحياة بعد الموت ترى في تصرفاتهم أيضا ما أنهم غير مؤمنين بالحياة بعد الموت.أما الذين يقولون أنهم لا حياة لهم بعد الموت ترى في تصرفاتهم أحيانًا ما يدل على أنهم مؤمنون بتلك الحياة.وكأن الذين يقولون "نَعَمْ" يأتي عليهم زمنُ "لا"، وأما الذين يقولون "لا" فيأتي عليهم زمــن "نعم".وعلى العموم فإن الإنسان ليس بجاهز، فيما يخص حياته أن هو، يصوغ وتصرفاته وفق إيمانه بالحياة بعد الموت، ولكن فيما يتعلق بإعرابـه عـــن أعماله يعني ذلك مشاعره تجاه أقاربه الموتى فإنه جاهز لأن يضحي من أجلهم.وذلك لأن التضحية التي يقدمها من أجلهم ليست كبيرة ولا ثقيلة، إذ لا تكلفه إلا إخراج بعض المـــال وتوزيع بعض الطعام والثياب على ذوي الحاجة صدقةً عن أقاربه الموتى.وأما أن يُحدث تغييرًا طيبًا في حياته هو فهذا عبء ثقيل يصعب عليه حمله.إذ أن يقول الصدق، ويتنكب عن الكذب والغش، ويقضي على أهواء النفس، ويطيع أوامر الله تعالى.وهذه الأمور كلها تتطلب منه تضحية جسيمة جدا، فلا يستعد لها.ولكنه جاهز لأن يوزع بعض الطعام والثياب لأنه سهل نسبيًّا.وترى أن الإنسان المشار إليه في قوله تعالى ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيًّا لم يقل الله عنه أيضًا أنه ينكر الحياة بعد الموت، وإنما أخبر أنه يقول أإذا ما مت لسوف أخرج حيًّا..أي أنه يسأل على طريق التعجب والاستفهام،.بمعنى أنه ليس بموقن بأن لا حياة بعد الموت، ولكنه متردد وغير متيقن بها.وهـذا أنه في حالة من الشك والشبهة في أمر الآخرة ولا يعني ذلك أنه غير موقن يعني بالآخرة حتمًا.لقد بدأت بهذه الكلمة التمهيدية لسبب معين، وهو أن النظر إلى عقائد أهــل الدنيا يكشف لنا أن الذين ينكرون الحياة بعد الآخرة كليةً قليلون جدا، ولكن الذين يؤمنون بالآخرة بيقين كامل هم أيضًا قلة جدًّا.إن الأكثرية الساحقة مـــــن الناس سواء أكانوا من المؤمنين بالحياة بعد الموت أم من غيرهم، يعيشون دائما مترددين في أمر الآخرة.

Page 402

٣٩٥ سورة مريم الجزء الخامس إن من عقائد المسيحيين أن الإنسان سينال حياة جديدة بعد الموت.وفي إحدى المرات قد جرى النقاش بين المسيح واليهود حول هذا الأمر.علما أن اليهود كانوا فئتين فئة تؤمن بالحياة بعد الموت، وفئة تنكر ذلك.فجاء بعض اليهود المنكرين للآخرة المسيحَ وسألوه عنها، فأجابهم وقال: ألم تقرءوا في التوراة أن الـــرب إلـه إبراهيم وإله إسحاق وإلهُ يعقوب، "وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميـــع عنده أحياء (لوقا ۲۰ : ۳۷-۳۸ ومتى ۲۲ (۳۲)..أي كان عليكم أن تدركوا مما ورد في التوراة أن أرواح إبراهيم وإسحاق ويعقوب تتمتع بالحياة، وكذلك أرواح آبائهم أيضًا، وإلا لوجب القول أن ربنا رب الأموات لا رب الأحياء.كذلك يقول المسيح العل: "لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجـــون بـل يكونون كملائكة الله في السماء" (متى ٢٢: ٣٠).28 ويقول بولس: "لأننا نعلم أنه إن نقض بيتُ خيمتنا الأرضي فلنا في السماوات بناء من الله، بيت غيرُ مصنوع بيد، أبدي" (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس ٥: ١).ويذكر المسيح ال الناس بالحياة بعد الموت في قصة فقير وغني ويقول: "كان إنسان غني، وكان يلبس الأرجوان ،والبزَّ، وهو يتنعم كل يوم مترفها.وكان مسكين اسمه لعازر الذي طُرح عند بابه مضروبا بالقروح، ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني.بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه.فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضًا ودُفن.فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه.فنادى وقال يا أبي إبراهيم ارحمني، وأرسل لعازر ليبل طرف أصبعه بماء، ويبرد لساني، لأني معذَّب في هذا اللهيب.فقال إبراهيم يا ابني اذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك، وكذلك لعازر البلايا.والآن هو يتعزى وأنت تتعذب.وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أُثبتت حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون، ولا الذين من هناك يجتازون إلينا.فقال أسألك إذا يا أبت أن ترسله إلى بيت أبي، لأن لي خمسة إخوة، حتى يشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا.قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء، ليسمعوا منهم.فقال لا يا أبي إبراهيم، بل إذا

Page 403

الجزء الخامس ٣٩٦ سورة مريم مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون.فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء، ولا إن قام واحد من الأموات يُصَدِّقون" (لوقا ١٦: ۱۹-۳۱).وورد في موضع آخر: "وسمعت صوتًا من السماء قائلا لي اكتب: طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن.نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم، وأعمالهم تتبعهم" (رؤيا يوحنا اللاهوتي ١٤: ١٣).إذا فإن المسيح اللي قد أكد البعث بعد الموت، وأن الكتب المسيحية كلها مليئة أن بالاعتقاد بأن الإنسان سيوهب حياة جديدة بعد الموت.والفرق الوحيد هو المسيحيين يعتقدون أن الأرواح ستعود إلى هذه الدنيا نفسها عند عودة المسيح، وهنا ستنال الثواب أو العقاب.فقد ورد في الإنجيل قول المسيح ال: "الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابنُ الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر.وكلُّ من ترك بيوتا أو إخوةً أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل ، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية" (متى ۱۹: ۲۸-۲۹).اسمي، كما ومن ورد ور د في موضع آخر: ورأيتُ نفوس الذين قتلوا من أجل شهادة يسوع أجل كلمة الله، والذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته، ولم يقبلوا السِّمَةَ على جباههم وعلى أيديهم، فعاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة.وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتمّ الألفُ السنة.هذه هي القيامة الأولى" (رؤيا يوحنا اللاهوتي ٢٠: ٤-٥).فبالرغم من أن كل ديانة قد أكدت الحياة الأخروية، إلا أن أكثر ما ينكره الناس في هذا العصر هو البعث بعد الموت، وتسود قلوبهم حالة من الشك والتردد حول الحياة الآخرة.إذا فلا يراد بلفظ الإنسان هنا الناس كلهم، إذ يوجد بينهم من يوقن بالحياة الآخرة يقينًا ،تاما، بل المراد منه ذلك الإنسان الذي يستغرب من الحياة الآخرة، ويقول هل يُحيَى الإنسان مرة أخرى حقا.أما إذا كان الإنسان هنا بمعنى الجنس الإنساني ،كله، فالمراد أنه لمن المستغرب جدا أن يقول هذا الذي ينتمي إلى الجنس البشري هل أعود إلى الحياة ثانية.ذلك

Page 404

الجزء الخامس ۳۹۷ سورة مريم لأن الإنسان مركب من الأنس، ويعني في الواقع "أنسان"، وفي فطرته ما يؤكد البعث بعد الموت، فكيف يمكنه أن يقول هل سأعود إلى الحياة ثانية حقا؟ ثم يقول الله تعالى أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل و لم يك شيئًا..والمراد من جملة ولم يك شيئًا أنه لم يكن شيئًا يستحق الذكر، بدليل قوله تعالى في موضع آخر هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا الإنسان (۲۳)..أي عندما كان في حالة النطفة أو الجماد والنبات.أنه كان عندها شيئًا، ولكنه لم يكن شيئًا مذكورًا..أي شيئًا ذا بال يستحق الذكر والعناية.فإذا كان الله تعالى قد قام بتطوير ذلك الشيء الحقير الذليل وجعله إنسانًا، فما العجب في أن يخلق تعالى من هذا الإنسان الذي يصير رفاتًا وترابًا بعد الموت، إنسانًا جديدًا.بمعنى فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦) شرح الكلمات : جثيًّا: جثا الرجلُ يجثو: جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه، فهو جاث، وجمعه الجثى (الأقرب).أما صاحب المفردات فقال : قد يكون جثيًّا )) مصدرًا لـ جثا يجثو.التفسير: يتضح من هذه الآية أيضًا أن المقصود هنا الإنسان المذكور من قبل، وليس كل الناس.إذ لو كان المراد من الإنسان هنا المؤمنون من الطراز الأول والصديقون والشهداء والأنبياء، فلا داعي لذكر الشياطين الذين يوسوسون.فكلمة الشياطين تدل بجلاء على أن الإنسان هنا يعني قوماً لا يؤمنون بالحياة بعد الموت إيمانا كاملاً...يقول الله تعالى إننا لا بد وأن نجمع هؤلاء مع الشياطين أي مع الفلاسفة الذين يوسوسون في قلوبهم حول الحياة بعد الممات، ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيًّا.

Page 405

الجزء الخامس ۳۹۸ سورة مريم يقول المفسرون بالإجماع أن "جهنم" كلمة أعجمية، وليس لها اشتقاق في العربية (الإتقان).ويرى علماء اللغات الأعجمية أنها كلمة آرامية وتعني "مكان العقاب بعد الموت".وفي اللغة العبرية تُستعمل كلمة "جهنَّة" (Gehenna) التي أصلها الآرامي هـو هنوم" (Hinnom)، ثم حولت (Hinnom)، ثم حولت فيما بعد إلى 11.(Ge- Hinnom) كما يرى هؤلاء العلماء أن "هنوم" جزء من كلمة كبيرة، ومعناه "وادي إراقة الدماء" أو "وادي القتل العام" (الموسوعة التوراتية مجلد ٢: Hinnom).هو وعندي أن "جهنوم" كلمة عربية مشوهة.حيث يعني الهنم في العربية النمر، ولفظ "ذو "هنم" يعني المكان الذي يوجد فيه النمور.وأرى أن أصل هذه الكلمة هنم" أي المكان الذي تكثر فيه النمور التي تفترس الناس وتجرحهم.وبما أن العجم يبدلون الذال جيمًا بشكل عام، فجعل الآراميون من "ذي هنم" جهنوم، ثم أخذها العرب وحولوها جهنم وهناك أمثلة كثيرة حيث انتقلت كلمة من لغة إلى أخرى، ثم صارت مشوهة، ثم رجعت إلى اللغة الأصلية بصورتها المشوهة، ثم صیغت بقالب جديد.كما أرى أن لفظ "جهنم" ربما تكون مركبة من كلمتين من الثلاثي المجرد وهما "جهن" و"جهم"، حيث يعني الجهن الاقتراب، بينما يعني الجهم اللقاء بوجه عبوس (المنجد).فأصل جهنم هو جهنجهم ومعناه شيء يذهب إليه المرء شوقا، وعندما يقترب منه يعبس خوفا واستياء.والحق أن هذا الاسم يرسم صورة جهنم رسما تاما، حيث يدل على أن المرء يستحسن الأفعال الفاسدة التي تؤدي به إلى جهنم، ولكنه حين يقترب من جهنم جراء تلك الأعمال يستاء اء ويعبس قائلا إنه مكان بشع مخيف.وكأن جهنم سُمّيت بهذا الاسم تدليلاً على الحالة التي يكون فيها الإنسان عند رؤيته لها وكذلك على الأعمال التي يستحسنها المرء نظرا إلى ظاهرها ولكنها هي التي تقربه من جهنم.إن سيدنا المسيح الموعود اللة أيضا قد قام بتفسير كلمة قرآنية على هذا الغرار نفسه.فقال حضرته في كتابه "فلسفة تعاليم "الإسلام" إن لفظ "الخنزير" مركب

Page 406

الجزء الخامس ۳۹۹ سورة مريم من كلمتين هما "الخنز" أي الفاسد جدًّا، وأَرَى؛ فيكون معنى الخنزير: "أراه فاسدًا جدا"..أي أن في هذا الحيوان خصالاً تدل على ما فيه من سوء وفساد إسلامي أصول كي فلاسفي ص ۳۳۸) وكما سبق في شرح الكلمات أن الجثي هو الجلوس على الركبتين كما نجلس في الصلاة عند التشهد، أو القيام على أصابع القدمين مثل من يقوم على أصابعه رافعًا كعبه، ماذا عنقه إلى فوق لينظر إلى شيء.وكلا المعنيين ينطبق هنا.ذلك أن الحديث هنا عن جهنم، ومن فطرة الإنسان أنه إذا أحاط به خطب حاول أولاً أن يصوب إليه نظره مطلا إليه واقفا على أصابع قدميه ليعرف ما هي المصيبة القادمة.ولكنه حين يراها تخور قواه ويخر على ركبتيه.ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (٢) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِمَا صِلِيًّا (٤) شرح الكلمات: شيعة : الشيعة: الفرقة (الأقرب).حرف عطف يدل على الترتيب والتراخي (الأقرب).صليا: صلي النار وبها يصلى صليا : قاسى حرَّها واحترق بها ودخل فيها (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنه قبل أن يُدخل الكفار في النار سيؤخذ من كل فرقة منهم رؤساؤهم الذين كانوا أكثر عصيانًا وتمردًا على الله الرحمن ليعذبهم عذابا أشد.عتيا علما أن "ثُمَّ" في قوله تعالى ثم لننزعن من كلِّ شيعة أيهم أشدُّ على الرحمن هو لبيان ترتيب الأحداث، أما "ثم" الوارد في قوله ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا فليس للترتيب بل للعطف فقط، أي شرحا لما سبق ذكره وبيانًا لدرجة كفرهم، لأن "ثم " يفيد أيضًا بيان الزمان والمكان والوضع، والمراد أننا أدرى

Page 407

الجزء الخامس ٤٠٠ سورة مريم بمدارج كفرهم، وبأماكن عذابهم، وليس معناه أن الله تعالى سيعلم درجة كفرهم ومكان عذابهم بعد أن ينزع منهم من هو أشد على الرحمن عتيا.ذلك أن علم الله تعالى أسبق زمنًا من فعله.والحق أن العلم أسبق زمنًا من الفعل بشكل عام، فإن الإنسان يفكر أولاً في الذهاب إلى مكان ما ثم يذهب إليها.فمثلاً تفكر أولاً في الذهاب إلى المدرسة ثم تذهب إليها عمليًّا.أو تفكر أولاً في الأكل ثم تأكل شيئًا.ولكن قد جاء "ثم " هنا قبل العلم، رغم أن العلم يكون قبل الفعل، فثبت من ذلك أن "ثم" يفيد هنا بيان الدرجة، أي أننا أعلم بدرجة العذاب الذي يستحق كل واحد منهم.أيهم لقد قال المفسرون هنا إنه كان المفروض أن يقال (أيهم) بدلاً من أيهم).وقال الخليل إنه مرفوع لكونه حكاية، إذ التقدير: "ثم لننزعن الذين يقال لهم أشدُّ على الرحمن عتيًّا".بينما قال الآخرون إن قوله تعالى من كل شيعة مفعول به لفعل الننزعن، وأما قوله تعالى أيهم أشد على الرحمن عتيا فهو كلام جديد، فإن السائل حين قال من هؤلاء الذين ينزعهم قيل له أيهم أشد على الرحمن عتيا.الله من كل شيعة، بينما قال البعض أنه قد ورد في قراءة أيهم أيضًا.(فتح البيان، والقرطبي) أما قوله تعالى ثم لنحن أعلَمُ بالذين هم أولى بها صليا فليكن معلوما عن لفظ "صليا" أنه لا يعني الاحتراق بالنار فقط، بل يعني أيضا مقاساة حرها، كما مذكور في شرح كلمات هذه الآية.هو وقوله تعالى الذين هم أولى بها صليا يمكن أن يفسر بمفهومين: أولهما: الذين هم أولى الناس بالنار صليا والثاني: الذين هم أولى بالنار صليا من بين أنواع العذاب الأخرى.وهنا ينشأ سؤال وهو من هم أولئك الناس الذين يكون هؤلاء أولى منهم بالنار صليا، أو ما هي أنواع العذاب الأخرى التي يكون هؤلاء أولى بالنار صليا منها؟ والجواب أن الحديث يدور هنا عن أصحاب عقيدة الثالوث، ويتضح من القرآن الكريم أن رقي أصحاب عقيدة الثالوث سيكون منوطًا بأجهزة نارية بشكل عام،

Page 408

الجزء الخامس ٤٠١ سورة مريم وأنهم سيخوفون أعداءهم على العموم بالأسلحة النارية.فالبنادق والمدافع والقنابل، سواء العادية منها أو الذرية كلها أسلحة نارية بينما كانت أسلحة الناس من قبل السيوف والرماح والمقامع والمقاليع والأحجار.ولكن لما جاء زمن يأجوج ومأجوج استخدموا النار، فإن اسمهم نفسه يدل على النار، حيث إنه مشتق من الأج الذي يعني النار (الأقرب: كلمة "أ").فكأن اسمهم هذا كان ينطوي على نبأ بأنهم سيستخدمون النار بكثرة، وسيتغلبون على العالم باستخدام الأسلحة النارية.وبالفعل فإن المسدس والبندقية والرشاش والقنبلة، بما فيها القنبلة النووية، كلها وثيقة الصلة بالنار وهذه هي الوسيلة التي يتغلب بها هؤلاء على الأعداء.لقد هزموا المسلمين بهذه الأسلحة نفسها إن المسلمين لسوء حظهم، لم يستخدموا هذه الأسلحة لأن مشايخهم قاموا بتضليلهم، حيث أفتوا أنه لا يحق لأحد سوى الله تعالى أن يعاقب بالنار، أو قالوا إنه سحر يقتلون به أناسًا كثيرين في لمح البصر، مع أن السلاح لا يقتل إلا شخصا؛ وإذا تعلم أحد السحر صار قرينًا للشيطان.فاستعمال هذه المخترعات.حرام إذا فالدمار الذي حل بالمسلمين إنما حل بسبب فتاوى المشايخ أو الأسلحة النارية التي استخدمها الشعوب الغربية ضدهم.ومن أجل ذلك يقول الله تعالى إنه يوم يأتي عذابنا يكون هؤلاء القوم أولى الناس بالنار صليًّا لكونهم أكثر الناس استخدامًا للنار وعندي أنه لو جمعت كل الأسلحة التي توجد عند الشعوب الأخرى مجتمعة لما بلغت مقدار الأسلحة التي تملكها أصغر حكومة من هذه الحكومات الغربية.فمثلاً إن ما تملكه كل من الهند وباكستان والصين من أسلحة لا تساوي كلها ما عند فرنسا وحدها من أسلحة.ولذلك يقول الله تعالى إن بلاد الغرب هذه لما كانت أسبق شعوب العالم لعبا بالنار فسنذيقهم عذاب النار أكثر من أي شعب آخر، ويومئذ يدرك هؤلاء من كان أولى بالنار، هم أم غيرهم؟ والمفهوم الثاني هو أنهم أولى بالنار صليًّا من أي عذاب آخر.ذلك أن العذاب صنوف وألوان، فمثلاً يمكن أن يكون العذاب بالماء أو المرض أو البرد القارس أو المشاهد المخيفة.ولكن بما أن هؤلاء القوم قد صبّوا على الشعوب الأخرى عذاب

Page 409

الجزء الخامس ٤٠٢ سورة مريم النار صبا فسيكون عذاب النار هو الأولى بهم من أي عقاب آخر؛ بمعنى أنهم سيعذبون بعذاب فيه الحرقة واللوعة.والنار وهذا يكشف أن العذاب المقدر لهم هو عذاب اللوعة والحرقة.وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ) ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَنَذَرُ الظَّلِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (3) التفسير : يقول عامة المفسرين أن المراد من قوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مَقضيَّا أن كل إنسان سيدخل في الجحيم (تفسير مجاهد).ولكن هذا خطأ، ذلك لأن الحديث هنا يدور عن الكافرين لا عن المؤمنين، إذ ورد قبل ذلك ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أُخرج حيًّا.فمتى ينكر المؤمنون البعث بعد الموت؟ كما سبق أن قال الله تعالى من قبل فوربك لنحشُرَنَّهم والشياطين ثم لنُحْضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا " ثم لننزعن من كلِّ شيعة أيهم أشدُّ على الرحمن عتيا.فثبت أن الحديث هنا إنما يدور عن الكفار فقط الذين ينكرون البعث بعد الموت، أو الذين تراودهم الشبهات حول الحياة الآخرة.فهم المذكورون في قوله تعالى وإن منكم إلا ورادُها كان على ربك حتما مقضيَّا.علما أن حتما مقضيا يعني وعدًا واجبًا مقضيَّا.واعلم أن سيدنا المسيح الموعود الل قد قبل المفهوم العام الوارد في التفاسير، وقال إن قوله تعالى وإن منكم يشمل الناس جميعًا، وأن كل إنسان يدخل جهنم.ولكنه العليا قد أيضا أن صرح جهنم نوعان: جهنم هذه الدنيا وجهنم الآخرة.إن الكافرين سيُلقون في جهنم الآخرة، ولكن المؤمنين لن يدخلوها، بل إن ما يقاسونه في هذه الدنيا في سبيل الله تعالى من تعذيب وأذى سيقوم مقام جهنم الآخرة.وهذا يعني أن حضرته العلم يفسر قول الله هذا باعتباره مرتبطًا بالآيات السابقة، وإنما كآية منفصلة.ولا شك أن هذا المعنى صحيح أيضًا، إذ قد قال النبي

Page 410

الجزء الخامس ٤٠٣ سورة مريم نفسه إن المؤمنين يقاسون في الدنيا أكثر من الكفار، بل لقد قال ﷺ إن الإنسان كلما كان أكثر حظا من حب الله تعالى كان أكثر عرضة للأذى في الدنيا.* وقد فسرت هذه الآية في الحديث أيضًا، ويتضح من الأحاديث أن المعنى الذي بينته أنا، والمفهوم الذي ذكره سيدنا المسيح الموعود ال كلاهما صحيح.فقد ورد بصدد المعنى الذي بينته عن حفصة - رضي الله عنها - أن النبي ﷺ قال: لن يدخل النار أحد من أصحابي شهد بدرًا وصلح الحديبية.فقالت حفصة: يا رسول الله، وأين قول الله تعالى وإن منكم إلا واردها ؟ فقال البني : مه يا حفصة.فأين قول الله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا؟ (مسلم، وتفسير جامع البيان للطبري) وبالمناسبة، فقد ثبت بهذا الحديث أيضًا أن لفظ ثم الوارد هنا أيضًا لا يفيد الترتيب هنا وإلا فلن يكون قول النبي الله هنا نفيًا لقول حفصة بل يكون تأييدا له، إذ سيكون المعنى أننا أوّلاً نُدخل الجميع، بمن فيهم المقتون، في النار، ثم ننجي منها المتقين من بينهم بينما نذر الظالمين فيها جثيًّا.في حين أن النبي أراد رفض هذا المعنى.فثبت أن النبي أيضا لم ل أيضًا لم ير أن لفظ ثم في قوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا يفيد الترتيب، وإنما اعتبره استئنافيا..بمعنى أن هذه الجملة جملة جديدة، والمعنى أننا سنلقي المجرمين في الجحيم، أما المؤمنون فندخلهم في الجنة من دون أن ندخلهم في الجحيم.* ورد في الحديث: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" (الترمذي، أبواب الزهد، باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكاف) (المترجم) نص الحديث هو: "عن جابر ابن عبد الله يقول أخبرتني أمُّ مبشر أنها سمعت النبي ﷺ يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها.قالت: بلى يا رسول الله! فانتهرها.فقالت حفصة وإن منكم إلا واردها.فقال النبي ﷺ قد قال الله وعل ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا (مسلم: كتاب فضائل الصحابة، رقم الحديث ٤٥٥٢).(المترجم)

Page 411

الجزء الخامس ٤٠٤ سورة مريم وقال الزجاج: هناك آية أخرى في القرآن تدعم هذا المعنى وهي قول الله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (الأنبياء: ١٠٢).لقد تبين من ذلك أن هناك فئة من الناس لن تقترب من الجحيم بَلْه أن تدخل فيها.فالزجاج تلة أيضا يرى أن قوله تعالى وإن منكم إلا واردها يخص الكفار، وأن قوله تعالى ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا كلام جديد منفصل، ومعناه أننا سندخل المؤمنين في الجنة من دون أن ندخلهم في النار.وهذا ما يراه مجاهد أيضًا (القرطبي).أما الحديث الشريف الذي يدعم المفهوم الذي قد بينه سيدنا المسيح الموعود العلمية فهو أن النبي الله سُئل ذات مرة عن الحمى، فقال إن الله تعالى يقول: "هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار يوم القيامة" (ابن ماجة: الطب، رقم الحديث ٣٤٦١، والقرطبي).كذلك قال النبي ﷺ: "الحمى حظ المؤمن من النار يومَ القيامة" (كنز العمال: الصبر على الحمى، رقم الحديث ٦٧٤٦، والقرطبي).أي أن المؤمن لن يُلقَى في النار في الآخرة، لأن ما يصيبه في الدنيا من الأمراض كالحمى وما إلى ذلك يُعتبر حظه من تلك النار.منهم إلا وقد ذكر القرطبي هاتين الروايتين نقلا عن تهذيب التهذيب والطبري.والواقع أن المفهوم الذي ذكرته لقوله تعالى وإن منكم إلا واردها كان الخليفة الأول الله للمسيح الموعود الله هو الذي يذكره (انظر حقائق الفرقان)، وهو ثابت من الحديث الشريف أيضًا كما أثبتُ.وهذا ما رآه ابن عباس له أيضا حيث قال "هذا خطاب للكفار".ورُوي عنه أنه كان يقرأ: "إن واردها"..أي إن من أحد من الكافرين المذكورين من قبل إلا وارد جهنم.وقد أقر هذه القراءة عكرمة وجماعة من التابعين (القرطبي).ويقول القرطبي أن اعتبار منكم بمعنى "منهم" جائز كما قال تعالى وسقاهم ربهم شرابا طهورا)، ثم قال بعد ذلك فورًا إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوررًا)) (الإنسان: ۲۲- ۲۳).فاستخدم الله أولاً ضمير الغائب فقال وسقاهم ربهم، ثم استخدم ضمير

Page 412

الجزء الخامس ٤٠٥ سورة مريم المخاطب فقال إنّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً).وبالمثل فإن قوله تعالى منكم يعني هنا منهم أي من الكفار المذكورين من قبل.إذا، فكل من المفهومين اللذين ذكرتهما أعلاه ثابت من الحديث الشريف ومن أقوال الصحابة رضوان الله عليهم.وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ وَايَتُنَا بَيِّنَتِ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) شرح الكلمات : ٧٤ نديا : الندي: النادي (الأقرب).أن التفسير: إن البعض عندنا يقوم بترجمة حرفية لقوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات كما فعل الشاه رفيع الدين في ترجمته الأردية للقرآن الكريم.مع جملة "تلا عليه كذا" يعني قرأه قراءة يسمعها صاحبه.إن من خصائص اللغة العربية والقرآن الكريم أنهما يستخدمان للدلالة على موضوع ما ألفاظا لا تشير إلى الموضوع فحسب، بل تحوي الدلالة الكاملة عليه أيضا.وعلى سبيل المثال، نستخدم في لغتنا الأردية لفظ المعجزة أو الخوارق وما شابهما بمعنى الآيات الإلهية مع أن أي لفظ منها لا يبين المدلول الحقيقي والغاية الحقيقة لآيات الله تعالى.لا شك أن "المعجزة" كلمة عربية، ولكن القرآن الكريم لم يستخدمها، كما لم ترد في الحديث الشريف؛ وإنما اخترعها الناس من عند أنفسهم؛ وهي لا تؤدي المعنى الذي اخترعت من أجله.لقد استعمل القرآن الكريم لبيان هذا المفهوم كلمة الآية، ومن معانيها العلامة أيضًا، ولكن لفظ العلامة أيضًا لا يؤدي المفهوم الذي تنطوي عليه كلمة الآية.إن مفهوم الآية هو دلالة شيء على شيء آخر.وقد بين الله تعالى باستخدام لفظ "الآية" أن ما يُظهر الله تعالى من آيات لا يكون بدون هدف، بل يكون وراءها مقصد وغاية.أما لفظ "المعجزة" فليس إلا تعبيرًا عن القدرة ،والقوة كأن يضرب الإنسان شخصا بالعصا فيفر من

Page 413

الجزء الخامس ٤٠٦ سورة مريم أمامه، فيدل ذلك على قوة صاحب العصا.بينما تدل كلمة "الآية" على أن وراء ذلك الفعل هدفًا معينا، وأنه يُعرَض على الناس كدليل يفهمون به ذلك الهدف المنشود.الله تعرف بفحص جميع الأديان الموجودة في العالم أن كل واحد منها يدعو الناس إلى الإيمان بأمور غير مرئية أيضًا.وبما أنها أمور غيبية خفية فيقدم الدين براهين أخرى تدل على وجودها.وبعض هذه الدلائل عقلية بحتة، وبعضها دالة على قدرة وعلمه بالغيب فيسهل بها على الناس إدراك تلك الأمور الغيبية.خذوا مثلا قضية نبوة الأنبياء عليهم السلام، فلم ير أحد في الدنيا قط ملاكا نزل من السماء، وتكلم مع أحد من الأنبياء.فبما أنها ظاهرة خفية على الناس لذا يدعمها الله تعالى بآيات تكون علامة على أن ما يقوله النبي لا يقوله من عند نفسه، وإنما من عند الله تعالى.وبالمثل لم ير أحدٌ من البشر الله تعالى قط، لذا فإن إثبات وجوده تعالى يتطلب تقديم الأدلة التي تقرب لنا وجوده بحيث يتراءى للعيان، ويصدق العقل بأنه تعالى موجود فعلاً، وبأنه متصف بصفات شتى.إن مثل هذه البراهين تسمى في لغة القرآن الكريم آيات لأنها تظهر لتؤكد أن الله عالم الغيب أو أنه قادر مطلق أو أنه حي قيوم.فمثلاً يدلي النبي بخبر غيبي، ويعلن أن الله تعالى هو الذي أخبره بذلك.ومعلوم للجميع أن الإنسان ليس بقادر على رفة الغيب، إذ لو كان عالما بالغيب لما عزا خبر الغيب إلى الله تعالى، بل عزاه إلى معرف نفسه هو، فإننا نشاهد يوميًّا أن الناس يعزون إلى أنفسهم محاسن الآخرين.فمثلاً يقرأ البعض كتابًا لشخص آخر، ثم ينشرون مضامين الكتاب في مقال باسمهم.يعزون إلى أنفسهم جهود المصنف الحقيقي الجالس في قطر آخر من العالم.بل الحق أن الناس يسعون دائمًا أن يعزوا إلى أنفسهم كل عمل حسن.فذات مرة ذهب فريق مدرستنا الأحمدية إلى مدينة أمرتسر لمباراة مع الكلية السيخية التي تدعى "الخالصة"، ولم أكن إذاك أدرس في المدرسة ولكني كنت على صلة معها حيث كنت أكملت دراستي فيها مؤخرًا، فذهبت أنا الآخر مع الفريق.ولما وصلنا إلى أمرتسر بقى اللاعبون هناك، وذهبت أنا إلى لاهور وحين رجعت استقبلني على

Page 414

الجزء الخامس ٤٠٧ سورة مريم محطة القطار بعض ممن كانوا أشد صلة بي.فقال لي أحدهم إن مباراتنا كانت مثيرة، وقد أثنى علينا الجماهير كثيرًا، وأننا قد حققنا فوزًا رائعا.ففرحت بالخبر بطبيعة الحال وقلت الحمد لله.ثم قال لي هذا إن الناس قد أشادوا بكل واحد منا، إلا أنهم قد أُعجبوا بأداء قائد فريقنا إعجابًا كبيرًا.ففرحت بذلك أكثر لأن قائد الفريق كان نسيبًا لأخي مرزا بشير أحمد، وكان لاعبًا رائعا بالفعل.ولكن هذا الشخص قال فيما بعد: لقد حدث شيء غريب وهو أن الجميع كانوا يظنون أنني أنا قائد الفريق.مما يعني أنه نسب إلى نفسه كل الثناء الذي كان من حق القائد.إذا فالقاعدة أن الناس إذا رأوا في غيرهم ما هو حسن سعوا أن يعزوه إلى أنفسهم.فيسرقون أبيات الآخرين وينشرونها باسمهم ولكن متى يوجد في الدنيا غبي هو من فحول الشعراء، وقد نال من كبار الشعراء والأدباء الثناء الكثير، ومع ذلك يقول عن قصائده إنها ليست من ،قريحتي، بل هي من إبداع فلان؟ اللهم إلا بعض الأغبياء ذوي المستوى الوضيع الذين يحاولون قرض الشعر ثم يعزونه إلى فحول الشعراء بغية المدح والثناء.فيقولون مثلاً هذا البيت لأنوري أو خاقاني أو سعدي أو الحافظ الشيرازي..مثلما يلفّق بعض الكذابين روايات من عند أنفسهم ثم يقولون هذا من حديث رسول الله.ولكنك لن تجد شخصا يملك ناصية الكلام ثم يعزو كلامه إلى غيره، أو شاعراً بارعًا ينسب شعره الرائع إلى غيره، إذ لا أحد في الدنيا يستعد أن يعزو إلى الآخرين ما يزيده شرفا وصيتًا.والآن تدبر أمر النبوة آخذا هذه القاعدة في الحسبان.فإن النبي حين يُبعث إلى الدنيا ويدلي بأخبار الغيب أمام أهلها فلا يقول إني أنا الذي أقول ذلك، بل يعلن أن الله تعالى هو الذي أخبره بهذا.فلو كان النبي بنفسه عالما بالغيب فما الداعي أن يعزو تلك الأخبار الغيبية إلى الله تعالى.إنه يعزوها إلى الله تعالى لأنه يكون على يقين تام بأن الله تعالى هو الذي قد أطلعه على ذلك الغيب، وإلا فما هو الداعي لأن يعزو ميزته هذه إلى الله تعالى؟ هذه أسماء فحول الشعراء في الفارسية.(المترجم)

Page 415

الجزء الخامس ٤٠٨ سورة مريم ثم إننا نشاهد أن تلك الأخبار الغيبية تتحقق أيضًا، وهذا يكشف للدنيا أنه صادق في دعوى النبوة، وأنه على صلة الله تعالى.كما يدل هذا أن هناك عالمًا مع بالغيب.وبالمثل فإن الآيات الإلهية تبرهن على أن الله حي قيوم.فمثلا يكون هناك مريض قد أشرف على الموت، وصار بطيء النبض متقطع الأنفاس، فيمسه عبد من عباد الله تعالى ويدعو له بالشفاء، فتظهر فيه آثار الحياة من جديد، فتعود إليه أنفاسه وتستقيم حواسه، ويستعيد قوته وطاقته؛ وكل من يرى هذا المشهد يوقن بأن الله تعالى هو الحي القيوم.ذلك لأن عبد الله هذا ما كان قادرًا على أن يشفي هذا المريض وينقذه من الموت، ولكن ببركة دعائه وابتهاله أمام الله تعالى عادت الحياة ثانية إلى ذلك الجسد الشبيه بالميت مما شكل برهانا أكيدًا على أن ربنا حي قيوم.أو يكون هناك مثلاً شخص لم يقدر على الإنجاب رغم زواجه من أعوام كثيرة.فيدعو له أحد الأنبياء أو الصلحاء الأخيار، فيُرزق الأولاد.فتشكل هذه الآية برهانًا على أن ربنا خالق.فثبت من ذلك أن الآيات هي العلامات التي تظهر للدلالة على هدف أسمى، فتُثبت وجود البارئ تعالى مثلاً، أو تبرهن على صدق الأنبياء.أي أنها تظهر من أجل غاية عظمى، ولا تظهر في غير محلها لغوا وعبئًا، مثلما هو شائع عندنا أن الحمالين في مكة يخرجون منها بحميرهم ويحملونها أحجاراً، وعندما يدخلون مكة ثانية تتحول الأحجار بطيحًا.فما العلاقة بين الحجر والبطيخ، وما الداعي لمثل هذه الشعوذة؟ ولكنك سترى بالتأكيد آية وأية آية فيما أعلن الله تعالى به بشأن الكعبة المشرفة.لقد أعلن الله تعالى أنها ستظل محفوظة ممن يعتدي عليها.فجاء أبرهة لهدمها، ولكنه لقى الهزيمة النكراء رغم كل ما كان يملكه من قوة وطاقة.كما ستجد آية كبرى فيما حصل مع رسول الله ، حيث أخبر حين كان وحيدا في مكة أنه سيتغلب في آخر المطاف؛ وبرغم الجهود المستميتة من قبل أهل مكة أصبح النبي ﷺ غالبا ، وصار أعداؤه مغلوبين هذه هي الآيات التي تبرهن على أن الله

Page 416

٤٠٩ سورة مريم الجزء الخامس تعالى موجود، وأن محمدا رسوله الحق، وأن هناك ربًّا قويا يسانده ويؤيده بنصره.ثم من الآيات ما يكون برهانًا ولكنه لا يبين هدفه وغرضه، ولكن الله تعالى يبين هنا أن آياته بينات حيث قال وإذا تُتلى عليهم آياتنا بينات..أي أنه لا يكون وراءها هدف وغاية فحسب، بل تدل على غايتها بوضوح وجلاء، وتبين الغرض من ظهورها بمعنى أن الآية لا تكون عملية عبث وإنما تبرهن على وجود الله تعالى وصدق رسله؛ وليس هذا فحسب، بل تظهر في محلها تمامًا وفق مقتضى الظروف والأحوال.فالآية البينة هي: أولاً: ما يظهر للدلالة على شيء أسمى ولتقريبه من الأفهام والعقول.ثانيا: ما لا يكون عملاً ،عابيًّا، بل تكون وراءه غاية نافعة ويكون بحسب مقتضى الحال.الشهير ذهب سيدنا المسيح الموعود اللي ذات مرة إلى مدينة "لدهيانه".وكان الصوفي أحمد جان، الذي كان من أولياء الله العظام، والذي هو حمو الخليفة الأول العلي، والذي كان قد قرأ الكتاب الشهير للمسيح الموعود "براهين أحمدية"، ففرح بخبر مجيئه العليا في مدينته فرحًا كبيرًا، وأمر أحد مريديه الذي كان من أمراء كابول أن يدعو المسيح الموعود الله إلى مأدبة طعام.فحضر اللة المأدبة في بيت الأمير، وتناول الطعام.ولما أراد الانصراف صحبه الصوفي أحمد جان يشيعه إلى مكان إقامته ال.وكان الصوفي نفسه من مريدي أحد الصوفية الشهيرين بقرية رتر چهتر" الواقعة في منطقة غورداسبور.وفي الطريق سأله المسيح الموعود اللة : سمعتُ أنك قد خدمت هذا الصوفي من رتّر" "چهتر اثني عشر عاما، هلا أخبرتني ماذا نفعتك صحبته؟ فأجاب : لقد كان هذا الرجل من كبار أولياء الله تعالى، وقد انتفعت من صحبته نفعًا عظيمًا.ثم أشار إلى شخص قادم من ورائهما وقال: وقد اكتسبت ببركة هذا الولي الكبير طاقة خارقة بحيث إني لو نظرتُ إلى هذا الشخص ۱۱." الماشي وراءنا لسقط على الأرض من فوره مضطربًا مرتجفًا.فتوقف المسيح الموعود العليا على قوله ،هذا وسكت مليًّا، ثم قال وهو يحك بعصاه الأرض: فما الفائدة

Page 417

الجزء الخامس 21.سورة مريم فيه لك ولذلك الشخص؟ ولما كان الصوفي أحمد جان من أهل الله المقربين أدرك من فوره ما يقصده المسيح الموعود الل، وقال: ها إني أعاهدك اليوم أني لن أعود لمثل هذه الفعلة أبدًا.لقد فهمت أنه عمل غير صالح وشيء لغو، لا علاقة لـه بالدين أو الروحانية (تاريخ الأحمدية مجلد ٢ ص ٤٩-٥٣).صلة هي فترى أن العملية التي كان يقوم بها هذا الصوفي كان أمرًا خارقا يدل على قوته الخارقة حيث كان يجعل الشخص المارّ بالشارع يخر على الأرض، ولكن ما علاقة ذلك بالروحانية؟ فمثله كمثل شخص يلكز شخصا فيلقيه على الأرض.وإن الشخص الماهر بالتنويم المغناطيسي حين يركز نظره على غيره ويلقيه على الأرض يكون هذا دليلاً على أنه يملك قوة خارقة، ولكن ليس ذلك دليلاً على أنه على مع الله تعالى.فكانت هذه العملية آية ولكن لم تكن آية بينة، لأن الآية البينة تلك التي تدل على الغاية التي وراءها.وقد بين الله تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن المعجزات الإلهية لا تكون آيات فقط، بل تكون آيات بينات أيضًا حيث تدل على غرضها وغايتها، والفائدة التي يمكن أن تجنيها الدنيا منها.فمثلاً قد أخبر سيدنا المسيح الموعود الله بناء على إعلام رباني عن تفشي الطاعون عن قريب في منطقة البنجاب (أيام الصلح ص ٣٦١)، فتفشي الطاعون فعلا فلم تكن هذه آية فحسب بل كانت آية بينة أيضا.ذلك لأنه قد بين سلفًا أن الناس قد أخذوا ينحرفون عن شريعة الله تعالى ويقتربون من الجحيم، لذا فقد قرر الله عذابهم بالطاعون حتى يدركوا أنهم قد أخطئوا فيعودوا إلى الله تعالى ثانية.ولو أنه الا اكتفى بإعلانه أن الطاعون سيتفشى في هذه المنطقة وأنه سيحصد أعدائي حصادًا، وسيُهلك عددًا من أتباعى أيضا، لكانت هذه آية، ولكن لظلت آية غير بينة.قصارى القول إن الله تعالى قد كشف بهاتين الكلمتين عن حقيقة المعجزات الإلهية عند الإسلام، وبين أن الآيات الإلهية إنما تظهر لهدف سام وغاية عظمى، وأنها تكشف عن هذه الغاية السامية، كما أنها تقع بحسب مقتضى الحال.

Page 418

الجزء الخامس ٤١١ سورة مريم فالله تعالى يقول وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديا...أي عند تلاوة هذه الآيات البينات يسخر الكافرون من المؤمنين وكأنهم يقولون لهم: "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة"..أي ليس عندكم إلا الوعد بعشرة، وأما نحن فعندنا الواحد نقدا.تقولون لنا اتّبعونا تنالوا الجنة والصلات الجزيلة، وتحظوا برضوان الله تعالى وزلفاه؛ ونحن نقول لكم في الجواب: دَعُونا من الأدلة الأخرى، وقارنوا بين حالتكم وحالنا.فأحذيتكم ،مرقعة وأسمالكم بالية، وطعامكم شحيح، وبيوتكم خاوية؛ في حين أن كل واحد منا يملك عشرات العبيد ،والخدم وبيوتا مليئة بطائل الأموال وغالي الأثاث.ونحن أكثر عزا وسيادة ومنصبا وعددًا.فما قيمة ما تعدوننا به عن الغد إزاء ذلك؟ هلا رأيتم أي الفريقين منا هو أحسن دارًا وأكثر أثانًا؟ هل يحضر النبلاء مجالسكم أم مجالسنا؟ هل يأتيكم الناس طلبًا للعون أم إيانا؟ فإذا كنا نحن أكثر منكم مالاً وثراء وسلطة وعددًا، وإذا كنا نحن أكثر نفوذا بين النبلاء والشرفاء، وإذا كنا نحن أصحاب المناصب الحساسة، وإذا كنا نحن الذين نملك العدة والعتاد ؛ فأي الفريقين منا يعتبر الأفضل؟ والحق أن هذا الدليل ليكفي لإفحام الخصم وتبكيته، إذا لم يتم الرد عليه.وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَثًا وَرِيَا (3) شرح الكلمات Vo أثاثا : الأثاث متاع البيت؛ وقيل: هو ما يُتخذ للاستعمال والمتاع؛ وقيل: المال كله (الأقرب).رنيا: الرني: المنظر (الأقرب).التفسير: يرد الله تعالى هنا على حجتهم ويقول إن حجتهم مقبولة من دون شك إذا كانت الثروة التي بحوزتهم تشكل ضمانًا بأن حالهم غير قابل للزوال.نحن

Page 419

الجزء الخامس ٤١٢ سورة مريم نسلّم بأنهم يملكون الأموال والثروة التي لا يملكها المؤمنون.ولكن هلا فكروا فيما جرى لمن قبلهم وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسنُ أثاثا ورئيا.والقرن هو مئة عام، كما يطلق على مدة قريبة من ذلك مثل الثمانين والتسعين عاما.والقرن أهل زمان واحد وأهل جيل واحد والوقت من الزمان؛ وكل أمة هلكت فلم يبق منها أحد (الأقرب).أشد منهم فالله تعالى ينبه الكفار بذلك أنهم لو فكروا لعلموا أنه قد خلا قبلهم قرون من الناس الذين أهلكناهم كلهم حتى لم يبق منهم أحد، وذلك بالرغم من أنهم كانوا أحسن من هؤلاء متاعًا وكانت نواديهم أغلى أثاثًا من نوادي هؤلاء..أي كانوا قوةً وشوكة وأكثر منهم رعبًا ،وهيبة ومع ذلك دمرناهم.فما دامت الأمم التى كانت أحسن من هؤلاء مالاً وقوة وشوكة قد دمرت فلا يحق لهم أن يدعوا بأنهم لن يهلكوا أبدا.لسنا هنا بصدد فيما إذا كان الله يريد أن يهلكهم أم لا، وإنما نؤكد بهذا على خطأ زعمهم أنهم كيف يمكن أن يهلكوا مع أنهم أكثر أموالاً وقوة من المؤمنين.ولما كان الحديث هنا يدور عن المسيحية فهناك سؤال يطرح نفسه هنا: من هؤلاء الذين كانوا أكثر مالاً وقوةً وعتادًا من هذه الشعوب المسيحية؟ فإنها تملك اليوم من الأموال والأثاث والقوة والعتاد ما لم يتيسر لأي حكومة من قبل؟ فليكن مفهوما أن المال والقوة أمر نسبي في الحقيقة.فمثلاً هناك شخصان يملك أحدهما ألف جنيه، ويملك الآخر مئتي جنيه.وهناك شخصان آخران يملك أحدهما عشرة ملايين جنيه، بينما يملك خصمه أيضًا عشرة ملايين جنيه إلا ألف جنيه.فبالرغم أن الذي عنده عشرة ملايين جنيه هو أكثر مالاً بكثير من الذي عنده ألف جنيه فقط، ولكنه في الواقع أضعف منه قوة بالنظر إلى ما يملكه خصمه.ذلك لأن الذي يملك ألف جنيه فقط هو أقوى من عدوه خمسة أضعاف، أما هذا الذي بحوزته عشرة ملايين فإن منافسه لا ينقصه إلا ألف جنيه، فثبت أن ضعفه حيال خصمه قليل جدا نسبيًّا.فثبت بذلك أن موازنة القوة أمر نسبي، حيث لا يُنظر فيه

Page 420

الجزء الخامس ٤١٣ سورة مريم إلى ما يملكه الطرف الواحد من مال وقوة، بل يؤخذ في الحسبان أيضا ما يملكه الطرف المنافس، ثم يتم الحكم بحسب النسبة الحاصلة بينهما.وعندما نطالع التاريخ من هذا المنظور نجد أنه لم يوجد في عصر فرعون ملك آخر يمكن أن يقف ندا له قوة ومنعة.ولم يوجد في عهد الإسكندر في الدنيا كلها مثيل لـه في القوة والشوكة.ولم توجد في عهد جنكيز خان في الدنيا قوة تقف في وجهه.مما لا شك فيه أن أمريكا اليوم هي أكثر من جنكيز خان والإسكندر ونابليون وغيره مالاً وعتادًا ونظاماً عسكريًّا بآلاف المرات ولكن القوى المعادية لأمريكا هي الأخرى أكثر مالاً وقوة من الإسكندر وجنكيز خان ونابليون بآلاف المرات.لقد هبّ الإسكندر من اليونان وقطع مسافة أربعة آلاف ميل ليغزو الهند ولم تقدر أية دولة على الوقوف في وجهه بينما نجد أن أمريكا لما حاولت غزو كوريا لم تجد بدا من الانسحاب منها وبصعوبة بالغة.وهذا يعني الصين وروسيا تملكان اليوم قوة تماثل قوة الأمريكان فثبت أن أمريكا اليوم أضعف من الإسكندر وجنكيز خان رغم كل ما تملكه من عدة وعتاد، ذلك لأن نسبيًّا أعداء جنكيز خان أو الإسكندر كانوا أضعف بكثير من أعداء أمريكا.أن أو انظروا مثلاً إلى ما كان يتمتع به ملوك ميديا وفارس أو الملك البابلي نبوخذ نصر من قوة ومنعة حيث لم يوجد حوله بمسافة آلاف الأميال من يقدر على التصدي لهم.وحيثما توجهوا بجنودهم استسلمت لهم الشعوب دونما مقاومة، وإذا حاربهم أحد لقي هزيمة نكراء.ولكن أمريكا لا تستطيع أن تتغلب على العالم كله، بل كلما تقدمت قليلا في جبهة وقفت الصين في وجهها، وإذا تقدمت في جبهة أخرى تصدت لها.روسيا.فتجد ثمة توازنًا للقوى بحيث يبدو أن الواحد ند للآخر تماما، أو أن الفرق بينهما ليس بكبير.أما الفرق بين هؤلاء الملوك القدامى وخصومهم فكان كبيرًا جدًّا.إذًا فلا شك أن أمريكا هي أكثر قوة ومنعة من هؤلاء الملوك القدامى فيما يبدو، ولكنها أضعف منهم نسبيا في الحقيقة.أجل ذلك يقول الله تعالى لهؤلاء القوم إننا ما دمنا قد أهلكنا في الماضي دولاً كانت أكثر منكم مالاً وقوة وعتادًا، فكيف تظنون أنكم لن تملكوا أبدًا.

Page 421

الجزء الخامس ٤١٤ سورة مريم قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا ) تماما التفسير : يبين الله تعالى هنا أن هناك سبيلاً واحدًا لبقاء الإنسان، وهو أن يسلك الطريق المستقيم، أما إذا انحرف عن سواء السبيل فيدرك كل عاقل أنه هالك لا محالة، عاجلاً أم آجلاً.إذ من المحال أن يسلك المرء طريقا خاطئًا، ويتجه إلى هوة الدمار ثم ينجو من السقوط فيها.إن الذي يسلك الطريق الخاطئ ثم يظن أنه ناجح فملثه كمثل جحا يقال إن شخصًا رأى جحا في شجرة وهو يقطع الغصن الذي هو جالس عليه فقال لـــه : لا تفعل هكذا وإلا سقطت على الأرض.فقال له : كيف عرفت أني سأسقط على الأرض؟ هل أنت نبي؟ اذهب لشأنك.فقال الرجل إن الأمر واضح جلي.إنك تقطع الغصن الذي أنت جالس عليه، وحين ينقطع سيسقط بك على الأرض حتمًا.قال: اتركني وشأني، فقد رأينا كثيرا من الناس يدعون بمثل هذه الدعاوى فذهب الرجل، ولما انقطع الغصن وسقط جحا على الأرض، جرى وراء الرجل الذي حذره من مغبة عمله فلحق به وأخذ يعتذر إليه ويقول: سامحني يا سيدي، فلقد أخطأت خطأ كبيرًا إذ لم أعمل بنصيحتك.لقد أيقنت الآن أنك نبي.فقال الرجل: إنني لست بنبي بل هذا ما يمليه علينا العقل والمنطق، وقلت ما دام هذا يقطع الغصن الذي هو جالس عليه فلا بد أن يقسط أيضًا.فقال :جحا كلا يا سيدي، إنك نبي بكل تأكيد، فأرجوك أن تخبرني الآن متى ستحين وفاتي؟ قال: كيف أعرف يوم وفاتك؟ فألح عليه إلحاحا شديدا، فقال الرجل لكي يتخلص منه: تموت في اليوم الذي ينزف الدم من فمك.وكان جحا حائكا، وذات يوم كان يسوي الخيوط للحياكة، فدخلت قطعة صغيرة من الخيط الأحمر في فمه واحمرت به أسنانه.فظنَّها المسكين دمًا وقال لزوجته: لقد حان موتي، فجهزي لكفني ودفني.

Page 422

الجزء الخامس ٤١٥ سورة مريم فمثل هؤلاء كمثل جحا الغبي.إذ ما دام الأمر الواقع يؤكد أنهم سائرون في طرق تؤدي إلى هوة الهلاك، فكيف يعترضون مثل جحا الغبي، على من يقول لهم إنكم هالكون حتما ؟ لو نظرت إلى روسيا وأمريكا لوجدتهما ندين، ولو اصطدمت هاتان القوتان ووقعت الحرب بينهما الآن لكانت النتيجة دمار الاثنتين كما دمّرت ألمانيا وإيطاليا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية.وهذا ما ينبه الله إليه في هذه الآيــــة ويقول إن الذي ثبت ضلاله لا يمكن أن يكون حول مصيره رأيان.فعليكم أيها الكافرون أن تنظروا هل أنتم في ضلال أم لا ؟ فإذا كنتم في ضلال فلا شك في صحة قولنا بأنكم الهالكون حتمًا في يوم من الأيام مهما كانت قوتكم وشوكتكم، لأنكم سائرون في طريق الخطأ والهلاك.أما قول الله تعالى فليَمْدُدْ له الرحمن مَدًّا فهو خبر ورد في صيغة الأمر من أجل التأكيد.ومن أساليب العربية إيراد الخبر بصيغة الأمر أحيانًا بغية التأكيد.والمعنى أن الله الرحمن سيمنح هذا الشخص مزيدًا من المهلة حتمًا، لكي تراه الدنيا أولاً في قوته وشوكته وأبهته لفترة طويلة، ثم تشاهد هلاكه الذي سيكون نكــــالاً للآخرين، حتى تعترف بأهمية هذه المعجزة.وكأن الله تعالى يقول إن أحوال هؤلاء القوم تدفع المرء العادي ليدعو علـيـهم قائلا: دمر الله عليهم وأبادهم، بيد أن هذه المعجزة تبلغ من الأهمية والعظمة بحيث إن الشخص العاقل الروحاني سيقول : فليمدُدْ له الرحمن مَدًّا..أي فليزدهم الله رقيًّا وصعودًا، لأنهم كلما ازدادوا صعودًا كان في سقوطهم آية عظمى.ثم يقول الله تعالى حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة.واعلم أن قوله تعالى إما العذاب وإما الساعة لا يدل على الشك والريبــة في مجـــيء العذاب أو الساعة عليهم، بل له معنى آخر.فمن سنة الله المستمرة أنه لا يعذب شتى الشعوب والحكومات في وقت واحد ولا على منوال واحد، بل يحل عذابــــه أولاً على شعب، ثم بعد فترة يحل على شعب آخر، ثم بعد مدة على شعب ثالث.كما أن هناك أمما لا يحل بهم العذاب وإنما تحل بهم الساعة وهاتان السنتان الإلهيتان كلتاهما جاريتان معًا.فقوله تعالى لا يعني أننا لا ندري هل هم يرون العـــذاب أم

Page 423

الجزء الخامس ٤١٦ سورة مريم الساعة، بل المراد أن بعضهم يرى العذاب وبعضهم يرى الساعة.وهذا ما يحصـــل دائما.وعلى سبيل المثال كانت الحرب العالمية الأولى بمنزلة الساعة لقيصر ألمانيا ولقيصر روسيا ولملك تركيا حيث قُضي عليهم جميعًا، بينما كانت بمثابة العـــذاب على إنجلترا وفرنسا وبلجيكا.أما الحرب العالمية الثانية فكانت بمنزلة الساعة على هتلر وموسوليني حيث قضى عليهما، ولكنها كانت عذابًا على إنجلترا وفرنسا حيث أصابهما الضعف الشديد.ولذلك يقول الله تعالى إذا جاء اليوم الذي يتحقق فيه وعدنا فيرى بعضهم الساعة.العذاب وبعضهم واعلم أن الساعة تعنى دائمًا القيامة أو القرار النهائي.ولكنها لا يمكن أن تؤخذ هنا بمعنى القيامة لأن القيامة ليست بديلاً للعذاب، لذلك فإن الساعة تعني هنا القرار النهائي بصدد شعب لأنه يكون بديلاً للعذاب.ذلك أن القرار لا يصــدر بصــــدد الشعوب كلها في وقت واحد بل سيرى بعضها العذاب، بينما سيقضى على بعضها الآخر، وهكذا سيصدر القرار النهائي في الجميع واحدًا واحدا.وهذا يوضح فينزل على بعضهم العذاب، بينما تحل على الآخرين ساعتهم.ثم يقول الله تعالى فسيعلمون من هو شر مكانًا وأضعف جندًا..أي حين ينظر هؤلاء تأييد الله ونصره للمؤمنين سيضطرون للاعتراف بأن المؤمنين كانوا مؤهلين للرقي والازدهار وإن كانوا ضعفاء وأننا كنا مستحقين للهلاك والدمار وإن كنا أقوياء.فمثل الفريقين كمثل شجرة ونبات صغير فالشجرة ضخمة طويلة الأغصان في الظاهر، وعمرها مئة سنة، وصارت نخرة متآكلة من داخلها، وأما النبات فصغير ناعم يخرج من النواة.فلا شك أن هذا النبات الصغير يبــــدو ضئيل القدر جدا إزاء تلك الشجرة الضخمة القوية في بادئ الرأي، ولكـــن كـــــل عاقل يدرك أن هذا النبات هو الذي سينمو ويكبر ويزدهر في المستقبل، لأن أمامه عمره كله، وأما تلك الدوحة النخرة المتآكلة البالغة مئة سنة فمآلها السقوط والهلاك أن الله تعالى سيعامل الشعوب المسيحية بحسب سنته هذه المستمرة، عاجلاً أو آجلا.رأسه

Page 424

٤١٧ الجزء الخامس سورة مريم وهذا ما يبين الله تعالى هنا ويخبر أنه عند ظهور النتيجة سيقر هؤلاء القوم بأنهم كانوا مستحقين للهلاك، وأن المؤمنين هم الذين كانوا مؤهلين للترقي والازدهار، كما ينكشف عليهم أي الحزبين كان أضعف جندا، أجند الله أم جندهم؟ في هذه الآية إشارة إلى أن هؤلاء الشعوب المسيحية سيصابون بالزهو والغرور بحضاراتهم الراقية وجنودهم الجرارة في ذلك الوقت، وأما المؤمنون فلن تكون مؤهلاتهم بادية للناس، لذا فستعيّر الشعوب المسيحية أهل الشرق بسبب مستوى حياتهم المتدني، ويقولون للمؤمنين نحن أكثر منكم جندًا وأشد منكم قوة.ولكن الله تعالى سينزع منهم ثرواتهم في آخر المطاف لأنه قد قرر إنهاض المؤمنين ومحو الكافرين.فالمؤمنون سيزدادون رفعة وصعودًا، وأما الكافرون فيزدادون سقوطًا يوما بعد يوم، حتى تقر الدنيا بأن هؤلاء ماضون قدمًا إلى الرقي والازدهار، وأما أولئك القوم فهم إلى زوال وانحطاط.وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَقِيتُ الصَّلِحَتُ خَيْرُ عِندَ وو رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مِّرَدًّا ) التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنه كلما تغيرت الظروف ازداد المؤمن إيمانًا إيمانه.بمعنى أن أي تغير لا يبطئ قدم المؤمن ولا ينقص من إيمانه شيئا، بل يزيده قوة على قوته.خذوا جماعتنا مثلا، فإن كل محنة واختبار قد مرت به قد زادها تقـــــدما وازدهارا.فكم كانت شديدة الصدمة التي أصيبت بها جماعتنا عند خروجنا مـــــن قاديان.ذلك لأن الأحمديين كانوا مصابين بنوع من الشرك بشأن قاديان، حيث ظنوا أنهم لن يخرجوا منها أبدًا.وعندما قُضي على شركهم هذا أصيبوا بهزة عنيفة حتى تضعضع كثير من ضعاف الإيمان منهم.فكان بعضهم يقولون بأفواههم بأن الأحمدية حق، ولكنهم كانوا مرتابين في قلوبهم وقالوا إذا كانت الأحمدية حقا لما من قاديان.ولكن انظر إلى الازدهار الكبير الذي حققته جماعتنــا بعـد هناك.عندما كنا في قاديان كان يفد إليها من خارج الهند الواحــــــد أو أُخرجنا الخروج من

Page 425

الجزء الخامس ٤١٨ سورة مريم الاثنان للتعليم خلال عدة سنين.أما بعد الهجرة منها فبدأ الكثيرون من بلاد عديدة يفدون إلى المركز على التوالي من أجل دراسة الدين فيوجد اليوم أيضــا حــوالي عشرة أو اثنا عشر طالبًا من الأجانب يتعلمون الدين هنا في المركز.كما نتلقى من حين لآخر طلبات كثيرة من الآخرين الكثيرين الذين يريدون المجيء هنا لهذا الغرض، ولكنا نضطر لرفض طلباتهم لقلة مواردنا.ثم إننا عندما كنــا في قاديـــــان كانت لنا في الخارج مراكز قليلة للدعوة والتبليغ ولكنا قد أرسلنا الآن عديدا من الدعاة إلى بلاد أخرى أيضًا، ويطلع الناس على الأحمدية على نطاق أوسع.كما أن ميزانية الجماعة قد زادت الآن على ما كانت عليه في قاديان.فالرقي الذي حققناه في كل المجالات مدهش حقا.وهذه هي الحقيقة التي قد نبه الله تعالى إليها هنا، فهو ول لا يزال يزيد المؤمنين رقيًّا ورفعة عند كل خطوة.صحيح أنهم ليسوا في مأمن من المحن والصدمات، ولكن كلما انقشعت غمامة المعارضة وانجلت المحنة، تبين أن أعداء الحق قد أصابهم الضعف والوهن، وأن المؤمنين قد ازدادوا قوة إلى قوتهم.ثم يقول الله تعالى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا..أي أن الحسنات التي تبقى هي الأفضل عند الله تعالى.بمعنى أن رأس مال المرء إنما هـو أعماله التي تحظى بالقبول لدى الله تعالى؛ أو بتعبير آخر إن الباقيات الصالحة تدّخر في خزانة الله تعالى.6 يقول المسيح العلي: "لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يُفسد السوسُ والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون.بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا يُفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون" (متى ٦:.(۱۹،۲۰ بهم فبما أن المسيح الله قد أوصى قومه بألا يدّخروا المال على الأرض، وإنما الحري أن يدّخروه في السماء، لذا قد نبه الله تعالى المسيحيين هنا في القرآن الكريم أن كل الكفاءات والقدرات التى تتظاهرون وتتفاخرون بها إنما تتعلق بالأرض.إن مدافعكم وقنابلكم سواء العادية منها أو النووية، وإن جنودكم وأحزابكم وتجاراتكم كلها أمور أرضية دنيوية.أما المؤمنون الذين تظنون أنهم ضعفاء لا حيلة

Page 426

الجزء الخامس ٤١٩ سورة مريم بهم ولا قوة، فمَصرَفهم الذي يدّخرون فيه هو في السماء.هل نسيتم قول المسيح إن ما يُكنز في السماء محفوظ، وأن ما يُكنز على الأرض هو غير محفوظ.إن باقياتهم الصالحات مدخرة في البنك السماوي الذي لا يعرف الإفلاس أبدا، وإنها خير ثوابا وخير مردا..أي أنهم سينالون هنالك رؤوس أموالهم مع أرباحها، حيث إن لفظ ثوابا إشارة إلى الربح ، و مرا إلى رأس المال.فالله تعالى ينبه هـؤلاء الشعوب لقد أصابكم الزهو ببنوككم، وترون أنه لا بد لكم مدخرات فيها حــــــى تكسبوا الربا عليها أضعافا مضاعفة، ولكن قد نسيتم أن المال الحقيقي إنما هو مــا يُدخر في البنك الإلهي، أن الربح الحقيقي إنما هو ما يعطيه الله من فضله.۷۸ أَفَرَءَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِنَايَتِنَا وَقَالَ لَأُوتَينَّ مَالاً وَوَلَدًا ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (2) ۷۹ التفسير: يقول الله تعالى هنا متسائلاً: إن هذا الذي يكفر بآياتنا زاعما أن ماله سيزيده ثراء حيث يستثمره بالتجارة فيربح المزيد من المال، وأن أولاده سيتسببون في ازدهار عشيرته وقبيلته، فعنده كل الوسائل التي تزيده مالاً ونفرًا، أطّلَـ الغيب ؟ ألم يُهلك الأولون رغم كثرة أموالهم؟ ألم يدمّروا رغم كثرة أولادهم؟ ألم يكن قوم عاد قوة عظيمة؟ كانوا في يوم من الأيام يحكمون الجزيرة العربية كلها والعراق وفلسطين والشام، أما اليوم فإن علماء الآثار يبحثون عن آثارهم الباقية في بطن الأرض، وإذا وجدوا شيئا من آثارهم يفرحون ويبتهجون وكأنهم قد قاموا بإنجاز تاريخي عظيم.ثم كم بلغ الفراعنة من المنعة والعظمة؟ كان الناس يرتجفون بسماع اسمهم، وبلغ غرورهم بعظمتهم أنه إذا خرج أحدهم إلى بلاطه وضع على وجهه النقاب ظنا منه أنه لو رأى أحدٌ من الرعايا وجهه لأصيب بالجذام.أما اليوم فتُستخرج جثثهم المحنطة وتوضع في المتاحف، ويقال هذه مومياء فرعون كذا وتلك مومياء فرعون ذاك.ولقد رأيت بنفسي هذه الجثث المحنطة في المتحف المصري.وتوجد بعض هذه المومياوات في فرنسا.ويسعى الأمريكان أن يأخذوا إلى بلـــدهـم

Page 427

الجزء الخامس ٤٢٠ سورة مريم مومياء أحد من الفراعنة.وهذا يعني أن الفراعنة أصبحوا جثثًا تتفرج عليها الناس في المتاحف كما يتفرجون على الأواني القديمة.فمتى خطر ببالهم أنه سيفعل بحثثهم هذا في يوم من الأيام؟ فهؤلاء القوم الذين يدعون بأنهم لن يهلكوا أبدا لأن عندهم الأموال ولأن أولادهم مستمرون في الترقي والازدهار، يقول الله تعالى فيهم أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا..أي هل تيسر لهم علم الغيب بأنهم لن يهلكوا، أم أن الله الرحمن قد وعدهم بهذا؟ ذلك لأن معرفة علم الغيب أو الوعد عند الله هما الأمران اللذان يمكن أن يبنوا عليهما ادعاءهم بعدم الهلاك، أما كثرة الأموال والأولاد فلا يمكن أن أحدا من الدمار، إذ لم تزل القوى الدنيوية العظيمة تملك وتباد حتى اليوم.ينجي الحق أن لأخبار الغيب مصدرين أولهما المنجمون والرمالون والكهان وغيرهم الذين يتنبؤون في زعمهم بشتى الأخبار المستقبلية، والمصدر الثاني هو الله تعالى الذي رسله على أخبار الغيب؟ ولذلك ذكر الله هنا هذين المصدرين، وقال أطلع الغيب..أي هل ما يدعون به هو نبأ أدلى به أحد المنجمين وغيرهم، أم اتخذ عند الرحمن عهدًا..أي أم أن نبيًّا من أنبياء الله تعالى أخبرهم بهذا؟ يُطلع كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (ع) شرح الكلمات كلا: ورد في المفردات: "كلا، ردح وزجر وإبطال لقول القائل".فالمراد من "كلا" أن الكلام الذي مرّ من قبل غلط، وإنما الصحيح ما يقال الآن.التفسير: يعلن الله تعالى أن كل ما يقوله هؤلاء كلام فارغ غلط، إذ لم يتيسر معهم أي عهد سنكتب ما يقول..أي لن ننسى قولهم الأُوتَيَنَّ مالاً وولدا ، بل لا بد أن نأخذه في الحسبان لنحاسبهم عليه.لهم علم الغيب، كما لم يقطع الله

Page 428

الجزء الخامس ٤٢١ سورة مريم لن ننسى أنهم قد ادعوا بهذه الدعاوى أمام عبادنا، ومن واجبنا أن نفضحهم أمامهم أيضا.ثم قال الله تعالى ونَمُدّ له من العذاب مَدًّا..أي كما أننا مددنا لهم حبل المهلة طويلاً حتى أخذهم الزهو والغرور بقوتهم وشوكتهم، فعيّروا المؤمنين بضعفهم وقلة حيلتهم، فمن واجبنا كذلك أن نمد فترة عذابهم أيضًا.وكأنه تعالى يقول إن إمهالنا لهؤلاء القوم طويلا قد عرّض عبادنا المؤمنين للخزي والهوان طويلا، حتى بدوا أمامهم ضعفاء حقيري الشأن، كما عرّضنا بذلك الإسلام للمطاعن، فمن واجبنا الآن أن نطيل فترة عذابهم أيضًا انتقامًا للمؤمنين، لكي يطمئنوا بأن هناك من يعطف عليهم ويرعاهم.= وَنَرْتُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا 시 التفسير: اعلم أن قوله تعالى ونرثه ما يقول تقديره: نرث منه ما يقول.وأما ما يقول فقد مضى شرحه من قبل في قول الله تعالى قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خيرٌ مقاماً وأحسنُ نديًّا، وقول الله تعالى وقال لأُوتَيَن مالاً وولدا.فالمراد من ما يقول هو زهوهم بثرائهم ومالهم وتفاخرهم بمكانتهم وأولادهم.فالله تعالى يعلن هنا أنه سيرث منهم هذه الأشياء التي يتباهون بها، أي سينزع منهم أموالهم وثراءهم، وعزتهم ومناصبهم وأولادهم أيضًا.ثم يقول تعالى ويأتينا فردًا..أي أنه سيحضرنا وحيدًا منفردًا.وكما ترى فإن الله تعالى لم يشر هنا إلى المال وإنما اكتفى بالإشارة إلى كونه وحيدًا فردًا.ذلك لأن أصحاب المرء نوعان: النوع الأول هم أولئك الذين يكونون معه بسبب القرابة كأب وأم وولد وأخ وأخت وزوجة والنوع الثاني هم أولئك الذين يجتمعون حول المرء من أجل بعض المكاسب التي هي نتيجة حتمية للمال والعزة.وكأن هؤلاء طماعون في المال أو العزة أو الصيت في الحقيقة، وكلما رأوا عند أحد مالاً ونفوذا صاروا من أصحابه وأصدقائه يتملقون لـه طلبًا لبعض المنافع

Page 429

الجزء الخامس ٤٢٢ سورة مريم والفوائد.ولكن الله تعالى يعلن هنا أنهم حين يأتوننا يأتي كل واحد منهم واحد، ولن يرافقه عندها أي من أصحابه کفرد لقد بين الله تعالى من قبل أنه سينزع منهم أموالهم وأولادهم، أما الآن فيضيف ويقول ويأتينا فردًا..أي لأننا سننزع منهم أولادهم فيصبح كل واحد منهم وحيدًا فردًا؛ كما أننا سننزع منهم أموالهم أيضا فينفض من حولهم أصحابهم الآخرون الذين اجتمعوا حولهم طمعا في مالهم وكانوا يتملقون لهم كل حين فكأن قوله تعالى ويأتينا فردًا) جاء تأكيدًا لحرمانهم من المال والأولاد كليهما.حيث جاء لفظ (فردا) نفيًا للأولاد والخدم والأصحاب، أما الذين يجتمعون حولهم طمعا في المنافع والمكاسب فجاء نفيهم في نفي المال تلقائيا، لأن هؤلاء إنما يتخلون عن المرء حين لا يكون عنده مال ولا نفوذ.خذوا كفار مكة مثلاً، كم كان الرؤساء الكافرون يتباهون بأولادهم، ولكن الله تعالى نزع منهم أولادهم وجمعهم على قدمي محمد رسول الله ، جاعلاً أولئك الرؤساء الكافرين أذلاء صاغرين.لما خرج النبي الغزوة بني المصطلق تشاجر بعض الأنصار والمهاجرين على بئر ماء وقت الشرب، وطال الشجار واحتد حتى شهر القوم سيوفهم وكادوا يقتتلون.فاغتنم عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - الفرصة فتقدم وقال للأنصار، إنما هي أخطاؤكم التي رأيتم بسببها هذا اليوم التعيس فكنت أنصحكم دائما أن لا تخصوا المهاجرين بهذه الحفاوة والكرم وإلا ستتندمون على ذلك في يوم من الأيام، ولكنكم لم ترضوا بقولي.والحمد لله أنكم قد تنبهتم لخطأكم الآن قبل فوات الأوان، فلا يهمنكم شأنهم.دعوني أرجع إلى المدينة، فسترون أنه ليُخرجن الأعز منها الأذل) (المنافقون (۹) وسترون أن هذه الفتنة لن تطل برأسها بعد ذلك أبدًا.وكان هذا الشقي يقصد بـ الأعز نفسه، وبـ الأذل والعياذ بالله - رسولنا الكريم.فلما سمع الفريقان قوله فطنوا على الفور أن الرجل يريد الفتنة مستغلا شجارهم وحماسهم.فرجعوا إلى صوابهم وتصالحوا.ولكن أحد الصحابة جرى إلى رسول الله ﷺ وأبلغه الخبر.فدعا النبي له عبد الله بن أبي بن سلول -

Page 430

الجزء الخامس ٤٢٣ سورة مريم وأصدقاءه وسألهم عن الأمر.فأنكروا ما قالوا تمامًا.ولكن الحدث كان أمرا واقعا، فأخذ خبره ينتشر بين القوم حتى وصل إلى ابن رأس المنافقين هذا، حيث قيل لـــه إن أباك قد قال عند هذا الشجار مهددًا: إن أعز شخص في المدينة، أي أباك، لا بد أن يطرد أذل شخص فيها أي - والعياذ بالله - رسول الله.وكان ابنه فتى مؤمنًا مخلصًا، فلم يتمالك نفسه وذهب إلى النبي ﷺ من فوره، وقال: يا رسول الله، لقد سمعت أن أبي قد تكلم بمثل هذا الكلام؟ قال النبي : نعم، لقد بلغني ذلك أيضًا.قال: يا رسول الله هل عقوبة هذه الجريمة إلا القتل؟ فأرجوك، يا رسول الله، أنك إذا أردت قتل أبي فلا تأمر غيري بقتله؛ لأنك لو أمرت غيري بقتله فأخاف أن يغويني الشيطان ويحرضني على قاتل أبي، فأقتله من فورة الغضب والانتقام.فاسمح لي أنا بقتل أبي بيدي.فقال رسول الله ، أنا لا أرغب في قتله أبدا، بل إني لا أريد عقابه أصلا.قال : يا رسول الله حسنًا، إذا كنت لا تريد أن تعاقب أبي الآن، فالرجاء أنك إذا أردت قتله في وقت لاحق فمُرْني أنا ولسوف بيدي.فأعاد النبي كلامه وقال إنا لا نريد أن نعاقبه أصلا، وإنما نريد أن نعامله بلطف ولين.فخرج الفتى من عند رسول الله ﷺ صامتًا، ولكنه كان يحترق الكلمة التي تفوه بها أبوه، فكان لا يرتاح له بال ولم يقر لــه قرار.أقتله كمدًا بسبب فلما قفل جيش المسلمين وأراد أبوه أن يدخل المدينة قفز الفتى من على راحلته وصد طريق أبيه شاهرا سيفه وقال له: هل تتذكر ما قلت هنالك؟ ألم تقل ليُخرجن الأعز منها الأذل؟ فادعيت أنك أعزّ شخص في المدينة وأن محمدًا رسول الله هو - معاذ الله – أذل الناس فيها.فأُقسم بالله العظيم أنني لن أسمح لك بالدخول ما لم تعترف بأنك أنت أذل شخص في المدينة، وأن محمدا رسول الله هو أعز إنسان فيها، وإلا ضربتُ عنقك.فلما رأى هذا المنافق أن ابنه هو الذي يهدده بالقتل وقد استل السيف، ارتجف خوفًا وذعرا، وعلم أنه لا مهر اليوم من ترديد هذه الكلمات وإلا لقتل بسيف ابنه.فاعترف أمام جميع زملائه وأصدقائه الذين كان يتفاخر أمامهم بعزته وشرفه بأنه أذل شخص في المدينة وأن محمدا رسول الله ﷺ أعز إنسان فيها.وعندها سمح له ابنه بدخول المدينة.

Page 431

الجزء الخامس من ٤٢٤ سورة مريم فما أدلّ ذلك على صدق قول الله تعالى ويأتينا فردًا! حيث نزع من الكفار أبناءهم، فصاروا أبناء لمحمد رسول الله ﷺ وبالمثل فقد صار ابن أبي جهل أبناء رسول الله ﷺ كما صار ابن العاص (عمرو) من أبنائه.وصار ابن الوليد (خالد) من أبنائه..وصار ابن أبي سفيان (معاوية) من أبنائه.كان هؤلاء القوم من الذين يتفاخرون بأولادهم، ويتباهون بأموالهم، ولكن الله تعالى نزع أموالهم وأولادهم أيضًا.ويقول الله تعالى إن هذا هو ما سيحصل في المستقبل أيضًا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا.فلن تبقى عندهم أموالهم ولا أولادهم ولا أتباعهم المتملقون لهم، بل سننزع منهم هذه الأشياء كلها ونضعها في يد عبادنا المؤمنين، ليعود هؤلاء الكفار صفر الأيدي.وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَالِهَةً لِيَكُونُوا هُمْ عِزَّا شرح الكلمات عزا : العزُّ خلافُ الذلّ (الأقرب).۸۲ التفسير: يتضح من دراسة تاريخ عَبَدة الأصنام أن من أكبر أسباب اتخاذ الأصنام هو الرغبة في العزة والشهرة بين الناس فكانوا يصنعون الأصنام كبيرة ضخمة مثلما صنع المصريون "أبا الهول"، حيث يبلغ طوله مئات الأقدام، وقد اشتهر في العالم كله، ويزوره السياح من أقطار نائية، ويصابون بالدهشة برؤيته.وهذا يعني أنهم لم يكونوا يصنعون الصنم فقط، بل كانوا يصنعونه ضخما هائل الحجم حتى تنجذب إليه الأنظار تلقائيا، ويقول الناس إنه صنم عظيم.أو كانوا يبنون لها معابد ضخمة تصيب الناس بالهول والحيرة.ثم إنهم كانوا يقيمون لهذه الأصنام حفلات وأعراسًا وينفقون عليها الآلاف من المال، تفاخرا أمام الأمم المجاورة.فمثلا قد صنعوا بالهند صنم "سومنات" بإنفاق الملايين.وعندما يرى الرائي عيونه المصنوعة من الماس، ويرى على رأسه تاجا، وفي يده مقامع ذهبية، وأنه طويل القامة حتى يصل إلى السقف، يقول في نفسه إن ما عند هذا الصنم من

Page 432

الجزء الخامس ٤٢٥ سورة مريم ذهب وفضة وألماس وغيرها من الثروة والمجوهرات لا يمكن أن يكون بحوزة أجيال وأجيال من أولادي، فيمتلئ قلبه رعبًا ،وهيبة ولا يملك إلا أن يقر بعظمة القوم الذين اتخذوا هذا الصنم الهائل.فبما أن هؤلاء يصنعون الأصنام هائلة ضخمة، ثم يتفاخرون على جيرانهم بما أنفقوا عليها من أموال طائلة، فإنهم يزدادون عزا وعظمة بين الناس، ولذلك قال الله تعالى هنا واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا لينبه إلى أنهم ليسوا بحاجة إلى أن ينفقوا شيئا على الله تعالى لأنه موجود منذ الأزل، وإنما يصنع هؤلاء الأصنام الفخمة، وينفقون عليها الذهب والفضة والأحجار الثمينة ويبنون لها المعابد الكبيرة المزخرفة طمعًا في العزة والشهرة وتفاخرا بين الناس.وعلى النقيض انظروا إلى المساجد في الإسلام كم هي بسيطة! فلكم تتميز الكعبة المشرفة بطابع البساطة وكم هي بسيطة روضة رسول الله ﷺ! وليس صعبًا على المرء أن يدرك أن كل من يدخل المسجد الحرام إنما يدخله من أجل العبادة خالصة، وليس لأي شيء آخر إذ لا توجد فيها أي أحجار كريمة ولا مجوهرات ولا ذهب ولا فضة.كذلك من يذهب لزيارة قبر الرسول للدعاء إنما يزوره بمشاعر الحب والاحترام فحسب، وليس لأن يرى هناك مبنى عاليًا رائعا.من المؤسف أن المسلمين قد جعلوا المساجد الآن مدعاة للفخر والمباهاة.فيبنون المساجد الفخمة رياء وتفاخرًا، وينفقون على زخرفتها الملايين، بغض النظر عما إذا كان هناك بالفعل حاجة إلى المسجد أم لا وهل يصلي فيه أحد أم لا.لقد ذهبت لزيارة مسجد جامع بمصر، فوجدت لفيفا من الناس لا يتجاوز عددهم الأربعة أو الخمسة يصلون جماعة في زاوية منه بعيدًا عن المحراب.ولما فرغوا من الصلاة سألتهم هل تأخرتم عن الصلاة بالجماعة حيث تصلون الآن؟ قالوا كلا، بل هذا هو إمام هذا الجامع وهؤلاء هم المأمومون.قلت: فلم تركتم المحراب، وصليتم بعيدا عنه في زاوية منه.قالوا هذا هو عدد المصلين هنا، فنخجل أن نصلي نحن الأربعة فقط وراء الإمام في محراب هذا الجامع الكبير ، فنؤدي الصلاة في زاوية منه، حتى إذا رآنا أحد ظن أن هؤلاء قد تخلفوا عن الصلاة بالجماعة!

Page 433

الجزء الخامس ٤٢٦ سورة مريم إذا فإن المسلمين أيضًا قد أصيبوا بهذا المرض في هذا العصر، حيث لا يلتزمون بأداء الصلوات ولكنهم يبنون مساجد فخمة؛ مع أن جمال المسجد إنما هو في بساطته، وقد جعله الله تعالى سببًا للزينة ،الروحانية، وليس أن نتخذه سببًا للتعالي والتفاخر.بيد أنه لا بد من الأخذ في الحسبان سعة المكان للمصلين والنظافة والصحة، فهذا ليس زخرفة، بل ضرورة.معه وهي فقول الله تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا..يعنى أولاً أن هؤلاء يصنعون أصنامًا كبيرة ويبنون لها معابد ضخمة، ويقيمون عليها أعراسًا وحفلات طمعًا في العزة والشهرة والمدح والثناء فحسب.كما أن قوله تعالى ليكونوا لهم عنا..ينطوي على إشارة أخرى أيضًا أن الذي يعبد الصنم يعدّه سببًا للشفاعة، ومدعاة للتقرب إلى الله تعالى.إنه يظن أنه لا يصلح بنفسه للدخول إلى بلاط الله تعالى، فينضم إلى حاشية من هو من رجال البلاط الرباني، حتى يدخل معه في بلاط الله تعالى إنه يظن أنه آثم جدا وأنى لـــه الوصول إلى بلاط الله تعالى بنفسه، ولكن هذه الأصنام لها درجة وزلفى عند الله تعالى، ولو أني عبدتها لدخلت في حَدَمها، ووصلت معها إلى بلاط الله تعالى.شأنه شأن شخص يعمل خادمًا لحاكم المحافظة مثلا، فيدخل على المسؤولين الكبار.فالمشرك يظن أنه يتمكن من الجلوس في البلاط الإلهي من خلال عبادة الأصنام.ولكن الله تعالى في كل مكان وأبوابه مفتوحة لكل سائل وفي كل حين وآن.وقد نبه الله تعالى إلى ذلك في القرآن الكريم بقوله ألا الله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كَفَّار (الزمر: (٤)..أي ما كان الله ليقبل من الناس عبادة يشترك فيها غيره إن الذين يعبدون من دونه أشياء أخرى يحسبون أنهم إنما يعبدونها لتقربهم إلى الله تعالى ظانين أنها من المقربين لدى الله تعالى، وإذا كانوا على صلة معها دخلوا معها في بلاط الله تعالى؛ ولكن الغريب أن طالبي البلاط الإلهى هؤلاء لا يزالون في خصام دائم فيما بينهم ويشن بعضهم الغارات باسم صنمهم على عبدة الصنم الآخر.فلا شك أنهم سيحضرون في بلاط الله تعالى 6

Page 434

الجزء الخامس ٤٢٧ سورة مريم الله ولكن ليس كرجال البلاط، بل كمجرمين، وسوف يحكم بينهم ويكشف عليهم زيف دعاواهم.لقد ارتكب هؤلاء جريمتين: أولاهما الكذب حيث عزوا إلى الأصنام أو الآلهة الباطلة التي اتخذوها من دون الله تعالى صفات لا توجد فيها؛ وثانيتهما أنهم قاموا بنكران شديد لنعم الله تعالى فإنه تعالى، رغم عظمته وجبروته، يتفضل عليهم وينعم عليهم، ومع ذلك يلجأ هؤلاء إلى الآلهة الباطلة.فقال تعالى إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار..فبكلمة كاذب نبه إلى كونهم كاذبين إذ يدركون أن هذه الأصنام لا تقدر على شيء ومع ذلك ينسبون إليها قدرات إلهية؛ أما كلمة كفار فبين الله تعالى بها أنهم جد ناكرين لمعروفنا حيث يرون نعمنا المتوالية ومع ذلك يعوذون بأصنامهم الباطلة بدلاً من أن يدخلوا في حمانا.كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (3) شرح الكلمات ۸۳ أهم ضدا: الضد هو المخالف وأيضًا المعاون وكلا المعنيين ينطبق هنا بمعنى سيقفون في وجوههم أعداء لهم، أو سيقفون في وجوههم مؤيدين للحق.التفسير: المراد من كلمة (كلا أن أكبر ما يصبو إليه عبدة الأصنام هو أن ينالوا عزّا، ولكن هذه الأصنام لن تتسبب في عزتهم أبدا.أما قوله تعالى سيكفرون بعبادتهم..فضمير الغائب في سيكفرون يمكن أن يعود إلى العابدين وأيضًا إلى المعبودين، والتقدير: سيكفر العابدون بعبادة المعبودين، أو سيكفر المعبودون بعبادة العابدين..بمعنى أن عابدي الأصنام أنفسهم سينكرون ،عبادتها ويقولون إننا لم نعبدها قط، أو أن هذه الأصنام أو المعبودين باطلاً سيكفرون بعبادة من عبدوها ويقولون إن هؤلاء كاذبون إذ لم يعبدونا قط، بل كانوا يحققون بذلك مآربهم الأخرى من العز والشهرة.

Page 435

الجزء الخامس ٤٢٨ سورة مريم وقد ذكر القرآن الكريم في موضع آخر هذين المعنيين كليهما حيث قال الله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا ورَأَوُا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّةً فنتبراً منهم كما تبرءوا منا) (البقرة: ١٦٧-١٦٨).بينما ورد في مكان آخر من القرآن الكريم أن الآلهة الباطلة ستقول الله تعالى تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (القصص: (٦٤ أي يا رب نتبرأ من هؤلاء أمامك، فإنهم ما كانوا يعبدوننا، وإنما كانوا يعبدون أهواء أنفسهم.كذلك جاء في مكان آخر من القرآن الكريم أن الملائكة تقول للمشركين وهى تقبض أرواحهم أين ما كنتم تدعون من دون الله من الآلهة الباطلة، فيقولون ضلُّوا عنا (الأعراف: ۳۸)..أي قد فرّوا من عندنا ولا نراهم اليوم.الذين ويقول القرآن الكريم أيضًا وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) (النحل:..أي أن المشركين حين يرون آلهتهم الباطلة يقولون الله تعالى ربنا هؤلاء هم كنا نعبدهم من دونك وهؤلاء هم الذين قاموا بإغوائنا.فترد عليهم آلهتهم تفترون علينا أيها المفسدون؟ فنحن لم نغوكم، بل كنتم تشركون بالله تعالى طمعًا في مآربكم ومكاسبكم.وهذا يعني أن أولئك الآلهة التي يعتبرونها مدعاة عز لهم هي التي ستجلب عليهم الخزي والهوان في ذلك اليوم.كما يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (الأنعام: ٢٣-٢٤.والمراد من قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم...أنه لن يكون جوابهم إلا أنهم يحلفون بالله ويقولون ربنا إننا لا نعرف هؤلاء الفاسدين، إذ لم نشركهم في عبادتك قط.ويخبرنا الله تعالى في مكان آخر في القرآن الكريم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون (يونس: (۲۹ أي أن الآلهة الباطلة نفسها ستقول في وجه المشركين ما كنتم إيانا تعبدون

Page 436

الجزء الخامس ٤٢٩ سورة مريم ويقول الله أيضًا عن المشركين وكانوا بشركائهم كافرين (الروم: ١٤)..أي أن المشركين سيكفرون بآلهتهم الباطلة ويقولون إننا لم نتخذها قط آلهة من دون الله تعالى.وكما بيّنتُ من قبل أن من معاني الضد المعاون أيضًا، وعليه فيكون المراد من قوله تعالى ويكونون عليهم ضداً أن هؤلاء المعبودين من دون الله تعالى باطلاً الله تعالى في ذلك اليوم ضد عابديهم المشركين، أو أن المشركين سيصبحون متعاونين مع الله تعالى ضد الهتهم الباطلة.وهذا يعني أن كلا الفريقين سيكون عندئذ معارضاً للآخر، ومتعاونًا مع الحق والصدق أيضًا.سيقول سيتعاونون مع ضدا المشركون لم نعبد هؤلاء الآلهة، ويقول المعبودون ما كان هؤلاء إيانا يعبدون.ومن الجدير بالذكر هنا أن الله تعالى يقول هنا ويكونون عليهم ضدا، ولفظ واحد ولكنه يعني الجمع (إملاء ما منّ به الرحمن).والحكمة في هذا الاستعمال الرباني هي الإشارة إلى كمال الاتحاد والإجماع، حيث بين الله تعالى أن المشركين، رغم كثرة عددهم ورغم انتمائهم إلى شتى الطوائف والأحزاب، سيتحدون في ذلك اليوم ضد آلهتهم فيقولون بلسان رجل واحد: لا علاقة لنا بهذه الآلهة الزائفة الباطلة، ونحن بريئون منهم كل البراءة.وأما الآلهة الباطلة فهي الأخرى ستعلن بالإجماع أن لا صلة لنا بهؤلاء المشركين وها نحن نعلن براءتنا منهم.وذلك لشدة هول ذلك اليوم المخيف الشديد الذي يستولي فيه اليأس على الجميع، فيفرّ المشركون بأنفسهم من آلهتهم الباطلة، وستسعى آلهتهم الباطلة أيضًا للتخلص منهم إنقاذا لنفسها.فما أدل هذا الاستعمال على محاسن اللغة العربية، حيث أشار الله تعالى إلى موضوع واسع بتغيير الأسلوب قليلاً حيث استعمل المفرد مكان الجمع.فدل بذلك على أن هذه الآلهة التي يحسبها المشركون مدعاة عز لهم هي نفسها ستجلب عليهم الخزي والعار وليس ذلك فحسب، بل أشار أيضًا إلى ضعفهم وعجزهم، وهول الموقف، واقتراب الخطر منهم بحيث لن يحتاجوا إلى تفكير طويل، بل إن الجميع، المشركين وآلهتهم الباطلة كلهم سيتوصلون إلى نتيجة واحدة.سينكر المشركون

Page 437

الجزء الخامس ٤٣٠ سورة مريم هو عبادة آلهتهم الباطلة بلسان رجل واحد، دونما تدبر وتشاور، مدركين أن هذا السبيل الوحيد لنجاتهم.سيبلغون الملايين عددًا، ولكن سيصبحون فردًا واحدا فيما يتعلق بالنتيجة.وهنا يطرح سؤال نفسه وهو أن معظم الآلهة الباطلة جماد فكيف تتكلم إذا؟ وهناك ثلاثة أجوبة عن ذلك وهي: أولاً: أن الآلهة الباطلة التي هي من ذوي الأرواح مثل المسيح والملائكة وغيرهما فإنها ستتكلم، وسيكون جوابها بمنزلة الجواب عن الآلهة الأخرى أيضا.وثانيا : يحدث أحيانًا في العالم الروحاني أن الجماد أيضا تتمثل في صورة ما وتتكلم.ويحصل هذا في المنام والكشوف كثيرًا حيث تتكلم الأشجار والجدار والديار، ويتأثر الرائي من كلامها كما يتأثر من كلام الأحياء.لقد قال سيدنا المسيح الموعود الا مرة مشيرا إلى حادث سقوط بيت: إن هذا البيت كان يقول لي اخرج من هنا بسرعة فإني على وشك السقوط.إذًا فلا غرابة في كلام الأصنام.أنها جماد، ولكنها ستتمثل وترد على المشركين بهذا الكلام لتجعلهم مهانين صاغرين، وبما أن القوة الروحانية ستكون عندها أكثر جلاء، فسيعلمون أن هذا صحیح الحق.هو ثالثًا: إنما الأصنام تماثيل لعباد الله الصالحين الذين خلوا من قبل أو للملائكة.فقد قال الرسول و إن الأصنام ليست أحجاراً فقط، وإنما هى تماثيل صلحاء القوم في القديم (البخاري: كتاب التفسير سورة نوح.فمثلاً كانوا يحبون إسماعيل العلا ويحترمونه فنحتوا صنما باسمه أو كانوا يحترمون الملائكة فنحتوا تماثيلها أيضًا.فبما أن الأصنام تماثيل لبعض الصالحين فإنما المجيب الحقيقي هم هؤلاء الصالحون، فسيعد كلامهم جوابًا من قبل هذه الأصنام أيضًا.وبما أن هؤلاء الصالحين هم الذين كان يعبدهم هؤلاء في الواقع لذا فسيُعدّ جوابهم هو الجواب الحقيقي.فمثلا يقف عندها الملاك الذي صنعوا تمثاله وعبدوه ، وسيهينهم أمام الجميع.أو سيهب إسماعيل اللي الذي صنعوا تمثاله وعبدوه ويعلن إن هؤلاء كاذبون إنما كنت أؤمن بالله تعالى وأعبده وحده.

Page 438

الجزء الخامس ٤٣١ سورة مريم إذا فبالرغم أن معظم الأصنام والأوثان جماد من حجر وشجر ونهر وغيرها إلا أن المشركين يعتبرون هذه الأصنام نائبين للصالحين الذين خلوا من قبل أو للملائكة وغيرها، زاعمين أن هذا صنم فلان من الآلهة، وأن ذاك تمثال فلان الملائكة، من وأن ذلك وثن فلان من الصالحين، لذا فإن الملاك أو الرجل الصالح الذي يذكرون اسمه هو نفسه يتقدم ويعلن إنما كنت أعبد الله وحده، ولكنكم عبدتموني.وها أنا أعلن أني من عملكم من القالين ولا أراكم تستحقون أي عطف وشفقة.فبما أن هؤلاء الصلحاء أو الملائكة هم الآلهة الباطلة في الحقيقة فيعتبر جوابهم جوابا عن الأصنام كلها.أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَفِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَنَّا (٤) شرح الكلمات : ٨٤ أَنَّا: الأز هو غليان القدر في الأصل، ثم استعمل بمعنى الإغراء (الأقرب).والأن أقوى من الهزّ (المفردات تحت أنّ).أرسلنا: أرسله بعثه.يعني سبیله (انظر الأقرب والقرطبي).ويعني أيضًا أطلقه وخلاه يقال أرسلتُ البعير: خلّيتُ التفسير: لقد بيّن الله تعالى هنا أن عملنا الأساسي هو حماية عبادنا من الشياطين، كما قال الله تعالى لإبليس في مكان آخر من القرآن الكريم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) (الحجر: (٤٣، ولكنا ننزع حمايتنا عن هذا النوع من الكفار ونتركهم وشأنهم ونخلي سبيل الشياطين ليهاجموهم كما شاءوا، فلا نريد أن نتدخل في شؤونهم أبدًا.وقوله تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لا أنه تعالى يبعث الشياطين للهجوم عليهم، أو يرسلهم بنفسه وراء هؤلاء؛ بل المراد أنه تعالى يقيد الشياطين في الأصفاد عادةً، أو يتصدى لهم إذا هجموا على عباده، ويحميهم منهم، ولكن هؤلاء الكفار هم من النوع الذي إذا هاجمهم الشيطان فإنه تعالى لا يدفعه

Page 439

الجزء الخامس ٤٣٢ سورة مريم عنهم، بل يخلي سبيله، ليفعل بهم ما شاء، لوجود نوع من الأنس والتجانس بين الفريقين حيث يحن الواحد إلى الآخر ويتلهف إليه شوقا.وكأن الله تعالى يبين هنا أنه يصفّد الشياطين في أول الأمر، أو إذا أرادوا الهجوم على عباده تصدى لهم دفاعا عنهم، ولكنه يأتي فيما بعد حين يتخلى عنهم ويتركهم والشياطين.ذلك لأنه يتولد بين الشيطان وهؤلاء العباد نوع من التوافق والتجانس والتواد حتى يحن الواحد منهما شوقا لاحتضان الآخر؛ فلا يريد الله بعد ذلك أن يتدخل في شؤونهم.أما قوله تعالى (تَؤُزُّهم أَنَّا فله ثلاثة مفاهيم : الأول: أن الشياطين تحرّضهم على المعاصي.ذلك لأن الشيطان إنما يغري الإنسان بما هو يتفق مع طبيعته والبديهي أن الشيطان يحب الإثم والعصيان.فمثلا لو قيل إن المعلم يحث الطلاب حثا لفهم السامع أنه يحرضهم على المذاكرة وطلب العلم.أو إذا قلنا مثلاً إن قائد فريق الكركيت يؤز اللاعبين أنا لكان المعنى أنه يحرضهم على إجادة هذه اللعبة وإتقانها.ولما كان عمل الشيطان الحث على الشر فكان معنى قوله تعالى تؤزهم أنا أن الشياطين تغري هؤلاء بالمعاصي والآثام.والثاني: أن الشياطين لا تزال تحرّضهم على المعاصي حتى يسقطوا في جهنم في آخر المطاف.والثالث: أن الشياطين تحرضهم على التصدي للمسلمين والهجوم عليهم.ذلك لأن الشيطان إنما سيحرّضهم ضد عدوه والبديهي أن عدوه الحقيقي هو المسلمون والإسلام؛ ولكن ليس بوسعه أن يهاجمهم مباشرة، لذا فهو يحرض أصحابه بأن ول هبوا واحملوا على المسلمين.صلے فَلَا تَعْجَلْ عَليهِمْ إِنما نَعُدُّ لَهُمْ عَذَا ) Λο التفسير : أي ما دام الأمر كما بينا، وما دامت هذه هي مشيئتنا، فلا حاجة بكم أيها المؤمنون أن تخططوا لعقابهم، وتتخذوا شتى التدابير لمحاربتهم.إنما تعليمنا لكم

Page 440

الجزء الخامس ٤٣٣ سورة مريم هو فلا تعجل عليهم..أي لا تتسرعوا في شأنهم فيما يخص نواياكم أو خططكم وتدابيركم أو هجومكم أو دعاءكم عليهم ذلك لأن الله تعالى لم يحدد هنا أمرًا معينا ينهانا عنه ، فلذا يمكن أن يراد هنا كل شيء يُستخدم ضد العدو من نية أو خطة أو تدبير هجومي أو مشاعر غيظ وألم أو دعاء.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لماذا نهينا هنا عن الاستعجال ضد العدو؟ والجواب أن الآية السابقة أخبرتنا أن الله تعالى نفسه قد خلّى سبيل الشياطين لتحريض هؤلاء الأعداء.كان الله تعالى قادرًا على أن الشياطين، ويفشل هجومهم، لأن من سنته الله أن الشيطان إذا صال على عبده تصدى لــه دفاعًا عنه من صولته، ولكنه تعالى ما دام قد أمسك عن التدخل بين هؤلاء القوم والشياطين فلا بد أن يكون وراء ذلك حكمة إلهية.فلا يليق بالمؤمن القيام بما يتعارض مع الحكمة الإلهية، فيهب لمحاربة الذين قد أراد الله تعالى بمشيئته وحكمته أن يمد لهم حبل المهلة مدا.يحمي العباد من هجمات غير أن هذا لا يعني أن يمتنع المؤمنون من اتخاذ مواقف سلمية أخرى ضد معارضي الإسلام، ولا يحملوا أي مشاعر غيرة ضد أعداء الحق، ولا يتخذوا تدابير مشروعة لإفشال مكائد المتآمرين على الإسلام وإنما ينهانا الله تعالى عن الرد على ما سبق بيانه في الآية الماضية.لقد بين الله تعالى بقوله ألم تر أن الظروف واضحة جلية لكم، ولو تدبرتم لأدركتم أن كل هذا إنما يتم وفق مشيئة إلهية خاصة.علمنا من ذلك أنه إذا كان هناك أمر لا نعرف على وجه اليقين ما أنفسنا ضد هجوم هي الخطة الإلهية بشأنه، أو إذا كان ثمة حدث يندرج تحت النواميس الطبيعية العامة، فيجوز لنا عندها الدفاع عن العدو، ويحق لنا أن نتخذ ضده التدابير بحسب القانون ولكن إذا رأينا جليًّا أن الله تعالى يعمل الآن بحسب مشيئته الخاصة خلافًا لسنته العامة فليس لنا إلا العمل بما أوصانا الله به في قوله تعالى فلا تعجل عليهم.فعندها يحرم على المؤمن حتى الدعاء على العدو أيضًا، واللجوء إلى أي تدبير.إنما يؤمر عندئذ أن يتحمل العدوان بصبر وثبات فحسب.

Page 441

الجزء الخامس ٤٣٤ سورة مريم الله الحق أن المؤمنين يصابون بالقلق حين يتجاوز العدو الحدود في شره وعدوانه، فيُعربون عن غيرتهم تارة، ويقولون للنبي أو لخليفته أن يدعو على العدو بالهلاك، ويصدرون فتاوى الجهاد تارة أخرى.في حين أن الله تعالى يكون قد خطط لهلاك الأعداء خطة أخرى، فيأمر المؤمنين بعدم الاستعجال لأن كل شيء سيتم في موعده، وسيحل عليهم العقاب من عنده حتما.ثم يقول الله تعالى إنما نَعُدُّ لهم عَدا..أي أنكم تنامون غافلين عن عدوكم، ولكنا مستاءون منه لدرجة أننا نعد ساعات هلاكه عدا.وما دمنا نتربص به لكي نكسر عنقه، فلم تستعجلون خاصة وأنكم لا تقدرون على مقاومته.انظر كيف أعطى الله تعالى هنا تعليمًا واضحًا وهاما بصدد الجهاد، وكيف تدعم هذه الآية تلك النظرية الرائعة التي قدمها مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا المسيح الموعود اللي بصدد الجهاد في هذا العصر.فقد بين تعالى في هذه الآية أنه سيأتي على المسلمين زمان يقول فيه فئة منهم أن لا سبيل لرقي الإسلام الآن إلا بالجهاد ضد هؤلاء الكفار وببذل الجهود لمحوهم بحد السيف.ولكن هؤلاء سيكونون على الخطأ، فإنما الطريق السليم والصحيح أن لا يتعجل المسلمون في مقاومة الأعداء، بل يتحملوا أذاهم بصبر وجلد، ولا يتخذوا إلا تدابير روحانية أي نشر الدعوة والدعاء وما إلى ذلك.وهذا بالضبط ما دعا إليه سيدنا المسيح الموعود العلمي الذي بعثه الله تعالى لإصلاح العالم فأعلن للمسلمين في بيت شعر لـه بالأردية ما تعريبه: كل من يخرج للحرب بعد سماع هذا الأمر سيلقى على أيدي الكافرين هزيمة نكراء.(ضميمة تحفة غولروية ص ٧٨) لقد أوضح حضرته الا للمسلمين أنهم ما داموا لا يملكون أي قوة فكيف يكون الجهاد بالسيف فرضًا عليهم.عندما يحين وقت الجهاد بالقوة سيمكن الله المسلمين من مقاومة العدو كيفما شاء.فالمسيح الموعود ال قد عارض فكرة الجهاد السائدة بين المسلمين في هذا العصر، وهذه هي الحقيقة التي بينها الله تعالى في قوله فلا تعجل عليهم.

Page 442

الجزء الخامس ٤٣٥ سورة مريم 6 الحق أن رقي المسيحيين وازدهارهم الذي تتحدث عنه هذه السورة إنما كان مقدرا لهم في المستقبل، بل قد أكد القرآن الكريم والحديث الشريف أنه مقدر لهم في الزمن الأخير بالتحديد.فثبت بذلك أن قوله تعالى فلا تعجل عليهم ليس موجهًا إلى رسول الله له في الحقيقة، وإنما إلى المسلمين في الزمن الأخير، حيث أخبر الله تعالى أنه سيأتي عليهم زمان يتمنون فيه حرب المسيحيين برؤية رقيهم وازدهارهم.وبالفعل إنه لمن الغريب المدهش أن المسلمين ظلوا غافلين عن المسيحيين في الزمن الذي كانوا فيه قادرين على حربهم وكان المسيحيون بمثابة صيد في قبضتهم، ولكن حين ازدهر المسيحيون في العالم فكر المسلمون في جهادهم، مع أن المشيئة الإلهية كانت تقتضي منهم عندئذ العمل بقوله تعالى إنما نَعُدُّ لهم عَدًّا ، فكان الحري بهم أن يستغفروا الله تعالى على ما تقدم منهم من تقصير وغفلة، ويدعوه الله دعاء مجملاً بأن يحميهم من فتنة المسيحيين في المستقبل، ويبدؤوا ضدهم الجهاد بالقرآن الكريم كفارةً عن غفلتهم السالفة، لكي يتم القضاء على القوة المسيحية ببركة القرآن الكريم.ولكن المسلمين نادوا بالجهاد بالسيف في غير أوانه، فأتاحوا بذلك للمسيحيين الفرصة للدعاية الزائفة ضد الإسلام، وكانت النتيجة أن آلاف المسلمين سقطوا ضحية لدعايتهم وارتدوا وتنصروا إنا لله وإنا إليه راجعون.وكان سيدنا المسيح الموعود ال هو الوحيد الذي نبه المسلمين إلى خطئهم هذا، ولكنه تعرض بسببه لفتاوى التكفير حيث قيل إن هذا الشخص عدو للإسلام ولرقيه (مجلة "إشاعة السنة النبوية" مجلد ١٣ عدد ٤ إلى ١٢ عام ١٨٩٠ ص ٥-١٤٨).والحق أن الطريق الوحيد لرقي الإسلام في ذلك الوقت إنما هو نشر تعليم الإسلام الصحيح، لكي يفتحوا به قلوب فئة من المسيحيين، ويزيلوا سوء الفهم من قلوب فئة أخرى منهم.ولكن المؤسف أن المسلمين قد كافئوا حضرته العلة على هذه الخدمة العظيمة بالسباب والشتائم بكثرة لم تكن - في رأيي – من نصيب أي من المبعوثين من عند الله تعالى.فأرى أن السباب والشتائم التي قد كالها له المشايخ في يوم واحد وفي جلسة واحدة لم يتعرض لها أي من الأنبياء في عشر سنين، بل لم يكن العلماء في العصور الخالية بذيئي اللسان مثل هؤلاء المشايخ أبدًا.وسننتقم

Page 443

الجزء الخامس ٤٣٦ سورة مريم منهم على ظلمهم بواسطة الرسول يوم القيامة ، فإنه لا بد أن يبدي سخطه على هؤلاء الظالمين، وسيضع ضماد السكينة على قلوبنا الجريحة، إن شاء الله تعالى.وليكن مفهوما أن قوله تعالى فلا تعجل عليهم لا يعني أن نكف عن الدعاء على أعداء الإسلام هؤلاء بأي شكل كان إنما المراد أن على المؤمنين ألا يضيقوا ذرعًا ولا يدعوا اليأس يستولي عليهم؛ لأن هناك أدعية لا حرج فيها مبدئيا.فمثلا يجوز لنا تمامًا أن نقول يا رب اكسر شوكة المسيحيين كما قال سيدنا المسيح الموعود العليا في دعائه عليهم في بيت شعر لــه فقال: منهم يا ربِّ سحقهم كسحقك طاغيا وانزل بساحتهم لهدم مكانهم (نور الحق: الجزء الأول ص ١٢٦) ولكنه دعاء مبدئي، إذ لا علاقة له بأي عملية خاصة منهم، فلم يقل مثلاً يا رب، دمّرهم لأنهم قد شنوا الهجوم على فلان، وإنما هو دعاء مبدئي، حيث تمنى كسر شوكة المسيحيين.ولا بأس في القيام بمثل هذه الأدعية ضدهم، ولكن لا يجوز الدعاء عليهم بسبب فعل معين لهم.وباختصار، إن الله تعالى قد أوضح في فلا تعجل عليهم مسألة الجهاد تماما، وبين أنه قد جعل لهلاك هؤلاء القوم موعدًا، وأنه تعالى يعدّ ساعات هلاكهم عدا.وعندما يحل ذلك الموعد سوف يبطش بهم بنفسه.أما أنتم فماذا تفعلوه ؟ إنكم لن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا، بل نحن الذين نقوم بكل شيء.يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَن وَفَدًا (2) شرح الكلمات : ٨٦ عسى أن وفدًا: قال صاحب المفردات في تفسير كلمة "الوفد": "هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج".التفسير : مما لا شك فيه أن هذه الآية وما بعدها تنطبق على الحياة الآخرة أيضا، وسيكون معناها أن المؤمنين سيحضرون عند الله تعالى مجتمعين.ولكن السؤال

Page 444

الجزء الخامس ٤٣٧ سورة مريم الذي يفرض نفسه هنا هو أن الحديث هنا يدور حول التقدم المادي الذي ستحققه الشعوب المسيحية؛ ولا يمكن لمؤمن أن يقول عند رؤية تقدمهم المادي: حسنًا إذا كانوا قد حققوا التقدم المادي في الدنيا فسيعذبهم الله تعالى في الآخرة.وإنما يتمنى المؤمن أن يهينهم الله تعالى ويخزيهم أمام عينيه، ويجعل الإسلام غالبا هنا في الدنيا.أنه لا يمكننا أن نغض الطرف عن المفهوم الذي يخص الآخرة لأن كلمات صحيح هذه الآية تنطبق على الآخرة أيضًا، بمعنى أن المؤمنين سيحضرون هناك عند الله تعالى مجتمعين لينالوا الجوائز والمكافآت ؛ ولكن ما أركز عليه هو أن هذه السورة كلها تتحدث عن التقدم المادي والقوة المادية للمسيحيين، لذا فالوعد بهلاكهم في الآخرة فقط يبدو قولاً تافها جدا.إذا كان هؤلاء سيهلكون في الآخرة فحسب فكيف يمكن أن تصدق الدنيا قولنا إن هؤلاء على الباطل؟ إنها ستقول لنا كلا، فإنهم قد عاشوا في متعة ورخاء أمام أعيننا.فلا مناص لنا إذا من تفسير قوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا بما ينطبق على هذه الدنيا أيضًا.والمفهوم الذي ينطبق على هذه الحياة الدنيا إنما هو أنه حين يأتي موعد قرارنا بصدد هؤلاء القوم سنلقي في قلوب المؤمنين بأن يجتمعوا ويدعوا الآن لهلاكهم دعاء جماعيا.والصلاة التي نؤديها يوميًّا والتي يجتمع فيها المؤمنون أمام الله تعالى هي نوع من الحشر الذي تشير إليه هذه الآية.فالمعنى أنه يوم يأتي موعد عذابهم سنذكى جذوة الحماس في قلوب المؤمنين، ونقول لهم ها قد حان الأوان الذي كنتم له منتظرين؛ فتعالوا ابتهلوا إلينا حتى ننفذ فيهم قرارنا بالهلاك.علما أن لفظ الوفد يُستعمل لقوم يحضرون الملك بحاجاتهم، ويحضر المسلمون تعالى بحاجاتهم على شكل جماعة خمس مرات يوميًا من خلال الصلوات؛ أن كل المفاهيم التي تنطوي عليها كلمة "الوفد" موجودة في صلاة المسلمين.فلفظ "الوفد" يقتضي أن تكون هناك جماعة، وأن تكون لها حاجة وبغية، وأن يكون لباسهم جميلاً لأنهم ذاهبون للمثول أمام ملك.وكل هذه الأمور متوفرة في الصلاة، حيث تؤدى الصلاة جماعةً، ويعرض المصلون في صلاتهم حاجاتهم على الله تعالى، كما أنهم مأمورون بأداء الصلاة بثياب نظيفة طاهرة، حيث قال الله تعالى عند الله وهذا يعني.

Page 445

الجزء الخامس یا بني ٤٣٨ سورة مريم هذه آدمَ خُذُوا زينتكم عند كل مسجد (الأعراف: ۳۲)، ولذلك أمر الشرع بالوضوء قبل الصلاة، وأن تؤدى الصلاة بثياب ،طاهرة، وأن لا يؤكل شيء ذو رائحة كريهة قبل الصلاة؟ ثم إن المصلي عندما يقف أمام الله تعالى في الصلاة يقول اهدنا الصراط المستقيم.إذا فالصلاة أفضل صورة للوفد، وبالتالي ستعني الآية أننا سنلقي يومئذ في قلوب المؤمنين أن يدعونا لهلاك هؤلاء.أما إذا طبقنا قوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا على الحياة بعد الموت توصلنا إلى النتيجة أن البعث نوعان: بعث فردي وبعث جماعي.ويتضح من القرآن الكريم أن كل إنسان ينال الحياة بعد الموت، ولكنها حياة فردية.كما يخبرنا القرآن الكريم ويفصل لنا الحديث أن هناك بعثا يُحشر فيه الناس جميعًا إلى الله تعالى :(الترمذي : أبواب صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الحشر).وهناك فرق بين البعث الفردي والبعث الجماعي والذين لا يُعملون الفكر والتدبر جيدا يصابون بالتشويش حين يقال لهم من جهة إن كل إنسان ينال بعد الموت حياة جديدة على الفور، ومن جهة أخرى يقال لهم إن كل الناس سيجمعون في يوم من الأيام.فما العلاقة بين القولين؟ إن هذا الاعتراض ناشئ عن قلة التدبر كما قلت إنهم لم يدركوا أن البعث نوعان: بعث يبدأ بعد موت الإنسان مباشرة حيث يتزود بقوى وطاقات جديدة يشعر بها نعم الحياة الآخرة أو عذابها.ولكنه، في تلك الحالة، يشبه ولدًا لا يزال في سن الطفولة أو الصغر.ثم بعد ذلك حينما يكون الناس جميعا مزودين بقوى وقدرات تمكنهم من الإحساس الكامل بالعذاب والثواب، فيشبهون الشاب البالغ القادر على التمتع بنعم الدنيا كلها، عندها سيُحشر الناس جميعًا، مؤمنين وكافرين.يقول الله تعالى في القرآن الكريم النارُ يُعرضون عليها غُدُوًّا وعشيًّا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدَّ العذاب (غافر : (٤٧) أي أن آل فرعون يُعرضون على النار صباحًا ومساء، ولكن حين يحل يوم القيامة نصدر الأمر بإلقائهم في أشد العذاب.

Page 446

الجزء الخامس بسر ٤٣٩ سورة مريم كما ورد في الحديث أنه حين يأتي يوم القيامة يُمَدِّ على جهنم جسر هو أحد من السيف وأدق من الشعر، ولا بد للجميع من المرور عليه.فمنهم من سيمر عليه عة البرق، ومنهم من يمرّ عليه بسرعة الريح، ومنهم من يمر عليه مثل الطير، ومنهم من يجري عليه كأجود الخيل، ومنهم من يجر نفسه عليه كالأعرج والكسيح، وأما الكافرون والمنافقون فيقطعون به قطعا ويسقطون في الجحيم (الدر المنثور، المستدرك: كتاب التفسير).إذا فهناك حشران: حشر ،فردي، وحشر جماعي.وهذه الآية تتحدث عن الحشر الثاني، معلنة أنه ليس هناك حشر فردي فحسب، بل يكون حشر جماعي أيضًا.لقد اختلف المفسرون في قول الله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا، فيما إذا كانوا يُحشرون إلى الجنة أم إلى الله تعالى.فقال بعضهم: يُحشرون إلى الجنة، ذلك لأن الجنة مسكن الله تعالى فقيل إنهم يُحشرون إلى الرحمن فمن حُشر إلى الجنة كأنما حُشر إلى الله تعالى وحجتهم على ذلك قول إبراهيم العلة في القرآن الكريم إني ذاهب إلى ربي سيهدين) (الصافات: ١٠٠).وقد قال هذا إني مهاجر إلى ربي حين أراد الهجرة إلى أرض كنعان التي اختارها الله تعالى وطنًا جديدًا لإبراهيم.فكما جاز الإبراهيم أن يقول إني ذاهب إلى ربي سَيَهْدِين لدى هجرته إلى المكان الذي اختاره الله تعالى كذلك عُبّر عن ذهاب هؤلاء إلى الجنة بقوله تعالى نحشر المتقين إلى الرحمن وفدًا (البغوي، والقرطبي).كذلك ورد في الحديث من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" (البخاري: كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان)..مع أن هذا المؤمن عندها كان يهاجر إلى المدينة في الواقع.فثبت من ذلك أن الذهاب إلى مقام موعود أو مختار من قبل الله تعالى يكون بمنزلة الذهاب إلى الله تعالى.بينما قال غيرهم: إنهم يُحشرون إلى الله تعالى، حيث ورد في الحديث أنهم سيؤخذون أولاً إلى الله تعالى ثم إلى الجنة (البخاري: كتاب صفة الجنة، باب في خلود أهل الجنة).

Page 447

الجزء الخامس ٤٤٠ سورة مريم وقد اختلف المفسرون كل هذا الاختلاف لأنهم اعتبروا الله تعالى كائنا مجسدا، وبالتالي قاموا بتحديد مكان له.والحق أن الله تعالى موجود في كل مكان بحسب القرآن الكريم والحديث الشريف.فكان في المدينة إذا تمت الهجرة إليها، وكان في الحبشة إذا هاجر المسلمون إليها، وهو موجود حيثما ذهب عباده الأخيار، بل هو في كل مكان بالنسبة للكفار أيضًا.يقول الله تعالى في القرآن الكريم والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.لم ووجد عنده فوفاه حسابه (النور: ٤٠).فهنا قد اعتُبر وصول الكافر إلى مكان هلاكه بمثابة لقائه مع الله تعالى.الله ويخبرنا الله تعالى أن المؤمنين حيثما يذهبون يرونه له حيث قال تعالى فأينما تُولّوا فَثَمَّ وجه الله (البقرة: ١١٦).كما يقول الله تعالى لرسوله الكريم : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يدُ الله فوق أيديهم (الفتح: (۱۱).فاليد التي يبايع عليها الناس إنما كانت يد النبي ﷺ في الحقيقة، ولكن الله تعالى يعدّها يدا له فهذه الآية أيضا تؤكد أن المؤمن حيثما يذهب ير الله تعالى.كما أن الكافر أيضًا حيثما يذهب الله تعالى ولكن على شكل العذاب.ير قصارى القول إن الله تعالى ليس محدودًا في مكان معين، كما أنه ليس مجسدًا.يقول الله تعالى في القرآن الكريم ونحنُ أقرب إليه من حبل الوريد (ق: ١٧).فمن الغباء أن نقول عن الذي هو محيط بنا، والذي هو منزه عن أن يتجسد وأن يُحدد، أنه جالس في مكان محدد، وأن المؤمنين سيذهبون لزيارته راكبين الجياد.ضي ورد في الحديث أنه لما نزلت هذه الآية قال علي الله يا رسول الله ﷺ : "إني قد رأيت الملوك ،ووفودهم، فلم أر وفدًا إلا ركبانًا فما وفد الله؟" فقال رسول الله إنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة فيركبونها.(انظر القرطبي).أي أن الوفود تذهب لزيارة الملوك على صهوات الخيل في ثياب جميلة غالية وبعزّ ووقار، فكيف يذهب هذا الوفد للقاء الله تعالى؟ فقال النبي : سيؤتى بإبل من الجنة فيذهبون للقاء الله تعالى راكبين عليها.

Page 448

الجزء الخامس ٤٤١ سورة مريم وقد نقل الثعلبي هذه الرواية بطريق آخر حيث قال إن المؤمنين حين ينصرفون تعالى بعد زيارته سيؤتون بالركاب (المرجع السابق)..أي أنهم يذهبون من عند الله لزيارة الله تعالى مشاة، وعندما يخرجون من عند الله تعالى سيُعطون المطايا.وعن ابن عباس قال رسول الله ﷺ : "يأيها الناس إنكم لتحشرون إلى الله تعالى حُفاةً عُراةٌ غُرْلاً" (البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله : واتخذ الله إبراهيم خليلا).فلا مجال لركوبهم المطايا في هذه الحالة.ولذا قد استنتج البعض من ذلك أنهم يذهبون للقاء الله تعالى عراةً مشاةً، ويرجعون ركبانًا في ثياب جميلة.وهنا أيضًا قد ارتكب القوم الخطأ نفسه حيث تمسكوا بحرفية هذه التعابير.والحق أن الثياب والمطايا في الجنة ليست كما هي في الدنيا، بل المراد أنه سيسود الناس فزع عظيم بعد البعث فوراً، ولكن سيزول الفزع عن المؤمنين فورا، ويقابلون بالحفاوة والتكريم.وهذا ما يؤكده حديث الشفاعة أيضًا حيث ورد فيه أن الناس سيكونون في فزع كبير بعد البعث، ولكن المؤمنين ستنزل على قلوبهم السكينة والهدوء شيئا فشيئا (البخاري: كتاب التفسير باب قوله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح).أما لقاؤهم بالله تعالى فهو أيضا كلقاء شيء محدود بمن هو غير محدود، وليس المراد منه أن الله تعالى سيكون جالسًا على العرش، وسيدخل عليه المؤمنون لزيارته راكبين الخيل والجمال لا جرم أن المؤمنين سيحظون هنا بلقاء الله تعالى، ولكن هذا اللقاء سيتم هناك كما يتم في الدنيا بين الله وعباده المختارين.والفرق الوحيد أن اللقاء في الآخرة سيكون في أكمل صورة وأروعها إذ لن تكون لنا هناك هذه الأجساد المادية وليس المراد أن الله تعالى سيتحدد في الآخرة في مكان ما فنراه سنصبح غير محدودين هناك متحررين هناك.إذا كنا نحن الذين هم محدودون هنا من قيود الجسد المادي في الآخرة، فمن غير المعقول تمامًا أن نظن أن الله الذي هو غير محدود الآن سيصير عندئذ محدودًا.لا شك أن كلمة "حفاةً عراةً" توهم في الظاهر أن المؤمنين ربما سيذهبون في الآخرة للقاء الله تعالى كما يذهب الناس لزيارة الملوك مشاةً وركبانًا، ولكن هذا غلط ذلك لأننا نرى أن المؤمن في الدنيا يكون

Page 449

الجزء الخامس ٤٤٢ سورة مريم نائما بالليل وقد خلع حذاءه، ووضع معظم ثيابه أيضًا، ومع ذلك يلقى الله تعالى.لقد ذكرتُ في مناسبات عديدة أنني قد رأيت عبارة لسيدنا المسيح الموعود العليا قد كتبها في بعض دفاتره، يقول فيها: يا رب، يقول الناس أنني سأتركك، وأَنَّى لي أن أتركك.عندما يكون الناس كلهم نياما، وحينما يبتعد عني أصدقائي وأقاربي كلهم، بل إن نفسي هي الأخرى تنفصل عني، فإنك تزورني وتقول لي: لا تحزن، إني معك.فإذا كان المسيح الموعود الله يلقى الله تعالى وهو نائم، فما الغرابة في أن يحظى جميع المؤمنين بلقاء روحاني مع الله تعالى مجتمعين فيتفضل عليهم بالنعم والجوائز.إذا كان لقاء الإنسان بالله تعالى في حالة من الغفوة ممكنا فكيف يستحيل أن يلقاه حافيًا أو عاريا؟ كلا، بل من الممكن تماما من الناحية الروحانية أن يكون الإنسان حافيًا وعاريًا وغير مختتن أيضًا في وقت واحد، ومع ذلك يتلقى الجوائز والصلات الله تعالى.كل ما في الأمر هو أن يسعى الإنسان لتفهم هذه الأمور بمنظور روحاني عوضا عن أن ينظر إليها بمنظور ظاهري.من فبعض الأحيان يكون المرء مستلقيًا وهو ظمآن فيُسقى كأس محبة الله في حالة من الكشف، فتسري الطراوة في جسده المادي أيضًا، ويزول عطشه.فهذا الإنسان، وإن كان قد سُقي كأسًا زال منها عطشه إلا أنه يعني من الناحية الروحانية أن الله تعالى قد ألقى حبه في قلبه.وبالمثل لما عُرض على النبي ﷺ في كشف الإسراء الماء والخمر واللبن تناول إناء اللبن ورفض الماء والخمر؛ وكان تأويل ذلك أن أمته ل لن تهلك وستظل تتمتع بالمعارف الإلهية (دلائل النبوة للبيهقي مجلد ۲ باب الإسراء برسول الله.بيد أننا يمكننا أن نقول أيضًا على سبيل المجاز أن جسد النبي شعر بالعطش في ذلك الوقت، فأعطاه الله تعالى إناء اللبن، فشربه حتى ارتوى وزال عطشه إن العلة الأساسية إنما أن الإنسان يعتبر هذه الأمور أنه لا علاقة لها بالجسد والمادة، وإنما هي أمور روحانية بحتة.لو أنه نظر مادية، مع هي إلى كل هذه الأشياء وحاول فهمها بمنظور روحاني لوجد أن كون الرجل حافيًا أو

Page 450

الجزء الخامس ٤٤٣ سورة مريم عاريًا أو غير مختتن أو راكبًا على خيل أو جمل لكل واحد منه مدلول في العالم الروحاني.لو أنه أخذ هذا الأمر في الحسبان، ثم قرأ في الحديث أمورًا أكثر غرابة من هذا أيضًا لأدرك بدون أي صعوبة أن الله تعالى إنما صور بتعبيرات مادية بعض المعاني الروحانية تقريبًا لها إلى أفهامنا.فكل ظاهر ينطوي على باطن أيضًا، وذلك الباطن هو الشيء الحقيقي، وهو أمر روحاني بحت، وأسمى تماما من كل الماديات.وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْدًا شرح الكلمات : AV نسوق: ساق الماشية سوقا وسياقًا واستاق استياقًا: حثها على السير (الأقرب).وساق الحديث: سرده (المنجد).من خَلْفِ التفسير: يسمى أمير الجيش في اللغة العربية قائدًا، لأنه يقودهم أي يمشي أمامهم.ولكن في الغرب يكون أمير الجيش في الوراء عادة، فهو إذا سائق لا قائد بحسب اللغة العربية لأن السائق هو من يمشي في الوراء مثل سائق الإبل الذي يسوقها من وراءها، أو سائق المجرمين الذي يحثهم من ورائهم على المشي إلى الأمام لعدم رغبتهم في ذلك والدابة تريد أن تذهب حيثما تشاء، بينما يريد صاحبها أن يأخذها للعمل أو للسقي، لذا فهي لا تمشي برغبتها وإنما برغبة صاحبها.وكذلك المجرمون لا يودون أن يُعرضوا على الحاكم فلذا يكون لهم سائق يسوقهم إليه.فالسوق يُستعمل للدواب كالإبل ،غيرها، وأيضًا للمجرمين.كما يُستخدم للضعفاء أيضا حيث يقول الله تعالى في القرآن الكريم أنه إذا نزل الأمر بالقتال رأيت فئة من المؤمنين كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون (الأنفال: ٧).ذلك لأنهم يفكرون في أنفسهم مرارًا بأنهم كانوا يؤمرون بأن يرحموا الناس، ويعاملوا كل واحد بالمحبة والرفق واللطف والإحسان، فكيف يأمرهم الله الآن بحرب الناس! فبما أنهم يرون هذا الحكم خلافًا لما أمروا به من قبل، فيشق على أنفسهم.فليس المراد من هذه الآية أنهم أرادوا أن يخالفوا عن أمر الله تعالى، وإنما المعنى أنهم استغربوا من

Page 451

الجزء الخامس ٤٤٤ سورة مريم هذا الأمر إذ لم يكن العمل به بالأمر السهل لهم، حيث كان عليهم أن يحاربوا إخوانهم وأقاربهم، وهو أمر يشق على المرء بطبيعة الحال.ولكن العمل بالأمر نفسه هو الذي جعلهم يفوزون برضوان الله تعالى، فسيقوا إلى الجنة.وهنا ينشأ السؤال بأن القرآن الكريم لم يستعمل لفظ "السوق" للمجرمين والضعفاء فقط، بل للمؤمنين أيضًا.قال الله تعالى وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زُمَرًا ﴾ (الزمر: (٧٤ ، فما معنى هذه الآية إذا كان السوق هو الحث والدفع من الوراء؟ أما المفسرون فقالوا في الجواب: ورد السوق للكفار بمعنى حثهم ودفعهم من ورائهم، بينما ورد للمؤمنين بمعنى سوق ركابهم..أي أن الله تعالى سيكون في انتظارهم، فتسوق الملائكة ركابهم سوقا حتى يصلوا إلى الله تعالى بأسرع ما يمكن (الرازي).بيد أن هناك إجابتين أخريين عندي الأولى أن الله تعالى قال عن الكافرين قبل هذه الآية مباشرة وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمَرًا (الزمر: ٧٢)..فاستعمل للمؤمنين أيضًا نفس الفعل على سبيل المجاورة فحسب فسوق المؤمنين إنما يعني هنا الذهاب بهم من دون أدنى دفع لهم من الوراء أو الأمام أو من دون أية إشارة على إهانتهم.المشقة والإجابة الثانية هي أن هذه الكلمة تصوير لما سيكون عليه الكافرون يوم القيامة ولما كان عليه المؤمنون في الدنيا.فالكافر يفر من العذاب، وأما المؤمن فيهرب من التنعم والرخاء، فإنه لا يريد إلا لقاء الله تعالى فإذا كان الكافر يفر من والعناء، فإن المؤمن يعاف عيشة الترف والرخاء، ولكن الله تعالى يمنحه النعم والرخاء رغم أنفه.وهذا كما قال حضرة سيد عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه إني لا أكل الشهي من الطعام ولا ألبس الغالي من الثياب ما لم يرغمني الله على ذلك مستحلفا بذاته كل (قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر ص ٣٦).إذا فكلمة السوق تصوير لباطن المؤمن، ولا تعني أبدًا بأنه سيُدفع إلى الجنة فعلاً.

Page 452

٤٤٥ سورة مريم الجزء الخامس وكما قلت إن السائق يقابله القائد ولفظ القائد ينطوي على ثلاث دلالات: شجاعة القائد، وبشاشة جنوده، وحنّه الآخرين على العمل من خلال نموذجه الحسن والحق أن القائد الناجح إنما هو ذلك الذي يتحلى بهذه المزايا الثلاث.أي أنه ببسالته ونموذجه الحسن يرفع معنويات جنوده ويذكي فيهم الحماس للإقدام والتضحية بكل غال ورخيص، كما يجد بنفسه البشاشة واللذة في الموت في سبيل الله تعالى؛ ذلك لأن القائد يجري أمام الجيش للقاء العدو بينما يأتي جنوده وراءه.كما أن القائد الناجح من يجد جنوده أيضا البشاشة في القتال، حيث إن كلمة القائد نفسها تتضمن الدلالة على أنه ليس بحاجة إلى النظر إلى الوراء، فجنوده يشعرون بمسؤوليتهم تماما، وسيلحقونه بكل بشاشة من تلقاء أنفسهم.لقد ذُكر في تاريخ أمريكا حادث رائع يبين كيف أن القائد الناجح يفتح بأسوته ونموذجه قلوب جنوده وزملائه.كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحت حكم الإنجليز في أول الأمر.ثم بعد أن ظلوا مستعمرين فترة طويلة نشأت بنيهم حركة تحرر، ولكن لم يكن عندهم جنود ولا عتاد كاف لمقاومة المستعمرين الإنجليز الذين كان عندهم الجنود وكانوا يملكون العتاد بكل أنواعه فتطوع الفلاحون والعمال الأمريكان لقتال المستعمرين، واندلعت نيران الثورة في كل أنحاء البلد.ولما تقوت حركة التحرير اختاروا لهم قائدًا اسمه واشنطون وهو الذي أنشئت باسمه مدينة واشنطون فيما بعد.لقد كان رجلاً عاديًا، ولم يكن ذا خبرة كبيرة في فنون الحرب والقتال، ولكنه كان قلبه مفعما بالإخلاص والحماس لبلده وشعبه.فكان يتجول في البلد كله يلقي الخطب ويلهب الحماس في القوم للجد والاجتهاد من أجل الحرية لأنها نعمة عظمى.فذات مرة رأى أثناء بعض جولاته أن الثوار يبنون قلعة وأن أحد مساعديه الذي اسمه كاربول يشرف عليهم واقفا بجنبهم.وكان العاملون أربعة أو خمسة فقط من الجنود الثوار، وكانوا يحاولون رفع أعمدة خشبية ضخمة، ولكنهم كانوا يفشلون في ذلك رغم بذلهم الجهد الجهيد.وكان كاربول هذا واقفا بجنبهم يحثهم بأعلى صوته على رفع الأعمدة بدون أن يتقدم ويساعدهم في رفعها.وكان واشنطون يمر بهم على صهوة حصان أبيض، فلما رأى هذا المشهد أوقف حصانه،

Page 453

الجزء الخامس سورة مريم وسأل القوم عما يفعلون.فقالوا إن الجنود الإنجليز ،قادمون، فنحن نبني القلعة لحماية جنودنا.فقال فما المشكلة في بناء القلعة إذا؟ قالوا إن الأعمدة ثقيلة جدا ولا نقدر على رفعها.فتوجه واشنطون إلى كاربول وقال لم لا تساعدهم؟ قال إنما أنا مسؤول كبير ، وليس علي إلا الإشراف على عملهم فنزل واشنطون من توه من فرسه، وأخذ يساعد الجنود في رفع الأعمدة حتى رفعوها.فلما أراد الانصراف وهم أن يركب حصانه قال له :كاربول أريد أن أشكرك يا سيدي، من قبلي ونيابة عن قومي فأجابه واشنطون العفو، يا سيدي كل ما أريد منك أنك إذا كنت في مشكلة كهذه واحتجت إلى المساعدة فعليك أن تدعو قائدك الأعلى واشنطون هذه هي التضحية عن جدا أسوة القائد.إنه يقدم نفسه لكل عمل وخدمة، ولا يتخلف عند أحد، بل يتصدر الآخرين، ويحثهم على العمل بنموذجه الحسن.وإذا لم ينتفع الناس من نموذج القائد الرائع فلا شك أن حظهم تعس ولقد سميت المسؤول الأعلى في تنظيم "خدام الأحمدية" في كل فرع من جماعتنا "القائد" لكي يفتح قلوب الناس بنموذجه الطيب.أما كلمة وردًا) في قوله تعالى (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردًا فمن معانيها: الإشراف على الماء؛ والعطش؛ والنصيب من الماء؛ الماء الذي يُورَد؛ والقوم الذين يردون الماء (الأقرب).لقد بين الله تعالى في هذه الآية أن الكافرين يُحشرون حشرًا جماعيًّا أيضًا، ولكن سيخاف بعضهم من الاقتراب من البعض الآخر، فلذا يُقهرون بالضرب على التجمع، وأخيرًا يُدفعون إلى جهنم وهم بحاجة إلى أن يؤخذوا إلى حيث يزال عطشهم.وهذا بيان لشدة عذابهم بمعنى أنهم سيكونون بحاجة شديدة لأن يجدوا مكانا يجدون فيه الماء والراحة ومع ذلك سيُدعون إلى جهنم.دعا، وهي مكان يبلغ من الهول والذعر والعذاب بحيث يكرهون التوجه إليها.

Page 454

الجزء الخامس ٤٤٧ سورة مريم لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا شرح الكلمات : ۸۸ الشفاعة: الشفعُ: ضمُّ الشيء إلى مثله ؛ وقيل : الشفعُ: المخلوقات من حيث إنها مركبات كما قال ومن كل شيء خلقنا زوجين)) (الأقرب).وورد في المفردات: الشفاعة الانضمام إلى آخَرَ ناصرا لـــه وسائلاً عنه، عنه، وأكثر ما يُستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى؛ ومنه الشفاعة في القيامة قال تعالى لا يملكون الشفاعة إلا مَن اتَّخذ عند الرحمن عهدًا، وقال تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) وقال تعالى ما من شفيع إلا من بعد إذنه.التفسير: إذا أخذنا مفهوم الشفاعة المذكور أعلاه فإن مسألة الشفاعة تنحل تماما.هناك فكرة شائعة بين المسلمين بشكل عام أن كل مسلم ينطق بالشهادة سيشفع له النبي يوم القيامة، بل يقولون بكل فخر أن الشفاعة ليست إلا من أجل العصاة والآثمين.مع أن الشفاعة لا بد لها من تشابه وتماثل بين المرء والرسول ، وإنما يستحق شفاعته من سعى جهده لأن يكون مثله ، ولكنه لم ينجح في ذلك كما ينبغي جراء بعض تقصيراته؛ وسدا لهذا الفراغ سوف يتوسل النبي ﷺ إلى ربه و ويقول يا رب، قد بذل هذا قصارى جهده ليكون مثيلا لي، ولكن بعض تقصيراته حالت دون أن يحقق هدفه تمامًا ، فألتمس منك أن ترحمه، وتعفو عن تقصيره، ولا تحرمه من قربك.فالشفاعة ليست للأثمين العصاة، بل لها قوانين وشروط.أولها أن يكون المرء مثيلاً للشافع، وإلا فلن يشفع لــــه.وثانيها أن يكون الله تعالى راضيًا عنه، لأنه تعالى يقول ولا يشفعون إلا لمن ارتضى (الأنبياء: (۲۹)..أي لكي يستحق المرء الشفاعة لا بد أن يكون الله تعالى راضيًا عنه.وثالثها أن يأذن الله لشفاعته لقوله تعالى (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس: ٤).

Page 455

الجزء الخامس ٤٤٨ ﷺ المماثلة.إذ تعني سورة مريم فلو كان الإثم يجعل المرء مستحقاً للشفاعة، كما يظن عامة المسلمين، فما الحاجة لأن يضع الله تعالى هذه الشروط الثلاثة : الشفاعة (أي المماثلة والرضا والإذن.بل يجب أن يقول الله تعالى في هذه الحالة إن كل من يصبح آئما فإن محمدًا رسول الله سيتولى شفاعته يوم القيامة.الحق أن المرء لا يستحق شفاعة الرسول لله أبدا ما لم يصبح مثيلاً له.إنما مثل الشفاعة كأن تذهب إلى السوق لشراء فاكهة المانجو من نوع معين، فتذكر للبائع حاجتك.فيعطيك أجود ما عنده من حبات هذا النوع، ولكنك تريد المزيد وهي غير متوافرة لديه، فتقول له: حسنًا أعطني من النوع الذي يشبهه جودةً، فيعطيك حبات من نوع آخر ليس مثله تماماً ولكنه مقارب له؛ فتأخذها أيضًا.ولكنك لن تأخذ مكان المانجو حبات من نوى المانجو أو قشورًا للموز أو حذاء باليًا مثلا، إنما تأخذ المانجو من نوع مقارب وإن كانت أقل جودة وأصغر حجمًا بعض الشيء.وبالمثل لا بد للشفاعة من نوع من الشفاعة أن الذين يسعون جاهدين ليكونوا أشباها للنبي ﷺ ومع ذلك يظل بعض الفراغ في كمالهم الروحاني، سيتوسل النبي له إلى الله تعالى يوم القيامة من أجلهم ويقول يا رب، هؤلاء أن يكونوا أشباها وأمثالاً لي ولكن بقي في أعمالهم بعض النقص، فألتمس إليك أن تسد برحمتك هذا النقصان.وليست الشفاعة أنهم من ناحية يزنون ويفسدون ويقتلون ويرفعون هتافات باطلة ويرمون الآخرين بتهم شنيعة، ومع ذلك يقولون إن شفاعة النبي ﷺ حق الآثمين المذنبين كلا، بل إن الذي يسعى جاهدًا لاتباع خطوات الرسول ، ويسعى كل السعي لاقتداء الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أجمعين – ولكن يظل في أعماله بعض النقص، فإن الله تعالى سيكشف على النبي ﷺ جهوده ومساعيه، فيتوسل النبي ﷺ إلى الله تعالى مسترحما له ويقول يا رب لقد بذل عبدك هذا جهده كما ترى، ومع ذلك تخلّف، فسُدَّ له هذا الخلل بفضلك ورحمتك.وهذا ما يؤكده أهل اللغة أيضا حيث يقولون لا بد للشفاعة من أن يكون الواحد مثل الآخر، فإنما الشفاعة هي ضم شيء أدنى إلى لقد

Page 456

الجزء الخامس شيء ٤٤٩ سورة مريم أعلى مثله.وهذه هي الحقيقة التي يبينها الله تعالى هنا بقوله لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدًا.لقد تبين من هذه الآية جليًّا أن المسيح ال الذي قد اتخذه المسيحيون ابنا الله تعالى لن يملك حق الشفاعة لأحد يوم القيامة.ذلك لأن الله تعالى قد أخبر بعد ذكر الشفاعة مباشرة في الآيات التالية أن اتخاذ ابن الله تعالى معصية كبيرة.فكيف يمكن أن يُوهب حق الشفاعة لمن يُنسب إليه شيء يثير تصوره سخط الله تعالى.واعلم أن المذكور في قوله تعالى إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا هو نبينا ، الذي أخبره الله تعالى بالوحي أنه سيقبل شفاعته يوم القيامة.فعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله له : أعطيتُ خمسا لم يُعطَهن أحد من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر؛ وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورًا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليُصَلِّ؛ وأُحلّتْ لي الغنائم؛ وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصةً وبعثتُ إلى الناس كافة؛ وأُعطيتُ الشفاعة" (البخاري، كتاب الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطَهورا).وفي رواية أخرى عن أبي هريرة له أن النبي ﷺ قال إن الأنبياء كلهم يرفضون أن يتقدموا إلى الله تعالى للشفاعة يوم القيامة، فأقع ساجدا لربي ، "فيقول الله تعالى، يا محمد ارفع رأسك.سَلْ تُعْطَه، واشْفَعْ تُشفّع" (انظر البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح).وينص الله تعالى في القرآن الكريم على كون النبي شفيعا فيقول وتبارك * الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (الزخرف: ٨٦-٨٧).فقوله تعالى ولا يملك الذين يَدْعُون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) أن الآلهة الباطلة التي يدعوها هؤلاء المشركون من دون الله تعالى لا يملكون حق الشفاعة مطلقا، إنما يملك حق الشفاعة من يشهد بالحق أي محمد يعني رسول الله.وإن الكفار يعلمون هذه الحقيقة لو كانوا من المتدبرين.

Page 457

الجزء الخامس ٤٥٠ سورة مريم لقد تبين من ذلك تماما أنه لا يتمتع بحق الشفاعة أحد إلا محمد رسول الله ﷺ وهذا ما يؤكده الله تعالى هنا أيضًا بقوله لا يملكون الشفاعة إلا من الرحمن عهدًا.وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا )) اتخذ عند التفسير: يبين الله تعالى هنا أن هؤلاء يزعمون أن المسيح سيشفع لهم.وأنى للمسيح أن يشفع لهم! لقد كان عبدًا موحّدًا لنا، ولكنهم يتخذونه شريكا لنا؛ وحيث إنه لا مشابهة بينهم وبين المسيح الموحد، فكيف يمكن أن يتمتعوا بشفاعته.إنما تكون الشفاعة للمثيل المشابه ولكنهم ليسوا مماثلين للمسيح.إنهم يخالفون تماما تعليم المسيح حيث قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، مع أن اتخاذ الولد يتعارض مع صفة الله الرحمن.6 علما أن هذا لا يعني أبدا أن المسيحيين كانوا يؤمنون بأن الله رحمن.كلا، إنما هذا أحد أساليب الاستدلال حيث تُربط النتيجة بالأمر الواقع الثابت سواء صدقها الخصم أم لا.وهذا ما فعل الله تعالى هنا.فبرغم أنهم منكرون لرحمانية الله تعالى، إلا أن الحقيقة أن الله تعالى رحمن، ويستحيل أن يحتاج رحمن إلى ولد، فثبت أن دعوى المسيحيين غلط يقينًا.فأملهم في شفاعة المسيح، رغم هذا الادعاء الباطل، لخطأ فادح.لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِذَا (ج) شرح الكلمات : إدا: ورد في المفردات "قال تعالى لقد جئتم شيئًا إذا..أي أمرًا منكرا يقع فيه جلبة".اعلم أن المنكرات أنواع، فمن المنكر ما يضحك منه الناس، ومن المنكر ما يغض عنه الطرف، ومن المنكر ما يعبسون منه ومن المنكر ما يثيرون عليه ضجة الناس

Page 458

الجزء الخامس ٤٥١ سورة مريم وجلبة.وقد بين الله تعالى باستخدام لفظ إذا أن هذا منكر لا تقبله الفطرة الإنسانية، ويثير الناس بسببه جلبة وضجة.التفسير: لقد صور الله تعالى هنا الشرك بأقبح صورة، مبينا أن الشرك أمر منكر مناف للفطرة السليمة، بحيث لا يتمالك الإنسان الشريف من أن يبدي شنیع استنكاره الشديد نحوه ولا يتحمله في أي حال، بل يثير ضده احتجاجًا عنيفًا.وهذه حقيقة ثابتة.ولذلك تجد المسيحيين الآن يفسرون الثالوث بطريق آخر فراراً من المطاعن والاعتراضات التي أثارها الإسلام.ولكن الغريب المؤسف أن الله تعالى يقول هنا إن على كل إنسان أن يرفع الصوت ضد هذه الفتنة الوثنية، ولكن الذين يحاربون هذه الفتنة اليوم بأعلى أصواتهم جاهدين لتوطيد التوحيد في العالم ليل نهار، قد أصبحوا عند المسلمين أنفسهم كافرين ملحدين وخارجين عن دائرة الإسلام إنهم يقابلون المسيحيين الذين يشركون المسيح بالله تعالى بكل حفاوة ومحبة، أما الذين يدعون المسيحيين إلى الإسلام لينتشر التوحيد الإلهي في العالم فيعتبرونهم كافرين تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُ الْأَرْضُ وَتَحِرُ الْجَبَالُ هَذَا ) أَن دَعَوْاْ لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) شرح الكلمات : ۹۱ يتفطرن: تفطَّرَ الشيءُ: انشق.وتفطّرَ القضيب : بدأ نباتُ ورقه.وتفطرت الأرض بالنبات: تصدعت (الأقرب).فالفرق بين الفطر والتفطر أن الفطر هو إنشاء الشيء أول مرة.والتفطر هو انشقاق الشيء من شيء آخر.هدا : الهدة صوتُ وقع الحائط (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أنه قد حدثت ثورة ضد الشرك في السماوات بحيث تكاد تنشق من شدتها كما يوشك أن ينشق صدر الأرض أيضًا بتأثير الهياج

Page 459

الجزء الخامس مع ٤٥٢ سورة مريم الحاصل بباطنها بسبب الشرك، وتكاد الجبال تسقط على الأرض من شدة الصدمة ضجة هائلة في العالم.بمعنى أن هذه الدعوى ثقيلة الوطأة على السماوات والأرض والجبال كلها.إنها ثقيلة على السماوات بمعنى أنها خلاف المشيئة السماوية..أي أنها بعيدة كل البعد عن صفات الله تعالى وعن تصور الملائكة.وهي ثقيلة على الأرض بمعنى أنها تتنافى مع الفطرة السليمة.وهي ثقيلة على الجبال بمعنى أنها تتعارض مع عواطف الرقي التي هي اعظم ما في فطرة الإنسان.ذلك لأن عقيدة بنوة المسيح تستلزم الإيمان بالفداء والكفارة والكفارة خلاف للترقيات الإنسانية السامية، ودليل على تردّي الإنسان وضعته.وإن ما تحاول المسيحية إثباته باللجوء إلى الكفارة ،والبُنوّة يؤكد الإسلام أنه ممكن للإنسان بإحرازه الترقيات العالية.وهذا يعني أن كلمات السماوات والأرض والجبال" إنما تشير هنا إلى الكائنات الروحانية المماثلة لها.فكلما أنكر البعض إحراز الإنسان الترقيات الروحانية العالية، وكلما غضّوا الطرف عن صفات الرحمة والعفو والإحسان التي يتصف بها الله تعالى تفطرت السماء حتمًا، إذ لا يرضى الله ولا ملائكته بهذا الإنكار؛ كما أن الأرض أيضًا ستنشق لأن الناس أيضا لن يرضوا بهذا الزعم، ثم إن الجبال أيضا ستنفجر وتتهدم لأن الطراز الأول من الناس أي أنبياء الله تعالى أيضا لا يرضون بمثل هذا الظن.إن الإنسان العادي سوف يستنكر هذا التعليم لأنه يرى أن هذا التعليم يسد في وجهه باب الرقي بكل أنواعه.أما الإنسان من الطراز الأول فسوف يستنكره لأنه يقول إنني قد جربت هذا الأمر بنفسي وقد أحرزت هذا الرقي فعلاً، فكيف يزعم هؤلاء الآن أن إحراز مثل هذا الرقي الروحاني مستحيل؟ فما هذا الهراء الذي أسمعه؟ وأما الله مع ملائكته فسيسخط على هذه المزاعم لأنه تعالى سيقول لقد وهبنا هذه النعم فعلاً، فكيف ينكرون بعد ذلك قدرتنا على ذلك؛ زاعمين أن الله تعالى لا يمكن أن يغفر لأحد، ولا أن يتوب على أحد، حتى ينعم عليه بقربه وزلفاه.إذا فالسماء والأرض والجبال كلهن يقفن احتجاجا على هذا الزعم البغيض، بمعنى أن أهل السماء يكرهونه وكادوا يتفطرون بسببه؛ كما أن الفطرة

Page 460

الجزء الخامس ٤٥٣ سورة مريم الإنسانية أيضًا تصرخ احتجاجًا عليه وتخرّ الجبال هدا..أي أن أصحاب الروحانية العالية أيضًا يضيقون ذرعا ويقولون ما هذا الظلم والافتراء، فإننا نتمتع بهذه النعم وهؤلاء ينكرونها ! الله إنني كلما أحاور منكري الوحي والإلهام أقول لهم دائمًا: ماذا أفعل بأدلتكم في حين أن الله تعالى نفسه يكلمني.لو أن الله تعالى لم ينزل علي إلهاماته فلربما ظننت أن في أدلتكم بعض الثقل والقوة، ولكن كيف يمكن أن تؤثر في حججكم القائلة بعدم نزول الوحي والإلهام وأنا أتلقى الإلهام من تعالى فعلاً؟ فالشيء الذي قد رأيته وجربته بنفسي وأنا من خدام محمد رسول الله ﷺ، كيف يمكنني أن أقول عنه إن المصطفى ﷺ أو المسيح الموعود ال لم يره و لم يجربه.عندما أسمع الطبيعيين يقولون أن القرآن ليس إلا عبارة عن أفكار عالية لمحمد ﷺ (تفسير القرآن للسير سيد أحمد خان ص ٣٢)، فإني أضحك من قولهم، وأقول ما دمت أنا أتلقى الإلهام بكلمات محددة فكيف يستحيل نزول كلام الله تعالى على رسول الله ﷺ وهو أعظم مكانة وأعلى شأنا جدا.وكما قلت إن قوله تعالى وتخرّ الجبال هدا تتضمن هذا المعنى أي أن الروحانيين من الطراز العالي الحائزين على هذه النعم كلها حين يسمعون هذا الهراء يشعرون وكأن هؤلاء المنكرين يحاولون هدم كل المقامات الروحانية السامية التي قد تبوءوها فعلا.وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا )) التفسير: إن عقيدة المسيحيين عن بُنوّة المسيح مخالفة تمامًا لصفة الله "الرحمن"، ومن أجل ذلك تجد المسيحية تنكر كون الله تعالى رحمانًا، وتقدم نظرية فداء ابن الله تعالى لخلاص العالم.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : إذا كان صحيحا أن الله تعالى لا يمكن أن يغفر ذنوب العباد، وأنه تعالى قد نجا الناس بفداء ابنه، فأين غابت صفة الله "الرحمانية"؟ ذلك لأن رحمانيته ولا هي التي كانت ستتسب مغفرة الناس، ومن أجل ذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم الرحمن * علم

Page 461

الجزء الخامس ٤٥٤ سورة مريم القرآن) (الرحمن: ۲ (۳) أي أن كلام الله تعالى الذي ينزل لهداية الناس إنما هو نتيجة صفة الله الرحمن، حيث تثور رحمانيته حين يرى العباد في الضلال.وكما أن الله تعالى قد خلق في العالم المادي آلاف النعم بدون أن يسأله الناس إياها، كذلك في العالم الروحاني يُنزل الله تعالى كلامه الذي ينال العباد النجاة بالعمل به.إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا ءَاتِي الرَّحْمَن عَبْدًا ) التفسير: أي ما الداعي أن يكون الله ولد وكل شيء خاضع له عل؟ إنما يكون الولد ليعين أباه أو ليخلد اسمه بعد موته ولكن ما دام الله تعالى أسمى من أي احتياج، وحاكمًا على كل شيء، فما الذي سيحكم عليه ولده؟ لَقَدْ أَحْصَنَهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (3) التفسير هذا شرح لما سبق والمراد أن الله تعالى ما دام قد عد كل واحد منهم : فما الحاجة إلى ولد له.إنما تكون الحاجة إلى ولد إذا كان هناك شيء لا يقدر الله على القيام به.وَكُلُّهُمْ وَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَرْدًا (3) 97 التفسير: يزعم المسيحيون أن المسيح قد حمل عنهم أعباءهم، ولكن الله تعالى يدحض زعمهم هذا ويقول إن هذا العالم كما هو خاضع لقوانينه تعالى فسيخضع الناس بعد موتهم أيضًا لقوانينه هو ، وسيمثل كل إنسان أمام الله للحساب أن المسيح قد مات على الصليب مكانهم، وحمل عنهم كلا، بل كل إنسان سيحمل صليبه بنفسه كما قال المسيح العليا نفسه: فردا.فمن وزرهم.الخطأ الزعم "ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا" (لوقا ١٤: ٢٧).وقال ° 10/ أيضًا : من أراد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (مرقس ٨: ٣٤).

Page 462

الجزء الخامس ٤٥٥ سورة مريم فعندي أن هذه الآية القرآنية تؤمي إلى هذا الأمر نفسه، حيث يقول الله تعالى إن المسيح ما دام قد صرح بنفسه أن على كل واحد أن يحمل صليبه فكيف تظنون أنه قد حمل عنكم كل أعبائكم؟ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) شرح الكلمات ۹۷ وُدًّا : الودّ هو الحب الشديد الذي يقوّي الصلة بين المحب والمحبوب جدا حتى يرتبط الواحد بالآخر.إن الود يحتوي على مفهوم مماثل للدابة المربوطة بالوتد فيكون بين الله والعبد رابطة حب قوية لا انفصام لها.والود والود والود بمعنى واحد.وتتضح حقيقة معنى الود من حيث إن الوُدّ يعني الوتد أيضًا (المفردات: ودد)، لأن الحيوان يُربط به.فالود هو المحبة التي تربط المحب بالمحبوب كما يربط الوتد الحيوان بمكان ما.وفي اللغة العربية كلمات كثيرة للتعبير عن الأنس والألفة، ولكنها كلها دون الود قوة وشدة.فمثلا يدل لفظ الرغبة على اشتياق المحب إلى حبيبه ولكنه لا يعني بالضرورة اشتياق الحبيب إليه أيضًا.كما أن لفظ الأنس يتضمن معنى تولد الشوق في قلب المحب نحو حبيبه والتفات الحبيب إليه، ولكن الود أن حبهما المتبادل قد بلغ من القوة والشدة بحيث ربط 6.يعني أكثر ذلك، من وهو الواحد بالآخر وعقدهما عقدًا.وقد ذكر القرآن الكريم من بين أسماء آلهة الكفار اسم وُدًّا (سورة نوح: ٢٤)..وذلك لزعم المشركين أن لهذا الصنم ارتباطًا قويًّا بالله تعالى كارتباط الوتد بالأرض.بيد أن الود، وإن كان أقوى من الرغبة والأنس، إلا أنه دون الخلة، إذ تعني الخلة الحبّ الذي يتخلل كل ذرة من الكيان.أما الود فلا يبلغ هذه الدرجة، ولكنه يدل على صلة ثابتة دائمة لا انفصام لها.

Page 463

الجزء الخامس سورة مريم التفسير: لقد قال الله تعالى عن المسيح الله من قبل ولنجعله آيةً للناس ورحمةً (منا) (مريم: (۲۲)..أي سنجعله آية للناس وسبب رحمة من عندنا؛ فكأنه تعالى قد استخدم لفظ الرحمة للمسيح.بينما استخدم الله تعالى هنا للمسلمين لفظ الود، وهو المحبة الثابتة كالوتد كما ذكر من قبل.إنه لمن مزايا القرآن الكريم أنه يستعمل أحيانًا كلمات يستنبط منها مفاهيم عديدة بالنظر إليها من زوايا مختلفة.وهذا ما فعل الله تعالى هنا أيضًا حيث قال سيجعل لهم الرحمن ودا) حيث أطلق لفظ لهم الذي يعني لفائدتهم، دون أن يحدد المجال الذي يجعل الله فيه الود لهم، وذلك لتؤدي هذه الجملة جميع المحتملة.المعاني وعندما نتدبر من هذا المنظور في قول الله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّا يتبين لنا أنه يحتوي على الدلالات التالية: الأول أن الله تعالى سيجعل حبه في قلوب المؤمنين ثابتا كالوتد.والثاني أنه تعالى سيجعل حب المؤمنين في قلبه ثابتا كالوتد والثالث أنه تعالى سيجعل حب الإنسانية في قلوب المؤمنين ثابتا كالوتد والرابع أنه تعالى سيجعل حب المسلمين في قلوب الناس ثابتا كالوتد.ولنتناول الآن هذه المعاني بشيء من التفصيل: المعنى الأول هو أن الله تعالى سيجعل حبه في قلوب المؤمنين ثابتا كالوتد.وبالفعل إن الذي يتدبر في نعم الله تعالى ويرى الفيضان الواسع الرحمانية الله تعالى، ويدرس مننه ونعمه التي تخرج حد الإحصاء، فلا بد أن تتولد محبة الله في قلبه، و أن يسعى للتقرب إليه.وأن أنا يقول المسيحيون أن الله تعالى قد أرسل ابنه إلى الدنيا لخلاص أهلها، فمن واجبهم ، أن يحبوه الله ولكن الله تعالى يقول إني أشملكم بحبي ليل نهار.إني الرحمن، وأمتعكم برحمانيتي في كل حين وآن.ألا يمكنكم أن تحبوني برؤية هذه النعم والمنن التي أنزلها عليكم؟

Page 464

الجزء الخامس ٤٥٧ سورة مريم مساء من إننا لم نر المسيح اللي يموت على الصليب، ثم إنه لا دليل بيدنا على أنه علق من أجلنا؛ ولكنا نرى الشمس التي قد سخرها الله لنا تطلع علينا كل يوم.ونشاهد في السماء دائما القمر الذي جعله الله لنا ونرى الأنهار التى قد خلقها الله تعالى تجري في الأرض.ثم إن هذه العيون التي نرى بها الأشياء لم يعطنا آباؤنا إياها، كما لم نشترها من أي مكان، إنما هي منحة من الله تعالى وهبها لنا نتيجة رحمانيته.وبالمثل إنه تعالى منحنا اللسان الذي نتكلم به ورزقنا الطعام الذي نأكله صباحَ.غلال وأرز ولحم وخضار كما أعطانا المال والصحة والعز والشرف.فإننا نشاهد بأعيننا آلاف المشاهد من رحمانية الله تعالى كل يوم، مما يجعل قلوبنا تلهف إلى الله تعالى حبًّا وشوقا.ولكن المسيحيين يقولون لنا علينا أن نحب الله تعالى بناء على حدث لم نره قط، بدلا من أن نحبه البناء على ملايين النعم والمنن الإلهية التي نشاهدها يوميًا.والمعنى الثاني هو أن الله تعالى سيجعل حب المؤمنين في قلبه ثابتا كالوتد، ويكون له صلة قوية بهم.وقد تجلى هذا المعنى أيضًا من خلال المسلمين.والتاريخ شاهد على أن الله تعالى كان معهم، وعاملهم بحب لا يوجد له مثيل في العالم.والمعنى الثالث هو أنه تعالى سيجعل حب الإنسانية في قلوب المؤمنين ثابتا كالوتد.وقد دعا المسيح الي أيضًا في الإنجيل مراراً إلى هذا التعليم نفسه وقال: لگے أحبوا الناس عاشر وهم بالبر والإحسان متى (٥ ٤٤.ولكن ليس سبيل حب الإنسانية أن يؤمن المرء بكون المسيح ابنا لله تعالى، وإنما السبيل لحب الإنسانية حقا أن يعتبر المرء نفسه ابنا لله تعالى.وإنما يتأتى هذا الحب إذا بلغ المرء مقام الودّ، فيرتبط بالله تعالى ارتباط الحيوان بالوتد.فإذا تولد في قلبه حب الله تعالى تولد فيه حب عباده حتمًا.ولكن أنَّى لهذا الحب أن يتولد بالإيمان ببنوة المسيح عليه السلام.والمعنى الرابع هو أن الله تعالى سيجعل حب المسلمين في قلوب الناس ثابتا كالوتد هذا أيضًا نتيجة حتمية لحب الله تعالى لأن الإنسان حين يحب الآخرين فإنه يخدمهم ويعاملهم بالحسنى ويغمرهم بحبه وحنانه؛ فيحبه الناس أيضا.ونجد مثال حب الناس للمسلمين جليًّا في الفتوحات الإسلامية في المناطق الرومية.فمرة

Page 465

الجزء الخامس ٤٥٨ سورة مريم تقدم جيش مسيحي عرمرم لمواجهة المسلمين فظن المسلمون أن لا قبل لهم به، وأرادوا إخلاء تلك المنطقة، فردوا لأهلها كل ما أخذوه منهم من خراج بضمان حمايتهم.فكان لذلك وقع عظيم في قلوب القوم يهودًا ونصارى حتى جاءوا باكين ليودعوا جنود المسلمين، وكان القسيسون والرهبان يدعون الله تعالى بأن يرجع بالمسلمين إليهم ثانية.وقد تأثر اليهود لدرجة أنهم بدءوا يحلفون بالله تعالى أنهم سينذرون أرواحهم، ولن يسمحوا للجيش المسيحي المحارب ضد المسلمين بالدخول في مدينتهم فتوح البلدان الجزء الأول ص ١٤٣-١٤٤).ما أشدَّ هذا الوعظ العَمَلي روعةً وتأثيرًا من وعظ المسيح بالحب! لقد قال المسيح الا باللسان فقط إن الله محبة ولكن المسلمين قد أثبتوا بعملهم أن الله تعالى محبة.ثم إن الله تعالى قد استعمل للمسيح ال لفظ الرحمة فقال ولنجعله آية للناس ورحمة منا ، بينما استخدم للمسلمين كلمة الود التي هي أشد الرحمة، لأن الود يدل على محبة شديدة راسخة رسوخ الوتد في الأرض.فشتان بين تعليم المحبة في الإنجيل وبين تعليم المحبة في القرآن.إن بينهما ما بين الأرض والسماء.من فترى كيف بين الله تعالى هذا الموضوع الواسع بكلمات وجيزة: سيجعل لهم الرحمن وُدًّا.وعلاقة هذا الموضوع بقوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات الوارد في مستهل هذه الآية هي كالآتي: أولاً: إن الإيمان والعمل الصالح يجلبان لصاحبه حب الناس.لما كان من معاني الإيمان منح الأمن، فالمؤمن من يهيئ الأمن والبركة للآخرين؛ وأما العمل الصالح فهو ما يكون وفق الحاجة ومقتضى الحال؛ فالشخص الذي يتحلى بهاتين الميزتين، أي يهيئ الأمن للناس ويقوم بكل عمل بمقتضى الحال فإن الناس يحبونه حتما، لأن الذي يحسن إليهم، ويحمل عنهم أعباءهم، ويعمل على النهوض بهم، ويفرج عنهم كروبهم، لا بد أن يتولد حبه في قلوبهم.

Page 466

الجزء الخامس ٤٥٩ سورة مريم ثانيا: من النتائج الحتمية للإيمان والعمل الصالح أن يتولد في قلب المرء الناس.ذلك لأن إحسانه إلى الناس جميعًا يعني حتما أنه يحبهم أيضًا.ثالثًا: كما أن الذي يحب الناس لا بد أن يتولد في قلبه حب الله تعالى، شأنه شأن الذي إذا أحب ولدا ما أبدى الحب والاحترام نحو والديه أيضًا، إذ من المحال أن يحب الولد ويكره أبويه.رابعا : ثم إن الذي يحب عيال الله تعالى لا بد أن يحظى بحب الله تعالى أيضًا.قصارى القول إن الإيمان والعمل الصالح يجعلان المؤمن يحب الناس.والنتيجة الحتمية لحبه إياهم أن يحبوه أيضًا.ثم إن الذي يعامل الناس بلطف ومحبة يتولد في قلبه حب الله تعالى أيضًا؛ إذ من المحال أن تقرأ كتابًا جيدًا وتحبه ولا تحب مؤلفه؛ أو ترى رسما جميلا وتحبه ولا تحب الرسام.إن الذي يحب الإنسانية لا بد أن يؤدي به حبه لها إلى حب الله تعالى، فبعد حبه لخلق الله يبدأ في الله نفسه.وهذا ما يسمى ہے عند الصوفية "العشق المجازي"..أي أن يتولّد حب الله تعالى في قلب المرء نتيجة حبه للناس.ولكن قد ظن بعض المسلمين لسوء الحظ، أن حب الجمال الظاهري يؤدي بالإنسان إلى حب الله تعالى.وهذا خطأ تماما.كلا، إنه ليس حب الجمال الظاهري، بل إن حب الإنسانية هو الذي يؤدي بالمرء إلى حب الله تعالى.ثم إن الذي يحب عيال الله يخصه الله تعالى أيضا بمحبته ومودته.ولا تبقى بعد هذه الأمور الأربعة أية حاجة للكفارة والفداء على الإطلاق.فَإِنَّمَا يَسَّرْنَهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ) التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن الشرع ليس بلعنة، بل قد أنزلناه بكلمات مهذبة سهلة.لو كان الشرع غير قابل للعمل به، أو لو أننا أمرنا الناس بما يضرهم لكان لعنة؛ ولكننا ما دمنا قد أمرناهم بما هو صالح للعمل به، وبما فيه فائدتهم، فكيف يكون الشرع لعنة؟

Page 467

سورة مريم الجزء الخامس فبقوله تعالى فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين أخبر أننا أنزلناه بأسلوب مهذب سهل يفهمه المؤمنون جيدا، كما جعلناه صالحا للعمل به، إذ لو كان غير قابل للعمل به لما كان بشارةً ، بل كان إنذارًا.فكيف يصح إذا اعتبار الشرع لعنة؟ ثم قال الله تعالى وتنذر به قومًا لُدَّا..أي صحيح أن الذين ديدنهم الخصام والشجار لن يصدقوا به بطبيعة الحال، ولكنهم لن يؤمنوا في أي حال، سواء سميتم الشرع لعنة أو رحمة.لقد أوضح الله تعالى بذلك أن القرآن الكريم صالح للعمل به عند كل إنسان صحيح الفطرة، وأنه رحمة وبشارة للذين يعملون به.رحمة وبشارة للذين يعملون به.ولكن الذي يصر على الإنكار عنادا ، فلا فرق عنده سواء أكان القرآن سهلاً أم صعبا.إنه سيصر على الرفض والإنكار لأي شيء قدمت أمامه، لأن ديدنه الخلاف والمعارضة.ولكن سليم الفطرة والبريء من العوج يدرك أن الشرع رحمة من الله تعالى، وأن جميع وصاياه نافعة للإنسان، وأن الله تعالى قد جعله سهلاً وقابلا للعمل به.وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ ركزا ) شرح الكلمات تُحِس حس الشيء وبالشيء: علمه وشعر به وأدركه.وأحس رأى (الأقرب).وبما أن جملة هل تحس منهم من أحد قد جاءت إزاء جملة تسمع لهم ركزا فاتضح من ذلك أن تُحس جاءت هنا بمعنى "ترى".ركزا : الرّكز: الصوت الخفي (الأقرب).التفسير : يبين الله تعالى هنا أن السبب الحقيقى وراء غطرسة المسيحيين هو القوة التي يملكونها إن اعتبارهم الشرع لعنة واختراعهم عقائد الكفارة والفداء وغيرها لأمر باطل تمامًا.إنما يريدون بذلك الانغماس في الملذات والتهرب من العمل

Page 468

الجزء الخامس ٤٦١ لهم سورة مريم أن لا بالقوانين الإلهية.إنهم مغرورون بقوتهم ظانين أن لا زوال لهم.ولكن عليهم يغتروا بها، فكم من أمة أهلكناها قبلهم؟ هل ترون لها من أثر أو هل تسمعون لهم حتى صوتًا خفيًّا؟ أي أن آثارهم أيضًا ،اندرست حتى اشتبه تاريخهم، وانمحت أعمالهم كلية، حتى اختفت آثار وجودهم أيضًا.فإذا كان الأولون قد اختفوا من صفحة الوجود تمامًا، فليتذكر هؤلاء القوم أننا قد أن أعلنا إما العذاب وإما الساعة..أي أن الذين قد قدرنا لهم العذاب سيذوقونه ليؤمنوا بعد ذلك بالله الواحد الأحد، وأما الذين قد كتبنا لهم الساعة أي الدمار الشامل فسيدمرون تدميرا حتى لن يُرى لهم ولا لأعمالهم من أثر.فالإيمان هو الغالب حتما، الكفر من صفحة العالم للأبد.سبق وسينمحي أثر

Page 469

الجزء الخامس ٤٦٣ سورة طه سورة طه وحي مع البسملة منةً وست وثلاثون آيةً وثمانية ركوعات * الله بن مسعود الله من السور هذه السورة مكية بلا خلاف.قد اعتبرها عبد الأوائل نزولاً حيث ذكرها مع سور بني إسرائيل والكهف ومريم والأنبياء وقال هن من السور التي حفظتها في بداية إسلامي (البخاري، كتاب التفسير، سورة الأنبياء).قد عدَّها "ويري" مما نزل في الفترة المكية الثالثة أي قبيل الهجرة، وحجته أنها تتحدث بإسهاب عن أنبياء بني إسرائيل تفسير القرآن لـ "ويري").وإنها لجرأة كبيرة من "ويري" أن يقول إن هذه السورة نزلت في أواخر الفترة المكية بحجة أنها تتحدث بإسهاب عن أنبياء بني إسرائيل، أن هؤلاء قد ذُكروا في مع تعد أيضا التي من السور الأوائل، ومع أن الروايات والتاريخ أيضًا سورة مريم تخالف رأيه؛ حيث بينا من قبل أن ابن مسعود ، وهو من الصحابة الأوائل، قد عد هذه السورة مما حفظه في بداية الإسلام.الربط والترتيب: إن الصلة القريبة لهذه السورة بالتي قلبها تكمن في أن الله تعالى قد قال في أواخر سورة مريم فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا، وقد نوقش هذا الموضوع نفسه بشيء من الإسهاب في مطلع سورة "طه".والحكمة في ذلك أن "مريم" تتحدث أساسًا عن المسيحية التي من عقائدها الحيوية أن الشرع لعنة، وقد فندت سورة "طه" هذه العقيدة المسيحية الأساسية، بالإضافة إلى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأحزاب وأرباع، فإنه ينقسم أيضا إلى ركوعات..وهي أقسام صغيرة تناسب القراءة في ركعات الصلاة، وهـي مألوفة في المصاحف المطبوعة خارج الجزيرة العربية..وخاصة في القارة الهندية وإيران وأفغانستان وإندونيسيا وبعض بلاد المغرب العربي.(المترجم)

Page 470

الجزء الخامس ٤٦٤ سورة طه حيث بين الله تعالى أن الشرع ،رحمة لا لعنة وأنه ليس عبئا على الإنسان، بل إنه يساعده ويسهّل الأمر عليه، فقال الله تعالى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..أي إنما أنزلنا عليك القرآن تكريما لك، وتسهيلاً لأمرك، وليس لكي يلحقك عناء وشقاء.ولذلك قد توخينا عند نزوله السهولة لفظا ومعنى فهو بلسانك، وعباراته سلسلة، ومفاهيمه منسجمة مع الفطرة والعقل، والعمل به سهل.فقد روعيت في هذا الكتاب الحيطة كلها كيلا يكون عبئا على الإنسان بشكل من الأشكال.أما الصلة الواسعة لهذه السورة بالتي قبلها فهي أن سورة مريم قد تناولت التاريخ الابتدائي للمسيحية، حيث بين الله تعالى أن المسيح إنما جاء لتوطيد التوحيد، ولكن المسيحيين قد اتخذوه ذريعة للشرك والوثنية، وقاموا بإلغاء الشرع معتبرين إياه لعنة.أما هنا في سورة طه فقد انتقل الحديث إلى بداية السلسلة الإسرائيلية حيث بين الله تعالى أن أكبر إنجاز قام به موسى إنما هو الشرع، فلفت تعالى النظر إلى السلسلة الموسوية بشكل مفصل، مبينًا أن تلك السلسلة كانت قائمة على أساس الشرع والتوحيد، فلا يمكن عقلاً أن يكون -فرعها أي المسيحية – خلاف التوحيد؛ فثبت أن عقيدة المسيحيين المخالفة للتوحيد إنما هي عقيدة دخيلة على المسيحية فيما بعد.ثم عرج الله تعالى بالحديث إلى بداية الخلق الإنساني تبيانًا لحقيقة الشرع والإثم، التي كان فشل المسيحيين في فهمها هو السبب الرئيسي لإلغائهم الشرع ووقوعهم في وحل الشرك والوثنية.أما إلغاء الشرع فذلك لأننا إذا لم نعتبر الوحي جاريا منذ بداية العالم لزم التسليم بأن الإنسان قد استطاع في زمن ما أن يعيش بدون وحي وشرع؛ وأما الشرك فذلك لأننا لو سلمنا بعدم نزول الوحي من عند الله تعالى لاضطررنا للتسليم بأن الناس مضطرون لسن قانون لأنفسهم، فيعتبر ذلك القانون الله تعالى، أي شريكا مع الله تعالى.ملخص محتواها وتتلخص مضامين هذه السورة في أن القرآن قد نزل من أجل راحة الإنسان وسهولته وليس من أجل شقائه وعنائه إن فهم القرآن سهل شريطة أن يفتح الإنسان نافذة قلبه.لقد ذكر القرآن أحاسيس الإنسان كلها من أدناها إلى نائبا عن

Page 471

الجزء الخامس العليا سورة طه أعلاها، مع ذكر حاجاتها، وأن الله تعالى قد راعى هذا الأمر منذ بداية الخلق الإنساني، فإنه تعالى عالم بدقائق أسرار الفطرة الإنسانية، وأنه القادر على تلبية حاجات الإنسان كلها.لذلك فالقانون الذي يسنّه الله تعالى للإنسان لا يمكن أن يجلب له الشقاء، بل الرحمة ملخص الآيات ٣ إلى (٩).على المسيحيين أن يتدبروا أحوال موسى الة لفهم هذه الحقائق، ويروا كيف أن الله تعالى أيده بنصره وقت اليأس، وهداه وتجلى لــه تجليا يدل على التوحيد.فجعله الله تعالى من عباده المصطفين، وشرفه بوحيه.وإن أول حكم أنزله الله في شرع موسى هو حكم التوحيد نفسه حيث قال له لا إله إلا أنا ؛ فأوصاه الله بعبادته وحده ووعده بالجزاء على كل من الحسنات والسيئات، مؤكدًا أن الجزاء أو العقاب يكون وفق العمل، لا طبقا للكفارة (ملخص الآيات ١٠ إلى ١٦).ثم أخبر الله تعالى موسى الأن الوسيلة الحقيقية لإصلاح القوم إنما هي صحبة الصالحين (ملخص الآيات ١٧ إلى ٢٤).بعد ذلك بين الله تعالى أننا بعد أن علمنا الطريق السليم للإصلاح أمرناه موسی بالذهاب إلى فرعون وعلّمنا لذلك طريق الدعاء الذي يتوجه به العبد إلى الله تعالى وليس إلى أحد سواه.ثم بناء على التماسه جعلنا أخاه هارون نبيًّا؛ وقلنا له إنها لمتتنا الثانية عليك، إذ مَنَنا عليك أول مرة حين قُذفت في النهر خوفًا من القتل على يد فرعون، فنجيناك منه، وأتينا بأهلك إليك ملخص) الآيات ٢٥ إلى ٤١).ثم يخاطب الله تعالى موسى العليا ويقول : فلما حاربك فرعون حميناك منه ونجيناك، و لم أزل أربيك روحانيا حتى صرت صالحًا للمهمة المنوطة بك.فقلنا لك اذهب إلى فرعون ،وانصحه وخُذْ قومك إلى وطنك أرض كنعان.فذهب موسى إلى فرعون ووعظه ملخص الآيات ٤١ إلى (٧٧) ولكن فرعون أصرّ على الكفر والإنكار، فأمرنا موسى بأن يخرج بقومه، فاتبعهم فرعون فتعرض للعقاب (ملخص) الآيات ۷۸ إلى ٩٩).ثم تلقى موسى الوحي بالطور، ونزل الشرع الموسوي، وفتح به باب التوبة (ملخص الآيات ٨١ إلى ٨٣).

Page 472

الجزء الخامس سورة طه ومع.ذلك أشرك بنو إسرائيل، فعوقبوا، ثم أخر.الله جهم من الوثنية إلى التوحيد ملخص الآيات ٨٤ إلى ٩٩).ثم يخاطب الله تعالى رسوله الكريم الله ويقول هذه هي أحداث هذه الأمة قبل المسيح، ثم جئت أنت وعلمت التوحيد أيضًا.فكيف يستساغ أن ينزل في الفترة التي بينك وبين موسى تعليم غريب يعتبر الشرع لعنة ويشرك بالله تعالى (ملخص الآيات ١٠٠ إلى ١٠٣).بعد ذلك تحدث الله تعالى عن العذاب الذي سيحل بالمسيحيين وعن رقيهم الذي سيستمر ألف سنة مما تعدون..أي من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر من الهجرة، وسيكون ثلاثة قرون منها فترة رقي عال، كما كانت ثلاثة قرون عند المسلمين فترة رقي كبير من بين ألف سنة من رقيهم.ولكن هناك اثنان من الفروق بين رقي المسلمين والمسيحيين: أولهما أن فترة الرقي المدهش للمسلمين هي القرون الأولى من الألف سنة، أما فترة الرقي المدهش للمسيحيين فهي القرون الأخيرة من الألف سنة.والفرق الثاني هو أنه قد تيسرت للمسيحيين فترة ستة قرون لنشر دينهم، وذلك قبل بعثة النبي ، أما المسلمون فتتيسر لهم فترة ستة قرون لتمكين الإسلام روحانيا وذلك بعد ثلاثة عشر قرنًا من بعثة النبي ملخص الآيات ١٠٤ إلى ١٠٥).ثم يقول الله تعالى: سيسألك الناس عندها في استغراب: كيف ينسف الله تعالى هذه الجبال..أي كيف يدمر الله هذه القوى المسيحية الجبارة؟ ولكنا نؤكد لك أنه لا بد أن يهلك هؤلاء، ولا بد أن يكون المسلمون غالبين (ملخص الآيات ١٠٦ إلى ١١٣).بين بعد ذلك عاد الحديث ثانية إلى الموضوع الذي استهلت به هذه السورة حيث الله تعالى أن فهم القرآن سهل لأنه نزل بلغة أهل هذا البلد – وهذا، على الأغلب، تعيير بالمسيحيين الذين يرون أن الإنجيل كان باليونانية أصلا – ثم إن القرآن يبين مضامينه أيما بيان، وبالتالي فهو محفوظ من آفات الأمثال والاستعارات التي كثرت في الإنجيل إلى حد مبالغ فيه جدا.لا شك أن القرآن الكريم أيضا قد

Page 473

الجزء الخامس ٤٦٧ سورة طه استخدم كلمة "المثل" كقول الله تعالى ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل (الإسراء: (۹۰)، كما ورد قول مماثل في سورة الكهف (الآية ٥٥)، ولكن لم يرد بمعنى الأمثال، بل بمعنى البيان والمراد أننا قد بينا في القرآن الكريم كل نوع من المواضيع بشتى الأساليب الرائعة (ملخص الآية ١١٤).ثم بين الله تعالى أن الشرع ليس لعنة، بل هو رحمة؛ فينبغي ألا يتخذ الإنسان بنفسه القرار في الأمور السماوية، بل عليه الانتظار لوحي الله تعالى (ملخص الآية ١١٥).ثم عاد الحديث إلى ما قبل موسى الله أيضًا، حيث أخبر الله تعالى أن ذلك حادث آدم العلم الذي يُعتبر الأساس للمسيحية ليس إلا سوء فهم من قبل المسيحيين.ذلك لأن آدم الذي حصل معه هذا الحادث إنما خلقه الله تعالى وفق خطة معينة وهيهات أن تفشل الخطة الإلهية؟ فقد ورد في التوراة: "فخلق الله الإنسان على صورته التكوين (۱ (۲۷.ولكنها تضيف أيضًا أن آدم ارتكب الإثم بإغواء حواء (التكوين ٣: (١٢).أما القرآن الكريم فيعلن أن آدم لم يقع في الإثم أبدا، وإنما حصلت منه زلة عن غير قصد، حيث قال الله تعالى عن آدم فنَسِيَ و لم نجد له عزما (طه: ١١٦).فثبت أن موقف القرآن أقرب إلى العقل، كما أنه مطابق لما ورد في التوراة بأن آدم خُلق على صورة الله تعالى.ولكن هناك تعارض في موقف التوراة، فهي تقول، من جهة، إن الله تعالى خلق آدم على صورته، ومن جهة أخرى تعدّ فعله عملاً شيطانيا.والحق أن آدم إذا كان قد ارتكب الإثم فعلاً فقد فشلت خطة الله تعالى، مما يدل على الضعف والعيب في والعياذ به ملخص الآيات ١١٦ إلى ١٢٤).الله، فثبت أن الإعراض عن الشرع هلاك، ولا يتأتى ذلك إلا ممن قد حرم البصيرة ملخص الآيات ۱۲۵ إلى ۱۲۹).ثم أوضح الله تعالى أنه من الخطأ التفكير أن منكري الصدق لا يزالون موجودين في الدنيا، ولا يعاقبون ذلك أن لكل أمر موعدًا في قانون السماء.فعليك يا محمد، توجيه العناية إلى إصلاح قومك، فإنك أنت الأعلى في النهاية (ملخص الآيات ١٣٠ إلى ١٣٣).

Page 474

الجزء الخامس ٤٦٨ سورة طه وأخيرًا قال الله تعالى لنبيه الا الله إن هؤلاء حين يسمعون براهينك يقولون لم لا تأتينا بآية؟ قل إنما الآية ما قد أتى به الأنبياء في الماضي.أما ما تقترحون من آيات فلا حقيقة لها.لقد منح أعداء الأنبياء السابقين المهلة، ولكن لما أُقيمت الحجة عليهم حل بهم العذاب.وهذا ما سيحصل الآن أيضا، وإلا لتعرض الله تعالى لتهمة الظلم بالناس ملخص) الآيات ١٣٤ إلى ١٣٦).حم الله الرحمن الرح طه التفسير: لقد قلت في تفسير سورة يونس لدى الحديث عن المقطعات القرآنية أن لفظ طه أيضًا منها ولكن تبين لي بالمزيد من التدبر في اللغة وفي أقوال المفسرين ومضامين هذه السورة أن "ط" أو "هـ" هنا ليس اختزالاً لكلمة أخرى، بل هما كلمة مستقلة ومعناها "يا رجلُ".فقد ورد عن هذا اللفظ ما نصه: "إنها بمعنى "يا رجلُ" في لغة عُكَل وفي لغة عَكٌ.قال الكلبي: لو قلت لرجل من عَك "يا رجل" لم يجب حتى تقول "طه".وقال قُطْرُبُ: هي كذلك في لغة طي" (تفسير فتح البيان).علما أن قطرب كان من كبار اللغويين والنحاة وكان من أبرز تلاميذ سيبويه.وقد ذكر صاحب لسان العرب" أيضًا هذا الاستعمال.فبما أن شتى القبائل العربية قد استعملت هذا اللفظ بمعنى "يا رجل" أي "أيها الرجل الكامل القُوَى" فقد اعتبرت سورة طه تسلسلا لموضوع سورة مريم.لقد أشير بلفظ "طه" أن محمدا رسول الله ﷺ يتحلى بجميع صفات الرجولة مثل الشجاعة والسخاء ومقاومة السيئة وغيرها على وجه الكمال، لذلك فهو الوحيد بين البشر أجمعين الذي يستحق بكل جدارة أن يسمى الرجل الكامل.

Page 475

الجزء الخامس ٤٦٩ سورة طه وعندما نفحص التاريخ يتبين لنا أن محمدا رسول الله ﷺ كان إنسانًا كاملاً حقا، ومتصفا أتم اتصاف بجميع المزايا الحسنة التي يجب توافرها في رجل كامل القوى والصفات.خذوا مثلاً صفة مقاومة السيئة، فدراسة حياته من هذه الناحية تكشف لنا أنه كانت في قلبه الطاهر المطهر رغبة عارمة لمقاومة السيئة لا نجد لها مثيلاً في العالم.وقد دفعته هذه العاطفة الفطرية فيه، حتى قبل بعثته، إلى أن يبحث عن الطريق الذي يؤدي به إلى معرفة الله تعالى كان الكفر والشرك سائدين في كل مكان حوله.لم يكن هناك أمة إلا وكانت تشرك بالله وتعبد الأوثان.فكان حوله اليهود والنصارى وأهل مكة، وكانت هذه الطوائف الثلاث كلها منغمسة في الشرك.فأهل مكة، الذين كان النبي يعيش بينهم، كانوا غارقين في الوثنية كليةً حتى كانوا يعبدون في الكعبة أيضا ستين وثلاث مئة كتاب المغازي، باب أين ركز النبي ﷺ الراية.أما اليهود والنصارى فكانوا منغمسين في الشرك أيضًا.لا شك أن اليهود كانوا يرفضون الشرك بأفواههم، ولكنهم اتخذوا صنم (البخاري: واحدًا من أنبيائهم ابنا لله وقالوا عزيز ابنُ الله (التوبة: ٣٠).وكان المسيح ال قد عدهم محرمين جراء مخالفتهم وعصيانهم، فكيف يمكن أن تهدي هذه الأمة المحرمة الآخرين.وأما النصارى فكانوا مشركين إذ كانوا يؤمنون بثلاثة آلهة بدلاً من إله واحد.فلما رأى النبي الله أنه لا يوجد عند أي واحد من هؤلاء الطوائف أي أثر لمعرفة الله تعالى وتوحيده وتفريده وأنهم جميعًا ساقطون في الهوة المظلمة للكفر والشرك، رغب بشدة في أن يبحث عن سبيل مرضاة الله تعالى.ولقد استولت عليه هذه الرغبة حتى عاف الدنيا وكرهها، وأخذ يتجنب مجالس القوم الذين كانوا يعبدون الأصنام ليل نهار، متبرئًا من الوثنية المنتشرة حوله.ولما كان محاطا بالوثنيين من كل طرف بحكم إقامته بينهم، حيث كانوا يقدمون القرابين والنذور لأوثانهم، ويقرضون الشعر مدحا لأصنامهم، فكان من المحال أن يعتزلهم كلية، فقرر أخيرا أن ينفرد في مكان ليبتهل إلى الله الواحد الأحد ويستعين به حتى يهيئ من عنده أسباب الهدى فكانت السيدة خديجة رضي الله عنها تزوده بالطعام الذي لم يكن كطعام الناس اليوم، إنما كان عبارة عن التمر والسويق واللحم المجفف.فكان يذهب بهذا

Page 476

الجزء الخامس ٤٧٠ سورة طه الزاد إلى غار حراء الذي يبعد عن مكة ثلاثة أو أربعة أميال، حيث يقضي عدة أيام في الذكر والعبادة والدعاء، حتى يهديه الله تعالى وغيره من الناس إلى السبيل الذي يؤدي بهم إلى الله تعالى.إن هذه الرغبة النابعة في قلبه كانت رغبة غير عادية، وكانت أسمى من الاستعانة بالبشر، إذ ما كان لبشر أن يساعده في تحقيقها في الأمور المادية يمكن أن يساعد المرء أقاربه وأصدقاؤه بالقوة أو بالمال ولكن ما كان لأي قوة بشرية أن تعينه في مقصده هذا بشكل من الأشكال.لو كان في زمنه أي دين حق لاستعان به في تحقيق رغبته، ولكن لم يوجد في الدنيا عندئذ أي دين حق، بل كانت الأديان والطوائف كلها منغمسة في الشرك والوثنية.فما كان ثمة قوة يمكن أن تساعده في شفاء غليله للتوحيد الإلهي إلا الله تعالى وحده.كانت زوجته خديجة – رضي الله عنها - زوجة وفية ومواسية له ، ولكن ما كان بوسعها أيضا أن تساعده بهذا الشأن.و لم يكن أصدقاؤه ولا أقاربه قادرين على ذلك.ولم يكن رهبان النصارى بقادرين على تقديم أي عون له.كما لم يكن بوسع كهان مكة أن يساعدوه بهذا الشأن كان هؤلاء أنفسهم ضالين فأنى لهم أن يساعدوه شيئا! إن فطرته كانت أفضل من كل هؤلاء حيث كان يكره الشرك منذ نعومة أظفاره كرها شديدا فذات مرة قابله الا الله زيد بن عمرو - وكان عما لعمر ، وكان قد تاب عن الشرك في زمن الجاهلية، وكان يعتبر نفسه من كبار المحاربين للشرك - وبعد الحوار دعاه النبي الله إلى الطعام، فقال إني لا اكل طعام المشركين.فقال له إني لم أشرك قط (البخاري: كتاب المناقب، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل).ولكن هذا الشخص كان قد تبرأ من الشرك نتيجة صحبة اليهود، وأما النبي ﷺ فقد خلق بفطرة تعاف الشرك بشدة.لا شك أنه لا الله و قد اطلع على أحكام الله تعالى وتفاصيل الشرع من خلال الوحي من عند الله تعالى، ولكن فيما يتعلق بحب التوحيد وكراهية الشرك بشدة فكانا مغروسين في فطرته الله من أول يوم.كان يعلم أن الله تعالى واحد ويجب أن يكون واحدًا ولكنه كان لا يعلم السبيل للوصول إليه والمعرفته.وبحثا عن ذلك السبيل كان يذهب إلى غار حراء ليعبده له هناك.

Page 477

الجزء الخامس ٤٧١ سورة طه وفيما هو في عبادة الله تعالى ذات يوم ظهر له ملاك وقال له: "اقرأ".فقال : "ما أنا بقارئ".فضمه الملاك إلى صدر بقوة ثم تركه وقال: "اقرأ"، فقال : "ما أنا بقارئ".فغطّه الملاك ثانية بقوة أكثر وقال: "اقرأ".فقال : "ما أنا * بقارئ".فضمه الملاك ضمة شديدة جدا، وقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الذي خلق خلق الإنسانَ مِن عَلَقٍ * اقْرَأْ وربُّك الأكرمُ * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (البخاري، باب كيف كان بدء الوحي).هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي ﷺ من الوحي في غار حراء.ومن الملاحظ هنا أن الله تعالى لم يقل لرسوله الا الله إنه سيهب لــه العلوم التي قد نسيها الناس، بل قال إنه سيهب له ما لم يعلمه أحد من قبل.ذلك لأنه لو قال لـه سأعلمك ما نسيه الناس لكان معنى ذلك أنه سيعطيه ذلك العلم والهدى الذي سبق أن وهبه لإبراهيم أو لنوح أو لموسى أو لعيسى وغيرهم من الأنبياء، ولكن الناس قد نسوه الآن.بل قال الله تعالى لنبينا علم الإنسان ما لم يعلم..أي سأعطيك العلوم التي لم أعطها آدم ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا غيرهم من الأنبياء والرسل.فالواقع أن الله تعالى قد أخبره في أول له أنه سيجعله يعني وحي "خاتم النبيين"، وأنه سيمنحه التعليم الذي لم يعطه أحدًا من النبيين من قبل.وهذا أن الوحي الأول نفسه قد أشار إلى الحقيقة التي ينطوي عليها لفظ (طه)، حيث بين الله تعالى أن محمدا لله متحل بالقوى الروحانية الكاملة، ولذلك سيعطى تعليمًا كاملاً غير خاضع للتبديل والتغيير.ثم بعد ذلك بدأت مرحلة جديدة أكدت أنه كان "طه" في الحقيقة، وأنه كان بالفعل متحلّيًا بجميع الكفاءات والصفات التي يجب توافرها في الإنسان الكامل.قال الله تعالى له اقْرَأ ))..أي اذْهَبْ وبلغ رسالتي إلى الدنيا.ولم تكن هذه بمهمة سهلة.فلقد رأيت أن الله تعالى لما أمر العليا بأن يذهب إلى موسی فرعون ويبلغه رسالة الله تعالى قال موسى خائفًا واجعل لي وزيرا من أهلي) (طه: ٣٠)..أي رب إنه عبء ثقيل ولن أستطيع حمله وحدي، فاجعل مساعدا لي من أهلي.ولكن النبي ﷺ لم يقل هذا، بل إن الله تعالى لما أمره أن يذهب ويبلغ رسالته

Page 478

الجزء الخامس ٤٧٢ سورة طه الله إلى الدنيا، تحمّل هذا العبء بمفرده، وخرج لتبليغ رسالة الله تعالى.فلما أتى بيته حكى لزوجته خديجة – رضي الله عنها – كل ما جرى لـه، ثم قال لها "قد خشيت على نفسي" (البخاري، كتاب بدء الوحي)..أي لقد عهد الله إلي مسؤولية كبيرة جدا، ولا أدرى هل سأستطيع القيام بها أم لا؟ وكانت خديجة رضي عنها قد شهدت حياته المباركة بأم عينها فقالت من فورها "كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا.إنك لتصل الرَّحِمَ وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (المرجع السابق)..أي أنك تعامل الأقارب بالحسنى، وتسعى دائما لحمل أعباء الآخرين وتحاول إحياء الأخلاق الفاضلة التي قد اندثرت من الدنيا، وتكرم الضيف، وتعين الأبرياء في مشاكلهم التي يقعون فيها من غير جريمة؛ فكيف يمكن إذا أن يخذل الله تعالى شخصاً يتصف بهذه الصفات الرائعة؟ إن أكبر شاهد على أخلاق الإنسان وسيرته في الدنيا هو زوجته التي تشاهد أحواله بكرة وعشيا.لذا فإن هذه الشهادة لأقوى الشهادات.وهي تؤكد أن الرسول كان بالفعل طه..أي رجلاً تجلّت فيه جميع الفضائل والمحاسن التي يجب توافرها في الإنسان الكامل أكمل تحل وأروعه.فإننا حين نمعن النظر في وقائع حياته بالتفصيل نعلم أن الله تعالى قد أودعه قبل ولادته جميع المحاسن التي يجب توافرها في رجل كامل القوى، ليكون أسوة حسنة للناس بجميع أصنافهم وشرائحهم.نحن لا ننكر أن المسيح ال كان نبيا عظيما، ولكنه لم يكن نموذجًا للناس في كل زمن ومن كل صنف.فمثلا لا دليل في الإنجيل على زواج المسيح ال، فلا يمكن إذا أن يكون أسوة للمتزوجين.كما أنه لم يصبح حاكمًا حتى يقول الملوك والحكام اليوم أنه أسوة لنا نحن الملوك أيضًا.أما محمد رسول الله ﷺ بكل أنواع الظروف والأحوال، وبالتالي كان أسوة منقطعة النظير للناس من فقد مر كل الطبقات والشرائح أجمعين.ثم إنه تحلى في جميع مراحل حياته بأروع خُلق وأطيب سيرة، مما كان دليلاً ساطعا على أنه قد أودع القوى الروحانية على وجه التمام والكمال.وعلى سبيل المثال، توفي والده قبل ولادته، كما انتقلت أمه له إلى بارئها وهو صغير جدا.

Page 479

٤٧٣ سورة طه الجزء الخامس ولكنه كان مثالاً رائعا في دماثة الأخلاق حين كان عند جده الذي تولى كفالته مكان أبيه.إن أمر الطفل اليتيم لا يخلو من أحد الحالين: فإما أن تفسد أخلاقه نتيجة التدليل المفرط، أو تموت مواهبه نتيجة الإهمال.فلو كان اليتيم عند قوم يدللونه في كل حين شفقة عليه لفسدت أخلاقه كلية، أما إذا كان في بيت لا يعامله أهله كما يعاملون أولادهم لفقد الهمة والعزيمة.ولكن النبي ﷺ كان رائع السيرة منذ طفولته.فقد شهد أقرانه وزملاؤه أنه لم يكن قليل الصبر عند الأكل والشرب كالصغار، بل كان يظل جالسا في مكانه بهدوء ووقار حتى تدعوه عمته وتعطيه نصيبه من الأكل، فكان يتناوله أيضًا بوقار تشهد أمه من الرضاعة أنه كان وقورًاً ومؤدبا حتى كان الصبيان يستغربون منه ويقول إخوته من الرضاعة إنه يتجنب اللغو من الألعاب.كان لا والله يحب المزاح، ولكنه يكره الكذب وقول الزور كراهة شديدة.كان شديد المواساة بالناس في تلك السن الصغيرة أيضا.حتى إن الصغار كانوا يعدونه رئيسا لهم (تاريخ الخميس، الجزء الأول ص ٢٢٥).ثم إنه كان بارا بعمه أبي طالب وعمته بحيث لا نجد نظيرا لمثل ذلك البرّ عند الأولاد الحقيقيين أيضًا.لما فتح مكة سأله الناس يا رسول الله، أين ستقيم؟ فأجاب من غير غضب: وهل ترك لنا عقيل بيتًا حتى نقيم فيه؟ وكان يعني أن أبناء عمه قد باعوا بيته و أيضًا، فلم يبق له بيت يقيم فيه (البخاري: كتاب السير والجهاد).ثم إن النبي ﷺ لم يحب عمه أبا طالب حُب الولد والده فحسب، بل أوصى الآخرين أيضًا بألا يقولوا لوالديهم أُفٍّ.وبعدها دخل النبي الله في سن الفتوة والشباب وهو سن لا يكترث فيها الناس لما يفعلون.ولم يكن لدى العرب عندئذ أي رادع قانوني أو خُلقي.فكان المرء منهم يتفاخر على الملأ بعلاقته غير المشروعة بامرأة أو فتاة ومن المستحيل أن يُتوقع من شباب ذلك المجتمع الفاسد سلوك قويم.ولكن النبي يا الله ، رغم عيشه في هذا المناخ الفاسد، قد ضرب أروع مثال للسلوك القويم حتى سماه القوم أمينا صدوقا (السيرة النبوية لابن هشام مجلد ١: اختلاف قريش فيمن يضع الحجر).فكان بمثابة الإساءة إليه أن

Page 480

٤٧٤ سورة طه الجزء الخامس يقال عنه إنه لا يكذب إذ كان مثلاً رائعًا لا نظير له في الصدق وقول الحق.فليست ميزته أنه لم يكذب، إنما ميزته أن كان صدوقاً، فكان كلامه منزها عن أي خفاء أو عوج أو خداع، ولذلك كان الناس يصدقونه دائما فيما يقول.ذات مرة جمع أهل مكة وخاطبهم قائلا هل تصدقوني لو قلت لكم إن وراء هذا التل جيشًا كبيرًا يريد الهجوم عليكم؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا الصدق (البخاري: كتاب التفسير، سورة الشعراء).مع أن الأرض كانت خلاء، وكان بوسعهم أن يصعدوا جبلي الصفا والمروة وينظروا إلى المدى البعيد.فتصديقهم له، والحال أنهم كانوا مستعدين لأن يكذبوا ما كانوا يرونه بأم أعينهم، إذ كانوا يرون أن لا جند هنالك، ولكنهم ما كانوا مستعدين لتكذيب قوله.فلما اعترف هذه، يعني الجميع بصدقه قال ألا فاعلموا أن الله تعالى قد بعثني لهدايتكم وإصلاحكم.وثمة شهادة أخرى على صدق النبي ﷺ من قبل شخص كان من أشد أعدائه.فكر أهل مكة أن محمدا (ﷺ) سيسعى لضم الناس إليه حين يحضرون مكة في موسم الحج، فاجتمعوا لتداول الرأي والتشاور لوضع خطة لتشويه سمعته بين القوم.فمنهم من قال سنشيع بين القوم إنه شاعر، ومنهم من قال سنقول إنه مجنون.حتى قال بعضهم إن الأمر سهل جدًّا، سنقول لهم إنه كذاب.فلم يلبث أحد هؤلاء الأعداء، وهو النضر بن الحارث أن قال لقريش في حماس شديد: قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صُدُغَيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم كاذب.والله إنه ليس بكاذب.*.الشفاء للقاضي عياض، الجزء الأول ص ٥١).ولنتحدث الآن عن أخلاقه ومساعدته للفقراء، حيث لا نجد له مثيلاً في هذا المجال أيضًا.اجتمع بعض أهل مكة وشكلوا لجنة للدفاع عن حقوق الفقراء، وسموها "حلف الفضول" لأن معظم أعضائها الأولين كانوا يحملون اسم "فضل".* ورد في المصدر المشار إليه مكان العبارة التي تحتها الخط: "قلتم ساحر.والله إنه ليس بساحر." (المترجم)

Page 481

الجزء الخامس ٤٧٥ سورة طه فانضم النبي إلى هذه اللجنة.وقد حدث هذا قبل بعثته بفترة طويلة.وسأله بعض صحابته فيما بعد عن هذا الحلف فقال: إن تلك الحركة الداعية إلى الدفاع عن حقوق المظلومين والفقراء كانت محبوبة لدي لدرجة أنه لو دعاني اليوم أحد إلى مثلها للبيتُ نداءه بلا تردد مما يعني أنه كان جاهزا للعمل لمساعدة الفقراء والضعفاء ولو تحت رئاسة شخص آخر (السيرة الحلبية: الجزء الأول ص ١٤٣).لما تزوج النبي سعد: ذكر وفاة عبد بخديجة - رضي الله عنها - لم يكن عنده أي مال.ورد في بعض الله الروايات أن والد النبي ﷺ ترك وراءه قليلا من الغنم أو بضع جمال (طبقات ابن بن عبد المطلب.ولكن هذه التركة ضئيلة جدا بحيث إن وجودها وعدمه سواء.وبما أن الله تعالى قد خلقه الله مزودًا بالقوى الكاملة، وكان طه حقا، فما كان عنده طمع ولا جشع، بل كان غني النفس إلى أقصى درجة، حتى لقبه قومه "الأمين"، معترفين بأمانته وسداده.ذات مرة جاءته الأموال الصدقة، فسقط دينار منها في بعض زوايا بيته عند التقسيم، فنسي أن يحمله.ثم تذكَّرَه بعد فراغه من الصلاة.فخرج إلى بيته مسرعًا يتخطى رقاب الناس.فقال له الصحابة يا رسول الله، ما الذي حدث؟ قال : نسيت دينارًا من الصدقة في البيت، فأردت أن أوزعه أيضا بأسرع ما يمكن (البخاري: كتاب الزكاة، باب من أحب تعجيل الصدقة).فرغم كثرة المال والثراء أبدى استغناء عن المال بشكل محير.فكلما أتاه مال وزّعه في سبيل الله تعالى، وذلك بالرغم أن عائشة رضي عنها تقول : أحيانًا ما كانت النار توقد تحت القدر في بيوت النبي الله طوال شهر، وإنما كنا نعيش على شيء من الحليب أو التمر، أو أحيانًا كان بعض الجيران يبعثون لنا من طعامهم، أو بثنا جياعا في بعض الأحيان.(شمائل الترمذي، باب ما جاء في عيش النبي.وكان قد حدث هذا في زمن كثرت فيه الأموال.الله قصارى القول إن النبي له قد قدم نموذجًا رائعا في كل ظرف وحال.لقد جاءته الأموال بكثرة، فآثر الفقر على الرخاء.وقد قضى شبابه في عفاف وورع مدهشين.فقد تزوج في سن الخامسة والعشرين، في حين أن الولد في تلك المنطقة

Page 482

الجزء الخامس ٤٧٦ منهم سورة طه والمناخ يصل سن البلوغ وهو في السادسة أو السابعة عشرة من عمره.ثم إنه تزوج أرملة كانت أكبر منه سنا؟ ثم بعد الزواج لما وضعت خديجة رضي الله عنها في يده كل ما تملك ما لبث أن أعتق العبيد كلهم.وكان النبي مثلا أعلى في تحمل أذى الأعداء.لما ذهب إلى الطائف لدعوة أهلها رشقوه بالأحجار حتى جُرح من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.فجاءه الملاك من عند الله تعالى يقول له لو شئت لعاقبتهم حالاً ولكنه أجاب: كلا، إنما فعلوه بجهالة (البخاري كتاب بدء الخلق باب إذا قال أحدكم آمين).ثم إن هؤلاء الأعداء الذين كانوا لا يألون جهدًا في إيذائه، كلما كانوا في حاجة بادر النبي ﷺ إلى إسعافهم.لم يحدث قط أن أحدًا أتاه بحاجة فرفض أن يسد حاجته إن البلدة التي فر منها النبي المختفيا تحت ستر الليل لما عُرض عليه أهلها مغلوبين، وكانوا من ألد أعدائه، عفا عنهم وقال "لا تثريب عليكم اليوم.اذهبوا فأنتم الطلقاء" (زاد المعاد: الجزء الثاني ص ١٦٥، دخول النبي ﷺ والمسلمين مكة).وذلك بالرغم أن منهم من قد قتلوا أصحابًا لـــه شر قتلة حيث شقوهم قطعتين بربط إحدى رجلي الرجل ببعير والأخرى ببعير آخر، ثم ساقوا البعيرين في جهتين مختلفتين.ومنهم من طعنوا المسلمات في فروجهن بالحربة وقتلوهن.ومنهم من أذاقوا أصحابه أشد العذاب حيث ألقوهم في الشمس على الرمال المحرقة، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت (الاستيعاب في معرفة الأصحاب، باب السين: سمية بن أم عمار، وأسد الغابة حرف الباء، بلال).ومع ذلك قد عفا النبي ﷺ عنهم جميعًا، وهذا قدم برهانا ساطعا على صبره المنقطع النظير.لقد مارس النبي الله التجارة أيضًا ومارسها بشكل مدهش.يقول عبد لخديجة- الله عنها – إنه لم ير شخصا أمينًا مثله.فلو كان في سلعته عيب ذكره بنفسه للمشتري، فكان الزبائن يبحثون عنه ويشترون منه، فكان أكثر الناس ربحًا.كان الله يحسن إلى الفقراء إحسانًا عجبًا.مرة جاء شخص ووضع رداءه في عنق وجذبه جذبًا شديدًا، وجعل يقول : أعطني بعض المال؟ فما غضب عليه، وإنما اكتفى بقوله: لو كان عندي مال لآتيتك.لقد كان مع النبي ﷺ عندئذ رضي النبي

Page 483

الجزء الخامس ٤٧٧ سورة طه عشرة آلاف من أصحابه الذين بايعوه على أن يفدوه بأموالهم وأنفسهم، لو أنه أشار إليهم لضربوا عنق هذا الشخص في لمح البصر ولكنه لم يغضب عليه (کتاب الشفاء للقاضي عياض، الجزء الأول ص ٤١).أما شجاعة النبي ﷺ فحدّث عنها ولا حرج.لما بلغت المعارضة في مكة منتهاها جاء رؤساء قريش أبا طالب يهددونه أنه إذا لم يمنع محمدا ) من الدعوة فسيفصلونه عن السيادة فخاف أبو طالب من تهديدهم.ولما رجع النبي إلى البيت قال له أبو طالب، يا محمد إن رؤساء مكة قد قالوا لي كيت وكيت.فهلا اتخذت موقفا ألين لاسترضائهم؟ فرد النبي ﷺ وقال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أمتنع عن دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى، فلن أستجيب لطلبهم أبدًا.سأمضي قدما في هذا المضمار ولو كلفني ذلك إراقة آخر قطرة من دمي (السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الأول ص ٢٨٤-٢٨٥).وبالاختصار، كان النبي المتصفا بجميع الصفات الحميدة التي يجب توفرها في إنسان كامل القوى، على أحسن وجه وأروع شكل.فكان متحلّيا بالشجاعة، والسخاء، والإحسان والوفاء والأناة ،والرحمة والإيثار والأمانة والأخوة والتواضع، والغيرة والشكر والمثابرة، والوقار والنصح للناس، وعلو الهمة، والصبر، والرأفة، ومقاومة السيئة، وقوة الاحتمال، والجد والاجتهاد، والبساطة، وصلة الرحم، والصدق، وإعانة الفقراء، ومساعدة المنكوبين، والضيافة، واحترام الكبار، والشفقة على الصغار وحب الله تعالى ،والتوكل، والحفاظ على العبادة.فأي ميزة لم توجد فيه ، وأي كمال لم يتوفر فيه ؟ هذه هي الحكمة في ورود هذه السورة بعد سورة مريم حيث أشار الله تعالى بأسلوب لطيف إلى أن لما مريم العليا جاءها الملاك بهذه البشارة على صورة بشر سوي كما قال الله حملت بعیسی تعالى فتَمثَّلَ لها بشرًا سويًّا (مريم) (۱۸)..أما النبي ﷺ فلم يظهر ملاك على صورة بشر سوي للتبشير بولادته، وإنما كان النبي ﷺ بنفسه رجلا كامل القوى العليا تجلت فيه كل صفات الرجولة بأبهى وأكمل صورة وكأن عيسى الله قد نال نصيبه من هذه القوى بشكل غير مباشر وبصورة ناقصة أيضًا؛ ذلك لأن الملاك

Page 484

الجزء الخامس ٤٧٨ سورة طه الذي بشر أمه بولادته ظهر لها بشرًا لا رجلاً، ومن المعلوم أن لفظ "البشر" إشارة إلى فترة ما قبل التمدن الإنساني..أي أن البشر هو مرحلة أولى من تطور الإنسان، وأما "الرجل" فهو آخر مرحلة من تطور الإنسان فثبت أن محمدا رسول الله ﷺ كان مظهرًا للقوى الإنسانية الكاملة، أما عيسى ال ، فكان مظهرا للقوى البشرية فقط، وذلك بحسب سورة مريم والإنجيل كليهما ولذلك لما نزل جبريل على المسيح ظهر لـه على صورة حمامة كما يقول الإنجيل متى ٣: ١٦)، والحمامة طائر ضعيف نحيف يفتك به القط أيضًا.أما نبينا ﷺ فنزل عليه جبريل نفسه، وظهر له على صورة رجل ضخم قوي ضم نبينا إلى صدره بكل قوة.يقول النبي وهو يحكي ما جرى لــه في غار حراء جاءني الملاك وقلت له: ما أنا بقارئ، "فغَطَّني حتى بلغ مني الجَهْد" (البخاري: باب كيف كان بدء الوحي).وقد ظهر للنبي الملاك على صورة رجل قوي ضخم لأنه لو كان مظهراً للقوى الإنسانية الكاملة.وهذه هي الخصوصية التي قد أومأ الله تعالى إليها بقوله طه.مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى (٤) شرح الكلمات: لتشقى: شقي الرجلُ شقاوةً: كان شَقيًّا (الأقرب).يقول الإمام الراغب: الشقاوة خلاف السعادة وقال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب (المفردات).وأما السعادة فيقول الراغب السعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير.(المرجع السابق) فقوله تعالى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى يعني: ١- أننا ما أنزلنا عليك القرآن ليلحقك تعب أو عناء.٢- أننا ما أنزلنا عليك القرآن لتُحرم من السماوي بما خلق الله من أسباب في سبيل تحقيق غايتك.المدد

Page 485

الجزء الخامس ٤٧٩ سورة طه التفسير : هذه الآية جاءت تأكيدًا لما قال الله تعالى من قبل في سورة مريم إبطالاً لزعم المسيحيين أن الشرع لعنة حيث قال: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين (مريم الآية: (۹۸.فقد بين الله تعالى الآن أننا لم ننزل القرآن عليك لتقع في التعب والمشقة وإنما أنزلناه تذكيرًا بواجباتك.ومن الواضح أن الشرع الذي يذكر الإنسان بمسؤولياته لا يمكن أن يُعتبر ،لعنة إنما مثله كمثل الصديق الحميم الذي يدل صاحبه على الطريق السليم.فقوله تعالى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إعلان رباني بأن كل ما ورد في القرآن الكريم من تعليم وهدى إنما هو رحمة وبر ركة للإنسان.فليس في تعليمه الا الله ما هو خلاف فطرة الإنسان، ويلقيه في المشقة والأذى.كما أن هذه الآية تشير إلى معنى آخر، وهو أنك يا محمد، ما دمت رجلاً كامل القوى قادرًا على أداء ما ألقينا عليك من فرائض وواجبات، وما دمت تؤديها بالفعل على ما يرام، فكيف يمكن أن نهلكك؛ إذ لا أحد يدمر بيده متاعه الثمين.إذا فلم ننزل عليك القرآن لكي تهلك، وإنما لنذكرك وقومك بواجباتكم ومسؤولياتكم حتى تنجوا جميعًا من الضلال.إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَن تَخْشَىٰ (٤) شرح الكلمات : يخشی: خشيه: خافه (الأقرب).وورد في "المفردات": الخشية خوفٌ يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه.التفسير: أي أن هذا القرآن لا يولد كالأسفار الأخرى، خشية الله في قلب الإنسان فقط، بل يرقى به أعلى وأعلى ويوصله بالله تعالى..أي يجعله من أوليائه وقد أكد الله تعالى هذا المفهوم في بداية القرآن الكريم أيضًا فقال هدى للمتقين) (البقرة : (۳).أي أن القرآن يزيد المتقين أيضًا هدى ويجعلهم من الواصلين

Page 486

الجزء الخامس ٤٨٠ سورة طه بالله تعالى.ومن البديهي أن المقربين لدى الله تعالى لا يخشونه فقط، بل يرجون منه الجوائز وتلتاع قلوبهم بجذوة حبه تعالى.وهذا هو المقام السامي الذي لا يعرضه على السالك أي كتاب سوى القرآن الكريم.تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى شرح الكلمات : تنزيلاً مصدر ،نزل وهو منصوب لوجود محذوف قبله، والتقدير: أنزلناه تنزيلاً.منه العلى : العُلى جمعُ العُليا التي هي مؤنث الأعلى (المفردات).التفسير : لقد نبه الله تعالى هنا إلى أن الذي خلق المادة وجعل منها العالم المادي في درجات تخرج عن حد الإحصاء، حتى إن الدرجات العلى أسمى من أن تدرك ولا تُرى، كذلك فإنه تعالى حين يخلق العالم الروحاني يخلقه على هذا الغرار نفسه، فيجعل فيه أيضًا مقامات على تستحق أن تسمى السماوات الروحانية؛ وستظل تلك السماء الروحانية تسدي إلى الإنسانية خدمات روحانية شأن السماء المادية، فلا يبرح الناس يرتقون في الدرجات العلى بفضل تلك السماء الروحانية.وقد أشار إلى هذا المعنى أحد خدام المصطفى لا الله وحضره معين الدين الجشتي - رحمه الله تعالى- حيث قال في بيت شعر لــه بالفارسية: دمبدم روح القدس اندر معين مي دمد من نمي گويم مگر من عيسى ثاني شدم دائما أي: أن جبريل يهمس أذن في معين الدين، فرغم أنني لا أقول ذلك بلساني، ولكن الأمر الواقع أنني قد أصبحت مثيلاً لعيسى اللي.لقد صنع عیسی العلي القساوسة والباباوات الذين فيهم عيوب شتى، أما محمد رسول الله ﷺ فقد صنع شخصيات عظيمة مثل حضرة معين الدين الجشتي رحمه الله تعالى..أي أنه خلق الكثيرين الذين كانوا كعيسى اللي.

Page 487

الجزء الخامس ٤٨١ سورة طه وكذلك يقول خادم آخر للمصطفى ، أعني مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، في بيت شعر لــه بالفارسية: الا اے مكر ان شان محمد ان نور نمایان محمد کرامت گر چه بی نام ونشان است بیا بنگر نر غلمان محمد آئينة كمالات إسلام ص (٦٤٩ أي يا من تُنكر عظمة محمد الله وأنواره الساطعة، اسمع بأذن واعية أن الكرامات وإن صارت عديمة الوجود في الأديان الأخرى في الزمن الحاضر، ولكن تعال وشاهدها عند خدام محمد.الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) شرح الكلمات: العرش العرش سرير الملك؛ العز؛ قوامُ الأمر الملك.والعرش من البيت: سقفه (الأقرب).وقال صاحب المفردات: سُمّي مجلس السلطان عرشا اعتبارًا بعلوه؛ وكُني به عن العز والسلطان والمملكة.وقوله ذو العرش وما يجري محراه، قيل: هو إشارة إلى مملكته وسلطانه، لا إلى مَقَر لــه، يتعالى عن ذلك.(انظر المفردات)..أي أن ما ورد في القرآن بأن الله تعالى ذو العرش وما شابه ذلك من التعابير، إنما يعني الإشارة إلى ملكوت الله وغلبته فحسب، وليس أن الله تعالى عرشا ماديا يستقر عليه في مكان معين؛ لأن العرش المادي يستلزم التجسد، والله تعالى أسمى من التجسد.استوى استوى الرجلُ : انتهى شبابه وبلغ أشُدَّه أو أربعين سنة واستقام أمره.ويقال استوى على سرير "الملك" كناية عن التملك وإن لم يجلس عليه.واستوى عليه: استولى وظهر (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن وحيه إنما ينزل وفق صفته الرحمن، بمعنى أن الله تعالى يرى ضعف العباد وقلة حيلتهم فتثور رحمته من تلقائها لهدايتهم.

Page 488

الجزء الخامس ٤٨٢ سورة طه إن هذه الآية تردّ على المسيحية، ذلك لأن أساس المسيحية الكفّارة، والكفارة والرحمانية ضدّانِ لا يجتمعان؛ ذلك لأن الكفارة إنما تصح إذا لم يكن الله تعالى بقادر على أن أحدًا يرحم من الله غير عمل منه.ولكن الرحمن يعنى من يرحم العباد من غير عمل سبق منهم.ولذلك تجد المسلمين يكتبون في مستهل كتبهم "بسم الرحمن الرحيم"، أما الكتاب المسيحيون فإما أنهم لا يبدءون كتبهم بأي جملة كهذه، أو يختار كل واحد منهم ما يحلو له من الجمل فمنهم من يكتب: "بسم الأب والابن والروح" (ستم هامان، منظومة منشي كيدار نات).ومنهم من يقول: "بسم الله الهادي الجوّاد" (شهادة القرآن).ومنهم من يكتب "بسم الله الهادي لا شريك له" (بهت بیش قیمت عطر كي شيشي، بادري تسدل).بلسان حالها إن الله وهذا يعني أنهم يستعملون في كتاباتهم كلمات شتى ويتجنبون استعمال لفظ "الرحمن".ذلك لأن لفظ الرحمن خلاف الديانتهم.ولكن كل ذرة من الكون تقول رحمن.فما إن يولد الطفل إلا ويدرّ الله تعالى اللبن في ثدي أمه والبديهي أنه لا يُعطَى هذه النعمة نظير أي عمل حسن.وهذا الطفل يبلغ سن الفتوة بعد سنين طويلة ولكن الثوب والسكن يكونان ميسرين لـه حال ولادته لحمايته من الحر والبرد.فثبت أن كل ذرة من الكون دليل على رحمانية الله تعالى.ثم إن كل دين في حد ذاته يشكل برهانًا على رحمانية الله تعالى ذلك لأن كلام الله تعالى لا ينزل جزاء على عمل من العباد، وإنما إحسانًا ومنة منه.ولذلك حيثما ذكر الله تعالى في القرآن الكريم موضوع نزوله قال إن الله الرحمن هو الذي أنزل القرآن.وقال الله تعالى لرسوله الكريم لها أيضا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمانُ (الشورى (٥٣)..أي لم ينزل عليك القرآن نتيجة إيمانك بكتاب ولا عملك به، إذ لم تكن تعلم ما الكتاب وما الإيمان، وإنما نزل عليك نظير جذوة حب الله تعالى كانت مشتعلة في قلبك في السر كمثل التي تشتعل في الخفاء في قلب الولد من أجل والدته.أما العرش فليكن معلومًا أنه ليس شيئًا ماديا، وإنما المراد منه النقطة المركزة للصفات الإلهية التنزلية، وكأن الصفات الإلهية التي تتعلق بالعباد يتجلى الله تعالى

Page 489

الجزء الخامس وحي ٤٨٣ سورة طه ملكه بها من على عرشه، شأن الملك الذي يصدر أوامره للرعايا من على سرير (انظر البحث المفصل عن العرش في تفسير يونس الآية ٤ ثم استوى على العرش.فبما أن الله تعالى يحتوي على أحكام شتى، لذا قال الله تعالى هنا الرحمن على العرش استوى..وكأنه يقول: لا شك أن هذا القرآن قد نزل وفق صفة الله الرحمن..أي لم ينزل نظير أي خدمة من البشر، وإنما رحمة الله التي لا حد لها استدعت نزوله هداية لهم؛ ولكن يجب أن لا ينخدع أحد من رحمانية الله تعالى فيظن أن رفض وحيه أمر هين.كلا، بل عليك أن تتذكر أن الله الرحمن قد أصدر هذه الأوامر من على عرشه، ورفض أوامره يماثل إنكار مُلكه، مما يجعلك مستوجبًا للعقاب.هي التي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحتَ الثّرى (٤) شرح الكلمات : الثرى الثرى: التراب الندي؛ الأَرضُ (الأقرب).التفسير هنا شرح الله تعالى استواءه على العرش، موضحًا أن ملوك الدنيا الذين : يجلسون على عروشهم يكون مُلكهم محدودًا، ولكن ملك الله تعالى محيط بالسماوات وبالأرض حتى بطبقاتها السفلى.فمن يرفض أوامره يجعل كل المخلوقات الموجودة ما بين قمة السماء إلى أسافل الأرض أعداء له.كما أشار الله تعالى بذلك أن الذين يعملون بتعليمه يسخر الله في تأييدهم كل هو في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت طبقات الأرض.وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرِّ وَأَخْفَى ) شرح الكلمات: إن تجهر: جهر بالقول: رفع به صوته (الأقرب).

Page 490

الجزء الخامس ٤٨٤ سورة طه التفسير: في هذه الآية شرح للآية السابقة.ذلك لأن الذي يملك أعالي الكون يستطيع أن يسمع الأصوات العالية، والذي يملك أسافل الأرض يستطيع أن يسمع الأصوات الخافتة أيضًا؛ وإلا كيف يمكنه أن يحكم تلك الأماكن.و صلح اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (٢) شرح الكلمات : الأسماء: هو جمع الاسم.قال العلامة أبو البقاء في الكليات: الاسم ذات الشيء؛ والاسم أيضًا الصفة (الأقرب).الحسنى: مؤنث الأحسن.وورد في "المفردات": "الحسن عبارة عن كل مُبهج مرغوب فيه." ويضيف صاحب "المفردات" ويقول: "والحسن أكثر ما يقال في تعارف العامة في المستحسن بالبصر، وأكثرُ ما جاء في القرآن من الحسن فللمستحسن من جهة البصيرة." التفسير : أي ما دام الله تعالى هو المالك للسماوات وللأرض حتى أسافلها، فمن : المستحيل أن يكون هناك إله آخر؛ إذ ما هو المكان الذي يملكه هذا الإله المزعوم.وَهَلْ أَتَنكَ حَدِيثُ مُوسَى (٢) شرح الكلمات : حديث: الحديث: الخبرُ، يأتي على القليل والكثير (الأقرب).التفسير: كان موسی ال نبيا ذا شرع جديد مثل النبي ﷺ، وقد ذكر الله تعالى قصته هنا ليبين أنه تعالى قد حكم الأرض من على عرشه من خلال موسى أيضًا، فأنزل عليه أيضًا وحيه.

Page 491

الجزء الخامس ٤٨٥ سورة طه إِذْ رَمَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّى وَانَسْتُ نَارًا لَّعَلَّى وَاتِيكُم مِّنْهَا يقبَس أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ج شرح الكلمات : أمْكثوا أمر من مكث يمكث بالمكان: لبث وأقام (الأقرب).وورد في "المفردات": "المكت: ثبات مع انتظار.فالمراد من قول موسى لأهله امكثوا أي توقفوا وانتظروا.آنست آنس الشيء: أبصره (الأقرب).قبس: القبس: موسی شعلة نار تؤخذ من معظم النار (الأقرب).التفسير: اعلم أن ناراً هنا تعني مشهدًا روحانيا من الكشف، وليس النار المادية.ذلك لأن الذي يرى النار المادية لا يقول إني رأيت نارا"، وإنما يقول "إني رأيت النار".فلو كان موسى ال قد رأى النار المادية لقال "إني رأيت النار"، ولكنه يقول هنا نارا ، أي نارًا ما.وفي هذا إشارة أنه كان مشهدًا روحانيا، وأن العلة أيضًا لم يفهمها النار المادية المشتعلة من خشب وفحم.أما قوله العلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى..فهو إشارة إلى أن التجليات الروحانية نوعان: نوع لا يخص الرائي فقط، بل يخص قومه وأصحابه أيضا، مثل تجلّي النبوة أو نزول الشرع ونوع آخر منها يخص الرائي فحسب، مثل تجلّي الولاية.فإن موسى ا لما رأى ذلك المشهد الروحاني وهو عائد من مدين إلى مصر قال لأهله إني أشعر أن الله تعالى يريد أن تحلنا من تجلياته.فإذا كان تجلّي النبوة والشرع وأُمرت أن أعلم الآخرين أيضا مما عُلمتُ، فسآتيكم منها بقبس..أي سآتي بتعليم وهداية لأهلي وقومي؛ وأما إذا كان تجلّي الولاية أي فقط فسأنال به هديًا لنفسي على الأقل، وأنتفع به ثم أعود إليكم.من هنا أخذ الله تعالى يسرد بعض وقائع موسى ال، حيث أخبر أولاً كيف شرفه الله تعالى بوحيه وكلامه في أول أمره.لقد ولد موسى العلة في مصر وقضى هناك أوائل عمره.ثم اضطر لبعض الأسباب للهجرة إلى مدين حيث أقام عشر خاصا بي العليا يريني

Page 492

الجزء الخامس ٤٨٦ سورة طه سنوات وتزوج.ثم خرج مع أهله عائدًا إلى مصر، حيث تجلى الله تعالى له على صورة نار.لقد ورد هذا الحدث في العهد القديم أيضًا، بيد أن هناك اختلافاً بين بيان القرآن الكريم وبيان العهد القديم في بعض التفاصيل، ولا بد من أخذ هذا الاختلاف في الحسبان.وبيان ذلك أن القرآن الكريم يخبرنا أن وحي الله تعالى نزل على موسى وهو راجع من مدين إلى مصر، ولكن العهد القديم يخبر أن واقعة الوحي قد حصلت من عائدا قبل، ثم بعدها خرج موسى مع أهله وأولاده إلى مصر.حيث ورد: "وأما يرعى غنم يثرون حَميه كاهن.مديان فساق الغنم إلى وراء البرية حوريب، وظهر لـه ملاك الرب بلهيب نار من وسط عُلِّيقة" موسی فكان وجاء إلى جبل (الخروج ۳: ۱-۲).الله العليا ثم ورد بعد ذلك فمضى موسى ورجع إلى يثرون حميه، وقال له: أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين في مصر، لأرى هل هم بعد أحياء.فقال يثرون لموسى: اذْهَب بسلام.وقال الرب لموسى في مديان: اذهب ارجع إلى مصر، لأنه قد مات جميع القوم الذين كانوا يطلبون نفسك.فأخذ موسى امرأته وبنيه، وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر" (الخروج ٤: ١٨-٢٠).وهذا يعني أن العهد القديم يخبرنا أن موسى ال حين كان بمدين، خرج إلى جبل حوريب وهو يرعى الغنم، وهنالك رأى التجلي الإلهي في أكمة.ثم رجع إلى حميه واستأذنه للعودة إلى مصر، فخرج بأهله وأولاده إلى مصر.ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن واقعة التجلي الإلهي حصلت لموسى خلال سفره إلى مصر، حين كان أهله وأولاده أيضا معه.وليكن معلوما بشأن هذا الاختلاف أن الذين درسوا الكتاب المقدس دراسة فاحصة يدركون جيدا أنه يخطئ كثيرًا في ذكر الأرقام والمواقيت بحيث لا يمكن أن يصدقه أي إنسان عاقل.فمثلا إذا كان عدد الناس في حدث ما آلافا آلافا من حيث التاريخ، ذكره الكتاب المقدس مئات الآلاف أو إذا كانت المسافة مئات الأميال

Page 493

الجزء الخامس ٤٨٧ سورة طه قال الكتاب المقدس إنها بضعة أميال مثلا فلا يمكن الاعتماد على بيانه بصورة حتمية يقينية.خذوا مثلاً هذا الحدث نفسه.فإن جبل حوريب الذي قيل أن الله تعالى تجلى على موسى عنده وهو يرعى الغنم، واقع في صحراء سيناء التي تبعد عن مدين بمئات الأميال (انظر) قاموس الكتاب مجلد ٤ ص (٣٤١.ولكن الكتاب المقدس يذكر الحدث وكأن المسافة بين المكان الذي أخذ موسى غنمه إليه، والذي نزل فيه كلام الله عليه، وبين مدين هي ميل أو نصف الميل فقط؛ ثم رجع بعد ذلك إلى حميه، وسافر بعد إذنه إلى مصر مع أهله وأولاده.مع أنه خلاف للعقل تماما أن أحد إلى مئات الأميال يرعى الغنم، ثم يرجع إلى بيته في مساء اليوم يخرج نفسه....فثبت أن بيان الكتاب المقدس مخالف للعقل تماماً، وأن ما يقوله القرآن هو المتفق مع العقل والمنطق.كما أن بيان الكتاب المقدس يتنافى مع الجغرافيا أيضًا، في حين أن بيان القرآن الكريم مطابق للجغرافيا أيضًا.ذلك أنه ما دامت المسافة بين مدين وحوريب تبلغ مئات الأميال، فمن غير المعقول القول أن ذهب يرعى الغنم إلى حوريب.وهناك أمر آخر جدير بالانتباه، وهو أنه لم يرد في هذا المشهد المذكور في الكتاب المقدس أي ذكر لزوجة موسى وأولاده.فلو أن موسى أمر هنا بأن يأخذ معه أهله وأولاده لقلنا إن موسى تكبد سفر مئات الأميال مرة أخرى عملاً بأمر الله تعالى؛ ولكن لا نجد في الكتاب المقدس أي إشارة بأن الله تعالى أمر موسى بالعودة إلى مدين وأن يأخذ معه أهله وأولاده أيضًا.إذا فليس هناك في عودته إلى مدين بعد هذا المشهد أي سبب معقول.ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن أهله وأولاده كانوا معه وقت المشهد، إذ كان قد خرج في سفر مسافته مئات الأميال، وليس هناك داع لأن يخرج في هذا السفر الطويل تاركا أهله في مدين.فثبت أن بيان القرآن يتفق مع العقل والجغرافيا أيضًا، ولكن بيان الكتاب المقدس لا يمكن أن يُعد معقولا.

Page 494

الجزء الخامس فَلَمَّا أَتَنهَا نُودِيَ يَمُوسَىٰ ۱۲ ٤٨٨ سورة طه التفسير : أي لما اقترب موسى ال من ذلك الشيء الذي كان نارا في الظاهر العلية لا تلقى وحيا يقول: يموسى إني أنا ربك.ولا يعني ذلك أن تلك النار كانت ربا لموسى، وإنما المراد أن الذي أظهر ذلك التجلي هو رب موسى؛ ذلك لأن النار لا تتكلم، بل إن الله تعالى هو الذي يتكلم.إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَأَخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) شرح الكلمات : طُوًى: من طوَى الصحيفة يطويها : نقيضُ نشرها (الأقرب).والطُّوَى: الشيء المثني (تاج العروس).الله وورد في "المفردات" عن "طوى": "قيل هو اسم الوادي الذي حصل فيه (كلام مع موسى).وقيل إن ذلك جُعل إشارةً إلى حالة حصلت لـه على طريق الاجتباء، فكأنه طَوَى عليه مسافةً لو احتاج أن ينالها في الاجتهاد لبعدَ عليه"..بمعنى أن "طوى" إشارة إلى أن الله تعالى قد بوّاً موسى باصطفائه له مقاما روحانيا يصعب الوصول إليه بالمجاهدات عادة.التفسير: قوله تعالى فاخلع نعليك يعني حرفيا : انزع حذاءك، ولكن المراد الحقيقي هو اقطع علاقاتك الدنيوية كلها ابتغاء مرضاة الله تعالى، وكُن له وحده كلية.ذلك أن النعل في الرؤيا أو الكشف يعني الأقارب والأصحاب كالزوجة والولد والصديق (تعطير الأنام للنابلسي).ولما كان المشهد الذي رآه موسى كشفا من الكشوف فأمر الله تعالى موسى بقوله اخلع نعليك أن يقطع صلاته الدنيوية كلها لوجه الله تعالى.ثم قال إنك بالواد المقدس طُوًى..أي لأنك قد دخلت الآن في واد له طرفان فأحد طرفيه متصل بالله وطرفه الآخر متصل بالعباد، أي أن الله تعالى قد شرّفك الآن بالنبوة والرسالة، ومَن تبوأ هذا المقام تبتل عن الدنيا إلى الله تعالى كلية، ووجّه فطرته من الماديات إلى الروحانيات.فمن واجبك الآن أن

Page 495

الجزء الخامس ٤٨٩ سورة طه تقطع كل صلاتك المادية وتتخلى عن كل محبة دنيوية، وتصبح الله تعالى كلية وتقوي صلتك به عل.وأنا أختَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) شرح الكلمات : ١٤ اخترتك: اختاره من الرجال : انتقاه واصطفاه من بينهم (الأقرب).التفسير : هذه الآية أيضًا تبين أنه لم يتكلم من النار شيء، بل كان ذلك الكلام وحيًا من الله تعالى، ذلك لأن الله تعالى يوضح هنا لموسى ويقول يا موسى لقد اخترتك، فأَصْغِ إلى الوحي الذي نوحيه إليك.إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى (٤) شرح الكلمات : أَقِمْ: أَقامَ الشيء: أدامَه.أقام الصلاة : أدامَ فعلها.وأقام للصلاة: نادى لها (الأقرب).التفسير: إن قوله تعالى وأقم الصلاة يعني عليك أن تؤدي الصلاة بنفسك، كما يجب أن تجعل الآخرين أيضًا يصلّون.وكأن المراد من إقامة الصلاة هو الصلاة بالجماعة.والحق أن الصلاة بالجماعة لا تؤدى في أي دين سوى الإسلام، وإن كان الناس يجتمعون في الظاهر للعبادة كما يجتمع النصارى في الكنائس واليهود في الصوامع.وقوله تعالى الذكري يمكن أن يفسر بمفهومين: الأول: عليك أن تؤدي الصلاة شكرًا لي لأني قد ذكرتُك.والثاني : عليك أن تصلي من أجل ذكري..أي لا تصل رياء، بل يجب أن تكون صلاتك لذكري.

Page 496

الجزء الخامس ٤٩٠ سورة طه إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةُ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (3) شرح الكلمات : أخفيها: أُخفي هي صيغة المتكلم للواحد وهو إفعال من خفاه يخفيه: أظهره، وستره، وهو من الأضداد.وأخفى الشيء: أزال خفاءه (الأقرب).التفسير : يمكن تفسير قوله تعالى إنّ الساعة آتية أكاد أخفيها بمفهومين: الأول أن ساعة العذاب آتية أكاد أسترها؛ والثاني أنها آتية أكاد أظهرها.فمن قواعد اللغة العربية سلب معنى الفعل الثلاثي المجرد بجعله من باب الإفعال، كما يقال "شكاني فأشكيتُه..أي أزلتُ ما يشكو منه.وعليه فستعني هذه الآية، نظراً إلى معنى الستر، أن هؤلاء القوم قد بلغوا من الفساد والشر بحيث أنني سأخفي عنهم ساعة العذاب لأفاجئهم بها حتى لا يجدوا فرصة لدفع العذاب.أما بالنظر إلى مفهوم الإظهار فستعني الآية أن ساعة غلبتك وهلاك أعدائك موشكة، وكدت أن أظهرها..أي أن الظروف ستتغير عن قريب فتصبح آثار هلاكهم بادية؛ والهدف من ذلك أن ينال كل واحد جزاءه بحسب عمله فيحصل المؤمنون على جوائزهم، ويذوق الكافرون عقابهم.فالباء في قوله تعالى بما تسعى تعني وفق وحسب، والمراد لتنال كل نفس جزاءها بحسب ما تسعى وتعمل.فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَنهُ فَتَرْدَى شرح الكلمات : تَردَى: ردي يردَى: هلك (الأقرب).۱۷ التفسير : أي يا موسى لا يمنعنك عن أداء ما فرض الله عليك شخص لا يؤمن بتلك الساعة ويتبع أهواء نفسه فحسب وإلا فسيحيطك أنت أيضا البلاء.وهذه الآية أيضًا تصديق لقوله تعالى من قبل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..أي ما أنزلنا عليك القرآن لتهلك، حيث صرح الله تعالى لموسى أن الذي يعمل بتعليمك

Page 497

الجزء الخامس ٤٩١ سورة طه لن يهلك، بل الذي يتركه هو الذي سيهلك.وتكشف لنا دراسة الكتاب المقدس أن الرسالة نفسها قد بلغها الله تعالى بني إسرائيل على لسان موسى حيث ورد: جميع أنا " وإن سمعت سمعا لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التي أوصيك بها اليوم، يجعلك الرب إلهك مستعليًا على جميع قبائل الأرض، وتأتي عليك هذه البركات وتدركك إذا سمعت لصوت الرب إلهك.مباركًا تكون في المدينة، ومباركًا تكون في الحقل.ومباركة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك، وثمرة بهائمك..نتاج بقرك وإناتُ غنمك.مباركةً تكون سلتك ومعجنك.مباركًا تكون في دخولك، و مباركًا تكون في خروجك." (التثنية ٢٨: ١-٦) ثم ورد أيضا: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم..تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك.ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل.ملعونة تكون سلّتك ومعجنك.ملعونة تكون ثمرة بطنك، وثمرة أرضك..نتاج بقرك وإنات غنمك.ملعونًا تكون في دخولك، وملعونًا تكون في خروجك" (المرجع السابق: ١٥-١٩).وهذا يعني أن المعنى الذي قد ذكره القرآن الكريم موجود في التوراة أيضًا.وجدير بالذكر أن النبي لو كان مثيلا لموسى ، ولذلك كما قال الله تعالى لموسى إنك إذا عملت بما في التوراة تكون مباركا في دخولك ومباركا في خروجك، كذلك علّم تعالى نبينا أيضا دعاء رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدخَلَ صدق وأَخْرِجْنِي مُخرَج صدق واجْعَلْ لي من لدنك سلطانًا نصيرا (الإسراء: ۸۱)..أي يا رب، اجعل دخولي في مكة مباركا، واجعل خروجي منها أيضًا مباركًا.فكأن هذه الآية أيضا تؤكد أن النبي لو كان مثيلا لموسى العليا.وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَى : قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَتَارِبُ أُخْرَى ) شرح الكلمات : أَتَوَكَّؤُا توكَّاً على العصا تحمل واعتمد عليها (الأقرب).

Page 498

الجزء الخامس ٤٩٢ سورة طه أَهُشُ: هش الورق: خبطه بعضًا ليتحات (الأقرب).ماربُ : جمع ارب، والإربُ الحاجةُ (الأقرب).التفسير: إن رؤية موسى للعصا كان كشفًا روحانيا، والمراد من العصا في الحقيقة بنو إسرائيل؛ حيث تعني العصا الجماعة أيضًا كما ورد في القواميس (انظر أقرب الموارد).ولما قال الله تعالى لموسى وما تلك بيمينك يا موسى قال في نفسه بطبيعة الحال: لماذا يسألني الله تعالى عن العصا، فراح يعدّد منافعها وقال أتوكؤاً عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى..أي أنني أعتمد على عصاي، وأخبط بها الورق لتتساقط على غنمي، ولي فيها فوائد أخرى.والمراد من اتكاء على العصا أنه يثق بقومه ويستعين بهم في المهمات موسی الدينية.وأما قوله وأهش بها على غنمي فالمراد به الإشراف بواسطتهم على حقوق التوابع ذلك لأن الغنم لا تكون جزءا من القوم، وإنما تكون كالتوابع، لذا فما دام العصا تعني القوم فسيعني الهش بالعصا على الغنم أنه يقوم من خلال قومه، برعاية حقوق التوابع ومنافعهم.والحق أن الأنبياء كلهم قد أخذوا التبرعات والصدقات من قومهم، وأعانوا بها فقراءهم وكذلك فقراء وشرفاء الأمم الأخرى كالراعي يرعى غنمه.فالقرآن الكريم يأمر المسلمين بالزكاة أيضًا، ومن مصارف الزكاة بحسب القرآن مساعدة ذوي الحاجة والغارمين من المسلمين، وكذلك المسافرين كان دينهم وإعانة المؤلفة قلوبهم وهم من أهل الأديان الأخرى يقينًا (التوبة: ٦٠).وهكذا فإن الله تعالى قد طبق كشف موسى هذا على محمد رسول الله ﷺ مئة بالمئة، حيث أوصاه أيضًا بأخذ الزكاة من قومه..أي بهش الورق بعصاه، ولكنه له أن هذه الأوراق يجب أن لا تنفع قومك فقط، بل يجب أن تنفع الآخرين أوضح أيضًا ممن ليسوا من قومك والذين هم في حكم الحيوانات.ايا

Page 499

الجزء الخامس قَالَ أَلْقِهَا يَنمُوسَىٰ ٤٩٣ سورة طه التفسير : المراد اترك تربية قومك لبعض الوقت، ثم انظُرْ ماذا يكون مآل ذلك.فَأَلْقَيْهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ) التفسير: أي لما ألقى موسى عصاه تحولت إلى ثعبان يجري.وبالفعل قد شاهد العليا في حياته أنه ما إن ترك رعاية أمته قليلا إلا وصارت موسی سامةً كالثعبان.فمثلا حين ذهب موسى ال إلى الجبل لأيام أخذ قومه يعبدون الأصنام في غيابه.وكذلك كلما حصل نقص في رعايته لهم فسدوا.قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى شرح الكلمات : سيرتها: السيرة: الهيئة (الأقرب).التفسير: خاف موسی العلا لما رأى العصا على هيئة الثعبان، فقال الله تعالى له لا تخف، إنه قومك، فأمسكهم جيدًا يعودوا إلى سيرتهم الأولى، ويكونوا ذوي نفع عظيم.أي أن قومك لن يفسدوا في حياتك فسادًا أبديا، بل كلما تقوم برعايتهم يصلحون أنفسهم.وبالفعل ترى أن فئة من قومه قد فسدوا في غيابه وأشركوا، ولكنه لما رجع أصلحوا أنفسهم بجهوده ورعايته وتابوا عما فعلوا فشملهم الله تعالى برحمته وعفوه.وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم قبول توبتهم فقال فتاب عليكم (البقرة : (٥٥) وهذا يعني أن ابتعاد موسى عن قومه كان ضارا ولكنه بمجرد أن تولى رعايتهم رجعوا إلى الصواب، يبذلون في سبيل الله تعالى كل غال بهم، ورخيص.

Page 500

الجزء الخامس ٤٩٤ سورة طه وَأَضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ ءَايَةً أُخْرَى ) شرح الكلمات : يدك : اليد: الكف؛ الجماعة (الأقرب).وورد أيضا: "اليد تدلّ على الولد والأخ والمال والزوجة والشريك والصديق" (تعطير الأنام للنابلسي).جناحك: الجناح: العضد؛ الإبط؛ الجانب؛ نفس الشيء؛ الكنف ومنه "أنا في جناح فلان" أي في ذُراه وظلّه (الأقرب).التفسير: وكما ذكرنا آنفا، إن اليد تعني الأخ أيضًا.وإذا توسعنا في هذا المعنى فيمكن أن تعني القوم أيضًا، لأن أفراد القوم يصبحون أعوانًا وأنصارا مثل اليد.إذا فكأن الله تعالى قد نبه موسى بقوله واضمُمْ يدَك إلى جناحك إلى أن يقرب إلى نفسه كل من يصلح من قومه لمساعدته ويسعى للتقرب إليه، فيصبحون شخصيات نورانية، وتظهر على أيديهم كمالات روحانية عظيمة.يتضح لنا من القرآن الكريم أن موسى لما ضم يده إلى صدره بأمر الله تعالى صارت يده بيضاء نورانية تمامًا، وأن هذا البياض لم يكن نتيجة مرض أبدا.الحق أنه كان مشهدًا من الكشوف الروحانية له تأويل عظيم ولكن الكتاب المقدس يقول بهذا الصدد: "فأدخل يده في عُبّه، ثم أخرجها، وإذا يده برصاء مثل الثلج (الخروج ٤ : ٦).مع 11* أن صيرورة يده بيضاء بسبب مرض الجذام عذاب، في حين أن المناسبة هي ، ظهور التجلي الإلهي وظهور آية من الله تعالى ولا مجال فيها أبدا لنزول العذاب على موسى.فبيان الكتاب المقدس هذا باطل بالبداهة فكيف يمكن لموسى ال أن يزداد إيمانًا إذا كان قد رأى نفسه قد أصيب بالجذام؟ كلا، بل لا بد أن يصيبه * قد ورد هنا في الطبعة الأردية ما تعريبه : "فإذا هي بيضاء مثل الثلج الجذام" (المترجم).

Page 501

٤٩٥ سورة طه الجزء الخامس الحزن والخوف بسبب ذلك.ولكن القرآن الكريم يصرح بيضاء من غير سوء.أي أن يده صارت بيضاء ولكن لا علاقة لهذا البياض بالجذام أبدا.لقد بينت من قبل أن هذا كان مشهدًا من الكشوف الروحانية، وكان تأويله أن يضم موسى إلى نفسه ذوي الخير والنفع من قومه وعليه فستعني جملة تخرج بيضاء من غير سوء أنه حين يضمّهم إلى كنفه وصحبته سيكتمل صلاحهم وخيرهم، ولا يبقى فيهم نقص ولا عيب.ذلك لأن بعض الناس يبدون أهل الصلاح في ظاهرهم، ولكنهم يكونوا فاسدين جدًّا في باطنهم.فالله تعالى يخبر العلي أنه حين يخصهم بقربه وصحبته يصبحون من الروحانيين الكاملين موسی تماما.إنما يفسدون إذا كانوا بعيدين عن صحبته وقربه.لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَتِنَا الْكُبْرَى ٢٤ التفسير : هنا يخبر الله تعالى موسى أنه قد أراه هذه الآية ليوقن بأنه تعالى سيري على يده آيات عظيمة أخرى ينجح بها في مهمته.وقد ذكر الله تعالى هذه الآيات في أماكن أخرى من القرآن الكريم فقال فأرسلنا عليهم الطوفان والجرادَ والقُمّلَ والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما محرمين (الأعراف: ١٣٤).والمراد من قوله تعالى آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما محرمين أنها كانت آيات واضحة بحيث كان بوسع كل واحد أن يشاهدها، ومع ذلك لم يرض فرعون ولا قومه بطاعة أوامرنا.ويقول الله تعالى في مكان آخر وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين) (النمل: ۱۳)..أي أن معجزة اليد البيضاء كانت من بين تسع آيات أريناها على يد موسى من أجل فرعون وقومه، ولكنهم لم ينتفعوا منها مطلقا.وقد تحدثت التوراة أيضا عن هذه الآيات كالآتي.

Page 502

الجزء الخامس ٤٩٦ سورة طه الآية الأولى: وهي معجزة العصا، وقد وردت في التوراة كالآتي: "فقال له الرب: ما هذه في يدك؟ فقال: عصا.فقال: اطرحها إلى الأرض.فطرحها إلى الأرض، فصارت حية.فهرب موسى منها.ثم قال الرب لموسى: مُدَّ يدك وأَمْسك بذنبها.فمَدَّ يده وأمسك به، فصارت عصا في يده" (الخروج ٤: ٢-٤).الآية الثانية: وهي معجزة اليد البيضاء، وقد وردت في التوراة كالآتي: "ثم قال له الرب أيضًا : أَدْخِلْ يدك في عُبِّك.فأدخل يده في عُبّه، ثم أخرجها، وإذا يده برصاء مثل الثلج" (المرجع السابق: ٦)." الآية الثالثة وهي معجزة الدم في التوراة، قد ورد عنها: ففعل هكذا موسى وهارون كما أمر الربُّ: رفع العصا وضرب الماء الذي في النهر أمام عيني فرعون وأمام عيون عبيده، فتحول كل الماء الذي في النهر دما.ومات السمك الذي في النهر وأنتَنَ النهرُ.فلم يقدر المصريون أن يشربوا ماء من النهر" (الخروج ۷ ۲۰-۲۱).الآية الرابعة : وهي معجزة الضفادع في التوراة وذُكرت فيها كالآتي: "فقال الرب لموسى قُل لهارون: مُدَّ يدك بعصاك على الأنهار والسواقي والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر.فمَدَّ هارون يده على مياه مصر، فصعدت الضفادع وغطّت أرض مصر" (الخروج ٨: ٥-٦).الآية الخامسة: وهي معجزة القُمّل في التوراة، وقد ورد عنها: "ثم قال الرب لموسى قُلْ لهارون: مُدَّ عصاك واضرب تراب الأرض ليصير بعوضا في جميع أرض مصر.ففعلا كذلك مَدَّ هارون يده بعصاه وضرب تراب الأرض، فصار البعوض على الناس وعلى البهائم.كل تراب الأرض صار بعوضا في جميع أرض مصر" (الخروج ٨: ١٦-١٧).قد ورد هنا في الطبعة الأردية "القمل" بدلاً من "البعوض" (المترجم).

Page 503

الجزء الخامس ٤٩٧ سورة طه والآية السادسة وهي معجزة البعوض في التوراة وقد جاء ذكرها فيها كالآتي: ففعل الرب" هكذا فدخلت ذُبّان كثيرة إلى بيت فرعون وبيوت عبيده، وفي كل أرض مصر خربت الأرض من الذبان" (المرجع السابق: ٢٤).الآية السابعة: وهي معجزة هلاك المواشي بحسب التوراة، وقد ورد عنها: "وعين الربُّ وقتًا قائلاً: غدًا يفعل الربُّ هذا الأمر في الأرض.ففعل الرب هذا الأمر في الغد.فماتت جميع مواشي المصريين، وأما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد" (الخروج ٩: ٥-٦).الآية الثامنة : وهي معجزة الدمامل، وقد ذكرتها التوراة كالآتي: "ثم قال الرب لموسى وهارون حُذَا ملء أيديكما من رماد الأتون، وليُذَرِّه موسى نحو السماء أمام عيني فرعون ليصير غباراً على كل أرض مصر؛ فيصير على الناس وعلى البهائم دمامل طالعة ببثور في كل أرض مصر.فأخذا رماد الأتون ووقفا أمام فرعون وذراه موسى نحو السماء، فصار دمامل بثور طالعة في الناس وفي البهائم" (المرجع السابق: ٨- ١٠).الآية التاسعة: وهي معجزة البَرَد في التوراة وجاء ذكرها كما يلي: "ثم قال الرب لموسى مُدَّ يدك نحو السماء ليكون بَرَد في كل أرض مصر على الناس وعلى البهائم وعلى كل عشب الحقل في أرض مصر.فمد موسى عصاه نحو السماء، فأعطى الربُّ رُعودًا وبَرَدًا، وجرت نارٌ على الأرض، وأمطرَ الربُّ بَرَدًا على أرض مصر.فكان بَرَدٌ ونارٌ متواصلة في وسط البَرَد.شيء عظيم جدا لم يكن مثله في كل أرض مصر منذ صارت أُمّةً" (المرجع السابق: ٢٢ - ٢٤)."ثم الآية العاشرة: وهي معجزة الجراد في التوراة وهي كما يلي: ثم قال الربُّ لموسى مُدَّ يدك على أرض مصر لأجل الجراد ليصعد على أرض مصر ويأكل كل عشب الأرض..كل ما تركه البَرَدُ.فمد موسى عصاه على أرض مصر، فجلب الرب على الأرض ريحًا شرقية كل ذلك النهار وكل الليل.ولما كان قد ورد هنا في الطبعة الأردية "البعوض" عوضا عن "الذُّبان" (المترجم).

Page 504

الجزء الخامس ٤٩٨ سورة طه الصباح حملت الريح الشرقية الجراد.فصعد الجرادُ على كل أرض مصر وحل في جميع تخوم مصر.شيء ثقيل جدا لم يكن قبله جراد هكذا مثله ولا يكون بعده كذلك.وغطى وجة كل الأرض حتى أظلمت الأرض.وأكل جميع عشب الأرض..وجميع ثمر الشجر الذي تركه البَرَدُ" (الخروج ١٠: ١٢-١٥).الآية الحادية عشرة: وهي معجزة الظلام في التوراة وقد ذكرتها كالآتي: "ثم قال الرب لموسى مُدَّ يدك نحو السماء ليكون ظلام على أرض مصر حتى يُلمَس الظلامُ.فمد موسى يده نحو السماء، فكان ظلام دامس في كل أرض مصر ثلاثة أيام لم يُبصر أحد أخاه ولا قام أحد من مكانه ثلاثة أيام" (المرجع السابق: ٢١-٢٣).الآية الثانية عشرة : وهي معجزة موت البكر من الأولاد، وقد جاء ذكرها في التوراة كالآتي: لأنه لم "فحدث في نصف الليل أن الرب ضرَب كلَّ بِكْر في أرض مصر، من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الأسير الذي في السجن، وكل بكر بهيمة.فقام فرعون ليلا هو وكل عبيده وجميع المصريين، وكان صراخ عظيم في مصر، يكن بيت ليس فيه ميت" الخروج ۱۲: ۲۹ الآية الثالثة عشرة: وهي معجزة عبور البحر، وقد ورد ذكرها في التوراة كما يلي:.(۳۰ "ومد موسى يده على البحر.فأجرى الربُّ البحر بريح شرقية شديدة كلَّ الليل، وجعَل البحر يابسة وانشق الماء.فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سُورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم" (الخروج ١٤: ٢١-٢٢).وكما ذكرنا من قبل، إن القرآن الكريم لم يذكر سوى تسع آيات، وهي: ١ - معجزة العصا ۲- معجزة اليد البيضاء ٣- معجزة الطوفان ٤ - معجزة الجراد ه - معجزة القمل

Page 505

الجزء الخامس ٦- معجزة الضفادع - معجزة الدم ٤٩٩ سورة طه - معجزة القحط والمجاعة، كما قال الله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون (الأعراف: ١٣١).۹ - معجزة عبور البحر.ويبدو أن هناك اختلافا بين القرآن والتوراة في عدد هذه المعجزات.ولكن الواقع أن التوراة قد بالغت في تعداد عددها، إذ كل المعجزات المذكورة فيها مندرجة في تسع الآيات التي ذكرها القرآن الكريم.فمثلا إن آية الطوفان تشمل معجزتي البرد والظلام أيضًا، ولكن التوراة تذكرهما على حدة.ثم إن القرآن ذكر آية الدم، ولكن التوراة قد قسمتها إلى معجزتين: تحوُّل ماء النهر دما، والدمامل.مع أن تحول ماء النهر دما إنما يعني فقط أن ماءه قد فسد فسادًا كبيرًا، فمن شرب منه فسد دمه، فخرجت بجسمه البثور والدمامل.وبالمثل قد ذكرت التوراة آية موت البكر من الأولاد على حدة، في حين إنها مشمولة في معجزة الدم أو معجزة القمل؛ ذلك أن القمل والذباب والبعوض تسبب تفشي الأمراض التي تؤدي إلى موت الناس.ثم إن معجزة البعوض أيضًا مشمولة في معجزة القمل، لأن القمل تعنى أيضا حشرات صغار لها أجنحة (الأقرب).فثبت أن بيان القرآن بصدد هذه المعجزات تماما.صحيح اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى : قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِى (3) وَيَسِّر لِيَ أَمْرِى * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِسَانِي (٤) يَفْقَهُوا قَوْلِي (3) التفسير: يقول موسى ال في هذا الدعاء أولاً رب اشرح لي صدري..أي اجعل في قلبي الحماس والتفاني الشديدين للاضطلاع بهذه المهمة الصعبة.ثم يقول ويسر لي أمري..أي يَسِّرْ لي عملي هذا، بمعنى أعطني من الأحكام

Page 506

سورة طه الجزء الخامس والتعاليم السامية التي يستعد الناس لقبولها، والتي يسهل علي نشرها.ثم يقول موسى واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي..أي وفقني لبيانها وتبليغها على أحسن وجه واصرف طبائعهم إلى هذا التعليم حتى يقبلوه.إن دعاء موسى الا هذا يكشف لنا أن الإنسان لا يمكن أن يهتدي إلا بهداية الله تعالى وليس بوسع أحد أن يهدي الناس بالخطب الرنانة والأدلة الدامغة.ولذلك يدعو هنا موسى الله أن يا رب وفقني للعمل بتعليمي، ويسر للناس أيضًا العمل به.إن هذه الآيات تبين لنا فن التبليغ، وهو أن لا ينفك المرء في الدعاء كل حين.فيجب على دعاتنا أن يواظبوا على الدعاء دائما.وَاجْعَل لِي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى (٤) هَرُونَ أَخى ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمرى ) شرح الكلمات : وزيرا الوزير المعاونُ والأَزْرُ: الظهر؛ القوة (الأقرب).۳۲ التفسير: إن هذه الآية تبين لنا الفرق الشاسع بين موسى ونبينا.فموسى اللي حين تلقى أول وحي دعا الله تعالى أن يعطيه مساعدًا ويزيده به قوة.أما النبي فلا شك أنه قد تردد لبعض الوقت على سبيل التواضع وقال إني لا أصلح لحمل هذا العبء الثقيل، ولكنه استعد فيما بعد لأن يحمله وحده.فداه أبي وأمي وجسدي وروحي ومن أجل ذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا )) (الجن: (۲۰)..أي حين يقوم عبدنا محمد رسول الله لإقامة عبادة الله في العالم يسرع الناس للهجوم عليه مجتمعين.فنبينا قد ظل صامدا طوال عمره وحده يتحمل طعن الأعداء.فقد ورد في التاريخ أن أحد القواد المحنكين خرج من قبل الكافرين في وقعة أحد، فأراد بعض الصحابة التصدي له، فقال الكافر إني لا أريد إلا نزال محمد وحده.فأمرهم رسول الله

Page 507

الجزء الخامس 1.0 سورة طه أن يُخلوا سبيله.فلما اقترب طعنه النبي الله بحربته فخُدش بها خدشًا غير كبير، كأنه لمسه بها فقط، ولم يحاول قتله ولكن الكافر هرب وقد رفع عقيرته.فقال له قومه لم تصرخ من جراء هذا الخدش البسيط وأنت محارب محنك جلد؟ قال إنكم لا تدرون أن في نصل حربته نار جهنم كلها وأرى أن كل جسدي يحترق (السيرة الحلبية، الجزء الثاني ص ٢٤٤).وفي غزوة حنين إذ كان العدو يرشقون المسلمين بسهامهم من على الشعاب والتلال، ولم يستطع الصحابة الثبات في ساحة القتال نتيجة فرار المسلمين الجدد المكيين من الميدان، ركض النبي حصانه وخاض وحده صفوف الكفار.فتقدم أبو بكر الا الله وأخذ زمام فرسه الله وقال يا رسول الله، انتظر المسلمين قليلاً، فسيجتمعون حولك في ثوان فدفع النبي لا لا لا أبا بكر من طريقه بشدة، وقال اترك زمام حصاني، ثم ركضة الله وبحصانه ناحية العدو وهو يرتجز : أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب (البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.أي أيها الناس أنا النبي الموعود لكم، ولست بكاذب.ولن تقدروا على قتلي.بيد أنني أنبهكم أن تتخذوني إها برؤية آيتي هذه؛ فإني مجرد بشر وأنا ابن عبد المطلب.ما أبعد البون بين المسيح وبين سيدي المصطفي ! فقد بات المسيح الليلة كلها يدعو الله تعالى قائلا: "يا أبتاه، إن أمكن فلتَعبُرْ عني هذه الكأس" (متى ٢٦: ٣٩)؛ ذلك اتخذه الناس إلها.ثم إنه لم يبق معلقا على الصليب إلا ساعتين، ومع أخذ يشتكي إلى الله تعالى قائلا: "إيلي إيلي لما شبَقتني" (متى ٢٧: ٤٦).ولكن سيدي محمدا كان محاصرًا بين الأعداء الذين كانوا على الجبال، وكانوا يرشقونه بالسهام من اليمين والشمال، وكان أصحابه قد فروا عنه نتيجة خدعة؛ ولكنه لم يقنط من ربه أبدا، بل ظل يتقدم إلى العدو، ولكنه أيضًا إنما أنا بشر ولست بإله.ما أشدَّ عماية أولئك الذين يرفعون المسيح إلى السماء بالرغم من هذه الوقائع والحقائق ويريدون أن يدفنوا محمدًا رسول الله في الأرض! والله لو حُقَّ لأحد أن يصعد في السماء فإنما هو محمد رسول الله ، ولو كان أحد ومع ذلك

Page 508

الجزء الخامس ٥٠٢ سورة طه أن يُدفن في الأرض فإنما هو المسيح الناصري الله! آه، إن الله القادر على أن يهب للناس عيونا يبصرون بها مقام كل من النبيين.وحده كَيْ نُسَتِحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا : إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا : التفسير: إن موسى يطلب من الله تعالى معاونًا لكي يسبّح الله كثيرا، أما محمد رسول الله فكان وحده يقوم بهذه المهمة، قال الله تعالى في القرآن الكريم إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثُلُثَي الليل ونصفه وتلته وطائفةٌ وطائفة من الذين معك (المزمل: (٢١)..أي تقوم كل هذا الوقت في الصلاة تسبح وتحمده، كما يقتدي بك طائفة من المؤمنين في عبادة الله وذكره.فهذه الآية أيضا تكشف لنا الفرق بين نبينا محمد ﷺ وموسى الله تعالى قَال قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَمُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى : أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي で الْيَمِ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ حَبَّةً مِّنِي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٢) إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْنَكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَمُوسَىٰ (٤) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ٤٢ شرح الكلمات : لتُصنَع : الصنع: إجادة العمل (المفردات).

Page 509

الجزء الخامس سورة طه على عيني: يقال "أنت على عيني : أي في الإكرام والحفظ (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى التصنع على عيني لكي تتربى تحت رحمتنا ورعايتنا تربية خاصة.واصطنع فلانًا لنفسه: اختاره لنفسه (الأقرب).التفسير : قال الله تعالى لموسى قد أُوتيتَ سُؤلَك يا موسى أي لقد أعطيناك كل ما سألت.وكان هذا القول يتضمن وعدًا ربانيًّا للنبي ﷺ بأنه تعالى سيعطيه أيضًا كل ما سأل.ثم يقول الله تعالى ولقد مننا عليك مرة أخرى إلى قوله تعالى واصطنعتك لنفسي..أي لقد صنعنا بك المعروف من قبل أيضا، حين ألقتك أمك في النهر بحسب أمرنا.ثم دبّرنا لإرجاعك إلى حضن أمك ثانية ولقد أرينا آية إنقاذك من النهر لكي تتربى تحت رعايتنا وفضلنا.وهذه إشارة إلى ما ورد في التوراة بأن أم موسى العلي وضعته في سلة وألقتها في النهر، فلم تزل السلة تسبح حتى رست بالشاطئ حيث كانت بنت فرعون تتنزه فلما رأت الصبي في السلة رقّت له فقالت: هذا من أولاد العبرانيين، وسوف نربيه ولكنها لم تدر كيف ترضعه وكانت أخت موسى تمشي معه تراقبه من الشاطئ من فرط المحجبة.فلما رأت أن ابنة فرعون قد أعجبت بالصبي وتريد تربيته ولكنها محتارة في أمره تقدمت إليها ودلّتها على عنوان أمها وأخبرتها أن أمي سترضعه.وهكذا رجع موسى إلى والدته ثانية.وتقول التوراة بهذا الصدد إن فرعون كان قد أمر بقتل أبناء الإسرائيليين (الخروج ١ (١٦-(٢٢)، فخافت أم موسى عليه، فأخذت له سَفَطًا (أي سلة) من البَرْدي وطلته بالحمر والزّفت ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الخلفاء على حافة النهر" (الخروج ٢: ٣).هناك فرق بين بيان التوراة والقرآن يقول القرآن إن الله تعالى أوحى إلى أم موسى وأمرها أن اقذفيه في التابوت...أي ضعي موسى في التابوت ثم ضعي التابوت في النهر.بينما تقول التوراة إنها وضعته في سلة من البردي.

Page 510

الجزء الخامس سورة طه ولكن هذا الاختلاف ليس بشيء.ذلك لأن الناس من البلاد المختلفة يصنعون الأواني من أشياء مختلفة.فإن الساكنين على شواطئ الأنهار يصنعون من ألياف عشب النهر سلات يضعون فيها حاجاتهم، وهذه السلة ستسمى في العربية تابوتا صغيرًا؛ إذ ليس ضروريًا أن يكون التابوت مصنوعًا من الخشب.فثبت أن هذا الاختلاف ليس حقيقيًّا.بيد أن الكلمة القرآنية أصح لأن الشيء الذي يوضع في النهر لا بد أن يكون مما لا يدخل فيه الماء.ولذلك تجد التوراة أيضًا تقول إن أم العليا طلت تلك السلة بالحمر والزفت تسد بهما ثقوبها.ومن الواضح أن السلة المطلية كانت كالتابوت فعلاً.موسی منهم أنها ونجد تشابها بين موسى والنبي الله في أمر الرضاعة أيضًا.ولكن ثمة فرق أيضًا، وهو أن أخت موسى هي التي سعت لإرضاعه، أما النبي ﷺ فالله تعالى نفسه أتى مرضع له.وورد في كتب التاريخ أن النسوة من القرى المجاورة لمكة كن يحضرن مكة في موسم معين ويأخذن معهن أطفال أثرياء القوم للرضاعة.ولما بلغ النبي ﷺ بضعة أشهر، وحان الموسم جاءت من خارج مكة نسوة كانت بينهن حليمة التي صارت مرضع النبي الله فيما بعد.وكانت حليمة من أسرة فقيرة لذا رفضت جميع البيوت الثرية التي ذهبت حليمة إليها أن يعطوها أولادهم للرضاعة ظنَّا امرأة فقيرة ولن تستطيع رعاية أولادهم على ما يرام فلم تزل حليمة تتردد إلى البيوت كل اليوم وترفض من أهلها ولم تزل والدة سيدي السيدة آمنة الأرملة تنتظر في بيتها مجيء مرضع مناسبة، ولكن لم ترد أي من المراضع حتى أن تطل إلى بيتها لظنهن أنها أرملة فقيرة ومن الذي سيجزيهن على رضاعة ابنها اليتيم.فلما رفضت حليمة من كل بيت في مكة رغم بحثها عن طفل طوال اليوم فكرت أنها لو رجعت إلى بيتها بغير طفل لحقها عار عظيم.فقالت في نفسها حسنًا، إذا لم يكن وليد من الأسر الغنية من نصيبي فلآخذ على الأقل محمدًا الولد اليتيم من الأسرة الفقيرة (السيرة الحلبية: الجزء الأول، ص ۸۹ باب ذکر رضاعه.وهذا يعني أن حليمة التي رفضها أهل مكة كلهم أخذت الولد الذي رفضته المراضع.وهكذا تحققت النبوءة الواردة في الصحف الأولى كالآتي: "الحجرُ جميع

Page 511

الجزء الخامس ٥٠٥ سورة طه الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية (متى :۲۱: ٤٢).ذلك أن المرضع أيضا كالبناء تربي الوليد وتجعله يقف على قدميه.قصارى القول إن الوليد المرفوض من قبل المراضع كلهن أتى في بيت حليمة.وهكذا هيأ الله تعالى لرسولنا الكريم الله مكانًا صحيًّا يساعد على النمو السليم.ولكن انظُرْ إلى غيرة الله تعالى، فإن ذلك اليتيم الذي ترددت حليمة في أن تأخذه إلى بيتها قد جعله الله تعالى يخوض حربًا ضد قومها ويغلبهم، ويقع عدد كبير من قبيلتها أسرى في أيدي المسلمين في غزوة حنين، بالإضافة إلى كثير من المواشي.وكان الأثرياء المتغطرسين كفرعون من قبيلتها مترددين في أن يقولوا لأبناء حليمة الفقراء أن يشفعوا لهم عند رسول الله له ولكنهم اضطروا أخيرًا للذهاب إلى أولادها وقالوا لهم إن القوم ينظرون إليكم؛ فنرجو أن تذهبوا إلى محمد (ﷺ) وتشفعوا لنا.وكان النبي الله و قد انتظر طويلاً أن يأتي أحد من قوم حليمة بالشفاعة لهم، ثم بعد انتظار طويل وزع غنائم قومها على جنود المسلمين، ولكنه لم يكن قد وزع ا أسرى بين القوم بعد.ولما حضرت إحدى بنات حليمة النبي ﷺ تشفع عنده لقومها قال لها متأسفا لقد انتظرتكم طويلاً، وقمت بتوزيع أموال الغنائم مضطرًا.فاختاري الآن أحد الأمرين: هل أرد لك الأموال أم الأسرى؟ فقالت بعد التشاور مع قومها نريد الأسرى لا الأموال.فتكلم النبي مع جنوده، فقالوا يا رسول الله، نحن نطلق سراح كل أسير لهم عندنا بكل سرور.فأطلق على الفور سراح ستة آلاف أسير لبني هوازن (السيرة الحلبية الجزء الثالث ص قارن الآن بين حدث رضاعة النبي ﷺ وحدث رضاعة موسى وجود التشابه بينهما تجد أن حدث رضاعة النبي أعظم شأنا آلاف المرات.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلّم إنك حميد مجيد..(145-143 العليا ، فرغم

Page 512

الجزء الخامس سورة طه اذْهَبَ أَنتَ وَأَخُوكَ بِشَايَتِي وَلَا تَنيَا فِي ذِكْرَى أَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ) شرح الكلمات : ولا تَنيَا : هي من ونَى الرجل في الأمر: فتر وضعف (الأقرب).عن التفسير : هنا أيضا نجد تشابها بين النبي ﷺ وموسى العل.فقد أرسل الله تعالى نبينا إلى قوم يشبهون قوم فرعون حيث قال إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً)) (المزمل: (١٦)..أي أننا بعثنا محمدًا شاهدًا عليكم كما أرسلنا موسى إلى فرعون ولكن هناك فرق وهو أن قومه لما هدده بالقتل كما هدد فرعون موسى ال، لم يخف النبي من تهديدهم، بل لم يزل يبلغهم رسالات الله تعالى بكل شجاعة وبسالة.فلما رأى رؤساء مكة أنه قد بدأ البعض منهم يرفضون الآلهة الباطلة ويعبدون الله وحده علانية، فقدوا الصبر، فاجتمعوا وأتوا عم الرسول الله أبا طالب فهددوه قائلين إننا لم نتعرض لابن أخيك حتى الآن من أجلك، ولكن الأمر قد تجاوز الحد.إنه يعيب آلهتنا، فإما أن تكفّه ذلك أو نحاربه وإياك أيضًا، وسنحرمك السيادة.وكان التخلى عن السيادة أمراً صعبًا جدًّا على أبي طالب، فوعدهم بأنه سيحاول كف ابن أخيه عن ما يفعل.فلما انصرفوا دعا أبو طالب النبي ﷺ وقال له يا ابن أخي، إن قومك ثائرون ضدك جدا، وكادوا يقضون عليك وعلى أيضًا.فأقول نصحا لك وعطفا عليك ألا تعيب ،آلهتهم، فإني لا أقدر على مقاومة القوم كلهم.وسالت الدموع من عين أبي طالب عند هذا الكلام فقال النبي الله العمه وقد اغرورقت عيناه بالدموع: يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر الذي من أجله فلن أتركه أبدًا.فإذا كنت يا عم لا تريد الوقوف بجانبي بسبب ضعفك وخوفًا من أذى القوم، فلتتبرأ من ذمتي وأماني.فإني لن أتخلى عن إشاعة التوحيد أبدًا، وسأقوم بهذا الواجب إلى أن يتوفاني الله تعالى.فكان الجواب النبي بعثني الله

Page 513

الجزء الخامس 0.V سورة طه وقع عظيم على عمه، فقال له اذهب يا ابن أخي، واعمل ما بدا لك.فإني لن أخذلك وإن خذلني قومي (السيرة النبوية لابن هشام وفد قريش يعاتب أبا طالب).كذلك لما وقع النبي ﷺ في حفرة من شدة الجراح خلال غزوة أحد، وأشيع بين القوم أنه قد استشهد، فرح العدو بالخبر فرحًا عظيمًا.فصعد أبو سفيان جبلاً ونادى هل في القوم محمد (ﷺ)؟ وكان كثير من المسلمين جرحى ومشتتين، وكان هناك خطر لهجوم الكفار ثانية، لذلك أمر النبي أصحابه أن لا يردوا على أبي سفيان.فلما رأى أن المسلمين صامتون تمامًا، ولا أحد منهم يرد عليه، ظن أن محمدا قد استشهد فعلا فنادى قائلا هل في القوم أبو بكر؟ فنهى النبي ﷺ أصحابه عن الرد.فظن أبو سفيان أن أبا بكر أيضًا قد قتل.فقال بأعلى صوته: هل في القوم عمر؟ فنهى النبي أصحابه عن الجواب مرة ثالثة.فأيقن أبو سفيان بقتل عمر أيضًا، ورفع من فورة الحماس هتاف : اُعْلُ هُبل ، اُعْلُ هبل"..أي العظمة لـ "هبل" أحد أصنامهم إذ قضى على أعدائه كلهم.فبما أن النبي ﷺ سبق أن فهى الصحابة عن الرد ثلاث مرات فالتزموا الصمت هذه المرة أيضًا ولم يردوا على هتافه.فلم يتمالك النبي ال نفسه وقال لهم في ذروة حماسه: لماذا لا تردون عليه ولم لا تقولون: الله أعلى وأجلُّ ، الله أعلى وأجل.ففعلوا.فقال أبو سفيان: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم.فأمر النبي الله أصحابه أن يقولوا الله مولانا ولا مولى لكم (السيرة الحلبية، الجزء الثاني ص ٢٤٤-٢٤٥).فترى أنه بالرغم أن النبي الهلال كان يدرك حساسية الموقف تماما، وكان يعلم جيدًا أنهم لو ردوا على هتاف العدو فسوف يشن عليهم الهجوم ثانية، إلا أن أبا سفيان لما هاجم توحيد البارئ تعالى لم يتمالك النبي ﷺ نفسه ورَدَّ على أبي سفيان بأنك كاذب، إذ لا حول لهبل أو العزى، إنما الحول والقوة لإله السماوات والأرض الذي لا تسقط ورقة بدون إذنه.باختصار فقد كان النبي يتصدى للعدو كبطل مغوار في أشد المواقف خطورة، غير خائف ولا هياب.

Page 514

الجزء الخامس سورة طه فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيْنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ تَخْشَىٰ ( قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا تَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (٤) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٣) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ صلے صلے وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَكَ بِشَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ أَهْدَىٰ إِنَّا قَدْ أُوحى إلَيْنَا أَنَّ العَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) شرح الكلمات: يفرط فرَطه آذاه وفرط في الأمر: قصر (الأقرب).التفسير : هنا أيضًا نجد تشابها بين النبي ﷺ وموسى العل.ولكن مع فارق، وهو أن الله قد نصح موسى فقُولا له قولاً لينا، بينما يخبرنا الله تعالى عن محمد رسول الله أنه وأصحابه يبلغون رسالات الله تعالى غير خائفين من لومة لائم.قال الله تعالى ﴿وَدُّوا لو تُدهن فيُدهنون (القلم: (۱۰)..أي يا محمد، يريد الكفار أن تكون لينا معهم بعض الشيء بصدد دينك فيلينوا معك، ولكنك لا تقبل عرضهم.وقال الله تعالى عن المؤمنين أشداء على الكفّار رحماء بينهم (الفتح: ٣٠)..أي مهما لان العدو في موقفه ليلين أصحاب محمد في دينهم فإنهم لن يلينوا أبدا، ولكن إذا تعامل معهم أحد من المؤمنين بشدة فلا يكترثون لما فعل وينسون.ثم يقول الله تعالى لعله يتذكر أو يخشى.وهنا ينشأ سؤال: هل علم الله تعالى أن فرعون يتذكر أم لم يعلم؟ فإذا كان تعالى على علم بأنه لن يؤمن فلماذا قال لعله؟ وإذا قيل أن "لعل" يفيد اليقين فقد ثبت بطلان ما قال الله تعالى، والعياذ به، لأن فرعون لم يؤمن.فما معنى قوله تعالى لعله إذن؟ والجواب: صحيح أن "لعل" يفيد الشك، ولكن يقول اللغويون إنه يفيد الطمع والأمل أيضًا، ولكنه لا يدل بالضرورة على طمع القائل بل يدل أيضًا على طمع المخاطب ، تارة، وعلى طمع السامع تارة أخرى (الأقرب).وفي قوله تعالى لعله

Page 515

الجزء الخامس ۵۰۹ سورة طه يتذكر أو يخشى إشارة إلى طمع موسى وهارون، والتقدير: "قولا له قولاً لينا راجين أن يتذكر".فلا إشكال بسبب ورود لفظ "لعل" هنا.علما أن هذا هو الأسلوب المتبع عادة في وحي الله الذي فيه بعض الأنباء، أي أن الفريق الآخر إذا أصلح موقفه نجا وإلا هلك.قَالَ فَمَن رَّبِّكُمَا يَمُوسَى (٤) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلِّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٤) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٤) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) ۵۳ التفسير : سمع فرعون من موسى ال ذكر صفات الله تعالى وبأنه تعالى يُنزل الوحي أيضًا، فبما أنه كان يجهل هذه الأمور فقال في دهشة: يا موسى، ما هذا الإله الجديد الذي لم نسمع عنه من الأولين قط ؟ قال موسى ألا ترى أن الدنيا تدار بنظام واحد، وأن كل مخلوق مزوّد بما يحتاج إليه من الأعضاء، وعالم بطريقة استعمالها منذ لحظة خلقه.فقال فرعون لموسى فما بال القرون الأولى ؟ أي إذا كان الأمر كما تقول فماذا يكون مآل آبائنا الذين كانوا يجهلون هذه الأمور؟ وقد أراد بذلك استثارة عواطف القوم ضد موسى مستخدمًا نفس السلاح الذي ما زال أعداء الأنبياء يستخدمونه في كل عصر.إن أهل الباطل يحاولون دائمًا إثارة عواطف القوم ضد أهل الحق فيقولون لهم مثلاً إذا كنتم صادقين فهل كان آباؤنا كاذبين ومن أهل النار؟ عند ثورة العواطف يغيب عن أنظار القوم كل دليل وبرهان.فمثلاً إذا دعوت إلى التوحيد يهب الواحد من المشركين ويقول لقومه انظروا ماذا يقول هذا؟ إنه يقول إن آباءكم كانوا جاهلين حمقى وأغبياء حيث سجدوا للأصنام والأوثان فمن ذا الذي يصدق أن آباءه كانوا جاهلين؟ إن الكافرين أيضا يحبون والديهم، فلا يتحملون الطعن فيهم.فحين يُعرض عليهم الشرك بهذا الأسلوب

Page 516

سورة طه الجزء الخامس ويقال لهم إن آباءكم كانوا مشركين، ويقول هؤلاء عن آبائكم إنهم كانوا جاهلين وكافرين، فإنهم يثورون ضد دعاة التوحيد قائلين إن هؤلاء يسبون آباءنا، فاقتلوهم، والهبوهم واطردوهم من بلدكم؛ فإنا لن نتحمل الإساءة إلى آبائنا.فأعداء الحق يلجئون إلى هذا السلاح الخطير دائمًا، ولكن هذا السلاح لم يفلح في الدنيا أبدا.بل إن الفطرة السليمة هي التي تتغلب عليه في كل عصر.أما قوله تعالى قال علمها عند ربي في كتاب لا يَضل ربي ولا ينسى..فمعناه أن موسى ال أجاب فرعون وقال فيما يتعلق بمآل الآباء فإنما علمه عند الله تعالى لأنه تعالى سيحاسب كل إنسان بحسب ظروفه وأحواله.أنا لا أعلم إن كان آباؤكم قد بلغهم الحق أم لا، وهل تمت عليهم الحجة أم لا؟ إن الجزاء منوط بالعلم الكامل بالأحوال والظروف، وهذا العلم ميسر الله وحده، فكيف أقول شيئًا بهذا الصدد وأنا لا علم لي بذلك.لقد أكد سيدنا المسيح الموعود ال أيضًا هذا الأمر فقال إن الثواب أو العقاب وثيق الصلة بإقامة الحجة وإقامة الحجة أمر يخص الله تعالى وحده، ولا علم للعباد بذلك.فإن حضرته لما اتهمه بعض الأشرار بأنه قال إن كل من لا يؤمن به فهو في النار، أنكر ذلك تمامًا، وقال كيف يمكن أن أقول ذلك وأنا خادم لسيدي محمد المصطفى ، الذي أؤمن أنه لن يدخل النار من الكافرين به إلا الذي قد تمت عليه الحجة.فقد كتب العلة في كتابه "حقيقة الوحي" ما تعريبه: "لقد اتهمني الدكتور عبد الحكيم خان في كتيبه "المسيح الدجال" وغيره من الكتب بأنني قد قلت في بعض كتبي أن الذي لا يؤمن بي كافر وسيدخل النار وإنْ كان يجهل حتى اسمى، وإن كان مقيما في بلد لم تصل إليه دعوتي.إن هذا إلا افتراء مبين من قبل هذا الدكتور، إذ لم أقل هذا في أي كتاب أو إعلان قط.ومن واجب هذا المفتري أن يقدم كتابًا لي قلتُ فيه هذا الكلام.واعلموا أنه قد افترى علي هذا الافتراء بمكره كعادته.إنه أمر لا يقبله العقل بالبداهة، إذ كيف يمكن أن يؤاخذ من لا يعرف حتى اسمي أيضا....وهذه هي عقيدتي بالنسبة للإيمان بالنبي له أيضًا..أعني أن الذي قد بلغته دعوة النبي ،

Page 517

الجزء الخامس سورة طه ووصله خبر بعثته، وتمت عليه الحجة عند الله تعالى بصدد رسالة النبي ، فإن هذا لو مات على كفره فإنه سيدخل النار خالدًا فيها.وإن الله تعالى وحده يعلم هل تمت الحجة على أحد أم لا.بيد أن العقل يفتي بأن الناس لما كانوا يتفاوتون كفاءةً وفهما وذكاءً فإن إتمام الحجة أيضًا لن يكون على غرار واحد (حقيقة الوحي ص (1140-148 الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَبَاتِ شَتَّى (٢) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَمَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٤) شرح الكلمات: شتى: الشتى جمع الشتيت ومعناه المفرق (الأقرب).التفسير : بعد أن قال موسى لفرعون إنما الجزاء بيد الله تعالى وحده الذي عنده علم كل شيء، فما يمكنني أن أخبرك عن مصير آبائك، حاول شرح الأمر لـه أكثر فقال ألا ترى كيف خلق الله الأرض خلقا يستطيع به الإنسان الانتفاع بها إلى أقصى حد ممكن.ثم إنه تعالى جعل في الأرض سبلاً تمكن الإنسان من السفر من قطر إلى آخر.وأنزل من السماء ماء تخرج به الأرض نباتها لكي تأكلوا أنتم ودوابكم أيضًا.فلم لا تدركون من هذه الظاهرة أن الله تعالى ينزل من السماء أيضًا الماء الروحاني..أي الوحي..ويخرج به علومًا روحانية شتى لكي ينتفع بها الناس من الطراز الأول، وغيرُهم أيضًا الذين هم كالأنعام..كل بحسب قدره وكفاءته.ثم قال إن في ذلك لآيات لأولي النهى..أي أن الذي هو معتاد التدبر يمكن أن ينتفع بهذا المثال نفعًا كبيرًا.بمعنى أن الماء المادي كما ينزل من السماء كذلك

Page 518

الجزء الخامس ۵۱۲ سورة طه ينزل الماء الروحاني أي الوحي والإلهام أيضًا من السماء، وأنه يمد بالغذاء الناس والأنعام، أي الذين هم ذوو روحانية عالية، وأيضًا الذين هم الضعفاء روحانيا.ويتضح من قوله تعالى فأخرجنا به أزواجًا من نبات شتى أن النبات أيضا أزواج.لم تكن الدنيا تعلم حتى قبل قرن من الزمان أن النبات أزواج إلا عن أشياء قلائل مثل النخل وغيره.أما الآن فقد أثبت العلم عن شتي النباتات أنها أزواج.وإن في ذلك لبرهانا ساطعا على صدق القرآن الكريم.مِنْهَا خَلَقْتَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا تُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٤) التفسير: تناولت الآيات السابقة الحوار الذي جرى بين موسى العليا وفرعون، والذي بين فيه موسى عقيدته عن الله تعالى بكل وضوح وجلاء.أما الآن فيقول الله تعالى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى..أي أننا خلقناكم من هذه الأرض، وإليها نرجعكم بعد الموت، ومنها نبعثكم ثانية.وقد أماط الله اللثام عن هذه الحقيقة لأن فرعون وقومه كانوا يعبدون النجوم، وكانوا يعتقدون أن الأرواح تنزل من شتى الكواكب والنجوم وتتولد ثم ترجع إليها تارة أخرى (موسوعة الأديان: 155.The Egyptian Religion; Orisis: p).وبتأثير مثل هذه العقائد تشكلت في الهند قبائل مختلفة مثل "سورج بنسي" و"جندر بنسي" وهذه الأسماء كلها ترمز إلى أن أرواح أفراد هذه الأُسر قد نزلت من الشمس والقمر.فبما أن قوم فرعون كانوا يعتقدون أن النجوم لها دخل وتصرف في إدارة العالم فأبطل الله تعالى هنا عقيدتهم، وبيّن أن الله تعالى وحده يدير هذا العالم وأن جميع الأرواح تقع تحت قبضته وتصرفه.إن هذه الآية تدل على وفاة المسيح الناصري الله أيضًا، حيث بين الله تعالى أن حياة الإنسان وموته وبعثه ثانية كل ذلك منوط بهذه الأرض نفسها.فما دامت هذه قاعدةً كليةً مسلمًا بها فكيف يجوز صعوده الله إلى السماء.عل.

Page 519

الجزء الخامس ۵۱۳ سورة طه وَلَقَدْ أَرَيْنَهُ وَايَتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (ج) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْركَ يَمُوسَى ) التفسير هنا يذكر الله تعالى مكرًا آخر لفرعون.فإنه لم يقل لموسى إنك تريد الإطاحة بعرشي لكي تتربع عليه أنت بل عرض الأمر أمام القوم كقضية قومية فقال له: هل جئتنا لتطردنا بمكائدك من بلدنا؟ وهذا يعني أنه أراد إثارة الشعب وإلهاب الحماس فيهم ضد موسى حيث قال إنه يريد طردكم من أرضكم ليستولي على الحكم.علمًا أن فرعون كان يحكم مصر في ذلك الوقت كما حكم الإنجليز الهند فترة من الزمن، لذلك رأى من الضروري أن يثير السكان الأصليين ضد موسى حتى يضفي على القضية طابعًا قوميا.فَلَتَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، فَأَجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا تُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوَّى شرح الكلمات : لا تخلفه : أخلَفَه ما وعده قال شيئا ولم يفعله (الأقرب).سُوَّى: السُّوى: العدل.لا تخلفه نحن ولا أنت مكانًا سُوَّى..أي مكانًا مُعلَمًا أي ذا مَعْلَم (الأقرب).بمعنى أن يكون مكانا معروفًا لدى الجميع.التفسير: يبدو أن فرعون كان أكثر عدلاً من أهل مكة وكذلك من المشايخ والقسيسين في هذا العصر.ذلك لأنه حدد بالتشاور مع موسى ال مكانًا للمناظرة لا يكون فيه خطر الشغب على موسى بل يتمتع بكل حقوقه.ولكن المشايخ أو القسيسين عندما يدعون خصمهم للمناظرة يدعونه إلى مكان يكثر فيه أتباعهم، وذلك لكي يثيروا الشغب ضد خصومهم ويوسعوهم ضربًا ولكمًا.

Page 520

الجزء الخامس ٥١٤ سورة طه قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن تَخْشَرَ النَّاسُ ضُحَى (٤) التفسير : كان موسى ال يريد أن تتم المناظرة في مكان يكون سويا للطرفين، لا لذلك قال موعد كم يوم الزينة وأن يُحشر الناسُ ضحى..والمراد من يوم الزينة يوم العيد وكان ذلك يوما مقدَّسًا لديهم لا يُعتدى فيه على أحد كأيام الحج المقدسة عند العرب.ثم إنه العلي حدد وقت الصباح وهو وقت جيد، إذ يكون الدماغ نشيطا حينذاك ويستوعب الأمور بسهولة، أما فيما بعد فيكون متعبا لكثرة الأشغال، ويصعب عليه التركيز.صلے فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابِ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَزَعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٣) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن تُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٤) شرح الكلمات : فيسحتكم: أسحت الشيء: استأصله (الأقرب).المثلى: مؤنث الأمثل أي الأفضل (الأقرب).التفسير: (قالوا إن هذان لساحران...هذه مقولة أصحاب فرعون حاولوا بها إلهاب مشاعر القوم ضد موسى وهارون عليهما السلام قالوا إنهما يريدان طردكم من البلاد بخُدَعهم ومحو دينكم الذي هو أفضل الأديان.وهذا يعني أنهم سعوا لإثارة القوم ضدهما سياسيا ودينيا.فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اثْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (3) التفسير: إن الأكثرية العظمى من الناس اليوم يرون لسوء فهمهم، جواز استخدام الطرق غير المشروعة بكل أنواعها من أجل تحقيق هدف نبيل.والحق أن

Page 521

الجزء الخامس هذه هي 010 سورة طه محاولة نيل هدف بطرق غير مشروعة تشكل بحد ذاتها دليلا على زيف ذلك المبدأ.المكيدة التي لجأ إليها فرعون وأصحابه حيث حرضوا القوم على أن لا يدخروا وسعا في اللجوء إلى كل مكيدة وخدعة وزيف بهدف التغلب على موسى.عليهم أن يستنزفوا كل مكر وتدبير في هذا السبيل بغض النظر عن كونه مشروعًا أم غير مشروع.قَالُوا يَمُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِما أَن تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ) التفسير: استعدّ السحرة لمواجهة موسى ، وبالرغم من أن فرعون كان معهم وبرغم أنهم كانوا مصابين بالكبر والغرور إلا أنهم قالوا لموسى في أدب: هل أنت ستبدأ أم نحن نبدأ؟ وقد كتب صاحب "مثنوي رومي" أمرًا لطيفا بهذا الصدد، فقال إن أدب السحرة هذا هو الذي تداركهم، فإن الله تعالى الذي يعطي الجزيل على عمل بسيط قدّر عملهم هذا، ووفقهم للإيمان.مثنوي) مولوي معنوي ص ١٨٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَاهُمْ وَعِصِيُّهُمْ تُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنْهَا TV تَسْعَىٰ التفسير : يبدو من قوله تعالى فإذا حبالهم وعصيُّهم يُخَيَّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى أنه كان بداخل حبال السحرة وعصيهم الزئبق أو اللوالب المرنة، فكانت تتحرك نتيجة الضغط عليها.وهناك مخترعات مماثلة لذلك تستورد من أوروبا في هذه الأيام بكثرة.ويبدو أن مثل هذه الصناعة كانت موجودة في مصر، وهي التي قد استعملها السحرة.

Page 522

الجزء الخامس سورة طه فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ صلے الأعلى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَنجِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى : شرح الكلمات : أوجس أو جس الرجل إيجاسًا: أحس وأضمر (الأقرب).خيفة: الخيفة: الحالة التي يكون عليها الإنسان من الخوف (الأقرب).تلقف: لقف الشيء: تناوله بسرعة (الأقرب).التفسير: أي لما أحس موسى الخوف أوحى الله إليه أن ليس بداخل هذه الحبال والعصى إلا اللوالب وما شابه ذلك.فاضربها بعصاك بقوة، فتنكسر اللوالب بداخلها وتتوقف هذه عن الحركة.وهكذا سوف تلتهم عصاك حبالهم وثعابينهم التهاما معنويا..أي ستكشف للناس شعوذهم وخدعتهم.فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا وَامَنَّا بِرَبِّ هَرُونَ وَمُوسَى ) التفسير: إن قوله تعالى فأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ملفت للنظر، حيث يبين أن هزيمة السحرة كانت واضحة جدًّا حتى بدا وكأن قوة غيبية قد نزعت الأرض من تحت أقدامهم، فخروا ساجدين وبما أن هزيمتهم قد جعلتهم يوقنون بأن الله تعالى يؤيد موسى بنصره فما لبثوا أن قالوا آمنا برب هارون وموسى.قَالَ وَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَا قَطِعَنَّ فَلَا قَطِعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ) شرح من الكلمات : خلاف: قوله تعالى من خلاف.."أي إحداهما من جانب والأخرى من جانب آخر (المفردات).وقد يعني بسبب مخالفتي.

Page 523

الجزء الخامس ۰۱۷ سورة طه التفسير : لقد قال فرعون من قبل بكل كبرياء وغطرسة إني سأجمع سحرة هم أكثر حذقا ومهارة من موسى ولكن لما خر السحرة على قدمي موسى منهزمين استشاط فرعون غضبًا، وقال لهم إخفاء للعار الذي لحق به، سوف أعاقبكم الآن لأنكم آمنتم من دون إذني.كما سبق أن بينت أن قوله تعالى من خلاف قد يعني أني سأقطع أيديكم وأرجلكم لمخالفتكم أوامري، أو يعني أني سأقطعها من الجهة المخالفة، أي اليد اليمنى والرجل اليسرى؛ إذ لا يصلح الإنسان بعد ذلك لشيء بل يصبح معوقا كلية.قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَأَقْضِ صلے مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَيَنَنَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمَا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ( وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّلِحَتِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الدَّرَجَتُ الْعُلَى (٤) جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى ) ۷۷ التفسير: كان السحرة قبل قليل يتسولون إلى فرعون، أما الآن فقد جعلهم الإيمان شجعانًا حتى إنهم وقفوا في وجه فرعون وقالوا لسنا لنطيعك الآن أبدًا، إنما نطيع أمر الله تعالى فقط.فغاية ما يمكن أن تفعله هو أن تقضي على حياتنا الدنيا.فافعل ما بدا لك، فلا نبالي بذلك أبدًا.إننا مسرورون بأن الله تعالى قد هدانا بفضله إلى الحق، ولن تقدر قوة في الدنيا على ردنا إلى الكفر ثانية.الواقع أن من تيسر له الإيمان الكامل هانت عليه مصائب الدنيا ومحنها كلية.هناك واقعة في كتب الحديث تبين لنا حقيقة الإيمان، وكيف أن الدنيا لا تساوي

Page 524

الجزء الخامس ۵۱۸ سورة طه شيئًا في نظر من تيسر له الإيمان حقا.لقد وقع في غزوة أُحد حادث شاع بسببه بين الناس أن النبي لا والله لقد استشهد فقامت القيامة في المدينة كلها، وأخذت النساء والولدان في الصراخ والعويل وهم يجرون إلى ميدان المعركة.وكان بين هؤلاء النسوة عجوز عمرها سبعون سنة، قد ضعف بصرها، فكانت لا تقدر على رؤية شيء بعيد، وكانت تعرف أحدًا بصوته إذا ما اقترب منها.وكان النبي ﷺ إذا ك راجعا من ميدان القتال بفضل الله تعالى.وكان أنصاري يحرسه حراسة خصوصية آخذا خطام راحلته وكأنه كان يتفاخر بأننا قد تمكنا من أن نرجع برسول الله لا من ساحة الحرب حيًّا.وكان أحد إخوة هذا الأنصاري قد استشهد في المعركة.وكانت هذه العجوز أم هذا الأنصاري فأبصر بين فوج من النساء والولدان الباكين الصارخين العجوز وهي تحاول أن تسرع الخطى ورجلاها تتخاذلان، إذ كانت شبه كفيفة لا تقدر على رؤية الطريق، وكانت تنظر يمينًا وشمالاً في قلق بالغ.فلما أبصر أمه قال يا رسول الله، أمي، أمي.وكان يريد أن يعزي رسول الله ﷺ أمه التي قد فقدت ابنها في هذا الشيخوخة والضعف.ففطن النبي ﷺ لما أراده الأنصاري، ولما اقتربت العجوز أمره النبي ﷺ أن يوقف ناقته.ثم قال للعجوز: لقد حزنت لفراق ابنك الذي منحه الله درجة الشهادة، وأدعو الله تعالى أن يلهمك الصبر والسلوان.كان بصرها ضعيفا فلم تعرف من المعزّي، ولكن الصوت قد حيّرها، إذ كانت تظن أن رسول الله ﷺ قد استشهد، ولكن الصوت صوته.فلما وقع بصرها على وجه النبي ﷺ وعرفت أن المعزي هو رسول الله نفسه، قالت في جرأة وثبات: ما هذا الحديث عن وفاة ابني، يا رسول الله؟ فما دمت حيًّا فكل مصيبة بعدك جَلَل.أي نحمد الله تعالى أنك قد عدت إلينا حيًّا، وهذا يكفينا (السيرة النبوية لابن هشام، الجزء الثالث: شأن المرأة الدينارية).فالحق أننا لو حظينا بوصال الله تعالى وأمسكنا بأهدابه تعالى نتيجة لإيماننا و استعدادنا للخوض في الأخطار بكل أنواعها، فلا يمكن أن نبالي بأشد المصائب هولاً.وقد أشار النبي إلى هذه الحقيقة نفسها بقوله من وجد حلاوة الإيمان فلو

Page 525

الجزء الخامس قذف ۵۱۹ سورة طه بعد ذلك في النار لكانت أحب إليه من أن يعود في الكفر (البخاري، كتاب الإيمان، باب من كره أن يعود في الكفر).وورد في حديث آخر أن الرجل فيمن قبلكم إذا آمن كان قومه يقطعون رأسه بالمنشار قطعتين، ولكن ما كان هذا يصدّه عن إيمانه مسند أحمد، مسند البصريين، رقم الحديث ٢٠١٦١).وتكثر أحداث مماثلة بين صحابة الرسول الله فمثلاً كان الكافرون يجوعون بلالا ، ثم يُلقونه على رمال محرقة في الشمس، ويضعون على صدره حجراً ثقيلاً محرقًا، ثم يأمرون أحدا منهم أن يركب عليه ويقفز، ثم يقولون له قل أن محمدًا كاذب، وأن اللات ومناة والعزى آلهة حقا.فكان لسانه يتدلى من فمه، وكان حلقه يجفّ من شدة العطش، ولكن لم يكن جوابه إلا قوله "أشهد أن لا إله إلا الله".وعندما كان لا يقوى على قول شيء فكان يكتفي بقوله "أحد، أحد"..أي الله أحد أسد الغابة في معرفة الصحابة).فالتاريخ مليء بذكر هذه التضحيات من قبل الصحابة.وهذه هي الأسوة التي قدمها السحرة أيضًا، فقالوا لفرعون صراحة إننا لسنا لنستمع لقولك الآن، وإنما نستجيب لأمر الله الذي قد أتانا، والذي قد شاهدنا صدقه بأم أعيينا.وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَأَضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَيفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمَ مَا غَشِيَهُمْ (۳) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٤) التفسير: أي أننا أوحينا إلى موسى وقلنا له أن يخرج بعبادنا، أي بني إسرائيل، من مصر تحت ستر الليل.وقلنا له أن اضرب بعصاك البحر واجعل لهم فيه طريقًا يابسا، لكي تعبر بهم البحر من دون أن تخاف مطاردة فرعون أو تخشى الغرق.ثم * كان بلال له لا يستطيع نطق الشين (المترجم).

Page 526

الجزء الخامس ٥٢٠ سورة طه إن فرعون دخل البحر مع جنوده مطاردًا بني إسرائيل، فجاءهم الموج وأغرقهم.وهكذا دفع فرعون قومه إلى الهلاك كما لم ينج منه بنفسه.يتضح من هذه الآيات أن هذه الآيات أن بني إسرائيل لما هربوا من مصر طاردهم فرعون وجنوده.ولما اقترب بنو إسرائيل من البحر خافوا.فأوحى الله تعالى إلى موسى يطمئنه، وقال اضرب بعصاك البحر.فلما ضربه بالعصا صار طريق في البحر، وبدا البحر كتلال الرمال على حافتي هذا الطريق.فلما مروا به أراد فرعون وأصحابه أن يمروا وراءهم، ولكن رجع الماء في هذه الأثناء فكانوا من المغرقين.قد وردت في القرآن الكريم بصدد انحسار ماء البحر كلمتان فرقنا و فانفلق (البقرة: ٥١، والشعراء: (٦٤، وكلاهما تدلان على معنى الانفصال.فيبدو أن ما حصل هو كالآتي عندما وصل بنو إسرائيل إلى البحر كان ماؤه قد انحسر عن الشواطئ، فعبروه مرورًا باليابسة التي ظهرت نتيجة انحسار البحر.وتُشاهَد هذه الظاهرة عادةً على شاطئ البحر الأحمر الذي مر به بنو إسرائيل.ورد في كتاب "حياة نابليون" أنه لما كان في مصر ذهب لزيارة المكان الذي مر به المصريون بحسب الروايات وكان الوقت وقت الجزر، فعبر نابليون البحر مع أصحابه إلى الشاطئ الآسيوي للبحر الأحمر.وقضى هناك وقتا طويلا في رؤية شتى المناظر.وحين أراد العودة كان الليل قد أسدل ستاره فضل القوم طريقهم، واشتد الظلام، وجاء المد وأخذت الخيل تغوص في أمواج الماء التي كانت ترتفع باستمرار بدأ الماء يمس سروج الخيول، فأيقنوا الهلاك.ولكن نابليون أنقذ نفسه وأصحابه من هذه الكارثة نتيجة طبعه الذي لم يكن يعرف الخوف، والذي لم يكن ينفصل عنه في أي لحظة.فوصلت الخيل عند منتصف الليل إلى الشاطئ الغربي بسلام وكانت المياه قد غطت نحورها.علما أن الموج يرتفع على ذلك الشاطئ إلى ۲۲ ذراعًا.فلما خرج نابليون من البحر قال: "لو أني غرقت اليوم هنا نتيجة المد، حتى كما غرق فرعون لوجد القسيسون المسيحيون مادة جيدة للوعظ ضدي.(The life Of Napoleon Bonaparte, By Jean s.c.Abbott p.96-97)

Page 527

الجزء الخامس ۰۲۱ سورة طه إنما المعجزة في حادث عبور بني إسرائيل هي أن الله تعالى قد جاء بهم إلى البحر في وقت الجزر، ووضع أمام المصريين العراقيل التي أبطأت سرعتهم، حتى جاء المد في البحر.ورد في التوراة أن الله تعالى خلع بَكَرَ مَركباتهم حتى ساقوها بثَقْلة" (الخروج ١٤ (٢٥).ويبدو أن فرعون لما بلغ البحر كان موسى ال وأصحابه قد عبروا معظم الجزء اليابس من البحر، فلما رآهم فرعون يعبرون البحر تعقبهم هو وجنوده على عرباتهم ولكن رماله المبللة تسببت في هلاكهم، حيث أخذت العربات تغوص في الرمال، وتأخروا كثيرًا حتى حان وقت المد، وأخذ الماء في الارتفاع فما استطاع فرعون أن يتقدم أو يتأخر ، فكان أن أحاط بهم البحر فكان مع جنوده من المغرقين.يَبَنِي إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَكُمْ جَانِبَ الطُّور الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن تَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَى فَقَدْ هَوَىٰ ) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) شرح الكلمات المن: المنّ مصدرُ مَن يمن، يقال من عليه بالعتق وغيره يمن منَّا..أي أنعم عليه به کے من غير تعب ولا نصب، واصطنع عنده صنيعة وإحسانًا.كلُّ ما يُمن الله به مما لا تعب فيه ولا نصب فهو المن.والمن كلُّ طَلِّ ينزل من السماء على شجر أو حجر، ويحلو وينعقد عسلاً، ويجفٌ جفاف الصمغ كالسِّيرَ خُشت والترنجبين (الأقرب).سلوى: العسَلُ؛ كلُّ ما سلاك؛ طائر أبيض مثل السماني؛ وقيل: السلوى اللحم (الأقرب).وورد في المفردات: "السلوى أصلُها ما يسلّى الإنسان".

Page 528

الجزء الخامس ٥٢٢ سورة طه التفسير: لما خرج بنو إسرائيل من مصر إلى كنعان اضطروا للمرور بمنطقة قاحلة جدًّا غير مسكونة تتخللها بعض المدن والقرى على مسافات بعيدة.ولا تزال هذه المنطقة هكذا، والمرور بها ليس بأمر هين.لا شك أن القطار يمر بها الآن، وسهل فيها السفر، إلا أن الأمر لم يتغير حتى الآن فيما يتعلق بكونها غير مأهولة لأنها خالية من الأراضى الصالحة للزراعة والإقامة أرضها عبارة عن البراري التي لا زرع فيها ولا ماء.لقد حاول الأتراك عبور هذه المنطقة كثيرًا ليصلوا إلى الأراضى المصرية فيقطعوا على الإنجليز الطريق إلى الهند، ولكنهم فشلوا في ذلك لشح الماء وقلة الطعام في المنطقة، وذلك بالرغم من أنهم قد بذلوا في سبيل ذلك تضحيات خيالية.لقد بذل الإنجليز أيضًا قصارى جهدهم ليدخلوا الأراضي الفلسطينية عن طريق السويس، ولكنهم أيضًا منوا بالفشل لاعتراض تلك البراري الجافة والقاحلة طريقهم.وأخيرًا جلب الجنرال أيليني (Allenby) الماء عبر الأنابيب من النيل وأوصله إلى هذه المنطقة من على قناة السويس، وهكذا جعل هذه المنطقة القاحلة التي كانت غير صالحة لإنشاء المدن الكبيرة قابلة للإقامة وفي أثناء الحروب الصليبية أيضا، حين عسكر كبار أبطال الشعوب الأوروبية كلها على جبهة فلسطين والشام ليصدوا سيل الإسلام العارم كانت لا تزال صحراء سيناء تأخذ من المسلمين والمسيحيين خراج المرور بها.فكم من جيش إسلامي ومسيحي قد هلك في هذه البرية في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي من جراء شح الماء وقلة الطعام.فكان لا بد للقوافل من المرور بالجيوب المائية القليلة من العيون والغدران.وكان الفريق الغالب يقضي على رجال الفريق الآخر بغاية السهولة، حيث كان وجود رجال قليلين من الفريق الغالب على مصادر الماء ضمانًا كافيًا بأن الفريق الآخر لن يتمكن من العبور من مصر إلى فلسطين بدون أن يتكبد خسائر جسيمة.يقول بن المنقذ في كتابه "الاعتبار "كانت هناك ما بين مصر وفلسطين عين ماء باسم "الجفر"، وكانت لا تخلو في أي وقت من بعض الإفرنج، فكان على القوافل أسامة

Page 529

الجزء الخامس ٥۲۳ سورة طه أن يمروا بها بحذر شديد وذات مرة بعثني سيف الدين بن سالار الوزير المصري إلى نور الدين الشاه برسالة بأن يشغل الإفرنج بالهجوم عليهم من جهته في منطقة طبرية، حتى يهاجم سيف الدين من جهته غزة فيمنع الإفرنج من بناء حصن هناك.ولما وصلنا إلى عين الجفر لم نجد عليها الإفرنج ،صدفة بل ألفينا هناك أناسا من بني أبي من قبيلة طيء، لم يبق من لحومهم إلا الجلود، وقد برزت عيونهم بشكل مخيف من شدة البؤس والفقر.فقلنا لهم على ما تعيشون هنا؟ قالوا: نغلى عظام الميتة و نعيش عليها إذ لا يوجد هنا شيء نأكله.وكانت كلابهم أيضًا تعيش على ذلك.أما خيولهم فكانت ترعى ما نبت حول العين من الكلأ والعشب القليل.فقلنا لهم: لماذا تعيشون هنا بهذا البؤس إذًا؟ لم لا تصعدون إلى جهة دمشق؟ قالوا: خوفًا من وبائها.فقلنا ما أشد هؤلاء غباء! فأي وباء هو أشد فتكا مما هم فيه (كتاب الاعتبار.(V-7 لابن منقذ.ص بالاختصار، تبلغ صحراء سيناء من الخطورة والوعورة بحيث كان من العسير على الجماعات الكبيرة أيضًا أن تمر بها إلا باتخاذ تدابير استثنائية.أما الإقامة بهذه البرية فكانت أشد صعوبة فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أن بني إسرائيل الذين خرجوا من مصر متشردين بائسي الحال، والذين يقال أن عدد رجالهم، البالغين عشرين سنة والصالحين للخدمة العسكرية، قد وصل ست مئة ألف – علمًا أن هذا العدد قد ورد في التوراة الخروج (۱۲ (۳۷ وهو خطأ بالبداهة، أما القرآن فيقول وهم ألوف (البقرة : (٢٤٤ - كيف مروا بهذه البرية، ثم كيف أقاموا فيها قرابة ثمان وثلاثين سنة؟ هذا سؤال لا يزال يحير العالم على مر القرون.لقد ردت التوراة على هذا التساؤل بأنهم مروا وعاشوا بهذه البرية نتيجة معجزة نزول المن وبأن اثنتي عشرة عينًا قد انفجرت دولهم في صخرة حوريب.تقول التوراة إن الله تعالى أعان هؤلاء المقهورين وهيأ لهم من فضله أسباب الطعام والشراب.أترك في هذا الوقت موضوع الماء جانبًا لنبحث في موضوع المن.

Page 530

الجزء الخامس ٥٢٤ سورة طه فبعد قراءة بيان التوراة هذا ينشأ سؤال طبيعي ذو ثلاث شعب: أولاً، ما هو المن؟ ثانيا، هل وُجد كمعجزة؟ وثالثًا، هل كان من الممكن أن يعيش عليه بنو إسرائيل سنين طويلة؟ عند الرد على الجزئية الأولى من هذا السؤال يطرح سؤال آخر نفسه وهو: هل يسمى هكذا من قبل؟ وإذا خلفية هذه التسمية؟ هل فعلوا ذلك لخصوصية أطلق بنو إسرائيل اسم المن على هذا الغذاء، أم أنه كان كانوا هم الذين سموه ه بذلك فما هي معينة في هذا الغذاء أم لسبب آخر؟ لقد ذكرت التوراة المن أول مرة في الخروج ١٦.تقول التوراة إن بني إسرائيل 11 الله لما ارتحلوا من إيليم تذمّروا لعدم تيسر الطعام في الطريق.فوعدهم باللحم والخبز.وفي المساء ظهرت السلوى في البرية فصادوها وأكلوا لحومها.وفي الصباح وجدوا على وجه البرية شيئًا أبيض صغير الحجم.فلما رأوه قال بعضهم لبعض "من هو "؟ لأنهم لم يعرفوا ما هو ( و "مَنْ" تفيد الاستفهام في العربية،؛ إذا فلفظ "من" الذي استعمل في العبرانية لفظ عربي في الواقع والفرق الوحيد هو أن "من" يُستخدم في العربية عادة لذوي العقول وليس لغيرها، ولكن أهل العبرية أخذوا يستعملونه لغير ذوي العقول أيضًا، فقال لهم موسى هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا" (انظر الخروج ١٦: ١١ - ١٥).بسبب هذه الفقرة في التوراة ظن البعض أن لفظ "من" هنا جاء للاستفهام.ثم أخذ بنو إسرائيل يستعملون لفظ "المن" لهذا الطعام حيث ورد: "ودعا بيتُ إسرائيل اسمه منا" (الخروج ١٦: ٣١).ولكن بعض الباحثين قد عدّوا هذا القول خطأً، اتباعًا لما قاله جورج أيبرز.فهم يرون أن الخطأ راجع لوجود التشابه بين الكلمتين حيث كان اللفظ الحقيقي هو '، وهو لفظ من اللغة القبطية، ويعني الطعام.فبنو إسرائيل لم يسموا ذلك الغذاء منا على سبيل الاستفهام، بل الواقع أن الله تعالى لما قال إنه طعامكم الموعود سموا ذلك الغذاء منا أي طعامًا، لأنهم لم يعرفوا له اسما آخر.إنهم يرون أن "من" "منو"،

Page 531

الجزء الخامس ٥٢٥ سورة طه لا يُستعمل في اللغة الآرامية للاستفهام، لذا فمن المستغرب أن يستعمل بنو إسرائيل لفظ "من" بمعنى الاستفهام مع أنه لا يوجد في الآرامية أي لفظ كهذا بالمفهوم ذاته.ولكن السيد "فيلد" حاول إزالة هذا الالتباس مستعينًا بنسخة يونانية قديمة للتوراة، حيث ورد فيها في الإصحاح ١٦ الفقرة ١٥ "هل هذا من"؟ فإذا صح هذا الفرق ثبت أن المن قد جاء بمعنى الطعام، وليس بمعنى الاستفهام، حيث كانوا يستخدمون لفظًا آخر للاستفهام.لا جرم أن اللفظ العبراني المستعمل هنا يفيد الاستفهام أيضا، ولكن لا شك أن هذا اللفظ لم يرد بهذا المعنى بعد سببي بني إسرائيل وما بعده إلا في سفر عزرا وسفر دانيال.ولم يُعثر على استعماله بهذا المعنى ما قبل السبي، ولذلك قد اعتبره بعض الباحثين لفظا آراميا.وللتوصل إلى حقيقة هذا اللفظ، ندرس المواضع الأخرى من التوراة المعرفة أساليب السؤال عن غير ذوات العقول، فنجد فيها ما يحل هذا اللغز تماما.وذلك أنه كلما جاء في التوراة السؤال عن غير ذوي العقول، جاء بلفظ "منه"، لا بلفظ "من"، وكلما جاء فيها السؤال عن ذوي العقول، جاء بلفظ "زي".فمثلا ورد فيها : "فقال له (أي لموسى الربُّ: ما هذه في يدك؟ فقال: عصا" (الخروج ٤ : ٢).وقد ورد هنا في النسخة العبرية لفظ "ما" زه" بمعنى "ما" هذا".وهناك شبه كبير بين زه" العبري، و"ما هذا" العربي.هذا الاستعمال لـ "ما زه" غير عادي، إذ قد عُبر عن هذا المعنى بالعبرية القديمة بلفظ "منه" في أماكن عديدة مثل اللاويين ٢٥: ۲۰، صموئيل الأول :۳ ۱۷ ، المزامير ۱۲۰: ۳ والأمثال ٤:٣٠.أما عند السؤال عن ذوي العقول فقد استعملت التوراة لفظ "زي"، وذلك في التكوين ٢٧: ١٨، "ما ود التكوين ٣٣: ٥، الخروج ۱٥: ۱۱، صموئيل الأول ٢٥: ١٠ والمزامير ٤: ٦.لقد اتضح بهذا الفرق جليًّا أن لفظ "من" الوارد في الخروج: ١٦ لا يفيد الاستفهام، لأنه لم يرد في العبرية القديمة بمعنى الاستفهام، وإنما استعمل فيها لفظ "منه" من أجل الاستفهام.

Page 532

٥٢٦ سورة طه الجزء الخامس وكذلك نرى أن لفظ "من" لما تداول استعماله بمعنى الاستفهام خلال فترة السبي وما بعدها فإنما استعمل من أجل ذوي العقول، لا لغيرها، كما هو الحال في اللغة العربية.فمثلا قد جاء "من" لأجل الاستفهام في عزرا ٥: ٣-٩ ودانيال ٢: ١٥، ولكنه ورد من أجل ذوي الأرواح.فثبت بذلك، أولاً، أن "من" لم يُستعمل من أجل الاستفهام زمن نزول التوراة، وثانيًا أنه لما استعمل للاستفهام منذ سبي بني إسرائيل فإنما استعمل لذوي العقول لا لغيرها، كقاعدة كلية - يبدو من ذلك أن بني إسرائيل إذاك أخذوا يختلطون بالعرب ويستعملون الأساليب العربية السليمة - وإذا ورد استعماله خلاف ذاك فكان استثناء لا يمكن الأخذ به كقاعدة إذا فليس من الصحة في شيء تفسير لفظ "من" الوارد في الخروج ۱٦: ۱۵ بمعنى الاستفهام، ثم الاستنتاج منه بأن بني إسرائيل قد استعملوه من أجل السؤال عن ذلك الغذاء لأنهم لم يعرفوه.إن سوء الكتاب الأوروبيين لهذا الأمر راجع إلى كونهم يغضون الطرف، لدى التحقيق في لغة ميّتة كالعبرية عن حقيقة أن أمّ العبرية..أي العربية..لا تزال حية موجودة.كان ينبغي عليهم الاستعانة باللغة العربية للتوصل إلى كنه الكلمات العبرية ولو أنهم فعلوا ذلك لعرفوا أن لفظ "ما" يُستعمل للاستفهام في العربية لغير ذوي العقول، بينما يُستعمل "من" لذوي العقول.ثم لو أنهم فحصوا كلمات التوراة على ضوء هذه المعرفة لتبين لهم أن القاعدة نفسها قد روعيت في اللغة العبرية المستعملة في التوراة، وبالتالي لتجنبوا هذه الزلة.فهم بيد أنه لا بد من الإشادة بهم أيضًا، حيث إنهم قد أدركوا، على الأقل، أن لفظ "من" قد بدأ استعماله للاستفهام منذ زمن السببي وما بعده، وليس قبل ذلك (انظر الموسوعة التوراتية تحت كلمة Manna)؛ ومن أجل ذلك قد قال بعضهم في تفسير "من" إنه ليس للاستفهام.فقد ذكرتُ من قبل أن جورج أيبرز مثلاً : أيبرز مثلا قد اعتبر لفظ "من" مأخوذاً من "منو" المستعمل في اللغة القبطية بمعنى الطعام.كما أن الباحث جيسينيس (Jesenius) قد ذكر في قاموسه أن هذا الشيء قد سُمي "منا" نظرا إلى اللفظ العربي "المن" الذي معناه الفضل والإحسان إن هذا الكاتب يرى أنه قد

Page 533

الجزء الخامس ۵۲۷ سورة طه أطلق على هذا الشيء "منَّا" لأنه نزل بفضل الله تعالى ومنته.وهذا الرأي أقرب مع.إلى الصواب في رأبي.أما الآن فأبين لكم ما هو المن.يتضح لنا من التوراة أن هذا الشيء كان يسقط الندى على شكل حبات بيضاء كحبات الكزبرة، تُطحن أو تُدق في المدق، ثم تحمص أو تُخبز.وكان طعمه كالزيت الطازج، وكان يذوب إذا حميت الشمس (الخروج ١٦: ١٤، ١٥، ۲۲، ۳۱ والعدد ١١ ٧-١٠).وكان لا يسقط يوم السبت، وإذا جمعه الناس يوم السبت فكان يُنتنَ إلا ما قد جمعوه ليوم السبت.وما زال هذا المن يسقط من أجل بني إسرائيل أربعين سنة على التوالي (الخروج ١٦: ٣٥).وقد انقطع نزوله عليهم لما دخلوا الأرض الموعودة لهم وأكلوا من غلالها(يشوع ٥: ١٢).تعالوا لنرى الآن هل يوجد شيء في برية سيناء ينطبق عليه ما ورد في التوراة من وصف؟ والجواب أنه بغض النظر عن المعجزات نجد أنه يوجد بالفعل في منطقة سيناء شيء يظهر مع الندى، ويذوب في الشمس، وطعمه كطعم الزيت، ولونه أبيض.ويطلقون في بلادنا على نوع منه الشَّير خشت"، وعلى نوع آخر "الترنجبين"، ويسمى باللغة الهندية "يورس شرط كرا" أي سُكَّرُ الجوانسه إذ يستخرجونه في الهند من شجر الجوانسه كتاب) المفردات خواص الأدوية ص ١٦٥).ويسمى في اللاتينية "منا".وقد وردت ماهيته ومواصفاته مفصلةً في كتب الطب والموسوعة البريطانية (انظر الموسوعة البريطانية Manna).وقد شهد السياح الأوروبيون أن المن يوجد في هذه المنطقة حتى اليوم، وإن كان لا يسقط مع الندى، بل هو رحيق شجرة تسمى "تيمركس كيليكا" التي حين تقشرها دودة معينة أو أحد الناس يسيل منها رحيقها هذا ويتجمد.وهناك طرق شتى لجمع المن في بلاد مختلفة.وإن أشهر أنواع المن هو ما يُنتج في صقلية وخراسان.أما في الهند فيصنعون المن من شجرة تدعى جوانسه ويسمونه ويد" من".أما المن المستورد من مصر فهو مزيف يعرفه الأطباء بسهولة."I

Page 534

الجزء الخامس ۵۲۸ سورة طه ويقول السائح الألماني "برناردت" أن المن الذي يمكن إنتاجه من الأشجار الموجودة في سيناء يُقدَّر بحوالي ثلاث مئة كيلو غرام سنويًّا (الموسوعة التوراتية مجلد ٣ تحت: Manna).ويُظَنّ أن عدد الأشجار في برية سيناء كان أكثر بكثير في القديم وكانت تنتج المن بمقدار كبير جدا.وكان بنو إسرائيل، بالنظر إلى عددهم المذكور * من في التوراة، بحاجة إلى ٢٦٧٥٠ منا من المن للاستهلاك اليومي، وقرابة عشرة ملايين "من" للاستهلاك السنوي.ولكن هناك بون شاسع جدا جدا ما بين ثلاث مئة من الكيلو الذي يمكن إنتاجه اليوم سنويا وبين عشرة ملايين الذي كانوا بحاجة إليه إذاك ومهما أطلق أحدنا لخياله العنان فإنه لا يمكن أن يتصور أنه كانت بهذه البرية في زمن من الأزمان غابة كثيفة كبيرة أنتجت هذا المقدار الهائل من المن، ولا سيما أن الأشجار لا يمكن أن تنبت في معظم هذه المنطقة.ومن الطرق التي يمكن بها حل هذه المشكلة هو أن نعتبر العدد المذكور في التوراة لبني إسرائيل عددًا مبالغا فيه ورد في الخروج (الإصحاح ١٢: ٣٧) أن عدد الرجال الإسرائيليين البالغين سن العشرين فصاعدًا والصالحين للقتال كان ست مئة ألف وثلاثة آلاف وخمس مئة وخمسين وهذا العدد يخص من الرجال من أحد عشر سبطا من اليهود، إذ لم يَحْو رجالاً من السبط الثاني عشر.ولو ضممنا إليه رجال هذا السبط لصار عدد كل الشباب الإسرائيليين الصالحين للقتال حوالي ست مئة ألف وخمسين ألفًا.ولنقل أن عدد النساء والولدان والشيوخ غير الصالحين للحرب ة أضعاف هذا العدد؛ ذلك أن الذين يصلحون للقتال يمثلون ما بين ٦% هو عشرة إلى ۱۰% من مجموع سكان البلد عموما.لنفترض أن بني إسرائيل كانوا يُجبرون على الخدمة العسكرية بكل صرامة، وكان عدد بني إسرائيل غير القادرين على الحرب عشرة أضعاف المحاربين منهم..أي ستة ملايين ولكن من المستحيل أن يقبل العقل أن عددهم كان ستة ملايين حينئذ.ذلك أن هذا العدد الهائل من الناس من مصر في ذلك الوقت القليل.محال.ثم إن القرية التي كانت وراء نهر خروج * المن مكيال يساوي أربعين كيلو ونيفا (المترجم).

Page 535

الجزء الخامس ۵۲۹ سورة طه الأردن والتي جاءوها وأقاموا فيها لا تتسع لهذا العدد الضخم من الناس.لقد قدر عدد سكان فلسطين في عام ١٩٢٦ زهاء ٨٥٢٢٦٨ - ثماني مئة ألف واثنين وخمسين ألف - ومئتين وثمانية وستين (الموسوعة البريطانية طبعة ١٤: فلسطين).ومساحة هذا البلد تبلغ تسعة آلاف ميل مربع.ثم إن معظم أراضيها غير صالحة للاستيطان، فهي سهول رملية لا يمكن تعميرها.بل إن عدد سكان فلسطين لم إبراهيم * يتجاوز مليونا ونصف المليون حتى اليوم أيضًا بعد أن عمرها اليهود بدعم أمريكي.فمجيء الستة ملايين إلى البلد الذي كان مأهولاً بسكانه سابقا وإقامتهم به لأمر مخالف للعقل تمامًا.وهناك دليل آخر ينفي عقليا أن يكون عدد بني إسرائيل في ذلك الوقت ست مئة ألف، دعك عن أن يكونوا ستة ملايين.ذلك أنه قد مضت بين ولادة إسحاق العلية ودخول يعقوب اللي مصر مئتا عام تقريبًا بحسب التوراة.وقد بلغ عدد نسل العليا من حفيده يعقوب في هذه الفترة اثني عشر فردًا.ولو افترضنا أن عیسو أيضًا كانوا مثلهم لصار مجموع أفراد نسل إبراهيم في مصر عندئذ أربعة وعشرين فردًا.وقد مكث هؤلاء في مصر حتى خروجهم منها قرنين من الزمان.وبحسب التقدير العادي، يكون عدد ذرية الاثني عشر ولدا ليعقوب قد بلغ حوالي ست مئة أو سبع مئة فرد.ولو افترضنا أنهم كانوا كثيري الزيجات والأولاد فيستحيل أيضًا أن يتجاوز عددهم في هذه الفترة خمسة عشر ألفا أو عشرين ألفا.وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن بني إسرائيل كانوا في أثناء سفرهم، يخافون من أهل قرية عادية، وكانوا غير قادرين على مواجهتهم، أصبح من المؤكد أنه لم يكن مع أكثر من ألفين ونصف الألف من المحاربين.أولاد موسی ونظرا لهذا العدد يصبح مقدار المن الذي كان ضروريا لبني إسرائيل أقل بكثير.ومع ذلك لا يزال هناك سؤال وهو: هل كان من الممكن أن يعيش بنو إسرائيل على المن وحده؟ إن المن، كما ذكرنا من قبل نوع من الصمغ، وهو مُسْهل يلين * هو أخو يعقوب الي (المترجم).

Page 536

الجزء الخامس ٥٣٠ سورة طه البطن أيضًا، ولا يستطيع المرء العيش عليه أكثر من بضعة أيام.فكيف عاش عليه بنو إسرائيل ثماني وثلاثين سنة؟ ولقد اعترف الباحثون الأوروبيون الجدد أيضًا بمعقولية هذا السؤال، فقالوا إن الوصف التوراتي للمن محرف ومبالغ فيه إن المن عندهم هو حبات (Lichen) أي الأثنة والحزاز التى يأكلها الناس في أيام القحط والمجاعة.والأشنة نوع من الفطر لا يحتاج إنباته تراب الأرض، وإنما ينبت على قشور الأشجار وسطوح الصخور وخاصة الصخور التي تسمى "جونسه" عندنا، وعندما يجنى من على الصخور يصبح مثل حبات الدخن التي قد تم دقها.عندما يجف هذا النبات تنفصل قشوره عن جذره وتأخذ شكل حبات خفيفة الوزن تذروها الرياح هنا وهناك (الموسوعة التوراتية مجلد 3 Manna).ويرى علماء النبات أن المن نوع من أنواع الفطر (الموسوعة البريطانية الجديدة مجلد ١٠: Lichen).والتسليم برأي الباحثين الأوروبيين الجدد يحل السؤال القائل: كيف عاش بنو إسرائيل على هذا الطعام.ولكن سؤالاً آخر يطرح نفسه وهو أنه ليس بين مواصفات هذا النبات وبين الوصف التوراتي للمن أي شبه.فلا هو حلو، ولا طعمه كطعم الزيت كما لا يذوب في الشمس.وعندي أنه من المحال أن نجد الرد على هذا السؤال في التوراة ولا في أسفار الكتاب المقدس الأخرى.ولن يقدر الباحثون الأوروبيون الإجابة عن هذا السؤال مهما حاولوا ذلك، لأنهم بعيدون عن تلك العين التي هي منبع العلم الحقيقي.فإذا كنا بحاجة إلى إجابة سليمة علينا الاستعانة بالقرآن الكريم والحديث الشريف.لقد ذكر القرآن والحديث الحقائق التالية عن المن: أولاً : يقول الله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله مُوتُوا ثم أحياهم (البقرة: ٢٤٤).ثانيا: يقول الله تعالى وأنزلنا عليكم المن والسلوى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ ما رزقناكم) (البقرة: ٥٨).

Page 537

الجزء الخامس ۰۳۱ سورة طه ثالثا : عن سعيد بن زيد الله قال قال رسول الله ﷺ: الكمأة من المن" (البخاري: التفسير : باب قوله تعالى وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن) وفي رواية أخرى عن أبي هريرة الله "أن ناسا من أصحاب النبي ﷺ قالوا: الكمأة جُدَريُّ الأرض.فقال النبي : الكمأة من المن" (الترمذي: أبواب الطب، باب ما جاء في الكمأة).تعلم من الآيات والأحاديث المذكورة أعلاه ما يلي: الأول: أن بني إسرائيل لم يخرجوا من مصر وهم ملايين بل كانوا ألوفًا.الثاني: أن الأشياء التي قد هيأها الله لهم كطعام كانت تمثل غذاء عالي الجودة، و لم تكن من المواد الرديئة غذاء وطعمًا.الثالث: أن الأشياء التي تيسرت لهم كطعام لم تكن من نوع واحد، بل كانت أنواعًا شتى والكمأة واحدة منها.والغريب أن المن مذكور في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: في سورة البقرة، وو وسورة الأعراف، وسورة طه؛ وفي جميع هذه الأماكن قال الله تعالى كلُوا مِن طيبات ما رزقناكم؛ مما يوضح جليًّا أن الله تعالى قال ذلك إبطالاً للظن أن ذلك الطعام كان من نوع واحد أو مما تمله الطبائع أو مما هو رديء في قيمته الغذائية.عندما نفحص الأشنة الذي مر ذكره من قبل يتضح لنا أنه أيضا نوع من الفطر، حيث ورد هناك تشابه كبير بين الأشنة والفطر بكل أنواعها، وهذا واضح تماما من المشابهة الموجودة بين أنواعهما المختلفة الواقعة على حدود طبيعية للنوعين (الموسوعة البريطانية: Lichens).ولكن الواضح أن الأشنة ليست بطعام جيد، وإنما يأكلها الناس مضطرين في أيام المجاعة.أما الفطر فهو من أجود الأطعمة، وهو غالي الثمن، ويُزرع من أجل الأثرياء خاصة وله استهلاك هائل في فرنسا حيث إن الفلاح يرسل إلى سوق باريس ما يقارب ثلاثة آلاف رطل في يوم واحد ثم إنه ينمو بسر عة حتى يضرب به المثل في الإنجليزية للشيء الذي ينمو بسرعة فيقال (Mushroom Growth)..أي

Page 538

الجزء الخامس ۵۳۲ سورة طه ينمو نمو الفطر.وكان هذا هو الطعام الأنسب للذين كانوا يعانون من الجو ينمو بسرعة ويستهلك بسرع عة أيضًا.أليس مما يسترعي انتباه أصحاب البصيرة أن النتيجة التي توصل إليها الأوروبيون بصدد ماهية المن اليوم في القرن العشرين وبصورة ناقصة، بالرغم من استعانتهم بنسخ عديدة للتوراة وبمساعدة علماء الطبيعة؛ قد بينها القرآن الكريم قبل ثلاثة عشر قرنًا بكل وضوح وجلاء وشمول؟ إن ما فهمته في ضوء آيات القرآن والأحاديث المذكورة أعلاه إنما هو أن الله تعالى قد أنبت بفضله ورحمته في دشت سيناء الكمأة والترنجبين وغيرهما من الأشياء التي كانت تنمو بسر عة وتمد بني إسرائيل بالغذاء بلا تعب.كما جاءت طيور الزرزور وغيرها بكثرة لأن تلك المنطقة يكثر فيها الجراد والزرازير تحب مثل هذه المناطق لأنها تأكل الجراد بشهية.وبما أن بني إسرائيل كانوا يجدون هذا الطعام بلا تعب فأطلق الله تعالى عليه اسم المن..أي الطعام الذي هو منة إلهية بحتة.ولم يكن هذا الغذاء من نوع واحد، بل من أنواع مختلفة.ذلك لأن كلمات الحديث الشريف تدل دلالة واضحة على أن المن كان أنواعًا عديدة بيد أنه وجدت في كل هذه الأنواع مشابهة وهي أن بني إسرائيل ما كانوا يحصلونها كادحين في أعمال الحراثة وما شابه ذلك.ولكن هذه الأغذية وطيور الزرزور التي أتت في البرية بكثرة كانت تصيب البطن بالإمساك، لذا أنبت الله تعالى لهم الترنجبين بكثرة، حيث كان تناوله مع الأغذية الأخرى يحافظ على صحتهم.فمن الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن توفر المن هناك بهذه الكثرة في تلك الأيام كان معجزة من المعجزات، ولكن المن في حد ذاته هو من الأشياء المتوفرة في هذه الدنيا، وكان غذاء يمكن تناوله لمدة طويلة.كما خلق الله تعالى معه الترنجبين حتى يزيل الآثار الجانبية للطعام البري الجاف، ويحافظ على صحتهم.هذا التفسير يرد على جميع الإشكالات والأسئلة مثل: كيف عاشوا على المن لهذه المدة الطويلة؟ وكيف كانوا يحصلون عليه طوال السنة؟ وأن طعمه كان كطعم الزيت، وأنه كان يُخبز ويؤكل كأرغفة ذلك لأن المن لم يكن اسما لشيء واحد،

Page 539

الجزء الخامس ۵۳۳ سورة طه بل هو اسم لمجموعة أشياء كثيرة.كما ليس في هذا التفسير ما يتعارض مع العقل؛ فإن الشعب الذي كان لا بد له من العيش في الصحراء من أجل المكاسب السياسية العليا كان بإمكانه أن يعيش على طير الزرزور وغيرها من الأطعمة.ثم إن عيش هذا الشعب في البرية بسهولة بالعدد الذي ذكره القرآن ليس بالأمر المستحيل.أما السلوى فله أيضًا معنيان عام وخاص فمعناه العام هو كل شيء يسلي الإنسان.أما معناه الخاص فهو طير مثل الزرزور كما أنه يعني العسل أيضًا.وقد ذكر في التوراة كالآتي: "ثم انحاز موسى إلى المحلة هو وشيوخ إسرائيل.فخرجت ريح من قبل الرب، وساقتْ سَلْوَى من البحر وألقتها على المحلة نحو مسيرة يوم من هنا ومسيرة يوم من هناك حوالي المحلة، ونحو ذراعين فوق وجه الأرض.فقام الشعب كل ذلك النهار وكل الليل وكل يوم الغد، وجمعوا السلوى" (العدد ١١: ٣٠- ٣٢).فالسلوى يشمل كل طعام يسلي القلب من الطير والشهد وغيرهما.والحق أن الله تعالى كان يريد لبني إسرائيل أن يعيشوا في البرية أحرارا ليتحلوا بأخلاق الشجاعة والجلد فهيأ لهم بفضله الأغذية التي لم يكدحوا في الحصول عليها، والتي اشتملت على اللحم والفاكهة والخضار، ذلك سدا لحاجتهم إلى الغذاء، وحفاظًا على صحتهم.ثم يقول الله تعالى كُلُوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي..أي كلوا الطيبات مما أعطيناكم ولا ترتكبوا الظلم بصدد هذا الرزق..أي لأنكم تنالون هذا الرزق في البرية، فلا يعتدي القوي، فيجمع كل الرزق ويحرم الضعيف منه ولو فعلتم ذلك فسينزل بكم غضبي.وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَمُوسَىٰ (٤) قَالَ هُمْ أَوْلَاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ () التفسير: تجد في هذه الآية خير مثال على مدى تلهف عباد الله الأطهار على الدوام للتقرب إليه تعالى.فحين حدد الله موعدًا للكلام مع موسى العليا أخذ

Page 540

الجزء الخامس ٥٣٤ سورة طه يسرع الخطى إلى المكان المحدد ووصل هناك قبل قومه فقال الله تعالى له لم جئت مستعجلاً؟ قال يا رب كنت تريد أن تشملني برضاك، فماذا أفعل إن لم أسرع؟ أما قومي فهم سائرون على خطواتي، فبقائي معهم ليس بضروري.قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ( فَرَجَعَ مُوسَى أَفَلَا で إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَنَ أَسِفًا قَالَ يَنقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن تَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى ) قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفَنَهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ : فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجّلاً جَسَدًا لَّهُ، خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ هُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ؟ التفسير : قال الله تعالى لموسى أنت مشتاق للقائنا هذا الشوق الشديد، وأما قومك فإنهم ما إن تركتهم وجئت إلينا حتى وقعوا في خدعة السامري.فرجع موسى إلى قومه في غضب وأسف شديدين، وقال لهم ألم يعدكم ربكم وعدًا عظيمًا..ألم يدعُ ربكم نبيكم ليشرفه بكلامه؟ هل كان إيمانكم ضعيفًا لدرجة أنه ضاع في هذه الفترة القصيرة؟ أم أنكم تريدون أن يحل عليكم الغضب من ربكم الله تعالى في هذه الفترة القصيرة وخالفتم ما عاهدتموني عليه من لأوامري؟ قالوا لم نخالف عهدنا برغبتنا، وإنما الواقع أن مجوهرات قوم فرعون كانت قد وضعت علينا عند الخروج من مصر، وكنا قد ألقيناها جانبًا بعد أن غادرتنا، وقد فعل السامري أيضًا مثلما فعلنا، ولكنه أخذها فيما بعد وأذابها وصاغ فنسيتم الطاعة

Page 541

الجزء الخامس ٥٣٥ سورة طه منها عجلاً لا حياة فيه ويخرج منه صوت لا معنى له.فقال للقوم إن هذا إلهكم وإله موسى في الحقيقة ولكنه نسيه من شدة شوقه للذهاب إلى الجبل.يبدو من قولهم ولكنا حُملنا أوزاراً من زينة القوم أن هذه الحلي والمجوهرات قد أعطاهم المصريون إياها بأنفسهم.ولكن التوراة تقول أن بني إسرائيل استعاروا أواني الذهب والفضة من المصريين، ثم سلبوهم إياها، وأن المصريين أيضا ما زالوا يعطونهم إياها لأنهم أرادوا خروج هؤلاء من بينهم حتى لا يهلكوا بسببهم.ورد في التوراة: "وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابًا.وأعطى الربُّ نعمةٌ للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، فسلبوا المصريين" (الخروج ١٢: ٣٥-٣٦).وكأن التوراة تتهم موسى بأن بني إسرائيل سألوا المصريين حلى الذهب والفضة والثياب وسلبوهم بأمر من موسى ولكن القرآن الكريم يفند ذلك ويقول إنهم لم يطلبوا من المصريين الحلي، بل إن المصريين أنفسهم أعطوهم إياها.والعقل يصدق هذا البيان، لأن النبي لا يكون من الصعاليك واللصوص.ولكن التوراة من العليا نبيا، ومن جهة أخرى تعده لصاً.والحق أن الشهادة الداخلية جهة تعد موسى بني للتوراة نفسها تبطل هذه التهمة تماما.ذلك لأنه بالرغم من أن التوراة تقول أن إسرائيل طلبوا من المصريين حليهم بأمر الله تعالى، ولكن قد ورد في التوراة في سفر الخروج نفسه أنه لما حل العذاب بالمصريين وارتفع الصراخ والعويل في كل مكان بهلاك أولادهم الأبكار، دعا فرعون موسى وهارون وأمرهما بالخروج مع بني إسرائيل من بين قومه، وألح" المصريون على الشعب ليُطلقوهم عاجلاً من الأرض لأنهم قالوا جميعنا أموات" (الخروج ۱۲: ۳۳)."I وهذا يؤكد أن المصريين أنفسهم كانوا يريدون حقا خروج القوم من بينهم.فالأقرب إلى القياس أنهم أنفسهم قد أعطوا بني إسرائيل الحلي لكي يخرجوا من بينهم لعبادة ربهم كما يشاءون، ولكي يزول العذاب عن المصريين.وهذا ما بينه القرآن الكريم أيضًا.بل من الممكن أن يكون السامري قد قال للمصريين إن هؤلاء

Page 542

الجزء الخامس ٥٣٦ سورة طه عندما يخرجون من بينكم سأصنع لهم عجلاً من الذهب ليعبدوه ويرجعوا إلى دينكم ثانية.إن كلمة فقَذَفناها تدل على أنهم قد رموا هذه الحلى كراهة، ولكن السامري صنع منها عجلاً له.صوت.وبما أن بني إسرائيل كانوا قد رأوا المصريين يعبدون العجل، وكان فرعون نفسه يسجد له، لذلك قال بنو إسرائيل في أنفسهم: ما نبغي أكثر من ذلك؟ لذلك اعتذروا لموسى قائلين كان عجلاً، ومصنوعا من الذهب، ثم كان له صوت أيضًا ؛ فلم نتمالك أنفسنا من عبادته.فكأنهم برروا بذلك أمام موسى عبادتهم للعجل.وإن معذرتهم هذه تماثل معذرة شيخ كان حضرة المولوي نور الدين ه يحكي لنا حادثًا له.يقول حضرته له سمعت ذات مرة أن الشيخ الفلاني قد عقد قران امرأة بشخص قد تم قرانها سلفا بشخص آخر.فأذهلني الخبر.فدعوت الشيخ وقلت له : بلغني عنك خبر ولكني لم أصدقه.سمعتُ أنك قد عقدت لامرأة قرانًا على قران، فما هذه القصة؟ فقال في حماس شديد لا تصدق كل ما يقال لك من دون تحري الأمر وفحصه.إنك لا تعرف عذري واضطراري.قلت: ولهذا دعوتك حتى أعرف ملابسات الأمر كلها.قال: أيها الأستاذ، كان صاحب القران الثاني قد وضع في يدي دينارًا بحجم العصفور، فهل بقي بعد ذلك عندي، يا تُرى، خيار إلا أن أعقد قرانه؟ فهذا هو مثل قوم موسى العلي حيث قالوا له إننا لم نخالف عهدنا معك برغبتنا، وإنما اضطررنا لذلك اضطرارًا.لقد وُضع علينا عبء حلي قوم فرعون، فرميناه بعيدا، وكذلك ألقاه السامري؛ ولكنه صاغ فيما بعد من هذه الحلي عجلاً رائعا له صوت.فلم نتمالك أنفسنا، وأخذنا نعبده.فما ذنبنا في ذلك؟ إن واقعة السامري هذه تكشف لنا حقيقة ما فعله السحرة أيضا، حيث تدل على شيوع مثل هذه الخدع والشعوذة بينهم وأنهم كانوا يصنعون اللعب الميكانيكية.

Page 543

الجزء الخامس ۵۳۷ سورة طه الواقع أن قوم موسى ال كانوا قادمين من مصر، وكان قوم فرعون يعبدون العجل بكثرة، بل كان أكبر معبد في مصر هو معبد العجل حيث كانوا يضعون فيه عجلاً لا شية فيه ولا عيب.فقد ورد أن العجل كان يحتل الصدارة بين قائمة الحيوانات التي كان المصريون يعبدونها فكلما مات عجلهم المعبود بحثوا عن بديل له.وإذا وجدوا عجلهم المنشود في قطيع من القطعان أكرموا صاحب القطيع إكراما عظيمًا ، كما كانوا يجازون من يعثر على مثل هذا العجل بمكافأة ضخمة (موسوعة الأديان مجلد ١ ص.(Animals:.v وورد في مصدر آخر أنه كان عجلاً مقدسًا وكان المصريون القدامى يعبدونه.6 كانوا يحتفلون بيوم ميلاده كعيد قومي وكان يوم موته يوم مأتم قومي، وكانوا يستمرون في إقامة المآتم لـه إلى أن يعثروا على عجل جديد فيه كل تلك المواصفات التي تدل في زعمهم على كونه مظهرًا الله تعالى.(New Standard Dictionary, v.1: Apis) فبما أن عبادة العجل كانت شائعة بين قوم فرعون فكانت الأفكار الوثنية هذه قد تسربت في بني إسرائيل أيضًا بحكم كونهم خاضعين لحكم المصريين.فاستغل السامري غياب موسى عن قومه، ودفعهم إلى الشرك، فشرعوا ينظرون إلى العجل نظرة إجلال وتعظيم كان السامري كافرًا في الحقيقة، فاستغل ضعف إيمان قومه، وقال لهم أعطوني حليكم أصنع بها وبما عندي من الذهب عجلاً لكم كعجل المصريين.فابتهجوا باقتراحه، لأنهم ورثوا تعظيم العجل من المصريين.والثابت تاريخيا أن العجل أكبر صنم في مصر، كما أنه من الثابت تاريخيا أن أهل البلاد الزراعية كانوا يعتبرون البقر إلها.ففي الهند كل الهندوس يرون أن البقر إله، ويستبيحون دماء آلاف المسلمين لو ذبح أحد منهم بقرة واحدة.بل هناك معابد كثيرة للهندوس يجعلون فيها تمثال البقر أو العجل وليس وراء ذلك إلا اعتقادهم أن البقرة ليست حيوانا، بل هي إله موسوعة الأديان: Animals).يخبرنا الله تعالى هنا أن السامري قد ركب العجل تركيبا يحدث منه صوت لا معنى له.ويبدو أنه صنعه بحيث كان الهواء يمر من خلفه ويخرج من فمه محدثًا

Page 544

الجزء الخامس ۵۳۸ سورة طه صوتًا كالصفارة.فانخدع به اليهود السذج، الذين كانوا عبيدا لقوم فرعون و متأثرين بدينهم، فظنوا أن موسى، الذي كان يقول إن الله يكلمه، كان عنده عجل كهذا في الواقع، فكان يتفاءل بصوته.صلے وَلَقَدْ قَالَ هُمْ هَرُونُ مِن قَبْلُ يَنقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِى (3) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى : قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ) التفسير : يتضح من هذه الآية أن هارون لم يشترك مع القوم في الشرك، بكل صرامة.ولكن التوراة تزعم أنه كان شريكا معهم في هذا بل قد منعهم منه الشرك.فقد جاء فيها: " ولما رأى الشعبُ أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قُم اصْنَعْ لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض لا تعلم ماذا أصابه فقال لهم هارون: انزعوا أقراط مصر أصعدتك الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلاً گا؟ فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي مسبو أرض مصر" (الخروج ٣٢: ١-٤).ثم تقول التوراة إن هارون جعل للعجل مذبحًا، واعتبره إلها لبني إسرائيل، حيث ورد: من "فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه.ونادى هارون وقال: غدًا عيد للرب.رب.فبكروا في الغد وأصعدوا مُحرقات وقدّموا ذبائح سلامة.وجلس الشعب للأكل والشرب، ثم قاموا للعب" (المرجع السابق: ٥-٦).

Page 545

الجزء الخامس ۵۳۹ سورة طه إن كل إنسان عنده مسحة من العقل ليدرك أن من يكلّمه الله تعالى يستحيل أن يتخذ العجل إنّها.فمثلاً هل يمكن لشخص يكلّم أخاه يوميًا أن يعتبر ابن آوى أحا له؟ ولكن الغريب أن التوراة، التى يقال عنها أنها نزلت على موسى، تقول أن هارون اشترك مع قومه في هذا العمل الوثني؟ إن العقل السليم كلما فكر في هذه القضية حكم بأن التوراة التي نزلت على موسى كاذبة في هذا الشأن، وأن القرآن الكريم الذي نزل بعد موسى بألفي عام هو صادق بل لو أمعنا النظر في التوراة لوجدنا أن شهادتها الداخلية أيضا تبطل التهمة الموجهة هنا إلى هارون اللي حيث ورد في التوراة أن موسی العليا لما علم بعبادة قومه للعجل رجع إليهم من الجبل وقد حمي غضبًا، وأحرق العجل بالنار وحوّله ،رمادًا، ثم ذرّاه على الماء وسقاهم ذلك الماء.ونص ما ورد في التوراة هو: أخذ العجل الذي صنعوا، وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه على وجه الماء، وسقى بني إسرائيل" (المرجع السابق: ٢٠)."ثم ود ثم أمر موسى بحسب التوراة قومه أن يقتل كل شخص قريبًا لــه، وهكذا قتل في ذلك اليوم ثلاثة آلاف شخص.ونص ما ورد في التوراة هو: "فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل : ضَعُوا كلّ واحد سيفه على فخذه، ومُرُّوا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كلّ واحد أخاه وكل واحد صاحبه، وكلّ واحد قريبه.ففعل بنو لاوي بحسب قول موسى ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل المرجع السابق: ٢٧-٢٨).ال ربه وقال: "آه، قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة، وصنعوا لأنفسهم ذهب.والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فَامْحُني من كتابك الذي كتبت.فقال الرب لموسى من أخطأ إلي أمحوه من كتابي" (المرجع ثم دعا موسى السابق: ۳۱-۳۳) آلهة وبعد قمع هذه الفتنة ذهب موسى الل إلى الجبل مرة أخرى، فأمره الله تعالى وقال: "تلبس هارون الثياب المقدسة، وتمسحه وتقدّسه ليَكْهَنَ لي.وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة، وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهَنوا لي.ويكون ذلك لتصير

Page 546

الجزء الخامس سورة طه لهم مَسْحَتُهم كهنونًا أبديًّا في أجيالهم.ففعل موسى بحسب كل ما أمره الرب (الخروج ٤٠: ١٣-١٦).كما ورد في سفر العدد الإصحاح ٣ أيضًا أن الله تعالى وَكَّلَ كهنوت بني لاوي إلى هارون وبنيه، وهكذا أخلد ذكرهم للأبد.لقد اتضح من هذه الفقرات من التوراة أن الله تعالى إذا كان قد سخط على الآخرين سخطا شديدًا وأمر بقتل المجرمين فإنه تعالى لم يسخط على هارون الله قط، بل أمر بأن يُلبس الثياب المقدسة وأنه تعالى لم يكرم هارون وحده، بل أولاده أيضًا، ووكل إليهم كهانة المعابد كلها.فهل هذا كله جزاء فعل وثني؟ وهل كان هارون الذي ارتكب الشرك كما تزعم التوراة، يستحق هذه المعاملة الإلهية على شركه؟ ما دام الله تعالى قد سبق أن قال لموسى "من أخطأ إلي أمحوه من كتابي الخروج ۳۲ : ۳۳)، فلم لم يمح الله تعالى اسم هارون الذي ارتكب خطية الشرك، من كتابه، ولم أعرب عن رضاه الكبير عن هارون بدلاً من أن يسخط عليه، ولم أمر بتوكيل كهانة كل المعابد إلى هارون وأولاده؟ إن هذا الجزاء وهذا الرضا اللذان أنعم بها الله على هارون ليدلان على أنه لم يكن ممن عبدوا العجل، دعك من أن يصنع لهم العجل.إنما الحقيقة ما ذكرها القرآن الكريم وهي أن هارون قد نهى بني إسرائيل عن الشرك، وسعى لأن يظلوا متمسكين بالتوحيد، ولكنهم لم يطيعوه.وهذه الحقيقة تبلغ من الوضوح والجلاء بحيث إن كتاب الموسوعة البريطانية أيضا قد عدوا قصة شرك هارون باطلة، وقد استدلوا بها على وجود تحريفات وإضافات كثيرة في التوراة الأصلية (الموسوعة البريطانية مجلد 4 : The Golden Calf و مجلد ١٥: Moses).هذا، وتكشف علينا دراسة التوراة أن موسى لما ذهب إلى الجبل لم يحدد العليا عدد الأيام التي يقضيها هناك، وإنما اكتفى بقوله لهم: "اجلسوا لنا ههنا حتى نرجع إليكم" (الخروج ٢٤ : (١٤).ثم دخل" موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل" "

Page 547

الجزء الخامس سورة طه (المرجع السابق (۱۸) ولكن بني إسرائيل لما أحسوا أن موسى قد أبطأ في الرجوع.من الجبل شكوا إلى هارون فصنع لهم عجلاً.ولكن القرآن الكريم يعلن خلاف ذلك ويقول إن موسى العلا ذهب إلى الجبل بعد أن وعد بني إسرائيل بأنه سيعود بعد ثلاثين ليلة ولكن الله تعالى قد من عليه وشرفه بكلامه عشر ليال إضافية.قال الله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمَّ ميقات ربه أربعين ليلة (الأعراف: ١٤٣).لقد تبين من هذا أن بيان القرآن الكريم هو الحق وليس بيان التوراة، لأن غياب موسى فوق الأيام المحددة هو الذي بث القلق في قلوب بني إسرائيل، لأنه لو لم يكن الميعاد محددًا لما قلقوا في غيابه عنهم مدة شهر واحد إذ ليس الشهر بمدة طويلة.لقد أصابهم الذعر وعدهم سيبقى على الجبل ثلاثين ليلة، ولكنه لما لم يرجع إليهم بعد ثلاثين ليلة قالوا في قلق أين غاب موسى؟ فاستغل السامري غياب موسى ال، وألقى القوم في الفتنة.لأن موسی كان قد أنه أما قول هارون هنا يا قوم إنما فتنتم به..أي قد ابتليتم بسبب هذا العجل..فالمقصود منه أنه قد حان الآن امتحانكم حقا.وهذا يعني أن ما أذاقهم فرعون من صنوف التعذيب لا يساوي هذه المحنة شيئا، لأن تلك المحن كانت من قبل العدو، والتي اتحد القوم عندها طبعًا؛ ولكن عند نشوب الفتن الداخلية يتزعزع كثير من ذوي الطبائع الضعيفة وهذا ما ينبه إليه هارون الله ،قومه، فيقول إنه مما لا شك فيه أنكم قد مررتم بكثير من الاختبارات، ولكن الوقت الحقيقي لاختباركم قد جاء الآن، وسوف ينكشف على العالم الآن من هو صادق منكم في إيمانه حقا ومن هو كاذب.لقد تبين من ذلك أنه لا لله ينبغي لنا أن نستهين بالفتن الداخلية أبدا، بل يجب التصدي لها بكل ما أوتينا من قوة، لأنها هى الفتن المدمرة.فمهما يكن القوم قلة فإن العدو لا يقدر على القضاء عليهم إذا لم تكن بينهم فتنة داخلية.ولكن إذا ما نشبت الفتنة الداخلية صار القوم عرضة للهلاك.

Page 548

الجزء الخامس ٥٤٢ سورة طه وأرى من الضروري هنا أن نكتب شيئًا موجزاً عن السامري.وعندي أن السامري ليس اسم شخص معين، بل هو اسم صفاتي، وقد صار فيما بعد علمًا.ذلك أن السامري من السمر يقال سمر الشيء أي أوثقه وشدَّه بالمسمار.فكل من الحداد والنجار والصواغ سامر.ويبدو أنه كان بين بني إسرائيل أشخاص حرفتهم الحدادة والنجارة والصياغة، فسُمّوا سامرة نظرًا إلى ،حرفهم، وكان من بين هؤلاء القوم هذا الشخص الفتان الذي أثار بين بني إسرائيل فتنة خطيرة ضد التوحيد.وعليه فإن السامرة اسم قبيلة كانت تمارس هذه الحرف.علما أنه في هذه الأيام يمارس أفراد معينون حرفة معينة من هذه الحرف وصار منهم المتخصصون في كل حرفة من الحرف.أما في الماضي فكان الاتصال بين الأمم محدودًا جدا عندئذ، وكان أصحاب هذه الحرف لا يجدون العمل بسهولة، لذا يبدو أن كل هذه الحرف قد اجتمعت في طبقة واحدة من الناس.فكأن السامرة كانت قبلية حرفية واحدة تقوم وحدها بكل من النجارة والحدادة والصياغة وما إلى ذلك، وأن الشخص الذي أثار هذه الفتنة في قوم موسى ال كان فردًا من أفرادها.بل إن الدراسة الفاحصة للتاريخ تبين لنا أن هؤلاء القوم هم الذين بدعوا في تشكيل الحركات السرية، وليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء هم الذين أثاروا الفتن ضد سليمان ال حيث قاد أحد كبارهم واسمه أحيرام وكان رئيس البنائين الذين بنوا معبد سليمان، الحركة المعادية له.وإن الماسونيين ينسبون أنفسهم إلى هؤلاء القوم أنفسهم.وقد نشبت في جماعتنا أيضًا فتنة اشتهرت بفتنة البنائين.إذا فالسامري كان فردًا من قبيلة محترفة سُميت السامرة نسبة إلى حرفتها، وأن اسم السامري اسم صفاتي في الحقيقة، وصار فيما بعد ويبدو أن هذه القبيلة ظلت تتمتع بنفوذ وقوة لفترة طويلة من الزمن، حيث يتضح من كتب التاريخ أن بني قريظة القبيلة اليهودية التي كانت تقطن في المدينة المنورة في زمن النبي الهلال لو كان أفرادها صواغين وحدادين.عَلَمَّا له.

Page 549

الجزء الخامس ٥٤٣ صلے سورة طه قَالَ يَبْنَؤُمَ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِيَ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَاءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي شرح الكلمات : لم ترقب رقبه انتظره رقب الشيء: حرسه، يقال أنا أرتبك هذه الليلة (الأقرب).التفسير : هنا ذكر هارون العذره الحقيقي لموسى العل.فقال له لقد نهيت القوم بشدة عن عبادة العجل، ولكني لم أشدد عليهم مخافة أن يتمردوا أو أن أنت بأني قد شتتت شمل القوم حيث لم أنتظر أوامرك، أو لم أرع وصيتك تتهمني بالحفاظ على الأمن والسلام.يظن البعض لجهلهم أن النبي لا يمكن أن يكون مطيعا لنبي آخر، وإنما يكون مطاعا على الدوام (محمدية باكت بك ص ١٨٢).ولكن هذا خطأ.لا شك أن النبي يكون مطاعا للذين يُبعث إليهم، ولكن لا يصح القول أنه لا يكون مطيعا لأحد.وإلا لوجب القول أنه - والعياذ بالله - لا يكون مطيعا الله تعالى أيضًا.وهذا باطل بالبداهة.خذوا مثلاً هذه الآية نفسها حيث يقول هارون اللي لقومه فاتبعوني وأطيعوا أمري.فإنه يعتبر نفسه هنا مطاعًا لقومه.ولكن لما رجع موسى من الجبل قال لهارون أفعصيت أمري ، وهذا يبين جليًّا أن هارون كان مطاعا لقومه من جهة، ولكنه كان مطيعا لموسى من جهة أخرى.ثم إنه قال لموسى إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي..وهذا يعني أن هارون الله كان ينتظر أوامر موسى في كل أمر ذي بال، وكان يتوخى الحذر كله من أن يقصر في فثبت أن ما يزعمه عامة الناس من أن النبي لا يكون مطيعا لنبي طاعة موسی.لزعم باطل تماما بحسب القرآن الكريم.آخر

Page 550

الجزء الخامس ٥٤٤ سورة طه قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَمِرِى (٤) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) شرح الكلمات : أثر الرسول: الأثرُ : الحديث (الأقرب).أما الرسول هنا فهو موسى نسفا نسفه عضه.(الأقرب).ونسف الشيء: غربله (المنجد) فالمراد من قوله تعالى لننسفنّه أننا سنقطعه ثم نغربله.التفسير : سأل موسی أغبياء، وأنا ذكي.إنهم لم يروا فيك ما رأيته..أي أنهم قد آمنوا بك ولكني لم أؤمن بك في الحقيقة، بل آمنت ببعض وكفرت ببعض لكي ينخدع القوم ويتخذوني زعيما لهم.ثم لما رأيت أن إيمانهم قد تزعزع بعد غيابك على الجبل رميت ما آمنتُ به من تعليمك عرض الحائط.لقد سولت لي نفسي من قبل أن أؤمن ببعض تعليمك فآمنت، ثم سولت لي أن أكفر به فكفرت فلما رأيت قومك مائلين إلى الشرك صنعت لهم عجلاً لكي يتخذوني سيدا عليهم.السامري: لماذا فعلت هكذا؟ قال يا موسى إن قومك فقال له موسى لقد فعلت هذا لتنال العزة والسيادة وليس جزاؤك الآن إلا أن تلقى الخزي والهوان بين القوم.فعقابك أن تنادي بين بني إسرائيل كلما مررت بهم: لا يمسسني أحد لأن موسى قد نهاكم عن الارتباط بي كلية.واعلم أن عقابك هذا سيستمر طيلة حياتك.وهذا عقابك في الدنيا، وهناك عقاب آخر أيضا ولا بد أن ينالك.

Page 551

الجزء الخامس سورة طه العلمية لا يقول البعض إن فرض حظر الكلام على القوم مع أحد غير جائز ولو من أجل الحفاظ على النظام القومي.مع أن هذا الزعم لو كان صحيحًا لصار موسى أول المجرمين حيث أمر السامري أنك إذا مررت بني إسرائيل فعليك أن تنادي بينهم أن لا يمسني أحد لأن موسى ذلك.قد نهاكم عن الحق أن عدم اختلاط المرء ببعض القوم حفاظًا على النظام القومي تعبير عن الغيرة الدينية، ولا يمكن أن "مقاطعة اجتماعية".إذا كان هذا مقاطعة يسمى معه اجتماعية فلم لا يرسل كل مسلم أولاده إلى علماء الهندوس ليعلموهم كتابهم "الفيدا"؟ أو إلى القسيسين ليدرسوهم الإنجيل؟ هناك ضجة عالية في باكستان ومصر تطالب بعدم السماح للمعلمين المسيحيين بأن يعلموا أولاد المسلمين الإنجيل في المدارس المسيحية وإلا على المسلمين أن لا يرسلوا أولادهم إلى تلك المدارس.إذا كان من غير الجائز لقوم أن يقطعوا بحريتهم ورغبتهم، صلتهم بأشخاص قد انضموا إلى صفوفهم في الظاهر ليخدعوهم، فلن تستطيع أمة الحفاظ على إيمانها.فمثلاً لو سب أحد أباك فامتنعت عن الكلام فهل يسمى هذا مقاطعة، أم أن هذا دليل على غيرتك؟ وبالمثل لو انضم شخص إلى طائفة وبدأ إغواء شبابها عن عقائدها شيئًا فشيئًا، فمنعهم آباؤهم عن الاتصال بمثل هذا الشخص المفسد، فلن يُعتبر هذا مقاطعة، بل هو الغيرة الإيمانية.ثم قال موسى ال للسامري وانظُرْ إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنُحرّقته ثم لننسفته في اليم نَسْفًا..أي بالإضافة إلى قطع العلاقات معك ستنال في الدنيا عقابا آخر أيضًا، وهو أننا سنحرق إلهك الذي كنت تعبده، ثم نذري رماده في النهر لكي تعلم أن الله تعالى واحد ولا إله إلا هو.قد يقول هنا أحد كان الصنم من الذهب فلا معنى لتحويله إلى الرماد، ثم نسفه في اليم، لأن النار لا تحوّل الذهب رمادًا ولو قيل أنهم قد خلطوا بالذهب المغلي أشياء أخرى كثيرة ليحولوه رمادًا، مثلما يفعل الأطباء فيخلطون قليلاً من الذهب ببعض الأدوية؛ فالمشكلة أن ذلك الذهب لم يكن قليلاً، لأنه ذهب الأثرياء في عاصمة فرعون، فلم يكن حرقه وخلطه بأشياء أخرى لجعله رمادًا بأمر سهل؟

Page 552

الجزء الخامس سورة طه اعلم أن المسيحيين هم الذين أثاروا هذا الاعتراض وقالوا إن القرآن مليء بمثل هذه القصص الباطلة ينابيع الإسلام الفصل الثالث ص ٤ وذلك بالرغم أن هؤلاء المسيحيين أمة تنوب عن اليهود الذين قد نقل القرآن هذه القصة عن كتبهم بصورة تجعلها معقولة.الواقع أن الصناع يركبون الخشب في مثل هذه الأشياء لإحداث الصوت منها، إذ من السهل صنع أوتار خشبية مشابهة لأوتار حنجرة الإنسان.ومثال ذلك الناي.فالقرآن الكريم إنما أشار بهذه الكلمات إلى الطريقة التي أخرج بها السامري الصوت من هذا العجل.لقد ركب في العجل الخشب، ثم جعل منها أوتار خشبية إذا مر بها الهواء أحدث صوتًا.فلما أُحرق العجل الذهبي ذاب الذهب، وتحول الخشب رمادا، ثم قذف هذا الرماد مع الذهب في البحر.ولكن بما أن القرآن الكريم قد استخدم لفظ لننسفته، ومن معاني النسف العض والقطع أيضًا، والمعادن تُقطع بالمبرد؛ ثم من معاني النسف أيضًا الغربلة؛ وعليه فستعني هذه الآية أيضًا أننا سنقطع هذا العجل المحرق بالمبرد ونجعله ذرات، ثم نغربل ذراته ورماد الخشب بالغربال، ثم نلقي الرماد والبرادة الذهبية الدقيقة في البحر، أما الذرات الذهبية الكبيرة التى لم تعد على شكل صنم الآن والتي لا تتسبب في انتشار الشرك، فنستخدمها لمنفعة القوم، لأن هدفنا هو إثبات وحدانية الله الواحد الأحد ۹۹ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٤) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ وَاتَيْنَكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ) ) التفسير : لقد أعلن القرآن الكريم هنا أن التفصيل الذي ذكرناه لهذه الواقعة هو الحق، وأن التفصيل الذي ورد في الإسرائيليات هو الباطل، فإن الله تعالى هو الذي قد أنزل القرآن، وهو العليم بكل شيء.

Page 553

الجزء الخامس ٥٤٧ سورة طه لقد ذكر المفسرون هذا الحدث بناء على الإسرائيليات وقالوا أن الرسول المذكور في قوله تعالى فقبضتُ قبضة من أثر الرسول هو جبرائيل وليس موسى، وأن لفظ الأثر هنا إنما هو بمعنى أثر الأقدام الدر المنثور، وليس الأثر هنا بمعنى الحديث كما ورد في القواميس؛ فقال السامري لموسى كنتُ أرى جبرائيل حين يأتيك، ولكن قومك لم يروه، وذات يوم أخذت التراب من تحت قدمي جبريل، وحينما صنعت العجل أذبتُ الذهب وخلطته بهذا التراب؛ فبدأ العجل يتكلم.إن هذه القصة خاطئة وباطلة بالبداهة لعدة أسباب وهي: أولاً، لو هذا أولاً، لو صح الزعم فما كانت هناك حاجة لأن يقول الله تعالى لرسوله الكريم ﷺ هكذا نقص عليك من أخبار الماضي، ونفصّل لك الحقيقة من عندنا؟ ما دامت الحقائق كلها مذكورة في الكتب السابقة، كما يريد أن يؤكد المفسرون بتصرفهم هذا، فما الداعي لمثل هذا الإعلان الرباني.وثانيا، إن المفسرين السذج عندنا هم الذين يمكنهم أن يصدقوا أن كبار المؤمنين بموسى لم يتمكنوا من رؤية جبريل، في حين أن السامري الكافر قدر على رؤيته.وثالثا، إنه من السذاجة بمكان القول أن العجل بدأ يتكلم حين خُلط الذهب بتراب قدمي جبرائيل! الحق أن الصواغين البسطاء أيضًا يدركون أنه لو كان التمثال فارغا من الداخل، وكان به ثقبان، ثقب في فمه وثقب في خلفه، وتكون في الثقب الأمامي ستائر خشبية كما تكون في الناي، فإذا دخل الهواء من خلفه صوت من ثقبه الأمامي، كما هو الحال في الناي والصفارة.فالحق أن الأمر الواقع هو ما ذكرناه، وهو مطابق للكلمات القرآنية.أما المفسرون فقد أخطأوا، حيث صدّقوا الإسرائيليات أولاً ، و لم يتدبروا في اللغة ثانيًا.ولو أنهم تدبروا اللغة لأدركوا أن الأثر يعني الحديث أيضًا، وأن الرسول هنا هو نفس الرسول الذي سبق ذكره، وليس جبريل

Page 554

الجزء الخامس ٥٤٨ سورة طه صلے مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ تَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (3) خَلِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَبِذٍ زُرْقًا : يَتَخَفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (3) ١٠٤ التفسير : يوم القيامة نوعان بحسب القرآن الكريم والحديث الشريف، أولهما يوم موت الإنسان لقول الرسول : من مات فقد قامت قيامته" (مجمع بحار الأنوار مجلد ۳ ص ۱۸۳؛ وثانيهما يوم الحشر حيث يُبعث الأولون والآخرون جميعا ويُحيون ثانية.والمراد من يوم القيامة في قوله تعالى فإنه يحمل يوم القيامة وزراً هو يوم موت الإنسان، وأما يوم القيامة في قوله تعالى روساء لهم يوم القيامة حملاً فهو بمعنى يوم إحياء الأمم كلها حين يعرف الجميع بمصير المشركين، وستتبرأ الأمم كلها من الشرك.وهذا نبأ يتعلق بالعصر الراهن حيث أخذت كل أمة وثنية تدعى أنها في الحقيقة تؤمن بالتوحيد.فالهندوس والنصارى كلهم بدأوا اليوم يقولون إننا لا نؤمن إلا بالله الأحد، وأن الناس قد أساءوا فهم الكثير عنا.والله تعالى يخبر هنا أن هذه النبوءة ستتحقق حين تحدث صحوة بين الأمم كلها، ولا سيما حين يهب المشركون بعيون زرقاء..أي عندما يكون الشرك منتشرًا خاصة في الشعوب ذوي العيون الزرقاء أي الشعوب الأوروبية والأمريكية.ورغم أن هؤلاء سيظنون أول الأمر بسبب زهوهم بقوتهم أنهم سيحكمون العالم دائمًا، إلا أنهم سيتهامسون فيما بينهم يومئذ أن عمرهم لم يكن إلا عشراً أي عشرة قرون..أي يقولون فيما بينهم إن فترة رقيكم لم تكن إلا ألف سنة، فكيف أصابكم الزهو والغرور مع ذلك، ونسيتم توحيد البارئ ؟

Page 555

الجزء الخامس ٥٤٩ سورة طه نحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَريقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (3) التفسير : أي أننا أعلم بما يتهامسون يومَ يقول أكبر زعيم لهم إننا لم نحكم الدنيا إلا فترة وجيزة في الحقيقة.اعلم أن زعيمهم يستخدم هنا لفظ يومًا)، ولكن لفظ اليوم يعني في العربية الوقت مطلقًا أيضًا الأقرب)، كما صرح القرآن الكريم أيضا بذلك فقال وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (الحج: (٤٨)، ثم سبق قولهم إن لبثتم إلا عشرا، وقد يراد من عشرا) عشرة قرون أيضًا وهي تساوي ألف سنة، لذلك كله يمكن أن يكون لقوله تعالى إلا يوما مفهومان أولهما أنكم لم تلبثوا إلا "اليوم الرباني" أي ألف سنة، وثانيهما أنكم حين نلتم العقاب بدت لكم فترة الرخاء قصيرة جدا، فصح أن يقال إن فترة رقيكم لم تكن إلا قليلاً حيث هلكتم في آخر الأمر.وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (3) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْنًا يَوْمَينرٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (3) صلے يَوْمَبِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (3) شرح الكلمات : 11.ينسف: نسفه: اقتلعه.ونسف الريح الشيء: اقتلعته وأزالته (الأقرب).الجبال: الجبل : كلُّ وتد للأرض عظم وطال؛ سيّد القوم وعالمهم (الأقرب).أَمْيًا: الأمتُ : المكان المرتفع (الأقرب).هَمْسًا: الهمس: الصوت الخفي (الأقرب).

Page 556

الجزء الخامس ٥٥٠ سورة طه التفسير : لقد نبّه الله تعالى هنا إلى أن أصحاب العيون الزرقاء، أي الأوروبيين، حين يقرءون نبأ القرآن عن تدمير هذه الحكومات المسيحية، يقولون إذا كان هذا صحيحًا فماذا عن ملوكنا وأباطرنا ودوقاتنا؟ فرد الله على سؤالهم وأخبر أنه القضاء على هؤلاء الملوك والأباطرة والدوقات قبل حلول هذا الدمار، فتسود سيتم الديموقراطية جميع البلاد؛ مما سيمهد شيئًا فشيئًا لاستماع الناس لصوت حامل القرآن الكريم الذي لا عوج في تعليمه ، وسيعلو صوت الرحمن، وينخفض صوت الشرك حتى يأتي وقت يكون فيه إسلام المرء شفاعة وسببا لرقيه عوضا عن المسيحية التي كانت سببًا لرقي الناس من قبل.لقد قلت إن إسلام المرء سيكون شفاعة لرقيه لأن الله تعالى يقول هنا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من إذن له الرحمن ورضي لـه قولاً، بينما يقول تعالى عن الله المسلمين رضي عنهم ورضوا عنه (المجادلة: (۲۳)؛ فثبت أن قول تعالى ورضي له قولاً يشير إلى المسلمين، حيث بين الله تعالى أن إسلام المرء سيُعد أكبر ما عنده من المؤهلات للرقي والصعود.يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا تُحِيطُونَ بِهِ علمات التفسير : لقد تحدى الله تعالى هنا أن هذه النبوءة ستتحقق حتمًا لأنها من العليم.وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا شرح الكلمات : الوجوه الوجه سيّد القوم (الأقرب).۱۱۳ القيوم: هو القائم الحافظ لكل شيء، والمعطي لـــه ما به قوامه (المفردات).الله

Page 557

الجزء الخامس 001 سورة طه التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا أنه سيأتي في آخر المطاف زمان يخضع فيه كبار الناس والقوى والحكومات جميعًا لدين الله الحق، ويدخلون في ملة الإسلام.وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا تَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْما ) شرح الكلمات هضما : هضم الشيء: كسَره.وهضم فلانًا: ظلمه وغصبه (الأقرب).التفسير : أي قبل حلول ذلك العصر سيأتي على الناس زمان يخاف فيه المسلمون ظلم الناس وضيمهم، ثم يأتي بعده أيام يدخل فيها المسيحيون أنفسهم في الإسلام، فيُحفظ المسلمون من الضيم وهضم الحقوق.وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ هُمْ ذِكْرًا ) 11€ التفسير : أي أن الله تعالى قد دبر لإسلام المسيحيين أنه تعالى قد أنزل القرآن الكريم بحيث إن كل من لم يُعمه التعصب يمكن أن يفهمه.فحينما تنفتح عيون المسيحيين سيصدقون القرآن الكريم؛ أما المعاندون منهم فإن لم يصدقوه بالمنطق والبرهان، فسيؤمنون به خوفا من العذاب، أو سيهلكون بصنوف العذاب.فلكي يرغب القرآن المسيحيين في ذكر الله تعالى سيعرض عليهم المعارف المبتكرة، التي تساعدهم على الهدى، وتشحن قلوبهم طيبة وخيرًا.لقد استعمل الله تعالى هنا لفظ قرآنًا للإشارة إلى أن هذا الكتاب سيُقرأ بكثرة، بينما أشار استعمال لفظ عربيا ) إلى أنه سهل الفهم، لأن كل ما فيه مدعوم بالأدلة والبراهين.

Page 558

الجزء الخامس ٥٥٢ سورة طه فَتَعَلَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى صلے إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ يَجِدْ لَهُ عَزْمًا (1) التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أنه يريد من الإنسان أن يُعمل عقله في أمور كثيرة، ولكن الذي هو غير مدرك لهذه الحقيقة يريد أن ينزل وحي الله فورا ويبين كل التفاصيل حتى لا يضطر لإعمال فكره.يقول الله تعالى: هذا غير سليم.إن الوحي عندما يكتمل سيكون متضمنًا لكل الأمور الضرورية الحيوية، أما الأمور التي يريد الله تعالى من الإنسان أن يحكم فيها بنفسه، بعقله واجتهاده، فلا يبينها الله تعالى في وحيه وإنما يريد الله تعالى من الإنسان أن يستعين به بصددها بالدعاء الإجمالي دائمًا، فيقول يا رب أنزل على قلبي نورك في كل أمر شخصي أو قومي أنا محتاج لهدايتك بصدده حتى لا أضل ولا ،قومى وزدني علمًا على الدوام.هناك فكرة سائدة بين الناس على العموم أن الطفولة هى سن التعلم، والشباب هو سنّ العمل، وأما الشيخوخة فهي سن العقل؛ ولكن القرآن الكريم يقول إن المؤمن الحقيقي يجمع في شخصه هذه الأمور كلها، فشيخوخته لا تعيقه عن العمل وتحصيل العلم، كما أن شبابه لا يعطل عقله؛ بل إنه كما يكون في صغره للتعلم بمجرد أن يصبح قادرًا على التكلم، فإذا سمع شيئًا نقده وفحصه وسأل عنه، كذلك فإنه في شيخوخته أيضًا لا يبرح عاكفا على اكتساب العلم، ولا يراه في غنى عن تحصيل المعرفة.وإن أكبر مثال على ذلك هو شخص الرسول الكريم فقد أمره الله تعالى وقل رب زدني علمًا..وهو في الخامسة أو السادسة والخمسين من عمره.ومعناه يا محمد (ﷺ) إننا نعاملك معاملة الأم لولدها، فنوصيك في هذه السن الكبيرة التي يصبح الناس فيها عاطلين، غير راغبين في المزيد من المعرفة والعلم أن تداوم على الدعاء: رب أريد المزيد من العلم.تواقا

Page 559

الجزء الخامس ٥٥٣ سورة طه فالمؤمن لا يغفل أبدا عن تحصيل العلم في أي مرحلة من حياته، بل إنه يجد في تحصيله لذة ومتعة.أما غير المؤمن فإنه حين يدخل تلك المرحلة التي يظن فيها أنه قد نال من العلم ما كان مقدرًا له فلا داعي للمزيد من الجهد، لأنه لو سأل عن شيء طلبا للعلم سيقول الناس إن هذا يجهل هذا الأمر أيضًا، فإنه يصبح محروما من المزيد من العلم والمعرفة انظر إلى إبراهيم ل كيف قال الله تعالى رغم تقدم سنه رب أرني كيف تحي الموتى (البقرة: (٢٦١)، في حين أن الناس لا يتفكرون في موضوع إحياء الموتى أبدًا.فلا الحياة الإنسانية أعجوبة في نظرهم، ولا الحياة الحيوانية غريبة عندهم.إن الحياة الإنسانية مستمرة منذ آلاف السنين، ولكنهم لم يتدبروا قط كيف بدأت الحياة.لقد كان دارون هو الشخص الوحيد في هذا العصر الذي نشأ في قلبه السؤال عن ظهور الحياة في أول ،أمرها وكيف تطورت الحياة الإنسانية بمراحلها المختلفة.وبغض النظر عما إذا كان بحثه بهذا الصدد صحيحا أو غلطا، إلا أنه بلا شك أول شخص في العصر الحاضر انتابته هذه الفكرة، ثم أعقب بعد ذلك توجه عام في العالم كله لمعرفة بداية الكون؟ وإن إبراهيم العل هو الآخر سأل الله تعالى ربِّ أرني كيف تحي الموتى...وهذا يعني أن الفكرة التي راودت العلماء العلمانيين في زمن دارون قد نشأت قبل آلاف السنين في قلب إبراهيم العلا أيضًا.فقال: رب كيف تكتسب هذه المادة الميتة الحياة؟ كان دارون يبحث عن سر الحياة المادية، أما إبراهيم ال فما كان مهتما بالحياة المادية، وإنما كان يبحث عن الحياة الروحانية، فسأل الله تعالى أن يخبره كيف يحيي الأرواح.وعند سؤاله هذا لم يقل الله تعالى: ما بك يا إبراهيم تسألني هذه الأسئلة الصبيانية وقد بلغت الخمسين أو الستين من العمر، بل أخبره الله تعالى عن كيفية حياة الأرواح.إذا فيجب على المرء أن يرغب في طلب العلم في أي سن، وأن يدعو الله تعالى "ربِّ زِدْني علمًا" في كل حين.ذلك لأنه من المحال للإنسان إحراز الرقي ما لم يكن قلبه متعطشا إلى المزيد من العلم والمعرفة على الدوام.ثم يضرب الله لنا مثال آدم ويقول إنكم من نسله.إنه لم يكن أصغر منكم بل كان أكبر منكم كان أباكم ومأمورًا من الله تعالى، وكان متحمسا لطاعته.ولما

Page 560

الجزء الخامس سورة طه أنزلنا عليه الأحكام بحسب مقتضى عصره فإنه رغم رغبته القلبية في طاعتنا نسي بعضا منها..أي حصل منه سهو بشأنها.فلم تطلبون منا أوامر يقينية في كل قضية، وأنتم أبناؤه وأدنى منه شأنا؟ عليكم أن تسعوا للعمل بما أنزلنا من الأحكام، وأما ما لم نترل بشأنه حكمًا معينًا فعليكم بالتدبر والاجتهاد مستعينين بالله تعالى دائما بأن يزيدكم علما حقا نافعا ينفعكم لكي نستضيء به ونظل سائرين على الصراط لگے المستقيم.إن قوله تعالى ولم نجد له عزمًا يدل على أن آدم الله إنما وقع في خطأ اجتهادي من غير قصد.فإن الله تعالى يخبرنا في سورة الأعراف أن الشيطان قد جاء آدم متنكرا في عباءة ناصح أمين وقاسَمَهما إني لكما لمن الناصحين (الآية: (٢٢).وكأن الشيطان ترك العداء الظاهري لآدم وانضم إلى جماعته، وحلف لهم مؤكدًا لهم صدقه وإخلاصه.شأنه شأن المنافقين الذين يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم أنهم يأتون محمدا ( ويحلفون له قائلين: إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في أحلافهم؛ فاحْذَرهم دائمًا(المنافقون: ٢).وهذا ما فعل رأس المنافقين في زمن آدم فجاءه مؤكدًا له إخلاصه وولاءه؛ ففكر أن هذا الشخص كان ذا نزعة إبليسية من قبل، ولكنه قد ترك الآن العداء، فلا حرج في الاتصال به.فكانت نتيجة خطئه الاجتهادي هذا أنه اضطر للخروج من حالة الأمن والسلام التي كان فيها.فقوله تعالى و لم نجد لـه عزما إشارة إلى هذا الخطأ الاجتهادي..أي أن الشيطان أزل آدم على خلاف إرادته.آدم ۱۱۷ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَتَبِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ) التفسير : يقول البعض هنا إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم، فإذا كان إبليس لم يسجد فما ذنبه في ذلك؟ إن هذه المسألة يحلها حديث الرسول الله ﷺ قال النبي ﷺ: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه، فيُحبّه جبريلُ، فينادي جبريل في أهل

Page 561

الجزء الخامس سورة طه السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبّه أهلُ السماء.ثم يوضع له القبول في الأرض" (البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة).وحدهم، فقد تبين من هذا الحديث أن الله تعالى يأمر ملائكته بحب أحبته، ثم إنه ينفذ أمره هذا في العالم.وثبت بذلك أن أمر الله هذا لا يكون خاصا بالملائكة بل يشمل أهل الأرض أيضًا.وإلى هذا الأمر الإلهي نفسه تشير هذه الآية، حيث يخبرنا الله تعالى أن الجميع أطاعوا أمري وأخذوا في تأييد آدم إلا إبليس.وإن هذا الشرح يوضح لنا أيضًا قول الله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتُك (الأعراف: ۱۳)..أي ما دُمتُ قد أمرتك بطاعة آدم فما الذي منعك من تنفيذ أمري.فالأمر هنا يعني اللمة الملائكية، وليس المراد أن الله تعالى كان قد أصدر إلى إبليس أمرًا على حدة.فَقُلْنَا يَكَادَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَواْ فِيهَا وَلَا تَضْحَى : فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَنُ قَالَ يَتَكَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى ۱۲۰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكِ لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا تَحْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثُمَّ اجْتَبَهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) ۱۳۲ التفسير : لقد بين الله تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لما أسكن آدم في الجنة قام الشيطان في وجه آدم خصمًا؛ فقال الله تعالى لآدم إنه عدوك وعدو زوجتك، أو عدو أصحابك، فحذار أن يخرجكما من الجنة فتقعا في المشقة.لقد قررنا ألا يصيبك في هذه الجنة جوع ولا عري ولا عطش ولا حر، ولكنك إذا أطعت خصمك هذا فسيطردك من الجنة.ولكن هذا لا يعني أنه كان حينذاك في تلك الجنة

Page 562

الجزء الخامس سورة طه التي وعدها المؤمنون بعد الموت، فإن الآية التالية توضح الأمر بكل جلاء، حيث إن الشيطان أيضًا يعد آدم بالجنة؛ فلو كان آدم إذاك في الجنة فكيف اغتر بوعد الشيطان هذا؟ فثبت بذلك أن الخدعة التي وقع فيها آدم بقول الشيطان إنما هي أنه ظن أن هذا يريد مساعدته في مهمته.فثبت أن الجنة هنا ليست الجنة الأخروية، بل الجنة التي قد قدرت للمؤمنين في هذه الدنيا.هي وأما ما ورد في أماكن أخرى من القرآن الكريم أن الله تعالى أسكنه في الجنة فإنما المراد منه أيضًا الجنة الدنيوية، التي تمهد للجنة الأخروية، والتي بدونها لا تنال الجنة الأخروية أيضًا.المهم أن الله تعالى لما قال لآدم إن الشيطان عدو لك جاء آدم متنكرا وقال لــــه هل أدلك على شجرة إذا أكلت من ثمرها نلت الحياة الأبدية، وهل أخبرك بملك لا يباد أبدًا ؟ فاغتر آدم بكلامه المعسول، فأكل هو وجماعته أو هو وزوجته، من ثمر تلك الشجرة التي قد نهاه الله عن الاقتراب منها..بمعنى أنهم أتوا العمل الذي قد نهوا عنه.وبما أن ما ارتكبه آدم كان خلافًا لمشيئة الله تعالى فأخذت عواقبه السيئة تظهر على الفور، فأدرك آدم أنه قد ارتكب خطأ فادحا بمخالفته أمر الله تعالى.حيث يقول الله تعالى فبدت لهما سواتُهما..أي بأكلهما من تلك الشجرة انكشفت عليهما عيوبهما، وظهرت عليهما النتائج السيئة لفعلتهما، وعلما أنهما قد وقعا في أمر معيب فلما أحس آدم بخطئه طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة..أي أخذا يغطيان نفسهما بأوراق الجنة.ثم يقول الله تعالى إن آدم خالف أمر الله تعالى فوقع في الشقاء.ثم أكرمه الله تعالى حيث إن آدم لما أخذ بتغطية نفسه بورق الجنة هداه الله تعالى إلى طريق يؤدي به وبجماعته إلى الفلاح.ومن معاني الورق في العربية الزينة، والنسل أيضًا حيث ورد في القواميس: الورقُ جمالُ الدنيا وبهجتها.ويقال أنت طيب الورق أي طيب النسل (الأقرب).وعليه فقوله تعالى فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يعني أولاً، أن آدم

Page 563

الجزء الخامس ٥٥٧ سورة طه وزوجته أخذا يستران نفسهما بزينة الجنة وجمالها.والبديهي أن زينة الجنة وجمالها سكانها المؤمنون.الطاهرون.وثانيًا: أن آدم أخذ يزيل تأثير خدعة الشيطان من خلال ذريته الطيبة، حتى نجح في ذلك.لقد ورد هذا الحدث في التوراة كالآتي: "وكانت الحيةُ أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله.فقالت للمرأة: أحقا قال الله : لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه، ولا تمساه لئلا تموتا.فقالت الحية للمرأة لن تموتا بل الله عالم أنه يوم تأكلان تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهيّة للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل فانفتحت أعينهما، وعلما أنهما عريانان.فخاطا أوراق تين، وصنَعا لأنفسهما مآزر" (التكوين ۳: ۱-۷).لقد استعملت التوراة هنا ورق التين بدلاً من ورق الجنة.فلنر الآن هل ورق التين وورق الجنة شيئان أم شيء واحد؟ ونرجع بهذا الصدد إلى علم تعبير الرؤيا حيث ورد التين" في المنام يفسر بالصلحاء وأخيار الناس" (تعطير الأنام في تعبير المنام).وهذا هو معنى ورق الجنة ،أيضًا، فإن الورق هو النسل الطيب، والمراد من ورق الجنة الذرية الطيبة التي تصلح للجنة.فثبت أنه ليس ثمة اختلاف بين القرآن والتوراة بهذا الشأن، فإنهما متفقان على أن الشيطان لما خدع آدم شعر آدم بخطئه، فضم إليه جماعة المؤمنين وأفشل مكائد الشيطان.كان بنية الشيطان أن يهزم آدم بمكيدته، ولكن كيده أدى إلى صحوة جديدة في آدم بدلاً أن يضره أو يفسده، فأخذ من معه جماعة المؤمنين الطيبين وقضى على الفتنة التي أثارها الشيطان.حيث يقول الله تعالى ثم..اجتباه ربه فتاب عليه وهدى..أي أنه تعالى اختاره ونظر إليه نظرة رحمة، وهداه إلى التدبير السليم فخيّب به آدم خطط الشيطان كلها.هذا، وقد أساء الناس فهم قول الله تعالى إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تَغْرَى وأنك لا تَظمَأ فيها ولا تَضحَى، فظنوا أنه تعالى أسكن آدم في مكان لم يمسه فيه *

Page 564

الجزء الخامس 001 سورة طه جوع ولا عطش وما إلى ذلك (البغوي).ولكن هذا ،غلط، لأن آدم إذا كان لا يشعر بالجوع فلم قال الله تعالى له وكلا منها رغدًا حيث شئتما) (البقرة: ٣٦).فيصبح هذا القول الرباني عندئذ غير معقول تماماً.فقوله تعالى (كلا يدل بوضوح أنهم كانوا يجوعون ويعطشون أيضا.ولكن ماذا ستعني هذه الآية إذا؟ فاعلم أن مرحلة التطور الإنساني التي بدأت على يد آدم إنما كانت منحصرة في الرقي المدني فحسب، حيث أقام الله تعالى بواسطة آدم حكومة مدنية في العالم المعروف في تلك الحقبة الزمنية، وبيّن أن أهداف هذا النظام تتلخص كالآتي: أولاً: التعاون على تزويد الجميع بالطعام، ثانيا : التعاون على إمداد الجميع بالماء، وثالثا: التعاون على إمداد الجميع باللباس، ورابعا : التعاون على إمداد الجميع بالسكن.وكأنهم سيتمتعون في ظل نظام هذه الحكومة التعاونية بأربعة مكاسب الطعام والماء واللباس والسكن.فقول الله تعالى إن لك ألا تجوع فيها ولا تَعرَى * وأنك لا تَظمَأ فيها ولا تضحى يبين صورة النظام الحكومي في مرحلة التطور المدني تلك، حيث قال الله تعالى لآدم إنه لو اعترض عليك الناس فقل لهم إن أول منافع هذه الحكومة المدنية أنكم لا تبقوا جائعين، بل إن الحكومة تكون مسؤولة عن طعام أهلها.والمنفعة الثانية في هذا النظام هى أنكم لن تعيشوا عراة، بل إن الحكومة ستكون مسؤولة عن لباسكم أيضًا.والمنفعة الثالثة أنكم لن تظلوا عطاشى، بل ستكون الحكومة مسؤولة عن إمدادكم بالماء والمنفعة الرابعة أنكم لن تكونوا بدون مأوى ولا بيت، بل إن الحكومة ستهيئ لكم السكن أيضًا.قصارى القول إن هذه الآية تبين تفاصيل ذلك النظام الجديد الذي أقيم على يد آدم ال، حيث بين الله تعالى المرافق التي تتيسر للذين سيعيشون تحت ذلك النظام الجديد.

Page 565

الجزء الخامس صلے ۰۰۹ سورة طه قَالَ أَهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى شرح الكلمات ١٣٤ اهبطا : هبَط الوادي: إذا نزَل به.وهبط من موضع إلى موضع آخر: انتقل كليات أبي البقاء).فقوله تعالى اهبطا )) يعني اذهبا من هنا.التفسير: اعلم أن قوله تعالى اهبطا لا يعني آدم وحواء، لأن قبول هذا المعنى يعني أن آدم وحواء صارا ،عدوين وهذا باطل بالبداهة وإنما المراد من صيغة المثنى هذا فريقان: فريق آدم وفريق الشيطان.فقال الله تعالى للفريقين، اذهبا الآن من هنا، وسوف تبقى بينكم العداوة إلى الأبد.والدليل على ذلك هو لفظ جميعا الذي لا يُستخدم لاثنين.فزيد لفظ جميعا هنا للإشارة إلى أن آدم كان لـه أتباع، وأن الشيطان كان له أيضًا أتباع، فقال الله تعالى للفريقين جميعا اذهبا من هنا الآن.ثم إن ضمير المخاطب للجمع في قوله تعالى بعضكم لبعض عدو أيضا دليل آخر على ما أقول لأنه يُستعمل للثلاثة فصاعدًا.وهذا يدل على أن الذين أمروا بمغادرة ذلك المكان كانوا جماعة وليس فردين اثنين.وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ أَعْمَى ( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (= قَالَ ۱۲۵ صلے كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ( وَكَذَلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنُ بِتَايَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى شرح الكلمات: ضنكًا: الضنك: الضيقُ من كل شيء (الأقرب).۱۳۸

Page 566

سورة طه الجزء الخامس التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن للمنكرين عذابين: عذاب في الدنيا، وهو العيش المؤلم، وعذاب في الآخرة وهو أنهم يُحشرون يوم القيامة عميانا حتى يصرخ " كل واحد منهم ويقول يا رب كنت في الدنيا ذا بصيرة وفهم، فلم حشرتني الآن أعمى.فيرد الله عليه ويقول لقد كنتَ في الدنيا تعامل آياتي معاملة العميان، وكنت تتناساها، فكذلك اليوم قد صرت نسيًا منسيا.وكل من لم يؤمن بآيات ربه وتجاوز الحدود فنجزيه هذا الجزاء.أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى من الحشر أعمى.ثمة إشكال في مفهوم هذه الآية يجب إزالته.وذلك أن هذا الكافر يقول هنا حشَرتَني أعمى وقد كنتُ بصيرًا، والله تعالى أيضًا يقول ونحشره يوم القيامة أعمى، وهذا يعني أن الكافر والله تعالى كلاهما يتحدثان عن عذاب الآخرة، لا عن عذاب الدنيا؛ ولكن الله تعالى يقول بعد ذلك ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى)، فالكلام لا يبدو منسجما حيث يقول المرء في حيرة ما دام العذاب الأول هو عذاب الآخرة فلم قال الله تعالى بعد ذلك ثانية ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى؟ وما هذا العذاب الأخروي الذي هو أشد وأبقى من العذاب الأول؟ والجواب أنه يتضح من القرآن والحديث أن "يوم الآخرة" فترة طويلة من الزمان يمر بها الكفار بأحوال شتى.قال الله تعالى في القرآن الكريم ولقد جثتمونا فُرادى كما خلقناكم أوّل مرة وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطَّعَ بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون (الأنعام: ٩٥).لقد تبين من هذه الآية أنه سيأتي في يوم الآخرة وقت تنقطع فيه كل صلة بين الكفار وآلهتهم تماما، وأنهم سينسون دعوى الشرك كلية..بمعنى أنهم في الدنيا كانوا يصرون على ادعائهم بأن الأصنام التي يعبدونها هي شركاء مع الله تعالى حقا، وأنهم صادقون في دعواهم هذا، أي أنهم مقتنعون تماما من صدق دينهم؛ ولكن سيأتي عليهم يوم القيامة وقت ينسون فيه كل دعاويهم، وتغيب عن أذهانهم الأصنام التي كانوا يعبدونها وينكرون ألوهيتها وعندها سيقارنون بين حياتهم

Page 567

الجزء الخامس سورة طه الدنيوية وحياتهم الأخروية ويقولون ربنا ما الذي حصل؟ كنا مقتنعين تماما بأن أصنامنا آلهة، ولذلك كنا نؤمن بها، أما الآن فقد غابت عنا كل البراهين على كونها آلهة، ولا نرى منها شيئا، وكأننا قد أصبحنا عميانًا تمامًا بالمقارنة لما كنا عليه في الدنيا.وهذه الحالة هي الأخرى تكون نوعًا من العذاب، لأنهم سيدركون عندها أن ما كانوا يصدقونه في الدنيا كان باطلا على الإطلاق، وهذا الإدراك في حد ذاته عذاب.وهذا بالضبط ما تشير إليه هذه الآية، حيث أخبر الله تعالى أن أول عذاب يلقاه الكافرون هو إيقالهم أن الأشياء التي كانوا يشركونها بالله تعالى ليست بآلهة، وكذلك إدراكهم أن بصيرتهم الروحانية قد صارت مطموسة حيث لا يرون شركاءهم آلهة في الواقع.يقول الله تعالى إن عذاب الضمير هذا لعذاب شديد في حد ذاته، ولا سيما حين يدركون بطلان ما كانوا يعتقدون به في الدنيا، فيقولون في حيرة كيف صدقنا هذا الأمر الباطل؟ ثم بعد ذلك يقول الله تعالى إن هذا العذاب ليس بشيء، إنما العذاب الحقيقي ما يليه وهو عذاب جهنم.لا شك أن عذاب الضمير هذا سيبعثهم على القلق والشعور بأنهم قد أصيبوا بالعمى الآن وقد كانوا يبصرون من قبل، ولكن الحق أنهم كانوا عميانًا من قبل، وقد أبصروا الآن؛ وعندما يحل بهم العذاب بحسب إدراكهم هذا فسيعملون أنهم كانوا عميانا في الدنيا حيث يرون الخطأ صوابا، وقد بدأوا يبصرون الآن حيث يرون الصواب صوابًا.فالواقع أن هذه الآيات نوع من الطعن والتعيير بعقيدة الكفار، حيث قيل إن هؤلاء الأغبياء أشركوا بالله تعالى ومع ذلك ظنوا أنفسهم من أهل البصيرة، ولكنهم سينكرون شركهم ويتساءلون في حيرة هل أصبحنا الآن عميانا أم كنا عميانًا من قبل؟ هل بلغ بنا الغباء لدرجة أننا ظننا أنفسنا ذوي البصيرة وقد كنا عميانا؟ وهناك إشكال آخر لا بد من حله وهو أن الله تعالى يقول هنا ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا..أي أن الذي يُعرض عن ذكر الله تعالى لا بد له من عيش الضيق والمشقة ولكن ما نشاهده هو أن أهل الأديان الأخرى ليسوا

Page 568

الجزء الخامس ٥٦٢ سورة طه في أي ضيق مالي، بل إن أغلبهم أحسن معيشة بكثير من المسلمين، حيث تيسرت لهم أسباب الراحة والرخاء بكل أنواعها! وليكن معلومًا أن المعيشة تعني ما به قوام الحياة الإنسانية (الأقرب)، والحياة الإنسانية لا تقوم بالأكل والشرب والمال والثراء فقط، بل هناك مئات الأشياء التي لا بد منها لإصلاح حياة الإنسان دينيًّا وحضاريا وروحانيا.وهذه هي الأشياء التي لا تتيسر لمن يعرض عن المنهج الإلهي، مما يضيق عليه عيشه جدا.الحق أن سعة العمل إنما تتيسر للإنسان بإيمانه بصفات الله تعالى وإحداث التغيير في نفسه بحسبها، أما الذي لا يؤمن بصفات الله تعالى فإن نطاق عمله يظل ضيقًا محدودًا جدا.إن دائرة عمل الإنسان تتسع دائما إذا كانت الغاية سامية، وإذا لم تكن لأحد غاية عالية ضاقت دائرة عمله.ومن أجل ذلك نجد أن أخلاق الفلاسفة تكون رديئة جدا مقارنة بأخلاق الأنبياء.ثم إن دائرة ما عندهم من أخلاق قليلة أيضا تكون ضيقة للغاية.خذ مثلاً النبي ، حيث تجده متخلفا جميع الأخلاق الفاضلة وفي أروع صورة.فتجده ذروة في الصدق، والأمانة، والسخاء، والرحمة، ورعاية الفقراء، والإنصاف والتوكل، ورحابة الصدر، والحلم، واحترام مشاعر الآخرين، وحسن معاشرة النساء، وخدمة الإنسانية، والصبر، والتسامح، والتعاون، والشجاعة والوفاء بالعهد وآلاف غيرها من الأخلاق الحسنة.ولكنك لن تجد أيًّا الفلاسفة جامعا للأخلاق الفاضلة كلها، بل ستجد بعضهم متحلّيًا بواحد أو اثنين من هذه الأخلاق، وفي نطاق محدود جدا.إنما سبب ذلك أن الإنسان إذا لم يكن له غاية سامية يصبو إليها، وإذا لم يكن أمامه أسوة حسنة كاملة يتأسى بها، فتبقى أعماله محصورة في دائرة ضيقة، ولا يمكن أن تتسع.وبما أن منكر الوحي الإلهي لا يسعى للتحلى بالصفات الإلهية نتيجة إعراضه عن الله تعالى، فإنه لن يقدر على معرفة صفات الله تعالى حين ظهورها يوم القيامة، بل سيقف إزاءها كالعميان؛ مثله كمثل الذي لم ير في حياته البطيخ قط، فإذا وضعت أمامه البطيخ لن يعرف أنه بطيخ.فسيقول يوم القيامة مذعوراً: لم بُعثتُ اليوم أعمى وقد كنت بصيرًا؟ فيقول الله له كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم من

Page 569

الجزء الخامس ٥٦٣ سورة طه تنسى..أي لقد أريناك في الدنيا عشرات الآيات والمعجزات على يد رسلنا، فلم تكترث.فلم أنكرتها إذا كنت بصيرًا؟ فبما أنك كنت أعمى فكذلك اليوم تحشر أعمى.لقد تبين من ذلك أن العمى الذي يكون في الآخرة إنما هو العمى الروحاني.ذلك أن الله تعالى يقول لهذا فكما أنك لا تقدر على رؤية الأمور الروحانية الآن كذلك لم تقدر على رؤيتها في الدنيا.ولو لم يكن المراد هنا العمى الروحاني لما قال الله تعالى كذلك أتتك آياتنا.إن ورود كذلك للمرة الثانية يعني تخلينا عنك في الدنيا بسبب أعمالك، وها قد تخلينا عنك الآن أيضًا، و لم نعدك من أهل البصيرة قط.أننا قد أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتِ لِأُوْلِي النُّهَى (2) ۱۳۹ التفسير: أي أن التاريخ شاهد على الأمم الخالية، التي يسكن الكفار في ديارها ومناطقها.فكانت هي هؤلاء القوم بمصيرها؟ الأخرى مشركة وثنية فهلكت في آخر الأمر؛ فلم لا يتعظ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى (()) التفسير: أما قوله تعالى ولولا كلمة سبقت من ربك فإشارة إلى القانون الإلهي المذكور في قوله ورحمتي وسعت كل شيء) (الأعراف: ١٥٧)..والمراد أننا قد قررنا أن رحمتنا غالبة على بطشنا، ولولا ذلك لجاءهم العذاب من دون تأخير جراء معاصيهم، ولصار ملازما لبلدهم لمدة طويلة، ثم لم يكن لهم مخلص منه.

Page 570

الجزء الخامس سورة طه فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ صلے غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآيِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى )) ۱۳۱ التفسير: قال المفسرون إن التسبيح قبل طلوع الشمس وقبل غروبها هنا يعني صلاتي الفجر والعصر، أما ومن آناء اليل فإشارة إلى المغرب والعشاء، وأما أطراف النهار فهما صلاتا الظهر والضحى لكونهما على طرفي نصف النهار، إحداهما قبل زوال الشمس والأخرى بعد زوالها، أو المراد به الظهر فقط (الدر المنثور).وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ج وو لِنَفْتِهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى شرح الكلمات ۱۳۲ زهرة الحياة الدنيا : أي بهجتها وغضارتها وحسنها (الأقرب).ويتمنى لنفتهم: فتنه : خبره.فتن الصائغ الذهب والفضة: أذابه بالبوتقة وأحرقه بالنار ليبين الجيد من الرديء ويُعلم أنه خالص أو مشوب (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى (لنَفْتنهم) ١- لنعلم، ۲- لنميز بين الجيد والرديء.التفسير: يصاب الإنسان أحيانًا بالطمع برؤية ما عند الآخر من الثروة والمال أن تنتقل إليه.ولكن الله تعالى يحذر المسلمين هنا ألا يصيبهم الطمع برؤية تقدم الشعوب الأوروبية وثرائها المتراكم الهائل، لأن ثراءها نفسه سيتسبب في هلاكها في نهاية المطاف، كما حصل مع روسيا.فإنها لما رأت ثراء الأوروبيين والأمريكان تحلب فمها، وصنعت القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية لتستولي بقوتهما على ثراء البلاد الغربية.ولكن الله تعالى ينصح المسلمين أن يجمعوا ثروتهم عند الله تعالى، لأن المال الذي يُكتر عنده عمل مصون من سلب السالبين، كما أنه خير ويدوم للأبد.

Page 571

الجزء الخامس صلے سورة طه قلے وَأَمر أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْتَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن الأولاد يتبعون خطوات الوالدين، فعلى على كل مسلم في عصر رقي المسيحيين أن يوصي أولاده بالصلاة وأن يواظب بنفسه عليها لكي يتأسوا بأسوته.ذلك أن الذي يداوم على العبادة يرزقه الله حلالاً ولا يسأله رزقا.وهذا يبدو غلطا في بادي الرأي، إذ لم يزل الأنبياء جميعا يطالبون الناس بالتبرعات لنشر الدين، وإن الإسلام نفسه قد حث على أداء الزكاة والصدقات بشكل خاص.والحق أن الذين يخرجون الزكاة أو الصدقات لا تنقص أموالهم أبدا بل تزيد دائما، وهم الذين ينتفعون بهذا الإنفاق.يقول الله تعالى وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )) (الروم: ٤٠)..أي أن الذين ينفقون الذين يزيدون أموالهم في الواقع.فثبت أن الزكاة أموالهم في سبيل الله هم والصدقات والتبرعات لا تتنافى مع مفهوم هذه الآية أبدا.وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِشَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ أن الأُولَى ) التفسير: إن الله تعالى يبين هنا أن الآية لا تعني سحرًا وشعوذة، بل الواقع أنباء الأنبياء السابقين أيضا ،آية وهناك أنباء من قبل الأنبياء السابقين في حق محمد رسول الله ﷺ فلم لا يصدق به هؤلاء رغم وجود هذه الآية؟ فلو لم يُبعث محمد رسول الله ﷺ الجاز لهم أن يقولوا إنه لم يُبعث إليهم أحد وإلا لآمنا به.جاءهم النبي فليس لهم إلا أن ينتظروا العقاب.وسوف ينكشف الحق في آخر الأمر، ولكن لا جدوى من الإيمان عندها.أما وقد

Page 572

الجزء الخامس سورة طه وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَتَخَزَى ) التفسير: لقد لفت الله تعالى هنا نظر عباده أنه لو أنزل عليهم العذاب قبل بعثة رسول بينهم لاحتجوا أمامه تعالى بأننا كنا في ضلال وبحاجة إلى الهدى، فلم لم تبعث إلينا رسولاً، فنعمل بوصاياك قبل أن نذل ونخزى؟ ولم يُبطل الله تعالى اعتراضهم هذا بل سلم بصوابه.مما يبين أنه تعالى لو لم يبعث الأنبياء والرسل لهداية الناس لكان من حقهم أن يحتجوا عليه تعالى يوم القيامة قائلين: إنك لم تبعث إلينا أي هاد فلم تحاسبنا يا رب؟ من المؤسف أنه حتى معظم المسلمين بدأوا يقولون في هذا العصر لن يبعث الله أحدًا لإصلاح العباد مهما انتشر الغي والضلال في الدنيا.في حين أن الله تعالى قد أبطل هذا الزعم نفسه في هذه الآية، وبين أنه تعالى لو لم يبعث رسله إلى الدنيا لجاز للعباد أن يحاجوه قائلين يا رب إنك لم تهيئ لنا أسباب الهداية فلم تعذبنا إذن؟ وهذا أن المسلمين اليوم يدعمون عمليًّا ذلك الاعتراض الذي لم يزل الأنبياء يُبعثون يعني كيلا يثار هذا الاعتراض صلے قُلْ كُلٌ مُتَرَبِّصُ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَبُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَن أَهْتَدَى ) التفسير : لقد وصف الله تعالى الصراط هنا أنه سوي والسوي هو المصون من الإفراط والتفريط (المفردات).والسويّ أيضًا الكامل القوي (لسان العرب).وعليه فقوله فستعلمون من أصحاب الصراط السوي يعني أنكم ستدركون عاجلاً أن ما جاء به محمد رسول الله ﷺ من منهج للناس هو منزه عن أي إفراط وتفريط، وأنه يبلغ من الكمال والشمول بحيث لن يصبح متروكا أبدًا مهما تغيرت أحوال الزمن وظروفه..بمعنى أنه دستور أبدي وغير متبدل.

Page 573

الجزء الخامس سورة طه ثم يقول الله تعالى ومن اهتدى..أي أن الذي يُعطى شرعًا غير قابل للنسخ أو التبدل بتأثير ظروف الزمان إنما هو وأتباعه يمكن أن يُعَدّوا من المهتدين الكاملين، أما الذين لا يتبعونه فلا يمكن أن يُعَدّوا من المهتدين أبدًا.ذلك لأن الذي يضطر لتغيير إيمانه وعمله دائما بتغير أحوال الزمن لا يمكن أن يُعَدّ من الذين قد هداهم تعالى، لأن هدى الله إنما هو ما يكون صالحا للعمل به اللهم إلا أن يغيره الله تعالى بنفسه في عصر من العصور من خلال جديد منه تعالى.أما الإنسان فلا يمكنه وحي أبدا أن يبدله لأنه غير قادر على أن يأتي ببديل للتعليم الإلهي.

Page 574

الجزء الخامس ٥٦٩ سورة الأنبياء سورة الأنبياء مكية وهي مع البسلمة مئة وثلاث عشرة آيةً وسبعة ركوعات هذه السورة مكية بلا خلاف غير أن الإمام السيوطى قد اعتبر أيتها السابعة مدنية (الإتقان).أما "ويري" فيقول إنها مما نزل في السنة التاسعة من البعثة على ما يبدو، لأنها تتحدث عن معارضة الكفار.إن دليله هذا يماثل قول شخص بأن سورة الرحمن قد نزلت في القرن التاسع عشر الميلادي لأنها تتحدث عن التقاء البحرين الأحمر والأبيض المتوسط، وعن السفن العملاقة الماخرة في البحار، وهي أمور قد وقعت في أواخر هذا القرن! الحق أن الإنسان إذا أعماه التعصب والخيانة تكلم بمثل هذه السفاسف.كان أمام "ويري" طريق سهل للحكم في تحديد زمن نزول هذه السورة، وهو أن يقبل شهادة الصحابة الذين نزلت السورة في زمنهم والذين قالوا إنها نزلت قبل السنة الخامسة من البعثة النبوية، وأنهم قد حفظوها عندئذ.ولكنه لما كان قد سلفًا أن القرآن ليس وحيًا من الله تعالى تعذَّرَ عليه أن يصدق أن القرآن الكريم قد بيّن في هذه السورة بعض الأحداث قبل حدوثها كأنباء مستقبلية.الحق أن السور الكهف ومريم وطه والأنبياء قد نزلت في أوائل الإسلام قرر بحسب ما رواه عبد الله بن مسعود ده، وكان قد حفظها في بداية إسلامه الله (البخاري: كتاب التفسير).وكان عبد بن مسعود لله من المسلمين الأوائل.فلا شك أن هذه السور كلها مما نزل في بداية الإسلام.ولما كانت سورة مريم قد قُرئت على النجاشي في بلاطه في بداية الهجرة إلى الحبشة، ولما كانت تلك الهجرة قد بدأت في أول السنة الخامسة، فلا شك أن هذه السور كلها قد نزلت خلال

Page 575

الجزء الخامس ۵۷۰ سورة الأنبياء الأعوام الأربعة الأولى من البعثة النبوية.فثبت أن سورة الأنبياء قد نزلت قبل بداية السنة الخامسة من البعثة، وأن ما يدعيه "ويري" لغو وباطل تمامًا.الترتيب والربط هذه السورة تأتي في المصحف بعد سورة طه.وإن العلاقة القريبة بين هاتين السورتين تكمن في أن الله تعالى قد أخبر في آخر سورة طه أن العذاب نازل على الكفار لا محالة، ولكن بعد إقامة الحجة عليهم.لذا عليكم بالصبر، فإن العذاب نازل حتما في موعده بأعداء محمد رسول الله.وفي سياق هذا الموضوع نفسه قال الله تعالى في مطلع هذه السورة سورة الأنبياء اقتربَ للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون.وهذا يعني أن الله تعالى قد أكد هنا ثانية نبأ نزول العذاب الذي أدلى به في آخر سورة طه.هذا هو أقرب رابط بين السورتين.أن الخطأ أما علاقة هذه السورة بالسور السابقة العديدة من حيث الموضوع العام فهي الله تعالى قد تناول في سورة مريم ذكر المسيح مبينًا أن المسيحيين قد وقعوا في بصدد المسيح.فإنهم أوّلاً عزوا إليه الصفات الإلهية، وثانيًا ظنوا أن قد الشرع ألغى بواسطته فاعتبروا الشريعة لعنة، وثالثا قالوا إن النجاة إنما هي بالكفارة لا بالتوبة والعمل الصالح.وإن أخطاءهم هذه انحرفت بهم بعيدا عن جادة الحق.لقد أبطل الله تعالى دعاواهم هذه في سورة طه من حيث النقل، فذكر أحوال موسى، موضحًا أن الأمة المسيحية إنما هي حلقة من السلسلة الموسوية، وإن وقائع حياة موسى تفند هذه الدعاوى المسيحية كلها إن أكبر مفخرة لموسى إنما هي أنه قد جاء بالشرع.إذا كان الشرع لعنة فيجب أن يكون موسى موضع كراهة لا فخر.ثم ذكر الله آدم الله ليوصل نظرية الخطيئة الموروثة إلى جذرها ويدحضها.ثم بين القرآن الكريم أن الناس ينالون العقاب من عند الله تعالى على آثامهم، فلو كان تجنب الإثم محالاً فأين المجال للعقاب؟ عندها يجب ألا ينزل أي عقاب.إن النبي يأتي ليقلل احتمال العقاب بدلاً من أن يؤكده.فلو كان الشرع لعنة فإن النبي لا يقلل احتمال العقاب بل يزيده وقد أسهبت سورة الأنبياء في بيان هذا الموضوع

Page 576

الجزء الخامس ۵۷۱ سورة الأنبياء نفسه، وبينت أنه ليس واحد أو اثنان بل إن أعداء الأنبياء كلهم قد نالوا العقاب بدءا من زمن آدم ومروراً بعصر المسيح، وحتى عهد محمد رسول الله ﷺ.فكيف حصل هذا ما دام الإثم موروثا وما دام الإنسان غير قادر على تجنبه؟ فوجود بعض الأخيار قبل المسيح وتعرُّض البعض الآخر لعقاب الله تعالى لدليل على أن عقيدة الإثم الموروث باطلة تمامًا ولا سند لها.ملخص محتواها يقول الله تعالى إن العذاب آت ولكن هؤلاء يعلّلون أنفسهم بأعذار زائفة شتى.(الآية رقم ٢) لا تأتي الناس رسالة جديدة لهدايتهم إلا وهم يسخرون منها، بمعنى أن الأنبياء كلهم قد دعوا الناس إلى الهدى؛ فإذا كان الإثم شيئًا موروثا فما الداعي لدعوتهم إلى الهدى.أن إن الكفار يعترضون على أنبيائهم من غير تفكير فيقولون للقوم مثلا إنه بشر مثلكم - مع أنه لا بد للهادي أن يكون بشرًا مثل الذين يخاطبهم، فهذه الآية أيضًا تبطل الزعم بأن الله تعالى ولدًا – وإنه يتكلم بكلام معسول.فكيف يمكن أن تقعوا في خداعه وأنتم أولو الألباب؟ فيرد نبينا على مطاعنهم بقوله ماذا عسى أجيبكم.إن السميع العليم هو الذي سيجيبكم أيما جواب (الآيات ٣-٥).بعدها يتخذ المنكرون خطوة أخرى فيقولون إن هذا يرى أضغاث أحلام، بل إنه يختلق الكذب والزور ، ثم يعرض على الناس كلامه المزور شعراً ليخدعهم.عليه أن يأتي بالعذاب كما فعل الأولون.فيرد الله عليهم بأن الأنبياء الأولين كلهم كانوا بشرا، لذا فقد جاءكم هذا من البشر أيضًا فاقرءوا كتب الأولين إن كنتم لا تعلمون فكل واحد منهم كان يأكل الطعام ثم مات في آخر المطاف - وكان المسيح أحدًا منهم أما الذين كفروا بهم فأهلكناهم.(الآيات ٦ - ١٠) عليهم أن يفكروا فيما إذا كان القرآن يمثل عبئًا عليهم.كلا، بل إنه مدعاة عز و شرف لهم.(الآية (۱۱)

Page 577

سورة الأنبياء الجزء الخامس إن الذين ينكرون الحقائق التى تنزل من عند الله تعالى لا ينالون إلا العذاب.(الآيات ١٢-١٦) لم لا يفكر هؤلاء أن الله الحكيم ما كان له أن يخلق الكون دونما غاية..مجرد لعبة.إن صاحب اللعبة يحتفظ بها في يده، ولا يضعها في أيدي الآخرين كما وضع الله تعالى هذا الكون في أيدي الناس!! (الآيات ١٧-١٩) إن الأرض والسماء في قبضة الله تعالى.وكلما كان الواحد أكثر قربا من الله تعالى كان أكثر تواضعًا وعبادة له.(الآيات ۲۰-۲۱) ما دام في الكون قانون واحد فمن أين جاء هؤلاء بقضية الشرك.إن الشرك يستلزم الاختلاف، وإن الأنبياء كلهم قد علّموا محاربة الشرك؛ فوجود قانون واحد في الكون لبرهان على أن الله تعالى منزه عن كل ما يعزى إليه من الأمور الوثنية.(إن المسيحية تعزو الشرك إلى الله تعالى بقولها أنه تعالى لا يمكن أن يغفر الذنوب، فتطلب الأمر فداء من قبل الابن.ولكن الواقع أن الله تعالى هو المالك الكامل، ولا لوم على المالك الكامل إذا عفا).ثم يقول القرآن إن المسيحيين يقولون أن هناك آلهة من دون الله تعالى مثل الروح القدس والمسيح.وهذا باطل.إنما هو إله واحد.ولست أنا الوحيد الذي يدعو إلى هذا التعليم، بل إن الأنبياء الذين أتوا قبلى كإبراهيم وإسحاق وموسى كلهم قد أحدًا دعوا إلى هذا المبدأ نفسه والكتاب المقدس مليء بهذا التعليم (الآيات ٢٢-٢٥) في الأزمنة الخالية أيضًا قد جاء البشر من عند الله تعالى لهداية الناس، ولم يأت ابن الله تعالى كما يقال عن المسيح.فكيف يزعم المسيحيون أن الله تعالى قد اتخذ من البشر ابنا له.إنه تعالى أسمى من ذلك، إذ لا تحتاج إلى الأبناء والأولاد إلا الكائنات التي يأتي عليها الفناء.ولكن الله تعالى منزه عن كل عيب، ومن المحال أن يقترب منه الفناء، فما حاجته إلى الابن؟ وكذلك يرغب في الولد من يحتاج إلى مساعد، ولكن الله تعالى ليس بحاجة إلى أي مساعد؛ إنه قادر على إدارة أموره كلها بنفسه.إنه تعالى لا يزال منذ البداية يختار بعضا من عباده ليكرمهم بر سالته.وهكذا قد اختار المسيح أيضًا وشرفه.فمن الظلم العظيم أن يتنكر هؤلاء

Page 578

الجزء الخامس ۵۷۳ سورة الأنبياء لهذه المنة الربانية ويتخذوا عبدا من عباد الله، الذي أكرمه وشرفه، ابنا له وبالتالي ندا له (الآيات (٢٦-٢٧) إن سائر الأنبياء الذين أتوا من قبل من عند الله تعالى إنما اعتبروا أنفسهم تابعين الله تعالى، عاملين بأوامره ووصاياه.والحق أن المسيح أيضا كان مثلهم، ولكن المسيحيين أطروه إطراء، فأخرجوه من صف الأنبياء الآخرين.والحق أنه ليس إلا واحدًا من عباد الله المختارين.(الآيتان ۲۸-۲۹) ثم يقول الله تعالى إن مصير المشرك جهنم، فلم تجعلون صلحاءكم من أهل الجحيم بعزوكم صفات الله إليهم.الغريب أن المسيحيين يؤكدون صراحة، لا إشارةً وتلميحا، أن من عقيدتهم أن المسيح قد بقي في جهنم ثلاثة أيام بعد أن أنزل عن الصليب.ولكن القرآن الكريم يعلن أن المسيح لم يكن من أهل جهنم، بل كان عبد الله المختار المغفور له.واعتبار مثل هذا العبد المختار من أهل جهنم ولو لثلاث ثوان – دعك من ثلاثة أيام - لظلم عظيم).(الآية ٣٠) إن من سنة الله تعالى أنه كلما تصبح الدنيا محرومة من الروحانية..يفتح أبواب رحمته من السماء، فيقوم الخير في الدنيا ثانية نتيجة الماء الرباني، فيولد في الجماعة الربانية رجال روحانيون عظام يستمر الخير من خلالهم.ويدار هذا النظام بعون الله تعالى.إن الليل والنهار يتناوبان على الدنيا، فتشرق الشمس تارة، وينير القمر تارة أخرى.وهذا هو حال العالم الروحاني أيضًا؛ فلا يبقى فيه الخير دائما، ولا يختفي الشر على الدوام.فمن الخطأ أن يستنتج أحد برؤية تناوب الخير والشر وتعاقب النور والظلام أن خطة خلق الكون صارت فاشلة.كلا، بل إنها عملية طبيعية، وإن العالم المادي أيضًا يدار بحسبها؛ فما الداعي للاعتراض، وما المبرر لاختراع العقائد الزائفة مثل الكفارة وغيرها.(علما أن عقائدهم الزائفة هذه إنما هي راجعة إلى ظنهم أن عملية بعث الرسل فشلت في إصلاح العالم.وذلك بالرغم أن الدنيا ظلت على حالها بعد المسيح أيضًا، فلا الخير زاد ولا الشر نقص).(الآيات ٣١-٣٤) إن الأنبياء كلهم قد ماتوا، وأن المسيح هو الآخر قد مات، وأن محمدا رسول الله (ﷺ) أيضًا صائر إلى الموت، ولكن هذا لا يقدح في النظام الروحاني، كما أن

Page 579

٥٧٤ الجزء الخامس سورة الأنبياء مغيب الشمس لا يفسد النظام المادي.إن لكل واحد عمله، يقوم به ويرحل.إن البقاء الحقيقي المستمر في العالم كله إنما هو لذات البارئ وحده.(الآيتان ٣٥-٣٦) إن الأعداء يستهزئون بك، يقولون إنه يقوم بهذا الادعاء الكبير رغم كونه مع أن القضية لا تخص بمن أتى بهذا الكلام، وإنما تخص بمن أرسلك بهذا بشراء مع الكلام.إنه تعالى لقادر على البطش بهم بعد الموت أيضًا، وسيبطش بهم.(الآية ٣٧) إن الله تعالى بطيء في العذاب مما يجعل الناس مغرورين، مع أن إمارات العذاب بدأت تلوح في الأفق، ولا بد من غلبة الإسلام.(٣٨-٤٥) إن ما أقوله إنما أقوله بناء على الوحى إن العذاب آت لا محالة، وعندها سيندمون ولكن الله تعالى لن يظلم في العذاب أيضًا، بل يعامل كل واحد وفق أعماله.(الآيات ٤٦-٤٨) ولقد جاء موسی قبل هذا الرسول، وقد دعا الناس إلى النجاة.(فإذا كانت النجاة أمرًا محالاً فلم دعاهم إليها).(٤٩-٥٠) ولكن هذا الذكر أكمل مما كان قبله.إنه جامع لكل التعاليم العالية.(الآية ٥٠) لقد جاء قبل موسى إبراهيم الذي ينسب إليه المسيح جماعته.ولكن إبراهيم قد نهى الناس عن الشرك مقراً بأن الله هو خالق الأرض والسماء (ولم يقل أن الكون الكلمة أي المسيح.وإن خطأ المشركين ثابت بدليل أن الأصنام عرضة خلق من للضرر والأذى مثلما تضرر المسيح وعُلّق على الصليب).(٥٢-٧١) لقد اصطفينا إبراهيم وأورثناه إحدى البلاد، وقد آمن به أناس بمرتبة لوط، ووهبنا له ولدًا كإسحاق وحفيدًا كيعقوب.وكل هؤلاء كانوا أبرارا صالحين.رأي ما كانت هناك حاجة إلى الكفّارة.فبحسب الكفارة يجب أن يُعد كل مسيحي أفضل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، إذ قد نال من خلال الكفّارة النجاة التى لم يحظ بها أي من هؤلاء).(الآيات ٧٢ ٧٦) ثم انظروا إلى نوح نجيناه وأهلكنا أعداءه.فإذا كان الإثم موروئًا فلم أهلك هؤلاء القوم؟ (الآيتان (۷۷-۷۸)

Page 580

٥٧٥ الجزء الخامس سورة الأنبياء وكذلك منحنا داود وسليمان مكانة عالية فكيف يا ترى، تبوءا هذا المقام من دون الكفارة؟ علما أن المسيحيين يوصلون نسب المسيح بداود عليهما السلام ومن أجل ذلك قد ذكره الله تعالى هنا خاصة.(الآيات ٧٩-٨٣) مصائب ثم انظروا إلى أيوب الذي قد نفعته عبادته.كانت مصائبه أشد من المسيح، فإذا كان تحمل الأذى في سبيل الله تعالى شيئًا نافعا فكان من المفروض أن يكون أيوب أفضل من المسيح.ثم إن إسماعيل وإدريس وذا الكفل كلهم قد ضحوا في سبيل الله تعالى.إذا فلمَ تُمنح درجة بنوّة الله تعالى لصابر واحد فقط؟ (الآيات (AV-AE ثم هناك ذو النون الذي ذكر المسيح مشابهته به إنه هو الآخر قد تحمل كثيرا من الأذى.فلم لم يُعتبر هو كفارة عن ذنوب الناس؟ (۸۸-۸۹) ثم انظروا إلى زكريا وابنه.كان زكريا قائما على البر والصلاح، كما كان ابنه بارا وشهيدًا في سبيل الله تعالى بحسب الإنجيل.فلم لم يتسببا في الكفارة؟ ثم جاءت بعدهما مريم وابنها.لا شك أن ذكرهما سيشاع في العالم، ولكن لم يكن حالهما مختلفا عن هؤلاء الأولين.إذا كانت ولادة المسيح غير عادية فإن ميلاد يحيى غير عادي كذلك.(وقد ذكر الله تعالى مع أحدهما أباه مؤكدًا أنه تعالى قد شفى زوجته من المرض، وذكر مع الآخر أمه وكل ذلك للتأكيد على كونهما ضعيفين.فقال تعالى ما دام كلا النبيين من الصالحين، وما دام كلاهما قد تحملا الشدائد، فلم لم يُعتبر يجى كفارة عن ذنوب الناس؟) (الآيات ٩٠- ٩٢) ثم يقول الله تعالى إن هؤلاء القوم كلهم كانوا ذوي كفاءات مماثلة، وتابعين لقانون ،واحد وداعين الناس إلي، فلا تتبعوا الآن مسلكًا جديدًا آخر.(الآية ٩٣) ولكن الغريب أن الناس يميلون إلى الفرقة، تاركين الطريق المجرب المطروق.مع أن سنتنا واحدة، فمن كان صالحًا عومل معاملة حسنة (الآيتان ٩٤-٩٥) إن سنتنا أنه إذا هلكت أمة فلا تعطى فرصة للنهوض ثانية، ولكن سيحصل العكس في زمن يأجوج ومأجوج – الذين يكونون مسيحيين والذين يدور الحديث.فإن هؤلاء عندما يستولون على العالم من كل جهة، عندها سيجري عنهم هنا - و

Page 581

الجزء الخامس ٥٧٦ سورة الأنبياء في الدنيا تيار جديد، فيحل عليهم العذاب، ويدمر كل ما كانوا به مغرورين.يومئذ يُنقذ المؤمنون من العذاب، بينما نطوي بساط نظام الكفر، ثم بعد ذلك يملك المؤمنون أرض فلسطين مرة أخرى.(٩٦-١٠٧) إنك يا محمد (ﷺ) جئت رحمة للعالمين، لكي تنجيهم من لعنة الكفارة وتفتح عليهم باب التوبة.فأعلن التوحيد، وأنذر المنكرين واعلم أن قومك أيضًا سيطردون من فلسطين، فعليك أن تدعو من الآن وتقول رب إن هذا الأمر سيجعل أمر الإسلام واليهودية مشتبها فيه، فاحكم بما يكشف صدق الإسلام، واجعل المسلمين غالبين على تلك الأرض ثانية (الآيات ۱۰۸ - ۱۱۳) الله الرحمن الرحيم اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (3) شرح الكلمات : اقترب: اقترب الوعد: قرب (الأقرب).التفسير : يرى الكتاب الغربيون أن سورة الأنبياء نزلت في السنة التاسعة من البعثة النبوية.أما المفسرون المسلمون فقالوا إنها مكية إذ ليس عندهم عادة أن = يتكلموا جزافا.ولو سلمنا بدعوى المستشرقين بأنها نزلت في السنة التاسعة أو العاشرة فهذا يعني أن آية اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون تضمنت الإشارة إلى أن موعد هجرة المسلمين من مكة قد اقترب مما سيؤدي إلى هلاك أهل مكة.كما أنها تعتبر بشارةً بانتشار الإسلام في المدينة حيث وضع الأساس لانتصار محمد رسول الله ﷺ أليس من الغريب أن هؤلاء المستشرقين المسيحيين، وهم مشهورون بدهائهم ومكرهم قد وقعوا هنا في فخ نصبوه بأنفسهم، حيث حددوا لنزول هذه السورة زمنًا قريبا من زمن الهجرة وانتشار الإسلام في المدينة، وهكذا اعترفوا بأن القرآن الكريم كتاب سماوي احتوى على أنباء غيبية هامة.وطبقا لتلك

Page 582

الجزء الخامس ۵۷۷ سورة الأنبياء الأنباء غلبت فئة قليلة على بلاد العرب الشاسعة في بضع سنين، حتى فتحت على يدها مكة تلك المدينة التي لم تكن قد فُتحت قط على يد أحد منذ بداية الكون.وفي قوله تعالى اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) تحذير بأن العذاب قادم.وهنا ينشأ سؤال: كيف يؤسف على شخص لم يؤمن بعد بهذا الوحي، فيقال إنه واقع في غفلته؟ فهو لا بد أن يضحك لدى سماع هذا الكلام.فليكن معلومًا أن لفظ اقترب يدل على ظهور الآثار الأولى للعذاب، ولذلك يقول الله تعالى يجب على هؤلاء المنكرين أن يفكروا على الأقل ما هو طريق النجاة من هذا العذاب ولماذا تظهر آثار هذا العذاب، إذ لا بد أن يكون وراءه سبب ما.ولكنهم لا يكترثون لذلك ولا يفكرون في ذلك مطلقا، فثبت أنهم في غفلة.وهذا ما يحدث في هذا العصر أيضًا.إن آثار العذاب تظهر واحدا تلو الآخر، ولا أحد يحظى بالسكينة والاطمئنان، ومع ذلك لا يفكر أحد في سبب ذلك، ولا ينظر مطلقًا إلى المصدر الحقيقي للفتن والفساد وإنما يريدون فقط أن يزول الأذى أو العائق من أمامهم بطريق ما.والنتيجة أنهم يغوصون في وحل العذاب أكثر فأكثر.ولن يتغير هذا الوضع ما لم يسعوا لإغلاق المصدر الأصلي للمصائب.قالے مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم تُحْدَتْ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (3) لَا هِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (٤) شرح الكلمات ذكر: الذكر: التلفظ بالشيء؛ إحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيتُ؛ الشرف، وفي القرآن إنه لذكر لك ولقومك، الكتاب فيه تفصيل الدين ووضعُ الملل.والذكر من القول: الصلب المتين (الأقرب).محدث: المحدث: نقيضُ القديم (الأقرب).

Page 583

الجزء الخامس ۵۷۸ سورة الأنبياء يلعبون لعب في الأمر والدين استخف به (الأقرب).لاهية: لَهى عنه: سلا وغفَل وترك ذكره وأعرض عنه (الأقرب).النجوى: الاسم من المناجاة؛ والسر (الأقرب).السحر : كلُّ ما لطف مأخذه ودَقَّ؛ الفساد؛ إخراج الباطل في صورة الحق."وإن من البيان لسحرًا" قيل معناه أنه يمدح الإنسان فيصدق فيه حتى يصرف قلوب جديد من السامعين إليه، ويذمه فيصدق فيه حتى يصرف قلوبهم أيضًا عنه (الأقرب).التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن استخفاف أهل مكة بالقرآن واستهزاءهم بالإسلام ليس ببدع، إذ ما زال الكافرون في كل زمان ومكان يعارضون كل وحي الله تعالى، ولم تتجه قلوبهم لدى سماعه إلى الله تعالى، بل لم ينفكوا ساخرين محتقرين، ولم يبرح كبراء الكفار يخططون لمحو رسالة الله تعالى.لم يخطر ببالهم قط أنه كلام الله تعالى وأننا بشر، وإنما ظلوا يعزون الوحي إلى البشر.قالوا إنه شخص واحد، وإنا لأمة كبيرة فأنى له أن ينفلت من أيدينا.وكانوا ينصحون قومهم قائلين: لا تصغوا لتعليمه، ولا تنخدعوا بكلامه المعسول.إنكم أمة كبيرة، وهو وحيد، فأنتم الغالبون في نهاية المطاف.ثم يقول الله تعالى الاهيةً قلوبهم وأسروا النجوى.واعلم أن النجوى هو الكلام في السر، ومع ذلك قال الله تعالى وأسروا النجوى وذلك للمبالغة..أي أنهم ينسجون مؤامرات جد خفية يستحيل أن يطلع عليها عامة الناس.ثم يقول هؤلاء للقوم أهل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون..أي رغم أنه بشر مثلكم تسمعون كلامه الذي هو سحر وتقبلونه، مع أنكم تعلمون أنه ليس إلا كلامًا مزخرفًا فحسب.قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (3) التفسير : يؤكد الله تعالى هنا أنه كان يعلم سلفا نوايا الكفار بأنهم سيقومون بالخطط الخفية ثم يقومون بالدعاية الباطلة لتضليل الناس، ولذلك فإنه قد أودع

Page 584

الجزء الخامس مسبقا ۵۷۹ سورة الأنبياء في وحيه وفي القلوب البشرية الردّ على كيدهم.إنهم يظنون أن الرسل بشر فحسب، ولكنهم لا يدرون أن وراء الرسل ربًّا يسمع الدعاء ويعلم الغيب.لذا فسواء تآمروا ضد رسلهم نهارًا أو ليلاً، وسواء أعلنوا مكائدهم أو أسروها، فإن الله تعالى سيحبطها كليا.بَلْ قَالُوا أَضْغَتُ أَحْلَم بَلِ افْتَرَنهُ بَلْ هُوَ شَاعِرُ فَلْيَأْتِنَا بِشَايَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (3) شرح الكلمات : أضغاث أحلام الأضغاث مفردها الضغث وهو قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس.الضغث من الأمر أو الخبر: ما كان مختلطاً لا حقيقة لــــه.(الأقرب).والأحلام جمع الحلم وهو ما يراه النائم في نومه، لكنه قد غلب على ما يراه من الشر والقبيح (الأقرب).فأضغاث أحلام أحلام ملتبسة لا يصح تأويلها لاختلاطها (الأقرب).شاعر: الشاعر هو قائل الشعر؛ وأيضًا يُطلق الشاعر على كل من يتلاعب مع الشعور الإنساني أي المشاعر (الأقرب).التفسير: لا يستطيع الكافرون الرد على الوحي بالأدلة والبراهين، وإنما يقولون تهدئة لأتباعهم : ألا ترون أنتم في بعض الأحيان أحلاما ملتبسة، فما الغرابة إذا كان هذا المدعي هو الآخر قد رآها ألا تكذبون أنتم أحيانًا فما الغرابة إذا كان هو أيضا قد كذب؟ ألا تتكلمون أحيانًا عند الحاجة كلامًا لإثارة مشاعر القوم، فما العجب إذا كان هو الآخر يستثير عواطف القوم بكلامه.أو المعنى أنهم يتهمونه أولاً بأنه قد رأى بعض الأحلام الملتبسة، ولكنهم يفكرون بعد ذلك أن كلامهم هذا يؤكد كونه شخصا صادقًا في حد ذاته وإن كان قد رأى بعض الأحلام المشوشة؛ فيعودون ويقولون إنه مفتر ولكنهم يفكرون بعد ذلك أن

Page 585

الجزء الخامس 01.سورة الأنبياء اتهامهم هذا كبير جدا فكيف يصدقهم الناس فيما يقولونه ضد شخص صادق القول، فيقولون بل هو يسخر بنا كالشعراء.وبما أن الوحى الذي نزل على رسول الله ﷺ لا يوجد فيه حتى بيت شعر واحد، بل إن القرآن الكريم نفسه يعلن ويقول وما هو بقول شاعر، لذا يجب ألا يغيبن عن البال أنه عندما يرد لفظ الشاعر عن القرآن أو الأنبياء السابقين فلا يراد به الشاعر بالمعنى المعروف، وإنما يراد به إنسان يتلاعب بمشاعر الناس.إن سيدنا مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية اللي أيضًا كان يقرض الشعر أحيانًا، ولكنه لا يمكن أن يسمى شاعرًا.فقد أعلن الله نفسه في بيت شعر له تعريبه: لا علاقة لنا بالشعر ولا بالشعراء، وإنما ننظم الكلام لعل أحدا يفهم بهذا الأسلوب (قادیان کے آریا اور ہم ص ٤٥٩).لا تزال جريدة "زميندار" تستهزئ منذ أربعين سنة بمؤسس الجماعة قائلة بأنه يقول الشعر، ولكن شعره خال من البلاغة والفصاحة (جريدة زميندار عدد ٤ مارس ١٩٣٣).فهذه الجريدة المسكينة كانت تظن أنها تطعن بذلك في مؤسس الجماعة، هيأت بذلك الدليل على أن حضرته ل لا يمكن أن يسمى شاعراً رغم كون مع أنها بعض كلامه موزونا؛ وبالتالي لا اعتراض على كونه ملهما من عند الله تعالى.أما قوله تعالى فليأتنا بآية كما أُرسل الأوّلون فقد بين الله فيه أن الكافرين يكذبون آباءهم بأنفسهم.ذلك أن تاريخ العصور الخالية يكشف لنا أن قوم كل نبي الهموه بأنه لم يأت بآية، ثم جاء أولادهم في زمن محمد رسول الله ﷺ وكذبوا آباءهم إذ قالوا إن الرسل الأولين قد أتوا بالآيات، أما محمد فلم يأت بآية.فانظر إلى قوة مكر الله تعالى.فكأن الملائكة كانت تضحك على أعداء الأنبياء السابقين حينما كانوا يطالبون بالآيات فكانت تقول لهم مهلاً فسترون أن أولادكم وأحفادكم سيعدونكم كاذبين.وقد تحقق ذلك في الظاهر أيضا، فإن الأنبياء الذين قالت لهم أممهم إنكم لم تأتوا بآية عندما ماتوا نسبت إليهم أممهم المهازل.فبعضهم قالوا إنهم كانوا يحيون الموتى حقيقة، كما فعلت أُمّة المسيح العلمية (لوقا : ١١-(۱٥)، وبعضهم قالوا إن الأماكن المقدسة كانت تتحرك حيثما توجهت

Page 586

الجزء الخامس قدما زعيمهم، ۵۸۱ سورة الأنبياء كما يقول السيخ عن زعيمهم "بابا نانك" حيث يقولون أنه لما ذهب إلى مكة كانت الكعبة تتحرك لتكون إزاء قدميه (واران بهائي غورداس جي (مترجم) طبعة ۱۹۸۹ ص ۳۸-۳۹، وجنم ساكهي (أردو) ص ١٤٩)! فهذه هي المهازل التي وقع أولادهم فريسة لها.فكان مرادهم من قولهم فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون أن يأتي هذا الرسول بآية مشابهة للخرافات التي نسجها الأولون حول معجزات رسلهم.مع أن أولئك الرسل كانوا رسل الله، ولم يكونوا رسل هؤلاء الكافرين، والله تعالى لا يخالف سنته.متى رأيتم ملكا من الملوك يبلغ به حمقه أن يخالف القانون الذي سنه بنفسه ؟ صلے مَا ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (3) شرح الكلمات : قرية: القرية هي المصر الجامع؛ وقيل كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا (الأقرب).والمراد من القرية هنا أهلها.التفسير : يقول الله تعالى متى آمن الأمم السالفة حين حان هلاكها؟ فأنى لهؤلاء القوم أن يؤمنوا وقد اقترب عذابهم؟ لقد بين القرآن الكريم في مكان آخر أنه لم تكن هناك أمة رأت آثار العذاب فرجعت إلى الله تعالى وآمنت برسولها، إلا قوم يونس، فإنهم لما رأوا آثار العذاب آمنوا، فمتعهم الله ببركاته.قال الله تعالى فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين (يونس: ٩٩).إن كلمات القرآن هذه تبين بجلاء أن الله تعالى لا يحكي هنا قصة من الماضي، بل يعبر عن أمنيته أن يا ليت كانت هناك أمم أخرى تؤمن فتنجو مثل قوم يونس.وهذا يعني أن باب التوبة من عند الله تعالى يبقى مفتوحا على مصراعيه على الدوام لأجل بني آدم وبالفعل نرى أنه كما أمن قوم يونس فنجوا، كذلك آمن قوم الرسول الله أيضًا به بعد العذاب ومتعهم الله تعالى ببركاته.عندما

Page 587

الجزء الخامس ۵۸۲ سورة الأنبياء اضطر أهل مكة بعد صلح الحديبية للإذعان لمحمد رسول الله ﷺ في غاية الذل والهوان، وحين أسلم أناس مثل خالد وعمرو بن العاص الذين فتحوا العالم من أجل الإسلام، وحين دخل مكة جيش جرار من المسلمين، وأطاح بحكومتها، فحتى هند، تلك المرأة الشهيرة بعداوتها الشرسة للإسلام أسلمت أيضًا، كما أسلم عكرمة بن أبي جهل أيضًا.إذا فإن رسولنا الكريم الله هو الوحيد، بعد يونس ال، الذي حل بقومه العذاب، ومع ذلك آمنوا.ولم يكن هذا إلا ببركة النبي ، إذ لم تتح هذه الفرصة للمسيح ولا لغيره من الأنبياء.إنما قُدر ذلك ليونس ال بين الأنبياء الأولين، ولمحمد رسول الله بين الأنبياء الآخرين.صلى الله عليه وآله وسلم.أما قوله تعالى أفهم يؤمنون فليس معناه أنهم لن يؤمنوا، إذ إنهم كانوا قد آمنوا فعلاً.إنما هذا التعبير يمثل ردًّا على أفكار القوم، حيث بين الله تعالى أنهم ما كانوا ليؤمنوا، بالنظر إلى معايير العقل والمنطق.ذلك لأن أمة ارتكبت الظلم والعدوان لهذه الدرجة حينما تصير مغلوبة فلا تبقى عندها فرصة الإيمان، وإنما تقتل رجالها مثلما أُمر العليا بأن يعامل أعداءه الكنعانيين (التثنية ٢٠: ١٤).إنما هو محمد رسول الله ﷺ صاحب الشمائل الحميدة الذي حين انتصر على أهل مكة الظالمين قال لا تثريب عليكم اليوم، لقد عفونا عنكم، وذلك خلافا لما فعل موسى وغيره من الأنبياء السابقين حتى إن عكرمة بن أبي جهل الذي كان قد هرب من مكة إلى الحبشة لما رجع نتيجة إلحاح زوجته وإصرارها عليه بالرجوع، قال لرسول الله : يا محمد، إن زوجتي تقول إنك قد عفوت عني أيضا، وأنك قد سمحت لي بالبقاء في مكة.فهل هذا صحيح؟ فقال النبي : نعم، هذا فقال عكرمة : شكرًا، ولكني لن أغير ديني.فهل يمكنني البقاء في دولتك وأنا على ديني؟ فقال : نعم.عندها لم يتمالك عكرمة نفسه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله زاد المعاد، باب فتح مكة.صحيح.كان عكرمة جاهلاً بالحقيقة.لقد ظن أنه قد عفا عنه بصفته رسول الله فحسب.مع أن موسى العليا أيضًا كان رسول الله، ولكنه قتل أعداءه المغلوبين رجالاً ونساء أجمعين.فكان حريًّا بعكرمة أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد

Page 588

الجزء الخامس ۵۸۳ سورة الأنبياء أنك، يا محمد، لست محمدًا بالاسم فحسب، وإنما أنت محمد ذاك الذي قد بشر الأنبياء جميعًا بمجيئه والذي قد تغنّى الرسل كلهم برحمته.صلے وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢) التفسير: لقد أخبر الله تعالى هنا أن الرسل قبلك أيضا كانوا بشرًا كاملي القوى، والفرق الوحيد بينهم وبين غيرهم من شرفاء قومهم هو أن الله كان يوحي إليهم.لقد سمى آلهة؟ الله هنا الأنبياء الآخرين أيضا رجالاً أي أناسًا ذوي قوى كاملة، ولم يصفهم بذلك مقارنة بمحمد رسول الله ، بل مقارنة بأناس آخرين من قومهم، فإن كل نبي يكون أشرف قومه وأفضلهم.ثم يقول الله تعالى فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون..أي لقد كان قبلكم أهل الكتاب، فاسئلوهم هل جاءهم رسل بشر أم رسل الحق أن هذه الآية جاءت إفحامًا لمن يقول هل هذا إلا بشر مثلكم، فكيف تصدقون بما يقول لكم؟ يقول الله تعالى لم نرسل قبلك لهداية الناس إلا رجالاً كنا نوحي إليهم.فسئلوا اليهود والنصارى إن كنتم لا تعلمون ذلك لأن معارضي كانوا مؤمنين بنبوة إبراهيم العلي وصلاحه على الأقل.فإذا كان إبراهيم رسولاً بشراً، فلم يعترضون الآن على مجيء رسول بشر؟ إن فائدة مثل الجواب الإفحامي تكمن في أن المعترض لا يتعصب ضد أمر هو به، ويكون بحوزته أدلة على صحة ذلك الأمر.فعوضا عن أن نسوق الأدلة على ما اعترض عليه، من الأسهل أن نعرض عليه شيئًا مما هو مسلّم به عنده، لكي يعرف صدق ما يعترض عليه بمساعدة الأدلة التي هو يملكها على صدق ما يسلّم به.وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه الله تعالى هنا، فبدلاً من أن يدلل الله على أن النبي مقر

Page 589

الجزء الخامس ٥٨٤ سورة الأنبياء النبي لا بد له من أن يكون بشراً، اكتفى الله بقوله إن الرسل السابقين الذين تؤمنون بهم كانوا هم الآخرون بشرا، فلم صدقتموهم؟ وَمَا جَعَلْتَهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَلِدِينَ (3) شرح الكلمات: جسدا : الجسد: جسم الإنسان؛ وكلُّ خَلْق لا يأكل ولا يشرب من نحو الجن والملائكة (الأقرب).سوا التفسير : يجب أن لا ينخدع هنا أحد فيقول إن أمة عيسى ال تؤمن بأنه ابن الله، أو أن قوم رام أو كرشنا يعدونهما إلهين فلم يكونا بشراً برأيهم.ذلك أنهم اء اعتبروهم ابن الله أو آلهة فإنهم لا يمكن أن ينكروا أن كل واحد منهم قد ولد من بطن امرأة، وأنه كان له جسد إنسان، وأنه لم يكن أسمى من الأكل والشرب والموت.إن هذا الإقرار منهم يثبت أنهم كانوا يؤمنون بكونه بشرا في الحقيقة.وبالفعل ترون أن التوحيد قد وجه من خلال الإسلام لهذه العقائد الوثنية ضربة قوية حتى أخذ الهندوس والنصارى هم الآخرون يقولون نحن أيضا نؤمن بالتوحيد.1.ثُمَّ صَدَقْنَهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٢) شرح الكلمات: مسرفين: أسرف في كذا جاوز الحد أخطأ؛ جهل؛ غفل فهو مسرف.(الأقرب).فالمسرفون هم المتجاوزون الحدود، المخطئون، الجاهلون.التفسير : أي لا شك أن هؤلاء الأنبياء قد عوملوا من قبل الله تعالى معاملة غير عادية، ولكن لم يكن ذلك إلا في الأمور التي تتعلق بالوحي؛ أما في الأمور الطبيعية الأخرى فكانوا كغيرهم من البشر تماما.

Page 590

الجزء الخامس ٥٨٥ سورة الأنبياء صلے لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَنَبًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ شرح الكلمات : ذكر كم : الذكر: الشرف (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن الوحي ينزل رحمةً، لا لعنة كما يزعم النصارى (الرسالة) إلى أهل غلاطية ۳ : ۱۳).فمثلا يحتوي القرآن الكريم على ذلك التعليم الذي إذا عملت به نلت شرفًا كبيرًا.وعلى سبيل المثال، يعلمك القرآن أن تصدق القول دائمًا، وتفي بالوعد، وأن لا تسرق ولا تظلم.كما يوصيك القرآن أنه إذا كان لديك مال فأنفقه على الفقراء أيضًا، وليس على نفسك فقط، بيد أنه لا بد لك من الإنفاق على أهلك قدر المستطاع.ويأمر القرآن الكريم أنه إذا اقتتلت حكومتان فأصلحوا بينهما، دون أن تستغلوا هذا التصالح بينهما لصالحكم.وعليكم بتوخي العدل في معاملاتكم.وأحسنوا إلى زوجاتكم وخدمكم.وأدوا الأجير أجره.وتفقدوا حال المسافرين.وادفعوا عن المديونين ديونهم.وفكوا رقاب العبيد.واعتنوا بخلق الله الذي لا يقدر على السؤال لعدم قدرته على النطق أو لكرهه السؤال واعفوا عن الظالم ما دام العفو يؤدي إلى إصلاحه، أما إذا زاده العفو شرا فلا تعفوا عنه.فهل العمل بهذا التعليم الرائع يزيد المرء شرفًا أم ذُلاً؟ كان العمل بمثل هذا التعليم لعنة فلا شك أن المسيحيين على حق، أما إذا كان مدعاة للعز والشرف فلا شك أن القرآن على الحق، وأن المسيحية التي تعد الشرع لعنة هي على الباطل.إذا وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا وَاخَرِينَ (3) فَلَمَّا أَحَشُوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (3) شرح الكلمات : قصمنا : قصم الشيء: كسره وأبانه.وقصمه الله: أهانه وأذلَّه (الأقرب).

Page 591

الجزء الخامس ٥٨٦ سورة الأنبياء وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة..أي حطمناها وهشَمْناها، وذلك عبارة عن الهلاك (المفردات).بأسنا: البأس العذاب الشدة في الحرب (الأقرب).يركُضون: ركض : حرّك رجله.وركض منه: هرب مسرعًا (الأقرب).التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أنه لا يزال يجري في الدنيا تياران من الخير : والشر.إن الناس يفسدون بعد فترة فيصلحهم الله تعالى، وحينما يهيئ لأسباب الإصلاح فإن المفسدين يتصدون للمصلحين ويقاومون، ثم يفرون من وجوههم.أما قوله تعالى وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة فاعلم أن الظالم هنا يعني من يستخدم حقوقه وطاقاته في غير محلها؛ أو من لا يعزو الحقيقة إلى صاحبها، أو يعزو إلى أحد ما ليس فيه والحق أن هذا هو السبب الأساسي لنشوء السيئات كلها في العالم.فلو أننا استخدمنا قوتنا في محلها لكانت النتائج طيبة دائما.إنما يضرنا ما يُستخدم في غير محله فالله يقول عن القرى التي صار أهلها ظالمين باستخدامهم قواهم في غير محلها، إننا أهلكناهم وأقمنا بعدهم قومًا آخرين.لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْتَلُونَ (3) قَالُوا يَنوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ (٢) شرح الكلمات : أترفتم : أترفت النعمة زيدًا : نعمته.وأترفته النعمة: أطغته وأبطرته (الأقرب).والترفه : التوسع في النعمة (المفردات).فالمراد من قوله تعالى وارجعوا إلى ما أترفتم فيه أي عودوا إلى الأشياء التي كنتم تعيشون فيها عيشة راحة ورخاء.التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن المجرمين يقرون بخطئهم أخيرا، ولكن هذا يبقى حتى نهاية العقاب، حيث يعودون إلى فسادهم بعد ذلك ثانية.صلاحهم

Page 592

الجزء الخامس ۵۸۷ سورة الأنبياء فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَنهُمْ حَتَّى جَعَلْنَهُمْ حَصِيدًا خَمِدِينَ (٦) شرح الكلمات : حصيدا: الحصيد: الزرع المحصود (الأقرب).خامدین حمدت النار: سكَن لَهَبُها.وفي القرآن حتى جعلناهم حصيدا خامدين أي لا يُسمع لهم حس، أو مَوتَى (الأقرب).التفسير : يخبرنا الله تعالى أننا استأصلنا هؤلاء القوم حتى صاروا كنار خامدة..أي لم تبق فيهم القدرة على النماء والازدهار، وماتت أمانيهم، وانمحت رغبتهم في التقدم والترقي.ذلك مآل القوم الذين يحل بهم عذاب الله تعالى.وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَعِبِينَ )) شرح الكلمات : لاعبين: لعب الرجلُ : ضدُّ جَدَّ ومزح، أو فعل فعلاً بقصد اللذة أو التنــزه (الأقرب).التفسير : يلفت الله تعالى أنظارنا هنا إلى خلق السماء والأرض، ويقول تدبروا في خلقهما، وستجدون أننا لم نخلقهما من غير حكمة.فكيف يمكن إذا أن نخلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات دونما حكمة، لكي يأكل ويشرب ثم يموت.لَوْ أَرَدْنَا أَن نَتَّخِذَ هَوًا لَّاتَّخَذْنَهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَعِلِينَ ( بَلْ ووج نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) شرح الكلمات : نقذف قذف به رمی ،به يقال "هُمْ بين حاذف وقاذف" أي ضارب بالعصا ورام بالحجارة (الأقرب).

Page 593

الجزء الخامس ۵۸۸ سورة الأنبياء فالمراد من قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل أننا نرمي بالحق على الباطل كما يرمى أحد بالحجارة.فيدمغه : دمعه: شجَّه حتى بلغت الشجّةُ دماغه دمع الحقُّ الباطل: أبطله ومحقه (الأقرب).التفسير: يقول المفسرون أن معنى هذه الآية هو أننا لو خلقنا هذه الأشياء من أجل اللعب لاحتفظنا به عندنا، لأن الإنسان يحتفظ بلعبته عنده.كذلك يقولون أن اللهو هنا بمعنى الولد والمعنى أننا لو اتخذنا ولدًا لاتخذناه من جنسنا، وليس من جنس الإنسان.بينما قال البعض الآخر أن اللهو هنا يعني العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة، والمعنى أننا لو أردنا أن ننشئ مثل هذه العلاقة لأنشأنا مع جنس مماثل لنا، وليس مع جنس الإنسان.(البغوي).ولكني أرى، نظرًا إلى قوله تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، أن لا علاقة للولد والعلاقة الجنسية بالسياق، إلا أن اللعبة والمراد أننا لو كنا نريد اللعب لاحتفظنا بهذه اللعبة عندنا، و لم نضعه في أيدي الآخرين.معنی صحيح، ولكن هذه الآية يمكن أن تفسر بمعنى آخر، وهو هل أنشأنا هذه المصنعة الكونية، التي ينتفع بها الناس منافع شتى، على سبيل السخرية والهزل؟ لو كان هذا صحيحًا لكنا ساخرين بأنفسنا.ولكن لا أحد من العقلاء يسخر بنفسه، فكيف يمكن أن نفعل هذا بأنفسنا؟ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق..أي أننا لا نبرح نمد الدنيا بما هو حق وحكمة لندمغ به الباطل، فيفرّ الباطل من أمام الحق دائما.فلو كنا قد خلقنا الكون دونما غاية فما الداعي أن ننزل الوحي إلى الناس أصلاً؟ أما قوله تعالى ولكم الويل مما تصفون..فقد بين فيه أن الاستهزاء بآيات الله تعالى عمل شنيع وخطير جدا.ألا يجدون غير كلام الله تعالى للضحك والسخرية؟ فإن لم ينتهوا عن ذلك فسوف ينزل عليهم عذاب شديد.

Page 594

الجزء الخامس ۵۸۹ سورة الأنبياء وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ - يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ وَالِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ شرح الكلمات: يستحسرون استحسر أعيا ومنه في القرآن لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي لا يعيون منها (الأقرب).يُنشرون: أنشر الله الميت: أحياه (الأقرب).فمعنى يُنشرون يُحيون ويخلقون.التفسير: ينبه الله تعالى هنا أن كل ما في السماوات والأرض هو ملكه، فكيف تظنون، والحال هذه أنه سيدمر الناس، ولن يهيئ لهم أسباب الهدى؟ لا أحد في الدنيا يدمر بنفسه ما يملكه، فكيف تظنون أن يكون كل ما في السماوات والأرض ملكًا لله تعالى ومع ذلك لا يكترث لإصلاح عباده؟ كلا، بل إنه تعالى يبعث المأمورين من عنده لإصلاح عباده دائمًا وإن الذين يدل عملهم على أنهم من المقربين لدى الله تعالى فإنهم لا يمتنعون عن عبادته على استكبارًا ولا يملونها، بل يسبحون الله تعالى ليل نهار بدون انقطاع.الحق أن هؤلاء المشركين أنفسهم أغبياء، كما ينسبون إلينا الغباء، حيث يصنعون الأصنام بأيديهم، ثم يأخذون في عبادتها، كما يظنون أن الله تعالى يخلق بيده خلقا ثم يجعله ولدًا أو ندا له ! لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ) ۲۳ شرح الكلمات : يصفون: وصف الشيء: نعته بما فيه (الأقرب).

Page 595

الجزء الخامس ۵۹۰ سورة الأنبياء التفسير : أي أفلا يدرون أنه لو كان في السماوات والأرض آلهة سوى الله تعالى لشملها الدمار، بمعنى لو كان في الكون آلهة عديدة لوُجدت فيه نواميس عديدة متعارضة تؤدي إلى دمار الكون، ولكن لا نجد في الدنيا إلا ناموسا طبيعيًا واحدا.أتذكر جيدا أنني حين كنت صغيرًا في سن الحادية والعشرين تقريبًا جاء أحد المشايخ من السند للقاء أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين له الخليفة الأول للمسيح الموعود ال.وربما هو المولوي عبيد الله السندي الذي كان يزور قاديان كثيرًا.فعرض على حضرته الله هذه الآية وقال فيها إشكال أرجوك أن تزيله.والإشكال الذي ذكره هو أن القرآن الكريم يعلن هنا أنه لو كان في السماء والأرض آلهة عديدة لشملهما الفساد، مع أن الإله إنما يطلق على من هو كامل القوى.من الممكن أن يتخاصم ملوك الدنيا فيما بينهم، ولكن كيف يمكن أن يتقاتل هؤلاء الآلهة المتعددة ما داموا كاملي القوى؟ فأجابه حضرة المولوي نور الدين بعدة أجوبة، ولكن الشيخ السندي لم يقتنع، ولم يبرح يعترض ويناقش.إنني أتذكر جيدًا الغرفة التي دار فيها هذا النقاش، بل أتذكر جيدا الجهات التي كانا يتوجهان إليها خلال النقاش، فكان أستاذي المكرم المولوي نور الدين له متجها نحو الشرق، بينما كان الشيخ السندي يواجه الجنوب.ولما طال النقاش قال الشيخ السندي إن هذا الاعتراض لا جواب عليه.فقال حضرة المولوي نور الدين لله في حماس شديد كيف تقول عني إني لا أستطيع الرد على هذا الاعتراض؟ حسنًا ناقش هذا الصبي الذي هو تلميذي حتى تعرف مصيرك؟ وكان الشيخ السندي يعرف أني ابن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.ورغم أنه كان ينتمي إلى الفرقة الديوبندية إلا أنه كان لفترة طويلة من مريدي بعض المتصوفة وأصحاب الزوايا، وكان يكنّ للصوفية احترامًا كبيرًا، لذلك قال إني لن أناقشه لأنه ابن حضرة الميزرا.

Page 596

الجزء الخامس الهند، ۰۹۱ سورة الأنبياء وإني لا أدري بماذا كنت سأجيبه آنذاك لو دار النقاش بيني وبينه.بيد أني أرى الآن أنه مما لا شك فيه أن الإله يجب أن يكون كامل القوى، ولكن كونه كامل القوى يؤكد أنه من المحال أن يكون هناك أكثر من إله في وقت واحد.لقد حصل الحادث المذكور أعلاه في عام ۱۹۰۹م.وفي عام ١٩١١م كنت في مصيف دلهوزي.وكانت الكنيسة قد بنت هناك فيلات مريحة من أجل القسيسين الأوروبيين.وكان القسيس ينغسون مقيما هناك.وهو نفس القسيس الذي توطدت المسيحية على يده في منطقة سيالكوت، وكان قد عين فيما بعد في مكان بجنوب وكان قد جاء إلى دلهوزي لقضاء فصل الصيف.وكان هذا القسيس "المسن الشاب" يتجول هناك في الأسواق في كل مساء حاملاً منشورات ضد الإسلام يوزعها على المسلمين لا شك أن المسلمين اليوم لا يعملون بدينهم، ولكنهم يبدون الحماس لدينهم بسرعة، خاصة غير المثقفين منهم.فتحمس المسلمون في مدينة دلهوزي وفي معسكر "بيلون" الواقع قريبا من دلهوزي، وقالوا لا بد من عقد مناظرة بين هذا القسيس وأحد علماء المسلمين.وكان الإمام في جامع معسكر "بيلون" أحد المشايخ الكشميريين، وكان يعرف أنني موجود في دلهوزي.فلما ذهب إليه المسلمون قال لهم: لقد سمعت أن ابن حضرة الميزرا قد جاء هنا، فاذهبوا به للمناظرة، لأن القاديانيين يجيدون النقاش مع المسيحيين.ولم يكن عندي خبرة بمثل هذه المناظرات، ولكن لما جاءني وفد المسلمين لم أجد بدا من الإذعان لطلبهم، ورضيتُ بالمناظرة.فوصلنا إلى "الفيلا" التي يقيم فيها القسيس في صورة وفد مكون بضعة أفراد.فبادءني القسيس بسؤاله: ما هي ديانتك؟ فألقى الله في قلبي فورًا أن القسيس إنما وجه هذا السؤال ليهرب من مواجهة أسئلتي، ويطعن في الإسلام.فقلت له: ما لك ولديني؟ إنك إنما جئت هنا لنشر المسيحية، فعليك أن تشرح لي من نظرية الآلهة الثلاثة، فلو نجحت في ذلك لتبعتك أيا كان فبدأ في أول أمره ديني.يتحايل ويماطل ولكنه لم يجد بدا من قبول اقتراحى في النهاية.فبدأت الحديث كالآتي:

Page 597

الجزء الخامس ۵۹۲ سورة الأنبياء أخبرني حضرة القسيس، هل الإله الآب كامل أم ناقص؟ فإذا كان ناقصا فلا يمكن أن يكون إلها.وكذلك هل الروح القدس كامل أم ناقص؟ فإذا كان ناقصا فلا يمكن أن يكون هو الآخر إلها.وكذلك هل كان الابن – الأقنوم الثالث – إها كاملاً أم ناقصاً؟ فإذا كان ناقصاً فلا يمكن أن يكون أيضًا إلها.فاتفق القسيس معي على أقوالي هذه الثلاثة ؟ ثم سألته : هل كان الإله الآب يملك القدرة الكاملة على خلق السماوات والأرض أم كان بحاجة إلى مساعدة أحد؟ وبطبيعة الحال ما كان للقسيس أن يقول- بسبب ما قلت له من قبل – أن الإله الآب كان بحاجة إلى مساعدة من أحد.ثم سألته : هل كان الروح القدس يملك القدرة الكاملة على خلق الكون كله أم كان بحاجة إلى مساعدة أحد؟ قال: كلا، إنه كان يملك القدرة كلها.ثم سألته: هل كان الإله الابن يملك القدرة الكاملة على خلق الكون كله أم كان بحاجة إلى مساعدة أحد؟ قال : لا ، إنه كان يملك القدرة كلها فقلت: إذا، فإن المشكلة، يا حضرة القسيس، قد حلّت تماما.قال: كيف؟ فأخذت قلم رصاص من على طاولته، ووضعته قريبًا منه وقلت: حضرة القسيس، هل أنت قادر على رفع هذا القلم ونقله إلى مكان آخر؟ قال: طبعًا.قلت: هل أنا قادر على ذلك؟ قال: نعم.ثم أشرت إلى شخص آخر وقلت: هل هو قادر على ذلك؟ قال: نعم.قلت: إذا كان كل واحد من ثلاثتنا قادرًا على نقل القلم إلى مكان آخر، ومع ذلك لو بدأنا نصرخ ونقول : يا طباخ تعال هنا ويا خادم تعال هنا، وإذا حضرا قلنا: هلما ننقل معا هذا القلم إلى هناك، فماذا سيكون ظنهما بنا؟ ألا يعتبراننا مجانين؟ قال القسيس: ماذا تعني من ذلك؟ قلت: أرجوك أن تجيبني على سؤالي هذا فقط؟ قال: سیعد اننا من المجانين.فقلت: ما دام كل واحد من الإله الآب والإله الابن والإله الروح القدس قادرًا بمفرده على خلق الكون، ومع ذلك يدعو بعضهم بعضا للقيام بهذا العمل، أفلا نعدّ الإله الذي يدعو الإلهين الآخرين لمساعدته في هذا العمل مجنونا، بل أفلا يعده هذان الإلهان المدعوان لهذا العمل مجنونا؟ وكون المجنون إها نعم،

Page 598

الجزء الخامس ۵۹۳ سورة الأنبياء محال.فإنه حينما يُعَدّ مجنونا لن يعود إلها، أو أن مثل هؤلاء المجانين سيعيثون في الكون الفساد ويدمرونه نهائيًا.أن هذا هو الجواب الذي كان جديرا بأن يتلقاه ذلك الشيخ السندي.ولكنه رفض يناقشني آنذاك.والحق أنه لو كان هناك آلهة أي ذوات كاملة القوى، ومع ذلك يديرون جميعًا الكون معًا في حين أن كل واحد منهم قادر بمفرده على إدارته، فهذا دليل على جنونهم، وبالتالي لا يعودون آلهة أو لا بد من الاعتراف على الأقل بأن هؤلاء المجانين سيدمرون الكون.إذا فإن هذه الآية حق وصدق، ولا اعتراض عليها.إذ الاعتراض عليها إنما يدل على منطقهم الناقص فحسب.أما قوله تعالى فسبحان الله ربِّ العرش عما يصفون فقد بين الله تعالى فيه أن هؤلاء لو كان يعقلون حقا لوجدوا أن دليلنا السابق يبلغ من القوة بحيث لا يملكون إزاءه إلا الاعتراف بأن رب العرش، أي حاكم الكون، منزه عن كل عيب وأنه واحد لا شريك له الله.لَا يُسْتَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْتَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ وَالِهَةٌ قُلْ ٢٤ قلے هَاتُوا بُرْهَنَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (3) شرح الكلمات: ذكر: الذكر: الثناء؛ الشرف؛ الكتاب فيه تفصيل الدين ووضع الملل.والذكر من القول: الصلب المتين (الأقرب).التفسير : فبما أن الله تعالى هو المالك الوحيد فلا يحق لأحد أن يحاسبه.وكل من سواه عرضة للسؤال والحساب أمام غيره، وهذا دليل على ضعفهم ونقصهم.واتخاذ مثل هؤلاء الذين هم ناقصو عقل وقوة آلهة من دون الله يُعد في حد ذاته

Page 599

الجزء الخامس ٥٩٤ سورة الأنبياء مهزلة لا تليق بالقبول.إن قولهم هذا مقبول بصورة واحدة فقط وهي أن يشهد الله على ذلك، ولكنهم لن يستطيعوا أن يقدموا شهادة من الله تعالى على ما يقولون.ثم يقول الله تعالى انظروا إلى هذا القرآن فإنه سبب شرف للمؤمنين بمحمد رسول الله ، كما أنه دليل على شرف الذين خلوا من قبله.فلولا محمد رسول الله ﷺ وأتباعه ذوو الشرف الرفيع لما كان هناك دليل على شرف الأنبياء السابقين وأتباعهم.فإن القرآن الكريم أعلن وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: ٢٥).ولم يقل القرآن كما قال المسيح ال بحسب الإنجيل: "جميع الذين أتوا قبلي سُرّاق ولصوص" (يوحنا (۱۰) (۸) وذلك لأنه ما كان بوسع المسيح أن يشير إلى ميزة عملية وواضحة توجد فيه أو في حوارييه كدليل على أفضليته على غيره فلم يكن عنده سبيل لإثبات شرفه وشرف أتباعه إلا أن يعدّ موسى وإرميا وحزقيال وإلياس سراقًا ولصوصا، ليظن الناس أن الأنبياء السابقين كانوا سراقا ولصوصا، ولكن عيسى وأصحابه ليسوا كذلك، لذا فهم أفضل من السابقين.أما محمد رسول الله ﷺ فإنه عوضًا أن الأنبياء السابقين سراقا يسمي ولصوصا قد عدّهم أصحاب الأخلاق السامية واعترف أنهم كانوا من المقربين المحبوبين لدى الله تعالى؛ فكان لا بد للنبي ، والحال هذه، أن يثبت عمليا أنه خلقًا وأكثر منهم قربا لدى الله تعالى، وإلا لما تحقق دعواه.فثبت أن عن أحسن منهم الأسلوب الاستدلالي الذي اتبعه القرآن الكريم ليس أصعب فحسب، بل هو أفضل أيضًا.أما المسيحية فاتبعت طريقًا أسهل والفرق بين الإنجيل والقرآن هو أن الإنجيل يقول إن المسيح أفضل من السراق، لأن الأنبياء السابقين كانوا لصوصا، بينما يعلن القرآن أن محمدا رسول الله له أفضل من جميع أحباء الله السابقين، وأحسن أسوة من جميع الذين قدموا أسوة مثالية.فالقرآن الكريم لا يدعي أن محمدًا رسول الله ﷺ سيد اللصوص، بل يدعي أنه سيد المقربين المحبوبين لدى الله تعالى.وإن سيد المحبوبين لدى الله تعالى خير من سيد السارقين يقينًا، كما أن الذي يعد الأنبياء السابقين سراقا ولصوصاً لا بد أن يكون أدنى درجة من الذي يعترف بفضلهم ويُثبت عمليًّا أفضليته عليهم.صلى الله عليه وسلم.

Page 600

الجزء الخامس ٥٩٥ سورة الأنبياء ثم يقول الله تعالى بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ فهم معرضون..أي أن قضية أفضلية القرآن والإسلام كانت واضحة تمامًا، ولكن الذين لا يسعون أن يعرفوا الحقيقة فهم يعرضون.وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (3) ٢٦ التفسير أي يا محمد إن جميع الرسل الذين خلوا من قبلك كانوا بشرًا أيضًا، فليس في كونك بشرًا أي إهانة لك.وهؤلاء الرسل من قبلك لا يمكن إلا أن يكونوا بشرا، إذ لا إله إلا الله وحده.لقد تبين من هذه الآية أن المهمة المشتركة بين الأنبياء كلهم هي نشر التوحيد، سواء أبعث نبي منهم في الهند التي كانت بؤرة الوثنية وعبادة الأصنام في يوم من الأيام، أو ولد في مصر التي كان أهلها يعتبرون الإنسان إلها، أو ظهر في إيران التي كانت مركزا لعبدة النار، أو جاء في "أُور" الكلدانيين التي كانت مكتظة بالأصنام، أو أتى في مكة المكرمة التي ملأ أهلها حتى بيت الله بالأوثان.بيد أنك لو قارنت بين حياة الأنبياء العظام وحياة رسولنا الكريم لوجدته منقطع النظير في قضائه على الشرك وأيضًا فيما تحمله في سبيل نشر التوحيد من شدائد وقدمه من تضحيات.لقد كان التوحيد قد اندثر تمامًا في العصر الذي بعث فيه الرسول.فقد ورد حتى في كتب الهندوس أيضًا أن الفساد كان قد عم الدنيا كلها حينذاك ستيارث بركاش أردو) ص.(٤٣٤.كما جاء في كتب النصارى أيضا أن الشرك كان شائعًا في كل مكان في ذلك العصر (حياة محمد لـ "وليام موير"، المقدمة قال المستشرقين أن السبب الحقيقي وراء انتشار الإسلام ورقيه إنما هو أن الأمة المسيحية نفسها كانت قد فسدت وأن المسيحيين دخلوا في الإسلام نتيجة التوحيد الذي دعا إليه.وهذا ما يؤكده الزرادشتيون أيضًا بأن أتباع زرادشت كانوا قد انحرفوا عن التوحيد آنذاك، فأعجبوا بالتوحيد الذي قدمه لهم المسلمون فدخلوا في ص.حتى

Page 601

الجزء الخامس ٥٩٦ سورة الأنبياء الإسلام.إذا فإن كتب كل الديانات تؤكد أن الشرك كان منتشرا في العالم كله في تلك الأيام، ولم يبق للتوحيد أثر في الدنيا.وبالرغم أن رسولنا الكريم لقد ولد في ذلك العصر، وفي ذلك المكان الذي لم يعرف التوحيد تماما، وفي قوم لم يكن لهم أي دين – حيث كانوا ينكرون أن يكون الفيدا أو التوراة أو الزند أفستا من وحي الله تعالى - إلا أنه قد علّم التوحيد بشكل كامل ورائع بحيث إن معارضيه أيضًا يعترفون اليوم بهذه الحقيقة.إن النبي لم يدع العالم إلى الإيمان بالتوحيد فحسب، بل علمهم أيضًا عمليا كيف يؤمنون به.إنه لم ينههم عن الشرك فحسب، بل علمهم فعلاً كيف يتجنبونه.ثم إنه لم يدعُ إلى التوحيد فحسب، بل قدّم البراهين على التوحيد ثم قال للقوم: خذوا هذا التوحيد.إنه لم يكتف بقوله للناس لا تشركوا، بل كرّه إليهم الشرك بكشف شناعة الشرك بالأدلة والبراهين.لقد فنّد الله تعالى في القرآن الكريم الشرك بأسلوب بلغ من اللطافة والشفافية الغاية، فقال قُلْ هو الله أحد " الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ويكن له كفوا فقد ذكر الله تعالى في هذه السورة القصيرة التي تسمى سورة الإخلاص أربع أنواع للشرك وذكر الردَّ عليها.فقال تعالى إنكم في أفكار شتى حول وجود البارئ تعالى، وتخترعون نظريات متنوعة، وتقدمون فلسفات مختلفة وأقوالاً عديدة، وتتصورون عن الله تعالى تصورات مختلفة.في حين أن النقطة المركزية للأمر الذي هو الأمر اليقين عن الله تعالى إنما هي أن ذات البارئ واحد أحد من كل النواحي.فإنه تعالى ليس الحلقة الأولى لأحد، ولا الطرف الأخير لأحد.إنه لا يشبه أحدا، ولا أحد يشبهه.لذا فلو جعلتم أحدًا مماثلاً لله تعالى لكنتم من المعتدين على وحدانيته الله * ثم من أنواع الشرك أيضًا اعتبار أحد شريكا مع الله تعالى من حيث الصفات، وقد رد الله على ذلك بقوله الله الصمد، موضحًا أن الصمدية لا توجد إلا في ذات البارئ تعالى، فلن ينفع الابتعاد عن بابه أحدًا إن كل من يسد حاجتكم أيضا محتاج إلي.فلم تفرّون وراء الكأس تاركين النبع.

Page 602

الجزء الخامس ۵۹۷ سورة الأنبياء ثم يقول تعالى لم يلد ولم يولد..أي تذكروا أيضا أن الله تعالى موجود منذ الأزل وسيظل موجودًا إلى الأبد.إنه لم يلد أحدًا حتى يأخذ ابنه مكانه، كما ليس له أب قد ورث منه قواه وبتعبير آخر، إن الله تعالى كان صمدًا من قبل، وهو صمد الآن، وسيظل صمدًا في المستقبل أيضا؛ فبه استعينوا دائما.ثم يقول تعالى ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ)..بمعنى ليس بوسع أي مخلوق أن كفوا أي شريكًا الله تعالى.إن الله تعالى عظيم ورفيع بحيث إن الإنسان مهما علا درجة سيظل على الدوام عبدا الله ومحتاجًا إليه عل.هذا هو التوحيد الذي يقدمه الإسلام، والذي بدونه يستحيل أن يتقدس الإنسان ويتطهر في رأي الإسلام.يصبح ويقول الله تعالى في مكان آخر في القرآن مركزا على التوحيد: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم لـه ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يَؤوده حفظهما وهو العلي العظيم (البقرة: ٢٥٦).لقد بين الله تعالى هنا أن لا معبود سواه.إنه تعالى بحد ذاته كما أنه هو المحافظ على حياة ما سواه.حي على الدوام، لا تأخذه سنة ولا نوم..أي لا يصيبه وسن ولا نوم، بمعنى أنه لا انقطاع ولا تعطل في أفعاله أبدًا.له ما في السماوات وما في الأرض..أي هو المالك المتصرف في كل ما هو في الكون.من الله بنفسه ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه..أي لا شك أنه تعالى يستجيب الدعاء، ولكن لا يظنن أحد أن بوسعه أن يفرض رأيه على الله تعالى.إذا سمح لأحد بالشفاعة لغيره فيمكنه أن يسأل الله تعالى شيئا وإلا فلا.

Page 603

الجزء الخامس يعني ۵۹۸ سورة الأنبياء يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم..أي عنده علم ما كان وما يكون.وهذا أن التوحيد يستلزم العلم الكامل، إذ لا يكون التصرف الكامل بدون العلم الكامل.فلا بد إذا من الإيمان بأن الله تعالى عنده العلم الكامل.ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء..أي ليس بوسع إنسان أن يعلم بدون ما يهبه الله تعالى له من علمه فعلى الإنسان أن يدرك دائما أن كل ما يتيسر له إنما يتيسر من كرسيه السماوات والأرضَ ولا يؤوده حفظهما..أي أن كل ذرة شيئا عند الله تعالى.تتحرك في الكون إنما تتحرك بتصرف الله تعالى.ولا يحدث تعطل في حفظه للسماوات والأرض، بل تستمر حمايته لهما كل حين.وهو العلي العظيم..أي بالرغم من أن قدرته تتجلى في كل ذرة في الكون إلا أنه يبلغ من العلو بحيث لا يستطيع أحد أن يدرك كنهه وحقيقته.ولكنه تعالى العظيم أيضًا..بمعنى أنه جلي من يسعى أن يجده يحظى بوصاله.خلاله قدرته بحيث إن كل من وباختصار إن الرسول الكريم الله أخبر الدنيا بأن التوحيد الكامل هو أن يتم الاتحاد والوصال بالله تعالى بشكل تام.وإذا حظى أحد بوصال الله تعالى أمكن القول إنه قد حقق غاية خلقه.هذا هو التوحيد الذي قدمه الرسول ، مبينا أن فلاحكم إنما هو أن تحظوا بوصال الله تعالى في هذه الدنيا، وأن لا يقع بصركم إلا على الله تعالى.لقد رفض أهل الدنيا رسالته هذه، وقاوموه بشدة.لقد أذاقوه أشد ألوان الأذى، ووضعوا في طريقه العراقيل الكبرى، ولكنه قد تلقى كل مصيبة في سبيل إعلاء اسم الله الواحد الأحد بترحاب وتحمل كل أذى بابتسامة و لم يلجأ إلى المداهنة أو النفاق حتى في أحلك الظروف.ففي غزوة أحد لما انقلب نصر المسلمين إلى الهزيمة من جراء خطأ بعض منهم وشتتهم الكفار بشن هجوم مفاجئ من خلفهم، حتى إن الرسول ﷺ نفسه سقط في حفرة لشدة هجوم العدو، وشاع بين القوم أنه قد استشهد.فضاقت الأرض والسماوات على المسلمين بما رحبت، ولكنهم علموا

Page 604

الجزء الخامس ۵۹۹ سورة الأنبياء بعد قليل أن رسول الله ﷺ حي.فأخرجه بعض الصحابة من تحت جثث الشهداء، وأخذوا يتجمعون حوله كلما عرفوا بحقيقة الأمر.ولكنهم كانوا قليلين جدا، فأخذهم الرسول الله إلى سفح الجبل.عندها نادى أبو سفيان المسلمين في غطرسة وكبرياء وقال أين محمد (ﷺ)، أيها المسلمون؟ ها قد قتلناه.فهم الصحابة بالرد عليه، ولكن النبي الله منعهم من ذلك.فنادى أبو سفيان وقال: أين أبو بكر؟ فأراد الصحابة أن يردوا عليه، ولكن النبي نهاهم أيضًا.فقال أبو سفيان في ذروة حماسه: أين عمر؟ فهم عمرُ بأن يرد عليه قائلا: ها أنا موجود هنا لأحزّ رأسك، ولكن النبي ﷺ قال لــه: لا تتكلم.والواقع أن أبا سفيان كان يريد بذلك أن يتأكد من موت هؤلاء، كما تشاع في هذا العصر أيضًا في الجرائد أخبار أيام الحرب بهدف الاستطلاع فقط.فينشرون مثلاً بأن القائد الفلاني قد وقع أسيرًا في أيديهم، أو أن السفينة الفلانية قد أُغرقت.ولكن الحكومة الأخرى تلزم الصمت ولا تفنّد هذه الأخبار حتى لا يطلع الخصم على المعلومات الحقيقية.وكان هذا هو هدف أبو سفيان برفع هذه الهتافات، ولكنه لما لم يتلق أي رد من قبل المسلمين ظن أن هؤلاء قد قتلوا، فرفع هتافه الوثني من فورة الحماس فقال : اُعْلُ هُبَلُ، اُعْلُ هُبَلُ.أي العظمة لصنمنا "هُبَلُ"، الذي ألحق الهزيمة بالمسلمين.وبما أن النبي ﷺ كان قد نهى الصحابة مرارًا عن الرد فلزموا الصمت هذه المرة ،أيضًا، فقال لهم النبي ﷺ في حماس شديد لم لا تردّون عليه؟ قالوا: يا رسول الله، بماذا نردّ عليه؟ قال قولوا: الله أعلى وأجل.أي ما هي قيمة صنمك هُبل؟ إن الله هو الأعلى والأقوى من كل شيء.(البخاري، كتاب المغازي، ودلائل النبوة للبيهقي، المجلد 3، ذكر قوله تعالى: ولقد صدقكم الله وعده).فترى كيف أن الرسول ﷺ سكت على إعلان العدو بموته وموت صحابته، ولكن عندما مس الأمر بتوحيد الله تعالى فلم يفكر الله أنه وأصحابه قلة وأن العدو قد يصيبه بضرر، بل أمر أصحابه بأن يردّوا على هتافهم ويقولوا إن صنمك هبل لا يساوي شيئًا إزاء الله تعالى.

Page 605

الجزء الخامس ٦٠ سورة الأنبياء ثم فكرْ في حادث آخر حين حضر كبراء القوم أبا طالب وقالوا له عليك أن تكف ابن أخيك من عيب آلهتنا وإلا حرمناك من الرياسة فدعا أبو طالب النبي ﷺ ورجاه أن يلين موقفه تجاه أصنامهم ، ولكنه الا الله قال يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري لما امتنعت عن إعلان التوحيد.يا عم، ان كان قومك أعز عليك فاتركني إن شئت وكن معهم، فإن الله يكفيني.(السيرة النبوية لابن هشام: المجلد الأول، استمرار رسول الله ﷺ في دعوته) قصارى القول إن كل حدث من حياة النبي ﷺ لبرهان ساطع على أنه لم يكن في قلبه أي أمنية إلا أن ينمحي الشرك وينتشر التوحيد في العالم كله.ثم ورد في الحديث أنه لما اقترب أجله كان يتقلب يمينا وشمالاً في قلق اضطراب ويقول: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (البخاري: كتاب المغازي، باب مرض النبي.هذه آخر وصية أوصى بها النبي ﷺ أمته، حذرهم بكلمات صريحة: ألا تنسوا أبدا أني لست إلا بشرا، فلا تعتبروا قبري أكثر من أي قبر آخر.دَعُوا أمم الأنبياء الآخرين يسجدون لقبورهم ويقدمون عليها القرابين، أما أنتم فلا تسجدوا إلا على عتبة الله الواحد الأحد، واتخذوه هو ملجأ ومأوى لكم.ثم إن آخر الكلمات التي كانت على لسان محمد رسول الله ﷺ وهو في غرغرة الموت إنما هي قوله إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى" (المرجع السابق)..أي أنني ذاهب إلى رفيقي الكريم المستوي على العرش الأعلى.هذا آخر ما تلفظ به حيث فارقت روحه جسده الأطهر بعد ذلك، فلحق ربه الله النبي إذا فإن النبي ﷺ قد جلى توحيد البارئ وجلاله عند كل خطوة وعند كل نفس، وبرهن على حبه وعشقه لله تعالى، بما لا نجد له نظيرا في حياة أي نبي في العالم أبدًا.

Page 606

الجزء الخامس ٦٠١ سورة الأنبياء وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَنَهُ، بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ) شرح الكلمات : سبحانه: "سبحان الله"..أي أبرئ الله من السُّوء براءة (الأقرب).فقوله تعالى سبحانه يعني أني أبرئ الله تعالى من أن يتخذ ولدًا.التفسير : يخبر الله هنا أن هؤلاء يكذبون حين يقولون أن الرحمن قد اتخذ لـه ولدًا فَتَدبَّروا في أحوال الأنبياء السابقين جميعًا فستجدون أنهم لم يقولوا إلا إنما نحن بشر، والفرق الوحيد أن الله تعالى قد وهب لنا العزة.فإن المسيح الي الذي ابنا الله تعالى كان نفسه دائما ابن الإنسان متى :۱۲: ۸).فإذا كان ابن الله يسمي حقا، ومع يسمي يعني اتخذ ذلك كان نفسه ابن الإنسان، أفلا ذلك- والعياذ بالله – أنه كان ينسب نفسه إلى غير أبيه؟ فما أشنعها تهمةً يرمي بها المسيحيون عبدا من عباد الله المكرمين.لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (3) شرح الكلمات : لا يسبقونه: سبقه : تقدَّمه وجازه وخلّفه (الأقرب).۲۸ التفسير: أي أن عباد الله الأبرار لا يتفوهون بما لم يقل لهم ربهم، ولا يبرحون مطيعين له على الدوام.فكيف يمكن والحال هذه، أن يكونوا آلهة؟ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (5) شرح الكلمات : مشفقون: أشفق الشيء: خاف وحاذَرَ (الأقرب).

Page 607

الجزء الخامس ٦٠٢ سورة الأنبياء التفسير: أي أن الله تعالى مطلع على أحوال عباده كلها.إنه تعالى يعلم ما قد فعلوا وما لم يفعلوا أيضًا، وأنهم لا حق لهم بالشفاعة إلا بشرط، وإنما تتم الشفاعة في حق من يأذن له الله تعالى.هكذا فالغفران يظل في يد الله على كل حال.وقد ورد في العهد القديم أيضًا: "إذا أخطأ إنسان إلى إنسان يدينه الله، فإن أخطأ إنسان إلى الرب فمن يصلّي* من أجله." (صموئيل الأول ٢ ٢٥).كذلك ورد في مكان آخر: "وأنت فلا تصل * لأجل هذا الشعب، ولا ترفع لأجلهم دعاءً ولا صلاةٌ ولا تلح عليّ، لأني لا أسمعك." (إرمياء ٧ :١٦) فثبت أن الغفران ليس بيد إنسان، بل هو بيد الله تعالى وحده.وَمَن يَقُل مِنْهُمْ إِنّى إِلَهُ مِن دُونِهِ، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَلِكَ تَجْزِي الظَّالِمِينَ ) التفسير: يبين الله تعالى هنا أن ادعاء الإنسان بكونه إلها بين البطلان، ولذلك لا يعاقب مدعي الألوهية في الدنيا بل يعاقب في الآخرة، في حين أن المفتري أو المكذب ينال عقابه في هذه الدنيا نفسها.ولذلك يقول الله تعالى هنا كذلك نجزي الظالمين..أي أننا نعاقب الذين يرتكبون ظلم ادعاء الألوهية في الآخرة.هذه الآية تمثل ردًّا على الذين يقولون إن فلانًا كان يدعي الألوهية فلم لم في هذه الدنيا؟ ذلك لأن الله تعالى قد وعد بعقاب من يدعي النبوة كذبًا وافتراء في هذه الدنيا.قال الله تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل يتعرض لأخذنا لعقاب الله منه باليمين * ثم ثم لقطعنا منه * الوتين ) (الحاقة: ٤٥ - ٤٧)..أي أنه حتى هذا الرسول لو افترى علينا وعزا إلينا قولا اختلقه عنده، لأخذناه من من يده اليمنى ولقطعنا شريان حياته..أي لدمرناه تدميرًا.أما مدعى الألوهية فيقول الله تعالى * ورد هنا في الطبعة الأردية ما تعريبه : فمَن يشفع له" (المترجم).ورد هنا في الطبعة الأردية ما تعريبه: "لا تشفع" (المترجم).

Page 608

الجزء الخامس ٦٠٣ سورة الأنبياء بشأنه فذلك نجزيه جهنّم..أي لا حاجة لعقابه في هذه الدنيا ، وإنما نلقيه في الجحيم في الآخرة والحكمة في ذلك أن المتنبئ الكذاب يكون إنسانًا مثل الأنبياء الصادقين، ومن الممكن أن يشتبه أمره على الناس فيظنوا أنه صادق، لذا فمست الحاجة لعقابه على الفور لينكشف الحق على الناس.أما مدعى الألوهية فيأكل ويشرب وينام وكل هذه الأمور منافية للألوهية، فلا ينخدع من ادعائه إلا الأحمق جدا؛ وبالتالي لا داعي لعقاب هذا المدعي في الدنيا كشفا لخداعه وزيفه، وإنما يكفيه العقاب في الآخرة.ومن أجل ذلك نجد أن "بهاء الله" وغيره ممن ادعوا الألوهية لم ينالوا العقاب في هذه الدنيا، بل سيعاقبون في الآخرة، لأن دعواهم بالألوهية باطل بالبداهة.الغبي هناك حكاية من قبيل الطرائف فحسب، غير أني أسجلها فيما يلي إذ تنكشف بها الحقيقة تماما.يحكى أن أحد الدراويش الفقراء ادعى الألوهية، وجمع حوله بعض المريدين الذين كانوا يلتفون حوله كل حين.وكان هؤلاء يذهبون إلى المدينة بالتناوب للتسول، ثم يرجعون ويتمتعون مع إلههم بما لذ وطاب من الطعام.وكان هناك في جوارهم فلاح مؤمن، فكان يستشيط من هذا الإله غضبًا، ولكنه كان لا يستطيع أن يضره لوجود المريدين حوله.فلم يزل يتحين الفرصة دائما، حتى وجدها فذات يوم ربما فكر المريدون أن يذهبوا بعيدًا فذهبوا جميعًا تاركين إلههم وحيدا وراءهم.فدخل الفلاح على الدرويش وجلس أمامه بكل أدب.ثم هب فجأة وأخذه من عنقه، ثم لطمه بشدة وقال: ألست أنت الذي أمات أبي؟ وها قد وقعت اليوم في قبضتي.ثم وجّه إليه صفعة أخرى قائلاً: ألست أنت الذي أمات أمي؟ ثم لطمه لطمة ثالثة قوية وقال ألست أنت الذي أمات ابني فلانا؟ ثم لطمه أيضًا وقال: ألست أنت الذي أمات ابني الآخر أيضًا؟ فلم يزل الفلاح يذكر أقاربه الموتى ويضرب الدرويش ويوجه إليه في كل مرة صفعات قوية لها دوي، ويقول كنت في انتظارك منذ عشرين سنة، ووقعت اليوم في قبضتي، فلن أخلي سبيلك أبدًا.وأخيرًا

Page 609

الجزء الخامس ٦٠٤ سورة الأنبياء خر الدرويش على قدمي الفلاح من شدة الخوف، وقال: ها إني أتوب أمامك، فإني لست باله.أهلكهم فترى كيف افتضح مدعي الألوهية بسرعة.ولكنه لو كان مدعي النبوة كذبًا، لأجاب للفلاح عند كل لطمة: إنما أنا رسول بشر، فأنى لي أن أهلك أقاربك؟ إنما الله تعالى.بل لربما قال له: إن الأنبياء السابقين أيضا قد أُوذوا على أيدي الناس من قبل، وإنك بإيذائي إنما تؤكد صدق ادعائي.فالحق أن الله تعالى هو الذي يكشف كذب المتنبئ الكذاب، فيُهلك بالآيات السماوية بسرعة، أما مدعي الألوهية فلا داعي لإهلاكه بآيات السماء، لأنه كلما أكل وشرب تبين أنه ليس بإله وكلما نام أو ذهب ليتبول ويتغوط تبين أنه ليس باله.وحين يتزوج وينجب الأولاد ثبت أنه ليس بإله ولن يؤمن بألوهيته في زمنه إلا الأحمق أو الحمار كما فعل أتباع "بهاء الله".أما بعد موته فيفتضح من خلال تعليمه أو على يد المأمور الذي يُبعث من عند الله تعالى، مثلما حصل بالمسيح ال حيث إن أقواله وكذلك تاريخ حياته تبطل ألوهيته.أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيْ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) شرح الكلمات: = صلے رَتْقًا: رتَقه رَتْقًا: سدَّه وأغلقه ضدُّ فتقه (الأقرب).والرتق الضم والالتحامُ، قال تعالى كانتا رَتْقًا ففتقناهما : منضمتين.(المفردات) ففتقناهما : فتق الشيء: شقه وهو ضدُّ رَتَقَه.وفتق الثوب: نقض خياطته حتى فصل بعضه من بعض (الأقرب).التفسير : أي ألا يعلم الكافرون أن السماوات والأرض كانتا ملتحمتين بعضهما مع بعض، فشققناهما وفصلنا الواحد عن الآخر.

Page 610

الجزء الخامس ٦٠٥ سورة الأنبياء أن ولقد بين الله تعالى هنا حقيقة لم يكن الناس يعلمونها قبل هذا القرن، وهي كل كرة فلكية تتكون كالآتي: تتجمع كومة هائلة من الذرات في الفضاء، ثم تتقلص شيئا فشيئا، وعندما تنكمش الذرات في هذه الكومة أكثر تأخذ في الدوران، فتنفصل بعض أجزائها من أطرافها وتسقط بعيدا، وهكذا تتكون النظم الفلكية التي منها نظامنا الشمسي الذي تقع فيه كرتنا الأرضية.إن النظريات التي قدمها العلماء حتى اليوم حول تكون النظام الشمسي كلها تجمع تقريبا على أن كرتنا الأرضية كانت قبل شكلها الحالي جزءاً من الشمس أو من كرة مماثلة للشمس.إن النظرية الأخيرة التي قدمها "فريد هامل" (من جامعة کیمبرج) تقول إن تلك الكرة المماثلة للشمس كانت زميلة لها، وعندما انفجرت هذه الكرة تشكلت كواكبنا، حتى أخذت أرضنا شكلها الحالي المنفصل.ثم تولد في الأرض بخار الماء، ثم من الماء وُجدت الحياة.(The Nature of the Universe p.69-93 & The University Surveyed p.94-109 ) فالله تعالى يشير هنا إلى هذه الحقائق نفسها ويقول هلا يؤمنون رغم رؤية هذه الظاهرة؟ عليهم أن يفكروا لم تستمر عملية الخلق هذه مرة بعد أخرى؟ لماذا ينزل الماء من السحب لخلق الحياة؟ إن تكرار عملية الخلق في الكون ونزول الماء من السحب وظهور الحياة منه، كل ذلك يشكل دليلاً على أن هذا الكون لم يُخلق بدون غاية، بل خُلق لهدف عظيم، ولتحقيق تلك الغاية لا بد أيضا من نزول الماء الروحاني من السماء، لكي يتزود به الناس من كل الشرائح لاستمرار حياتهم الروحانية.وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) ۳۲ شرح الكلمات : رواسي: الرواسي: الجبالُ الثوابت الرواسخ (الأقرب).

Page 611

الجزء الخامس ٦٠٦ سورة الأنبياء تميد : مادَ الشيءُ يميد: تحرّك وزاغَ ومادت به الأرض: دارت (الأقرب).والميد: اضطراب الشيء العظيم كاضطراب الأرض.ومادني يميدني أي أطعمني.(المفردات) فجاجًا: جمعُ الفَجِّ، وهو الطريق الواسع الواضح بين جبلين (الأقرب).التفسير: أي لقد جعلنا في الأرض جبالاً لكي لا تضطرب بالناس وتدمر.بمعنى أن الهدف من خلق الجبال أن تظل الأرض متينة ثابتة على توازنها.ذلك أن علم طبقات الأرض تؤكد أن الأرض لا تزال ساخنة من داخلها، وإن كانت الآن أقل حرارة مما كانت عليه في بداية خلقها.إن حرارة الأرض عندما أذابت ما بداخلها من الصخور نتيجة شتى التقلبات تولدت في باطن الأرض غازات كثيرة حاولت الخروج إلى سطح الأرض نتيجة الضغط الداخلي، مما أدى إلى الزلازل وانفجار البراكين وتكون الجبال.كما أن توازن القشرة الأرضية أيضا يلعب دورًا في تكون الجبال، وهكذا فإن الجبال تسبب في توازن سطح الأرض أيضا، وتحول دون أن تتسبب التقلبات العادية الحاصلة داخل الأرض في إحداث تغير هائل فوق سطح الأرض، اللهم إلا التغيرات الاستثنائية التي قد تقع على الأرض كالكارثة.ووقوع مثل هذه التغيرات الاستثنائية ثابت من تاريخ كرتنا الظاهر من خلال الآثار الموجودة على سطحها.إذا فالجبال تحمي الأرض من الاضطراب والزلازل، كما أن بعضا منها يكشف لنا، في شكل براكين منظرًا للقوى العاملة في باطن الأرض.(Marvels and Mysteries of science: crust of the Earth & Encyclopedia Britanica; geology) بذكر الجبال المادية ينبهنا الله تعالى إلى أن الحرارة المحبوسة داخل العالم الروحاني أيضا تجيش وتأتي على الدنيا بالدمار كما تدمر البراكين المادية، فنطفئ هذه النار بالماء الروحاني، فتظهر جبال ذوات خمائل خضراء..أي أولياء الله تعالى.ثم يقول الله تعالى (وجعلنا فيها فجاجًا سبلاً لعلهم يهتدون..أي أننا جعلنا بين هذه الجبال طرقا واسعة لكي يسير فيها الناس ويجلبوا شتى المنافع.ويتضح من

Page 612

الجزء الخامس ٦٠٧ سورة الأنبياء التاريخ القديم أن الجيوش قد انتقلت دائمًا عبر الطرق الجبلية.ذلك لأن معرفة الطرق في السهول صعب، ولكن معرفة الوديان والطرق التي خلقتها الطبيعة بين الجبال أمر سهل ولذلك تتنقل الشعوب النائية عبر تلك الطرق بسهولة من أرض إلى أرض.ينبهنا الله تعالى هنا إلى أنكم كما ترون هذا المنظر في العالم المادي، كذلك يسافر الناس في العالم الروحاني مهتدين بالجبال الروحانية وهكذا فإن العالم المادي والعالم الروحاني كلاهما جاريان جبنا إلى جنب.صلے وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءَايَتِهَا مُعْرِضُونَ )) التفسير: أي كما أن أجرام السماء تقوم من بعيد بحماية النظام الشمسي، كذلك فإن الذين ينزل عليهم الماء الروحاني من السماء يقومون بحماية النظام الروحاني، ومع ذلك لا يبالي الناس بذلك.وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَلِدُونَ (3) شرح الكلمات فَلَك: ليكن معلومًا أن الفَلَك غير السماء.الفلك في الحقيقة اسم لسعة النظام الشمسي، أي ذلك الفضاء الشاسع الذي تدور فيه أجرام النظام الشمسي.فقد ورد في أقرب الموارد الفَلَك مدارُ النجوم.وورد في المفردات: الفلك مجرى الكواكب.يسبحون: السَّبْح: المرُّ السريعُ في الماء والهواء (الأقرب).فقوله تعالى كلّ في فلك يسبحون..أي كل واحد من هذه الأجرام يمر في مداره بسرعة.

Page 613

الجزء الخامس ٦٠٨ سورة الأنبياء الخلد: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها.وكل ما يتباطأ عنه التغييرُ والفساد تصفه العرب بالخلود، كقولهم للأثافي خوالد، وذلك لطول مُكثها لا لدوام بقائها.(المفردات) التفسير : أي أن الليل والنهار والشمس والقمر كلها من خلق الله تعالى، وقد خُلق كل واحد منها لهدف وغاية فالليل والنهار والشمس والقمر كل واحد منها يسد بعض حاجات الإنسان وأن الشمس والقمر كليهما يجريان في مسار محدد..أي أن الإنسان سيظل بحاجة إلى الليل والنهار على الدوام، وسيتناوب الليل والنهار من خلال الشمس والقمر دائمًا.وبالمثل ستظهر الشمس الروحانية والقمر الروحاني دائما.إذا ماتت الشمس الروحانية طلع القمر الروحاني.ثم يخاطب الله الشمس الروحانية، أي محمدًا رسول الله، ويقول: ما دمت أنت ستموت هل سيظل الآخرون أحياء ؟ كلا، بل كل إنسان لا بد له من أن يذوق طعم الآخرة.بيد أن ربك الذي يميت لقادر على أن يخلق قمرًا روحانيا، فأين المجال لليأس للإسلام؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَابِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (2) التفسير : أي أن كل إنسان يأتي إلى هذه الدنيا قد ألزم الله به الموت، ولا أحد يوهب الحياة بدون حدود.ثم يقول الله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة..أي نختبركم بساعات النحوسة وساعات البركة.بمعنى أن من سنة الله تعالى أن يبتلي الناس بالخير تارة، و بالشر تارة أخرى..أي يبعث الله أنبياءه حينًا فيتيح للناس فرصة ليترقوا ويزدهروا بإذعانهم وطاعتهم لأنبيائهم، وأما في فترة الظلام حين ينقضي زمان طويل على بعثة الأنبياء فيتيح للناس الفرصة لكي يُعمل أولو الألباب والرؤية البعيدة منهم عقولهم، فيتبعوا التعليم الصحيح الموافق للفطرة، ساعين للحفاظ على سبيل الأنبياء أن من ينجرفوا في تيار الشر.هذان هما الطريقان اللذان يتم بهما اختبار الناس بدلا الله

Page 614

الجزء الخامس 7.9 سورة الأنبياء باستمرار، ومشيرا إلى سنته المستمرة هذه يقول الله تعالى إن القمر الروحاني يختفي ليضرب الظلام بأطنابه على العالم، ليطلع بعد ذلك قمر روحاني آخر.ثم قال الله تعالى (وإلينا تُرجعون...أي أن هدف كل قمر إنما هو أن يرجع بالناس إلى الله تعالى ثانية.وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَفِرُونَ (٤) شرح الكلمات : هُزُوًا : هزَاً منه هزءا: سخر منه (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى لنبيه إن الكافرين يسخرون منك دائما، ويقولون أهذا الذي ينبئ بهلاك الهتكم؟ إنهم لا يرون أنهم يحاولون محو ذكر الله الرحمن، بينما يسعى محمد رسول الله ﷺ للقضاء على المخلوقات التي اتخذها هؤلاء آلهة من دون الله تعالى، فهل في ذلك ما يدعو إلى الاستهزاء؟ وبتعبير آخر، إنهم ينكرون بأنفسهم الإله الحق، ولكن محمدا رسول الله لا إذا عاب آلهتهم الباطلة فيبدءون بالسخرية منه قائلين كيف يتجاسر على أن يذكر آلهتنا بالاحتقار.۳۸ خُلِقَ الْإِنسَنُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ التفسير: يبين الله تعالى هنا أن من دواعي احتقارهم لمحمد رسول الله أنهم يقولون لم لا ينزل العذاب بنا رغم معارضتنا له؟ فكأنهم يسخرون من محمد رسول الله له ويحتقرونه لتأخر العذاب عنهم، ويريدون أن ينزل بهم العذاب عاجلاً.

Page 615

الجزء الخامس خلق 71.سورة الأنبياء قال الله تعالى هنا خُلق الإنسان مِن عَجَلٍ، ولكن العجل ليس شيئًا ماديا منه الإنسان، إنما هذا تعبير من التعابير العربية حيث يقال "خُلق من كذا"، ولا يراد بذلك أن الشيء المشار مادة معينة وقد خُلق هذا الشخص منها في الحقيقة، بل المعنى أن ذلك الأمر من طبع هذا الشخص.وقد استخدم الله تعالى هذا التعبير في أماكن عديدة من القرآن فقال الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوةً ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة (الروم (٥٥).فهل الضعف شيء مادي خُلق منه الإنسان؟ كلا، إنما المراد أنه ضعيف بفطرته.وبالفعل ترى أن الوليد يكون ضعيفًا جدا بفطرته، ثم يكتسب القوة بالتدريج، ولكنه حين يبلغ سن الشيخوخة يعود إليه الضعف ثانية، فلا تعمل قواه.فقوله تعالى خلقكم من ضعف إشارة إلى ضعف قوى الوليد، وليس أنه يُخلق من مادة اسمها الضعف.كذلك ورد في القرآن الكريم أن إبليس قال الله تعالى خلقتني من نار وخلقته طين (ص: ۷۷).والمراد أنك يا رب خلقتني بطبع ناري وخلقت الإنسان بطبع طيني.بمعنى أنني أثور غضبًا إذا ما أمرني أحد بشيء، فلا يمكنني أن أطيع آدم في أي أمر.وقد ورد هذا التعبير في لغتنا الأردية أيضًا، فيقال إن فلانا نار، ولا يراد بذلك أن لهب النار تخرج من فمه، بل المعنى أنه يستشيط غضبًا إذا نصحه أحد.الإنجليزية يقال Fire Brand أي شخص شرير مثير لنيران القلاقل في كل مكان.وهذا التعبير نفسه قد ورد هنا في قوله تعالى خلق الإنسان من عجل..أي أن الإنسان مطبوع على الاستعجال والتسرع، حيث يود أن يتم كل شيء بعجلة، ولكن الله تعالى قد جعل لكل أمر موعدًا؛ لذلك قال تعالى بعد ذلك سأريكم آياتي فلا تستعجلون..أي لم تأخذون في تكذيب محمد بمجرد سماع أنبائه.فلا تستعجلوا، إذ سترون نتيجة تكذيبه عن قريب وستتحقق أنباؤنا حتمًا.من وفي اللغة

Page 616

الجزء الخامس ٦١١ سورة الأنبياء وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ) التفسير : أي ولكن الكافرين لا يريدون أن يفهموا بل لا يبرحون يقولون ائتنا بالعذاب كما وعدت إن كنت من الصادقين؟ فمتى سيأتي ذلك العذاب؟ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٤) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (٢) شرح الكلمات : وجوههم: الوجوه جمع الوجه وهو أول ما يبدو للناظر من البدن وفيه العينان : والأنف والفم؛ ومستقبل كل شيء؛ سيّدُ القوم؛ نَفْسُ الشيء؛ الجاه (الأقرب).فتبهتهم: بهته: أخذه بغتةً، ومنه تأتيهم بغتةً فتبهتهم) أي تغلبهم وتحيرهم (الأقرب).يُنظرون: أنظرَه : أمهله الأقرب).فالمراد من قوله تعالى ولا هم ينظرون أنهم لن يُعطوا أي مهلة.التفسير : الواقع أن الإنسان لا يعرف حقيقة العقاب قبل أن يحل به، وإن هؤلاء القوم هم الآخرون لا يدرون حقيقة ما سيحل بهم، ولكن العذاب عندما يأتي فلن يحيط بأدانيهم فحسب، بل سيشمل كبراءهم ومساعديهم أيضًا، ولن يبقى لهم من ناصر.عندها ستنكشف عليهم الحقيقة.إن ذلك العذاب سيفاجئهم وسيحيرهم، ولن يستطيعوا رده، كما لن يمهلهم الله تعالى.لقد أخبر الله تعالى هنا أن الكافرين لن يستطيعوا دفع العذاب عن وجوههم ولا عن ظهورهم..والمراد من ذلك أنهم لن يقدروا على رد العذاب القادم من ولا العذاب الذي سيحيط بهم من خلفهم.والمراد من العذاب القادم من أمامهم، الأمام

Page 617

الجزء الخامس ٦١٢ سورة الأنبياء ذلك العذاب الذي تظهر علاماته وآثاره أما العذاب الذي يأتيهم من ورائهم فهو ذلك العذاب الذي يحل بهم فجأة من حيث لا يدرون.ويتضح من قول الله تعالى بل تأتيهم بغتةً فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم يُنظرون أن العذاب المقدر لهؤلاء الكافرين سيأتي فجأة، أي أنه سيأتي من ورائهم فلن يعرفوا وقته ولا جهته.وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ مِن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ٤٢ ) شرح الكلمات : حاق حاق به أحاط به (الأقرب).التفسير: أي أن سخريتهم منك ليست ببدع، بل لقد فعل هذا بالرسل من قبلك، ولكن كانت عاقبة معارضيهم هي الوخيمة، وعليهم سقط وبال السخرية.فإذا لقي معارضوك هم الآخرون مصيرًا سيئا لكان دليلا على أنك رسولنا الحق وأنهم هم الكاذبون.قُل مَن يَكْلُوكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُعْرِضُونَ ) يكلؤ كلأه حفظه وحرسه (الأقرب).التفسير: أي أن هناك صنوف الشدائد والمصائب تُخلق لكم بالليل والنهار، بعضها تخص الليل وبعضها تخص النهار، ولكن هناك من لا يبرح يدفع عنكم هذه المصائب ويحفظكم منها.فمن هذا الحامي إلا الرحمن؟ الحق أن هناك ما لا يحصى من الأوبئة والبلايا التي تُخلق وقت الليل، وهناك كثير منها تُخلق وقت النهار.إن هذه البلايا والآفات والأمراض وأنواع العذاب لا

Page 618

٦١٣ الجزء الخامس سورة الأنبياء يعلمها إلا العلماء المتخصصون في هذا المجال فقط، ولكنها تترك أثرها على عامة الناس الذين لا علم لهم بها، والذين لا يدرون أن هناك بلايا تتربص بهم.ومع ذلك تتهيأ من الغيب أسباب تدفع تلك البلايا عنهم.يقول الله تعالى إنما هو ربك الرحمن الذي يدفع عنكم هذه البلايا والآفات ولكن هؤلاء القوم لا يتلقون من ذلك أي درس، بل لا ينفكون يعارضون الحق يقولون بأفواههم إن هذا المدعي كذاب لذا فنحن نعارضه، أما الأمر الواقع أنهم لا يرغبون في ذكر الله تعالى أصلاً، ويضيقون ذرعا منه، فيكفرون بأنبيائه لكي يتفادوا من ذكر الله تعالى، ويفروا من تحمل المسؤوليات التي تلقى على الذين يؤمنون.فكل من عنده إلمام بسيط بالتاريخ يدرك أن السبب الأساسي لمعارضة الأنبياء إنما هو أنهم يريدون أن ينقلوا الناس من لهو الدنيا ولعبها إلى ذكر الله تعالى.وهذا هو السبب الحقيقي لكفر الناس بالرسول ﷺ أيضا.فإنه لم يأمرهم بما يخالف الفطرة الإنسانية أو يتنافى مع الأخلاق، كما أنه لم يسألهم شيئا لنفسه حتى يشق عليهم طاعته.أما من المنظور الروحاني فتلفت هذه الآية نظرنا إلى أنه كلما طلع قمر روحاني أو شمس روحانية أتى العذاب من عند الله تبيانًا لصدقه.فمن ذا الذي ينجيكم، أيها الناس، من عذاب الله سواء كان الوقت وقت قمر روحاني أو شمس روحانية؟ وقد بين بقوله تعالى بل هم عن ذكر ربهم معرضون أن السبب الحقيقي لحالتهم هذه إنما هو إعراضهم عن ذكر الله تعالى.ج أَمْرُهُمْ وَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا ٤٤ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (3) التفسير: يحذر الله تعالى هنا الكافرين بأنكم تريدون الفرار من عبادتنا، ولكن حين يأتيكم العذاب جراء ذلك فلن ينجيكم منه أي إله باطل، بل إن آلهتكم الزائفة لن تقدر على إنقاذ نفسها منه، ولن تخلق لها نصيرا.

Page 619

الجزء الخامس ٦١٤ سورة الأنبياء بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضِ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَلِبُونَ (٢) شرح الكلمات أطراف جمع طَرَف وهو: حرفُ الشيء ونهايته؛ الناحية؛ الرجلُ الكريم (الأقرب).التفسير : الواقع أنه عندما يطول عمر قوم يصيبهم مرض الكبرياء، دون أن يفكروا أنه هو الوقت الذي تتظافر فيه دواعي هلاكهم والتاريخ شاهد على أن هذا ما حدث على الدوام خذوا الإنجليز والفرنسيين مثلا في الزمن الراهن، إذ قد انقلبت مملكتهم وبالاً عليهم بعد أن طال حكمهم، وصارت أجزاء إمبراطوريتهم أطواق الذل والخزي في أعناقهم فبالرغم من المسافة الشاسعة بين الهند وإنجلترا قد حكم الإنجليز الهند حكمًا قويًّا، ولكن ما حصل في الأخير هو أن الهند صارت حجرا في عنق الإنجليز بحسب بيان أدلى به السيد تشرشل إبان الحرب العالمية الأخيرة، حتى صرخ تشرشل لأصحابه قائلا : إذا كنتم تريدون إنقاذ إنجلترا فارموا بهذا الحجر بعيدًا.وقد أصبحت الآن مصر وملايا أيضًا حجرين معلقين في عنق الإنجليز، وبعد قليل ستصبح نيوزيلندا وأستراليا وكندا كذلك.ومع ذلك لن تفارق إنجلترا كبرياؤها لمدة من الزمن، وسيظل الإنجليز يظنون أنهم هم الغالبون، بيد أن الله تعالى سيكون هو الغالب في آخر المطاف.إن دراسة التاريخ تبين لنا أن أكبر عاهة أصابت الأمم دائما إنما هي أن أي أمة إذا نالت القوة والنفوذ سواء كان عمرها ستين أو مئة أو مئتين من السنين، ظنت أنها ستظل قوية هكذا ولن تتغير أيامها أبداً.ولذلك يعلن الله تعالى هنا ويقول أن محمدا رسول الله ولو لم يحرز الانتصار الكامل بعد، ولكن أفلا يرون أن رقعة حكومة معارضيه بدأت الآن تتقلص، وأن مناطق نفوذها بدأت تنكمش من أطرافها؟ فهل يظنون، رغم رؤية ذلك، أنهم هم الغالبون في النهاية..أي ما دام وحي صحیح

Page 620

الجزء الخامس ٦١٥ سورة الأنبياء الإسلام في تزايد مستمر، وما دام هؤلاء في تناقص مستمر، فكيف يظنون أنهم سيغلبون؟ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ (3) وَلَبِن مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَلِمِينَ (3) وَنَضَعُ الْمَوَزِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۖ وَكَفَىٰ صلے بنَا حَسِبين ) ٤٨ شرح الكلمات : نفحة: النفحة من العذاب: القطعة (الأقرب).القسط العدل (الأقرب).خردل: الخردل حَب صغير جدا أسودُ مقرّح، ومنه أبيض (الأقرب).التفسير أي يا ،محمد قل لهؤلاء إني لا أملك أي قوة، وإنما أنا إنسان ضعيف.لقد جاءني الوحى من الله بخبر عذابكم وأنا أبلغكم إياه، فتصامون، ولا تسمعون مهما أنذرتكم ولكن حين يأتي العذاب فسيقول هؤلاء يا ويلنا إنا كنا ظالمين.ولكن لن ينفعهم الأسف عندها شيئا.فبما أنهم كانوا يظلمون حين كانوا قادرين على الظلم، فما الجدوى من الندم حين فقدوا القدرة على الظلم؟ وسنضع موازين القسط والعدل ،يومئذ لكي ينال كل محرم جزاءه بقدر جريمته، ولن يُظلم يومئذ شيئًا.ولو كان لأحد حسنة بقدر حبة الخردل فلا بد أن ينال جزاءه أحد عليها أيضًا.كم هي رائعة هذه الحقيقة التي يبينها القرآن الكريم هنا؟ كان أبو جهل عدوا لدودًا للإسلام، ولم ير أحد الخير الكامن فيه، ولكن لما جاء يوم حكم الله تعالى

Page 621

الجزء الخامس ٦١٦ سورة الأنبياء وفق ابنه للإسلام، فأصبح ابنه من كبار القواد المسلمين (الإصابة في تمييز الصحابة، تحت: عكرمة بن أبي جهل.وبالمثل كان أبو سفيان شديد العداء للإسلام، وكان الراءون في بادي الرأي يظنون أنه وعائلته سيتعرضون للعقاب دائما، ولكن كان فيه أيضا خير خفي، ولما آن الأوان صار ابنه حاكمًا على نصف المملكة الإسلامية، وحكمت أسرته العالم الإسلامي كله قرابة قرن من الزمان، ثم بعد ذلك حكموا الأندلس لحوالي خمسة قرون.وهذا الجزاء لا يمكن أن يأتي إلا من عالم الغيب الله.أما لو كان الجزاء بيد الناس لسحقوا أبا جهل وأبا سفيان مع عائلتهما سحقا.هذا، وقول الله تعالى وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين يرد أيضًا على النظرية القائلة أن جهنم غير منقطعة.ذلك لأن الله تعالى يعلن هنا أن أحدًا لو كان قد فعل حسنة أو سيئة بقدر حبة الخردل فلا بد أن يجزيه عليها.فإذا كان المرء يدخل الجحيم بسبب سيئاته ليبقى فيها إلى أبد الآبدين فمتى سينال جزاء حسناته؟ لذا فلا بد من انقطاع عذاب جهنم، ليدخل الجنة جزاءً على حسناته أيضا.إن من عقائد الآريين (الهندوس) أن الله تعالى يستبقي عند الحساب سيئة واحدة من سيئات كل روح، فيمنح الأرواح الطيبة النجاة أولاً، ثم يلقيها في سلسلة الولادات المختلفة عقابًا على تلك السيئة التى استبقاها وكأن الله تعالى - عندهم يعطي الروح الطيبة الجوائز أولاً، ثم يعاقبها بالعذاب حتى لا تتمكن الروح من النجاة الأبدية.ولكن الإسلام يعلن أن الله تعالى يذيق الإنسان العقاب أولاً، ثم يمنحه النجاة في آخر المطاف.وكل عاقل يستطيع أن يدرك من ذلك أن العقيدة الإسلامية هي التي تتلاءم مع الفطرة الصحيحة أما استبقاء وإخفاء سيئة من سيئات الإنسان، ثم إلقاؤه في العذاب بسببها بسلب النعمة منه، فمثله كمثل ما يفعله المرابون الهندوس عندنا حيث يُقرض أحدهم شخصا مالاً، ثم يسترد منه ماله إلا شيئًا منه لكي يأخذ منه ما تبقى مع الربا الذي يتضاعف عليه أضعافا مضاعفة في بضع سنين.إن هذا الحقد غير مقبول في أحد من البشر، فكيف إذا نُسب إلى الله تعالى.ولكن الإسلام يعلن أن الذي قد قُدر له العقاب سيذوقه أولاً، ثم يكافأ

Page 622

الجزء الخامس ٦١٧ سورة الأنبياء على حسناته، وأن هذه المكافأة ستستمر للأبد دونما انقطاع أو خلل.يقول الله تعالى في مكان آخر من القرآن الكريم عن الذين يدخلون جنته وما هم منها مُخْرَجين (الحجر: (٤٩.فثبت أن تعليم الإسلام يتلاءم مع العقل والفطرة، أما تعليم الديانة الآرية فيعرض الله تعالى للظلم.وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَرُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءَ وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ) الَّذِينَ يَخشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ شرح الكلمات : الفرقان: كلُّ ما فُرق به بين الحق والباطل؛ النصر؛ البرهان؛ الصبحُ (الأقرب).التفسير: أي لقد أعطينا موسى وهارون كتابا يميز بين الحق والباطل، ويهب النور، ويذكر المتقين ربهم الذي يخشونه في الانفراد ، وهم من مصيرهم مشفقون.وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكُ أَنزَلْنَهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (3) التفسير: إن لفظ مبارك من البركة وهي الحفرة التي يجتمع فيها كل الماء من حولها.وقد سُمّي القرآن الكريم مباركًا لأنه الكتاب الذي قد جُمع فيه كل ما سبقه من حقائق سماوية وتعاليم عالية.يقول الله تعالى إننا أنزلنا عليك هذا القرآن الذي يجمع في نفسه البركات كلها، ويذكر الناس ربَّهم كما فعلت التوراة، ومع ذلك يرفضه الناس.وبما أن الحديث هنا يدور حول القرآن الكريم فإن هذه الآية إذا كانت تحت المؤمنين على ذكر الله تعالى فيمكن أيضًا أن تكون تحريضا لهم على قراءة القرآن والعمل به أيضًا.

Page 623

الجزء الخامس ٦١٨ سورة الأنبياء وَلَقَدْ وَآتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَلِمِينَ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ هَا عَكِفُونَ - قَالُوا وَجَدْنَا ۵۸.وَابَاءَنَا هَا عَبِدِينَ (3) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينِ (3) قَالُوا أَجِفْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّعِبِينَ (2) قَالَ بَل رَّبِّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّهِدِينَ (3) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (3) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّلِمِينَ (٢) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ ِإبْرَاهِيمُ (3) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (3) قَالُوا وَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِوَالِهَتِنَا يَنإِبْرَاهِيمُ - قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ (3) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّلِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (3) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفَ لَكُمْ وَلِمَا صلے تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ شرح الكلمات: رشده: الرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه (الأقرب) جداذًا : الجُذاذ : المقطَّعُ المكسَّرُ ؛ ما تكسر من الشيء (الأقرب).٦٤

Page 624

الجزء الخامس ٦١٩ سورة الأنبياء تكسوا نكسه قلبه على رأسه وجعَل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره.ونكس رأسَه: طَأطأه من ذُلِّ.ونُكس المريض : عاوَدَه المرضُ كأنه قلب إلى المرض.ونُكس الرجلُ : ضعف وعجز (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى ثم نكسوا على رؤوسهم -١- عادوا إلى سيرتهم الأولى من الشر، ٢- خفضت رؤوسهم من ذل، ٣- بما أن المعنى الأصلي للنكس هو قلب الشيء رأسًا على عقب، كما ذكر أعلاه، فقد قال الآلوسي صاحب روح المعاني إن قوله تعالى ثم نكسوا على رؤوسهم...استعماله يصح بمعنى أن أعداء إبراهيم اللي طأطأوا رؤوسهم لشدة ندامتهم وحيرتهم.التفسير: يقول الله تعالى إننا آتينا إبراهيم الهداية الملائمة لزمنه قبل موسى، وكنا أدرى بظروف ذلك العصر.كان قومه وعمه مشركين.علما أن الأب قد ورد هنا بمعنى العم إذ كان أبو إبراهيم قد مات من قبل.فقال لعمه وقومه أما هذه التماثيل أنتم لها عاكفون..أي ما هذه الأصنام التي تجلسون أمامها ليلاً ونهارًا؟ قالوا لقد وجدنا آباءنا هكذا يفعلون.علما أن إبراهيم ال قد استخدم تعبير ما هذه التماثيل على سبيل الاحتقار لا من أجل الاستخبار إذ كان يعلم ما تلك التماثيل وما حقيقتها؟ فكان يعني كيف تعبدون هذه الأشياء الحقيرة الذليلة؟ التي الواقع أن معرفة أسلوب كلام أحد تساعد كثيرًا على فهم قصده.وكان إبراهيم الع يتكلم عادة بكلام فيه تعريض وتعيير، وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله ما هذه التماثيل أيضا من قبيل هذا الكلام المليء بالتعيير والاحتقار.ونجد هنا مماثلة غريبة بين رسول الله ﷺ وإبراهيم العل.فكان والده قد توفي قبل ولادته، وكان والد إبراهيم أيضًا قد توفي قبل مولده.وكلاهما قد رباه وكان عم كل واحد منهما مشركًا، وكلاهما دعا عمه المشرك إلى التوحيد.لقد قال لإبراهيم عمه وقومه إنا نعبد هذه الأصنام لأننا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وبالمثل لما دعا رسول الله ﷺ عمه أبا طالب إلى الإسلام قال له عمه : يا عمه.

Page 625

الجزء الخامس ٦٢٠ سورة الأنبياء ابن أخي إني أعلم أن ما تقوله حق، ولكني لو اتبعتك لقال قومي إن هذا قد ترك دین آبائه (السيرة النبوية لابن هشام مجلد ١ ص ٥٨-٥٩).ثم إن إبراهيم قال لكبار قومه هل تتبعون آباءكم ولو كانوا لا يعملون شيئا وكانوا من الضالين، وهذا ما قاله نبينا أيضًا لكبار قومه (المائدة: ١٠٥).صحیح عندها قال قوم إبراهيم العلل هل جئت بتعليم حق أم أنك من الساخرين؟ هل أن آباءنا يمكن أن يقعوا في الخطأ؟ إن قلوب الكفار تكون مرعوبة من قوة استدلال أنبيائهم وبراهينهم، ولكي يتهربوا من تلك الفكرة المرعبة التي تنتاب ،قلوبهم يتمنون دائما أن يقول الأنبياء بأنفسهم أنهم كانوا يمزحون معهم.كان الخليفة الأول الهلال للمسيح الموعود ال) يحكي لنا حال الحكيم إله ،دين، فيقول إن هذا كان ينكر وفاة المسيح ال، وكان يقول إن حضرة الميرزا إنما أعلن وفاة المسيح الناصري اللي إهانة وإخزاء للمشايخ فقط، ولو أن المشايخ كلهم طلبوا منه العفو لألغى دعواه هذه! فالحق أن هؤلاء القوم مثلهم كمثل من يتعرض لحادث خطر، ومع في قلبه بارقة أمل ضعيف فيظن أن ما يحدث إنما هو حلم فحسب.ولذلك نجد قوم إبراهيم ال أيضًا يقولون له هل أنت تمزح معنا؟ هل صحيح أن آباءنا يمكن أن يخطئوا؟ ذلك يبقى فأجابهم إبراهيم وقال إنما ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن، وأنا على ذلك من الشاهدين القائمين بالبرهان وسأكيد بأصنامكم كيدا عندما ترجعون إلى بيوتكم.يقول المفسرون أن شخصًا من قوم إبراهيم اسمع قوله، وقيل سمعه قوم من ضعفائهم ممن كانوا يسيرون في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد (روح المعاني).والحقيقة أن القوم لما لم يقبلوا قول إبراهيم ال رغم ما ساق لــهم من الأدلة والبراهين، أراد إبراهيم أن يكشف عليهم شناعة أوثانهم بصورة عملية وهي في حد ذاتها برهان ذو تأثير أقوى.فكسر الأصنام كلها قطعًا إلا أكبرها، آملاً أن يهديهم ذلك إلى الله تعالى.فاستشاط قومه غضبًا وقالوا من فعل هذا بآلهتنا؟ إنه جد ظالم.

Page 626

٦٢١ الجزء الخامس سورة الأنبياء فقال لهم الذين تحاوروا مع إبراهيم من قبل: سمعنا فتى يذكرهم يقال لـه إبراهيم.ويذكرهم يعني يذكر آلهتهم بسوء ويعيبها، بدليل قوله تعالى في هذه السورة نفسها وإذا رءاك الذين كفَرُوا إِنْ يتخذونك إلا هُزُوًا أهذا الذي يذكر آهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (الآية (۳۷) فقال كبراء قوم إبراهيم احشروا الناس كلهم حتى يشهد ضد إبراهيم من رآه يفعل هذا بآلهتنا، لكي يتأكد أن هذا الفعل لم يصدر إلا عمن ينكر عبادة الأصنام، أو حتى يقرروا عقابه، أو حتى يشاهدوا عقابه.ثم قالوا لإبراهيم ال: أأنت فعلت هذا بآلهتنا؟ قال: بل فَعَله أي قد فعله فاعل، إذ لا يمكن أن يحصل هذا بدون أن يفعله أحد! كبيرهم هذا..أي لم تسألونني عن هذا؟ ها هو أكبر أصنامكم واقف إزاءكم، فاسألوا صاحبكم هذا.ولا بد أن يردّ عليكم إن كانت أصنامكم قادرة على الكلام أصلاً.علما أن لقوله تعالى بل فعله مفهومان: أولهما: "بل فعله فاعل"، وعليه فلا يكون لفظ بل هنا للإضراب، وإنما للتصديق..أي أن فاعلاً قد فعله حتمًا.والثابت من علامة الوقف في المصحف في هذا المقام أن الجملة التالية منفصلة حيث قال إبراهيم لماذا توجهون هذا السؤال إلي أنا؟ اسألوا كبير أصنامكم هذا.والمفهوم الثاني هو أن يكون بل فعله تعريضًا من إبراهيم ال كما كان دأبه وكأنه قال: كيف يمكن أن أفعله أنا بل فعله كبيرهم هذا؟ وكان يقصد لم تسألوني هذا السؤال؟ إذا كنتُ لم أفعله فهل فعله كبير الأصنام هذا؟ فأصابهم خجل كبير لما سمعوا هذا الجواب وقالوا متلاومين فيما بينهم إنكم أنتم الظالمون.ثم لما أمعنوا النظر أكثر خجلوا أكثر ولكنهم عادوا إلى سيرتهم الشريرة وقالوا :لإبراهيم ألا تعلم أن هؤلاء لا ينطقون؟ فرد عليهم وقال: هل تعبدون من دون الله أصناما لا تنفعكم ولا تضركم شيئًا؟ إن هذه الآيات تعقد مقارنة رائعة بين النبي الله وإبراهيم العلة.كان والد إبراهيم قد توفي وهو صغير، وكان والد محمد رسول الله أيضا توفي قبل مولده، وكان كل واحد منهما قد تربى عند عمه، وكان عم كل واحد منهما مشركا، وكلاهما قد دعا عمه إلى التوحيد، ورفض عم كل واحد منهما الإيمان بالتوحيد.وكان كل

Page 627

الجزء الخامس ٦٢٢ سورة الأنبياء واحد من هذين النبيين مستمسكًا بالتوحيد بكل قوة، فكان كلاهما يؤمنان على وجه البصيرة بأن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض.ثم إن إبراهيم القلة قد کسر الأصنام، ولكنه كسرها عندما رجع قومه إلى بيوتهم، أما النبي ﷺ فأيضا قد كسر الأوثان، ولكنه كسرها في وضح النهار حين كان الناس كلهم مجتمعين حول الكعبة.كانت بيده المباركة عصا يضرب بها الأصنام ويلقيها على الأرض، وما كان لأحد أن يقول أفٍّ على ذلك (السيرة الحلبية مجلد ۳ (۹۹).لا شك أن إبراهيم ال كان عظيما، ولكن شتان بينه وبين حبيبي محمد! اللهم صل وسلم وبارك على محمد عدد كل ذرة في السماء والأرض بل أكثر.قَالُوا حَرِّقُوهُ وَأَنصُرُوا وَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْتَهُمُ VI الأَخْسَرِينَ ) شرح الكلمات: بسبب كيدا الكيد: المكر والخبث الحيلة الحرب؛ إرادة مضرّة الغير حُفيةً (الأقرب).التفسير: يبدو أن تلك النار قد أن تلك النار قد أُحمدت غيبي كالريح أو المطر، ولذلك قال الله تعالى هنا قلنا يا نارُ كوني بردًا ، و لم يقل "قلنا يا نار انطفئي".والحق أن ترسيخ الإيمان بالغيب في القلوب يتطلب مثل هذا الأسلوب الذي يكتنفه شيء من الخفاء، وإلا لا فائدة من الإيمان.وهنا أيضًا نجد شَبهًا كبيرًا بين محمد رسول الله وإبراهيم العل.لقد قال قوم إبراهيم اللي حرقوه وانصروا آلهتكم ، وهذا يعني أنهم ظنوا أنه لا يزال أمامهم طريق مفتوح لنصرة آلهتهم.أما قوم النبي ﷺ فقد قرروا بأن يسجنوه أو يقتلوه أو ينفوه من الوطن.قال الله تعالى مشيرًا إلى ذلك وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) (الأنفال: ۳۱).

Page 628

الجزء الخامس ٦٢٣ سورة الأنبياء وبالفعل قد أوقد أهل مكة نار الحرب ضد الرسول ﷺ طيلة عشر سنوات، ومع ذلك فشلوا.وصارت نيران الحرب التي أوقدوها لحرق الرسول ﷺ سببا في رقيه ونجاحه، وفي النهاية دخل محمد رسول الله ﷺ في مكة فاتحاً، حتى إن ألد أعدائه أيضًا جاءوه يبايعون على يده.كان النبي الله قد أمر بقتل هند أينما وجدت إذ حرضت كثيرًا على قتل المسلمين.ولكنها خرجت للبيعة متنكرة متنقبة بين النساء.ولما قال لهن النبي ﷺ في أثناء البيعة: أيها النساء، بايعني أن لا تشرك بالله، لم تملك هند ،نفسها، وكانت امرأة مرهفة ،الحس فقالت: يا رسول الله، هل نشرك بالله بعد هذا كله؟ كنت وحيدا وكانت معنا كل العرب وأصنامنا، انتصرت علينا.لسنا أغبياء لدرجة أن نظن بعد كل ما حصل أن الأصنام تملك شيئا ومع ذلك من القوة !* فترى كيف جعل انتصار محمد رسول الله ﷺ المشركين يائسين تماما، بينما ما زال أعداء إبراهيم الله يقولون تعالوا وانصروا آلهتكم.ولا بد من التوضيح هنا أن المعبد الذي كسر فيه إبراهيم العلية الأصنام كان ملكًا لعائلته، ولولا ذلك لما جاز له كسر أصنام الآخرين.لقد كان معبدا عائليا لإبراهيم ، وقد ورثه من الآباء، ولكنه لما كان إبراهيم يكره الشرك منذ نعومة أظفاره فكسر الأصنام في هذا المعبد الذي كان يدرّ على عائلته بدخل كبير، كما كان مدعاة لعزتهم وشهرتهم.فلما كسرها ثارت ضجة في كل البلاد، ورفع الأمر إلى الملك.وكان جزاؤه، وفق عرف البلاد وقوانين الملك حرق المجرم.وكان من التقاليد القديمة إحراق كل من يسيء إلى الأصنام، لأن الإساءة إليها كانت تُعدّ في * هناك رواية تنسب هذا المعنى إلى زوج هند أبي سفيان حيث ورد أن الزبير بن العوام قال لأبي سفيان يوم الفتح حين كسر صنمُ هُبَل: "يا أبا سفيان، قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يومَ أُحدِ في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دَع هذا عنك يا ابنَ العوام، فقد أَرَى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان " كتاب المغازي للواقدي: شأن غزوة الفتح ج ۲ ص ۸۳۲) (المترجم)

Page 629

الجزء الخامس ٦٢٤ سورة الأنبياء الزمن القديم ردّةً جزاؤها الإحراق أو الرجم.فمثلاً لما نشأت فرقة البروتستانت بين المسيحيين في أوروبا أُحرق أتباعها بتهمة الارتداد أما في آسيا فكانوا يُقتلون رشقًا بالأحجار.فكان إبراهيم على علم أن عقوبة كسر الأصنام هي الحرق، ولكن الله تعالى أراد أن يُري.آية فلما أوقدوا النار في النهاية وألقوا فيها إبراهيم العل، هطلت الأمطار في تلك اللحظة نفسها وأخمدت النار، فخرج منها إبراهيم معافى.وبما أن عبدة الأوثان يتبعون الأوهام كثيرًا ، فلما حمدت النار بالأمطار، ظنوا أن هذه هى المشيئة الإلهية، فخافوا وخلوا سبيل إبراهيم الق.سالا وَنَجَيْنَهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَرَكْنَا فِيهَا لِلْعَلَمِينَ ) التفسير : كان إبراهيم العليلة في أول أمره يسكن بمدينة "أور" بالعراق.ثم انتقل منها إلى حاران التي تقع في أعالي العراق.ثم هاجر من هنالك بأمر الله تعالى إلى أرض كنعان التي كتبها الله لأولاده في المستقبل.يقول الله تعالى في هذه الآية إنه قد نجى إبراهيم ولوطًا وجعلهما ناجحين وأخذهما إلى فلسطين.وبالمثل تماما قد نجى الله تعالى محمدا رسول الله ﷺ من أعدائه، كما أدخل أحد غلمانه عمر الله في بيت المقدس فاتحا منتصراً.وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاً جَعَلْنَا صَلِحِينَ ) الكلمات : شرح نافلة: ۷۳ من النفل وهو الزيادة على الواجب والنافلة ولد الولد (المفردات).التفسير: يقول الله تعالى إننا وهبنا لإبراهيم إسحاق ويعقوب هبة وإنعاما.وقد قطع الله الوعد لمحمد رسول الله الله أيضًا وعدًا مماثلاً، فعلم المسلمين دعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.أي يا رب، أنزل فضلك على محمد وأولاده الروحانيين القادمين كما تفضلت على إبراهيم وعلى أولاده إنك حميد مجيد.

Page 630

الجزء الخامس ٦٢٥ سورة الأنبياء يعترض البعض لجهله ويقول ما دامت درجة محمد أعظم كثيرا من درجة إبراهيم، فمن المهازل أن نؤمر بأن ندعو لمن هو أعظم درجة بأن يعطى ما أُعطي منه درجة، وأن لا ندعو بهذا الدعاء مرة، بل نستمر في ترديده إلى يوم القيامة! إن هذا الدعاء يماثل دعاء من يقول رب اجعل المدير الأعلى لشرطة البلاد ناظر محطة شرطة القرية! من هو أدنى فليكن معلومًا بهذا الشأن أن القرآن الكريم قد ذكر قسمين من محاسن إبراهيم ال.أولهما المحاسن الذاتية مثل كونه ال ،أواها ، منيبًا، صديقا ومن المقربين.ولا جرم أن محمدا رسول الله أسمى درجة من إبراهيم ا في هذه المزايا والمحاسن، وإلا فكيف صار خاتم النبيين وسيد ولد آدم.فالمقام المحمدي أعلى وأعظم من المقام الإبراهيمي يقينًا ،ولكن بالإضافة إلى هذه المحاسن الذاتية لإبراهيم اللة، نجد أن القرآن الكريم قد ذكر له ميزة أخرى، وهي تلك التي تجلت في شكل الإنعام القومي.وبيانها أن إبراهيم الا دعا ربه وقال ربَّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أُمّةً مسلمة لك (البقرة: (۱۲۹)..أي يا رب اجعلنا مطيعين لك صادقين، وأخرج من نسلنا أمة تحظى برضوانك وتتبع سبل مرضاتك.فاستجاب الله دعاءه حيث قال وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب (العنكبوت: ۲۸).وهذا يعني أن الله تعالى أعطى إبراهيم أكثر مما سأل.لذا فإننا حين ندعو الله تعالى في الصلاة الإبراهيمية ونقول يا رب أمطر أفضالك على محمد الا الله كما تفضلت على إبراهيم، فكأننا نقول يا رب عامل محمدًا مثل المعاملة التي عاملت بها إبراهيم.لقد وهبت إبراهيم ل أكثر مما سألك فيا رب آت محمدا لله كذلك أكثر مما سألك.ومن قد دعا الله تعالى وفق ،عرفانه، وأن محمدا قد دعاه تعالى الواضح أن إبراهيم بحسب عرفانه هو، بل الحق أن محمدا ﷺ قد دعا الله تعالى بأدعية لم يدع بها الأنبياء كلهم معا في رأيي.ولما كان من المسلم به أن محمدا هل كان أكثر عرفانا من إبراهيم ال، فلا بد أن تكون أدعيته الله أفضل من أدعية إبراهيم، وبالتالي لا بد أن يكون ما يُعطى النبي اول أفضل وأكثر مما أعطيه إبراهيم العلة.ﷺ

Page 631

الجزء الخامس ٦٢٦ سورة الأنبياء إذا فقد علمنا في الصلاة الإبراهيمية لرفع درجات النبي ﷺ ورقي أمته دعاء يبلغ منه، حيث أُمرنا أن نقول الجامعية والشمول بحيث لا يمكن تصور دعاء أفضل من يا رب أنزل على محمد رحمةً هي أفضل مما أنزلته على ذرية إبراهيم بواسطته، أي أنك كما أعطيت إبراهيم أكثر مما سأل كذلك أعط محمدًا من الجوائز والصلات أكثر مما سأل.وبما أن أدعية النبي ﷺ أدعية إبراهيم من حيث سعة فيوضها وبركاتها، فلا بد أن يكون النبي الأكثر نوالاً للجوائز والصلات من إبراهيم العلية.إبراهيم هي أفضل من مع عیسی الحق أن الناس قد وقعوا في الخطأ لورود كلمة "كما صليت" في هذا الدعاء، أن "ما" هنا مصدرية، والمعنى يا رب صل على محمد كصلاتك على إبراهيم.فلو قيل "صل على محمد بقدر صلاتك على إبراهيم" بدلاً من كما صليت على إبراهيم" لصح ما يزعمون ولكن الله تعالى لا يتحدث هنا عن المقدار والكمية، وإنما عن القسم والنوعية والمراد يا رب هَبْ محمدًا له وأولاده من نفس البركة التي وهبتها إبراهيم ال وأولاده.ولم تكن تلك البركة إلا أن الله تعالى أعطى أكثر مما سأله.وهكذا فقد عُلِّمنا بأن ندعو الله تعالى أن يا رب أمطر على محمد رسول الله الله وأمته من عطائك وكرمك أكثر مما سألك.إن المسيحية هي أكبر فتنة ضد الإسلام في هذه الأيام، وإنها تدعي بأن كان من أولاد إبراهيم (متى :۱: ۱۷)؛ وعليه فكأننا قد دعاء يقول: يا رب إن كل هذا الرقي والتقدم الذي يحرزه العالم المسيحي إنما هو نتيجة لوعدك مع إبراهيم ال، فنتوسل إليك يا رب أن أنزل على نسل إسماعيل..أي محمد رسول الله ﷺ وأتباعه..من أفضالك أكثر مما أنزلت على الفرع الآخر من الشجرة الإبراهيمية أي على نسل إسحاق.فالآن لو نزع الله تعالى بركاته من ذلك الفرع وأجراها في نسل إسماعيل لماتت المسيحية في ليلة وضحاها.فثبت أن الصلاة الإبراهيمية دعاء عظيم عُلّمناه لرقي الإسلام والمسلمين.ثم إنه دعاء يشمل كل مسلم من كل قطر ومنطقة من العالم.وهذا يعني أنه لا يخرج عن هذا الدعاء الكامل الشامل السيد ولا أي فرد من أمته.علمنا في الصلاة الإبراهيمية

Page 632

الجزء الخامس ٦٢٧ سورة الأنبياء الحق أن القوة التي تتمتع بها الشعوب الأوروبية إنما ترجع إلى ما قطع الله تعالى مع إبراهيم من وعود لنسل إسحاق، ولو أن الله تعالى بدأ تحقيق وعوده الخاصة بنسل إسماعيل لقُضى على المسيحية كما قُضى على عهد حزقيال وإرميا وإشعياء ويحيى وغيرهم من الأنبياء - عليهم السلام ببعثة محمد رسول الله ، ولنال الإسلام من المجد والشوكة ما لا يمكن أن يخطر ببال المسلمين.صلے وَجَعَلْنَهُمْ أَبِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَبِدِينَ (3) وَلُوطًا وَآتَيْنَهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَيْنَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَعْمَلُ الْخَبَنِيثَ إِنَّهُمْ كَانُوا صلے قَوْمَ سَوْءٍ فَسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّلِحِينَ (3) التفسير: أي كان هؤلاء أئمة عصورهم ينشرون أحكام الله تعالى في الدنيا.وبهذا المعنى تماما قال رسول الله ﷺ " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (أبو داود كتاب الملاحم، باب ما يُذكر في قرن المائة)..أي أن الله تعالى سيبعث في أمتي أيضًا على رأس كل قرن شخصا يجدد الدين، ويقيم الإسلام ثانية بإزالة ما تطرق إلى الناس من فساد إن هذا الحديث يبين في الواقع ما يعنيه قول الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: ١٠).وهذا يعني أن المعنى الذي ذكره القرآن الكريم قد بينه الرسول ﷺ بأسلوب آخر، وذلك كيلا يظن المتمسكون بحرفية الكلام أن هذه الآية إنما تتحدث عن الظاهرة للقرآن فحسب بل عليهم أن يدركوا أن فيها وعدًا بحمايته المعنوية أيضًا، لا بد لها من بعثة المجددين والمأمورين.ولو أمعنا النظر لوجدنا أن هذه الميزة الفريدة حقا التي تميز الإسلام عن باقي الأديان.أما إذا كانت القصص والروايات تكفي لإثبات فضل دين فما أكثرها عند الهندوس والمسيحيين.إن فخر الإسلام يكمن في أن الله تعالى يبعث في كل زمن أناسًا ربانيين يقدّمون أنفسهم للعالم التي الحماية

Page 633

سورة الأنبياء الجزء الخامس ٦٢٨ كدليل على صدق الإسلام ويقولون إن رب الإسلام لا يزال يكلمنا ويُطلعنا على غيبه الآن أيضًا؛ فتعالوا وبارزونا في هذا المضمار إن كنتم صادقين.وليس بوسع أهل أي دين أن يصمد أمامهم، إذ يدركون في قرارة أنفسهم أنهم لا يتبعون إلا دينا ميتًا لا يقدر على تقديم أي آية حية جديدة تدل على حياته.فمثل الديانات الأخرى كمثل شجرة قد سقطت أوراقها نتيجة الخريف، فلا تقدر على أن تشبع بطنا بثمارها، أو تُظل أحدًا بظلالها.أما الإسلام فهو كشجرة مثمرة لا يُحرم أهل أي عصر من ثمارها الحلوة، وهكذا يتجلّى صدق الإسلام وصدق محمد رسول الله على الناس في كل زمن.أما قوله تعالى ولوطًا آتيناه حكمًا وعلما )..فاعلم أن أكبر غاية لبعث الأنبياء أن يوصلوا الناس إلى ذلك النبع الذي من المحال أن تستمر حياتهم الروحانية من دون الارتواء بمائه..أي أن يربطوهم بالله تعالى بوثاق قوي.وهذا الأمر مستحيل بدون تيسر العلوم الروحانية.وإنما يهدي الناس في الأمور الروحانية من تيسرت له المعرفة التامة بالله تعالى واطلع على سبل التقرب إليه تعالى، ونال العلم الدقيق بصفات البارئ.لذا فلا بد لمن يدعي بأنه مأمور من الله تعالى أن يتولى الله بنفسه تربيته العلمية، ويهب لــه معارف روحانية تكون عديمة المثال بالنظر إلى زمنه.ولذلك يقول الله تعالى هنا عن لوط الآتيناه حكمًا وعلما ، كما قال ذلك عن غيره من الأنبياء أيضًا.والحق أن المعجزات العلمية لهي أكبر وأقوى وسيلة لمعرفة صدق أي مأمور من الله تعالى حيث يصاب المعارضون إزاءها بالبكم التام.لا شك أن كل نبي جاء إلى الدنيا قد أعطى المعجزة العلمية، بيد أن المعجزة العلمية أُعطيها محمد رسول الله ﷺ تبلغ من العظمة والسمو بحيث لا يوجد لها نظير التي عند أي نبي.لقد صارت معجزات الأنبياء الآخرين قصصا من الماضي بحيث يستحيل تقديم أي دليل على وجودها، ولكن الآية العلمية التي أُعطيها محمد رسول الله ستظل حية إلى يوم القيامة وتقيم الحجة على الأعداء في كل زمان.فقد آتاه الله ذلك الكتاب العظيم الذي فيه تحدٍّ مفتوح موجه إلى العالم كله إلى يوم القيامة، بأن يتقدموا فيأتوا بنظير لهذا الكتاب إن كانوا صادقين وإن لم يستطيعوا ذلك

Page 634

الجزء الخامس ٦٢٩ سورة الأنبياء فليأتوا على الأقل بسورة واحدة تحوي من العلوم والمعارف والأنباء ووسائل تزكية النفس ما تحتوي عليه سورة واحدة من القرآن الكريم.لقد مضى على هذا التحدي ثلاثة عشر قرنًا من الزمان ولكن الدنيا لم تقدر على قبوله، ولن تنفك تتهرب من قبوله إلى يوم القيامة، وهكذا سيضطر كل إنسان عاقل للاعتراف بأن منافسة معارف محمد رسول الله ﷺ لضرب من المحال.وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَهُ وَأَهْلَهُ مِن الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (3) وَنَصَرْنَهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِنَايَتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجْمَعِينَ ) شرح الكلمات: الكرب: الحزن والغم يأخذ بالنَّفْس (الأقرب).التفسير : لقد ذكر الله تعالى هنا نوحا الي واستجابته لدعائه.وهكذا قد أوصل ذكر الرسول ﷺ حتى آدم الله، لأن نوحا كان حفيدا لآدم، وكان أول نبي نزل عليه الشرع.يقول النبي ﷺ عن نوح: "إنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع".وقد أشار القرآن الكريم إلى الموضوع نفسه في قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده (النساء: ١٦٤).وهذا يعني أن أول أخذ وحي مشتمل على العقائد قد نزل على نوح الا بحسب القرآن، ذلك لأن العقل الإنساني قد بلغ عندها من الارتقاء والتطور بحيث يستوعب الصفات الإلهية من ناحية، ومن ناحية أخرى بدأت تنشأ في الناس تلك المساوئ التي هي نتيجة حتمية للتعايش المتمدن.فبعث نوح الله كأول نبي مشرع لكي يتم إصلاح المفاسد ويُفتح الباب للمزيد من الترقيات الروحانية.وكان إبراهيم من أتباع نوح عليهما السلام قال الله تعالى في القرآن الكريم عن نوح وإن من شيعته لإبراهيم (الصافات: ٨٤.وبما أن الرسول ﷺ نوح عصره، وبما أن وحيه احتوى

Page 635

الجزء الخامس ٦٣٠ سورة الأنبياء على رسالة كرسالة نوح، فقد ذكر الله تعالى هنا نوحا ليلفت الأنظار إلى أن الشرع إذا كان لعنة فعليهم أن يكفُرُوا بنوح أيضًا الذي بدأ بواسطته نزول الشرع للنوع الإنساني، والذي كان من أتباعه ني جليل القدر كإبراهيم.أما إذا لم يكن الشرع لعنة بل ما زال المنكرون للشرع ينالون العقاب دائما - حيث لم يهلك في زمن نوح إلا الذين كفروا به ولم يفلح إلا الذين اهتدوا بهديه – فلن يفلح الآن أيضًا إلا الذين يؤمنون بمحمد رسول الله الله ، وليس لمعارضيه إلا الفشل والخسران.وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَنَ إِذْ تَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَهدِينَ : فَفَهَّمْنَهَا سُلَيْمَنَ ۚ وَكُلاً وَآتَيْنَا حكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرِ وَكُنَّا فَعِلِينَ : وَعَلَّمْتَهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ صلے فَهَلْ أَنتُمْ شَكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ ۚ إِلَى で الْأَرْضِ الَّتِي بَرَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِمِينَ ) شرح الكلمات : ۸۲ نفَشت: نفشتِ الإبلُ أو الغنمُ: رعَتْ ليلا بلا راع (الأقرب).الجبال جمع الجبل، ويعني أيضًا: سيّد القوم وعالمهم (الأقرب).: عاصفة: عصفت الريحُ عصفًا: اشتدت، فهي عاصفة (الأقرب).التفسير : أي اذكروا داود وسليمان إذ يحكمان في قضية حرث أكلته غنم القوم.يقول المفسرون أن الغنم أكلت حرئًا، فقضى داود بأن تعطى الغنم لصاحب الحرث.ولكن سليمان قال لا، ينبغي أن تُدفع الغنم إلى صاحب الزرع فينتفع منها،

Page 636

الجزء الخامس ٦٣١ سورة الأنبياء أما صاحب الغنم فيسقي الزرع إلى أن يعود كما كان، وعندها يسترد صاحب الحرث (الدر المنثور) غنمه من أنه وعندي إذا كان هذا حقا فليس فيه ما يستوجب ذكره في القرآن.إن ما أراه هو أن الله تعالى قد بين هنا أنه كلما نال قوم نبي عزا يسعى الطامعون من بينهم لعرقلة النظام كما حصل في زمن داود وسليمان، ويبدأ أصحاب الطبائع البهيمية في أكل زرع الدين.يقول الله تعالى إننا فهمنا سليمان علاج ذلك، فحمى مملكته ونظامه من هجمات الشعوب المجاورة لبني إسرائيل والتي كانت تريد القضاء على حكمهم من خلال غارات مفاجئة.مما لا شك فيه أن كلاً من سليمان وداود - عليهما السلام قد نال الحكم والعلم، ولكن إستراتيجية سليمان بهذا الشأن كانت أفضل.فكان داود الرجل حرب، وقد عاقب الظالمين المفسدين بعقوبات شديدة، بل إنه قد قتل ثلثي الرجال في بعض المناطق.ولكن الله تعالى فهم سليمان أن الرفق بالجيران الآن سيخفف العداوة.فاستعان سليمان العلي - عمومًا – بالمعاهدات، وهكذا حمى دولته من الجيران جميعا.وهي أن بيد أن هناك حكمة أخرى في قوله تعالى ففهمناها سليمان، الكتاب الإسرائيليين بل الأوروبيين أيضًا يرون أن إستراتيجية داود كانت جيدة ولكن سليمان اتبع إستراتيجية سيئة (830-829.The Dictionary of Bible p).فالله تعالى قد فند هنا هذا الزعم فقال ففهمناها سليمان..أي أننا فهمنا سليمان حل تلك القضية على ما يرام.ولكن لما كانت هذه الجملة توهم وكأن الله تعالى لم يعلم داود ال فأزال الله تعالى هذه الشبهة بقوله تعالى: (وكلاً آتينا حكمًا وعلما..موضحًا أن تفهيمه تعالى لسليمان لا يعني أن داود كان مخطئًا في موقفه، وإنما قصد بذلك تبرئة ساحة سليمان من تهمة كان يُرمى بها.ثم يقول الله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين).وقد معنى مماثل لهذا في سور أخرى أيضًا حيث ورد ولقد آتينا داود منا فضلاً والطير وأَلَنَّا له الحديد * أن اعمل سابغات وقدر في السَّرْد جبالُ أَوبِي معه یا

Page 637

الجزء الخامس واعملوا صالحًا معه والطير يعني ٦٣٢ سورة الأنبياء إني بما تعملون بصير (سبأ: ۱۱-۱۲).وقوله تعالى يا جبال أوبي أننا قلنا للجبال أن تمشي معه وكذلك أمرنا الطير أن تكون معه.كذلك ورد في مكان آخر ولقد آتينا داود وسليمان علمًا وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين * وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلِّمْنا منطق الطير وأُوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحُشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) (النمل: ١٦-١٨).ثم ورد في مكان آخر واذْكُرْ عبدَنا داودَ ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورةٌ كلَّ له أواب (ص: ١٨-٢٠).وقوله تعالى ذا الأيد إنه أوّاب يعني أنه كان صاحب قوة، وكان كثير الرجوع إلينا.لقد قال المفسرون بناء على هذه الآية أن داود وسليمان- عليهما السلام- كانا يملكان التصرف في الجبال والجن والطير، وأنها كلها كانت تذكر الله تعالى مع داود.فكلما قال "سبحان الله" رددت وراءه الجبال والطير والجن والحيوانات "سبحان الله".وذلك كما يفعل بعض الوعاظ الكشميريين عندنا حيث يقول للحضور خلال الوعظ بعد فترة وأخرى صلوا" على النبي"، وذلك ليستريح فكأن داود الي أيضا كلما شعر بالتعب خلال ذكر الله تعالى قال لجبل هملايا مثلاً أنت يا هملايا، فكان يقول سبحان الله سبحان الله، وبعدما شعر ببعض " قليلاً.الراحة قال لهملايا: اسكت الآن، حتى أقوم أنا بالتسبيح.وقال بعض المفسرين الآخرين أي غرابة في تسبيح الجبال وغيرها، فإنها كانت تركع وتسجد أيضًا.فكلما سجد داود السجدت معه الجبال والطير والحيوانات، وإذا ركع ركعت معه جميعا.أما البعض الآخر فقال لا متعة في هذا التفسير أيضًا، بل الحق أن الجبال كانت تسير مع داود حيثما سار كان داود في الشام وكانت جبال هملايا وشوالك والألب تمشي وراءه حيثما ذهب كما كانت الطيور أيضا تسبح معه.فلم تكن العصافير في تلك الأيام تغرد بل كانت تسبّح، ولم تكن الغنم تثغو، بل تسبح

Page 638

الجزء الخامس ٦٣٣ سورة الأنبياء وتدعو.ويجب أن لا يسأل أحد كيف صارت الغنم طيرا، إذ يكفى أن التفاسير تقول هكذا كان زمنًا عجيبًا حقا! كذلك ورد أن الله تعالى أنعم على سليمان بنعمة أخرى إذ جعل الجن في اللي قبضته، فكانوا يعملون وفق إشارته.وكلما سار أظلّت له الطيور بأجنحتها.ويقول هؤلاء المفسرون أن داود كان كثير الشك، فكلما خرج من بيته غلّق على زوجاته الأبواب.وذات مرة عاد فوجد وسط الدار رجلاً قويا يمشي هنا وهناك، فغضب غضبًا شديدًا، وقال له : ألا تستحي؟ كيف دخلت في حرمي والأبواب مغلقة؟ قال: أنا ذلك الذي لا يحتاج إلى الأبواب؟ قال أنت إذا ملك الموت؟ قال نعم.فقبض روح داود.ولما أرادوا دفن داود حلّقت الطيور كلها فوقه تظله بأجنحتها.ويقول المفسرون أن سليمان كان يعلم منطق الطيور كلها.ولكن حين سئلوا هل كان يعلم لغة الحيوانات أم لا ؟ قالوا كان يعلم لغاتها أيضًا، ولكن القرآن اكتفى بذكر منطق الطير على سبيل الإيجاز.ويقال أنه ذات مرة انقطع المطر مدة طويلة، فطلب الناس من سليمان ال أن يخرج ويصلي صلاة الاستسقاء.فقال لا تراعوا، فإن المطر نازل لأن نملة كانت الله تعالى مقلوبة على ظهرها وتقول رب إذا لم ينزل المطر فسوف نموت تدعو (انظر تفسير ابن كثير، والقرطبي).لقد اضطر المفسرون لنسج هذه القصص نتيجة فشلهم في فهم الاستعارات القرآنية، في حين أن المعنى واضح تماما.فأين الحاجة لمثل هذه القصص حول قول تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن ؟ ذلك لأنه إذا كان الله تعالى قد ذكر هنا تسخيره الجبال لداود ال فإنه تعالى قد قال في حقنا أيضًا الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفُلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم = يتفكرون (الجاثية: ١٣-١٤).فقد أوضحت هذه الآية تمامًا ما هو المراد من تسخير الجبال لداود الله، إذ قد صرح الله تعالى هنا أنه ليس الجبال وحدها بل كل شيء في السماوات والأرض من نهر وبحر وجبل وما إلى ذلك مسخر لجميع الناس بما

Page 639

الجزء الخامس ٦٣٤ سورة الأنبياء بينما فيهم المؤمنون بمحمد رسول الله له والكافرون والمنافقون.أوليس عجيبا أن الجبال مسخرة لي أيضًا، ذلك لا تسير معي حتى حجر واحد من ومع هملايا مثلاً، كان الجبل كله يسير مع داود اللي ! فإذا كان هذا قد حدث مع داود العليا في الحقيقة فيجب أن يحصل معنا أيضًا، وإذا كان لا يحصل معنا فثبت أنه لم يحصل مع داود العليها أيضا.تسبح يسبح أما فيما يتعلق بالتسبيح فقد يقول قائل إن القرآن الكريم يذكر أن الجبال والطير كانت تسبح مع داود ال، فهل هي تسبح الآن أيضًا؟ وقد أجاب الله تعالى على هذا في سورة الجمعة حيث قال يسبح الله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم (الآية (۲) فقد أكد الله تعالى هنا أن كل شيء في الكون يقوم بتسبيحه فالشمس والقمر والنجوم والأرض والشجر والأوراق كلها تسبحه.كما أن ثمر المانجو والموز وحتى قشره الذي ترميه والخبز، والصينية كل أولئك الله تعالى.وعندما تشرب الشاي فشفتاك والشاي والسكر والفنجان كلها تسبّح.ثم إن دارك وسقفه وجدرانه وأبوابه تسبّح الله تعالى.وكذلك عندما تنام فإن سريرك ورداءك ولحافك كل أولئك تسبّح.وما دام كل ما في الكون تعالى فلم يخترعون معنى غريبا حين يُذكر تسبيح بعض الأشياء مع داود ال؟ مع أن الأمرين، أي التسخير والتسبيح، اللذين جاء ذكرهما في حق داود قد أكدهما الله تعالى في حقنا أيضًا، فقال إن كل شيء مسخر لكم، وأن كل شيء يسبّح لنا في عصركم أيضا.بل هناك أكثر من ذلك، فإن الله تعالى قد قال عن داود ال إن الجبال كانت تسبح معه، بينما قال في حقنا إن كل ما في السماوات والأرض الله تعالى.ذلك لأن تسبيح كل شيء يعني أنه يشكل في حد ذاته برهاناً على أن الله تعالى بريء من كل عيب.وبما أن الإسلام جاء ليزيل عيوب العالم كله فقد أخبر الله المسلمين أن كل ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى.وأما داود العلة فبما أنه بعث لكي يزيل عيوب الجبال أي أهل الجبال وحدهم، ولم يكن مبعوثًا إلى العالم كله وإنما إلى منطقة محدودة، لذلك سبحت معه الجبال فقط.أما محمد رسول الله يسبح

Page 640

الجزء الخامس ٦٣٥ سورة الأنبياء الله فكان مبعوثًا للدنيا كلها لذلك قال "جُعلت لي الأرض مسجدًا" (البخاري: الصلاة، باب قول النبي جعلت لي الأرض مسجدًا)..أي لا يوجد حتى شبر واحد من الأرض لا يقوم بتسبيح الله تعالى، فكل مكان نذهب إليه يصير مسجدا.إذًا فيما يخص داود فموضوع تسبيح الأشياء محصور في الجبال فحسب لكونه ال مبعوثا إلى أمة محدودة من أهل الجبال، أما فيما يتعلق بمحمد رسول الله ﷺ فجعل شاملاً لكل ما في الكون لكونه المبعوثًا إلى كل ما في السماوات الموضوع والأرض.أما استدلالهم بلفظ أوبي معه بأن الجبال كانت تشترك مع داود الا في التسبيح، فالرد عليه أن كل ذرة في الكون تشترك في التسبيح بفضل بعثة محمد رسول الله أيضًا.ولو قال قائل: فأين خصوصية داود الله في ذلك إذا؟ فليكن معلومًا أنه ليس لداود أي خصوصية في تسخير الجبال له، إذ الثابت من القرآن الكريم أن كل ما في السماوات والأرض مسخر للناس جميعًا؛ ولكن حينما يجعل الله أحدًا ملكًا على بلد فإنه يصير فيه أعظم مكانة من المواطنين الآخرين.فبرغم أنه لا فرق بين داود العلي وغيره من الناس فيما يتعلق بتسخير كل ما في السماوات الأرض، إلا أنه يتمتع بخصوصية بدون شك، وهي أن الله تعالى قد جعله ملكًا أيضًا، وهكذا فرغم كون الجميع متساوين في هذا التسخير إلا أنه كانت لداود العلة عظمة وخصوصية لم توجد عند الآخرين.أما الآن فأبين لكم على ضوء اللغة أن لقوله تعالى وسخرنا مع داود الجبال يسبحن مفهومًا آخر أيضًا.لقد ورد في القواميس أن الجبل يعني سيد القوم أيضًا.وعليه فتسخير الجبال لداود ال يعني أنه كان أول ملك لليهود انتصر على القبائل المجاورة فصار ملوكها وأسيادها تابعين له، إذ لم يوجد قبل داود اللي ملك لليهود حكم الشعوب الأخرى بالإضافة إلى قومه وأخضع الملوك المجاورين له....

Page 641

الجزء الخامس ٦٣٦ سورة الأنبياء أما الطير فلم يذكر القرآن أنها كانت تسبح مع داود الل، ولكن البعض وقع في الخطأ لجهله بقاعدة بسيطة في اللغة العربية فظن أن الطيور أيضا كانت تسبح مع الجبال.إن كل ما ورد في القرآن الكريم بهذا الصدد هو كالآتي: أولاً : قال الله تعالى وسخرنا مع داودَ الجبال يسبحن والطير.والطير هنا منصوب بفعل سخرنا، والمعنى أننا سخرنا مع داود الجبال التي كانت تقوم بالتسبيح، كما سخرنا معه الطير.فليس هنا أي ذكر لتسبيح الطير كما ترى، بل غاية ما يمكن نؤول به هذه الجملة هو أنه كان عند داود العليا علم ومهارة في استعمال الطيور في بعض الأعمال كاستخدام الحمائم لنقل الرسائل مثلاً.إذا فتقدير والطير هو: "وسخرنا الطير"، إذ ليست الطير فاعلاً لفعل يسبحن.ثانيًا : يقول الله تعالى إنا سخرنا الجبال يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة (ص: ۱۹-۲۰).وهنا أيضًا لفظ الطير) منصوب بفعل سخرنا.ثالثًا : قال الله تعالى ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي ١١).وهنا أيضًا لفظ والطير تقديره: وآتيناه الطير أيضًا.فترى هنا أيضًا أن الله تعالى لم يقل أن الطير كانت تسبح مع داود، بل قال أننا معه معه والطير (سبأ: آتيناه الطير.فمجمل القول إن الطير منصوب بفعل سخرنا أو آتينا ، و لم يقل الله تعالى قط أن الطير كانت تسبح مع داود العليا.بيد أنني أقول إنهم حتى ولو فسروا هذه الجملة بأن الطيور كانت تسبّح مع داود فأي غرابة في تسبيحها معه خاصة وأن الله تعالى يخبرنا أن كل شيء في السماوات والأرض يسبح له ؟ إنني أتعجب دائما من مشايخ المسلمين في هذه الأيام، فإنهم كلما جاءت آية تتحدث عن داود أو سليمان أو عيسى عليهم السلام - فسروها بمعنى، وإذا ما وردت آية مماثلة تمامًا تتحدث عن محمد رسول الله ﷺ يفسرونها بمعنى آخر.فمثلاً إذا قال الله تعالى عن داود ال إن الجبال كانت تسبح معه قالوا الله

Page 642

"I ٦٣٧ سورة الأنبياء الجزء الخامس إن الجبال كانت بالفعل تقول معه سبحان الله سبحان الله"، أما إذا قال الله تعالى إننا سخرنا السماوات والأرض المحمد رسول الله الله فيقولون إنما هو تشبيه ومجاز فحسب.وكذلك إذا قال الله تعالى عن الرسول إنه قد أحيا الأموات قالوا إنما العليلا المراد هنا الموتى الروحانيون، أما إذا وردت مثل هذه الكلمة في حق عيسى فيقول بكل إصرار وعناد أن معنى ذلك أن عيسى قد نفخ في مناخير هؤلاء الموتى وأحياهم فعلاً! تعالوا نر الآن هل في القرآن الكريم أية إشارة حول الطير أم لا؟ إن التدبر في القرآن يكشف لنا أن الطير أنواع يقول الله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم (الأنعام: ٣٩).فترى أن الله تعالى وصف هذا الطير بأنه يطير بجناحيه ؛ مما يعني أن هناك طيرا آخر يطير بغير أجنحة.ثم هناك آية أوضح من ذلك ونعرف منها بكل وضوح أن الطير المذكور هنا اسم لشيء آخر فعلاً.قال الله تعالى ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) (النور: ٤٢)..أي ألم تعلم أن كل ذوي العقول الموجودة في السماوات والأرض يسبحون الله تعالى، وأن الطيور كذلك تصلّى الله تعالى في صفوف، وأن كل فريق من هؤلاء المذكورين قد علمت طريق صلاته وتسبيحه، وأن الله تعالى يعلم كل ما يفعله ذوو العقول هؤلاء.هناك ثلاثة أدلة في هذه الآية على أن الطير هنا لا يعنى الطيور المعروفة.الأول: أن لفظ من الذي يُستخدم دائمًا لذوي العقول لا لغيرهم.والثاني والجدير بالتدبر أن الله تعالى قد أخرج هنا الطير وحدها من بين كل من في السماوات والأرض ؟ لم لم يذكر هنا الجنَّ وغيرهم من المخلوقات ذكرًا منفصلاً كما ذكر الطير على حدة؟ والثالث: قد قال الله تعالى هنا كل قد علم صلاته وتسبيحه.فترى أننا لا نقرأ في القرآن الكريم كله أن الطيور أيضا تصلي، ومع ذلك يقول الله تعالى هنا إن

Page 643

الجزء الخامس ٦٣٨ سورة الأنبياء الطيور لا تسبح فحسب، بل إنها تعلم الصلاة أيضًا، وأنها تصلّى في صفوف.فبالله عليك، هل رأيت الطيور تؤدي الصلاة في صفوف؟ هل في الدنيا أي طيور كهذه سوى المسلمين.والرابع: أن الله تعالى قد استخدم هنا صيغة ذوي العقول مرة أخرى فقال والله عليم بما يفعلون.فثبت بذلك أن الحديث هنا يدور عن الناس وبالأخص عن أصحاب المراتب العليا الذين يصلّون جماعة.لو قيل: إذا كان المراد من الطير هنا المؤمنون فلماذا سُمّوا طيرًا؟ فالجواب أن لفظ الطير يُطلق في العربية على نتيجة عمل الإنسان أو القوة الفطرية المودعة فيه.وقد بين القرآن الكريم هذا الأمر في أماكن أخرى أيضًا.قال الله تعالى فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الأعراف: ١٣٢)..أي حينما أصيبوا بسراء قالوا هذا من حقنا، وإذا أصابتهم ضرّاء قالوا هذا بسبب سوء عمل موسى.فرد الله تعالى عليهم وقال إنما طائرهم عند الله؟ فهنا ترى أنهم لما قالوا إنما حل بنا العذاب بسبب موسى، ردّ الله تعالى عليهم بقوله إنما طائرهم عند الله ، فما العلاقة بين الأمرين؟ عندما نبحث لذلك في القواميس تنكشف علينا الحقيقة، حيث ورد فيها أن الطائر يُطلق على عمل الإنسان أيضًا (انظر أقرب الموارد).وهذا هو المراد في الآية المذكورة أعلاه، حيث يقول الله تعالى إن أعمال هؤلاء القوم كلها محفوظة عندي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.كذلك يقول الله تعالى في مكان آخر قالُوا اطَّيَّرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تُفتَنون (النمل: (٤٨)..أي حينما بعث إلى قوم ثمود نبيهم صالح اللي أخذوا يقولون لـه ولأصحابه إنما هلكنا بسبب سيئاتكم أنتم.وذلك كما قال معارضونا اليوم إن الطاعون وغيره من الأوبئة إنما تتفشى بسبب معاصي

Page 644

الجزء الخامس ٦٣٩ سورة الأنبياء الميرزا * ! فقال لهم نبيهم طائركم عند الله بل أنتم قوم تُفتَنون..أي أنكم قوم سيُبتلون بالعذاب من عند الله تعالى.ثم ورد في سورة يس عن الثلاثة رسل قوله تعالى قالوا إنا تَطَيَّرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجُمنكم وليَمَسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم أئن ذُكرتم بل أنتم قوم مسرفون (يس : ۱۹ - ۲۰)..أي عندما جاء هؤلاء الرسل والمصلحون قومهم قالوا لهم لقد أصابنا بسببكم أذى كثير ، وإن لم تنتهوا عما تقولون لنقتلكم رشقًا بالأحجار فقال لهم رسلهم إنما طائركم معكم، وإن أعمالكم ستدمركم أنتم، ولن تضرنا شيئا.فترى أن لفظ "الطائر" قد ورد في كل هذه الأماكن من القرآن بمعنى القوة العملية ونتيجة العمل والآن تعالوا نر ما هي حقيقة هذا اللفظ، وما علاقته بالإنسان.وعندما نمعن النظر نجد في سورة بني إسرائيل - الإسراء - آية تقربنا جدا المراد.قال الله تعالى وكُلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه وتخرج لـــه يوم القيامة كتابا يلقاه منشورًا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يَضلّ عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء: ١٤ (١٦) أي أننا قد ربطنا في عنق كل إنسان طائرا وسنُخرج له سجل أعماله يوم القيامة مفتوحا، ونقول له اقرأ أنت ما فيه.نحن لا نحاسبك، بل أنت بنفسك تحاسب خيرك وشرك.من اهتدى فإنما يهتدي لصالحه، ومن ضل فلا يضر إلا نفسه.ولا يحمل أحد عبء غيره.ولا نعذب الناس حتى نبعث رسولاً.لقد ذكر القرآن الكريم هنا معنى لطيفا للطائر، مبينًا أن هناك طائرا معلقا في عنق كل إنسان.فما هو المراد من ذلك؟ * أي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية حضرة الميرزا غلام أحمد القادياني العلبة.(المترجم)

Page 645

الجزء الخامس ٦٤٠ سورة الأنبياء يخبرنا الله تعالى هنا أن هناك طائرًا في عنق كل إنسان، ولكنا لا نرى أي طائر في عنق أي إنسان؛ فثبت جليًّا أن الطائر هنا يعني شيئًا آخر، وليس هو إلا القوة العملية أو نتيجة العمل.إذا فكل عمل يقوم به المرء يتشكل بشكل الطائر، فإن عمل الصالحات طارت به إلى أعالي السماء الروحانية كما تطير بنا الطائرة إلى جو السماء، وإن عمل السيئات فلا بد أن يضعف طائره فيسقط به إلى الأرض بدلاً من أن يحلق به في السماء.فترى أن القرآن يخبرنا من جهة أن الله تعالى قد ربط طائرًا بكل إنسان، وأنه إذا عمل صالحا طار به طائره إلى الأعالي، وإذا عمل سيئًا سقط به إلى الأرض؛ ومن جهة أخرى نجد النبي ﷺ يذكر هذا المعنى نفسه بقوله "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" (البخاري: الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين)..أي أن الله تعالى قد زوّد كل طفل بقوى الرقي..وبتعبير آخر، إنه تعالى قد زود كل إنسان بقوة الطيران.وهذا هو المعنى المذكور في قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره..أنه عند ولادة كل طفل يولد معه طائره أيضًا، ولكن أبواه يخنقون طائره أحيانًا، أما الذين ينجو طائرهم من الخنق فيكون لهم حال أخرى، حيث لا يزال هؤلاء الطيور الإنسانية..أي الأناس الصالحون، لا يزال طيرهم..أي كفاءتهم في الترقي والتقدم نتيجة أعمالهم الحسنة.يقول الله تعالى في القرآن الكريم عن الملائكة الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) (فاطر: ٢).ثم يتحدث سبحانه وتعالى عن الناس فيقول من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذابٌ شديد ومكر أولئك هو ييُور) (فاطر: (۱۱)..أي لقد علمتم، أيها الناس، أننا قد جعلنا للملائكة أجنحة عديدة للرقي وتذكروا أن عندكم فرصا كثيرة للرقي، بل بإمكانكم أن تسبقوا الملائكة أيضًا.واعلموا أن العزة كلها بيد الله تعالى، وإليه تصعد الأرواح الصادقة الطيبة، بمعنى أن الذين يدخل فيهم كلام الله تعالى هم الذين يحرزون الرقي.ولكن هذا لا يتأتى من فراع، بل العمل الصالح يرفعه..أي أن

Page 646

٦٤١ الجزء الخامس سورة الأنبياء هذا بحاجة إلى العمل الصالح من الإنسان وكأن الكلم الطيب طير، ولكنه لا يطير بنفسه، بل يصعد بمساعدة الأعمال الصالحة، وهكذا يصبح له جناحان يحلّق بهما في جو السماء الروحانية.ثم إننا نرى أن للطير خصوصيتين، أولهما أنها تصعد إلى فوق، بمعنى أنها تطير في أعالي الجو، وثانيتهما أن وكرها يكون في مكان عال إلا ما شذ وندر.فالطيور التي تعيش في الأوكار تصنع بيوتها في فروع الأشجار ، أما التي لا تتخذ الأوكار فهي أيضًا تبيت على الأشجار لا على الأرض.وقد وصف المؤمنون أيضًا بهاتين الميزتين قال الله تعالى وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (المجادلة: (١٢)..أيها المؤمنون، إذا قيل لكم هُبُّوا فعليكم أن تهبوا فورًا ملبين نداء النبي أو الخليفة، وتكون النتيجة أن الله تعالى سيرفع المؤمنين منكم.فترى أن هذه الآية قد ذكرت هنا خاصية المؤمنين بالطيران عاليًا.والخاصية الثانية للطيور أنها تتخذ لها الأوكار في الأماكن العالية دائمًا، وقد أكد القرآن وجود هذه الصفة أيضًا في المؤمنين قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن تُرفَع ويُذكر فيها اسمه يسبّح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ( النور : ٣٧-٣٨)..أي هذا النور موجود في بعض البيوت التي قد أمرنا بأن تُرفع والتي يُذكر فيها اسم الله صباحًا ومساءً.ولكن ليس قصدنا بذلك أن نرفع تلك البيوت، وإنما نريد أن نرفع رجالاً يسكنون فيها.وهذا يعني أن الله تعالى قد أكد هنا اتصاف المؤمنين بالخصلتين الموجودتين في الطيور، مبينًا أن العمل الصالح يطير بالمؤمنين إلى الله تعالى.وقد ورد في الحديث أن المؤمن إذا مات أخذت الملائكة روحه إلى السماوات وتقول افتحوا أبوابها لروح المؤمن، وإذا مات الكافر فلا تُرفع روحه، بل يُلقى بها إلى الأسفل.(انظر ابن ماجة، كتاب الزهد: رقم الحديث ٤٢٥٢)

Page 647

الجزء الخامس = ٦٤٢ سورة الأنبياء إذا فالطير هنا تعني تلك الأرواح الراقية ذوات الهمم العالية، والجاهزة للصعود على القمم بكل أنواعها غير خائفة من الصعاب ولا هيّابة من المصائب، باذلةً التضحيات من كل نوع.فذات مرة قام أحد الصحابة أمام النبي ﷺ وقال يا رسول الله، والله لو أمرتنا أن نخوض البحر بخيلنا الخضناه، ولن نسألك عن حكمة ذلك (مسلم: كتاب الجهاد، باب غزوة بدر).فكأن الله تعالى قد سمى المؤمنين طيرًا إشارة إلى ما فيهم من مؤهلات سامية، مبينًا أن المؤمن يؤثر الحياة العلوية على الحياة السفلية، ويطير إلى الأعالي بدلاً من أن يُخلد إلى الأرض.ولهذه الحكمة نفسها قد سُمِّي الذين آمنوا بداود الطيرا، حيث بين الله تعالى أنهم كانوا من الذين كانوا يطيرون إلى سماء الروحانية، وكانوا مزودين بكفاءات روحانية مميزة، وكانوا بعيدين كل البعد عن الحياة السفلية.ثم يقول الله تعالى بعد ذلك وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون * ولسليمانَ الريحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين..أي علّمنا داود فنّ صنع الدروع حمايةً لقومه في الحروب.كما أنعمنا على سليمان بالرياح التي كانت تجري بأسطوله البحري في مختلف الجهات بما فيها مناطق الشام وفلسطين.يتضح من الموسوعة التوراتية أن سليمان ال كان يبعث أسطوله من خليج العقبة إلى شرق الجزيرة العربية لجلب الذهب، وكان ينتفع به انتفاعا عظيمًا (مجلد ٤ ص ٤٦٨٥) وليكن معلوما أن ضمير الغائب في قوله تعالى تجري بأمره يمكن أن يعود إلى الله تعالى وإلى سليمان ال كذلك.وإذا كان عائدا إلى سليمان فقوله بأمره لا أنها كانت تجري بأمر من سليمان، بل المعنى أنها كانت تجري من أجل أعماله يعني ومنافعه.

Page 648

الجزء الخامس ٦٤٣ سورة الأنبياء صلے وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَيفِظِينَ )) شرح.الكلمات : الشياطين شطنت البئر: صارت عميقة.والشيطان: كل عات متمرد (الأقرب).فالمراد من الشياطين هنا الغواصون في عمق البحر من الشعوب الكافرة الخاضعة لسليمان.التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا أننا أخضعنا لسليمان عديدا من المتمردين، فكانوا يغوصون في البحر ويعملون له أعمالاً شتى، وكنا نحفظهم بتدبير منا.لقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات أولاً داود الا الذي كان لـه مملكة عظيمة في عصره، ثم ذكر بعده سليمان.وفي عصر القرآن الكريم كان الرسول ﷺ هو داود الحقيقي الذي حارب أعداءه فعلاً كما عمل على تجهيز الأسلحة.أما سليمان فيشبهه من هذه الأمة بنو عباس وبنو أمية بمملكتهم، حيث كثر المال والثراء في عهدهم بشكل كبير.فقد ورد في التاريخ عن الخليفة العباسي المأمون الرشيد أنه زار مصر مرة.وكان من عادته أن يبيت ليلة في كل قرية يمر بها.فبلغ قرية اسمها طاء النمل، ولكن لم يطب له المبيت فيها، فقرر الارتحال منها.فجاءته عجوز من عائلة شريفة والتمست منه أن يبيت في تلك القرية، فرضي المأمون بقولها.فأعدّت العجوز للمأمون ورفقائه وليمة رائعة كما قدمت له لدى انصرافه عشرة أكياس مليئة بالدنانير هدية لـــه.كان المأمون معجبا من مأدبتها، فازداد عجبا برؤية الأكياس المليئة بالدنانير واعتذر عن قبولها فقالت لـه العجوز، أيها الملك المعظم هذا ليس بشيء.إن هذا الذهب يخرج من أرض قريتنا، ولا يزال عندي الكثير منه.فتقبلها المأمون بانشراح (أقوم المسالك في أحوال الممالك ص ١٣٧، نقلاً عن مجلة تهذيب الأخلاق مجلد ٣ ص ١٤٢) = ،۱۳۷

Page 649

الجزء الخامس ٦٤٤ سورة الأنبياء وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍ وَءَاتَيْنَهُ أَهْلَهُ، وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَبِدِينَ (3) شرح الكلمات : الضُّرُّ : ضدُّ النفع؛ سوء النفع؛ سوء الحال والشدة (الأقرب).التفسير : بعد داود وسليمان عليهما السلام ذكر الله تعالى أيوب العلم الذي قضى كل عمره في المحن.ولربما يكون عليه أشبه الناس بأيوب في العصر النبوي.أما في عصر المسيح الموعود اللي فلا يزال الأمر بمنزلة نبوءة ستتجلى في حينها.أما أحوال أيوب العلا فقد ألقت عليها الضوء طوائف مختلفة: المسلمون والنصارى وكذلك المؤرخون اليهود الذين يكتبون التاريخ على ضوء الدين.وما قاله المسلمون عن أيوب الليلة فهو كالآتي: هو أيوب بن أموص بن تارح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.وكانت أمه من ولد لوط بن هاران.علما أن عيص، الذي هو والد الجد الأكبر لأيوب، قد اختصر اسمه – على الأغلب - من عيسو الذي كان أحد أبناء إسحاق اللي بحسب العهد القديم (التكوين ٢٥: ٢٦).ويقول المؤرخون المسلمون إن الله تعالى قد بسط الدنيا لأيوب، وكانت أراضي الشام والبلاد المجاورة لها ملكًا له وكان له من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يُعَدّ ولا يحصى.وكان له خمس مائة فدان يتبعها خمس مائة عبد.وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولدا بكثرة.ومع ذلك كان بارا تقيَّا، رحيما بالمساكين يُطعمهم، ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف.وقد فشل الشيطان في محاولاته لإغوائه.لقد آمن به ثلاثة من أهل اليمن وكان إبليس في زمنه يسترق

Page 650

الجزء الخامس ٦٤٥ سورة الأنبياء جسمه أخبار السماء - علما أن المفسرين عندنا يقولون هذا عن كل نبي – وفي أحد الأيام صلى أيوب على نبينا و بكل حرارة وإخلاص، فردت عليه الملائكة بالصلاة؛ وأثنى الله عليه ثناء كبيرًا.فحسده إبليس فحضر وقال الله تعالى إلهي إن عبدك أيوب بار لأنك وهبت لـه نعما كثيرة، ولو ابتليته وأخذت منه ما أعطيته من النعم لخرج من طاعتك.فقال الله له انطلق فقد سلّطتك على ماله.فهلك كل ما لدى أيوب من المال، فحمد أيوب ربه أيضًا.فذهب الشيطان إلى ربه وقال إنه شاكر لك لأنك أعطيته الصحة.فقال الله تعالى انطلق فقد سلطتك على جسده أيضًا، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله.فأُصيب أيوب بحكة شديدة، وتغير وأنتن وتولدت الديدان في جروحه.فأخرجه أهل القرية منها، فاتخذ لـه عريضًا حيث خدمته زوجته واسمها رحمة وإن الثلاثة الذين آمنوا به أيضًا خذلوه.ولبث في هذه المحن ثماني عشرة سنة عند البعض، وثلاث سنوات عند البعض الآخر، وسبع سنوات عند الآخرين.ولم يقترب منه في تلك الفترة إلا زوجته التي كانت تحضر له الطعام.فكانت تشترك مع زوجها في ذكر الله تعالى.فتضايق الشيطان وقال في نفسه إن زوجة آدم أيضا قد أُغويت، فلم لا أغوي زوجة أيوب.فذهب إليها، فأتاها ولد شاة وقال لها ليذبح أيوب هذا باسمي ليشفى.فذكرت ذلك لزوجها، فنهرها وقال كيف انخدعت بعدو الله هذا؟ لقد تمتعنا بنعم طويلاً، فهلا صبرنا على المصائب بضع سنين؟ ثم حلف وقال والله لئن شفاني لأجلدنك مئة جلدة.ثم طرد زوجته من عنده وقال لن أذبح باسم تعالى.ثم دعا ربه أني مسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين.فقال لـــه ربه يا أيوب لقد استجبنا لك.فقم واركُل الأرض برجلك فركلها برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها ، فزال مرضه نهائيًّا، وعاد إليه شبابه وجماله.ثم ضرب برجله ثانية، فنبعت عين ماء أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء.ثم إن امرأته قالت في نفسها لا بأس إن كان زوجي قد طردني على خطئي.علي أن أرجع إليه وإلا فسيموت جوعًا.فرجعت ولم تجده في مكانه.فجعلت تبكي وتبحث عنه في كل أحد سوی الله الله الله

Page 651

الجزء الخامس مكان ។ ។ سورة الأنبياء حتى وجدته.وأبرّ أيوب يمينه بأن أخذ ضغنًا فيه مئة عود، فضرب به زوجته ضربة واحدة (انظر تفسير الخازن).لقد أعجب الناس بهذه القصة إعجابًا شديدًا حتى نجدها في تاريخ الهندوس أيضًا بالإضافة إلى تاريخ اليهود وإن كانوا قد غيّروا الأسماء في بعض الأماكن.هناك كتاب مستقل لأيوب في العهد القديم، لـه ٢٤ إصحاحا.وقد ورد في هامشه أن أيوب جاء قبل المسيح بحوالي ١٥٢٠ عامًا..أي قبل موسى بقرنين تقريبًا.ويرى الباحثون العرب أن أيوب كان نبيًّا غير إسرائيلي، لأنه كان من نسل عيسو الذي كان الأخ الأكبر لإسرائيل (يعقوب) ال.وكان من سكان عوص التي كانت مدينة لآخر السيدين (Sidon) وكانت تقع بين الشام وخليج العقبة.(الموسوعة اليهودية مجلد : Job) ولكني أرى أن هذا غلط ذلك لأن أهل هذه المنطقة كانوا يعادون بني إسرائيل عداء شديدا وسبب هذا العداء أنهم لم يسمحوا لبني إسرائيل بالمرور بأرضهم ليصلوا إلى كنعان؛ فكان بنو إسرائيل يحاربونهم دائما، ولم يحصل بينهم أي صلح إلا لفترة وجيزة حين اتحد هذان الشعبان لصد هجمات الآشوريين.لذا فإنه خلاف العقل أن يذكر بنو إسرائيل في العهد القديم واقعة رجل صالح من قبيلة معادية غاضين الطرف عن باقي وقائع أهل الدنيا؟ إن الباحثين مجمعون على أن اللغة المستخدمة في سفر أيوب ترجع إلى ما بين القرنين التاسع والرابع قبل الميلاد، وهي الفترة التي قد تم فيها أسر اليهود على يد نبوخذنصر وتشتيتهم في المناطق القريبة من الهند.ومن ناحية أخرى نجد عند أيضا واقعة مماثلة جدا حول شخصية اسمها هريش تشندر؛ وليس من المستبعد أن يكون اليهود قد أخذوا هذه القصة من هؤلاء.والدليل على ذلك موجود في سفر أيوب نفسه، حيث ورد فيه أن الشيطان حضر البلاط الإلهى.والواضح أن فكرة مجيء الشيطان في جناب الله تعالى ليست لليهود ولا الشعوب الهندوس

Page 652

الجزء الخامس ٦٤٧ سورة الأنبياء المجاورة لهم، وإنما هي فكرة هندوسية محضة حيث يرى الهندوس أن الأرواح الخيرة والشريرة تأتي عند الله تعالى، ويجري بينهما حوار طويل.على كل حال قد ورد في سفر أيوب إصحاح ١ أنه كان في أرض عَوصَ رجل اسمه أيوب.وكان باراً وتقيًّا جدًّا.وكان له سبعة بنين وثلاث بنات.وكانت عنده سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف من الإبل، وخمس مئة زوج من البقر، وخمس مئة من الأتان وخدم كثيرون.ولم يكن مثله في الشرق مالاً.وكان بنوه أيضًا أثرياء جدا.ولما شب بنوه قدّم القرابين عن بنيه لكي يُغفر لهم إن كانت لهم بعض الخطايا.= منه وذات يوم حضرت الملائكة أمام ربهم، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم.فقال الله تعالى للشيطان من أين جئت؟ وهل رأيت عبدي أيوب؟ قال جئتُ بعد أن كنتُ أتجول وأتمشى في الأرض، وقد رأيتُ عبدك أيوب أيضًا.صحيح أن أيوب بار، ولكن هل مجانًا يتقى ربه؟ إنما يتقيك لأنك قد أسبغت عليه النعم.انزع النعم ثم انظر كيف يجدف عليك؟ فقال الله للشيطان دَمِّر ماله كله كما شئت، ولكن لا تمس جسمه.ثم حدث أن أعداءه شنّوا الغارة على خدمه وقتلوهم.ثم سقط البرق من السماء وأحرق غلمانه وماله.كما أخبره البعض أن الأعداء قد أخذوا أبناءه أسرى.* فمزق أيوب جبته وأخذ يبكي، ثم سجد وقال: عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى هناك.ولكنه رغم كل هذه المصائب لم يتهم بشيء.أما الإصحاح الثاني فقد ورد فيه أن الشيطان جاء ثانية وسط الملائكة للمثول بين يدي الله تعالى، فقال تعالى ألم تر أن عبدي أيوب لا يزال جد شاكر لي؟ فقال الشيطان إن الإنسان يضحي لنفسه بكل ما يملك، ولكن ينبغي أن تضره في جسمه وعظامه، ثم انظر هل يشكرك بعد ذلك؟ قال الله تعالى لــه: لك أن تصيبه في * الله ورد في المصدر المشار إليه أن أبناء أيوب اللي ماتوا نتيجة سقوط البيـت (المترجم) يهم.

Page 653

الجزء الخامس ٦٤٨ سورة الأنبياء صحته، ولكن لا تملكه فأصاب الشيطان أيوب بمرض في جلده، فخرجت البثور على جسده من أخمص قدمه إلى قمة رأسه فقالت له زوجته: اترك هذا الشكر وجدف على الله تعالى، ومُت.فرفض أيوب قولها وقال كيف أن يصح نتلقى من الله تعالى نعمه ولا نبذل في سبيله شيئًا.ثم جاءه مريدوه الثلاثة من الأماكن النائية وأخذوا يبكون بكاء شديدًا.وورد في الإصحاح الثالث أن أيوب لما رأى أن هناك مؤامرة لكي ينحرف هو إلى السيئة لعن يوم ولادته.وجاء في الإصحاح الرابع أن أحدًا من مريديه قال له إن عذاب الله إنما ينزل بأعدائه وليس بالصالحين، فلا بد أن تكون فيك سيئة ما.وجاء في الإصحاح الخامس أنه رد على مريده هذا أن العقاب ينزل نتيجة السيئات، وعلى الإنسان أن يسلم نفسه لله تعالى وقت العقاب.وورد في الإصحاح السادس أن أيوب دعا الله تعالى أن الموت خير له.وورد في الإصحاح السابع أن أيوب ندم بعد ذلك وتأسف على أنه تمنى الموت.وجاء في الإصحاح الثامن أن أحد مريديه الذي كان يدعى بلْدَدُ قال له أن الله تعالى يعاقب المجرمين دائما.وجاء في الإصحاح التاسع أن أيوب رد على من اعترضوا عليه أني لا أدعي بأني بار، ولا أقول إن الله ليس عادلاً.إن الله عادل حتمًا، ولكن الموت والهلاك يأتي على كل واحد.بيد أنه تعالى يعاقب البريء اختبارًا.ثم قال إن الأرض فيها حكام أشرار، وأرى أن عمري ينقضي بسرعة.ولا جدوى من قولي بأني سأصبر حق الصبر لأنكم ستعتبرونني مذنبًا حيث توقنون أن الله تعالى لا يعاقب إلا شريرا، أما أنا فأوقن أن الله تعالى يبتلى البريء أيضا بالمحن وفي الإصحاح العاشر قد أنهى العهد القديم قصة أيوب بأن تلاميذه الذين كانوا يحاجونه أوحى الله إليهم وأمرهم أن يأتوه بالعجول والأكباش، ليقدم القربان كفارة لذنوبهم.ثم ورد أن أصدقاءه وأهله وأولادهم كلهم رجعوا إليه، وتضاعفت أمواله، ورزق عمرًا طويلاً.

Page 654

الجزء الخامس ٦٤٩ سورة الأنبياء وكما أسلفتُ توجد في الهند أيضا قصة كهذه، واسم صاحبها هريش تشندر عند الهندوس، وهي مماثلة لقصة أيوب تقريبا.إذ قد ورد فيها أيضا أن الشيطان دخل على الله تعالى مع الآلهة، فلما رأى الله تعالى يثني على هريش تشندر، قال الله تعالى بأن يأذن له بتدمير ماله بيد أن هريش تشندر ظل متمسكا بالصدق والسداد.لقد تعرض لتجارب كثيرة ولكن لم تزل قدمه.وهناك في العهد القديم ما يشير إلى أن قصة أيوب قد جاء من الهند، وأن أيوب- على الأغلب – ترجمة لاسم صاحب هذه الواقعة، وأنه سمي به على سبيل الاستعارة.وتلك الإشارة هي أن العهد القديم يذكر عن صاحب هذه الواقعة أنه لم يوجد مثله في الشرق مالاً.هذا يؤكد بكل وضوح أن هذه القصة جاءت من الشرق أي الهند، وأُدخلت في العهد القديم.لقد سجلنا فيما أعلاه ما ذكره المفسرون وما ورد في العهد القديم من روايات بهذا الصدد، ويتضح بالجمع بينها أن المفسرين قد نقلوا عن اليهود، لأن ما ذكروه يتفق مع ما ذكره العهد القديم في كثير من الأمور، كما يختلف معه في بعضها إن هذا الاتفاق والاختلاف في الوقت نفسه لدليل على أن مصدر المعلومات ،واحد ولكن لا يمكن الاعتماد عليه تماما.أما القرآن الكريم الذي هو منزه عن مثل هذه المهازل كلها، فقد حذف من القصة كل ما هو لغو.وإن الوقائع التي قد ذكرها القرآن إنما تبين أن أيوب الليل كان يملك أموالاً طائلة وكانت لـه عائلة كبيرة.وكان يسكن في بلد وثني، ملكه ظالما.والدليل على كون الملك ظالما هو قولُ الله تعالى إذ نادى ربه أنِّي مَسَّني الشيطانُ بنُصب وعذاب ) (ص: ٤٢).والشيطان في اللغة العربية هو المتمرد والطاغي (الأقرب)، فالمراد من هذه الآية أن الملك الطاغية قد أصابني بأذى وتعب وعذاب أي بسبب عدوان هذا الطاغية قد اضطررتُ للهجرة من مكان إلى آخر، وقد ألحق الضرر بمالي وعائلتي، وهكذا آذاني والدليل على قولي بأن أيوب كان اضطر للهجرة جراء ظلم ذلك الطاغية هو قوله تعالى (ارْكُضُ برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (ص: ٤٣)، وأيضًا قوله تعالى وخُذ بيدك ضغثًا فَاضْرِبْ به ولا تَحْنَت (ص: (٤٥)..أي اركُض بدابتك، واضربها أيضا بغصن شجرة لكي تحتها وكان

Page 655

الجزء الخامس ٦٥٠ سورة الأنبياء على السير بسرعة، وعندما تفعل ذلك ستجد أمامك عين ماء تغتسل به وتشرب منه أيضًا.يتضح من هذه الآية أيضًا أن أيوب كان يسكن في منطقة جبلية.وبإمكان الذين قد زاروا منطقة كشمير استيعاب هذا المشهد جيدًا.فإن أهل كشمير عندما ينزلون من المناطق الجبلية على صهوات خيولهم يركضونها ركضا، كما يضربونها بأغصان الشجر أيضًا من أجل السرعة.كما توجد في كشمير عيون المياه الباردة.إذا فإن كل ما يتضح لنا من رواية القرآن الكريم إنما هو أن أيوب اللي قد هاجر بأمر الله تعالى من بلده الذي كان منطقة جبلية ذات عيون ماء، وأنه ركض بفرسه خلال السفر - وليس أنه ركض الأرض برجله وفجّر عين ماء - كما كان يضرب حصانه بغصن كثير العُود ليحثه على السير بسرعة؛ وليس أن زوجته دعته إلى الشرك بالله تعالى، فحلف بأن سيضربها مئة سوط، ثم احتال وأن أخذ ضغئًا فيه مئة عود وضربها به إبرارا ليمينه.لقد انخدع المفسرون بكلمة ولا تحنث التي تعني ولا تُخلف يمينك، وقالوا إن الله تعالى أمر يعقوب العلم أن لا يخلف يمينه، بل عليه أن يضرب زوجته بضغث فيه مئة عود.مع أن الله تعالى لم يذكر مئة سوم وط، ولا الضرب بمئة عود.إن الضغث إنما يعني الغصن الذي فيه أعواد جافة وخضراء أيضا، ومثل هذا الغصن هو الذي يستخدمونه عادةً لضرب الفرس، حيث يكون رخصا لخضرته كما يؤلم جلد الفرس بجفافه عند الضرب.ثم إن الحنث يعني الميل إلى الباطل، وعليه فكان من واجب المفسرين، بدلاً أن ينسجوا تلك القصة غير المعقولة، أن يفسروا الآية بأن الله تعالى أمر أيوب ال بالهجرة عن أرض ذلك الملك الظالم، لأن القرآن يقول إن الله تعالى أمره بأن يركب ویر ركضه ويضربه بغصن شجرة، ويخرج عن ذلك البلد بسرعة، ويبتعد عن المشركين بدون تأخير، وأن لا يميل إلى المشركين..أي لا يعيش بينهم.ذلك لأن الحنث لا يعني هنا الميل إلى الباطل بالقلب، بل يعني الميل إلى الحنث بالجسد الذي معناه هنا الجوار.وهكذا قد أمره الله تعالى أن يخرج من منطقة الشرك بسرعة، غير مكترث لما يصيبه بركوب الفرس من نصب وتعب.إذ ليس هناك من علاج حصانه

Page 656

الجزء الخامس سورة الأنبياء للنصب الذي يصيبك من قبل الملك، ولكن نصب الركوب فعلاجه ممكن، وهو أن أمامك عين ماء، فاغتسل فيه واشرب منه ولا تتأسف على ترك ذلك البلد لأننا سنوصل إليك أقاربك كلهم، بل نعطيك مثلهم أيضًا..أي سيكون لك في البلد الجديد أيضا محبّون مخلصون.ونجد هنا نوعًا من التشابه بين النبي و أيوب.لقد اضطر النبي للفرار من بلد الشرك الذي لم يكن به ماء.ثم بعد ذلك أوصل الله تعالى بفضله زوجاته اللواتي تركهن في مكة وقت هجرته إلى المدينة كما آتاه الله تعالى في المدينة مزيدا من الأزواج المطهرات الصالحات مثلهن.وهذا ما وعد الله به أيوب هنا فقال له، اخرج من مُلك هذا الملك المشرك، وهاجر إلى بلد آخر، وسنفرج عنك كروبك هناك، وستلحق بك أقاربك، بل نهب لك المزيد مثلهم؛ كما نمدك بالماء الوفير للغسل والشرب.وَإِسْمَعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلِّ مِّنَ الصَّبِرِينَ (٦) التفسير : كان إسماعيل الابن البكر لإبراهيم عليهما السلام، وإن كان المسيحيون يسعون إلى حرمانه من حقه باعتباره ابن الأمة بشتى الأعذار (التكوين ١٦: ١-١٥).وأما إدريس ال فقد سبق أن سجلنا وقائع حياته لدى تفسير سورة مريم.أما الآن فنقدم هنا بحثنا حول ذي الكفل.لقد ذكر اسم ذي الكفل في موضعين من القرآن الكريم، أولهما هذه الآية من سورة الأنبياء حيث ذكر مع إسماعيل و إدريس عليهم السلام، وثانيهما في سورة ص (الآية: ٤٩ ) حيث ذكر مع إسماعيل واليسع عليهم السلام.لقد نقل المفسرون المسلمون روايات كثيرة حول ذي الكفل مدعين أنه لم يكن نبيًّا، بل قد اتخذه أحد الأنبياء - أو أحد الملوك بحسب البعض – نائبا لـه.كان ذو الكفل يصوم النهار ويقوم الليل، وكان لا يغضب أبدًا.(روح المعاني)

Page 657

الجزء الخامس ٦٥٢ سورة الأنبياء وهناك رواية تُنسب إلى النبي ﷺ في كتب الحديث، بما فيها مسند أحمد وسنن الترمذي، بأن ذا الكفل أعطى امرأة بعض المال ليجبرها على الفاحشة.فأخذت المال لشدة الفاقة والحاجة إليه ولكنها بكت فخاف ذو الكفل ربه ، وتركها تائبا.(مسند أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، رقم الحديث ٤٥١٧، والترمذي، أبواب صفة القيامة) ليس في هذا الحديث ما يدل على أن هذا الرجل هو ذو الكفل المذكور في القرآن الكريم، بل إن هذه الروايات نفسها قد ذكرت أن اسم ذلك الشخص كان الكفل؟ فهي – على فرض صحتها – ربما تتحدث عن شخص آخر، حيث إن كل عاقل يدرك أن صاحب هذه الواقعة لا يمكن أن يوضع في عداد الأنبياء فيُذكر مع إسماعيل وإدريس واليسع عليهم السلام.الحق أن ذا الكفل معرب لحزقيال حيث تنقلب الياء واوا، والواو ياء.فليس بمستبعد أن يصير حزقيال إلى حز كفل، ثم ذو الكفل أو من الممكن أن يكونوا قد ترجموا حزقيال إلى العربية فجعلوه ذو الكفل"؛ ذلك لأن حزقيال معناه: "الذي قد أُعطي القوة من عند الله تعالى" (الموسوعة التوراتية مجلد ٢ : Ezekiel)، وذو الكفل أيضا صاحب الحظ الكبير.فمن الممكن أن يكون العرب قد سمعوا اسم حزقيال مع معناه الحرفي، ثم صاغوا منه اسما آخر "ذو الكفل".ثم إن ورود ذو الكفل هنا مع اليسع (إشعياء) لدليل آخر على أنه حزقيال يعني نفسه.۳۸۱ وهناك صلة وثيقة بين حزقيال واليسع (إشعياء)، ذلك أن الأنباء التي أدلى بها إشعياء قد تمت في عهد حزقيال، كما أن الكتاب اليهود يقومون بالمقارنة بين حزقيال وإشعياء أيضًا.إشعياء) ۲: ١، وحزقيال ٤٠: ٢٠-٤٦، والموسوعة اليهودية مجلد ٧ ص Ezekiel).ويُعتبر حزقيال في كتب العهد القديم واحدًا من الأنبياء الأربعة الكبار (الموسوعة التوراتية مجلد ۲ Ezekiel).ينحدر حزقيال من أسرة دينية شهيرة.لقد قضى بداية عمره في معبد أورشليم حيث تلقى دراسته الدينية وكان من ضمن اليهود الذين أسرهم الملك البابلي معه.لقد ذكرت أحوال زمن أسر حزقيال كلها في كتابه سفر حزقيال.وأخذهم

Page 658

الجزء الخامس ٦٥٣ سورة الأنبياء إنه لم يكن زعيمًا للعلماء، ولكن نظرًا لنفوذه المتزايد ارتأى الملك أن يأخذه أسيرًا.معه ولد حزقيال عام ٦٢٢ قبل الميلاد على الأغلب وتبدأ فترة تلقيه الوحي في ٥٩٢ حينما كان في الثلاثين من عمره.وكان زمن نبوته حوالي ٢٢ عامًا.وتوفي في سنة ٥٧٠ قبل الميلاد عن عمر يناهز ٥٢ عاما.لقد تزوج حزقيال.وقد تنبأ بعمران أورشليم ثانية، حيث ذكر القرآن الكريم هذا الأمر في سورة البقرة الآية ٢٦٠.ويكتسب حزقيال أهمية خاصة من حيث إن اليهود قد امتنعوا بعد زمنه كلية تقريبا عن العبادة الظاهرة للأصنام التي كانوا يعودون إليها مرة بعد أخرى في العصور السابقة.ویریى بعض أئمة علماء الكتاب المقدس أن حزقيال كان آخر أنبياء بني إسرائيل، وأن الذين جاءوا بعده إنما كانوا في الحقيقة علماء كبار فحسب، أو بتعبير آخر لم يكونوا أنبياء بل كانوا مجددين فقط.(المرجع السابق) كان حزقيال يسمي نفسه ابن آدم.انظر سفر حزقیال ۲: ١، ٣: ٢٥، ٤: ١، ٥: ١، ٦: (٢) - وكان المسيح ال أيضا يسمي نفسه ابن آدم، وورد عن أخنوخ أيضا أنه من أبناء آدم - وباختصار قد سُمي حزقيال بكثرة ابن الإنسان أو ابن آدم بل حينما خاطبه الله تعالى سماه ابن آدم وهذه إحدى المشابهات بينه كان يسمي نفسه وبين إدريس والمسيح عليهم السلام لقد لزم حزقيال الصمت لفترة، مدعيًا أنه قد فعل ذلك بأمر الله تعالى (حزقيال (٢٦).وهنا نجد شَبَها بينه وبين زكريا عليهما السلام.يتضح من سفر حزقيال أنه كان من المعجبين بنبوخذنصر، وكان يرى أن ما فعله نبوخذنصر ضد بني إسرائيل ومصر وتائر كان أمرًا مشروعًا، وكان نتيجة حتمية لسيئات هؤلاء حزقيال (٢٦ (٧)

Page 659

الجزء الخامس ٦٥٤ سورة الأنبياء وسفر حزقيال هو الكتاب الوحيد الذي كتب جزءاً منه من الأنبياء.ويبدو أن حزقيال قام بتأليف أجزاء منه ، بينما حكى أجزاءه الأخرى لغيره على ما يبدو.(الموسوعة التوراتية) خائنا بسبب ويتضح من دراسة أسفار النبيين حزقيال وإرمياء أنهما كان من الداعين إلى عدم مخالفة الحكومة البابلية، بل كانا يدعوان إلى تأييدها، فاعتبرهما علماء ذلك العصر من الخونة الغدارين للشعب (إرميا ٢٦: ۱-۱۱، و ۱۸: ۱۱-۲۰، وحزقيال ١٧: ١١-١٦)، مثلما اعتبر العلماء المسيح ال خائنا للشعب لدعوته إياهم إلى تأييد الرومان في عهد تيطس، أو كما فعل علماء هذا العصر حيث اعتبروا المسيح الموعود ال مدحه للإنجليز لمحاربتهم السيخ.أما حزقيال فقد عد الذين دعوا إلى محاربة الحكومة البابلية خونة (حزقيال ١٧: ١١-١٦).أنه یری ستقام من بين اليهود المنفيين إلى بابل أمة يهودية جديدة قائمة على دينها.وبالفعل قد تحققت هذه النبوءة، حيث لم يقع اليهود بعدها في الشرك الظاهري قط.وذلك لسببين أولهما أنهم أخذوا العبرة مما حل بهم من العقاب، وثانيهما أنه انكشفت عليهم ضحالة الأصنام وضعفها نتيجة عيشهم بين الأمة الوثنية وهنا يشبه حزقيال المسيح الناصري والمسيحَ المحمدي عليهم السلام.فكان يبين حزقيال في الإصحاح الأول من سفره كيف أن الله تعالى تجلى بنفسه في بابل، وكيف فوّض إلى حزقيال مهمة النبوة.ويتضح من الإصحاح الثالث والفقرة ٢٦ أنه أمر بالصمت في أوائل أيام نبوته مثل زكريا عليهما السلام.وإن حزقيال أنبأ بنجاة أمته ورقيها ،مرتين كما أخبر أنهم يتمتعون بالحماية لزمن طويل.وقد أنبأ أيضًا ببناء معبد أورشليم مرة ثانية، وأعطى التعليمات بهذا الشأن؛ فجميع القوانين التي كان ينبغي أن بناء المعبد بحسبها ثانية والتي كان على الكهان العمل بموجبها مسجلة في سفر حزقيال في الإصحاحات ٤٠، ٤١، ٤٢، ٤٣ و٤٤.لا يذكر حزقيال الملائكة، ولكنه يؤكد أن الأرواح أخذته.ويتضح من ذلك يتم حتمًا أنه يشير هنا إلى الملائكة (حزقيال ٢: ٢).

Page 660

الجزء الخامس ٦٥٥ سورة الأنبياء بارا، أما الإنسان فيقول عنه حزقيال إنه مقتدر، فبوسع الشرير أن يصبح وبإمكان البار أن يصير شريراً، وإنما سبيله النية والعزيمة.فقد بين في الإصحاح ١٨ في شكل تمثيل كيف أنه من الممكن أن يولد الابن الشرير من الوالد البار، ويولد الابن البار عند الوالد الشرير، وأن إثم الوالد لا يصل إلى الابن ولا يعاقب على خطيئته.فيقول مثيرا هذا السؤال: "وأنتم تقولون لماذا لا يحمل الابن من إثم الأب؟ أما الابن فقد فعل حقا وعدلاً حفظ جميع فرائضي وعمل بها فحياة يحيا النفس التي تخطئ هي تموت.الابن لا يحمل من إثم الأب، والأبُ لا يحمل من إثم الابن.برُّ البار عليه يكون، وشرُّ الشرير عليه يكون.فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي، وفعل حقا وعدلاً، فحياةً يحيا، لا يموت كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه." (حزقیال ۱۸: ۱۹-۲۲) لقد اتضح من هذه العبارة أن حزقيال كان يعتقد بأن الحياة الأبدية ممكنة بالتوبة.ثم إنه يركز على التوبة أكثر فيقول: "تُوبُوا، وارجعوا عن كل معاصيكم ولا يكون لكم الإثْمُ مَهْلكة.اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها، واعملوا لأنفسكم قلبا جديدا وروحا جديدة." (حزقیال ۱۸: ۳۰-۳۱) وورد في المصادر اليهودية أن حزقيال كان من أولاد جوشوعا.بينما يقول البعض إنه ابن لإرميا وورد أن حزقيال كان أكثر وصفًا لعرش الله تعالى من إشعياء.ولكن هذا لا يعني عند علماء اليهود، أن حزقيال أفضل من إشعيا، إنما معناه أنه قد رأى العرش الإلهي مرة واحدة فقط، لذلك كان أكثر حفظا لتفاصيله؛ أما إشعياء فكان يرى العرش الإلهى مرة بعد أخرى، فلم يول تفاصيله أهمية كبرى.ويرى علماء اليهود أن حزقيال كان يحيي الموتى.بينما يرى بعض العلماء أن هذه كانت رؤيا فحسب فظنوها حقيقة.وهنا أيضا نجد مماثلة بينه وبين المسيح

Page 661

سورة الأنبياء الجزء الخامس عليهما السلام).(منمونيديا كتاب مورانيبوكين الباب الثاني الفقرة ٤٦، والموسوعة اليهودية مجلد ٧ صفحة ٣١٥) وهذه الواقعة مذكورة في القرآن الكريم أيضًا، ويتضح منه أنها ليست إلا رؤيا فحسب.انظر) سورة البقرة: ٢٦٠).لقد تُوفي حزقيال زمن الجلاء بالقرب من بابل وقد ظل قبره مزارًا لليهود والمسلمين لمدة طويلة، حيث يقال إنه كان موجودًا بالقرب من دير نمرود في مكان اسمه "كفل" – وعندي - وعندي أن في هذا لدليلاً واضحًا على أن كفل هو اسم حزقيال.(انظر الموسوعة اليهودية مجلد ٧ ص ٣١٦) ۲ ص ويرى مؤرخو الكتاب المقدس أن حزقيال النبي ولد في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وظل حيًّا حتى أواخر عام ٥٧٩ قبل الميلاد تقريبا.(الموسوعة التوراتية مجلد ١٤٥٧-١٤٥٨).وكان يدعي بتشرفه برؤية الله تعالى.كان ينبئ عادة عن هلاك قومه.لقد ذكر في الإصحاح الثاني من كتابه رؤيا أنه أُري كتابا وقيل لــــه أن يأكله.وكان مكتوبًا على ذلك الكتاب: النوح والمأتم والعويل.وكان في ذلك إشارة إلى أنه سيقضي حياته كلها طبقا لهذه المعاني.ويبدو أن اليهود صاروا في عهد حزقيال متحضرين جدا، وأصبحوا أمة قوية، وإن كانوا ضعفاء سياسيا.وبسبب اتحادهم ما كان بوسع أحد أن يُسمعهم الحق، ومن فعل ذلك لازموه كلهم ملازمة الغريم.ولذلك قيل لحزقيال بحسب الإصحاح من سفره : بلغ الناسَ ما أقول لك، وإن لم تفعل فستُسأل.وهذا هو نفس ما قال الله تعالى لرسوله الكريم يا أيها الرسول بلغ ما أُنزِلَ إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (المائدة: (٦٨)..أي عليك أن توصل إلى الناس كل التعليم الثالث الذي أنزلته عليك، وإن لم تبلغهم كل التعليم فكأنك لم تبلغهم شيئًا.وورد في الإصحاح الخامس من سفر حزقيال أنه أمر بحلق رأسه ولحيته بالموسى.ويتضح من هذا أن اليهود عندئذ كانوا يطلقون اللحى، ولكنهم كانوا لا يرون ذلك ضروريًا.

Page 662

الجزء الخامس ٦٥٧ سورة الأنبياء وفي الإصحاح السادس ينبئ حزقيال أن اليهود سيدمرون من جراء مخالفتهم لتوحيد البارئ تعالى، ولكن بعضهم سينجو.وفي الإصحاح السابع يتبناً حزقيال عن دمار بني إسرائيل مبينا أن الجماعة الحقة عندما تفسد فتُسلّط عليها أمم أخرى بغض النظر عن فساد الأخيرة.فهي مهما كانت فاسدة إلا أنها تُسلّط على الجماعة المنتمية إلى الكتاب الحق، لكي تتوب جماعة النبي هذه وتصلح نفسها.وفي الإصحاح التاسع يبين حزقيال أن الذين ينتمون إلى الدين الحق يفسدون فلا تُقبل الشفاعة في حقهم.ومع ذلك وفي الإصحاح الحادي عشر يخبر حزقيال أن بني إسرائيل سينالون النجاة في آخر الأمر، ويتحررون من قيد الحكومة البابلية.في الإصحاح الثاني عشر يقول حزقيال إن اليهود يسخرون من كلام الله تعالى ويستهينون بأنبائه، ولكن الله تعالى سيكذب اليهود محققا أنباء حزقيال."الذين وفي هذا الإصحاح فقرة تشبه آية من القرآن الكريم شبها كبيرا، وهي: لهم أعين لينظروا ولا ينظرون لهم آذان ليسمعوا ولا يسمعون، لأنهم بيت متمرد" (حزقيال (۱۲ (۲) ويماثلها قول الله تعالى في القرآن الكريم ولهم أعين لا يُبصرون آذان بها ولهم لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل (الأعراف: ١٨٠)..ذلك لأن الأنعام ترى وتسمع إلى حد ما، ولكن هؤلاء العُمي والصمّ الروحانيين لا يرون ولا يسمعون شيئا على الإطلاق.في الإصحاح الثالث عشر يلوم حزقيال أولئك الذين يدعون كذبا وزورا بأنهم من المقربين لدى الله تعالى.وفي الإصحاح التاسع والعشرين يتنبأ حزقيال بهزيمة نكراء تلحق بمصر على يد نبوخذ نصر ، ثم ينبئ أيضًا بعودة الأمور إلى نصابها بالنسبة للمصريين في آخر الأمر.في الإصحاح السابع والثلاثين والفقرات ١ إلى ١٤ يذكر حزقيال رؤيا لــه تنبئ عن إحياء بني إسرائيل ثانية وقد ذكر القرآن أيضًا هذه الرؤيا في سورة البقرة في قوله تعالى أو كالذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أَنى يحيي

Page 663

الجزء الخامس чол سورة الأنبياء هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظُرْ إلى طعامك وشرابكَ لم يَتَسَنَّة وانظُرْ إلى حمارك ولنجعلك آيةً للناس وانظر إلى العظام كيف تنشزها ثم نَكسُوها لحما فلما تَبَيِّنَ لـــه قال أعلَمُ أن الله على كل شيء قدير (البقرة: ٢٦٠)..أي فكر في قصة شخص على مدينة متهدمة على سقوفها، فقال متى يعمرها الله تعالى بعد خرابها؟ فأماته الله في المنام مائة عام، ثم بعثه وقال: يا عبدي كم لبثت في هذه الحالة؟ قال لبثت يوما أو جزءا من اليوم فقط.قال الله تعالى هذا صحيح، ولكنك لبثت في هذه الحالة مائة عام أيضًا فانظر إلى طعامك وشرابك فإنه لم يفسد.كما انظر إلى حمارك أيضًا.ويجب أن تدرك بسلامتهما أن قولك صحيح، وأننا أيضا مصيبون فيما نقول.وقد فعلنا ذلك لكي نجعلك آية للناس.وانظر إلى العظام كيف نركبها في مكانها، ثم نكسوها باللحم.فلما انكشفت عليـه الحقيقة قال إني أعلم على البصيرة أن الله على كل شيء قدير.وجه = وقد فهم العامة من اليهود من رؤيا حزقيال هذه أنه كان يحيي الموتى حقيقة، ولكن قد قال كبار العلماء إنها مجرد رؤيا فحسب.(A Commentary on The Holy Bible p.515 under; Ezekiel) وقد أساء الناس عامة فهم هذه الآية القرآنية أيضًا، حيث ظنوا أنها تتحدث عن إحياء حزقيال للموتى حقيقة مع أنها لا تذكر إحياء الموتى وإنما تتحدث عن إحياء أمة ميتة.أما في الإصحاحين ٣٨ و٣٩ فإن حزقيال يتنبأ عن خروج يأجوج ومأجوج، وأنهم يستولون على العالم، ولكن الله تعالى سيهيئ في النهاية أسباب هلاكهم.ثم من الإصحاح ٤٠ فصاعدًا ينبئ حزقيال عن تفاصيل عُمران أورشليم ثانية.علما أن سفره يحتوي على ٤٨ إصحاحًا.ثم يقول الله تعالى في القرآن الكريم في وصف هؤلاء الأنبياء الثلاثة كل من الصابرين، ليبين أنهم أيضًا كانوا صابرين كأيوب، مشابهين له في الصبر على فقد تحمل إسماعيل الله فراق أبيه والهجرة من بلده، وأما إدريس وذو المحن.

Page 664

الجزء الخامس ٦٥٩ سورة الأنبياء الكفل عليهما السلام - فقد تعرضا لشتى المصائب والآفات كما هو ظاهر من أحوالهما.وَأَدْخَلْتَهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّلِحِينَ التفسير : لقد بين الله تعالى هنا أن هؤلاء كانوا صابرين على الشدائد بلا شك، ولكننا قد أنزلنا عليهم رحمتنا أيضًا.فكما آتينا سليمان وأيوب العزة في الدنيا، وهبنا لهؤلاء الثلاثة أيضًا، بالإضافة إلى المصائب الهائلة التي حلت بهم، عزة كبيرة في الدنيا.وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَيضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَتِ أن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّلِمِينَ : ۸۹ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَيْنَهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ تُجِى الْمُؤْمِنِينَ ) شرح الكلمات : ذا النون: النون هو الحوت (الأقرب).فـ ذا النون يعني صاحب الحوت.ظن ظنَّ الشيء: علمه واستيقنه (الأقرب).لن نقدر عليه: قدر الله عليه قضى وحكم به عليه.وقدر على عياله: ضيق (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى لن نقدر عليه أي لن نحكم عليه، ولن نضيق عليه.التفسير: ومن هنا يبين الله تعالى أحوال يونس مذكرًا أنه هو الآخر كان يشبه هؤلاء الأنبياء جميعًا عليهم السلام.لقد أصابه الأذى في وقت، ثم أعطاه الله عزة كبيرة أيضًا.يخبرنا الله تعالى أنه خرج ذات مرة من بلده ساخطًا، ولكنه كان على يقين أن الله تعالى لن يضيق عليه فنادى ربه وقت الشدة وقال لا إله إلا أنت سبحانك وإني أنا المخطئ.

Page 665

٦٦٠ الجزء الخامس سورة الأنبياء لقد وردت أحوال يونس اللي في سفر يونان من العهد القديم كالآتي: أمره الله تعالى بأن يذهب إلى نينوى التي كانت مدينة كبيرة شريرة، وأن يتنبأ عليهم.ولكنه العلي خاف أن يتوب أهل نينوى فينجوا من العذاب، فبدلاً من أن يذهب إلى نينوى خرج إلى يافا وركب سفينة متجهة إلى ترشيش ولكن جاء الطوفان فجأة وأحاط بالسفينة.فتوسل الملاحون إلى الآلهة وابتهلوا إليهم كثيرا، ولكن بدون جدوى.وفي الأخير قرروا بإلقاء القرعة ليعرفوا من هو السبب في نزول هذا العذاب.فخرجت القرعة باسم يونس، فسألوه عن قصته، فحكى لهم ما جرى له، وقال لقد فررتُ من أمر الله تعالى فألقُوني في البحر تنجوا من العذاب.فألقوه في البحر فسكن البحر.وأمر الله تعالى حوتًا فابتلع يونس.فمكث الله في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال.ثم استجاب الله لدعائه في آخر الأمر وأمر الحوت بأن يقذفه فقذفه اليونان الإصحاحان الأول والثاني).ومشيرًا إلى هذا الحادث يقول الله تعالى هنا فاستجبنا لـه ونجيناه من الغم وكذلك تنجي المؤمنين.نتعلم من دعاء يونس الام سرًّا لقبولية الدعاء يجب أن نضعه في الحسبان عند للمرء أن يقوم بتسبيح و تحميده في الدعاء قبل أن الدعاء دائما، أنه ينبغي للمرء وهو الله يسأله تعالى ما يريد.فترى أن يونس ال قال في مطلع دعائه لا إله إلا أنت سبحانك..أي يا رب أنت الذي تستحق الحمد الكامل، ولا إله يستحق العبادة سواك، ثم إنك مبرأ من النقائص والعيوب كلها.وبعد هذا التسبيح والتحميد عرض مطلبه على الله تعالى واستعان به على كربته هذا هو الأسلوب الذي ينبغي على كل مؤمن أن يتبعه، فيجعل التسبيح والتحميد في مقدمة الدعاء.ففي الدنيا أيضًا حينما يذهب سائل إلى دار ، يمدح أولاً أهله، ويتغنى بمحاسنهم، ثم في يعرض عليهم مطلبه موقنا بأن مجيئه إليهم لن يذهب الآن سدى.هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه في الدعاء، فعلينا أن نقرّ أوّلاً بقدرة الله وعظمته وجبروته، ثم و نسبحه، وفي الأخير نعرض عليه تعالى سؤالنا.الأخير

Page 666

الجزء الخامس ٦٦١ سورة الأنبياء وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَرِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَشِعِينَ شرح الكلمات: رَهَبًا: رهب الرجلُ رَهَبًا : خاف (الأقرب) التفسير: الآن يحكي قصة زكريا ال مبينا أنه هو الآخر كان من هذه الجماعة.يقول الله تعالى اذكُر زكريا حين دعا ربه وقال يا رب لا تتركني وحيدا وأنت خير وارث فتقبلنا دعاءه وأصلحنا زوجته ووهبنا لـه يحيى – فترى أن أحوال هذه الأسرة كلها تشبه، مبدئيا، أحوال أيوب عليهم السلام – ثم يبين الله تعالى لماذا بدل ضيقهم راحة.ذلك لأنهم كانوا يسارعون في الحسنات، وكانوا يدعوننا راغبين في إنعامنا وخائفين من عقوبتنا وكانوا دائمي التواضع والخضوع أمامنا.وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَحْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِلْعَلَمِينَ (٢) إِنَّ هَذِهِ أُمِّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ دوو فاعبدون التفسير: ويتحدث هنا عن مريم عليها السلام ويقول اذكر تلك المرأة التي حافظت على عفتها.فقد أنزلنا عليها وحينا، وجعلناها وابنها آية للدنيا كلها.واعلموا أيها الناس أن هؤلاء كلهم جماعة واحدة وأنا ربكم جميعًا، فاعبدوني أنا وحدي.

Page 667

الجزء الخامس ٦٦٢ سورة الأنبياء صلے وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلُّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ شرح الكلمات : تَقطَّعوا وتَقطعوا أَمْرَهم بينهم أي تقسّموا، وقيل: تفرّقوا فيه (الأقرب).التفسير: يخبرنا الله تعالى أن أعداء هؤلاء الأنبياء جعلوا دينهم قطعًا، ولكنهم جميعا سيرجعون إلينا، وسنحاسبهم.فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّلِحَتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ، وَإِنَّا لَهُ, كَتِبُونَ ) ۹۵ التفسير : أي من عمل الأعمال الصالحة حال كونه مؤمنًا فلن تضيع جهوده، فإنا نكتب حسناته كلها.وَحَرَمُ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ - حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ لَ يَأجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُل حَدَبٍ يَسِلُونَ (3) شرح الكلمات حَدَب: الحدب : الموج؛ الغلظ المرتفع من الأرض (الأقرب).والحدب ما ارتفع من ظهر الأرض (المفردات).ينسلون: نسل الماشي في مشيه: أسرع (الأقرب).۹۷ التفسير : أي إنه حرام على كل قرية أهلكناها أن يرجعوا حتى الزمن الذي يُترك فيه يأجوج ومأجوج أحراراً، فينتشروا في العالم كله، عابرين أمواج البحار وقمم الجبال..أي سيطلق سراح يأجوج ومأجوج في الزمن الأخير، أي الروس

Page 668

الجزء الخامس ٦٦٣ سورة الأنبياء والشعوب الغربية، فينتشرون في الدنيا عة بحر..أي يكونون غالبين على الدنيا كلها، فعندها سيتحقق وعدنا بهلاكهم.لما كان موج البحر وقمة الجبل مرتفعًا، فقد وردت هنا كلمة ينسلون لهؤلاء القوم الذين قُدّر لهم أن ينتشروا في الدنيا كلها عبر قمم الجبال وأمواج البحار.وقد تحقق هذا النبأ في الزمن الحاضر، حيث نجد روسيا مستولية على نصف العالم من جهة، ومن جهة أخرى نجد الدول الغربية غالبة على النصف الآخر.وكل من الكتلتين تسعى جاهدة لترويج مبادئها وترسيخها بين الناس.فأحد الفريقين يحاول نشر الديمقراطية مع كل عيوبها في العالم، بينما يريد الفريق الآخر تقديم أصحاب الكفاءات على الآخرين، قاضيًا على روح الديمقراطية فهاتان النظريتان تتنافسان في التغلب على العالم في العصر الحاضر.فإحداهما تحاول التغلب على مقادير العالم بزيادة قوة الأفراد، بينما تريد الأخرى الاستيلاء على العالم بتسليم زمام القيادة في أيدي أصحاب الكفاءات العالية وحدهم.وقد صارت هاتان القوتان غالبتين اليوم على العالم كلية وانقسمت الدنيا كلها إلى حزبين.أما الإسلام فيعارض كلا الفريقين، ويتخذ له سبيلاً مستقلاً وسطاً بينهما.إنه لا يغض الطرف عن الأفراد، كما لا يعارض الانتفاع من كفاءات الشخصيات الفريدة.إنه لا يسمح بقمع حرية الأفراد، كما لا يجيز حرمان الدنيا من كفاءات العباقرة.فتعليم الإسلام حاو بسعته النظرتين كلتيهما متخذا له طريقًا منفصلاً وسطًا بينهما.إنه يقر من ناحية بسر من على قمة كل جبل وموجة كل بعضهم أن الناس ليسوا سواسية من حيث الكفاءات العقلية، بل هم متفاوتون، كما أن أكثر تضحية من بعض، وبعضهم أكثر فطنة من بعض؛ فيجب أن لا يُحرم الشعب من كفاءات هؤلاء الذين هم أكثر عقلا ودراية وفكرًا.ولكنه يسلّم أيضًا بأن لرأي أفراد الشعب ككل أيضا قوته وأهميته، وأن صرف النظر عنه ليس بأمر هين كما يظن البعض، كما أن إهماله ليس مناسبًا فيما يتعلق بالرقي الإنساني.وباختصار إن هذين المبدأين قد قسّما العالم اليوم كلية، فصارت نصف الدنيا في جانب ونصفها الآخر في الجانب الآخر..فنصف العالم مشغوف بالديمقراطية، ونصفه الآخر مولع بالدكتاتورية.ولكن كلام الله تعالى يخبرنا أن الفتح حليف

Page 669

الجزء الخامس ។។ سورة الأنبياء الإسلام في آخر الأمر، وسيقضى على القوى المعادية للإسلام.لقد طال حكم هذه القوى على الدنيا، وقد ثارت غيرة الله الآن ليقام حكم محمد ﷺ على الدنيا مرة أخرى.إن ملكوت الله سينزل على الأرض الآن ثانية.سيُمحى أثر أعداء الله تعالى مهما وقفت شعوب الدنيا مؤيدة لهم بكل ما أوتيت من قوة.ولا جرم أن ذلك اليوم سيكون مباركًا جدًّا للدنيا.سيستوي ربنا على عرشه ثانية.وسترفرف راية رسولنا الله العالية مرة أخرى وتنتشر رسالة الأمن والصلح التي جاء بها رسول الله في الدنيا من جديد، وستصاب ألسنة الأعداء بالعي والصمم، وسيعترفون أنهم قد فشلوا في إرغام من اختاره الله وقدسه ، وأنهم جد نادمين على بأفواههم تصرفهم هذا.= صالحا، فيرد الله وجدير بالذكر هنا أن قول الله تعالى وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون) لا يعني أن الموتى سيعادون إلى الحياة في زمن يأجوج ومأجوج.ذلك لأن القرآن الكريم ينفي إحياء الموتى ثانية في هذه الدنيا بشكل قطعي.فهو يعلن صراحة أن بعض الأرواح ستلتمس من الله تعالى بأن يرجعها إلى الدنيا لكي تعمل عليها وقال كلا إنها هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يُبعثون (المؤمنون: (۱۰۱)..أي هذا محال لأنه قد جُعل بين الأرواح وبين هذه الدنيا حد عازل يحول بينهما إلى يوم القيامة ومن المحال أن تعود أي روح إلى الدنيا.فثبت أن إحياء الموتى ثانية في هذه الدنيا مستحيل كلية بحسب تعليم القرآن الكريم.فماذا كلمة يعني قول الله هذا إذًا؟ اعلم أن المراد من قول الله هذا، كما سبق أن ذكرنا في ملخص هذه السورة، أن أي أمة إذا هلكت فلا تُعطى الفرصة للنهوض ثانية في السنة الإلهية، ولكن في زمن يأجوج ومأجوج وبعد هلاكهم سيجري من عند الله تعالى تيار فريد من نوعه سيقضي به على نظام الكفر، وسينهض المسلمون، الذين لن تبقى فيهم أي آثار للحياة، كأمة منتصرة قوية مرة أخرى، وسيكون الإسلام غالبًا على العالم كله.

Page 670

الجزء الخامس ٦٦٥ سورة الأنبياء وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَخِصَةُ أَبْصَرُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَنوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَلِمِينَ (3) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (3) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ وَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَلِدُونَ (٢) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ شرح الكلمات : شاخصة: شخص بَصَرُهُ: فَتَح عينيه وجعل لا يطرفُ مع دوران في الشحمة.شخص يبصره رفعه (الأقرب).زفير الزفير : الداهية؛ أوّلُ صوت الحمار (الأقرب).منه وفي المفردات: الزفير: تردّد النفس حتى تنفتح الضلوع التفسير: يخبر الله تعالى أنه إذا حان موعد تحقق الوعد أي إذا جاء وقت عقاب هذه الشعوب فستظل أعينهم مفتوحة لا تطرف، وسيقولون فيما بينهم الويل لنا، لقد كنا عن هذا اليوم غافلين، بل زدنا إنّما وسوءاً.فيقول الله لهم ستدخلون اليوم أنتم والهتكم في جهنم.لو كانت الهتكم حقًا لما تحملت هذا الذل والهوان.سيتم وهذا إشارة إلى أنه القضاء على عبادة الأصنام في ذلك العصر وإن كان عصر ظلام.شديد كما أن فيه إشارة إلى أن هذه الشعوب ستظل تزهو وتفتخر بقوتها كثيرًا إلى زمن، ولكن حين يأتي عقابها فسترفع الصراخ والعويل، ولن تتعاون فيما بينها.إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُوْلَبِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَلِدُونَ ١,٣

Page 671

الجزء الخامس سورة الأنبياء لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّهُمُ الْمَلَبِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) شرح الكلمات حسيسها : الحسيس الصوت الخفي (الأقرب).التفسير: أي أن الذين قد سقنا لهم البشرى من قبل سيُنجون من هذا العذاب، ولن يسمعوا ولو صوتًا خفيًّا منه.وسيُعطون كل ما تتمناه قلوبهم، وسيظلون يتلقون هذه المعاملة لزمن طويل.لن يصيبهم حزن بسبب دمار العذاب الأكبر، وستنزل عليهم الملائكة التي ستُهدّئهم قائلة هذا هو اليوم الذي كنتم توعدون به.يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السّجِلِ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ تُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَعِلِينَ (٢) شرح الكلمات : تطوي: طوَى الصحيفة : نقيضُ نشرها (الأقرب).و"كطّيِّ السِّجل للكتاب": أي كَطّي الكاتب للكتاب.التفسير : يخبر الله تعالى أن ذلك يوم سنطوي فيه السماء، أي إمبراطوريات ذلك العصر، كما تطوي صفحة الكتاب الكتابة، وسنعلن أننا سنعيد خلقكم كما خلقناكم أول مرة.هذا وعد أكيد لا بد أن نحققه.وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْر أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّلِحُونَ (٢) إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَغَا لِقَوْمٍ عَبِدِينَ ( وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَلَمِينَ (٢) شرح الكلمات: ۱۰۸ 1.V بلاغا: البلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى؛ التبليغ؛ الكفاية (المفردات).

Page 672

الجزء الخامس ٦٦٧ سورة الأنبياء التفسير : يبين الله تعالى هنا أننا كنا كتبنا في الزبور بعد ذكر الشروط أن الأرض المقدسة سيرثها عبادي الصالحون، وإن في هذا لرسالة لقوم عابدين.ولقد بعثناك رحمة للدنيا كلها.أي ينبغي أن لا ينخدع أن لا ينخدع أحد لدى احتلال بني إسرائيل لهذه البلاد، حول ما تنبأنا به في العهد القديم بأن الأرض المقدسة إنما يعيش فيها عباد الله الصالحون؛ ذلك لأن تلك النبوءة كانت تنطوي على نبأ ضمني أيضًا وهو أن عباد الله الصالحين لا بد أن يصبحوا غالبين على تلك الأرض ثانية وإن خرجت من أيديهم لفترة، حيث قال الله تعالى إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين..أي يا محمد بلغ هذه الرسالة المسلمين ونبههم أنه سيأتي زمن يحتل فيه بنو إسرائيل هذه الأرض مرة أخرى.لقد ذكر الله تعالى هنا كلمة عابدين إشارة إلى نبوءة داود الا..حيث قال لرسوله نبأ عبادي وحذرهم بأنهم إذا ما تهاونوا في أن يكونوا عبادا لي فإن الله تعالى سيأتي باليهود إلى هذه البلاد.وإذا حصل ذلك فعلى المسلمين أن يصيروا قومًا عابدين ثانية، فيصبحون غالبين تارة أخرى وليتذكروا أن رسول الله رحمة لكل العصور، ولا ينتهي عصره عند استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، بل إن عصره ممتد إلى ما بعده أيضا ؛ فلا داعي للقنوط، لأن رحمة ثانية، فيصبحون غالبين على فلسطين مرة أخرى.الله ستفور إن نبوءة الزبور التي تشير إليها هذه الآية هي كالآتي: "لا تَغَر من الأشرار، ولا تحسد عُمّال الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون.اتكل على الرب وافعل الخير.اسْكُنِ الأرض، وارْعَ الأمانة، وتلذذ بالرب، فيعطيك سُوْلَ قلبك.سَلّمْ للرب طريقك، واتكل عليه وهو يُجري، ويُخرج مثل النُّور برك، وحقك مثل الظهيرة.انتظر الرب واصبر لــــه، ولا تَغَر من الذي ينجح في طريقه من الرجل المجري مكايد.كُفَّ عن الغضب واترك السَّخَطَ ، ولا تَغَرْ لفعل الشر، لأن عاملي الشرِّ يُقطعون، والذين ينتظرون الرب هم

Page 673

الجزء الخامس ٦٦٨ سورة الأنبياء يرثون الأرض.بعد قليل لا يكون الشرير.تطلعُ في مكانه فلا يكون.أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة." (المزامير ۳۷: ۱-۱۱) ثم ورد فيما بعد: "الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد" (المرجع السابق: فقرة (٢٩) وليكن معلوما أن هذا الوعد الذي قطع مع بني إسرائيل حول الأرض المقدسة لم = يكن وعدًا بدون شروط، بل كان منوطا بشرط البر والتقوى والصلاح، فقيل لهم صراحة بأنهم لو تمادوا في الشر سادرين في سيئاتهم فسينزع منهم هذا الملك.فقد العلية لا حدرهم موسى من التمرد والعصيان فقال: "وكما فرح الربُّ لكم ليُحسن إليكم ويكتركم، كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويُهلككم، فتستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبد هناك آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من خشب وحجر." (التثنية ٢٨ : ٦٣-٦٤) ولكن الله تعالى أخبر موسى ال أيضا أن بني إسرائيل لو غيّروا ما بأنفسهم فسير حمون.فقد ورد: "يرُدّ الربُّ إلهك سبيك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بدّدك إليهم الرب إلهك" (التثنية ٣٠: ٣).بني إسرائيل قد أُخبروا على لسان موسى العلمية أن تلك الأرض من عند الله تعالى أن وهذا يعني ستنزع من أيديهم إذا تجاوز شرهم الحدود، ولكن الله تعالى سيرحمهم بعد فترة من الزمان فيعطيهم هذه الأرض مرة أخرى.ثم بعد ذلك نبأ الله بدمار آخر لليهود، حيث قيل لهم إنهم سيعودون إلى عصيانهم، فيحل بهم العذاب ثانية، فيُطردون من البلد.وهذا النبأ أيضًا قد أدلى به موسى العليا إذ قال: "أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس.....فرأى الربُّ ورَذَلَ فرأى الربُّ ورَذَلَ من الغيظ بنيه وبناته وهنا أيضًا ترى أن اليهود كلهم ذكور وإناثًا قد سُمّوا أبناء الله وبناته) وقال : أحجب وجهي عنهم، وأنظر ماذا تكون آخرتهم.إنهم جيل متقلب.أولاد لا أمانة فيهم....أجمعُ عليهم شرورًا، وأُنْفِذُ سهامي فيهم، إِذْ هُمْ حَاوُون مِن جوع، ومنهوكون من حُمَّى وداء سام.أُرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَةٍ زواحف

Page 674

الجزء الخامس ٦٦٩ الأرضِ.من خارج السَّيفُ يُنْكِلُ، ومن داخل الخدور الرَّعْبَةُ.الفتى والرضيعُ مع الأشيب." (التثنية ٣٢: ١٦ - ٢٥) سورة الأنبياء الفتاة، مع إذا فإن الله تعالى قد أخبر بني إسرائيل على لسان موسى ال بدمارين يحلان بهم، مبينًا لهم أنهم لن يحكموا هذه البلاد حكمًا أبديًّا، بل سيحكمونها أولاً ثم يُنفون منها، ثم تقع في قبضتهم ثانية، ثم يُنفون منها تارة أخرى.أما وبأية روعة تحقق وحي الله هذا، فيتضح لنا ذلك بقراءة سورة بني إسرائيل (الإسراء) في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدُنّ في الأرض مرتين ولتَعْلُنَّ عُلُوًّا كبيرًا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً * ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا) (الإسراء: ٥-٧)..أي أننا أنذرنا بني إسرائيل في التوراة صراحة أنكم ستعيثون في هذه البلاد فسادًا مرتين وتتمردون تمردًا كبيرًا.فلما حان تحقق وعد أول هذين الفسادين سلّطنا عليكم عبادا لنا شديدي البأس ذوي قوة عسكرية كبيرة، فاقتحموا جميع مدنكم وبيوتكم بفلسطين، ودمروا مملكتكم.وكان هذا وعدا لا بد أن يتحقق.ثم رددنا لكم قوة الهجوم على العدو ورددنا لكم مُلككم، وساعدناكم بالأموال والأولاد، وزدناكم جمعًا وقوة.ولكنا سننزع منكم هذه البلاد ثانية.أما الوعد الثاني فيقول الله تعالى عنه فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا * عسى ربكم أن يرحمكم وإِنْ عُدتم عُدْنا وجعَلْنا جهنم للكافرين حصيرًا (الإسراء: ٨-٩)..أي حينما جاء موعد تحقق وعد المرة الآخرة حققنا هذه النبوءة أيضا، فأعطينا هذه البلاد مؤقتًا لقوم ليسوّدوا وجوهكم ويذلّوا أعزّتكم، ويَدخُلوا المسجد كما دخلوه المرة الأولى وينتهكوا حرمته، ويدمروا كل شيء وكل منطقة تدميرًا.ولكن ليس بمستبعد أن يرحمكم ربكم، أي أننا سنقرر عندها بإرجاع هذه البلاد، ولكن الله تعالى لم يقل هنا أنه سيرجعها إلى اليهود، بل قال عسى ربكم مكم..أي يزيل عنهم وصمة عار لحقت بهم في العالم، أما إذا عادوا إلى أن

Page 675

الجزء الخامس ٦٧٠ سورة الأنبياء شرورهم الأولى فلا بد أن نعود نحن أيضا إلى سنتنا، فنعذبهم وننزع هذه البلاد سجنا للكافرين..أي سنجعل جهنم سجنا لكم، أي لن منهم، وقد أعددنا جهنم تستطيعوا العودة إلى هذه البلاد بعد ذلك.لقد تبين من هذه الآيات أن الله تعالى كان قد وعد بأن بلاد فلسطين سيملكها عباد الله الصالحون.وبما أن هذا الوعد قُطع لليهود أولاً فنالوا هذا الملك، ولكن الله تعالى قد وضع بعض الشروط عند منحه هذه البلاد لليهود، وقال إنها ستبقى في قبضتكم لفترة من الزمان، ثم تنزع منكم.وبالفعل جاءت الجيوش البابلية، فدمرت المعابد، وأبادت المدن، واستولت على البلاد كلها، واستمر حكم البابليين عليها قرابة قرن ونصف قرن من الزمان الملوك الثاني ٢٤ : ١٠-١٧، وأخبار الأيام الثاني ٣٦: ٢٠-٢١، والموسوعة اليهودية مجلد ۹: Nebuchadnezzar).ثم تغيرت الحكومة، فاستولى اليهود على البلاد ثانية.ثم بعد المسيح العلة هاجم الرومان البلاد ودمروها تدميرًا.كما خربوا المسجد، وذبحوا فيه الخنزير.واستمر استيلاؤهم على هذه البلاد طويلا، وأخيرًا تنصر الملك الرومي نفسه.ولذلك لم يقل الله تعالى هنا إننا نُرجع هذه البلاد لليهود بعد ذلك، بل قال عسى ربُّكم أن يرحمكم..أي سنزيل عنهم وصمة عار لصقت بهم.فلما أصبح الملك الرومي مسيحيًّا صار يؤمن بموسى وداود وغيرهما من أنبياء اليهود.كان ذلك الملك مؤمنًا بعيسى في الحقيقة، ولكن بما أن عیسی العلمية الا إلى الأمة الموسوية فبدأت الحكومة الرومانية تحترم أنبياء اليهود الآخرين أيضا.كما احترمت التوراة، بل اعتبرتها كتابًا مقدسًا لها.وكأن الله تعالى شمل اليهـود بالرحمة.ينتمي ولكن الله تعالى يقول بعد ذلك وإن عُدتم عدنا..أي أنكم لو فسدتم وعملتم الشر بعد ذلك، فسننزع هذا الملك من أيديكم، أي عندها سيأتي المسلمون وتقع هذه البلاد في قبضتهم ويصيرون مصداقا لقوله تعالى عبادي الصالحون، عندها ستخلق لليهود الجحيم التي يصلونها دائما.لقد تبين من هذا التفصيل أن الله تعالى قد ذكر هنا ما يلي:

Page 676

الجزء الخامس ٦٧١ سورة الأنبياء الأول: أن هذه البلاد ستنزع من اليهود وتعطى لأمة أخرى.والثاني: أنها بعد فترة ستعود إلى قبضة اليهود ثانية.والثالث: أنها ستنزع منهم مرة أخرى.الرابع: وأنها ستعاد تارة أخرى، ولكن لا إلى اليهود، بل إلى المسيحيين الذين هم فئة أخرى من الأمة الموسوية نفسها.الخامس: وأنهم لو أثاروا الشر بعد ذلك - وهنا انضم المسيحيون أيضا إلى اليهود لأنهم طائفة من طوائف اليهود أصلاً - فإن هذه الأرض ستنزع منهم وستعطى لأمة أخرى..أي للمسلمين.ولكن الله تعالى لم يقل هنا إن هؤلاء سيدخلون المسجد لينتهكوا حرمته؛ ذلك لأن المسلمين يقدسون موسى وجميع الأنبياء - عليهم السلام - الذين بعثوا تابعين له، كما يقدسون أماكنهم أيضًا، فما كان لهم أن يدخلوا مساجدهم ليرتكبوا فيها تلك الأعمال البشعة التي عملها البابليون والرومان.وإنه لمن المهازل الغريبة التي تدل على نكران الجميل أن البابليين دمروا بلاد اليهود وانتهكوا حرمة ،مسجدهم، ولكن الكتاب الأوروبيين عندما يؤلفون كتبهم فلا أحد منهم يسب فيها البابليين ولا يستنكر أعمالهم البشعة، ولا يتهمهم بأي تهمة.ثم إن الرومان أيضا عندما استولوا على هذه البلاد ذبحوا في مسجدها الخنزير ؛ وقد ألف المسيحيون الكتب حول التاريخ - مثلما قام "غبن" (Gibbon) بتأليف كتابه (The Decline And Fall Of The Roman Empire) – ولو قرأت أي كتاب لهم لوجدتهم يقولون لم يوجد في العالم نظير للإمبراطورية الرومانية (الموسوعة البريطانية مجلد ۱۹: الإمبراطورية الرومانية)، مع أنها قد نجست مسجدهم.أما الأمة التي لم تنجس مسجدهم فيكيلون لها السباب والشتائم.لقد فتحت فلسطين في عهد عمر الله، ولما قدم أورشليم خرج القساوسة لاستقباله وسلموا له مفاتيح المدينة، وقالوا له: أنت ملكنا الآن، فتعال وصلّ ركعتين في مسجدنا حتى تطمئن أنك قد صليت في مكاننا المقدس الذي هو مقدس عندكم أيضًا.فقال لهم عمر الله إني لن أصلي في مسجدكم لأني خليفة المسلمين،

Page 677

الجزء الخامس ٦٧٢ سورة الأنبياء من الأماكن المقدسة عندهم.لذا فأخاف أن ينتزعوه منكم غدا محتجين بأنه سأصلي في الخارج حتى لا يُنزع منكم مسجدكم.فهناك قوم قد قدموا قربان الخنزير في مسجد هؤلاء، ومع ذلك لا تمل أوروبا من كيل المدح والثناء لهم، وثمة شخص رفض أن يصلي ركعتي نفل في مسجدهم مخافة أن ينتزعه منهم المسلمون، ومع ذلك نجدهم يسبّونه ليل نهار.فما أشدّهم نكرانا للجميل وما أبعدهم عن الحياء! وبعد أن وقعت بلاد فلسطين في أيدي المسلمين كان من الممكن أن يقال إنها لم تبق في أيدي اليهود ولا في أيدي المسيحيين، فما هذا اللغز؟ ولكن التدبر في الأمر يزيل هذا الإشكال.ذلك لأنه حينما يحصل الخصام على شيء، ويقوم مدعون كثيرون يدعون بالوراثة، فيقول الوارث الحقيقي أنا الوارث، فيصدر الحكم في حقه.وهذا هو ما حصل هنا.كان الله تعالى يريد أن يعطي هذا الملك أحدًا، وعُرضت القضية عليه ليصدر حكمه فيما إذا كان المسلمون هم الوارثون لموسى وداود أم اليهود والنصارى، فحكم لا بأن المسلمين هم الوارثون الآن لموسى وعيسى ؛ فأعطوا هذا الإرث بحسب هذا الحكم الرباني.ثم بعد ذلك يقول الله تعالى في سورة بني إسرائيل فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (الآية : ١٠٥)..أي أنه سيأتي بعد ذلك وقت سيؤتى فيه باليهود من كل أنحاء العالم ويُسكنون في فلسطين.وقد حان ذلك الآن حيث استولى اليهود على هذه الأرض.في الفترة الأخيرة كلما ذهبتُ إلى كراتشي أو لاهور سألني المسلمون كيف وقعت هذه الأرض في أيدي اليهود مع أن الله تعالى كان قد وعد أنها ستبقى في أيدي المسلمين؟ فقلت لهم أين هذا الوعد ؟ بل على العكس يقول القرآن إن اليهود سيُسكنون فيها ثانية فقالوا في حيرة لم نسمع ذلك أبدا! قلت: ليس بينكم أحد قادر على أن يعلمكم القرآن، فكيف تسمعون ذلك؟ اقرءوا تفسيري تجدوه فيه.فالوعد الإلهي بأن اليهود سيعودون إلى أرض كنعان مرة أخرى لموجود في القرآن الكريم في قوله تعالى لليهود فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا..أي

Page 678

الجزء الخامس ٦٧٣ سورة الأنبياء حين يأتي موعد الزمن الأخير سنجمعكم ونأتي بكم هنا.علما أن المراد من وعد الآخرة هنا وعد العذاب الثاني للمسلمين، حيث بين الله تعالى أنه عندما يحل ذلك العذاب بالمسلمين وتخرج الأرض المقدسة من أيديهم للمرة الثانية، عندئذ سيأتي الله باليهود إلى هذا البلد تارة أخرى.ومن الناس من يعترض هنا ويزعم أنه بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة قد صار الإسلام.منسوحًا وكأن علامة نسخ الإسلام عنده هي أن يستولي عبادي الصالحون على الأرض المقدسة، فحيث إن المسلمين لم يعودوا حاكمين عليها فلم يعودوا عبادي الصالحون ! وهذا الاعتراض يثيره البهائيون عادة والغريب أن هذه النبوءة موجودة في التوراة في حق اليهود، ومثلها موجودة في القرآن الكريم أيضًا في حق المسلمين.ورغم وجود تلك النبوءة قد انتزع البابليون هذه البلاد من اليهود وحكموها قرابة قرن من الزمان، ولكن لم تُنسَخ الديانة اليهودية عندها بحسب عقيدة البهائيين.ثم ظلت فلسطين خاضعة لحكم الرومان الوثنيين منذ زمن تيطس الرومي قرابة قرنين بل ثلاثة قرون من الزمان ولم تكن تحت حكم المسيحيين ولا اليهود، حتى إن الرومان قدموا قربان الخنزير في المسجد، ومع ذلك يرى البهائيون أن الديانة اليهودية ظلت على الحق.أما الإسلام فصار منسوحًا في تسع سنوات بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة في هذا العصر ! ما هذا السخف وما هذا العداء؟ إذا كانت النبوءات تصبح باطلة هكذا باستيلاء قوم على أرض قوم آخرين، فقد رأيتم، أيها البهائيون كيف انتزع قوم هذه الأرض من اليهود لقرن من الزمان في المرة الأولى، ثم رأيتم استيلاء الكفار عليهم لثلاثة قرون في المرة الثانية، ومع ذلك لم تعتبروا اليهودية منسوخة ولا المسيحية ،ملغاة، ولكنكم تعادون الإسلام لدرجة أنكم جعلتم استيلاء اليهود على الأرض المقدسة تسع سنوات فقط دليلاً على نسخ الإسلام! لو طال زمن استيلاء اليهود على فلسطين الآن بقدر ما طال احتلال البابليين والرومان لها في عهد اليهودية والمسيحية لجاز لأحد أن يقول إن هذه الأرض قد خرجت من أيدي الإسلام ولكن ما دام زمن استيلاء اليهود عليها لم

Page 679

الجزء الخامس ٦٧٤ سورة الأنبياء يطل حتى عُشر تلك الفترة أفليس هذا الاعتراض دليلاً على العداء البهائي الشديد للإسلام؟ ثم من العجب العجاب أن هؤلاء المعترضين هم البهائيون الذين ينطبق عليه المثل القائل : لا في العير ولا في النفير.ومع ذلك يطعنون في الإسلام.عند المسلمين مكة، وعندهم المدينة، وهما المركزان الهامان للإسلام فأنتم البهائيون "لستم في أعلى القدر وفي أسفله فكيف تعترضون على الإسلام؟ إنكم لا تملكون شبرا من الأرض التي يمكن أن تعتبروها مركزًا لكم.أما الإسلام فلا تزال عنده مكة والمدينة أيضا، وهما أهم مراكز الإسلام.أما فلسطين فكانت إنعاماً زائدا، وإذا خرجت من أيديهم مؤقتًا فما الاعتراض على ذلك؟ لقد بدأت البهائية في عام ١٨٤٤ ، ونحن اليوم في عام ١٩٥٨..أي لقد مضت على تأسيس ديانتهم مئة وأربع عشرة سنة.ولكنهم لم يقدروا خلال هذه المئة والأربع عشرة سنة على بناء قرية مقدسة لهم.من الممكن أن يقولوا على ذلك إنهم لم يستطيعوا ذلك لأنهم ليس عندهم دولة ولكنا نقول إننا نحن المسلمين الأحمديين أيضا ليس عندنا أي حكم ولا دولة، ومع ذلك كانت عندنا قاديان من قبل، أما الآن فقد عمرنا مدينة ربوة في بضع سنين حيث نجتمع هناك ونؤدي الصلوات.ثم إن لنا قرية أحمدية كاملة على قمة جبل الكرمل بفلسطين اسمها الكبابير.فهلا يدلنا البهائيون على مكان في العالم كله هو خاص بهم، ويجتمعون فيه مثلنا.فلم يبدون بغضهم وحقدهم هكذا ضد الإسلام لمجرد استيلاء اليهود على الأرض المقدسة الذي لم تمض عليه تسع سنين فقط، فيقولون إن هذا يعني أن الإسلام قد صار باطلاً منسوخاً؟ إنهم قد اعتبروا عكّا مركزا لهم زاعمين أنه قد ورد في الحديث وفي التوراة أيضًا نبوءة أنهم يملكون هذا المكان.ولكن لا وجود لهم ولا أثر في عكا الآن.فإن زعيمهم شوقي أفندي، الذي كان يقضي معظم أيام السنة في سويسرا عكا، أيضا قد تُوفي الآن ولم يتمّ بعد اختيار أي زعيم لهم يأخذ مكانه.= بدلا من ومع ذلك لا يبرحون يثيرون ضد الإسلام المطاعن التي يرتعب منها بعض الجاهلين..

Page 680

٦٧٥ سورة الأنبياء الجزء الخامس إذا فما دام حكم البابليين لفلسطين قرابة مائة سنة، وكذلك حكم الرومان لها لحوالي ثلاثة قرون، لم يُعد دليلاً على نسخ رسالة موسى وداود عليهما السلام، فكيف يمكن أن يُعدّ الحكم اليهودي المؤقت لهذه الأرض، الذي لم تمر عليه إلا بضع علامة.على نسخ الإسلام؟ كلا، بل إن هذا دليل على صدق الإسلام ذلك لأن الإسلام نفسه ما دام قد تنبأ بأن المسلمين سيطردون من تلك الأرض مرة، ليؤتي إليها باليهود ثانية، فلا يمكن أن يُعد ذلك علامة على نسخ الإسلام، بل هو آية على صدقه حيث تحقق ما تنبأ به.سنين، أما إذا قيل: كيف يصح إذا قول الله تعالى إن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فجوابه أن الاحتلال المؤقت للأرض المقدسة قد حصل مرتين في الماضي، وقد حصل الآن أيضًا.وعندما نقول "الاحتلال المؤقت" فهو يعني حتما أن المسلمين سيدخلون في فلسطين فاتحين ثانية، ويصبحون ملوكًا لها.وهذا يستلزم أن يُطرد منها اليهود، وأن يوفق الله المسلمين أن يقضوا على هذا النظام الذي يقام بمساعدة الأمم المتحدة وأمريكا قضاء نهائيا، وأن يأتوا بإخوانهم ويسكنوهم في هذه البلاد.واعلموا أن هذه النبوءة مذكورة في الحديث الشريف أيضًا حيث ورد أن الجيش الإسلامي سيدخل في فلسطين، فيفر اليهود منه ويختبئون وراء الأحجار، وكلما مر جندي مسلم بالقرب من حجر قال له الحجر يا مسلم يا جندي الله، هذا كافر فاقتله.يهودي ورائي، (البخاري، كتاب الجهاد والسير) عندما أخبر النبي الله هذا الخبر لم يكن لليهود في فلسطين وجود ولا أثر، فثبت من ذلك أن النبي ﷺ قد نبأ هنا أنه سيأتي زمان يستولي فيه اليهود على هذه البلاد مرة أخرى، ولكن الله تعالى سيجعل المسلمين غالبين عليهم مرة ثانية، فيدخل جيش المسلمين في هذه البلاد فيتتبعون اليهود من وراء الأحجار ويقتلونهم.لقد استعملت تعبير "الاحتلال المؤقت" لقوله تعالى أن الأرض يرثها عبادي الصالحون..أي أن فلسطين ستبقى على المدى البعيد في يد قوم هم مصداق لقوله تعالى عبادي الصالحون.لذا فلا بد أن يدخل أتباع محمد رسول الله ﷺ الذين هم عباد الله الصالحون هذه البلاد فاتحين، ولن تقدر القنابل الذرية أو

Page 681

الجزء الخامس ٦٧٦ سورة الأنبياء الهيدروجينية الأمريكية ولا المعونة الروسية أن تحول دون ذلك.إن هذا قدر الله، ولا بد أن يقع مهما حاولت الدنيا ردَّه.قد يعترض هنا أحد قائلاً إن الله تعالى يقول هنا فإذا جاء وعد الآخرة جئنا منه بكم لفيفا وأنت تقول إن المراد "فإذا جاء وعد الزمن الأخير جئنا بكم لفيفا"، فما دام الله تعالى قد قال من قبل أيضًا في سورة بني إسرائيل فإذا جاء وعد الآخرة لِيَسُوءُوا وجوهكم مشيرًا إلى هجوم البابليين؛ فلم لا نقول أن قوله تعالى فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا..إنما يشير إلى حملة الرومان تلك؟ والجواب أن هذا غير ممكن، ذلك لأن قوله تعالى فإذا جاء وعد الآخرة ليَسُوءُوا وجوهكم جاء في سياق العذاب حيث بين الله تعالى أنه عندما يحين ذلك الوعد سيُهلكون ويُدمرون، أما قوله تعالى فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا فجاء في سياق الإنعام حيث بين الله تعالى أنه حينما يأتي وقت هذا الوعد سيأتي الله ويسكنهم في هذه البلاد ثانية.إذا فكيف يمكن أن يُعتبر نبوءة العذاب إنعاما؟ فثبت من ذلك جليًّا أن وعد الآخرة المذكور هنالك هو غير وعد الآخرة المذكور هنا.إن وعد الآخرة هنالك يعني آخر حلقة من النبوءة المتعلقة بالسلسلة الموسوية، أما وعد الآخرة هنا فيعني النبوءة المتعلقة بعصر محمد رسول الله ﷺ فالوعدان مختلفان رغم تشابه الكلمات.أحدهما وعد العذاب، والآخر وعد الإنعام، وشتان بينهما.بهم قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ صلے فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ وَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبُ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ) شرح الكلمات: آذنتكم: آذَنَه الأمرَ: أعلمه به (الأقرب).

Page 682

الجزء الخامس ٦٧٧ سورة الأنبياء التفسير : أي أن الوحي النازل علي يشتمل على التوحيد، أما الأمور الأخرى المذكورة فيه فكلها تابعة له.فلو أنكم لبيتم هذا النداء لورثتم أفضال الله تعالى أما إذا أعرضتم عن هذا الصوت فاعلموا جيدا أن ساعة هلاككم آتية يقينًا، عاجلاً أو آجلاً.إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (3) وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَنعُ إِلَى حِينٍ ) شرح الكلمات : فتنة: الفتنة: الخبرة والابتلاء الضلال والإثم والكفر؛ الفضيحة؛ العذاب؛ العبرة؛ المال والأولاد؛ اختلافُ الناس في الآراء وما يقع بينهم من القتال (الأقرب).التفسير: أي أن الله تعالى يعلم الظاهر والخفي من القول، وأنا لا أعلم هل سيؤدي بكم الإنكار للوحي الذي يُعرض عليكم إلى دمار طويل المدى، أم أنكم ستحققون الرقي لبعض الوقت.قَبلَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ التفسير : تدعو الله لقد علم النبي هنا دعاء لأمته، حيث قيل لـه يا محمد، عليك أن تعالى وتقول اللهم حين يأتي على المسلمين زمن الانحطاط، ويعود اليهود إلى الأرض المقدسة ثانية، فلا شك أن أفراد أمتي سيكونون ضعفاء عندها، ولكن بما أن حكمهم هو حكمي في الواقع إذ بعثتني بصفة خاتم النبيين إلى يوم القيامة، فستعتبر هزيمتهم هزيمتي، ولكنك قد اخترتني محبوبًا لك، وأما اليهود فهم المغضوب عليهم عندك؛ فأبتهل إليك أن ترعى صلتي بك، فتحكم بين قومي وبين اليهود بالحق،

Page 683

الجزء الخامس ٦٧٨ سورة الأنبياء وتجعل قومي غالبين على اليهود، لكي يدخلوا في عداد عبادي الصالحون)، ويستولوا على فلسطين مرة أخرى.ومن الواضح أن الدعاء الذي ورد في القرآن الكريم بلسان محمد رسول الله ﷺ لا بد أن يحظى بالقبول، لأن الله تعالى لا يمازح أبدًا.فعلى المسلمين أن يصلحوا أنفسهم لأن الله تعالى قد حذرهم في القرآن الكريم، كما عليهم أن لا ييأسوا من حسن عاقبتهم، لأن الله تعالى هو الذي قد جعل محمدًا رسول الله ﷺ يدعو لنجاحهم للمرة الثانية، وهو دعاء مستجاب يقينًا.

Page 684

ملحقات وَضَعَ الأصل الأردو: الأستاذ سيد عبد الحي شاه ناظر التصنيف بالجماعة

Page 685

(1) فهرس المواضيع

Page 686

Page 687

الجزء الخامس الله ل (راجع أيضا التوحيد، الرب، العبادة) الله اسم علم للذات الإلهية اسم "يهوه" الوارد في التوراة ليس علمًا الله تعالى دليل على وجود الله أكبر دليل على وجود الله استجابة الدعاء ۲۷۲ ۳۰۳ ،۳۰۲ ٤٠٨ ۳۳۵ ۵۹۸ ٤٤٠ ٣٤ - ٣٥ لا أحد يستطيع أن يصل إلى كنه الله الله منزه عن التجسد وموجود في كل مكان الحكمة الله مخفياً وراء الحجاب بقاء من ربنا الذي أعطى كل شيء كفاءاته التي طاقته ووسعه تتناسب مع دليل على وحدانية الله إقرار التوراة بأن الله وحده لا شريك له تركيز الأناجيل على كلمة "الله الواحد" إبطال بنوة أحد الله تعالى المراد من "ابن الله" ΕΛ ٣٠٦ ٣٠٤ ۹۰ ۵۷۳ - ۵۷۲ A.ظهور الله في الرؤية والكشف بصورة الوالدين ٢٥٧ خطاب المسيح الله لا بأبي يراد بالله في المسيحية الأقانيم الثلاثة ۳۰۰ - ۲۹۹ ٥٧ يقدم الكتاب المقدس وجود الله بشكل بشع لا يغير الله تعالى سنته معاملة الله مع ا المسلمين عديمة النظير من يحب خلق الله ينشأ في قلبه حب المراد من الذهاب إلى الله كيفية لقاء الإنسان بالله 01 ۵۸۱ ٤٥٧ ٤٣٩ ٤٤١ - ٤٤٢ ۳۰۷ صفاته سبحانه وتعالى ملحقات أهم الصفات الإلهية قسمان الصفات الإلهية: الجوهرية والتابعة من ٣٣٥ ۲۷ ٢٥ في المقطعات إشارة إلى الصفات الإلهية تتجلى الصفات الإلهية نتيجة بعض الحوافز المعينة ١٤٧ ٢٥ ٤٨٢ الدعاء وثيق الصلة بالصفات الإلهية العرش نقطة مركزية لصفات الله التنزلية انکشاف أوسع لمعاني الصفات الإلهية يوم القيامة ٣١٤ ضرورة مناقشة المسيحيين على ضوء صفات الله ۳۰ نتيجة إنكار الصفات الإلهية أربع صفات إلهية في "كهيعص" تبطل المسيحية ١٤٢ الخلق متعلق بصفة العلم ٣٤٠ ٣٣ - ٣٤ صفتا الكافي والهادي تابعتان لصفتي العليم والصادق ۲۷ صفتا الكافي والهادي حاسمتان بين الإسلام والمسيحية صفتا العليم والصادق تعارضان عقيدة الكفارة أنواع رحمة الله وال رحمة الله غالبة على عقابه صفة الله الرحمن معنی ينزل الوحي نتيجة الصفة الرحمانية ٢٧، ١٤٢ ۳۰ ١٤٧ ٥٦٣ ۲۰۲ ٤٨٢ الإيمان بصفة الله الرحمن يقضي على المسيحية والهندوسية المسيحية تنكر الصفة الرحمانية معنى صفة الله الرحيم الحي والقيوم الله قدوس لأنه منزه بذاته حقيقة "كن فيكون" السلام معنى كلمة "السير الله" في الكتاب المقدس ٢٢، ٦٩ عالم الغيب ٣٤١ - ٣٤٢ ۲۰۱ ۲۰۲ ٤٠٨ ٢٥٤ ۲۸۱ ٢٥٣ ،۹۰

Page 688

ملحقات کلام الله تعالى (راجع الوحي) الآري (راجع الهندوسية) الآية (راجع الدليل أيضًا) معنى الآية الآيات البينات الآية الإلهية ليست سحرًا المراد من جعل أحد آية حقيقة جعل عيسى العليها آية الآيات التسع لموسى العلي ٤٠٥ ۲۰۸ ۲۰۸ ٤٩٥ - ٤٩٩ جعل الله آيات ظاهرة لبني إسرائيل إيفاء لعهده ١٧٥ آية ظهرت على يد حضرة المفسر الابتلاء ۲۹۲ - ۲۹۱ الجزء الخامس تفصيل إثم آدم في الكتاب المقدس كانت حواء أشد إنما بحسب الكتاب المقدس هل كان المسيح طاهراً من إثم آدم؟ تغفر ذنوب الإنسان كلها بالتوبة النصوح غفران المسيح الناس من دون الكفارة إمكانية تجنب الإنسان الإثم وفق الأناجيل الاجتهاد خطأ آدم كان اجتهاديًا نتيجة اتباع الاجتهادات الخاطئة ۹۹-۹۸ ۹۸ ۹۷ ٥٢، ٦١ ۷۹ ٦٤ ٥٢، ٥٨، ٥٥٤ ۳۸۲ الأحمدية الجماعة الإسلامية الأحمدية لا فرق في الظاهر بين الأحمديين وغير الأحمديين ١١٣ إشارة قرآنية إلى رقي الإسلام والأحمدية ٣١٦ ستكون الأحمدية سبباً في اندحار المسيحية ١٠٧، ٣١٧ ۳۱۷ ٦٧٤ ٢٤٠ ۲۳۷ ستضم الأحمدية أكثر أفراد العالم إليها قاديان وربوة مركزا الجماعة الأحمدية تشكيل المسيح الموعود لمؤسسة "أنجمن" عقيدتنا أن المسيح اللي ولد بغير أب جماعتنا لم تدرك أهمية إنجاز المسيح الموعود في إثبات وفاة عيسى تسمية الأحمديين أولادهم محمداً وأحمد بدل عیسی ۲۹۷ سبب تسمية رئيس مجلس خدام الأحمدية" قائدا ٤٤٦ على دعاتنا أن يكثروا دعاء:"رب اشرح لي صدري" ٥٠٠ ٤١٧ ٤١٧ ۳۳۵ ٢٩١، ٣٤٥ ٢٩١، ٣٤٥ كل تغير وحادث يزيد الجماعة ازدهارا رقي الجماعة بعد الهجرة من قاديان الأحمديون الجدد ومسألة تقبيل يد الخليفة ٦٠٨ ۳۳۸ 300-000 ١٥ ٤١ - ٤٢ ٥٠ ٢٧٤ ٤١ ۹۳ ابتلاء الإنسان بالخير والشر الابتلاء الأكبر لإبراهيم العلي إبليس حقيقة امتناع إبليس عن السجود لآدم ابن الله (راجع المسيحية) الأتراك دخول الأتراك في الإسلام الإثم (راجع أيضًا الثواب والكفّارة) حقيقة الإثم جزءان للإثم الإثم السلبي والإثم الإيجابي دواعي الإثم كلها خارجية لا عوض ولا بديل للإثم الله غير قادر على غفران الذنوب عند المسيحية ٢٠١ معارضة الأحمدية إبطال عقيدة الإثم الموروث ۳۹ ، 54، 55، 70، 571 إبطال عقيدة الإثم الموروث وفق الكتاب المقدس ٧٦ فتن ضدها عام ١٩٥٣ حادثة من سلسلة الفتن عام ١٩٥٣م

Page 689

الجزء الخامس علامة التأييد الإلهي لنا فتنة البنائين يكفرون من يرفع صوته ضد الفتنة المسيحية ۲۹۱ ٥٤٢ قول البعض أن الطاعون والأوبئة أتـ ة أتت بسبب مؤسس الأحمدية الارتداد عقوبات الارتداد في الزمن القديم الإرهاص ٦٣٨ ٦٢٣-٦٢٤ ملحقات ظهور نبي في المسلمين لم ينهل من فيض محمد إهانة له وللإسلام بساطة المساجد الإسلامية ۱۱۱ ٤٢٥ احتلال اليهود المؤقت لفلسطين دليل على صدق الإسلام ٦٧٥ بعض المماثلات بين الأمتين الإسلامية واليهودية من حيث الأحوال تعليمه 12 كان يحيى إرهاصا للمسيح ١٤٤، 146، 156، 185 يجى أول نبي أتى إرهاصاً لنبي مريم إرهاص ليحي العليا إرهاص لمحمد ﷺ عیسی سيد أحمد البريلوي إرهاص للمسيح الموعود الاستشهاد رغبة الصحابة في الاستشهاد ۱۵۹ 127 127 ١٥٩ ۳۱۲ دليل على تطابق تعليم الإسلام بالفطرة السليمة عليم الإسلام منزه عن الإفراط والتفريط التوحيد الذي يعرضه الإسلام الإسلام يقول بنقاء الفطرة الإنسانية ٦١٦-٦١٧ ۳۷ تعليم التوحيد في الإسلام جعل الهندوس والمسيحيين الآن يقولون أننا موحدون ٥٨٤ كيف يعامَل يوم القيامة من لم تصله دعوة الإسلام ٦٥ استشهاد يحيى لا يخالف وعد السلام الإلهي له ١٨٣ تعليم الإسلام المتعلق بالثواب والعقاب الاستهزاء استهزاء الكفار بالرسول استهزاؤهم بالأنبياء الإسراف تعريف الإسراف الإسلام ظهر الإسلام عند فساد الأديان كلها الوعد بدوام الشريعة الإسلامية كلام الله مع أفراد الأمة دليل صدق الإسلام حياة الإسلام أمام الإسلام والمسلمين هدف عظيم ۵۷۸ 1.2 ٤٢ ٦٢٨ 111 ۱۱۲ ٦١٦-٦١٧ الإسلام يقول بعدم خلود الجحيم الإسلام يقدم نظامًا معتدلا مختلفا عن الرأسمالية والاشتراكية الإسلام لا يبيح الحروب العدوانية ذرائع ارتقائه نبأ بعثة المجددين في الأمة تجديدا للإسلام سيتم إحياء الإسلام على يد المسيح المحمدي سيغلب الإسلام بأيدي أصحاب الكهف للمسيح 0.1 ٦٦٣ ٢٤ ٦٢٧ ۱۷ العلية الموعود 17 أنقذ المسيح الموعود الإسلام من الإلحاد بإثباته الموت الطبيعي للمسيح العلي 111 تقديم التعليم الصحيح للإسلام السبيل الوحيد لرقيه في الوقت الراهن ٤٣٥

Page 690

ملحقات مستقبله ٦٢٦ 710-712 ١٥، ٦٦٤ الصلاة الإبراهيمية خير دعاء لرقي الإسلام نبوءة غلبة الإسلام وهزيمة الكفر نبوءة غلبة الإسلام ثانية يرتقي الإسلام ثانية بعد دمار الأقوام الغربية ذات إشارة قرآنية إلى رقي الإسلام والأحمدية العيون الزرقاء المسيحيون يعتنقون الإسلام أخيرا ٥٤٨ - ٥٤٩ ٣١٦ ۳۱۸-۳۱۷ الإسلام سيغلب بواسطة أصحاب الكهف أي أتباع المسيح الموعود العلي أعداؤه المسيحيون أعداء الإسلام الحقيقيون 17 ۱۷ ٤ الجزء الخامس يجب ألا يطمعوا في المال برؤية ثراء أوروبا يجب أن يركزوا على الصلاة الإبراهيمية ٥٦٣ ٦٢٦ ضرورة حثهم للأولاد على الصلاة هذه الأيام خاصة ازدهارهم وانحطاطهم ٤٥٧ 12 تأييد الله المسلمين بشكل منقطع النظير ازدهاران ودمارن للمسلمين بعد زمن النبي ﷺ القرون الثلاثة الأولى أفضل فترة من ألف سنة لرقيهم الرخاء في عصر بني عباس وبني أمية الدمار الأول أتى عند نهاية عصر بني عباس سببان لدمار المسلمين ٤٦٦ ٦٤٣ 12 2.1 ٥٦١-٥٦٢ رخاء الأقوام الأخرى مقارنة بالمسلمين المسيحية أكبر فتنة ضد الإسلام في هذه الأيام ٦٢٦ نكسة شديدة للإسلام بأيدي المسيحية الغربية الإسلام والمسلمون المسيحيون أتباع قابيل والمسلمون أتباع هابيل ١٥ ۷۸ مستقبلهم ازدهارهم الثاني مقدر بمسيح يُبعث فيهم نبأ ظهور ذي القرنين الموعود لرعايتهم نبأ ازدهارهم بعد الدمار الثاني المسلمون وحدهم يصلّون على إبراهيم وأولاده ٣٥٠ مكة والمدينة أهم مراكز المسلمين تأثر النصارى من أخلاق المسلمين المسيحيين اتباعهم للملكية المشيخية كاليهود أخطاء وقعوا فيها غفل المسلمون زمن قوتهم عن تركوا التدبر في القرآن ٦٧٤ ٤٥٧-٤٥٨ ٤٣٥ ٣٨٤ ١٥١ نبأ حماية المسلمين من اضطهاد المسيحيين سيمنح المسلمون ستة قرون للاستقرار الروحي بعد القرن الثالث عشر 17 ۱۷ ۱٥ ٥٥٠ ٤٦٦ احتلال اليهود الأرض المقدسة ثانية إنذار للمسلمين ٦٦٧، ٦٧٣ ۳۳۱ استيلاء المسلمين التالي لفلسطين سيكون أبدياً نبوءات حول الإسلام ورسوله راجع الاعتقاد بعدم بعثة مأمور سماوي رغم ضرورة الإصلاح تكفيرهم للذين ينشرون الإسلام بين المسيحيين ٤٥١ فساد مشايخهم ٦٣٢،٤٠١ ،۳۸۳ ، ۱۵۱ ،١٠٦ النبوءات) الاشتراكية الإسلام يقدم نظامًا معتدلا مختلفًا نصائح للمسلين ضرورة إصلاح أنفسهم وعدم القنوط ۶۷۸ ،۱۱۲ والاشتراكية عن الرأسمالية ٦٦٣

Page 691

الجزء الخامس ملحقات أصحاب الكهف الإسلام سيغلب عن طريق أصحاب الكهف أي أتباع المسيح الموعود العليا الافتراء 17 نَسَبُ المسيح اللي في الإنجيل ٧٤ ٦٧ ٦٧،٣٠، ٤٦٤، ٥٨٥ لم توجد الشريعة قبل موسى وفق الإنجيل الشريعة لعنة بحسب الإنجيل نزول إيليا.السماء من يعني ظهور يوحنا بحسب الإنجيل ۱۸ صاحب الافتراء والتكذيب يعاقب في هذه الدنيا ٦٠٢ أحوال يوحنا في الإنجيل الإلحاد حمى المسيح الموعود المسلمين من الإلحاد بإثباته وفاة المسيح الطبيعية الإلهام (راجع الوحي) ۱۱۲ كان المسيح يعامل أمه بجفاء بحسب الإنجيل مريم لم تؤمن بالمسيح بحسب الإنجيل دليل على أن شرع موسى لم يُنسخ ببعثة المسيح 171 ۱۹۱ ۱۹۳ ١٦، ١٧٨، ٢٥٦ الأمة المحمدية (راجع أيضا الإسلام ومحمد ) دعاء علمه الرسول ﷺ لأمته تعليم الله الأمة دعاء الصلاة الإبراهيمية كل الأمة مشمولة في الصلاة الإبراهيمية ٦٧٧ ٦٢٤ ٦٢٦ خبر بعثة المجددين في الأمة لتجديد الإسلام ١٤٣، ٦٢٧ التماثل بين خلفاء الأمة المحمدية أي المجددين ١٤٣ العلماء الروحانيين أو المجددين ١٤٣ والخلفاء الموسويين "علماء أمتي" يعني المسيح الآتي سيكون من ا الأمة المحمدية ۱۱۲ الإنجيل والتوحيد اعتراف الإنجيل بأن الله وحده لا شريك له ٩٠، ٣٠٤ "ابن الله" في الإنجيل تعبير الإنجيل وحقيقة الكفارة ۲۹۹ ،۸۴ - ۱ وجود الصلاح في الدنيا بدون الكفارة وفق الإنجيل ٧١ آدم لم يُذنب بحسب الإنجيل ٦١ - ٦٢ الملك صدق" سالم أزلي وأبدي ومشابه للمسيح ٧٠ ذکر صلاح زكريا وزوجته ويوحنا مدح يحيى العلة في الإنجيل ۷۱ 17.الإنجيل ونزول المسيح عن الصليب حياً آخر وصية الرسول ﷺ لأمته هي تجنب الشرك ٦٠٠ الأمن الجنة الدنيوية هو الأمن الروحاني وقرب الله المؤمن مدعاة البركة والأمن للناس الإنجليز ٥٣ ٤٥٨ لم يمت المسيح على الصليب وفق الإنجيل 140-139 ،۱۱۲ أكبر معجزة للمسيح معجزة يونان وفق الأناجيل ١١٢ لا مماثلة بين المسيح ويونان بحسب الإنجيل إلا بالإقرار نبوءة قرآنية عن زوال الإنجليز الحرب العالمية الأولى والإنجليز اتساع حكمهم صار عباً عليهم قضية مدح الإنجليز والخيانة الإنجيل (راجع أيضا المسيحية) ۵۱۳ 712 ٤١٦ ٦١٤ أن المسيح نزل من الصليب حيًّا ۱۲۵ ألف لوقا إنجيله بعد حادث الصليب بسبعين أو ثمانين عاماً ۲۲۷ المقارنة بين القرآن والإنجيل مقارنة بين دعاء الإنجيل وسورة الفاتحة أحد الفروق بين القرآن والإنجيل ٢٧١ - ٢٧٤ ٥٩٤

Page 692

ملحقات لغة القرآن الكريم والإنجيل ٤٦٦ י الجزء الخامس كيفية لقاء الإنسان بالله ٤٤٠ - ٤٤٢ اختلاف القرآن مع الإنجيل في ذكر يحيى ١٦١ - ١٦٣ فرق هام بين الإنسان والمخلوقات الأخرى مقارنة بين القرآن والإنجيل حول أحوال مريم ۱۹۳-۱۹۱ تصديق الإنجيل القرآن في كون يحيى منقطع النظير ١٦٠ الإنجيل يؤكد ما نسبه القرآن للمسيح من دعاوي نقص الأناجيل وتحريفها ٢٤٨ - ٢٧٩ أهل الحديث الأحمديون الجدد منهم ومسألة تقبيل يد الخليفة ٣٣٥ الأولاد ثلاثة دواع للأولاد ٣٠٦ دليل على نقص الأناجيل نماذج التحريف في ترجمة الإنجيل بعد نقد المسيح الموعود لــــه الإنسان لم يُخلق الإنسان بدون حكمة غاية خلق الإنسان أن يكون عبدًا الله المراد من خلق الله آدم على صورته كل مولود يولد على الفطرة (حديث) الإنسان طاهر بفطرته الفطرة الإنسانية تدل على البعث بعد الموت ۲۰۷ ۵۸۷ ٤٩ ۵۸ ۵۳ ٣٧، ٤٦ ۳۹۷ 71.71.٦٣٣- ٦٣٤ ٦٠٨ ٤٣ ۳۸ ۳۹ ٤٤ ۱۸۲ ۰۷۱ ٤٦٨ الإنسان ضعيف بفطرته خلق الإنسان من عجل الله الكون كله للإنسان سخر ابتلاء الإنسان بالخير والشر في كل إنسان ضمير يفرق بين الخير والشر ليس في وسع الشيطان تضليل كل بني آدم جميع النوازع التي تفسد الإنسان خارجية الإنسان الناجح والفاشل ثلاثة أدوار للحياة الإنسانية كل الأنبياء كانوا من البشر الإنسان الكامل : محمد ﷺ حب الإنسانية يولّد حب الله تسمية الأحمديين أولادهم محمداً وأحمد بدل عیسی انتزع من كفار مكة أولادهم وصاروا خداماً للرسول ضرورة حث المسلمين أولادهم على الصلاة ۲۹۷ ٤٢٤ هذه الأيام خاصة المؤمنون أولاد الله الروحانيين ولد المسيح بدون أب الولادة بدون أب لا تخالف سنة الله ۳۹۰ ۲۱۱ ،۱۹ ۲۱۱ ،۲۰ الإيمان والمؤمن من معاني الإيمان منح الأمان معنى قوله تعالى وعد الرحمن عباده بالغيب الإيمان يستلزم الخفاء المؤمن مدعاة البركة والأمن للناس صفة الطيران في المؤمنين المؤمنون أولاد الله الروحانيين ٤٥٨ ٣٨٥ ٦٢٢ ٤٥٨ ٦٤٢ ۳۹۰ من وجد حلاوة الإيمان فلو قذف بعد ذلك في النار فلا يبالي الشيخوخة لا تمنع المؤمن من التعلم والعمل 019-011 ٥٥٢ البابا (راجع أيضًا المسيحية) إعلانه أن مريم زوجة الله تعالى ۳۱۱ البخل تعريف البخل ٤٢

Page 693

الجزء الخامس البرزخ الدور البرزخي من الحياة الإنسانية البركة مهبط الوحي يصير مباركا سبب وجود البركة في الكعبة تستمر البركة في المقام الذي تنزل عليه مرة المؤمن مدعاة البركة والأمن للناس البركة في الطعام على يد المسيح واقعات البركة في حياة الرسول البركة في طعام ومال المفسر الله البروتستنتية (راجع المسيحية) البشر كل الأنبياء كانوا من البشر كان الرسول ﷺ بشرا البعث بعد الموت البعث الفردي والبعث الجماعي بعثة الأنبياء الثانية بعثة الرسول الثانية البهائية نشأت عام ١٨٤٤ م ۱۸۲ ٣٥٥ ٣٥٥ ٣٥٥ ٤٥٨ ٢٦٧ - ٢٦٨ ٢٦٨-٢٦٩ ،۲۳۷ ٢٦٨ ۰۷۱ ۰۷۱ ،۸۸ ٤٣٨ ،۲۹۲ ۲۹۲ ۲۹۳ دحض دليل تقدمه البهائية على نسخ الإسلام ٦٧٤ V التأويل (راجع أيضا الرؤيا) ضرورة تأويل الاستعارة والمجاز التبليغ فن التبليغ ملحقات ٦٢ ٥٠٠ ضرورة خطاب كل قوم بلغته لسهولة التبليغ ٢٤ ٤٣٤ جهاد الوقت الراهن تبليغ الإسلام والدعاء على دعاتنا أن يكثروا دعاء:"رب اشرح لي صدري" ٥٠٠ إنما معجزة يونان النبي أنه أُعطي فرصة للتبليغ الناجح ۱۲۲ إنما المعجزة الأساسية للمسيح لليهود تبليغ دعوته بين بني إسرائيل الضالين ١٢٤ - ١٢٥ نصيحة المسيح لتلامذته عند إرسالهم للتبليغ ۱۲۷ التسبيح المراد من تسبيح الجبال والطيور التسخير ٦٣٤ سخر الله الكون كله للإنسان حقيقة تسخير الجبال والرياح لداود وسليمان ٦٣٣- ٦٣٤ ٦٣٣ التفسير الفرق بين هذا التفسير والتفاسير الأخرى ٣٦٣ لم تذكر التفاسير حكمة ذكر القرآن الأنبياء بترتيب خاص في سورة مريم خطأ للمفسرين القدامى ٣٢٣ - ٣٢٤ ۳۸۸ البهائية شوقي أفندي زعيم البوذية ٦٧٤-٦٧٦ ٦٧٤ سردهم في تفاسيرهم أموراً خاطئة كثيرة عن الكتاب المقدس ٣٦٢ حذف القصص التوراتية والإنجيلية من التفاسير سيكون تأثر اليهود القاطنين في أفغانستان وكشمير من الحضارة خدمة جليلة ٣٦٣ البوذية ۱۲۷ قصص فارغة في التفاسير أحوال للسامري في التفاسير والرد عليها

Page 694

ملحقات الجزء الخامس ذكر الجن والجبال والطيور الخاضعة لسليمان في أول ما أمر به موسى هو التوحيد التفاسير أحوال أيوب ومرضه في التفاسير تعظيمهم المسيح اللة بشكل مبالغ فيه ٦٣٢-٦٣٣ ٦٤٤ ۲۱۷ إقرار التوراة بأن الله وحده لا شريك له دليل على وحدانية الله عل التوحيد الكامل هو الاتصال والاتحاد الكامل بالله ٥٩٨ ٤٦٥ ٣٠٤ ٣٠٦ ۵۹۸ ۰۹۰ توحيد البارئ تعالى يقتضي أني يكون عنده العلم الكامل لو كانت في الكون آلهة إلا الله لفسد تعليم التوحيد الذي يعرضه الإسلام تعليم التوحيد في الإسلام جعل الهندوس والمسيحين الآن يقولون نحن أيضا موحدون شوق الرسول ﷺ إلى التوحيد التوراة (راجع الكتاب المقدس) التنويم المغناطيسي (Mesmerism) لا علاقة له بالروحانية ٥٨٤ ٤٦٩ 21.الثالوث التثليث (راجع أيضا التوحيد والمسيحية) التثليث أهم عقائد المسيحيين ۳۱ ۳۱ ۳۱۲-۳۱۱ ٦٣٨ عقيدة التثليث تابعة لنظريات الكفارة والنجاة اختلاف الفرق المسيحية حول التثليث ثمود (قوم ثمود) الثواب والعقاب تعليم الإسلام المتعلق بالثواب والعقاب ٦١٦-٦١٧ الإسلام يقول بعدم خلود الجحيم الثواب أو العقاب متوقف على إتمام الحجة ٥٠ الثواب يختص بالله عالم الغيب ۵۱۰ 711601.صاحب الافتراء والتكذيب يعاقب في هذه الدنيا ٦٠٢ الجبر الجبر يبطل غاية خلق الإنسان ΕΛ ۱۸۰ ٣٤٦ ۳۹۰ ٦١٤ التقوى التقوى تعني طرد السيئات الخارجية المعيار الدقيق للتقوى كل تقي ابن الله التكبر الأمة التي يطول عمرها تصاب بالتكبر التمثل تكلُّم الجماد على سبيل التمثل كلام الأصنام يوم القيامة تمثلاً ٤٣٠ ٤٣٠ يتمثل كلام الله تعالى عند نزوله بصور مختلفة ١٩٩ تمثل كلام الله على مريم بصورة بشر ۱۹۹ ٦٢ ٦١ ۱۳۳ ٤٦٦ ۹۰ ^.التمثيل ضرورة تأويل الكلام التمثيلي والاستعارات حادثة آدم ذُكرت على سبيل الاستعارة كان اليهود مولعين بالتمثيل في الكلام ٦١،٥٢ ،۳۸ ۵۸۱ ٦٧٧ يكثر استخدام التمثيل في الإنجيل تمثيل شجرة التين ذكره المسيح تمثيل الكرم ذكره المسيح التوبة ذنوب الإنسان تغفر بتوبة صادقة باب التوبة من عند الله مفتوح كل حين التوحيد الله يعلم التوحيد وحي مهمة الأنبياء المشتركة هي نشر التوحيد

Page 695

ملحقات جنة آدم كانت جانب المشرق من عدن عند التوراة الجنة الدنيوية هو الأمن الروحاني وقرب الله ٥٥، ١٩٦ ۰۳ ٤٣٤ ٤٣٤ الجهاد جهاد الزمن الراهن هو الجهاد بالقرآن تحذير المسيح الموعود لمن يخرج للقتال الديني جهنم (راجع الجحيم) الحب من يحب خلق الله ينشأ في قلبه حب حقيقة "العشق المجازي" معاني قوله تعالى "سيجعل لهم الرحمن ودا" الحجة الثواب أو العقاب متوقف على إتمام الحجة الحجة على الجميع بدرجة واحدة (المسيح لا تتم الموعود العليا) ۵۱۰ ۵۱۰ كيف يعامل يوم القيامة من لم تصله دعوة الإسلام ٦٥ ضرورة الحوار مع المسيحيين على ضوء صفات الله ٣٠ الحديث الأحاديث الواردة في هذا المجلد إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب ١٤٣، ٦٢٧ 0.1 ٦٢٩ ٦٣٥ ٤٠٤ ١٤٣ ٤٧٨ ٤٧٢ (نوح) أول نبي شرعت على لسانه الشرائع جعلت لي الأرض مسجداً الحمى حظ المؤمن من النار علماء أمتى كأنبياء بني إسرائيل فغطّى حتى بلغ مني الجهد قد خشيت على نفسي ٦٠٦ الجزء الخامس الجبل نشأة الجبال وفوائدها المراد من تسخير الجبال لداود العليا ٦٣١ المراد من تسبيح الجبال الجبال بمعنى أهل الجبال الجحيم وجهنم تحقيق لغوي لكلمة "جهنم" مصائب الدنيا حظ المؤمن من الجحيم هل كل إنسان يُلقى في الجحيم؟ إنما يدخل جهنم من تمت عليه الحجة لن يدخل أحد من أصحاب بدر والحديبية الجحيم (الحديث) إبطال عقيدة المسيحيين والهندوس بخلود الجحيم ٦٣٤ ٦٣٤ ۳۹۸ ٤٠٤ ٤٠٢ 01.٤٠٣ 71761.0 ۱۰۹ من دخل الجحيم، ابن آدم أم ابن الله؟ حديث يفيد أن الله وعمل سيضع قدمه في الجحيم فتبرد 1.9 ٦١٦-٦١٧ ۳۸۷ ٤٩ ۵۳ ٣٨٥ ۳۸۹ ٣٨٦ 001-007 007-000 الجنة الجنة خالدة غير منقطعة رزق الجنة حقيقة تقريب المتقين من الجنة حقيقة "ولمن خاف مقام ربه جنتان" المراد من جنات عدن حقيقة "السلام" على أصحاب الجنة "لا معنى يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً" معنى "ورق الجنة" الجنة التي وضع فيها آدم

Page 696

ملحقات قد خلا مئة وعشرون ألف نبي كلا والله لا يخزيك الله أبدا....كل مولود يولد على الفطرة...لتحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً ١٥٦ ٤٧٢ ٥٣ ٤٤١ 1.الحكم الجزء الخامس الأحكام الشرعية قسمان: مؤقتة ومستقلة الحكومة لن يدخل جهنم أحد من أصحاب بدر والحديبية ٤٠٣ من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته...مات فقد قامت قيامته من ٤٣٩ ٥٤٨ واجبات أساسية للحكومة الحواريون نصائح المسيح للحواريين 001 ۲۷۹ ،۱۲۷ (الحمّى) هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون استغرابهم من رؤية المسيح بعد حادثة الصليب حظه النار من يوضع له القبول في الأرض أحاديث الشفاعة عن حديث يصف من وجد حلاوة الإيمان ٤٠٤ ٥٥٤-٥٥٥ ٤٤٩ 6221 019-011 حديث يقول إن الله ل سيضع قدمه في الجحيم فتبرد حديث فيه نبأ بدخول الجيش الإسلامي فلسطين وهروب اليهود منها الحرب الإسلام لا يبيح الحروب العدوانية الحروب الصليبية الحرب العالمية الأولى ۱۰۹ ٦٧٥ ٢٤ غدر يهوذا بالمسيح العليا الحياة ثلاثة أدوار للحياة الإنسانية القرآن يرفض إحياء الموتى في هذه الدنيا الحياة بعد الموت الفطرة الإنسانية تدل على البعث بعد الموت كل ديانة أكدت على الحياة بعد الموت عقيدة اليهود والمسيحية عن الحياة بعد الموت عقيدة الحياة بعد الموت أكثر تعرضاً للإنكار الحيض 18.۸۲ ۱۸۲ ٦٦٤ ۳۹۷ ٣٩٦ ۳۹۵ ٣٩٦ الحرب العالمية الثانية ٥٢٢ OTI 6217-210 217-210 2.1 ٤٠٠ فتاوى المشايخ بعدم استخدام الأسلحة النارية استخدام الشعوب المسيحية النار في حروبهم الأسلحة الجديدة وثيقة الصلة بالنار القنابل الذرية والهيدروجينية الحروف المقطعة (راجع القرآن) الحشر (راجع البعث والحياة بعد الموت) 2.1 ٢١١، ٥٦٤ جواز تلاوة القرآن وذكر الله في الحيض والنفاس الحيوان تأويل رؤية الفأر والسارق وذبح الكبش خدام الأحمدية (راجع خدمة الخلق) خدمة الخلق ۲۲۹-۲۲۸ ۱۹۸ سبب تسمية رئيس "مجلس خدام الأحمدية" قائدا ٤٤٦ لم يأت ابن الإنسان ليخدم بل ليخدم : المسيح ال٨١ أنا مأمور بخدمة الدنيا (المسيح الموعود الله) ۸۱

Page 697

الجزء الخامس ۱۱ ملحقات الخشية الفرق بين الخشية والخوف ٤٧٩ الخوف (راجع الخشية) الدعاء من وجد حلاوة الإيمان فلو قُذف بعد ذلك في النار فلا استجابة الدعاء أكبر دليل على وجود الله يبالي الخلق / الأخلاق أخلاق النبي العظيمة أخلاق الفلاسفة تكون رديئة مقابل الأنبياء لا أحد الفلاسفة جامع للأخلاق من تأثر النصارى من أخلاق المسلمين الخلق (راجع أيضا الكون) الخلق متعلق بصفة العلم حقيقة "كن فيكون" دقيقة مهمة في القرآن عن خلق الكون ربنا الذي أعطى كل شيء كفاءاته التي طاقته تتناسب مع خلق الجبال ووسعه ولد المسيح بدون أب 012 ٥٦٢ ٥٦٢ ٥٦٢ ٤٥٧-٤٥٨ ٣٣ - ٣٤ ۳۰۷ ٦٠٥ ΕΛ الدعاء وثيق الصلة بالصفات الإلهية أقسام الدعاء سبب الفشل قلة الدعاء جواز الدعاء للمشرك في حياته الفاتحة دعاء كامل مقارنة بين دعاء الإنجيل وسورة الفاتحة ٣٣٥ ٢٥ ١٤٨ ٣٨٤ ۳۳۲ ۲۷۲ ٢٧١ - ٢٧٤ إذا ظهر قدر الله فيمنع الدعاء على الأعداء أيضاً ٤٣٣ يلقي الله في قلوب المؤمنين لأن يدعوا حين يوشك هلاك معاندي الأنبياء جهاد الوقت الراهن تبليغ الإسلام والدعاء الصلاة الإبراهيمية خير دعاء لرقي الإسلام تعليم الله الأمة دعاء الصلاة الإبراهيمية ٤٣٧ ٤٣٤ ٦٢٦ ٦٢٤ الصلاة الإبراهيمية خير دعاء ضد الفتنة المسيحية ٦٢٦ على دعاتنا أن يكثروا دعاء:"رب اشرح لي صدري" ٥٠٠ ۲۱۲ ،۱۹ ۲۱۱ ،۲۰ الولادة بدون أب لا تخالف سنة الله الخليفة خلفاء الأمة بمعنى المجددين آداب الكلام عند لقاء الخليفة جواز تقبيل يد الخليفة الخنزير الخنزير لغةً ١٤٣ ٣٨٦ ٣٥٥ ۳۹۸ آداب الدعاء موجبات قبول الدعاء سر استجابة الدعاء ١٤٧ ٦٦٠ ضرورة التوسل بصفة الله الرحمن في الدعاء في الوقت الحرج إسدال الستار للخلوة في الدعاء نتائج استجابة الدعاء ۲۰۲ ۱۹۸ ٤٠٨ أدعية للأنبياء والصلحاء ذبح الحكام الرومان الخنزير في المعبد السليماني ٦٧١ دعاء إبراهيم لنجاة قوم لوط دعاء موسى للوزير دعاء :"رب اشرح لي صدري موسی دعاء أيوب للشفاء من المرض ٣٥٧ ٤٩٩

Page 698

ملحقات مريم دعاء يونس في الوقت العصيب استجابة دعاء أم م دعاء لطيف لزكريا أدعية لعيسى العليا دعاء المسيح للنجاة من الصلب دعاء المسيح.معلقًا على الصليب دعاء الرسول ﷺ لقومه في الطائف دعاء علمه الرسول ﷺ لأمته ١١٩، ٦٦٠ ۱۹۳ ١٥٢ ۲۷۰ ٩٤، ٩٧ ٩٦ ٣٤٤ ٦٧٧ ۱۳ الجزء الخامس احتلال اليهود المؤقت لفلسطين دليل على صدق الإسلام الدنيا (راجع الخلق والكون) الديمقراطية نبوءة قيام الديمقراطية بدلا من الملوكية ترويج الجمهورية بأيدي يأجوج ومأجوج وإخماد الملوكية تشابه بين دعاء للرسول ودعاء لموسى العليا ٤٩١ الدين (راجع أيضًا الإسلام) ٢٥ فساد الأديان كلها عند ظهور الإسلام ٦٧٥ ٥٥٠ ٦٦٣ دعاء علي له عند المصيبة دعاء للمسيح الموعود العليا دعاء للمسيح الموعود اللي ضد المسيحية 189 ٤٣٦ إنما الدين الحق ما يُقنع الناس بوجود الله تحذير المسيح الموعود لمن يخرج للقتال الديني دعاء الخليفة الأول للمسيح الموعود عند النظرة الأولى نبأ بعثة المجددين في الأمة تحديدا للإسلام إلى الكعبة الدكتاتورية نبوءة قيام الديمقراطية مكان الدكتاتورية ٣٤٨ ٥٥٠ ذكر الله جواز تلاوة القرآن وذكر الله في الحيض والنفاس ۳۰ ٤٣٤ ٦٢٧ ۲۲۹-۲۲۸ الدليل (راجع أيضا الآية) أنواع الدليل دليل على وجود الله أكبر دليل على وجود استجابة الدعاء دليل على وحدانية الله دليل على تطابق تعليم الإسلام بالفطرة السليمة ٤٠٦ ٤٠٨ ٣٣٥ ٣٠٦ دليل على نقص الأناجيل ٦١٦-٦١٧ ۲۰۷ دحض دليل تقدمه البهائية على نسخ الإسلام ٦٧٤-٦٧٦ كلام الله مع أفراد الأمة دليل على صدق الإسلام ٦٢٨ الرأسمالية الإسلام يقدم نظامًا معتدلا مختلفا عن الرأسمالية والاشتراكية الرؤيا والمنام ٦٦٣ رؤية الله بصورة الوالدين في الرؤيا والكشف ٢٥٧ تأثير المنام على الرائي حينًا وتأثير تأويله فيه آخر ٢٠٤ رؤيا مريم رؤيا أبيمالك رؤيا حزقيال عن إحياء بني إسرائيل ٢٠٤ ۳۱۸ ٦٥٧ يوسف النجار يعلم براءة مريم في المنام ۱۸۸، ۲۲۰ رؤيا زوج بيلاطس عن براءة المسيح رؤيا أم جنكيز خان تعلم المفسر له سورة الفاتحة في الرؤيا ۱۳۳ ۲۱۱ ۱۹۹

Page 699

ملحقات ٤٩٢ 217-210 300-000 ٥١٥ ۳۸۹ ٣٨٦ الزكاة المال ينمو بالزكاة والصدقة مصارف الزكاة كل الأنبياء طلبوا الصدقات الساعة الفرق بين الساعة والعذاب السجود حقيقة امتناع إبليس عن السجود لآدم السحر الآية الإلهية ليست سحرًا أدب سحرة فرعون لموسى وفقهم للإيمان السلاح (راجع الحرب السلام (راجع أيضًا الأمن) حقيقة "السلام" على أصحاب الجنة معنی "لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً" استشهاد يحيى لا يخالف وعد السلام الإلهي لــه ١٨٣ ٦٠٤-٦٠٥ ٦٠٧ ٦٠٧ ٦٦٦ ٤٨٠ ٣٦٩ السماء (راجع أيضا الكون) معنى فتق السماوات والأرض الفرق بين السماء ء والفلك معنى كون السماء سقفًا محفوظاً المقصود من طي السماء السماء المادية والروحانية عقيدة صعود إدريس إلى السماء ذكر رفع أخنوخ حياً إلى السماء ! الكتاب المقدس ٦٩ إن كان لا بد لأحد أن يصعد في السماء فهو محمد ﷺ 0.1 ۱۳ ١٤٢ ٣٦٥ ٤٣٠ ۱۹۸ ٥٥٧ ٤٨٨ ٤٤٢ ٤٩٤ ١٤٧ IEV ٥٦٣ 010 ٦٠٢ ۳۸۷ ۲۲ ٤٢ ٦٦٧ ٦٦٧ الجزء الخامس إعلام رباني للمفسر له في الرؤيا أن ذكره موجود في "كهيعص" سمي المفسر له "وليام الفاتح" في رؤيا كلام الجماد في المنام تأويل رؤية الفأر والسارق وذبح الكبش تأويل التين الصلحاء وأخيار الناس تأويل الورق النسل الطيب تأويل النعل الأقارب والأصحاب تأويل اللبن النجاة الهلاك من تأويل اليد الولد والأخ والمال والزوجة والشريك والصديق الرحمة (راجع أيضًا الصفات الإلهية) الرحمة العامة والرحمة الخاصة الفرق بين الرحمن والرحيم رحمة الله غالبة على عقابه الوحي رحمة لا لعنة الرزق من داوم على عبادة الله رزقه حلالاً مدعي النبوة الكاذب يعاقب في هذه الدنيا رزق أهل الجنة الرسول (راجع النبي) الرفع إدريس يشبه المسيح في الرفع الروحاني الرهبانية الروح القدس (راجع الملائكة) الزبور كلمات نبوءة الزبور عن فلسطين رسالة مهمة للمسلمين في نبوءة الزبور

Page 700

الجزء الخامس ١٤٣ ۱۱ ۳۲۱ ۳۲۲ ۵۸۱ % 00 ٤٥ إنها تناقش المسيحية تضمنت النبوءة عن الهجرة إلى الحبشة الحكمة في ذكر الأنبياء فيها بترتيب خاص سبب ذكر إبراهيم فيها السيخ كلام مضحك للسيخ عن زعيمهم الشجرة شجرة الحياة شجرة معرفة الخير والشر في الكتاب المقدس الشرع الأحكام الشرعية قسمان: مؤقتة ومستقلة الشريعة الإسلامية دائمة وغير متبدلة الشريعة لعنة بحسب الإنجيل ٦٧،٣٠، ٤٦٤، ٥٨٥ الرد على أن الشريعة لعنة يكمن فخر موسی العلمية كله في مجيئه بالشرع السلسلة الموسوية قامت على الشرع والتوحيد ٥، ٦٣٠،٥٨٥۷۰ ،۱۷۹ ،٣٠، ٤٦٤ °V.٤٦٤ ٢٥٥ ٦٢٩ ۱۷۸ حد الزانية في الشريعة الموسوية الرجم إنه (نوح) أول نبي شرعت على لسانه الشرائع (الحديث) يحيى لم يأت بكتاب جديد دليل على أن شرع موسى لم يُنسخ ببعثة المسيح ،١٦ ١٧٨، ٢٥٦ أربعة لا يُؤاخذون.حسب الشريعة يوم القيامة الشرك ٥٧٢ ٤٥١ قانون واحد في الكون ردُّ على الشرك الشرك مخالف للفطرة الصحيحة ثورة في السماوات والأرض ضد الشرك أنواع الشرك ١٤ ملحقات السورة أوائل سور القرآن نـــزولاً السور التي تتحدث عن المسيحية سورة الإخلاص تردّ على أربعة أقسام من الشرك سورة الأنبياء نزلت قبل بداية السنة الخامسة من البعثة ٥٧٠ خطأ المستشرقين في تحديد زمن نزولها ٥٧٠، ٥٧٦ ٥٧٠ ۵۷۱ ۲۹۳ ٤٦٣ ٤٦٣ ٤٦٤ ٢٧١ - ٢٧٤ ۱۹۹ 17 1 ° 12 ۱۸ ۱۸ 1 ترتيبها وعلاقتها بما قبلها من السور خلاصة مضامينها سورة الجمعة ذكرت بعثة ثانية للرسول سورة طه السور الأوائل نزولاً هي من علاقتها بسورة مريم خلاصة مواضيعها سورة الفاتحة مقارنة بين دعاء للمسيح وسورة الفاتحة تعلم المفسر له تفسير سورة الفاتحة في الرؤيا سورة الكهف خلاصة مضامينها سورة مريم زمن نزولها قُرئت في بلاط النجاشي حكمة في نزولها علاقتها بما قبلها من السور هي حلقة ثالثة لسورتي بني إسرائيل والكهف خلاصة مضامينها تلفت أنظار الإنسان إلى مريم ومن يتصف بصفاتها

Page 701

ملحقات ٢٥٩ ٦٧١ ۳۸۲ ٣٨٤ ٣٨ الشكر تناول النبي ﷺ قطرات الغيث على لسانه شاكراً الله مثال نكران الجميل للمسيحيين الشهوات أحد معاني اتباع الشهوات اتباع الشهوات يقلل الرغبة في العلم والدليل الشيطان ليس في وسع الشيطان تضليل كل بني آدم عدم مس الشيطان ليس مختصاً بالمسيح وأمه فقط ۲۸۰ ،۱۸٤ المراد من عبادة الشيطان ذرائع ثلاث يتم بها الاتصال بالشيطان طرق إغواء الشيطان للإنسان نوازع شيطانية ٣٤٠ ٣٤٢،٣٣٩ ۳۹-۳۸ ۳۹ الشيطان ضلل حواء لتضليل آدم وفق الكتاب المقدس اختبار الشيطان المسيح الشياطين الذين كانوا يعملون لسليمان 1..٢٤٨ ٦٤٣ الشيعة عقيدتهم عن المعراج ١٦٩ الصحابة رضي الله عنهم ٥٠ ٦٤٢ ٤٧٥ ۳۱۲ ٤٠٣ ۳۳۷ الدليل على أن الصحابة صاروا عباد الله حقا رغبتهم في التضحية تعرضهم لإيذاء الكفار رغبتهم في الاستشهاد لا أحد من صحابة بدر والحديبية يدخل الجحيم (الحديث) قصة صحابيين تنفّرا من عبادة الأصنام ١٥ 7..٣٤٤ ۲۳ ۲۳ ٥٦٣ ٤٦٩ ٤٦٩ الجزء الخامس بعث الأنبياء كلهم لاستئصال الشرك الرسول ينهى عن الشرك في آخر وصيته الرسول ﷺ لا ينهى عن الشرك فحسب، بل يعلّم كيف يمكن تجنبه عدم قبول الرسول ﷺ الهدية من مشرك منكرو الحق يشركون بالله دائماً الشرك يؤدي إلى الذل والهزيمة دائماً هلاك الأقوام الوثنية تفشي الشرك وقت بعثة النبي قال اليهود عُزير "ابن الله" نبأ انتشار الشرك بين ذوي العيون الزرقاء في آخر الزمان ٥٤٨ - ٥٤٩ كل أمة تدعي وحدانية الله في هذا الزمن متبرئة من الشرك سيتبرأ المشركون من آلهتهم يوم القيامة كيفية كلام الآلهة الباطلة.القيامة يوم قصة صحابيين تنفّرا من عبادة الأصنام تقبيل يد أحد الصلحاء ليس بشرك ٥٤٨ ٤٢٨ ٤٣٠ ۳۳۷ ۳۳۵ 01.។ ٤٣ الشعر الفرق بين قول النبي شعرًا وبين كونه شاعرًا المراد من اعتبار الكفار القرآن شعراً الشعور Conscience شعور فطري في الإنسان للخير والشر الشفاعة حقيقة الشفاعة أحاديث الشفاعة ٤٤٧ ٤٤١، ٤٤٩ عن الرسول وحده سيُعطى حق الشفاعة القيامة يوم ٤٥٠

Page 702

ملحقات تقبيل الصحابة يد الرسول اتمام الكفار الصحابة بإهانة المسيح وأمه هجرتهم إلى الحبشة كلام الصحابة في بلاط النجاشي الصحبة ٣٥٥ ه 1-7 3-0 صحبة الصالحين هي الوسيلة الحقيقية لإصلاح القوم الصحبة الشريرة أحد طرق الاتصال بالشيطان الصدق من معاني "الصدق" الدوام على الشيء ٣٤٢،٣٣٩ ٣٦ ١٦ الجزء الخامس الصليب (راجع أيضًا الإنجيل) الصلب يعني إخراج النخاع من العظام بعد كسرها ۱۳۸ كان الإنسان يموت على الصليب خلال عدة أيام ١٣٤ التعليق على الصليب لا يخالف مفهوم السلامة بل الموت عليه يخالفها ۲۸۰ اختلاف الآراء حول تعليق المسيح على الصليب ٢٩٤ دعاء المسيح للنجاة.الصلب من وقائع تعليق المسيح على الصليب ٩٤، ٩٧ ۱۳۲ وقعت حادثة الصليب في ظهر يوم الجمعة حسب الأناجيل دعاء المسيح.معلقا.على الصليب ۱۳۲ ٩٦ الصدقة (راجع الزكاة) الصديق مقام الصديقية لم يصف الكتاب المقدس إبراهيم صديقًا بل نسب إليه الكذب صلح الحديبية لا أحد من صحابة بدر والحديبية يدخل الجحيم (الحديث) الصلاة الغفلة عن ۳۲۰ ۳۱۸ ٢٤٠ ٤٠٣ ٣٨٤ الصلاة تحرم الإنسان وصال الله ضرورة حث الأولاد على الصلاة هذه الأيام خاصة الصلاة جماعةً لا تقام إلا في الإسلام مواعيد الصلوات الخمسة في القرآن آداب الصلاة الصلاة الإبراهيمية ومعارفها ٦٣٨ ،٤٨٩ ٤٣٧ ٦٢٤، ٦٢٦ ،۲۸۷ في نزول المسيح من الصليب حياً موت المسيحية 11.دحض نظرية تجسد المسيح بعد النـزول.من الصليب ۹۲ الصنم (راجع أيضا الشرك) قصة صحابيين تنفّرا من عبادة الأصنام ۳۳۷ تفاخر المشركين بضخامة أصنامهم الضلالة أسباب الضلالة الطاعون (راجع المرض الطير سبب تسمية المؤمنين طيراً المراد من تسبيح الجبال والطيور ٤٢٤ ۳۸۲ ٦٣٨ - ٦٤٢ ٦٣٤ لا أحد في الدنيا يصلي صفا إلا الطيور المسلمة ٦٣٨ الظلم الظلم هو استخدام الحقوق والقوى في غير محلها ٥٨٦

Page 703

الجزء الخامس العبادة والعبودية حقيقة العبادة العبادة ليست وسيلة بل هدف يخشع الإنسان في العبادة حسب قربه إلى الله من داوم على عبادة الله رزقه حلالاً قصة صحابيين تنفّرا من عبادة الأصنام المراد من عبادة الشيطان غاية خلق الإنسان أن يكون عبدًا الله ۱۷ ملحقات أقسام العذاب ۳۳۹ ۳۹۳ ٥٧٢ ۳۳۷ ٣٤٠ ٤٩ (الحمّى) هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه النار من ٤٠٤ عبادة أيوب نفعته ٥٧٥ الفرق بين مساجد المسلمين ومعابد المسيحيين ذبح الحكام الرومان الخنزير في معبد سليمان صفات العبد معنى عبد الله وحقيقته ٤٢٥ ٦٧١ ٤٩ ٢٤٣ الفرق بين الساعة والعذاب عذاب الضمير تفصيل عذاب آل فرعون العرب شهرة العرب بقرض الشعر العربية خاصة من خواص اللغة العربية ميزة للغة العربية لا يوجد اسم علم الله إلا في العربية الكلمات العربية تدل على مقتضاها بنفسها ورود فعل الأمر للتوكيد جعل الفعل المجرد إفعالاً للسلب 817-210 ٤٩٥ استخدام لفظ الأب للعم ورود لفظ "الصدق" دلالة على الدوام ٤٠٥ ٤٢٩ ۳۰۲ ٣٠٨ 210 ٤٩٠ ۳۲۸ ٣٦ العبرية أسماء يعقوب وإدريس وإسحاق وإسماعيل وإسرائيل العلاقة القريبة من العربية ٣٠٢ - ٣٠٣، ٣٢٤-٣٢٧ ضرورة التوجه إلى العربية لفهم حقيقة الكلمات العبرية عربية الأصل معاني "ثم" ٣٦١ ۳۹۹ ٥٢٦ العبرية وثيقة الصلة بالعربية المقارنة بين العربية والعبرية قاعدة الجمع في العبرية العذاب (راجع أيضًا الثواب) رحمة الله غالبة على عقابه مدعي الألوهية لا يعاقب في الدنيا ٣٦٧ ٣٠٤ ٥٦٣ ٦٠٢ صاحب الافتراء والتكذيب يعاقب في هذه الدنيا ٦٠٢ هل كل إنسان يُلقى في الجحيم؟ إتيان العذاب لتصديق المرسلين العذاب بسبب إنكار صفات الله إنما أمن قوم يونس برؤية آثار العذاب ٤٠٢ ٦١٣ ٣٤٠ 011 ۳۲۷-۳۲ ،۳۰۳-۳۰۲ ضرورة التوجه إلى العربية لفهم حقيقة الكلمات العبرية المقارنة بين العربية والعبرية ٥٢٦ ٣٦٧ قاعدة الجمع في العبرية العرش ٣٠٤ العرش نقطة مركزية لصفات الله التنزلية حقيقة العرش ٤٨٢ ٤٨٢ - ٤٨٣

Page 704

ملحقات العشق (راجع الحب) العفو عفو الرسول ﷺ عن أهل مكة والطائف العقائد (راجع الإسلام والمسيحية) العقوبة (راجع العذاب) حد الزنا في الشريعة الموسوية الرجـ عقوبات الارتداد في الزمن القديم ٤٧٦ ٢٥٥ ٦٢٣-٦٢٤ العلم الخلق وثيق الصلة بالعلم وعد رباني للرسول بتعليمه علومًا جديدة الشيخوخة لا تمنع المؤمن من التعلم والعمل دعاء: رب زدني علما العمل تعريف العمل الصالح الشيخوخة لا تمنع المؤمن من العمل الإيمان بصفات الله يوسع نطاق عمل المرء ٣٣ - ٣٤ ٤٧١ ٥٥٢ ٥٥٢ ٣٨٤، ٤٥٨ ٥٥٢ ٥٦٢ ٤١٨ رأس مال الإنسان أعماله العهد العهد الرباني لإبراهيم وعلامته العهد الرباني لإبراهيم شمل أولاده كلهم فتح كنعان آية العهد الإبراهيمي العهد الإبراهيمي لم ينته بعد عيسى ۳۳۰ ،۲۰-۱۹ ۳۳۰ ،۱۹ ۳۳۰ ٣٥٨ ۲۰ تحقيق العهد الإبراهيمي كان مقدراً بالرسول ﷺ الغزوات غزوة أحد شجاعة الرسول ﷺ في غزوة أحد غيرة الرسول على الله سبحانه في أحد ٥٠-٥٠١.الجزء الخامس ۵۹۹ ،۵۰۷ غزوة بني المصطلق سلوك رأس المنافقين فيها وغيرة ابنه الإيمانية غزوة تبوك ٤٢٢ حادثة أبي خيثمة فيها غزوة حنين ثبات وشجاعة الرسول ﷺ فيها ۳۰۷ 1.0 إطلاق النبي ﷺ سراح أسرى بني هوازن بشفاعة بنت حليمة الغيب (راجع أيضًا الإيمان) ٥٠٥ الحكمة بقاء من الله مخفياً وراء الحجاب دليل على نزول القرآن من عند عالم الغيب معنى قوله تعالى وعد الرحمن عباده بالغيب الجزاء يختص بعالم الغيب الإيمان يستلزم الخفاء الغيرة (راجع أيضًا المقاطعة غيرة الرسول على الله سبحانه في أُحد غيرة ابن رأس المنافقين عبد الله بن أبي الفطرة الإنسان طاهر بفطرته كل مولود يولد على الفطرة (حديث) الإنسان ضعيف بفطرته خلق الإنسان من عجل الفطرة النارية والطينة الفطرة السليمة تغلب دائماً ٣٤ - ٣٥ ٣٨٥ 01.٦٢٢ ۵۹۹ ،۵۰۷ ٤٢٢ ٣٧، ٤٦ الفطرة الإنسانية تدل على البعث بعد الموت دليل على تطابق تعليم الإسلام بالفطرة السليمة ۰۳ 71.71.71..10 ۳۹۷ ٦١٦-٦١٧

Page 705

ملحقات ٣٨٤، ٤٥٨ ٥٢، ٥٨، ٥٥٤ ٦٦٤ ٦٢٨ ٢٣٧، ٢٤٢ ۱۹ الجزء الخامس شعور فطري في الإنسان بالخير والشر ٤٣ تعريف "العمل الصالح" طبق القرآن بعض الناس يُحاسب وفق فطرتهم (المسيح الموعود) ٦٥ خطأ آدم ليس إثما عند القرآن الفلسفة أخلاق الفلاسفة تكون رديئة مقابل الأنبياء لا أحد من الفلاسفة جامع للأخلاق القانون قانون واحد في الكون رد على الشرك ٥٦٢ ٥٦٢ ٥٧٢ الإنسان ليس آثما بالوراثة حسب القرآن القرآن يرفض عودة الموتى إلى هذه الدنيا إعجازه الإعجاز القرآني القرآن الكريم معجزة عظيمة جدا قانونان في الدنيا قانون الطبيعة وقانون الشريعة القرآن المجيد (راجع أيضا التفسير) بأي معنى كان الكفار يعدون القرآن شعراً دليل على صدق القرآن نزل وحي القرآن بألفاظ معينة سبب تسمية القرآن "مباركًا" لم ينزل القرآن لمشقة الإنسان بل لراحته ۲۸ ។ ۱۲ ،۸ ٤٥٣ ٦١٧ ٤٧٩ ضرورة المجددين والمأمورين لحفظ معاني القرآن ٦٢٧ فهمه سهل ولكن لا بد من فتح نافذة القلب لا بد من تدبر القرآن لفهمه المراد من اعتبار الكفار القرآن شعراً حادثة الشاه ولي الله.أحد حفظة القرآن مع جواز تلاوة القرآن في الحيض والنفاس خصوصية القرآن يذكر خبر المستقبل بصيغة الماضي للتأكيد نزاهته عن اللغو إيجازه أحيانًا يترجم ! الأسماء الأعجمية ويعربها ٤٦٤ ۳۸۹-۳۸۸ ។ ٢٥٨ ۲۲۹-۲۲۸ ۲۰۳ ٦٤٩ ٤٦ ۳۲۸ نبوءات قرآنية (راجع أيضًا النبوءات) في كلمة القرآن نبوءة أنه سيُقرأ كثيراً 001 نبأ رجوع الناس إلى القرآن بعد دمار أوروبا في آخر الزمان المقطعات القرآنية مفهومان للمقطعات يُنسبان إلى الرسول ﷺ ٥٥٠ ٢٥ ٢٥، ١٤٢ في المقطعات إشارة إلى الصفات الإلهية أربع صفات إلهية في "كهيعص" تبطل المسيحية ١٤٢ "طه" ليس من المقطعات بل اسم مستقل كهيع ' تنوب عن ' ذكر المسيح الموعود صفات الله العلمية لا ذكر المفسر له في "كهيعص" عند علي مقطعة "كهيعص" تبين للمسلمين طريق المسيحية مقارنته بالكتاب المقدس فرق بين القرآن والإنجيل الفرق بين لغة القرآن ولغة الإنجيل 11 المناقشة ٤٦٨ ٢٥ ١٤٢ ١٤٢ مع ٤٦٦ ٢٧١ - ٢٧٤ مقارنة بين دعاء للقرآن وأدعية الإنجيل لا قيمة لتوراة موسى أو إنجيل عيسى إزاء القرآن ٢٤٢ فرق بينه وبين الكتاب المقدس حول حادث يونس ۱۲۰ ١٦٨ ٦١٧ ٥٨٥ يرد على كل تهمة نُسبت إلى الأنبياء تعليمه أمر رباني بتلاوة القرآن والعمل به تعليمه موجب للرحمة والبركة

Page 706

ملحقات الجزء الخامس اختلاف القرآن الكريم مع الإنجيل في ذكر أحوال يحيى أربعة لا يُؤاخذون حسب الشريعة يوم القيامة ١٦١-١٦٣ مقارنة بين القرآن والإنجيل حول أحوال مريم ۱۹۳-۱۹۱ تصديق الإنجيل القرآن في كون يحيى منقطع النظير ١٦٠ الإنجيل يؤكد ما نسبه القرآن للمسيح من دعاوى أمور متفرقة عن القرآن لقد ترك المسلمون التدبر في القرآن القضاء والقدر الفرق بينهما القوم موجبات دمار الأمم الأقوام التي تموت آمالها تفنى إذا طال عمر قوم صاروا متكبرين مثال نكران أهل الغرب للجميل لا تزدهر ٢٤٨ - ٢٧٩ أمة إذا تدهورت مرة ولكن يحدث هذا في وقت يأجوج ومأجوج القيامة (راجع أيضًا البعث) يوم القيامة يومان ٣٨٤ بعثة رسول في يوم القيامة الكاثوليكية (راجع المسيحية) الكتاب المقدس (راجع أيضًا القرآن الكريم) ما الكتاب المقدس هو 00 سفر حزقيال هو الكتاب الوحيد الذي كتب جزءا منه النبي بنفسه ٣٠٤ الاعتراف بوحدانية الله في الكتاب المقدس اسم "يهوه" الوارد في التوراة ليس علمًا لله تعالى ٣٠٢، ۳۰۳ ٢٠٦ معنی معنی كلمة "ابن الله" في الكتاب المقدس ۲۹۸ - ۲۹۹ كلمة "السير" مع الله في الكتاب المقدس ٢٢، ٦٩ تعليم الكتاب المقدس حول صفتي الله: العلم والصدق ٣٨٤ ۲۹ ۱۱۲ ٦١٤ ٦٧١ ٦٦٤ ٥٤٨ ٥٤٨ ٤٣٨ من مات فقد قامت قيامته (الحديث) تفاصيل القيامة في القرآن والحديث كيف يعامل يوم القيامة من لم تصله دعوة الإسلام ٦٥ انکشاف أوسع لمعاني الصفات الإلهية يوم القيامة ٣١٤ القيامة سيتبرأ المشركون من آلهتهم يوم ا كيفية كلام الآلهة الباطلة يوم القيامة ٤٢٨ ٤٣٠ معجزات الأنبياء حسب الكتاب المقدس معجزات موسى في الكتاب المقدس عهد VA ٤٩٥ - ٤٩٨ الله لإبراهيم في الكتاب المقدس ۱۹-۲۰، ۳۳۰ نبوءات عن إسماعيل وإسحاق في الكتاب المقدس ۲۰-۱۹ مكانة إسماعيل حسب الكتاب المقدس ٣٥٨ تفصيل حادثة.يونان النبي حسب الكتاب المقدس ١١٧ مقارنة بين القرآن والكتاب المقدس حول يونس ١٢٠ ذكر أيوب وخلاصة سفره في الكتاب المقدس أشخاص باسم يوحنا في الكتاب المقدس ٦٤٧ ١٥٧ ٥٨ ۳۵ تقديمه وجود البارئ سبحانه بشكل بشع ذكر آدم وإبراهيم في الكتاب المقدس ناقص بيان الكتاب المقدس عن أحوال إبراهيم غامض ٣٣٢ الرسول وحده سيُعطى حق الشفاعة يوم القيامة ٤٥٠ يُحاسب بعض الناس وفق فطرتهم (المسيح الموعود) ٦٥ وجود تعارض فيه حول شجرة الحياة إبطال بيان الكتاب المقدس أن يونس عبراني إبطال الكفارة بشهادة الكتاب المقدس هه ۱۱۸ تر

Page 707

الجزء الخامس إمكانية العفو عن الذنب بغير الكفارة حسبه كلام غير معقول فيه عن.خطأ آدم تفصيل قصة خطأ آدم في الكتاب المقدس حواء أكبر ذنباً من آدم حسب الكتاب المقدس وجود التعارض في الكتاب المقدس دليل على وجود أخطاء في الكتاب المقدس اختلاف القرآن الكريم عن الكتاب المقدس حول أحوال موسى بني خطأ الكتاب المقدس في بيان عدد إسرائيل اختلاف القرآن مع الإنجيل في ذكر أحوال يحيى Vo ٥٧ ٥٥ ۹۸ ٤٦٧ ۳۷۰ ٤٨٦ ٥۲۳ ١٦١ - ١٦٣ تجاسر الكتاب المقدس على اتهام الأنبياء ١٦٨، ٢٣٦ اتهامه إبراهيم صديقاً بالكذب اتهامه موسی بالنهب اتهامه هارون بالشرك اتهامه سليمان بالإلحاد والاستهتار ۳۱۸ ٥٣٥ ۵۳۸ ،۳۸۱ رد القرآن الكريم على اتهام الكتاب المقدس للأنبياء مقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدس تحريفات في ترجمة الكتاب المقدس بعد نقد المسيح الموعود العلمية أمور متفرقة عن الكتاب المقدس المراد من عدم حمل اليهود التوراة بعث عيسى العلة لنشر التوراة أوائل المسيحيين اعتبروا التوراة قابلة للعمل قيام حكومة التوراة بواسطة المسيحية الكشف (راجع أيضًا الرؤيا) ١٦٨ ١٦٨ ١٩٤ ۹۰ ٢٣٤ ١٧٨، ٢٥٦ ۱۱۳ ١٦ تأثير الأمور الروحانية في الكشف على الجسد المادي ٢٣٨، ٤٤٢ - ۲۳۷ ۳۷۷ معراج الرسول ﷺ إلى السماء كشف عال ۲۱ ملحقات مشاهدة النار كان مشهداً كشفياً ٤٨٥ ۲۸۳ موسی كشف رآه الرعاة عند ولادة المسيح الكفارة (راجع المسيحية) الكلام داء التمسك بحرفية الكلام في المسلمين واليهود ٣٦٨ ٤٣٠ كلام الدار مع المسيح الموعود اللي تمثلاً لم يفقد زكريا القدرة على الكلام كما زعم الكتاب المقدس ١٦١، ١٧٦ ،۱۰۷ الكلام الإلهى (راجع الوحي) الكهل الكهل يكون ما بين ثلاث وثلاثين إلى خمسين عاما الكون (راجع أيضًا الخلق والسماء) سخر الله الكون كله للإنسان قانون واحد في الكون رد على الشرك بيان القرآن الكريم عن خلق النظام الشمسي حماية النظام الشمسي المؤمن (راجع الإيمان) الماسونية (Freemasons) فتنهم ضد سليمان العلا المال المال بالزكاة ينمو والصدقة جشع روسي برؤية ثراء الأمم الغربية ٢٤١ ٦٣٣-٦٣٤ ٥٧٢ ٦٠٧ ٥٤٢ المثيل جاء يحيى مثيلاً لإيليا ۱۰۹ المجدد خبر بعثة المجددين في الأمة لتجديد الإسلام١٤٣، ٦٢٧

Page 708

ملحقات الخلفاء المذكورون في آية الاستخلاف "مجددون" ١٤٣ بعثة يحيى العلم تماثل بعثة مجدد ٢٨٦ ضرورة المجددين والمأمورين لحفظ معاني القرآن ٦٢٧ إبطال عقيدة عدم وجود بعثة مصلح رغم ضرورة دد ما رآه المفسر في جامع بمصر المسلمون (راجع الإسلام) المسيح الموعود الجزء الخامس ٤٢٥ الإصلاح المجوس المحدث المرض الأمراض الوراثية ١٩٦ ١٦٦ (راجع أيضا مرزا غلام أحمد القادياني ال) ذكر المسيح الموعود اللة في "كهيعص" تشكيل المسيح الموعود لمؤسسة "أنجمن" جماعتنا لم تدرك جيدًا أهمية إنجاز المسيح الموعود ١٤٢ ٢٤٠ الزهري والسيلان هما ثمرة الزنى عادة مرض التمسك بحرفية الكلام تنزل من السماء شتى الأوبئة ليل نهار موسی اتهمت أصيبت بمرض الجذام الكتاب المقدس أن موسى أُصيب بالبرض مريم التي زعم والجذام ٤٩٤ أحوال أيوب ومرضه في التفاسير ۳۹ ٥٢ ٣٦٨ ٦١٢ ٢٣٦ ٦٤٤ في إثبات وفاة عيسى سيتم إحياء الإسلام على يد المسيح المحمدي كلام الدار مع المسيح الموعود اللة تمثلاً الإسلام سيغلب بواسطة أصحاب الكهف - أي أتباع- المسيح الموعود ال ۱۱۱ ۱۷ ٤٣٠ 17 قول البعض أن الطاعون والأوبئة أتت بسبب مؤسس الأحمدية حمی ٦٣٨ المسيح الموعود المسلمين الإلحاد بإثباته الموت الطبيعي للمسيح العلي موت حنوك بسبب الطاعون وفق الإسرائيليات ٣٧٢ خروج عمر من منطقة انتشر فيها الطاعون ٢٠٦ 21.٦٣٨ ۲۲۹-۲۲۸ تفشي الطاعون حسب نبأ المسيح الموعود قول البعض أن الطاعون والأوبئة أتت بسبب مؤسس الأحمدية جواز تلاوة القرآن وذكر الله في الحيض والنفاس مس الشيطان (راجع الشيطان) المسجد جعلت لي الأرض مسجداً (الحديث) آداب المسجد بساطة المساجد الإسلامية تفاخر المسلمين على بناء المساجد للأسف ٦٣٤ ٤٣٨ ٤٢٥ ٤٢٥ من المسيح الآتي سيكون من الأمة المحمدية ۱۱۲ المسيح المحمدي حلقة أخيرة من السلسلة المحمدية ١٧ سيقوم المسيح الموعود بلوائه الصغير تحت لواء الرسول يوم القيامة (محيي الدين ابن عربي) ٢٨٦ جاء سید أحمد البريلوي إرهاصاً للمسيح الموعود ١٥٩ دمار عام حل بالمسلمين بأيدي القوى المسيحية الغربية قبل دعوى المسيح الموعود استرداد قوة الإسلام منوط بالمسيح المحمدي نجاة المسلمين من الدمار منوط بإيمانهم بالمسيح الموعود ١٥ 17 ۱۷

Page 709

الجزء الخامس المسيحية تاريخها قيام دولة التوراة عن طريق المسيحية لم يولد المسيح في ٢٥ ديسمبر/ كانون الأول لم يجر أي إحصاء في عام ولادة المسيح ثلاثة مراكز للمسيحيين الأوائل لجوء المسيحيين الأوائل إلى المغارات سعي المسيحيين للتبشير في روما رغم المظالم 17 ۲۱۷ ۲۱۹ 112 112 ۱۱۳ ۲۳ التثليث وألوهية المسيح أصل شرك المسيحيين ملحقات إنما أساس المسيحية كله قول المسيح إنه ابن الله اختلاف المسيحيين حول بنوة المسيح الله اختلاف المسيحيين عن الثالوث ٤٦٤ ۸۸ ۲۹۸ ۳۱۱ ٥٧ يراد بالله في المسيحية الأقانيم الثلاثة الرد على التثليث الرد على ألوهية المسيح بوجود إدريس الذنب الموروث والنجاة قويت المسيحية في القرن الثالث حين تنصر ملك الروم حالة المسيحيين قبل بعثة الرسول 112 النجاة عقيدة المسيحية عن دليل المسيحية على تأثيم الإنسان ،۳۲ ۰۹۱ ۳۷۹ ۳۱ ۹۷ 1.1 ۳۸۱ ،۹۷ عقيدة المسيحية بأن الآثم لا يلد إلا آثما حرق البروتستنت في أوربا أحياء بتهمة الارتداد ٦٢٤ في تاريخ المسيحية دروس وعبر للمسلمين ازدهارها وانحطاطها نبأ ازدهار يأجوج ومأجوج وانحطاطهم نبأ قرآني بغلبة أهل التثليث بآلات النار تحديد زمن ازدهارهم وهلاكهم خبر هلاك دول المسيحيين الغربيين المسلمون غفلوا زمن قوتهم عن المسيحيين اندحار المسيحية على يد الأحمدية ۱۷ ٦٦٢ ٤٠٠-٤٠٢ ٤٤٦٦ ٥٤٨ ٥٥٠ 6871 ٤٣٥ ۳۱۷ ،۱۰۷ المسيحية تعتبر الأنبياء كلهم آثمين التسليم بعقيدة النجاة المسيحية يستلزم تكذيب الأنبياء هل كان المسيح طاهرا من إثم آدم؟ آدم لم يُذنب بحسب الإنجيل عقيدة المسيحية تستلزم كون المسيح مذنباً إبطال عقيدة الإثم الموروث والنجاة { ٣٦ ۹۷ ٦١ - ٦٢ ۹۸ ۰۷۱ ،۷٥٤، ٥٥، ٥ ،۳۹ ،۳۷ عقائدها الأساسية إبطال عقيدة الإثم الموروث وفق الكتاب المقدس تفصيل إثم آدم في الكتاب المقدس المسيحية ليست بشيء أساسي بل هي اللبنة النهائية ٦٦ كان حواء أشد إنما بحسب الكتاب المقدس بداية المسيحية كانت من الله أهم ثلاثة مبادئ للمسيحيين الأوائل المسيحيون الأوائل اعتبروا التوراة قابلاً للعمل عقائد مسيحية باطلة المسيحيون يكفرون برحمانية الله عقيدتهم عن الحياة بعد الموت الجحيم خالدة حسب المسيحية ۱۸ 112 ۱۱۳ ٥٧٠ ۲۰۱ ۳۹۵ ٦١٦ 61.0 ٧٦ ۹۹-۹۸ تغفر ذنوب الإنسان كلها بالتوبة النصوح غفران المسيح الناس من دون الكفارة إمكانية العفو عن الذنب بغير الكفارة حسب ۹۸ ٥٢،٦١ ۷۹ الكتاب المقدس ٧٥ صفتا العليم والصادق تعارضان عقيدة الكفارة إمكانية تجنب الإنسان الإثم وفق الأناجيل ٦٤

Page 710

ملحقات الكفارة الكفارة مسألة أساسية في المسيحية نظرية الكفارة والفداء الله غير قادر على أن يغفر لأحد عند المسيحية ركائز الكفارة أربع ۳۱ ۹۷ ۲۰۱ المسيحية لا تسلم بالرقي الروحاني بدون الكفارة ٣١ الرد على عقيدة الكفارة هل قدم المسيح تضحية الكفارة فعلاً؟ ۳۰-۲۹ ۱۱۰ لا ردّ عند المسيحين على تساؤل: كيف نجا الناس قبل المسيح بدون الكفارة؟ ٢٤ الجزء الخامس الصلب لغةً إخراج نخاع العظام بعد كسرها التعليق على الصليب لا يخالف مفهوم الموت عليه يخالفها السلامة بل ۱۳۸ ۲۸۰ اختلاف الآراء حول تعليق المسيح على الصليب ٢٩٤ دعاء المسيح للنجاة من الصلب معلقا على الصليب دعاء المسيح وقائع تعليق المسيح على الصليب ۹۷ ،٩٤ ٩٦ ابن الله وقع حادث الصليب ظهر الجمعة وفق الإنجيل دحض قول تجسد المسيح بعد نزوله من الصليب ۱۳۲ ۱۳۲ ۹۲ الكفارة مخالفة للرقيات الإنسانية العالية تغلب الإنسان على الشر يلغي الكفارة الرد على الكفارة بفطرة إنسانية دليل على عبثية الكفارة القرآن يرفض الكفارة الكفارة بشهادة الكتاب المقدس وجود الصالحين بدون الكفارة حسب الإنجيل وجود الأنبياء يبطل الكفارة وقائع حنوك تردّ على الكفارة تعليم حزقيال رداً على الكفارة لو ثبت أن إطلاق المسيح على نفسه "ابن الله" كان من ۷۳ ٤٥٢ ۳۸ ٤٦ ٥٧٤ ٧٥،٦١ ۷۱ ٥٧٥ ۳۷۰ ٦٥٥ ۸۳ ۹۷ باب الاستعارة، لبطلت الكفارة نجاة المسيح من الموت على الصليب تبطل الكفارة ١١٢ عدم خلاص المسيح من إثم آدم يبطل الكفارة لم لم يتقدم الإله الأب أو الروح القدس للكفارة؟ ٧٥ هل كان المسيح راضياً ليكون كفارة؟ ۹۳ 1.7 هل من العدل إبقاء المسيح في القبر ستا وثلاثين ساعة مقابل إبقاء الناس أجمعين في الجحيم إلى الأبد؟ المسيح والصليب نزول المسيح من الصليب حياً موت للمسيحية ١١١ المقصود من تعبير "ابن الله" لو ثبت أن إطلاق المسيح على نفسه "ابن الله" كان من باب الاستعارة، لبطلت الكفارة ٨٥ ۸۳ ۱۰۹ ۲۹۹ -۲۹۸ من دخل الجحيم، ابن آدم أم ابن الله؟ استخدام كلمة "ابن ا الله" في الكتاب المقدس استخدام كلمة "ابن الله" في الزبور.كلمة "ابن الله" في الأناجيل ورود المؤمنون كلهم أولاد الله الروحانيون عقيدة البنوة تخالف الصفة الرحمانية إبطال بنوة المسيح لله ٨٥ ۸۲ ۸۱ ۳۹۰ ٤٥٣ ۵۷۲ ،۳۹۰ عقائد المسيحيين عن مريم اختلاف عقائدهم عن مريم عقيدة الكاثوليك الرسمية أن مريم زوجة الله الرد على المسيحية في الصفات الأربعة المذكورة في "كهيعص" رد على ۳۱۱ ۳۱۱ 143-141 ٤٦٣ - ٤٦٤ العقائد المسيحية سورة طه ترد على العقائد المسيحية ضرورة مناقشة المسيحيين على ضوء صفات الله

Page 711

الجزء الخامس ۲۵ ملحقات صفتا الكافي والهادي حاسمتان بين الإسلام والمسيحية أهم معجزة عيسى عند أوائل المسيحيين هي آية يونان الإيمان بصفة الله الرحمن يقضى على المسيحية إبطال العقيدة المسيحية أن الشرع لعنة ٢٧، ١٤٢ ٣٤٢ ٥، ٦٣٠،٥٨٥۷۰ ،۱۷۹ ،٣٠، ٤٦٤ نجاة حنوك من الموت يبطل العقائد المسيحية أمور متفرقة عن المسيحية المسيحيون أتباع قابيل والمسلمون أتباع هابيل المسيحية أكبر فتنة وعدو للإسلام ۳۷۰ VA ٦٢٦ ،۱۷ نكسة شديدة للإسلام بأيدي المسيحية الغربية ١٥ استدلال خاطئ للمسيحيين من كلمات القرآن ۲۰۸ ميل أهل المسيحية إلى الدنيا نكرانهم للجميل تأثرهم بأخلاق المسلمين المسيحيون سيعتنقون الإسلام أخيرا ۸۲ ٦٧١ ٤٥٧-٤٥٨ ۳۱۸-۳۱۷ لن يؤمن الشعوب المسيحية بالإسلام بشكل عام ٣١٧ ١١٥ ٢٤١ ،۲۳۷ إعجاز القرآن الكريم بعض معجزات الرسول معجزة البركة في طعامه له معجزة قطرات الحبر الأحمر للمسيح الموعود معجزتان حصلتا للمفسر الله المعراج معراج النبي ﷺ كان كشفاً عالي الدرجة ۲۳۷ ٢٦٨-٢٦٩ ۲۳۷ ۲۳۸ ۳۷۷ ٣٨٠ رؤية الرسول الا الله خلال المعراج المسيح في السماء الثانية وإدريس في السماء الرابعة عقيدة الشيعة عن المعراج المعمودية تعمد.العلية لا عیسی من يوحنا العلية لا المقاطعة الصلاة الإبراهيمية أفضل دعاء ضد فتنة المسيحية ٦٢٦ قطع العلاقات مع أحد بسبب الغيرة الإيمانية ليس يكفّر مسلمو اليوم من يرفع صوته ضد فتنة المسيحية المعجزة (راجع أيضًا الآية والدليل) مقاطعة قطع العلاقات من السامري المقطعات القرآنية (راجع القرآن) ١٦٩ ١٦٩ معنى المعجزة حقيقة المعجزات الإسلامية أقسام المعجزات ٤٠٥ 21.۲۳۷ ١٦٦ الملائكة كلّ وحي ذي أهمية خاصة.يرافقه عديد من الملائكة كلام الملاك كلام الله نزول الملاك على الرسول كيفية نزول الروح القدس على مريم وفق الإنجيل تمثل الروح القدس لمريم تعلم المفسر له تفسير الفاتحة على يد ملاك ۱۷۲ ،١٦٣ ۱۹۹ ۲۰۰ ۲۰۰ ۱۹۹ المعجزات العلمية وسيلة قوية لمعرفة صدق المأمور ٦٢٨ تفصيل معجزا العلية لا موسی حقيقة انفلاق البحر لموسى العلية جزأين ٤٩٥ - ٤٩٨ ٥٢٠ تفصيل معجزة المن والسلوى لبني إسرائيل ٥٢١-٥٣٣ معجزات الأنبياء حسب الكتاب المقدس معجزة مكوث يونس العليا في بطن الحوت VA ۱۲۲-۱۱٥

Page 712

ملحقات المن والسلوى تفصيل معجزة المن والسلوى الكمأة من المن (الحديث) المنافق مكائد المنافقين غيرة ابن رأس المنافقين عبد الله بن أبي النار (راجع أيضا الحرب مشاهدة موسی النار كان مشهداً كشفياً النبات ٥٢١-٥٣٣ ۰۳۱ ٤٢٢ ٤٨٥ إخبار القرآن الكريم كون النبات زوجين قد جاء على الإنسان زمان حين كان نباتًا الكمأة من المن (الحديث) نبات الأشئة نوع من المن النبوءات في أسماء الأنبياء نبوءات كامنة الوعيد يمكن أن يلغى عدم تحقق نبوءة النبي يونس العلي ۵۱۲ ۳۹۷ ۰۳۱ ۵۳۰ ٣٢٤ ۱۲۱ ۱۲۱ ۱۷۳ ٢٦٠ وضع العلامات لتحقيق النبوءات بني لإسرائيل نبوءة إشعياء النبي كلمات نبوءة المصلح الموعود ه تشبه كلمات نبوءة إشعياء نبوءات في الكتاب المقدس تخص إسماعيل وإسحاق ،۱۹ نبوءة ظهور موعود في أولاد إبراهيم لا تنطبق على المسيح ٢٦٩ ١٤٦ ۷۲ كانت لدى اليهود نبوءة تقول بضرورة نزول إيليا قبل المسيح خلاصة نبوءات الأنبياء حول المسيح 159 ،144 ١٠٤، ١٢٦ ٢٦ الجزء الخامس نبوءة المسيح أن ابن الإنسان سيمكث في بطن الأرض ثلاث أيام ولياليها 110 نبوءة دمار بني إسرائيل مرتين نبوءة إشعياء عن جمع خراف بني إسرائيل ٦٦٧ ١٢٦ نبوءات تتعلق بالرسول والإسلام ١٤٧، ١٨٦ ١٨٦ نبوءة موسى عن بعثة محمد المراد من "من إخوتك" في نبوءة موسى نبوءة إشعياء عن بعثة نبي آخر الزمان في العرب ٣٩١ نبوءة المسيح العليا عن بعث النبي ﷺ سورة مريم تضمنت نبوءة الهجرة إلى الحبشة في كلمة القرآن نبوءة أنه سيُقرأ كثيراً نبأ بعثة المجددين في الأمة تحديدا للإسلام نبوءة قيام وحدانية الله ومحو الشرك نبوءة غلبة الإسلام وهزيمة الكفر ۳۹۲ ۱۱ ٥٥٠ ٦٢٧ ٥٤٨ 710-712 نبوءة النهزام المسيحية ورقي الإسلام والأحمدية ١٥، ٣١٦، ٦٦٤ نبوءة الرسول الله عن دخول المسلمين فلسطين وهروب اليهود منها في الزمن الأخير نبأ ظهور ذي القرنين الموعود لرعايتهم نبأ حماية المسلمين من اضطهاد المسيحيين سيمنح المسلمون ستة قرون بعد القرن الثالث عشر للاستقرار الروحي نبوءة قيام الديمقراطية بدلا من الدكتاتوية نبأ ازدهار يأجوج ومأجوج وانحطاطهم نبأ قرآني بغلبة أهل التثليث بآلات النار نبأ انتشار الشرك بين ذوي العيون الزرقاء نبأ رجوع الناس إلى القرآن بعد دمار أوروبا نبوءة اعتناق المسيحيين الإسلام كلمات نبوءة الزبور عن فلسطين ٦٧٥ ۱۷ ٥٥٠ ٤٦٦ ٥٥٠ ٦٦٢ ٤٠٠-٤٠٢ ٥٤٨ ٥٤٩ ۳۱۸-۳۱۷ ٦٦٧

Page 713

الجزء الخامس رسالة مهمة للمسلمين في نبوءة الزبور نبأ إعطاء فلسطين لليهود في الزمن الأخير ٦٦٧ ٦٧٣ ۲۷ كل الأنبياء كانوا من البشر كل الأنبياء قد توفوا ملحقات ۰۷۱ ،۳۸۰ ۵۷۳ نبوءة دخول الجيش الإسلامي فلسطين وهروب اليهود أعمال الأنبياء المتوسطين في سلسلة تضم في أعمال منها في الزمن الأخير تفشي الطاعون حسب نبأ المسيح الموعود ٦٧٥ 21.النبي والنبوة (راجع أيضا الدعاء) قد خلا مئة وعشرون ألف نبي (نوح) أول نبي شرعت على لسانه الشرائع بإبراهيم ببعث الأنبياء في ذريته بكثرة عهد الله ١٥٦ ٦٢٩ ۳۳۰ ،۲۰-۱۹ كان إسماعيل تابعًا للشرع الذي تبعه إبراهيم بعثة مئات الأنبياء في زمن واحد ادعاء المسيح النبوة حسب الأناجيل كيفية أسماء الأنبياء الأعجميين في القرآن ٣٥٣ 118 ٢٥٦ حكمة ذكر أسماء الأنبياء بترتيب خاص في سورة مريم مكانة الأنبياء وخصائصهم مقام الصديقية والنبوة العلاقة بين الرسول والنبي النبي يكون مطاعاً وقد يكون مطيعاً أسماء الأنبياء تتضمن الإشارة إلى أعمالهم يحى أول نبي جاء باسم نبي سابق سمي الأنبياء رجالاً أي كاملي القوى كل نبي يكون أشرف قومه وأعلاهم كل الأنبياء كانوا مباركين منذ ولادتهم صلاح النبي وروحانيته يرتفعان بمرور الوقت كل نبي يكون آية يحظى الأنبياء بقرب الله ومحبته النبي يولد للعمل فلا يتحمل حياة عاطلة ٣٢٤ ۳۲۰ ٥٤٣ ٣٢٤ ۱۰۹ ۵۸۳ ۵۸۳ ۲۸۰ ٢٥٤ ۲۰۸ ٢٤٢ ۱۳۰ مؤسس السلسلة المراد من اتهام الكفار النبي بكونه شاعرا بعثة الأنبياء الثانية بعثة الرسول الثانية مدعي النبوة كذبًا يعاقب في هذه الدنيا أغراض بعثة الأنبياء أكبر غاية من بعثة الأنبياء مهمة الأنبياء المشتركة هي نشر التوح خلاصة حياة الأنبياء ٢٨٦ ។ ۲۹۲ ۲۹۳ ٦٠٢ ٦٢٨ ۰۹۰ ٢٦٣ لولا بعثة الأنبياء لاحتج الإنسان يوم القيامة بحق ٥٦٦ الأدلة على صدقهم الدليل الأساسي على صدقهم ٢٦٣ أخلاق الفلاسفة تكون رديئة مقابل الأنبياء لا تفشل سلسلة النبوة كلام الأنبياء يكون معجزا معجزات الأنبياء حسب الكتاب المقدس ۵۷۳ ٢٤٢ ۷۸ انقطاع النبوة عن بني إسرائيل انقطاع النبوة عن بني إسرائيل ١٨٦، ٢٠٧ إدراك زكريا أن نور النبوة سينزع من بني إسرائيل ١٥٣ ولادة المسيح بدون أب كانت إنذاراً لليهود أن النبوة ستنزع منهم ١٠٤، ٢٠٧ خاتم النبيين ظهور نبي آخر الزمان ورحمة للعالمين ۲۰۷ ببعثة النبي إلى الأبد انقطعت سلسلة النبوة عن بني إسرائيل أخبر الله نبيه الا الله في السور الأولى أنه خاتم النبيين ٧١ 1.2

Page 714

ملحقات ٢٨ الجزء الخامس بعثة نبي في الإسلام لم ينهل من الرسول إهانة للإسلام والرسول معارضة الأنبياء إبطال العقيدة المسيحية عن الإثم الموروث والنجاة ۰۷۱ ،۷٥٤، ٥٥، ٥ ،۳۹ ،۳۷ لا ردّ عند المسيحين على تساؤل: كيف نجا الناس قبل السبب الحقيقي لتكفير الأنبياء ظن الناس أن لا حاجة للأنبياء اعتراضات الكفار على الأنبياء تلاعب الكفار بمشاعر القوم ضد الأنبياء إنذار الأنبياء لم ينفع بني إسرائيل الرد العام على اتهام الكتاب المقدس بالأنبياء ٦١٣ ۸۲ ۰۷۱ 0.9 1.2 ۳۱۸ أنبياء أثنوا على الحكومة واعتبرهم العلماء خونة ٦٥٤ أمور متفرقة عن النبوة نبأ بعثة المجددين في الأمة تجديدا للإسلام ٦٢٧ المسيح بدون الكفارة؟ دعاء المسيح للنجاة من الصلب نجاة المسيح من الموت صلبًا تبطل الكفارة نجاة حنوك من الموت تبطل المسيحية نجاة المسلمين من الدمار منوط بإيمانهم بالمسيح الموعود ۷۳ ٩٤، ٩٧ ۱۱۲ ۳۷۰ تأويل اللبن في الرؤيا النجاة النظام من الهلاك ۱۷ ٤٤٢ قطع العلاقات من أجل النظام القومي تعبير عن الغيرة الدينية ولا يُسمى مقاطعة بعثة رسول في يوم القيامة ٦٥ سفر حزقيال هو الكتاب الوحيد الذي كتب جزءا منه النظام الشمسي (راجع الكون) النبي بنفسه تجاسر الكتاب المقدس على اتهام الأنبياء اتهامه داود ونوحًا ولوطًا ۳۸۱،۲۳١٦٨، ٥ ۳۸۱ ۳۱۸ اتهامه إبراهيم صديقاً بالكذب اتهامه موسی بالنهب اتهامه هارون بالشرك اتهامه سليمان بالإلحاد والاستهتار رد القرآن على اتهام الكتاب المقدس للأنبياء علماء أمتى كأنبياء بني إسرائيل ۵۳۵ ٥٣٨ ،۳۸۱ ١٦٨ ١٦٨ ١٤٣ يلقي الله في قلوب المؤمنين لأن يدعوا حين يوشك هلاك معاندي الأنبياء ٤٣٧ الهجرة هجرة إبراهيم إلى كنعان ٦٩، ٣٣٢، ٤٣٩، ٦٢٤ سورة مريم تضمنت النبوءة عن الهجرة إلى الحبشة ١١ تمت هجرة الحبشة في رجب العام الخامس من النبوة ٧ نتائج الهجرة من قاديان ٤١٧ الهدية رد الرسول ﷺ هدية صديق مشرك ٣٤٤ الهندوسية الإيمان بصفة الله الرحمن يقضي على الهندوسية ٣٤١ - ٣٤٢ تعليم التوحيد في الإسلام جعل الهندوس الآن يقولون النجاة كون الله صادقاً ضمان لنجاة من يجاهد في سبيله ٣٥ أننا موحدون ٥٨٤ الرد على عقيدة الثواب والعقاب الهندوسية ٦١٦-٦١٧ التسليم بعقيدة النجاة المسيحية يستلزم تكذيب الأنبياء وجود التشابه بين أحوال أيوب الا وهريش تشندر ٣٦ الهندوسي ٦٤٦، ٦٤٩

Page 715

الجزء الخامس قصة قتل أحد من البراهمة بقرة الوالدان (راجع أيضًا المسيحية) المفهوم الصحيح للبر بالوالدين تجلي الله ΣΥ ۱۸۱ ۲۹ دعوى المفسر له بتلقي الوحي والإلهام مخالفة كل وحي جديد وعد الآخرة في الرؤى والكشوف في صورة الأبوين ٢٥٧ المراد من وعد الآخرة في سورة الأنبياء عادة اليهود أن يسموا الله "الأب" يرث الأولاد أمراض الآباء الجسدية لا الروحانية الوثنية (راجع الشرك) الوحي (راجع أيضا الله، والملائكة) الوحي رحمة لا لعنة ينزل الوحي نتيجة الصفة الرحمانية الله يعلم التوحيد وحي الدليل على نزول الوحي من ابتداء الزمان الوحي ليس أفكار الأنبياء نزول الوحي بكلمات محددة كلام الله تعالى يتمثل عند نزوله على صور كلّ وحي ذي أهمية خاصة يرافقه عديد من ٢٥٦ ۹۸ ٥٨٥ ٤٨٢ ٦٧٧ ٤٦٤ ٤٥٣ ٤٥٣ مختلفة الملائكة ۱۹۹ ١٦٦ كلام الملاك كلام الله مختلفة لنزول كلام الله صور كيفية نزول الوحي على الرسول ﷺ الوحي إلى أم موسى ۱۷۲ ،١٦٣ ۱۹۹ ۱۹۹-۱۹۸ ٥٠٣ تفصيل نزول الوحي الأول على الرسول ﷺ ٤٧٨ مهبط الوحي يصبح رگا مبارک منكر الوحي لا يستطيع التخلق بأخلاق الله حقيقة "كُن فيكون" تعلم المفسر له تفسير الفاتحة على يد ملاك الأسماء الإلهامية تهدف إلى غاية معينة كان وحي زكريا مفعما بالعجائب ٣٥٥ ٥٦٢ ۳۰۷ ۱۹۹ ٣٢٤ ۱۷۲ الولادة بدون أب (راجع الأولاد) يأجوج ومأجوج ملحقات ٤٥٣ ۵۷۸ ٦٧٣ يأجوج ومأجوج هم أهل روسيا والبلاد الغربية ٦٦٢ في اسمهم إشارة إلى استخدامهم الأسلحة النارية ٤٠١ نبوءة حزقيال عن يأجوج ومأجوج ٦٥٨ لا تزدهر أمة إذا تدهورت مرة ولكن يحدث هذا في ٥٧٥، ٦٦٤ ٦٦٣ ٥٤٨ ٦٦٢ ٤٠١ زمن يأجوج ومأجوج ترويج الجمهورية بأيديهم نبأ انتشار الشرك بين ذوي العيون الزرقاء نبأ ازدهار يأجوج ومأجوج وانحطاطهم غلبتهم على العالم كله اليهود تاريخهم داود العلمية أول ملك لليهود دمار اليهود مرتين ۵۳۵ 12 تشريد نبوخذنصر قبائل اليهود العشر إلى إيران وأفغانستان ١٢٦، ٣٣١، ٤٦٤ ، ٦٥٣، ٦٥٧ اغتصاب البابليين فلسطين من اليهود لمائة وخمسين سنة ٦٧٠ أسر اليهود ودفعهم إلى بابل كان مصلحة إلهية عند حزقيال النبي ٦٥٣ تأثر اليهود القاطنين في أفغانستان وكشمير بالحضارة البوذية عودتهم إلى أوريشلم بدعم ملوك فارس وميديا اغتصاب الرومان فلسطين من اليهود ۱۲۷ ١٢٦ ٦٧٠

Page 716

ملحقات احتلال اليهود فلسطين عام ١٣٦٧ الهجري الهم صحراء سيناء بدعم أمريكي عمر عقائ نمائدهم معنى يهوه: يا هُوَ عادة اليهود أن يسموا الله "الأب" قالوا عُزير "ابن الله" عقيدة اليهود عن الحياة بعد الموت حد الزنا في الشريعة الموسوية الرجـ ۳۳۰ ۵۲۹ ۳۰۳ ٢٥٦ ٤٦٩ ۳۹۵ ٢٥٥ لم يكن اليهود بعيدين عن الشرع الموسوي في زمن المسيح كما.هم الآن ۱۱۳ التشابة بين أعمال اليهود وعقائدهم وبين المسيحيين الأوائل عاداتهم ورواياتهم روايات اليهود ودستورهم ۱۱۳ ١٧٤ ٣٠ الجزء الخامس تعليم المسيح استهدف إزالة قسوة اليهود طلب اليهود من بيلاطس حراسة قبر المسيح مستقبلهم ۲۰۷ ۱۳۹ نبأ منح فلسطين لليهود إثر دمار المسلمين الثاني ٦٦٧، ٦٧٣ نبأ قرآني بحشر اليهود إلى فلسطين في آخر الزمن ٦٧٢ احتلال اليهود المؤقت لفلسطين دليل على صدق الإسلام ٦٧٥ نبأ دخول المسلمين فلسطين وهروب اليهود منها ٦٧٥ سينفى اليهود من فلسطين (إسرائيل) حتما(المفسر ) ٦٧٥ أمور متفرقة عنهم بعض المماثلات بين الأمتين الإسلامية واليهودية تأثر اليهود من أخلاق المسلمين ١٤ ٤٥٧-٤٥٨ جعل الله آيات ظاهرة لبني إسرائيل إيفاء لعهده ١٧٥ يوم القيامة (راجع القيامة) استهزاؤهم بالأنبياء مرض يهودي تسرب إلى المسلمين 1.2 مرض التمسك بحرفية الكلام في المسلمين واليهود٣٦٨ كان اليهود مولعين بالتمثيل في الكلام عند استفسار المسلمين كان علماء اليهود يخبرونهم ۱۳۳ الأباطيل عمدا فهم اليهود لنبوءة إشعياء المراد من عدم حمل اليهود التوراة إبطال زعم اليهود والمسيح ٣٦٣ ۱۲۷ ٢٣٤ اليهود: كيف يُبعث نبي في العرب؟ ٣٩٢ كانت لدى اليهود نبوءة تقول بضرورة نزول إيليا قبل المسيح ١٤٤، ١٥٩ ولادة المسيح بدون أب كانت إنذاراً لليهود ١٠٤، ٢٠٧ آية المسيح الأساسية لليهود هي آية يونان النبي 110

Page 717

(٢) فهرس الأعلام شعوب وشخصيات

Page 718

الجزء الخامس ۳۳ ملحقات آدم العلا ۲۲، ۳۵، 39، 4، 45، 60، 61، ٤، ٥٧٠۷۱ ،۱۹٦ ،۹۸ ،۷۵ المراد من خلق آدم على صورة الله قصة آدم مجاز المسيحية أساءت فهم قصة آدم تأثیم آدم من قبل المسيحية إثم آدم في الكتاب المقدس لم يقترف آدم إثماً بل زل دون عمد ۵۸ ،۳۷ 71 ११ ٥٠-٥٢، ٤٦٧،٥٨،٥٧، ٥٥٤ ۵۸ ٥٢، ٥٨، ٥٥٤ خطأ آدم ليس بمتعمد حسب الكتاب المقدس خطأ آدم كان اجتهاديا ۰۹ الجنة التي وضع فيها آدم 007-0006197600 تفي آدم من جنة عدن حسب الكتاب المقدس (صاحب روح المعاني) الآلوسي آمنة زيارة النبي قبرها ٦١٩ ٥٠٤ ۳۳۲ طاعته للملك "صادق سالم" كلام الله مع إبراهيم بوساطة الملائكة وقائع طفولته في الروايات اليهودية طلبه العلم في الكبر اختباره الأكبر كسره الأصنام برود النار عليه كان متكلماً بارعاً لإظهار الصدق V.١٦٤ ٣٢٦ ٥٥٣ ۳۳۸ ٦٢١ كان يكثر من التعريض ورعه العظيم نهى والده عن الشرك دعاؤه لقوم لوط لإلغاء العذاب لم يعتبره الكتاب المقدس صديقاً الروايات التلمودية عن إبراهيم بشر أنه سيوضع له القبول في فلسطين ٦٢٤ ٣٢٦ ٦١٩ ٣٤٦ ۳۳۲ ۳۱۸ ٣٣٤ V.معه وعلامته وفق الكتاب المقدس ۲۰ - ۲۱ عهد الله وعود الله لـــه وعد الله له ببعث الأنبياء من نسله ۳۷۸ 1.2 إبراهيم العلة 1، 19، 35، 45، 69- 74، ،١٠٤، ١٤٦، ١٥٤ - ١٥٥، ١٦٠ - ۱۰۳ ،۹۷ ٤، ٥٢٩، ٥٧٤۷۱ ، ۳١٦٤ - ١٦٧، ٣٥٨ - ٥٩ ٣٢٥ الحكمة في تسميته بإبراهيم مولده العراق وهاجر إلى كنعان ٦٩ ، ٤٣٩، ٣٣٢ - ٣٣٣، ٦٢٤ ذهابه إلى مصر وكنعان كراهته للشرك منذ طفولته كان تابعًا لشريعة نوح ۳۰۲ ٦٢٣ ٦٢٩ عهد ۳۳۰ ۱۹ الله هذا كان له ولكل أولاده قدر وفاء هذا العهد بنسل إسحاق أوّلاً نبوءة موعود في أولاده لا تنطبق على المسيح ٧٢- ٧٣ الحكمة في ذكره بعد ذكر عيسى في سورة مريم ٣٢٢ استخدمت كلمة "الأب" في حقه بمعنى العم مماثلة له مع الرسول أبرهة هزيمة أبرهة ٦١٩ ٦١٩ - ٦٢٠ ٤٠٨

Page 719

ملحقات ابن السكيت ٣٦١، ٣٦٧ ٣٤ الجزء الخامس أحمد جان الصوفي حمو الخليفة الأول للمسيح الموعود اللي ابن عباس به ٢٦ ، ٣٦٣، ٣٧٦، ٤٠٤، ٤٤١ أبو بكر التاجر مكوث المفسر له عنده في جدة ٣٦٥ ۵۹۹ ،۰۰۱ ،۳ ،۱ حادث له مع المسيح الموعود الله أحمد نور سيد (الكابلي) أخنوخ (حنوك) ٤٠٩ 2.9 ٢٦٤ ۳۲۸ ،۶۸ ،۲۲ ٣٦٠ ۲۲ ٣٦١ ٣٦٨ ٣٦٨ ۳۷۱ ٣٦٨ чл ۳۷۱ ۳۷۷ ابن حفيد آدم وجد نوح زعم المفسرين أنه إدريس يسميه العرب إدريس يأتي حنوك وإدريس في معنى واحد شجرة نسبه أحواله اشتهر بحكمته وورعه عند اليهود 0.1 أبو بكر الصديق ه موقفه مع الرسول في غزوة حنين أبو جهل إسلام ابنه عكرمة ٣٥٥،٣٤٣، ٤٢٤ 717-710 ۳۰۷ ٤٢٤، ٥٩٩ أبو خيثمة أبو سفيان هتافه أحد يوم ٥٠٧ أسلم بسبب صلاحه الخفي ٦١٦ أبو طالب ذكره في الكتاب المقدس كان صالحاً حسب الكتاب المقدس ذكره في الروايات المسيحية واليهودية طلب رؤساء الكفار منه منع الرسول ﷺ من الدعوة ٦٠٠،٥٠٦ ٤٧٣ المراد من سيره مع الله تعالى إدريس العليا ٦٥١ - ٦٥٢، ٦٥٨ ،۳۲۸ ،۲۲ ،۱ المراد من إدريس حنوك (أخنوخ) عند المفسرين ٣٦٠ ٣٦١ ٣٧٦ ۳۷۹ ۳۷۸ ۲۲ ٣٧٦ ۳۷۹ ۲۳۱ إدريس وحنوك مقاربان معنى ذكره في المصادر الإسلامية عقيدة صعوده في السماء تشابه بين إدريس وإسماعيل إدريس يشبه المسيح في الرفع الروحاني رآه الرسول ﷺ في السماء الرابعة في معراجه في شخصه رد على عقيدة ألوهية المسيح أرخلاؤس ابن هيرودس الحاكم الرومي لفلسطين ٦١٩ ٢٠٦، ٣١٢ ٤٤٩، ٥٣١ ٤٢٤ ۳۱۸ ۱۵۹ معاملة الرسول م معه دعوة الرسول ﷺ إياه إلى الإسلام أبو عبيدة بن الجراحه أبو هريرة له أبو الهول أبيمالك ملك معاصر لإبراهيم أحمد البريلوي (سيد) كان إرهاصاً لسيدنا المسيح الموعود الليل أحمد بن حنبل

Page 720

الجزء الخامس إرمياء ٥٩٤ ، ٦٢٧، ٦٥٤- ٦٥٥ ، ۲۹۹ ،۲۸١٤٤، ٦ تكفير اليهود لإرمياء 1.2 أسامة منقذ بن ۵۲۳ إسحاق العلم ۱، ۱۹، ۲۱-۲۲، ۷۲، ۲۰۷، ۳۷ ،۳۳۱ ،۳۲۹ ،۳۲۰ ،۳۲۳ ،۳۰٢٣٦، ٢ ،۳۸۱ -۳۷۸ ،٣٦، ٣٦٦۰ - ۳۵۹ ،۳۵۷ ،۳۵۳ ٥، ٥٧٤۷۲ ،۵۲۹ ، ۳۹۵ ،۳۸۸ معنى اسمه كان ابن إبراهيم الثاني نبواءت عنه في الكتاب المقدس أسد الله خان غالب ٣٢٥ ۱۹ ۱۹ ۱۰ ٣٥ مشركو مكة عبدوا صنمه ملحقات ٤٣٠ إسماعيل (ربي) أموص والد أيوب العلم إشعياء نبوءة إشعياء النبي ۳۷۲ ٦٤٤ ،١٢٦ - ١٢٧ ٦ ، ٦٥٥،٦٥٢۲۷ ، ۳۹۱ ، ۱۳۲ - ۱۳۱ ٢٦٠ كلمات نبوءة "المصلح الموعود" تشبه كلمات نبوءة إشعياء علاقة إشعياء بحزقيال وعظ المسيح من كتاب إشعياء تنبأ إشعياء عن جمع قبائل بني إسرائيل الضالة ٢٦٩ ٦٥٢ ٢٥٩ ١٢٦ ۳۹۱ الإسكندر الكبير إسماعيل ٤١٣ العلم ۱، ۱۹ - ۲۲ ، ۷۲- 73، ١٤٦، ۳۲۸ ،۳۲۰ ،۳۲۳ ،۳۲۱ ،۳۰۲ ،۲۱١٨٦، ٦ -٥٧٥، ٦٢٦ ،۳۵۹ ۱۳۵۷ ،۲۰۱ - ۳۰۳ ،۳۳۰ ٦٢٧، ٦٥١ - ٦٥٢، ٦٥٨ معنى اسمه هو الابن الأكبر لإبراهيم ٣٢٥ ۱۹ ٣٥٣ - ٣٥٤ ۱۹ ١٤٦ ۳۲۹ كان تابعا لشريعة إبراهيم وعود إلهية بشأنه في الكتاب المقدس مكانته في الكتاب المقدس وعد الله بإخراج أمة كبيرة من نسله انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل كان وسيلة للظهور الثاني العهد الإبراهيمي محاولة المسيحيين حرمانه من أوجه التشابه بينه وبين إدريس مماثلة له عیسی حقه ١٨٦ ٣٥٧ ۳۷۸ ٢١٦ تنبأ.عن بعثة نبي في العرب الأصمعي إفرائيم إله دين الحكيم إلياس (إيليا) العلمية زعم بعض المفسرين أن إدريس هو إلياس جاء يحيى حاملاً لق د لقب إلياس كان يوحنا "مظهرًا" لإيليا نبأ نزول إلياس ثانية بلسان "ملاخي" وجوب نزوله قبل المسيح عند اليهود إيليا المزمع نزوله هو يوحنا وفق الإنجيل إيليا أحيا الأموات وفق الكتاب المقدس اليزابيث اليصبات) Elizabeth زوجة زكريا العليا ٣٦١ ۲۹۹ ٦٢٠ ٥٩٤ ٣٦٠ ۱۵۹ 110 ۱۰۹ 144 ،18 ۱۸ ۷۹ ۲۳۵ ،۲۲١٦١، ٥

Page 721

الجزء الخامس ٣٧٤ بروس بشير أحمد مرزا ٤٠٧ بشير الدين محمود أحمد ه (صاحب هذا التفسير والمصلح الموعود والخليفة الثاني للمسيح الموعود الله) لمحمد حبه ٥٠١، ٦٢٢ ١٤٢ ٣٦٥ ٤٥٣ ۱۹۹ ١٤٢ ٣٦٥ عمله عمل المسيح الموعود اللي أحد أسمائه في إلهامات المسيح الموعود دعواه بالكلام مع الله تعالى تعلمه سورة الفاتحة في الطفولة في رؤيا إعلام رباني له في رؤيا أن اسمه موجود في المقطع "كهيعص" لقب في رؤيا بـ "وليام الفاتح" علمه الله حكمة ترتيب الأنبياء في القرآن ٣٢٣ - ٣٢٤ انکشاف تفسير آية من سورة الكهف عليه بالدعاء ٣٨٩ ٣٤٨ ۳۲ ۷۳ ۷۲ ۱۰۲ ۰۹۱ ٤٥٣ ٦٧٢ ۲۳۸ - ۲۳۷ ٢٦٨ ٢٦٨ ۲۹۱ ٣٦٥ ٥٠-٥١ ٤٢٥ نقاشه دعاؤه عند رؤية الكعبة المشرفة مع قس مسيحي في الطفولة حواره مع قس في "لاهور" في الطفولة قصة حواره مع القس "ود" حواره مع القس "ينغسن" في دلهوزي حواره مع منكري الإلهام سؤال الناس إياه عن مستقبل فلسطين حادثتان معجزتان معه حادث البركة في ماله حادث البركة في طعامه قصة إنذاره لوالي بنجاب عام ١٩٥٣ قصة إقامته في بيت التاجر "أبي بكر " في جدة قصة له مع ابن عمة والي حيدر آباد قصة زيارته لمسجد بمصر ٣٦ ٦ ٢٦٩ ٢٥ ٢٥ ٣٧٥ ٣٦٨ ۱۷۱ ۲۱۷ ،۲۱۳ الله عنها ملحقات أم سلمة (أم المؤمنين) رضي الله عنها أم طاهر رضي أم هاني رضي الله عنها معنى المقطع (كهيعص) يروى عنها Annacus أناكوس أنوش أورنولد (السير تمومس) أوغسطس (القيصر الرومي) ايبت جين Jean s.c.abbot ایبرز جورج Hebert إيليا (راجع إلياس العل) أيلينبي الجنرال Allenby ايميدورانكي Emmeduranki أيوب العلمية ۰۲۱ ٥٢٤ ٥٢٢ ۳۷۵ ٦٤٤ - ٦٥٠ ،۳۷۱ - ۳۷۰ شجرة نسبه وأحواله الحقيقية ذكره في الكتاب المقدس كان غير إسرائيلي عند الباحثين الغرب تشابه بينه وبين علي باتو خان باوا نانك ٦٤٤ - ٦٤٩ ٦٤٦ ٦٤٦ ٦٤٤ ۲۱۱ ۵۸۱ ۲۱۱ ۵۲۸ بختنصر (راجع نبوخذنصر) برلاس فرع من الأتراك منه عائلة المسيح الموعود العليا برناردت

Page 722

الجزء الخامس بطرس (الحواري) اسمه الأصلي شمعون وسماه المسيح بطرس بلال ٩٤ ۳۷ بنو قريظة كانت حرفتهم الصياغة والحدادة بنو لاوي ملحقات ٥٤٢ ٥٣٩ - ٥٤٠ إيمانه وتضحيته بلدد هو أحد أتباع أيوب ال بنو أبي بنو إسحاق (انظر بنو إسرائيل) بنو إسرائيل (راجع أيضا اليهود) الإنذار الأخير لبني إسحاق خاتمة العهد الإلهي معهم أدرك زكريا أن نور النبوة سينزع الآن منهم ولادة المسيح بدون أب كانت إنذاراً لههم خروجهم من مصر أخذهم الحلي من المصريين عيشهم ثمانية وثلاثين عاماً في سيناء المراد من خراف بني إسرائيل الضالة ۵۱۹ ٦٤٨ ٥٢٣ ۱۹ ۲۰ ١٤٩ 187 ٥٢٣ ٥٣٥ ٥۲۳ ١٢٦ بنو إسرائيل المقيمون في أفغانستان وكشمير انصهروا في البوذيين وغيرهم ثقافيًا وحضاريًا نبأ الدمارين لبني إسرائيل حل بهم الدمار الأول بعد داود ١٢٦ - ١٢٧ ٦٦٩ ١٤ إنذار لبني لإسرائيل أن فلسطين ستنزع منهم ٦٦٩ بنو إسماعيل (راجع إسماعيل) بنو أمية الرخاء في العهد الأموي بنو عباس ٦٤٣ بنو هوازن بهاء الله (مؤسس البهائية) ٥٠٥ لم تتم عقوبته في الدنيا لأنه كان يدعي الألوهية ٦٠٣ أتباع بهاء الله بولوس بيلاطس ٦٠٤ ٦٤-٣٧٠،٦٥ والي فلسطين الذي حكم بصلب المسيح ال ۱۳۹ ،۱۳۷ - ١٣٢، ١٣٦ رؤيا زوج بيلاطس عن براءة المسيح تدبير بيلاطوس لإنقاذ المسيح من الصلب براءته من دم المسيح ۱۳۳ ۱۳۲ ۱۳۳ تسليمه المسيح ليوسف الرامي بعد ما أُنزل من على الصليب ۱۳۹ تارح جد أيوب العليا تارح (آزر) هو والد إبراهيم العلي تتنيوس والي يهوذا الترك فرعان للأتراك ٦٤٤ ٣٣٣ - ٣٣٤ ،۳۲۸ - ۳۲۷ محاولتهم عبور سيناء في الحرب العالمية الأولى ۲۲۰ ۲۱۱ ٥٢٢ الرخاء في العهد العباسي ١٤، ٦٤٣ تسدل القس ٤٨٢

Page 723

الجزء الخامس ۴۱۳ ،۲۱۲ - ۲۱۱ ۲۱۱ ٥٢٤، ٥٢٦ جنكيز خان رؤيا أم جنكيز خان جورج ایبرز جورج اي بوست (دكتور ايم دي) ٢١٦ ٢٢٥ ۲۲۰ - ۲۱۹ ܘܘ1 ٥٢٦ ٥٢٠ ٣٧٥ ٣٧٤ جورنس (أسقف) جوزيفوس المؤرخ جوشوعا جيسينيس جين ايبت جینیمید حافظ شيرازي ،١٤٤، ١٩٦ حزقيال العليا ٦٥٢ - ٦٥٨ ،۶۲۷ ،۱۹٤ ،۳۷۱ ،۲۸۶ ،۲۰۸ "ذو الكفل" معرب من حزقيال أحوال حياته ٦٥٢ ٦٥٢ ٢٥٤ الشبه بينه وبين المسيح الناصري والمسيح المحمدي ٦٥٣ ٦٥٤ ٦٥٧ ۲۰۸ ٣٧٦ ٢٥٨-٢٥٩ ٤٠٣ ٣٤٣ ۳۸ 712 ٣٦٨ 194 ،۱۹۱ ،۱١٣٦ 18.٦٧٣،٦٥٤ 12 ۱۷۷ ٤٤١ ٤٠٣، ٤٤٩ ٣٧٤ ملحقات تشارلس تشرشل (ونستن) توبال قاین توما (الحواري) معنى لوقا: الأخ من الرضاعة لا التوأم تجسسه جروح المسيح باليد تيطس الرومي حل بيده الدمار الثاني باليهود الثعالبي (صاحب فقه اللغة) الثعلبي أبو إسحاق النيسابوري جابر بن عبد الله جامي (ملا) جبريل العلي (راجع أيضا الملائكة) جاء زكريا العليا يبشره بالابن ١٦١، ٤٨٠، ٥٤٧، ٥٥٤ ١٦٣ الفرق بين تجلي جبريل على محمد وعيسى العلية ٤٧٨ جتلائي خان الجشتي (معين الدين ) قال الحقيقة إني صرت عيسى الثاني جعفر بن أبي طالب له هجرته إلى الحبشة حواره مع النجاشي قراءته سورة مريم أمام النجاشي جلال الدين السيوطي ۲۱۱ ٤٨٠ نبوءاته وتعليمه رؤيا حزقيال عن إحياء بني إسرائيل كان أدنى درجة من موسى وداود الحسن بن علي رضي الله عنهما الله عنهما الحسين بن علي رضي حفصة أم المؤمنين رضي حکیم : بن حزام نه صديق حميم للرسول ﷺ الله عنها

Page 724

ملحقات ۱۷ ٥٧٥ ٦٥٢ ذو القرنين نبأ ظهور ذي القرنين الموعود لرقي المسلمين ذو الكفل ذو الكفل معرب من حزقيال حكمة ورود اسمه في القرآن الكريم مع أنبياء معينين ٦٥٢ ذو النون (يونس ال) ٦٥٩،٥٧٥ الراغب الأصفهاني) ٤٧٨ ٥٨٤ ٤٠٥ ۱۳۵ ١-٢، ٦ ٦٤٤ ٤٠٤ ٤١٦ رام تشندر رفیع الدین (شاه) رنبیر سنغ رودويل روم جد أبي أيوب زار (إمبراطور (روسيا) الزجاج زكريا والد يحيى العلم ۱، ۱۸ - ۱۹، ۷۱ - ۷۲، ۳۹ ٥٠٥ الجزء الخامس حليمة السعدية إطلاق النبي ﷺ سراح أسرى قبيلتها حنوك (راجع أخنوخ وإدريس) حواء 00961.7-1.691 677-7.GOV-07 ٩٨، ٤٦٧ ذنب حواء أشد من آدم! خاقاني ٤٠٧ خالد بن الوليد به ٤٢٤ خديجة رضي الله عنها زواجها من الرسول ٤٦٩-٤٧٠، ٤٧٢ - ٤٧٦ ٤٧٥ قوله للنبي عند نزول أول وحي عليه ٤٧٢ دارون ٥٥٣ دانیال ٥٢٥-٥٢٦ داود العليا ،۹۷ ،۸٧٤، ٦ ، ۷۲ ،۷۰ ،۳۰ ،۳۸۱ ،۳۲۲ ،۲۸۶ ،۲۸۰ ،۲۱۳ ،۲۰۸ ،۱۵۲ ،٦٣٠، ٦٣٥، ٦٤٢، ٦٤٤ ٦٧٠، ٦٧٢-٦٧٥ ۱۷۱ ،١٤٣ - ١٥٧، ١٦١ - ١٦٤، ١٦٦ - ١٦٨ ٥٧٥ ٦٣٥ 1716122 ١٤٣ 145 - 143 ١٤٤ 122 ۷۱ كان عائلة الأحبار من كان كفيل مريم أهمية حادثة زكريا العليا سبب ذكر زكريا قبل المسيح كان نبيا وفق القرآن الكريم اعتبره الإنجيل وزوجته من الصادقين البررة ٦٣٦ ٦٣١ ٦٤٣ 12 ٦٦٧ سبب ذكره في سورة الأنبياء كان أول ملوك اليهود المراد من تسخير الجبال والطيور لأجله حقيقة قرار داود وسليمان صناعة الأسلحة في زمنه حل الدمار الأول ببني إسرائيل بعده نبوءته عن فلسطين

Page 725

المراد من معرفته منطق الطير حقيقة تسخير الريح لأجله حقيقة الشياطين الغطّاسة لأجله أساطيل سليمان البحرية حقيقة قرار داود وسليمان سياسة سليمان في أمور المملكة تدمير نبوخذنصر معبد سليمان فتنة الماسونية في زمنه الجزء الخامس ٦٣٦ ٦٤٢ ٦٤٣ ٦٤٢ ٦٣١ ٦٣١ ١٢٦ ٥٤٢ ١٦٨ ٢٦٦ ۳۷۵ ۲۰ ٤٦٨ ٥۲۳ ۲۳۵ ۲۲۰ ٦٧٤ ٣٦٨ ۱۰ ۳۷۱ ٦٣٨ V.-79 ۷۱ اتهمه الكتاب المقدس بالفجور والإلحاد سمعان (ابن مريم) سمیرامیس Semiramis ٤٠ ١٤٦ ١٤٥، ٦٦١ ١٤٥ ١٦٧ ١٦٧، ١٧٢ ١٦٨ ۱۷۲ ١٤٣ ١٤٣ ملحقات كلام مريم البريء دفعه للدعاء للولد دعاؤه ليرزق ولداً دعاؤه لطيف تلقيه البشرى بيحيى تعجبه من أن يُرزق ولدًا لم يُصب بالخرس عقابًا وحيه ذو عجائب زكريا العلمية له سفر في الكتاب المقدس زمنه ٤٨٧ ق.م.زلیخا قصة يوسف وزليخا في التفاسير ١٧١، ٣٧٣ - ٣٧٤ سوبروي هيلن زید بن عمرو كان ٤٧٠ ۳۷۵ من موحدي زمن الجاهلية زیسوتروس سارة عليها السلام ۳۳۴ - ۳۳۲ ،۳۲۹ ،۳۲۵ ،۳۱۸ ،۱٦٥ تلقيها البشرى بالغلام السامري ١٦٥، ٣٢٥ سيبويه سیف الدین ابن سالار سيل جورج سينتينيوس (حاكم يهوذا) شوقي أفندي زعيم البهائيين شيث ابن آدم شيكسبير شين صالح العلمية صادق سالم (الملك) ملك صالح معاصر لإبراهيم الليل لم يكن له أب ولا أم وفقاً للأناجيل ٤٣٤ - ٤٣٧، ٥٤١-٥٤٧ ٥٣٥ ٥٤٢ وقائع السامري في التفاسير والرد عليها السامري اسم وصفي سعد بن أبي وقاص السعدي الشيرازي (مصلح الدين) ١٥١ ٤٠٧،٣٧٤ -۳۷۳ ۰۳۱ سعید بن زید به سليمان العليا ١٥، ١٥٦، ١٦٨، ٥٤٢۲ ،۱۲۶ ،۷۰

Page 726

الجزء الخامس ضرار طيء أو طيّ عائشة أم المؤمنين رضي حادث البركة في طعامها عاد قوة قوم عاد عاص عبد الحكيم الله عنها ۳۱۲ ٤٦٨، ٥٢٣ ٢٦٨-٢٦٩، ٤٧٥ اتهامه المسيح الموعود العليا والرد عليه عبد القادر الجيلاني ٤١٩ ٤٢٤ ٤١ عزرا النبي ملحقات ٢٨٦، ٥٢٤ - ٥٢٥ مجيء اليهود معه من إيران لبناء أورشليم عزى غزير العلمية قال اليهود عُزير ابن الله عقيل ابن عم الرسول عك (قبيلة عربية) عكرمة ه (بن أبي جهل) عفو الرسول عنه قال: لا ألبس لباساً حسناً ولا أكل طعاماً شهيا ما لم عكل قبيلة عربية) يأمرني الله بذلك مستحلفا عبد الكريم (المولوي) له عبد الله بن أبي ابن أبي سلول الله عبد بن عبد المطلب ٤٤٤ ٢٩٦ ٤٢٢ ١٥٧ 01160.V ٤٦٩ ٤٧٣ ٤٦٨ ٤٢٤ ۵۸۲ ٤٦٨ ٢٥ الله على النبي بشكل علي في المعراج في زعم علي بن أبي طالب ٥، ٢٥، ٤٤٠ ،۳ ،۱ كان دعائه: يا "كهيعص" اغفر لي من ظهر الشيعية عمر بن الخطاب) ۱۷۰ ۶۷۱ ،۰۹۹ ،۵۰۷ ،۱۷۰ ٦٢٤ ٢٠٦ ٦٧١ ۱۸۸ ٤٢٤ ٣٦٨ ۵۲۸ فتح بيت المقدس في زمنه ذهابه إلى الشام لتسلم زمام القدس معاملته الحكيمة عند فتح فلسطين ٧٤ ٤٦٣ ، ٥٦٩ ٧٤، ٥٠١ والد الرسول عبد الله بن مسعود عبد المطلب عبید الله بن جحش تنصر خلال الهجرة إلى الحبشة عبيد الله السندي مجيئه قاديان لفهم القرآن من الخليفة الأول له عثمان عفان بن عداس عبد مسيحي أظهر حبه للنبي ﷺ عند لقائه ۱۳ عمران آل عمران عمرو بن العاص عیراد عيسو

Page 727

ملحقات عیسی ابن مریم العلية لا ،۱۱۱ ،۷۲ ،۱ 612 ،۱۹۰ ،۱۸۳ ۱۸۲ ،۱۷۹ ،۱۰۹ ،۱١٤٦ - ٤٧ ،٢٦٦، ٢٦٩، ٢٨٥ ،۲۲۲ ،۲۱۰ ،۲۱۲ ،۲۰۹ شخصيته متنازع فيها أكثر من أي إنسان آخر ٢٩٤ غلوّ المفسرين في مدحه ولادته بدون أب حكمة ولادته بدون أب ولادته بدون أب كانت إنذاراً لليهود حكمة تسميته ابن مريم في القرآن ۲۱۷ ۱۹ ۲۳۸ ،۱٠٤ ٢٩٥ تأكيد المسيح الموعود أن ولد بدون أب أحواله عیسی ١٨٦، ٢١٢ ٤٢ الجزء الخامس بولادته وضع الأساس لبعثة النبي ﷺ ۱۹ ٢٦٧ ۲۰۷ ٢٥٦ ٢٥٥ - ٢٥٦ 17 حادث البركة في طعامه المراد من كونه آية كان نبيا وفق الأناجيل تلقيه الكتاب المراد من قال: لم آت لتبديل الناموس بل لكي أكمله كان يعتبر نفسه مبعوثاً إلى بني إسرائيل فقط بعث إلى اليهود ليقيم التوراة الأناجيل تؤيد ما نسبه القرآن إلى المسيح ٢٤٨-٢٥٧ كان أعلى درجة من يحيى نبوءة إبراهيم عن موعود في أولاده لا تنطبق على عيسى محيء المسيح تضمن نبأ عن موعود من بني إسماعيل الرد على أنه لم يسلم من مس الشيطان إلا ۱۲۷ ٢٥٦ ۱۷۰ ۷۲ ۲۱ لم يولد في كانون الأول بل في تموز أو آب شجرة نسبه لا تصل إلى إبراهيم المراد من قوله "والسلام عليَّ يوم ولدت..." في اسمه "يسوع" إشارة إلى مصائبه أخواته وإخوته كان كثير الدعاء غفرانه لذنوب رجل كان برا بوالدته وفق القرآن الكريم كان سيئ الخلق مع أمه حسب الإنجيل لم تؤمن به أمه حسب الإنجيل ۱۹۰ اختبار الشيطان للمسيح مكانته ۲۱۷ ۷۲ ۲۸۰ ٣٦٧ ٢٩٥ ۲۷۱ ۷۹ ۱۹۲ ۱۹۱ ٢٤٩ نزول إيليا قبل المسيح كان علامة شهيرة في اليهود ١٨ خلاصة نبوءات الأنبياء عن المسيح الحلقة الأخيرة في السلسة الموسوية هو تصديقه من قبل الرسول ﷺ كان إرهاصاً للرسول ﷺ ١٢٥ ۳۲۳ ،۱۷ ۲۹۳ ١٥٦ عيسى وأمه شبهه بالأنبياء الآخرين شبهه بولس بملكي صادق سالم مماثلة بين المسيح وإسماعيل مماثلة بين المسيح وحزقيال وجه المماثلة بينه وبين يونان سبب ذكره مع يحيى كان هو ويحيى جزأين من جوهر واحد كان يحيى إرهاصاً لــــه مقارنة بينه وبين الرسول معجزاته معجزته الحقيقية معجزة يونان ۲۸۰ ،۱۸۳ V.٢١٦ ۱۲۳ ٢٨٥ ٢٨٥ ۱۰۹ ٤٧٧ ۱۱۳ - ۱۱۲ أهم معجزاته عند المسيحيين الأوائل معجزة يونان 110 مماثلته بيونان النبي يحتم نزوله من الصليب حيًّا ونجاحه في التبشير ١٢٢ - ١٢٤

Page 728

الجزء الخامس تعليمه استهدف تعليمه إزالة قسوة اليهود تركيزه على التوحيد إخباره عن ظهور نبي آخر الزمان تصريحاته عن الحياة بعد الموت ۲۰۷ ۹۰ ۳۹۲ ۳۹۵ ٤٣ ملحقات مهمته وذهابه إلى كشمير بالذهاب إلى بلاد أجنبية في المشرق ۱۲۸ كان يخاف الذهاب إلى أفغانستان وکشمیر ۱۲۹-۱۳۰ لم يهاجر من فلسطين إلا مضطرا ذهابه إلى إيران وأفغانستان وكشمير بحثًا عن قبائل بني إسرائيل الضالة المراد من الخراف الإسرائيلية الضالة عند المسيح ١٢٦ فتواه أن يحيى هو إيليا المزمع نزوله تمثيل الكرم من قبل المسيح تمثيل شجرة التين من قبل المسيح قوله: اكنزوا لأنفسكم المال في السماء ۸۰ ۱۳۱ ۹۰ ٤١٨ لأعمل السيف قوله: لم آت لأصلح بينكم بل جئت نعت الأنبياء السابقين لصوصا حسب الإنجيل وقائع الصليب لا يثبت موته على الصليب من الأناجيل دعاؤه للنجاة من الصليب ۸۳ ٥٩٤ ۱۱۲ ۹۷ ،٩٤ ۱۳۲ ۱۳۰ كانت جروحه تداوى حتى بعد وصوله كشمير ۱۳۱ بدأ زمن عمله الجدي حين ذهب إلى بلاد الشرق نال في كشمير القبول السريع ۱۳۱ ۱۳۱ - ۱۳۰ ۲۴۸ ،۹۲ ،۸۹ ٢٥٣ 69.٢٦٣ ۹۲ اشتهر في كشمير باسم ابن الملك النبي الرد على كونه إله إنكار المسيح كونه إلها إنكاره كونه عالم الغيب رد على ألوهيته تحشده شده بعد واقعة الصليب يبطل ألوهيته؟ الرد على كونه ابن الله الرد على كونه ابن ا الله أحداث تعليقه على الصليب دعاء المسيح على الصليب كلمته الأخيرة على الصليب تدبير بيلاطس لإنقاذه من الصليب رؤيا زوجة بيلاطوس عن براءة المسيح تعاطف الحراس الحكوميين مع المسيح ۱۳۲ ۱۳۳ ۱۳۷ هل كان ابن الله أم ابن الإنسان؟ تأويل لفظ "ابن الله" في كلمات المسيح سمی نفسه ابن الله استعارةً بشريته نزف الدم من ضلعه حين طعن بعد نزوله من على إقراره أنه بشر الصليب القبر الذي وضع فيه ۱۳۸ ۱۳۹ سمی نفسه ابن الإنسان لا خصوصية للمسيح مقابل يوحنا طبق الأناجيل مكث في القبر ٣٦ ساعة وفق الأناجيل لم تكسر عظامه بعدما أُنزل من الصليب لقاؤه بالحواريين بعد حادث الصليب تجسس توما جروحه ازداد إيمانه بنجاته من الموت على الصليب في نزوله من الصليب حيًّا موت المسيحية 0.1 ۱۳۸ 12.١٤٠ ۱۳۰ 11.ظروفه ليست مختلفة.عن الأنبياء الآخرين إنكاره بكونه صالحاً هل كان كفّارةً وفداء لم يتنزه المسيح عن إثم آدم لأنه.نسله بواسطة حواء من ۳۹۰ ۸۹ ΛΕ ٨٦ ٢٤٨ ۸۹ 184 ،179 ٥٧٥ ۹۰ ۹۷

Page 729

رغم قرضه الكلام الموزون لا يجوز الجزء الخامس ٤٤ ملحقات هل كان المسيح راضياً لكونه كفارة؟ ۱۱۰ ،۱۰۳ ،۹۷ ،۹۱ صعوده في السماء إبطال صعوده بجسده العنصري إلى السماء دليل على وفاته وعدم ذهابه إلى السماء وفاته توفي المسيح كما توفي الأنبياء الآخرون ۳۷۹ ۵۱۲ ۵۷۳ أن يقال إنه شاعر إنجازان عظيمتان له أحواله ذهابه إلى مدينة لدهيانه تشكليه مجلسًا إداريًا يضم أربعة عشر عضواً معتقداته وتعليمه أنقذ المسيح الموعود عيسى المسيح من اللعنة وقضى تفسيره لقوله تعالى "وإن منكم إلا واردها" ۱۱۱ رأيه عن أصل كلمة الخنزير 01.۱۱۱ ٤٠٩ ٢٤٠ ٤٠٤ ۳۹۹ - ۳۹۸ على المسيحية بإثبات وفاته الطبيعية إن كان المسيح حياً فبسبب الإسلام والقرآن وجماعتنا ٢٨٩ قال: إن الثواب أو العقاب منوط بإتمام الحجة مثيل المسيح ومجيئه الثاني مجيء ابن الإنسان ثانية مثيل المسيح الناصري ۸۹ ١٤٢ قال: بعض الناس يُحاسب وفق فطرته تعليمه عن الجهاد حكمة بينها لولادة المسيح بدون أب ۵۱۰ ٦٧ ٤٣٤ ١٨٦ قال معين الدين الجشتي إني أصبحتُ عيسى الثاني ٤٨٠ أثبت في كتابه "المسيح في الهند" مجيء المسيح إلى عيص غاندي غبن (Gibbon) غريو ٦٤٤ ٢٤٩ ٦٧١ أفغانستان وكشمير 181 حججه الدامغة على المسيحيين جعلتهم يحرفون الكتاب المقدس بعض أقواله ۹۰-۸۹ ۸۱ ٢٦٢ ٤٨١ ٢٥٨ 01.221 ٤٣٦ 189 ٢٢٤ غلام أحمد مرزا القادياني (المسيح الموعود والمهدي القلة (راجع أيضًا المسيح الموعود) ٥۱۰ ،۶۰۲ ،۳۹۸ ،۳۸۳ ،٢٩٦ مكانته هو مثيل المسيح الناصري جاء سيد أحمد البريلوي إرهاصاً له دمار حل بالمسلمين بأيدي القوى المسيحية الغربية قبل دعواه مماثلته بحزقيال ١٤٢ ۱۵۹ 12 لا تضع لي الكرسي فإني مأمور بالخدمة لا أعرف اسم أستاذ آخر لأنني درستُ في مدرسة محمد مع أن الكرامات مفقودة في العالم كله، ولكن تعال وشاهدها عند خدام محمد ليتني كنتُ ترابًا في ديار آل محمد ﷺ لا علاقة لي بالشعر وإنما أستهدف به أن يفهم الناس بهذا الأسلوب الله وعل كلمة له في حب دعا ضد المسيحية وقال: يا رب سحقهم كسحقك طاغيا وانزل بساحتهم لهدم مكانهـــــم دعاء آخر له

Page 730

ملحقات ٧٦ - ٧٧ ۷۸ ٣٦١ ٤٦٨ ٤١٦ ،۲۱۳ ٢٧٦، ٣١٢ ٣٦٨ ٥٨٤ 111 ٤٦٨ ۲۲۰ ٤٨٢ ۲۲۰ ،۲۱۳ ۵۱۸ ٣٦٨ ٣٩٥ ٦٢٨ ٦٩ ٦٢٨ قابیل (قايين) ابن آدم القلبية المسيحيون أتباع قابيل القرطبي قطرب النحوي قيصر أغسطس ٢١٧ قيصر ألمانيا ٤٥ ١٥١ ٤٣٠ 21.۲۳۷ ٢٥٧ ۱۷ ٤٣٥ - ٤٣٦ الجزء الخامس سرده قصة شيخ من المشايخ معجزاته وإلهاماته كلام الدار معه على سبيل التمثل تفشي الطاعون في بنجاب بحسب ما أنبأه معجزة سقوط بقعات حبر أحمر ظهور الله تعالى له في الرؤيا بشكل والده معارضته فتاوى المشايخ بتكفيره أنهم بالخيانة بسبب مدحه الإنجليز مقابل اضطهاد قيصر الرومي السيخ قالوا إن الطاعون والأوبئة الأخرى أتت بسببه ٤٣٥ قينان کرشنا کریلتندن الكلبي کونستيلي واروس کیدار ناث منشي كيرينيوس اللات لامك (والد نوح) لعازر لوط العلمي مجيء إبراهيم مع لوط فلسطين ذكر إعطائه العلم والحكمة لم يكن في قومه حتى عشرة رجال من الصالحين ١٥٤ دعاء إبراهيم لنجاة قوم لوط لوط بن هاران كانت والدة أيوب من عائلته ٦٤٤ ٦٣٨ - ٦٣٩ ۲۸۸ ٣٢، ٣٤ الفراء فرجوسن القس فرعون ،٤، ٤١٩، ٤٣٨، ٤٦٥۱۳ ،۲۰۸ ،٤٨ ٤، ٤٩٥ - ٤٩٨ ، ٥٠٥،٥٠٣۷۱ ٤١٣ ۵۱۲ 017-010 ٤٣٨ ۵۱۹ قوة الفراعنة احترام سحرته لموسى وفقهم للإيمان عقيدة قوم فرعون حقيقة صيرورة الحبال إلى ثعابين عذاب آل فرعون غرقه في البحر فرعون موسى كان أعدل من أهل مكة وعلماء هذا ۵۱۳ ٥٢٤ الزمان فريد هامل فيلد السيد

Page 731

الجزء الخامس نبوءة للرسول عن دخـــــول المسلمين فلسطين ٦٧٥ وهروب اليهود منها في الزمن الأخير مكانته العظيمة هو خاتم النبيين وسيد ولد آدم وأفضل الخلق ٤٧١، ٦٧٧،٦٢٥ ،٣٥٣ ٥٩٤ سيد المحبوبين لدى الله تعالى في وحيه الأول إشارة إلى كونه خاتم النبيين ٤٧١ ٦٣٤ خصائصه الخمس التي لم تمنح لنبي الرسول وحده سيُعطى حق الشفاعة تحقيق وفاء العهد الإبراهيمي بوجوده القيامة يوم ۲۰ ببعثة النبي وانقطعت سلسلة النبوة عن بني إسرائيل ١٠٤ أثبت أفضليته باعترافه بفضل الأنبياء السابقين ٥٩٤ ٤٤٠ ۸۸ VO-VE ١٥ ٥٩٤ ٧٤ ٤٦٩ ٦٠٠ ۵۹۵ ٣٤٤ ٦٠٠ ٤٦ ملحقات ،۱۷۰ - ۱۶۹ ،۹۰ لوقا الإنجيلي ۲۳۳ - ۲۳۰ ،۲۲۷ ،۲۲۵ - ۲۲۰ ،۱۹۱ ،۱۸۸ ٦٤٣ ۲۸۹ - ۲۸۸ ٢٦٧ ٣٦٨ ٣٦٨ ،۲۰۰ ،۱۶۹ ،١١٦ مأمون الرشيد الرخاء في عهده قول له للفراء مبارك أحمد مرزا مَتُو شالح متوشائيل متى الإنجيلي ٣٤٠ ،۲۷۱ - ۲۷۰ ،۲۰۰۱ ،۲۳۲ - ۲۳۰ ،٢٠٥ مجاهد محمد المصطفى خاتم النبيين اسمه المبارك تصرف إلهي في تسميته في اسمه إشارة إلى نجاحه مصداق نبوءات الأنبياء نبوءة موسى عن بعثة محمد الله ٤٠٢،٣٧٦ القرآن يده يد الله اعتبر هو المنقذ الحق للعالم سيكتب لدينه العز والغلبة الشرف العظيم لأتباعه ٣٢٥ ٣٦٧ ثمرة الإيمان به للتوحيد التوحيد بفطرته منذ الطفولة رغبته في نشر وحدانية الله ۳۹۲ ،١٤٧، ١٨٦ نبوءة إشعياء عن بعثة نبي آخر الزمان في العرب ٣٩١ عدم قبوله الهدية من مشرك نبوءة المسيح العلية الا عن بعث تضحياته لاستئصال الشرك وقيام التوحيد ۳۹۲ ۱۹ آخر وصيته لأمته.تجنب الشرك هي حبه الشديد الله في كلماته الأخيرة له أخلاقه الحميدة وصفاته العالية ٥٦٣،٥٦٢ ٤٦٨-٤٧٨ ، ٥٦٣ ٤٧٢ ٤٧٣ 1.0 10.كان جامعًا للأخلاق الفاضلة ذكر أخلاقه المتنوعة مقامه العظيم في نظر خديجة شبابه الطاهر ولقبه الأمين والصدوق شجاعته ۱۹۸ ٤٧١ ۱۲ ٤٧١ أساس البعثة المحمدية وضع ببعثة المسيح عيسى نزول الوحي عليه كيفية نزول الو.عليه 7106712 ظهور ملاك الوحي في غار حراء أول مرة الدليل على أن القرآن ليس من افترائه نبأ إعطائه العلوم الجديدة في وحيه نبأ فتحه وهزيمة الكفر

Page 732

الجزء الخامس عفوه عن أهل مكة والطائف عفوه عن عبد الله بن أبي ابن سلول زهده في الدنيا تسامحه الديني غيرته على الله تعالى تناوله قطرة الغيث على لسانه شاكراً لله هو رحمة للعالمين فطرته الطاهرة وقلبه المطهر هو الإنسان الكامل أسوته الحسنة هو الوحيد الذي جعل أسوة حسنة طفولته قابلة للتأسي أسوته في تحمل ظلم العدو أسوة كتاجر معجزاته معجزاته العلمية كلامه المعجز نجاحه رغم فقدان الأسباب معجزة البركة في طعامه له معجزة تفجر الماء.من بين أصابعه مماثلته ومقارنته الأنبياء الآخرين مماثلة له بإبراهيم ٤٧٦ ٤٢٣ ٤٧٥ ٤٧٦ ۵۹۹ ،۵۰۷ ٢٥٩ ٢٠٧، ٥٧٦ ٤٧٠ ٤٧١ ٤٧٢ ٤٧٣ ٤٧٦ ٤٧٦ ٦٢٨ ٢٤٢ ٤٠٨ ٢٦٨-٢٦٩ ۲۳۷ مماثلته بإبراهيم في كسر الأصنام مع الفارق بينهما مشابهته بموسى ٦١٩ ٦٢١ 0.1 ،٥٠٦ تشابه بين دعاء للرسول ودعاء لموسى العليا ٤٩١ مشابهته بأيوب مشابهة بين السلسلة الموسوية والمحمدية مقارنة بينه وعيسى ۱۷ ٤٧٧، ٤٨٠ مقارنة بين المسيح المحمدي والمسيح الموسوي O..GEVI ٤٧ الصلاة الإبراهيمية علم المسلمون الدعاء للصلاة عليه حكمة الصلاة عليه معارضته السبب الحقيقي لإنكار استهزاء الكفار بالرسول ﷺ سماه الكفار كاهناً اتمام الكفار النبي بكونه شاعرا مؤامرات الكفار ضده رشق أهل الطائف الرسول ﷺ ملحقات ٦٢٤ ٤٢٤-٦٢٦ ٦٠٩ ٦٠٩،٥٧٨ 122 ٦٢٢ ٣٤٤ انتزع من كفار مكة أولادهم وصاروا خداماً له ٤٢٤ بعثته الثانية نبأ بعثته الثانية في سورة الجمعة نبأ بعثة مأمور بعده ۲۹۳ ۲۹۳ بعثة نبي في الإسلام لم ينهل من الرسول إهانة للإسلام والرسول أقوال المسيح الموعود العليا في حبه لا أعرف أستاذاً آخر لأنني درس في مدرسة محمد ﷺ ليتني كنت ترابًا في زقاق آل محمد ﷺ ٢٦٢ ٢٥٨ يا من تنكر عظمة محمد وأنواره الساطعة، اسمع بأذن واعية أن الكرامات وإن صارت عديمة الوجود في الأديان الأخرى في الزمن الحاضر، ولكن تعال وشاهدها عند خدام محمد ﷺ ٤٨١ أمور متفرقة عنه انضمامه إلى حلف الفضول هجومه على الشام قوله : " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كان محمد ﷺ بشراً ٤٧٤ ۳۰۷ 0.1 ۵۷۱ ،۸۸ حب الصحابة له ٤٧٧،٥١٨

Page 733

ملحقات من يستحق شفاعته بساطته في طعامه له بساطة روضته تفشي الشرك وقت بعثته تحقيق العهد الإبراهيمي كان مقدراً بالرسول ﷺ ٤٤٧ ٤٧٥ ٤٢٥ ٤٦٩ ۲۰ ٤٨ الجزء الخامس مرقس الإنجيلي ۲۶۷ ،۱۷۰ ، ۱۳۳ ،۹۵ مريم عليها السلام تحقيق اسم مريم في العبرية والعربية ١٨٦ أحوال حياتها ۱۸۸ كانت من الناصرة ولكن تركت منذ طفولتها في أورشليم لتربيتها وعد رباني للرسول ﷺ بتعليمه علومًا جديدة دعاء علمه الرسول ﷺ لأمته ٤٧١ ٦٧٧ كلامها الدال على صلاحها منذ الصغر الرسول ﷺ لم ينه عن الشرك فحسب، بل علم كيف يمكن تجنبه تقبيل الصحابة يد الرسول ٣٣٥ ٢٥ إطلاق النبي أسرى بني هوازن بشفاعة بنت حليمة ٥٠٥ مفهومان للمقطعات يُنسبان إلى الرسول ﷺ رؤية الرسول الله المسيح في السماء الثانية وإدريس في السماء الرابعة خلال المعراج معراج الرسول ﷺ إلى السماء كشف عال ٣٨٠ ۳۷۷ سننتقم ممن سب المسيح الموعود بواسطة الرسول ﷺ يوم القيامة ٤٣٥ - ٤٣٦ إحضار الناس الهدايا لها ۱۹۵ ١٤٥ ١٤٨ كلامها البريء حرض زكريا على الدعاء ١٤٥، ١٤٩ ۱۹۵ ۱۹۹ ذهابها إلى مكان شرقي المراد من ظهور روح القدس لها كيفية نزول الروح القدس على مريم حسب الإنجيل ٢٠٠ يوسف النجار يعلم براءة مريم في المنام ١٨٨، ٢٣٣ عقائد المسيحيين المختلفة عن مريم مقارنة بين القرآن والإنجيل حول أحوال مريم ۱۹۱-۱۹۳ تحدث القرآن الكريم فضلها بحسب مريم علامة تحذير رباني لليهود ۳۱۱ ۱۹۳ 1.2 ١٤٦ سيكون المسيح الموعود قائماً بلوائه الصغير تحت لواء كانت الرسول القيامة (محيي الدين ابن عربي) يوم ٢٨٦ مريم إرهاص ليحي محمد أحسن الأمروهي سيد محمد بن إسحاق محمد علي مولوي اللاهوري معنى قول الله لمريم "واصطفاك على نساء العالمين" ٢٤٠ ۲۰۹ ،۱۹۳ ។ حملها بالمسيح من دون أب ۲۱۲-۲۱۱ ولدت ليوسف أولادًا آخرين بعد عيسى وفق الإنجيل ١٩٠ كان يعتقد أن المسيح لم يولد بدون أب مَحُويائيل الدين ابن عربي ۲۱۲ ٣٦٨ لم تؤمن مريم بالمسيح حسب الأناجيل إنها لم تنج من أثر الإثم الموروث المزعوم!؟ حقيقة تسمية اليهود لها أخت هارون إعلان البابا أن مريم زوجة لله ۱۹۳ ۹۸ ٢٣، ٦٣٥ ۳۱۱ قال: يقوم المسيح الموعود يوم القيامة بلوائه الصغير سورة مريم توجه الأنظار إلى مريم والمتصفين بصفاتها ١ تحت لواء الرسول ﷺ ٢٨٦ لم تذكر التفاسير حكمة ذكر القرآن الأنبياء بترتيب خاص في سورة مريم ٣٢٤

Page 734

لم توجد الشريعة قبل موسى وفق الإنجيل ملحقات ٦٧ أخبر عن مستقبل بني إسرائيل معاملته أعدائه الكنعانيين مع ٦٦٨ ۵۸۲ إنجازات الأنبياء المتوسطين من سلسلته ضمت إلى أعماله ٢٨٦ مشابهة بين السلسلة الموسوية والمحمدية M ۱۷ أنبأ ببعثة محمد مشابته بموسى ۳۹۲ ،١٤٧، ١٨٦ 0.1 ،٥٠٦ تشابه بين دعاء للرسول ودعاء لموسى العلمة ٤٩١ مقارنة بين المسيح المحمدي والمسيح الموسوي لا حقيقة لتوراة موسى إزاء القرآن O...EVI ٢٤٢ اختلاف القرآن الكريم عن الكتاب المقدس حول أحوال موسى اتمام الكتاب المقدس موسى بالنهب أصيب بالبرص والجذام بزعم الكتاب المقدس كان اسم إحدى أخواته مريم كان هارون تابعا لموسى أدب سحرة فرعون لموسى وفقهم للإيمان 010 فرعون موسى كان أعدل من أهل مكة ومشايخ هذا ٤٨٦ ۵۳۵ ٤٩٤ ٢٣٦ ٥٤٣ ۰۱۳ ٤١٣، ٥٢٠ الزمان نابليون بونا بارت نبوخذنصر البابلي ١٤، ١٢٦ ، ٦٤٦٣٣١ ، ٦٥٣، ٦٥٧ ٥ النجاشي ملك الحبشة له كان يؤمن بالتوحيد اعتناقه الإسلام طلب وفد أهل مكة منه إرجاع المسلمين المهاجرين ٤ 7-0 عدله ٤٩ ٢٣٤ - ٢٣٦ ٢٦٩ ۱۹۳ ٤٢٤ ٦١٦ الجزء الخامس مريم أخت هارون مريم أم طاهر رضى الله عنها مريم المجدلية معاوية بن أبي سفيان الدولة الأموية 159 ،149 ،140 ۵۱۸ ۲۱۱ ٣٦٨ مقاتل ملاخي النبي العليا مناة منجو (عائلة ملكية صينية) مَهْلَلْئِيل موسوليني موسی العلية الا المراد من كونه مخلصا منة ربانية عليه الآيات التسع لموسى العلي حقيقة انفلاق البحر لموسى العلا جزأين تأويل عصاه جماعته عودته من مدين إلى مصر "اخلع نعليك" يعني قطع الصلات المادية رؤيته النار كان مشهداً كشفياً ٤١٦ ۳۸۱ ٥٠٣ ٤٩٥ - ٤٩٦ ٥٢٠ ٤٩٢ ٤٨٥ ΕΛΛ ٤٨٥ دعاء موسى رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري" ٤٩٩ تبرئة الله له في القرآن من تهم بشعة أول ما أُمر به موسى هو التوحيد يكمن فخر موسى العلم كله في مجيئه بالشرع السلسلة الموسوية قامت على الشرع والتوحيد دليل على أن شرع موسى لم يُنسخ ببعثة المسيح ۲۳۵ ٥٧٠ ٤٦٤ ١٧٨، ٢٥٦ ،١٦

Page 735

ملحقات كان اليمن ضمن سلطانه ٤ 0.هابيل ابن آدم القلب نصرت جهان أم المؤمنين رضي الله عنها ٢٥٧ هاجر عليها السلام نضر بن حارث شهادته في حق الرسول نظام حاکم حیدر آباد واقعة له مع المفسر الله نوح العلي ٤٧٤ ٥٠ ،۱۷۹ ،۸۲ ،۶۸ ،٤۲ ،۳۵ ،۲۲ ٤، ٦٢٩،٥٧٤۷۱ ،۳۸۰ ،٣٦٨ - ٣٧٤ شجرة نسبه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع (حديث) كان إبراهيم تابعًا لشريعة نوح ارتقاء العقل الإنساني في زمنه طوفان نوح ٣٦٨ ٦٢٩ ٦٢٩ ٦٢٩ ١٩٦ نور الدين الخليفة الأول للمسيح الموعود ال) زواج إبراهيم من هاجر الجزء الخامس ٧٦ ٧٨ V.وعد ملاك لها بإنشاء قوم كبير من ابنها إسماعيل ٣٢٩ هارون العلمية كان تابعاً لموسى ۶۱۷ ،۵۳۹ ،١٥٢، ١٦٨ ٣٥٧ سبب قول اليهود لمريم يا أخت هارون ٢٣٤ - ٢٣٥ اتهام الكتاب المقدس هارون بالشرك هبل هتلر هریش تشندر الهندوسي ۵۳۸ ،۳۸۱ ۵۹۹ ،۵۰۷ ٤١٦ ٦٤٦، ٦٤٩ ٦٢٣ توظفه في ولاية جامون وكشمير دعاؤه عند النظرة الأولى للكعبة كان يرى أن آزر اسم عم إبراهيم العلي رأيه عن استشهاد يحيى العلمية تفسيره لآية "وإن منكم إلا واردها " ۱۳۵ ٣٤٨ ۳۲۸ ۲۸۰ ٤٠٤ كان يرى بجواز قراءة القرآن للحائض والنافس ٢٢٨ مجئ عبيد الله السندي قاديان لفهم القرآن.واقعة من زمنه نصيحته لسارق واعظ يسأله سؤالاً غريباً منه ۰۹۰ ٢٦٣ ٦٦ ۳۸۳ حادث غريب له مع شيخ نور الدین زنگی نيكو فرعون ٥٣٥ ۵۲۲ ۳۳۱ وقائع هريش تشندر تشبه وقائع أيوب هند زوجة أبي سفيان هيرودس (حاكم فلسطين الرومي) ۲۲۰ واشنطون حادثة من حياة هذا البطل ود القسيس ناقشة جرت بينه وبين المفسر ۱۰۲ ولي الله الشاه تكريمه لحافظ القرآن الكريم ٢٥٨ وليام الفاتح ٣٦٥ وليام موير ۱۷۱ ،۱۳-۹ ،۱ ويري ریورند ۱ ، ۹ - 1۳ ،171، 194، 463 خطأ ويري في تحديد زمن نزول سورة الأنبياء ٥٧٠،٥٦٩

Page 736

الجزء الخامس ۵۱ ملحقات یابال یارد يثرون (حمو موسى القنة ) العليه السلام ( صفاته الحسنة في القرآن ١٤٤، ١٧٦ ٣٦٨ نزول الروح القدس عليه ٣٦٨ مماثلته بعیسی ٤٨٦ أخذ المسيح الاصطباغ م منه يحيى (يوحنا) العلمية تلقي زكريا البشرى بيحيى معنى يحيى كانت مريم سببا غير مباشر في ولادة يحيى مريم إرهاص ليحى معنى قوله تعالى " لم نجعل له من قبل سميا" هل سُمي أحد في العالم باسمه قبله؟ كان مظهرًا لإيليا (إلياس) ومثيلا له كان إرهاصاً للمسيح فتوى المسيح أن يحيى هو إيليا المزمع نزوله يحي أول نبي أتى إرهاصاً لنبي يحيى أول نبي جاء باسم نبي سابق كان تابعا لإبراهيم وموسى لم يأت بكتاب جديد كان بمنزلة مجدد كان المسيح أعلى درجة من يحيى ۱۵۹ ،١٨، ١٤٥ كان المسيح ويحيى جزأين من جوهر واحد ۱۵۹ 17.۱۷۸ ٢٨٦ ۱۷۰ ٢٨٥ أحواله الواردة في الأناجيل اعتقاله ١٦٧ ١٥٦ ١٤٦ 127 لا بد لجماعتنا أن تحيي اسم يحيى ۷۱ ٢٨٥ ١٦٩ 171 ۲۳۰-۲۲۹ ۱۵۹ اليَشع هو أحيا الأموات وفق الكتاب المقدس ۷۹ ܘܙ يعقوب بن مريم ۲۹۵ 10V-107 يعقوب حمو مريم ووالد يوسف النجار ٧٤ ۱۵۹ 61V-1876122 ۳۲۳ ،۲۸۵ ،۱۷۱ ،١٥٦، ١٥٩، ١٦٦ يعقوب الحواري ٩٤ يعقوب العليا ،١٥٣، ٣٦٠ ،۱ ٥٧٤، ٦٢٤، ٦٤٦، ٦٥٠ ،۲۸ ،۳۷۱ ،٣٦٨ نبوءة خروج نجم من نفس يعقوب ينغسن القسيس ١٩٦ مناقشة جرت بينه وبين المفسر يهوذا ابن مريم يهوذا الحواري يهوه ۰۹۱ ٢٦٦ ٢١٦،٨٢ المراد من "سلام عليه يوم ولد ويوم يموت" يهوه ليس علمًا لله تعالى رأي الخليفة الأول له للمسيح الموعود اللي عن يهوه في الحقيقة مركب "يا هو " استشهاد يحيى ۲۸۰ يُوبال استشهاد يحيى لا يخالف وعد السلام الإلهي له ١٨٣ يوحنا (راجع أيضا يحيى ال) اختلاف القرآن مع الإنجيل في ذكر أحوال يحيى ١٦١ - ١٦٣ تصديق الإنجيل القرآن في كون يحيى منقطع النظير ١٦٠ ۳۰۳ ،۳۰۲ ٣٦٨ أشخاص باسم يوحنا ذُكروا في الكتاب المقدس ١٥٧

Page 737

ملحقات يوحنا الإنجيلي يوسف العليا قصة ۲۳۰ ،۱۷۰ يو سف وزليخا في التفاسير 171، 373 - 374 يوسف الرامي كان يؤمن بالمسيح طلب نعش المسيح من بيلاطس ۱۳۲ ١٤٠ ،۱۳۲ ۱۳۹ يوسف النجار زوج مريم ۲۳۲ - ۲۳۱ ،۲۰۰ ،۱۹۱ - ۱۹۰ ،۱۸۸ ، يوسيس ابن مريم ۲۹۵ يونان بن متى العلة (راجع يونس) یونس (يونان بن متى) | هو ذو النون العلية لا دحض القول أنه كان عبرانيا لم يكن يونس من نينوى كان يخاف الذهاب إلى أهل نينوى من قصة يونس في التوراة ذهب إلى ترشيش بدلاً من نينوى أهم معجزة لعيسى عند المسيحيين الأوائل هي آية يونان ۱۱۸ ۱۲۹ ۱۲۹ ۱۱۷ تكمن معجزته في مكوثه في بطن الحوت حيا ثلاثة ۱۱۷ 110 أيام بلياليها أهم نكات معجزة يونان النبي ۱۲۳ ١٢٤، ١٢٥ ١٢٤ آية يونان التي شاهدها أهل نينوى؟ حادثته وردت بالتفصيل في الكتاب المقدس ۱۱۷، ۱۱۸ ذكر أحواله في التوراة إنما أمن قومه برؤية أثر العذاب دعاء يونس في الوقت العصيب ٦٦٠ ۵۸۲ ،۵۸۱ ١١٩، ٦٦٠ ٥٢ الجزء الخامس اختلاف القرآن عن الكتاب المقدس حول حادث يونس معجزة مكوث يونس في بطن الحوت ۱۲۰ عدم تحقيق نبوءة النبي يونس العلمية قول الرسول العبد.مسيحي إن يونس أخي ۱۲۱ ۲۳

Page 738

(٣) فيرس الأعلام أماكن

Page 739

مستعمراتها ستصبح حجرا في عنقها ذهاب المفسر له إلى إنجلترا في الرؤيا الأندلس ملحقات 712 ٣٦٥ حكم أسرة أبي سفيان على الأندلس حوالي خمسة قرون أنطاكية ٦١٦ 112 ٦٢٤ ،۳۳۱ ،۳۲۷ (UR) هي مولد إبراهيم العلي أورشليم ٥٥ ٦٢٤ ۱۱۸ الجزء الخامس آسيا أرمينيا أستراليا ستصبح حجرا في عنق الإنجليز إسرائيل (راجع أيضا فلسطين) إقامتها بمساعدة الأمم المتحدة وأمريكا سيوفق الله المسلمين لأن يقضوا عليها نهائيا ۳۱۷ 712 ٦٥٣ ،۲۳۱ ٦٧٥ ٦٧٥ ٦٧٥ ۳۳۱ 112 سيطرد منها اليهود مستقبلها الإسكندرية أشور حدودها عاصمتها نینوی أفريقيا أفغانستان هجرة بني إسرائيل إليها ۱۱۸ ۱۱۸ ۳۱۷ 141 ،130- ۱۲۹ ١٢٣-١٢٤ ٢٣٣، ٢٤٦، ٦٥٣،٦٥٢ ،۱۹١٢٦، ٥ 00.612 ١٥٧ ۲۳۳ ،۲۳۲ ۱۹۵ دمارها تعميرها الثاني على يد عزرا النبي زيارة المسيح العليا لها مرتين تلقي مريم الدين والتربية فيها أوروبا ٥٢٢، ٦٢٤ ،۳۱۷ نبأ ازدهار وانحطاط أمريكا والأمم الأوربية ذات العيون الزرقاء ٥٥٠ ،٥٤٨ بنو إسرائيل القاطنون هناك تأثروا بالحضارة البوذية ١٢٧ نبأ زوال الملوكية الأوروبية وقيام الديموقراطية فيها ٥٥٠ ذهاب المسيح إليها لجمع الخراف الضالة من بني ثراء الأمم الأوروبية سيتسبب في هلاكها إسرائيل ٦٢٧ ٥٢ سبب قوة الشعوب الأوروبية رخاء العمال في أوروبا الباحثون الأوروبيون بعيدون عن منبع العلم الحقيقي ٥٣٠ ٦٧٢ نكران المؤلفين المسيحيين الأوروبيين للجميل إيران تشرد القبائل العشر اليهودية إلى إيران ٦٣٢ 21061.الألب (جبل) ألمانيا ٤١٥ دمار حل بها في الحرب العالمية الثانية ٤٠٦ ٥۲۹ ،۴۱۳ ،۳۱۷ ،۱۰،۶۹ أمرتسار أمريكا نبأ ازدهار وانحطاط أمريكا والأمم الأوربية ذات العيون الزرقاء ٥٤٨ ٤٤٥ حادث رائع من أيام حرب استقلال أمريكا ثراء أمريكا وأوروبا سيتسبب في هلاكهما جشع روسي برؤية ثراء الأمريكان والأوروبيين ٥٦٤ اصطدام روسيا وأمريكا سيؤدي إلى دمارهما دور أمريكا في قيام دولة إسرائيل إنجلترا ٦٧٥ ٥٢٢،٤١٦ ،۹۰ ،۱۰ ١٢٦ ،۱۲۳ ،۱ ١٥٧ مجيء اليهود من إيران لتعمير أورشليم ذهاب المسيح اللة إلى إيران لجمع الخراف الضالة اليهودية إيطاليا دمارها في الحرب العالمية الثانية إيليم (سيناء) 117 210 ٥٢٤

Page 740

ملحقات بابل كان البابليون يرون الشرق مباركا باريس باکستان البحر الأبيض البحر الأحمر بغداد دمارها بلجيكا بنجاب ،١٢٦ ،٣٧٥ ،۱۱۸ ١٩٦ ۰۳۱ ٥٦٩ 12 217 ۲۹۱ ٣٤٥ تفشي الطاعون في بنجاب وفق نبأ المسيح الموعود الله ١٠ فتنة ضد الأحمدية في بنجاب عام ١٩٥٣م بيت فاجي (فلسطين) ۲۷۸ بيت لحم٢١٣، ٢١٧، ٢١٩، ٢٢١، ٢٢٤، ٢٣٠ موقعها بيت المقدس فتحها على يد عمر ظلت تحت حكم المسلمين ١٢٥٩ عاما بيلون تائر تبوك ترشیش فرار يونان النبي إلى ترشيش تركيا دمارها أثناء الحرب العالمية الأولى جبل الزيتون جَسيماني جدة جرار ٢١٥-٢١٦ 151 ،40 ٦٢٤ ۳۳۰ ۰۹۱ ٦٥٣ ۳۰۷ ١١٧، ٦٦٠ ٤١٦ ۹۵ ٩٤ ٣٦٥ ۳۱۸ الجفر الجليل حاران مجيء سيدنا إبراهيم إليها من أور الحبشة الجزء الخامس ٥۲۳ ٢٦١ ،۲۳۲ ،۲۱۳ ٣٣٣، ٣٣٤ ٦٢٤ ٤٤٠، ٥٦٩ ،۳ ،۲ أمر النبي أصحابه بالهجرة إلى الحبشة الهجرة إليها تمت في العام الخامس من البعثة النبوية ٦ محاولة هروب عكرمة إليها بعد فتح مكة اكتشاف صحائف "حنوك" هناك الحجاز حراء ۵۸۲ ٣٧٤ ٤ انصراف النبي إلى ذكر الله فيه ٤٧٨٠٤٧٠ ٤٨٦-٤٨٧، ٥٢٣ حيدر آباد الدكنية حادث زيارة قريب لحاكم هذه الولاية قاديان ٥٠ خراسان دجلة (نهر) ۵۲۷ ۱۱۸ دهوزي مناظرة جرت هناك بين قسيس والمفسر دمشق ۳۲ ۰۹۱ ۵۲۳ دیر غرود ربوة مركز الجماعة الإسلامية الأحمدية ٦٧٤ ازدهار الجماعة بعد الهجرة إليها رتر جهتر كان الصوفي أحمد جان مريدا لأحد الصوفية فيها ٤٠٩ روسيا هي فرع من فروع يأجوج ومأجوج ٤١٦،٤١٣ ،۳۱۷ ٦٦٢ صنعت القنبلة الذرية والهيدروجينية لتستولي على ثــراء البلاد الغربية وأمريكا اصطدامها مع أمريكا سيؤدي إلى دمارهما روما 210

Page 741

الجزء الخامس القوى المسيحية الغربية تنوب عن الإمبراطورية الرومانية خضوع فلسطين لحكم الرومان تركيز المسيحيين على التبشير فيها رغم الاضطهاد الملاجئ الأرضية فيها للمسيحيين الأوائل سدوم مدينة قوم لوط سلیمان (عيون) سهانبور سوريا (راجع الشام) سومنات السويس (قناة) سویسرا سيالكوت ١٥ ٦٧٣ ۱۱۳ 114 154 ٢١٦ ۱۰۲ ،۷۳ ٤٢٤ ۵۲۲ ٦٧٤ OV عراد ملحقات منطقة تبعد ١٠٠ ميلا عن بيت لحم عراق ۲۱۹ ۴۱۹ ،۳۲۷ ،۳۲۵ ،۱۱۸ الوطن الأصلي لإبراهيم العلا، هو هجرة إبراهيم العلي منه ٣٠٢، ٦٢٤ ٦٩ ٦٤٢، ٦٤٦ العقبة (خليج) علا عمواس الطاعون بعمواس عوص كان أيوب العليا سكانها من غزة غورداسبور فارس فرنسا ٦٧٤ ٢٠٦ ។ ។ ٥۲۳ ٤٠٩ ١٥، ١٢٦، ٤١٣ ٥٣١ ،419 ،٤، ٤١٥۰۱ ،۱۰ ٤١٥ ٤١٥ ،۱۱۳ دمارها في الحرب العالمية الثانية مستعمراتها انقلبت وبالا عليها فلسطين (راجع أيضًا كنعان ٦٤٢ ۳۰۷ ۵۲۹ ،۵۲۲ ، ۱۹ ،۳۹۱ ،334 ،141 ،۱۲۹ ٢٠٦ ٦٢٤ ،٦٩ ٦٦٧،٥٧٦ سفر إبراهيم ولوط إليها لم يبق فيها إلا قبيلتان لبني إسرائيل بعـد هجـوم نبوخد نصر اضطر المسيح لتركها حكم الرومان لها فتحها في عهد عمر نبأ خروج المسلمين منها ١٢٦ ۱۳۰ ٦٧٥ ٦٧١ ٦٣٢ ۳۱۸ ازدهار المسيحية فيها بجهود القسيس ينغسون الشام ۹۱ ٣٣٤ ، ٣٤٣ ، ٤١٩ ، ٥٢٢، ٦٤٦ سفر الأسطول البحري لسليمان العلة إليها خروج النبي إليها في غزوة تفشي الطاعون فيها في عهد عمر شوالك (جبل) شور صقلية الصين الطائف سفر النبي إليها للتبشير عفو النبي عن طاء النمل طبرية الطور عدن أهلها ۵۲۷ ٤٠١، ٤١٣ ،۳۱۷ ،۲۱۱ ٢، ١٣، ٤٧٦ ٣٤٤ ٦٤٣ ٥۲۳ جنة آدم كانت في شرقي عدن حسب التوراة ٣٥٤ 00 دخول اليهود إلى هذا البلد تارة أخرى ٦٧٣ نبأ في الحديث أن جيش المسلمين سيدخل فلسطين ويفر منها اليهود ٦٧٥ عندما ترجع إلى المسلمين ثانية فلن تخرج من أيديهم أبدًا بإذن الله فترة حكم المسلمين واليهود والمسيحيين لها ۳۳۱ ۳۳۱ الفيليبين ۳۱۷ قادیان

Page 742

الجزء الخامس ۵۸۲ ٦٧٢ ٦٢ ٤١٣ ٣٨٦، ٦٧٢،٤٠٦ ۱۰۲ ٤٠٩ معاملة موسى مع الكنعانيين نبأ عودة اليهود إليها ثانية کوئته كوريا لاهور مناظرة المفسر مع قسيس هناك لدهيانة ذهاب سيدنا المسيح الموعود العليا إليها مَجْدَل مدين سفر موسی العليا منها إلى مصر ۵۸ ٦٧٤ ۰۹۰ ٤١٧ ۱۱۸ ٦٧٤ ٦٧٢ ۱۱۸ ملحقات المركز الدائم للجماعة زيارة المولوي عبيد السندي لها حادث زيارة قريب لحاكم ولاية حيدر آباد لها هجرة الجماعة منها ونتائجها الطيبة قلعات شرجت الكبابير قرية أحمدية على قمة جبل الكرمل كراتشي کردستان المدينة المنورة ٢٧٦ ٤٨٥ ٣٤٣ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، ٤٣٩، ٥١٨، ٦٧٤ ، ۱۱ الكرمل (جبل) قرية أحمدية على قمة الكرمل کشمیر بنو إسرائيل في كشمير تأثر ٦٧٤ ١٤١، ٦٥٠ ،۱۳۰ ،۱۲۹ ١٢٤، ١٢٦ بني إسرائيل القاطنين هناك بالحضارة البوذية ١٢٧ ذهاب المسيح العلة إليها لجمع خرافه الضالة ١١٦ ۱۳۱ ۱۳۱ ،۱۳۰ لما وصل إلى كشمير كانت بيدي المسيح جروح.ذهاب المسيح العلة إلى كشمير عُرف المسيح فيها باسم " "النبي الأمير" أسلوب الوعاظ الكشميريين شجاعة حاكم مسلم لمنطقة "مظفر آباد الكعبة ميزة الكعبة الكعبة المشرفة ستظل محفوظة كانت في الكعبة ستون وثلاث مئة صنم کفر ناحوم ۱۳۱ ،۱۳۰ ٦٣٢ ۱۳۵ ٣٥٥ ٤٠٨ ٤٦٩ ۲۳۰ كفل (إيران) يقال إن هنا قبر النبي حزقيال كندا ستصبح حجرا في عنق الإنجليز كنعان ٦١٤ ٤ ، ٥٢٢، ٦٤٦۳۹ ،۳۹۱ هجرة إبراهيم العلية الا من العراق وإقامته فيها ٦٢٤ ،۳۲۸ ،۳۰۲ خروج بني إسرائيل من مصر إلى كنعان ٥٢٢ كان بنو قريظة يعملون فيها صوّاغين وحدادين ٥٤٢ المروة (جبل قرب مكة) ٤٧٤ مري ٦٢ مصر ،٤۹۷ ،۳۷۰۲۳۲ سفر إبراهيم العلم إليها إقامة قومه فيها عودة موسى إليها من مدين خروج بني إسرائيل من مصر هروب اليهود إلى مصر ٥ -٥٤٥، ٥٥٧، ٦٥٣۲۲ ،۱۹۸ ۳۲۸ ۳۰۲ ٤٨٥ ٥٢٠ 12 ذهاب مريم ويوسف بالمسيح العلة إلى مصر شيوع عبادة العجل بين المصريين ۲۳۱ ،۲۲۳ ٥٣٦ ٤١٩ ٦٤٣ ٤٢٥ 712 ٣٥٥ مومياوات الفراعنة في متحف مصر زيارة المأمون لمصر زيارة المفسر له الجامع هناك ستصبح حجرًا في عنق الإنجليز مظفر آباد شجاعة حاكمها المسلم في بلاط المهاراجة رنبير سنغ علامة العهد الإبراهيمي إعطاء كنعان لذريته ٣٣٠، ٣٥١ مكة المكرمة ۱۳۵ ٣٤٣، ٣٤٤ ، ٥٩٥، ٦٧٤

Page 743

ملحقات ٤١٣ اليونان ۰۹ ۳۰۲ ۵۷۷ ۵۸۲ الجزء الخامس مجيء إسماعيل العلة إليها لم تفتح قبل المسلمين على يد أحد قط إذعان أهلها لرسول الله ﷺ ملایا ستصبح حجرا في عنق الإنجليز 712 ۱۱۸ ١٥، ١٢٦، ٤١٣ ٣٨٦ الموصل ميديا ميرته الناصرة هي الوطن الأصلي للمسيح النية ٢٦١، ٢٧٧ ، ۲۳۳ ، ۲۳۰ - ۲۲۰ ،۲۱۹ ،۱۹۵ ٢٥٩ ٥٢٢ وعظ المسيح العلبة فيها النيل نينوى بعث يونس العليا إليها ٦٦٠ ،۱۲۸ ، ۱۲۲ ، ۱۲۱ ،۱۱۸ ،۱۳ ۱۲۰ ٦١٤ ٦٣٢ خبر العذاب تضرع أهلها أمام الله إثر تلقيهم نيوزيلندا حجرا في عنق الإنجليز ستصبح هملايا (جبل) الهند ٥، ٦٤٩،٥٩٥۲۷ ،۵۲۲ ،٤٠١ ، ٤١٣ ، ٥١٣ تشتيت نبوخذنصر اليهود في المناطق القريبة منها ٦٤٦ 712 114 ١١٧، ٦٦٠ ٤ ۲۱۳ ۲۱۸ ستصبح حجرا في عنق الإنجليز تعرض المسلمين فيها للاضطهاد يافا ذهاب يونس العليا منها إلى ترشيش اليمن كان تحت حكم النجاشي يهوذا فواكه هذه المنطقة

Page 744

(٤) المراجع والمصادر

Page 745

الجزء الخامس ٦٣ ملحقات القرآن الكريم كتب التفسير * * * * * * * * * مراجع عربية محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، البحر المحيط أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي، تفسير فتح البيان العلامة أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي * * العلامة فخر الدين الرازي، التفسير الكبير العلامة محمود بن عمر الزمخشري الكشاف عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، التفسير البغوي الإمام جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور الإمام جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، تفسير القرآن العظيم إملاء ما من به الرحمن الله، أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد * أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي، تفسير الخازن * * * الشيخ إسماعيل البروسوي، تفسير روح البيان العلامة السيد محمد حسين الطباطباي الميزان في تفسير القرآن * الشيخ أبو علي الفضل الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البيان

Page 746

الجزء الخامس ٦٤ ملحقات * العلامة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير * * محمد بن المرتضى المدعو بالمحسن الملقب بالفيض الكاشاني، كتاب الصافي في تفسير القرآن كتاب فروشي إسلامية تهران * * محمد الأمين بن محمد المختار، أضواء البيان، عالم الكتب بيروت سید قطب في ظلال القرآن، الطبعة السابعة ۱۹۷۱م دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت * أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي، تفسير مجاهد، مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان الحديث * الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري * * * * * الإمام مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم الإمام محمد بن عيسى الترمذي، جامع الترمذي الإمام سيلمان الأشعث، سنن أبي داود بن الإمام الحافظ محمد بن يزيد القزويني، سنن ابن ماجه الإمام أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر، سنن النسائي *الإمام أبو عبد * * * الله الله محمد بن عبد النيسابوري، المستدرك على الصحيحين الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل الخطيب محمد بن عبد الله العمري التبريزي، مشكاة المصابيح العلامة علاء الدين علي المتقي، كنز العمال * الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، سنن الدارمي

Page 747

الجزء الخامس ملحقات * الشيخ محمد طاهر الكجراتي، مجمع بحار الأنوار، مطبعة نول کشور، لكهنؤ، الهند * الإمام محمد بن علي الشوكاني، الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، دار الكتب العلمية بيروت * * الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الأوسط محمد بن عبد الرحمن المباركفوري، تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي السيرة والتاريخ و غيرهما * الإمام ابن القيم الجوزية زاد المعاد في هدي خير العباد، الطبعة الثانية، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ١٣٦٩ هـ، والمطبعــة الميمنية بمصر * العلامة علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي السيرة الحلبية، المكتبة الإسلامية بيروت ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر عام ۱۳۵۳ هـ * الإمام أبو بكر أحمد بن حسين البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة * ابن هشام، السيرة النبوية، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر ۱۳٥٥ هـ * * * ابن كثير، السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي بيروت القاضي عياض، كتاب الشفاء مكتبة نعيمية لاهور باكستان شهاب الدين أحمد بن علي المعروف ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة،

Page 748

الجزء الخامس ٦٦ ملحقات المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد علي بمصر * أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد القرطبي، الاستيعاب في معرفــــة الأصحاب، دار الكتب العلمية ،بيروت ومطبعة مصطفى محمد بمصر * ابن سعد، الطبقات الكبری، دار صادر، ودار بيروت للطباعة والنشـ بيروت ۱۳۸۰ هـ * - ١٩٦٠م العلامة أبو الحسن عز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير، في معرفة الصحابة، دار الفكر بيروت، ٦٣٠هـ * اشد الغابة العلامة أبو الحسن عز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت ١٩٦٥م * أبو عبد الله إسماعيل البخاري، كتاب التاريخ الكبير، طبع تحت مراقبـــة الدكتور محمد عبد المعيد خان * * الحافظ أبو بكر بن أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد أو مدينة السلام مكتبة الخانجي بالقاهرة، والمكتبة العربية ببغداد، ومطبعة السعادة محافظة مصر عام ١٣٤٩ هـ * الشيخ محمد خضري بك، تاريخ الأمم الإسلامية، الطبعة الثالثة، مطبعة مصطفى محمد شارع محمد علي بمصر بجوار * * أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع * الإمام أبو الحسن البلاذري، فتوح البلدان المطبعة المصرية بالأزهر عــــام ١٣٥٠ هـ، ومطبعة الموسوعات بمصر عام ١٣١٩ هـ

Page 749

الجزء الخامس ٦٧ ملحقات * العلامة محمد بن عبد الباقي الزرقاني، شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية، دار المعرفة بيروت لبنان عام ۱۹۹۳م، والطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية المصرية ١٣٢٧ هـ * أبو الفداء الحافظ إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية، الطبعة الأولى عـــام ١٩٦٦م، مكتبة المعارف بيروت، ومكتبة النصر بالرياض * العلامة عبد الرحمن بن خلدون كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر * أسامة بن منقذ، كتاب الاعتبار، طبع في مدينة ليدن عام ١٨٨٢ إسرائيل ولفنسون تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهليــة وصــدر الإسلام، مطبعة الاعتماد بشارع حسن الأكبر بمصر ١٣٤٥هـ عبد الوهاب النجار ، قصص الأنبياء، الطبعة الثالثة دار إحياء التراث العربي * * بيروت * * محمد بن يحيى، كتاب قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر الدين بن عربي، الفتوحات المكية الهيئة المصرية العامة للكتاب عام محيي ١٩٨٥م * الشيخ عبد الغني النابلسي، تعطير الأنام في تعبير المنام، المكتبة الثقافيــة بيروت * * الكتاب المقدس ، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، طبعة العيد المئوي ۱۸۸۳ – ۱۹۸۳ الكتاب المقدس، ترجمة تفسيرية، تم جمعه في جي سي سنتر مصر الجديدة القاهرة، الطبعة الرابعة عام ۱۹۹۲م

Page 750

الجزء الخامس л ملحقات * تفسير العهد الجديد من تفسير وتأملات الآباء الأولين، القمص تادرس يعقوب ملطي كنيسة الشهيد مار جرجس بإسبورتنج http://www.alkalema.us/newtestament/john19.htm اللغة والأدب * الإمام راغب الأصفهاني ، المفردات في غريب القرآن العلامة ابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري، لسان العرب * * * محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس سعيد الخوري الشرتوني اللبناني، أقرب الموارد * المنجد في اللغة والأعلام * أبو منصور عبد المالك الثعالبي، كتاب فقه اللغة وسرّ العربية، المطبعــة العمومية بمصر * 6 العلامة أبو البقاء الحسيني الكوفي الحنفي كليات أبي البقاء، دار الطباعـــــة العامرة ببولاق مصر * أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، الطبعة الأولى بالمطبعة الوهبية عام ١٣٩٩ هـ كتب عربية لسيدنا أحمد عليه السلام طبعة الخزائن الروحانية The Gresham Press, Old Woking, Surrey) * مواهب الرحمن * نور الحق

Page 751

الجزء الخامس 79 مراجع إنجليزية ملحقات ABBOTT, J.S.C.Life of Napoleon Bonaparte.AHMAD, A.K.N.Jesus in Heaven on Earth.The Mosque, Woking, England: The Woking Muslim Mission & Literary Trust.Brandreth Rd, Lahore, Pakistan: Azeez Manzil.BLACK, M., ed.Peak's Commentary on the Bible.Great Britain: Thomas Nelson and Sons Ltd.BUDGE, E.A.W.The Egyptian Religion of Resurrection Osiris.New Hide Park, New York: University Books.CLARK, T., AND T., EDINBURGH, AND HASTINGS, J., eds.1974.Encyclopedia of Religion and Ethics.38 George Street, New York: The Macmillan Company.DAVIS, J.D., revised and rewritten by Gehman, H.S.The Westminster Dictionary of the Bible.London and New York: Collins' Clear-Type Press.DENT, J.M., AND RHYS, E., ed., 1906.Everyman's Library, Theology and Philosophy.GOODSPEED, E.J.The Apocrypha, An American Translation.Modern Library Paperbacks.HAWKS, ELLISON, F.R.A.S.The Marvels and Mysteries of Science.The Home Library Club.HOYLE, F.The Nature of the Universe.3rd ed.Harmondsworth, Middlesex, Great Britain: Penguin Books Ltd.Printed by: Hazell Wastom and Viney Ltd.KAISER, A.F.Jesus Died In Kashmir, Jesus Moses And Ten Lost Tribes of Israel.1976 ed.Garden & Cremonesic.

Page 752

ملحقات V.الجزء الخامس LAPWORTH, C., L.L.D.An Intermediate Text book of Geology.Edinburgh and London: William Blackwood and Sons.MASPERO, G., and Sayce, A.H., ed., and translated by: McClure M.I.History of Egypt, Chaldea, Syria, Babylonia, and Assyria.London: The Grolier Society Publishers.MCKENZIE, J.L.Dictionary of the Bible.London and Dublin: Cassell and Collier Macmillan Publishers Ltd.New Age Encyclopedia.International.New Standard Dictionary of the English Language.Calcutta- Rangoon- London: The Standard Literature Company Limited.NEW WORLD BIBLE TRANSLATION COMMITTEE, 1962 C.E.The Kingdom Interlinear Translation of the Greek Scriptures.PEAK, A.S., AND M.A., AND D.D., eds.1920.A Commentary on the Bible.35 Paternoster Row, E.C.and Edinburgh, London T.C.& E.C.Jack Ltd.POLANO, H.The Talmud.Bedford Street, Strand: Warne and Co.PROFESSOR MANTEGAZZAM, P.Anthropological Studies of Sexual Relations of Mankind.New York: Falstaff Press.REV.CHENYNE, T.K., AND ADAMS, LITT.D.D., AND BLACK, C.Encyclopedia Biblica.London.REV.DUMMELAW, J.R., M.A., ed., 1944.A Commentary on the Holy Bible.St.Martin's Street, London: Macmillan and Co.Ltd.REV.RODWELL, J.M., Sept.1953.The Koran.New York: J.M.Dent & sons Ltd, and E.D.Dutton & Co.SALE,G.The Koran.London & Woking, Great Britain: Unwin Brothers Limited.SHARPE, S.The History of Egypt.Dover Street: London Edward Moxon.

Page 753

ملحقات ۷۱ الجزء الخامس SIR MUIR, W., L.L.D, 1878.Life of Mahomet.15 Waterloo Place, London: Smith, Elder & Co.SMITH, N.H.The United Bible.SOCIETY FOR PROMOTING CHRISTIAN KNOWLEDGE, London.1893.The Old Testament According To The Authorized Version With A Brief Commentary By Various Authors.New York: E.& J.B.Young & Co.The Encyclopedia Britannica, 11th ed.1911, 15th ed., 1950 ed., 1951 ed., 1972-1974 editions.USA: Cambridge University Press.The First and Second Prayer Books of Edward VI.1949.London ed.The Temple Press Letchworth.Aldine House Bedford St.: J.M.& Son Ltd.The Holy Bible.1885 ed.Oxford University Press.The Jewish Encyclopedia.1st ed.New York and London: Funk and Wagnalls Company.Printed in USA.The Universe Surveyed.1938.U.S.A: Harolds Richards E.C.WHERRY, E.M., AND TRENCH, P.K., 1896.A Comprehensive Commentary on the Quran (Comprising Sale's translation and preliminary discourse by EM.Wherry) Paternoster House, Charing Cross Road: Trubner & Co Ltd.WORLD BOOK INC.The Plant World.Chicago.WORLD BOOK INC.The World Book Encyclopedia of Science.Chicago.

Page 754

الجزء الخامس ۷۲ ملحقات مراجع أردية وفارسية کتب حضرت مرزا غلام احمد قادیانی علیہ السلام، (طبعه روحانی خزائن) پبلشر نظارت اشاعت ربوہ، ضیاء الاسلام پریس ربوہ پاکستان سرمه چشم آرید.اسلامی اصول کی فلاسفی.آئینہ کمالات اسلام ایام الصلح.تحفہ گولڑویہ.حقیقۃ الوحی.قادیان کے آریہ اور ہم.جنگ مقدس دیگر کتب.حضرت حکیم مولوی نورالدین ، حقائق الفرقان، نظارت اشاعت ربوہ پاکستان.حضرت مرزا بشیر الدین محمود احمد ، دعوۃ الامیر، الشركة الاسلامیہ لمیٹڈر بوہ.دوست محمد شاہد، تاریخ احمدیت، ادارة المصنفین ربوہ پاکستان اخبار الحکم قادیان ۱۰دسمبر ۱۹۰۱ء، ۱۰مئی ۱۹۰۲ء

Page 755

الجزء الخامس ۷۳ ملحقات.اخبار بدر قادیان ۲۴ جولائی ۱۹۰۳ء اخبار الفضل ۲۱ جون ۱۹۳۸، ۲۷ نومبر ۱۹۵۶ مولوی محمد علی، بیان القرآن، احمدیہ انجمن اشاعت اسلام لاہور، مطبع کریمی لاہور پاکستان طبع ۱۳۴۱ھ وطبع ۱۴۰۱ھ شاہ رفیع الدین دہلوی ، ترجمه قرآن مجید، ناشر شیخ محمد اشرف تاجر کتب کشمیری بازار لاہور پاکستان سرسید احمد خان، تفسیر القرآن مع تحریر فی اصول التفسیر، دوست ایسوسی ایٹس پرنٹرز.پبلشرز سپلائرز ، الکریم مارکیٹ اردو بازار لاہور پاکستان تفسیر مظہری اردو، قاضی ثناء اللہ عثمانی ابوالکلام احمد آزاد، ترجمان القرآن، شیخ غلام علی اینڈ سنز پبلشرز لاہور.حیدرآباد.کراچی پاکستان.حضرت مجددالف ثانی، مکتوبات امام ربانی، مطبع منشی نول کشور واقع کا پورا نڈیا مولانا جلال الدین رومی مثنوی مولوی معنوی، ترجمه قاضی سجاد حسین، الفیصل ناشران و تاجران کتب غزنی سٹریٹ اردو بازار لاہور پاکستان.خواجہ شمس الدین شیرازی، دیوان حافظ (مترجم)، مطبع محمدی کا نپور انڈیا آقای علی اکبر، انتخاب ضرب الامثال و حکم، ترجمه محمد عبد اللطیف، جان بک ڈپو (رجسٹرڈ) اردو بازار لاہور پاکستان محمد عبداللہ عمار محمدیہ پاکٹ بک، مکتبہ سلفیہ شیش محل روڈ لاہور پاکستان لوح ابن ذئب، بتصویب محفل مقدس رسالہ تہذیب الاخلاق لاہور مجلد ۳

Page 756

الجزء الخامس ٧٤ ملحقات - روز نامہ زمیندار لاہور قادیان نمبر ، جلد ۲، شمارہ نمبر ۳۸، ۴ مارچ ۱۹۳۳ء کتاب مقدس یعنی پرانا اور نیا عہد نامہ، برٹش اینڈ فارن بائیبل سوسائٹی انار کی لاہور پاکستان ایڈیشن ۱۹۴۳ء ،ایڈیشن۱۹۹۴ء.عہد عتیق کا تھولک ٹرتھ سوسائٹی لاہور، مسیحی پریس لاہور پاکستان ۱۹۲۴ء انجیل مقدس یعنی یسوع مسیح کا نیا عہد نامہ، نارتھ انڈیا بائیل سوسائٹی، آرفن اسکول پریس ایڈیشن ۱۸۷۰ء.انجیل مقدس یعنی یسوع مسیح کا نیا عہد نامہ، برٹش اینڈ فارن بائیبل سوسائٹی انارکلی لاہور پاکستان طبع ۱۹۰۶ء.ایف ایس خیر اللہ ، قاموس الکتاب مسیحی اشاعت خانہ ۶۳ فیروز پور روڈ لاہور پاکستان بائیل کی تفسیر، مسیحی اشاعت خانه ۶۳ فیروز پور روڈ لاہور پادری بے علی بخش، تفسیر مرقس، پنجاب ریلیجس بک سوسائٹی انار کلی لاہور طبع اول ۱۹۲۸ء.رابرٹ ایچ کلیپر ، تفسیر الکفارہ، ترجمہ وکلف اے سنگھ، مسیحی اشاعت خانہ ۶۳ فیروز پور روڈ لاہور پاکستان پادری ولیم جی بلیکی صاحب ڈی ڈی، تاریخ بائیل ، پنجاب ریـلـیـجـــس بک سوسائٹی انار کلی لاہور طبع ثالث ۱۹۵۵ء پادری یوحنا خاں، جغرافیہ بائیل، پنجاب ریلیجس بک سوسائٹی انار کلی لاہور طبع ثانی ۱۹۵۳ء کرسچن نالج سوسائٹی، مسیحی مذہب کے ابتدائی حالات، پنجاب ریلیجس بک سوسائٹی انار کلی لا ہو ر طبع اول ۱۸۹۵ء

Page 757

الجزء الخامس Vo ملحقات پادری کین ڈبلیو پی ہیرس بی اے، تواریخ مسیحی کلیسا، کرسچن نالج سوسائٹی انار کلی لاہور دوسرا ایڈیشن ۱۹۳۹ء پادری ولیم سینٹ کلیر ٹنڈل، ینابیع الاسلام، مترجم اکبر مسیح Source of Islam پنجاب، رلیجس سوسائیٹی انارکلی لاہور فارسی ایڈیشن ۱۹۰۲ء.بشپ سٹیفن نیل، مسیحی تصور خدا، ترجمہ دوست جالندھری، پنجاب ریـــلـيــجــــس بک سوسائیٹی انار کلی لاہور ۱۹۵۶ء.مولانا محمد تقی عثمانی، عیسائیت کیا ہے؟، دار الاشاعت مقابل مولوی مسافر خانہ کراچی نمبرا پاکستان سومی دیانند سرسوتی، ستیارتھ پرکاش، (اردو ترجمہ) طبع ۱۸۹۹ء سوامی دیانند سرسوتی ، ستیارتھ پرکاش، اردو ترجمہ جس کو حسب تجویز شریمتی آریہ پرتی ندھی سبھا، پنجاب پنڈت ریمل داس جی نے زیر نگرانی شریمان رائے پیر ارام دھون جی اکسٹرا اسسٹنٹ کمشنر نے مرتب کیا اور لالہ تو لا رام سب ایڈیٹر آر یہ پتر کا لاہور کی نگرانی میں طبع ہوا، ۱۸۵۹ء شیخ محمد یوسف، ہندو دھرم کی حقیقت، خواجہ پریس بٹالہ انڈیا.جنم ساکھی گورونانک جی، مطبوعہ کریمی پریس لاہور پاکستان طبع ثانی واراں بھائی گورداس جی، مترجم پنڈت ترین سنگھ جی گیانی، بھائی جواہر سنگھ کر پال سنگھ اینڈ کمپنی امرتسر طبع جولائی ۱۹۸۹ء.روحانی ملی بہائیاں ہندو برما، بہائی پبلشنگ کمیٹی پوسٹ بکس ۹ انئی دہلی مطبع دلی پرنٹنگ ورکس دھلی

Page 758

(o) صورة بعض المصارد النادرة

Page 759

ملحقات ΥΛ THE HOLY BIBLE CONTAINING THE الجزء الخامس OLD AND NEW TESTAMENTS TRANSLATED OUT OF THE ORIGINAL TONGUES: AND WITH THE FORMER TRANSLATIONS DILIGENTLY COMPARED AND REVISED BY HIS MAJESTY'S SPECIAL COMMAND APPOINTED TO BE READ IN CHURCHES OXFORD PRINTED AT THE UNIVERSITY PRESS LONDON: HUMPHREY MILFORD OXFORD UNIVERSITY PRESS, AMEN HOUSE, EC.4 NEW YORK AND TOBONTO Emerald 16mo Refa Cum Privileg:0

Page 760

ملحقات V9 الجزء الخامس The song of Moses.a DEUTERONOMY, 33.Rock, 'even our enemies themselves being judges..32 For their vine 2 is of the vine of Sodom, and of the fields of Gomorrah: their grapes are grapes of gall, their clusters are bitter: 33 Their wine is the poison of dra- gons, and the cruel venom of asps.34 is not this laid up in store with me, and sealed up among my trea- gures? 35 To me belongeth vengeance, and recompence; their foot shall slide in due time: for 'the day of their cala- mity is at hand, and the things that shall come upon them make haste.36 For the LORD shall judge his people, and repent himself for his servants, when he seeth that their power is gone, and there is none shut up, or left.3 37 And he shall say, "Where are their gods, their rock in whom they trusted, 38 Which did eat the fat of their sacrifices, and drank the wine of their drink offerings? let them rise up and help you, and be 5 your protection.39 See now that I, even I, am he, and 'there is no god with me: "I kill, and I make alive; I wound, and I heal: neither is there any that can deliver out of my hand.40 For I lift up my hand to heaven, and say, I live for ever.41 If I whet my glittering sword, and mine hand take hold on judgment; I will render vengeance to mine ene- mies, and will reward them that hate me.B.C.1451.1 Sam.4.8.Jer.40.3.Is.1.10.or, is worse than the vine of So- dom, &c.13.um 27.12 & Num $3.47, 48.ch.34.1.Ps.68.4 P.140.3.Rom.3.13.Job 14.17.Jer.2.22 Hos.13.12 Pa 941.Rom.26.Rom.12.19.Heb.10.30.Num.20.25, (2 Pet.2.3.23.& 33.38.Ps.135 14 Jud.2.18.Ps.106.45.Jer.31.20.Joel 2.14 "Num.20.11-13.& 27.14.3 Heb.hand.kin.14.10.2 Kin.9.8.& 14.26.4 or, Strife at Redesh PJer.2.28.See Num.27.12 Lev.5 Heb.an hiding for you.22 4 45.5, 18, 7."2 Kin.5.Gen 49.28.Hab.3.& VP.90, title."Ezek 1.9, 10, 14, 20, & Dan.7.10.Acta 7.53 Gal 3.19.Rev.& 11.The majesty of God this thing ye shall prolong your dan in the land, whither se go over Jor dan to possess it.48 And the LORD spake unto Moses that selfsame day, saying, 49 Get thee up into this mountain Abarim, unto mount Nebo, whic is in the land of Moab, that over against Jericho; and behold the land of Canaan, which I give unto the children of Israel for a pa session: 50 And die in the mount whither thou goest up, and be gathered unto thy people; as * Aaron thy brother died in mount Hor, and was gathered unto his people: 51 Because ye trespassed again me among the children of Israel the waters of Meribah-Kadesh, i the wilderness of Zin; because "sanctified me not in the midst of th children of Israel.52 Yet thou shalt see the land befor thee; but thou shalt not go thitha unto the land which I give the chi dren of Israel.CHAPTER 33.1 The majesty of God.6 The blessings of the ti tribes.26 The excellency of Israel.AND this is the blessing, wherewit Moses the man of God blessed the children of Israel before his death 2 And he said, The LORD came from, Sinai, and rose up from Seir und them; he shined forth from mou Paran, and he came with ten tho sands of saints: from his right hand went a fiery law for them 3 Yea, he loved the people; all h saints are in thy hand: and they' down at thy feet; every one shall’■ Heb.a receive of thy words.42 I will make mine arrows 'drunk with blood, and my sword shall de- vour flesh; and that with the blood of the slain and of the captives, from 19.5.the beginning of * revenges upon the enemy.437 Rejoice, Oye nations, with his people: for he will avenge the blood of his servants, and will render ven- geance to his adversaries, and will be merciful unto his land, and to his people.44 T And Moses came and spake all the words of this song in the ears of the people, he, and 8 Hoshea the son of Nun.of law.⚫Jer.46.10.Acts 22.8.4*Moses commanded us a law, 'eva Hos.11.L the inheritance of the congregationd d1 Sam.29.Jacob.Lake 10.39.5 And he was king in "Jeshura Prov.when the heads of the people and the John 1.17.tribes of Israel were gathered together Job 13.24.6 Let Reuben live, and not die; or, Praise and let not his men be few.his people, ye nations: P 119.111.or, Sing ge Gen.36.31."ch.32.15.Judg.9.2 Rev.12 PP.85.1.• or, Joshua.146 Gen.Ex.28.30.45 And Moses made an end of speak- ing all these words to all Israel: 46 And he said unto them, 'Set your hearts unto all the words which I tes-P tify among you this day, which ye shall command your children to ob- serve to do, all the words of this law.47 For it is not a vain thing for you; "because it is your life: and through 71And this is the blessing of Judak: and he said, Hear, LORD, the voiced Judah, and bring him unto his p ple: let his hands be sufficient fa him; and be thou an help to him from his enemies.8 And of Levi he said, 'Let the Thummim and the Urim be with the holy one, "whom thou didst proves ch Massah, and with whom thou dids Ezek 40.strive at the waters of Meribah; Ex.17.7.Gen.229 Who said unto his father and t Lev.18.& his mother, I have not seen him; 32 25 neither did he acknowledge Rom.10.5.208

Page 761

ملحقات 人。 THE SCOFIELD REFERENCE BIBLE الجزء الخامس THE HOLY BIBLE CONTAINING THE OLD AND NEW TESTAMENTS AUTHORIZED VERSION WITH A NEW SYSTEM OF CONNECTED TOPICAL REFERENCES TO ALL THE GREATER THEMES OF SCRIPTURE, WITH ANNOTATIONS, REVISED MARGINAL RENDERINGS, SUMMARIES, DEFINITIONS, CHRONOLOGY, AND INDEX TO WHICH ARE ADDED HELPS AT HARD PLACES, EXPLANATIONS OF SEEMING DISCREPANCIES, AND A NEW SYSTEM OF PARAGRAPHS EDITED BY REV.C.I.SCOFIELD, D.D.CONSULTING EDITORS: REV.HENRY G.WESTON, D.D., LL.D., President Crozer Theological Seminary REV.JAMES M.GRAY, D.D., President Moody Bible Institute REV.WILLIAM J.ERDMAN, D.D., Author The Gospel of John ", etc., etc.REV.ARTHUR T.PIERSON, D.D., Author, Editor, Teacher WITH REV.W.G.MOOREHEAD, D.D., President Xents (li.P.) Theological Seminary REV.ELMORE HARRIS, D.D., President Torante Bible Institute ARNO C.GAEBELEIN, Author "Harmony of Prophetic Want", etc., etc.REV.WILLIAM L.PETTINGILL, D.D., Author, Editor, Teacher THE OXFORD CYCLOPEDIC CONCORDANCE AND HOW TO STUDY THE BIBLE, BY DR.R.A.TORREY HUMPHREY MILFORD OXFORD UNIVERSITY PRESS AND SOLD BY BOOKS OF DIGNITY AND SERVICE, LTD.30-32 LUDGATE HILL, LONDON, E.C.4 Brevier 8vo Refs.Scofield Facsimile Series No.2

Page 762

ملحقات ۸۱ الجزء الخامس 32 46] DEUTERONOMY.46 And he said unto them, "Set B.C.1451.your hearts unto all the words which I testify among you this day, which ye shall command your chil dren to observe to do, all the words of this law.47 For it is not a vain thing for you; because it is your life: and through this thing ye shall prolong your days in the land, whither ye go over Jordan to possess it.48 And the LORD spake unto Moses that selfsame day, saying, 49 Get thee up into this mountain Abarim, unto mount Nebo, which is in the land of Moab, that is over against Jericho; and behold the land of Canaan, which I give unto the children of Israel for a posses- sion: 50 And die in the mount whither thou goest up, and be gathered unto thy people; as Aaron thy brother died in mount Hor, and was gath- ered unto his people: 51 Because ye trespassed against a Ezk.40.4.me among the children of Israel at b Gen.49.28.the waters of Meribah-Kadesh, in the wilderness of Zin; because ye cLk.10.39; sanctified me not in the midst of the Acts 22.3.children of Israel.52 Yet thou shalt see the land before thee; but thou shalt not go thither unto the land which I give the children of Israel.CHAPTER 33.The blessing of the tribes.AND is the ND this is the blessing, where- God blessed the children of Israel before his death.2 And he said, The LORD came from Sinai, and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran, and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.3 Yea, he loved the people; all his saints are in thy hand: and they sat down at thy feet; every one shall receive of thy words.4 Moses commanded us a law, even the inheritance of the congre- gation of Jacob.5 And he was king in Jeshurun, when the heads of the people and the tribes of Israel were gathered together.6 Let Reuben live, and not die; and let not his men be few.7 And this is the blessing of Ju- dah: and he said, Hear, LORD, the voice of Judah, and bring him unto d John 1.17; 7.19.e Kingdom (O.T.).vs.4,5; Josh.1.1-5.(Gen.1.26; Zech.12.8.) fSee Ex.28.189.2.3.30, note.254 [33 19 his people: let his hands be suffi cient for him; and be thou an help to him from his enemies..8 And of Levi he said, Let thy Thummim and thy Urim be with thy holy one, whom thou didst prove at Massah, and with whom thou didst strive at the waters of Meribah; 9 Who said unto his father and to his mother, I have not seen him; neither did he acknowledge his brethren, nor knew his own chil- dren: for they have observed thy word, and kept thy covenant.10 They shall teach Jacob thy judgments, and Israel thy law: they shall put incense before thee, and whole burnt-sacrifice upon thine altar.11 Bless, LORD, his substance, and accept the work of his hands: smite through the loins of them that rise against him, and of them that hate him, that they rise not again.12 And of Benjamin he said, The beloved of the LORD shall dwell in safety by him; and the LORD shall cover him all the day long, and he shall dwell between his shoulders.13 And of Joseph he said, Blessed of the LORD be his land, for the precious things of heaven, for the dew, and for the deep that coucheth beneath, 14 And for the precious fruits brought forth by the sun, and for the precious things put forth by the moon, 15 And for the chief things of the ancient mountains, and for the precious things of the lasting hills, 16 And for the precious things of the earth and fulness thereof, and for the good will of him that dwelt in the bush: let the blessing come upon the head of Joseph, and upon the top of the head of him that was separated from his brethren.17 His glory is like the firstling of his bullock, and his horns are like the horns of unicorns: with them he shall push the people together to the ends of the earth: and they are the ten thousands of Ephraim, and they are the thousands of Manasseh.18 And of Zebulun he said, Re- joice, Zebulun, in thy going out; and, Issachar, in thy tents.19 They shall call the people unto the mountain; there they shall offer sacrifices of righteousness: for they shall suck of the abundance of the seas, and of treasures hid in the sand.

Page 763

الجزء الخامس 12/ ۸۲ انجيل مقدس يعني ہمارے خداوند اور نجات دینیوالے يسوع مسیح کا نیا عہد نامه اس کا ترجمه یونانی زبان ؟ زبان اردو میں بنارس ترنسلين كميتي کیا گیا.چوتهي مرزا پور میں دارته إنديا بيبل سوسيتي کي طرف سے آرفن اسکول پریس کے وسیلے ڈاکٹر میتھر صاحب کے اہتمام سے سند ۱۸۷۰ نيسوي مدن چهايي كلي.ED.1870 1870 ملحقات

Page 764

الجزء الخامس ۸۳ ملحقات چھوٹے لڑکوں کا مسیح پاس لانا.سنه ٣٣٠ است ۲۴ : ۱ مي ::: أس متي 19 مسیح کی پیروی کرنے کا انجام.سنه عيسوي заходах خر ۲۰ : ۱۳ است.:.دو نہیں، بلکہ ایک تن ہیں.پس جسے داخل ہوا چاہے، تو حکموں پر : عمل کرد عيسوي خدا نے جوڑا، اُسے انسان نه تورے ، انھوں ۱۸ اُس نے اُسے کہا، کون سے حكم ؟ سے کہا، پھر موسیٰ نے کیوں حکم یسوع نے اُسے کہا، یه که تو خون نه کرد دیا که طلاق نامہ اُسے دیکے اُسے چھور دی ؟؟ زنانه کره چوري نه كر جهوتهي گواهي اُس نے اُن سے کہا، موسیٰ نے تمهاري نه دے و اپنے باپ اور اپني ماکي سخت دلی کے سبب تم کو اپني جوروؤں عزت کرو اور اپنے پروسي کو ایسا پیار کر ٠ متي ٣:١٠ کو چھوڑ دینے کی اجازت دي پر شروع جیسا آپ کو ".۲۰ اُس جوان نے اُس سے ایسا نہ تھا.و اور میں تم سے کہتا سے کہا، یہ سب میں لركين هي که ھوں جو کوئي اپني جورو کو سوا زنا مانتا آیا اب مجھے کیا.باقي هی ؟ کے، اور سبب سے چھوڑ دے، اور دوسري یسوع نے کہا، اگر تو کامل هوا چاهی تو سے بیاہ کرے، زنا کرتا ھی اور جو کوئی جا کے سب کچھ جو تیرا هی، بیچ دال اوقا.اس چهوري هوئي عورت کو بیاہے، اور محتاجوں کو دے، کہ تجھے آسمان پر خزانه ملیکا تب آکے میرے پیچھے 'منی مرة ١١:١٠ اخرة : زنا کرتا هی.1:12 اقرا : سے 1." اُس نے اُن ۲۳ كه سے متي ٢٢ : ٣٠ روه ۱۳ : ۱ گل : ۱۳ بعة : اُس کے شاگردوں نے اُس سے کہا، ھو لے.وه جوان یہ سنکر غمگین اور اگر مرد کا حال چورو کے ساتھ یہ ھی تو چلا گیا : کیونکه برا مالدار تھا.جورو کرنا اچھا نہیں.تب يسوع نے اپنے شاگردوں سے کہا، کہا کہ سب اس بات کو قبول نہیں میں تم سے سچ کہتا ھوں؟ دولتمند کا کرتے ہیں، مگر وے جنہیں دیا گیا..آسمان کي بادشاهت میں داخل هونا ۱ کیونکہ بعضے خوجہ میں جو ما کے مشکل هی ۲۴ بلکہ میں : تم سے کہتا بيت هي سے ایسے پیدا ھوئے اور بعضے ھوں کہ اونٹ کا سوئي کے ناکے سے گذر خوجہ ہیں، جنہیں لوگوں نے خوجہ بنایا جانا، اُس سے آسان ھی کہ ایک اور بعضے خوجہ ہیں، جنہوں نے آسمان دولتمند خدا کي بادشاهت میں کی بادشاہت کے لیئے آپ کو خوجه هو.جب اُس کے شاگردوں نے یہ افرا ٧: ٣٢ بنایا جو اُس کو قبول کر سکتا سنا تو نهایت حیران ھو کے بولے، پھر کون نجات پا سکتا هی ؟ ٣٠ يسوع نے اُن پر نظر ۳۴ اورا : سو کرے: " مرا ۱۰ : ۱۳ هي ۲۵ داخل هي ۱۳ تب لوگ چھوٹے لڑکوں کو اُس کر کے اُنھیں کہا ، یہ انسان سے نہیں ھو سکتا.لوقا ۱۸ : ۱۰ پاس لائے کہ وہ اُن پر ھاتھ رکھے، اور پر - خدا ب کچھ ھو سکتا هو دعا کرے : پر شاگردوں نے انھیں دانتا.تب پطرس نے جواب میں اسے نے ان سے کہا کہ لڑکوں کو چھوڑ کہا دیکھ ھم کچھ چھوڑا ۱۴ پسوم را 912 میرے پاس آنے سے.دو، اور انھیں.منع ته اور تیرے پیچھے ھو لیئے : کرو کیونکه آسمان کي بادشاهت ایسوں کیا ملیگا ؟ ۲۸ یسوع نے اُنھیں کہا ، میں ؟ هي كي هي 10 اور اُس نے اپنے ھاتھ سے سچ کہتا ھوں، کہ تم جو میرے اُن پر رکھے، اور وھاں سے روانہ ہوا جب نئي خلقت میں اور دیکھو، ایک نے آکے اُس سے آدم اپنے جلال کے تخت پر بیٹھیگا، تم کھنا، ای نیک اُستاد، میں کون سانیک لونا ٢٠١٠ کرون: که همیشه کي زندگي پاؤں ؟ کي باره گروھوں کی عدالت کرو گے.لوقا.لوقا : سے تو کیوں ؟ ؟ نیک یک تو کوئی نہیں.خدا بهي ۲۹ بارہ تختوں پر بیٹھو گے اور اسرایل متی ٠٠٠٠ نے گھر، يا بهائي، يا بهن.ایک یا ما ،باپ یا جورو، یا بال بچون یا پر اگر تو زندگی میں زمین کو میرے میرے نام پر چھوڑا، سو گنا

Page 765

الجزء الخامس ٨٤ کتاب مقدس یعنی پیرانا اور نیا تعهد نامه MILAFAT LIBRARY 54206 SOYS 16-6-97 ١ غار ٩٧ بائیل سوسائٹی انار کلی.لاہور ملحقات Edition 1894

Page 766

ہیں ج جو قبو ہاتھ.نے کو ه آسمار 14 ولیں میں کو نکھوں کا نے کہا یہ کہ اپنے باپ کا ملحقات اسب پر • یسوع نے اُس و و اسباب بیچ کر غریبوں ے تجھے ہوئے " ر مالدار تھا عمر میں تم سے سچ کہتا.یل مونا مشکل ہے؟ کے میں سے نکل جانا ہو ی میں داخیل ہو ے ہے کہ پھر گون نجاسته ۲۵ ہوں سے تو ۲۶ ے اس پر مفترس و جوڑ کر تیرے مجھے ر ان سے کہا نہیں تم ۲۸ تو بیاہ کرنا ہی اچھا ت کو قبول نہیں کر سکتے تخت میں اپنے جلال کے دارہ تختوں پر نیکی کر ب کام بن بیکار پہلے کہ کسی نے ہمکو ان سے کہا تم بھی پاکستان میں چلے ر تابستان کے ایک نے اپنے کا بندہ ہے $ A وں کو بھی اور کھیلوں سے لیکر پہلوں تک انکی مزدوری ی ہے کہ جب وہ آئے جو گھنٹہ بھر نون رہے لگائے گئے تھے تو ؟

Page 767

الجزء الخامس 12/ ٨٦ انجيل مقدس يعني ہمارے خداوند اور نجات دینیوالے يسوع مسیح کا نیا عہد نامه اس کا ترجمه یونانی زبان ؟ زبان اردو میں بنارس ترنسلين كميتي کیا گیا.چوتهي مرزا پور میں دارته إنديا بيبل سوسيتي کي طرف سے آرفن اسکول پریس کے وسیلے ڈاکٹر میتھر صاحب کے اہتمام سے سند ۱۸۷۰ نيسوي مدن چهايي كلي.ED.1870 ملحقات 1870

Page 768

الجزء الخامس ۸۷ ملحقات موسی کا بارہ فرقوں کے آیندے پیشتر دیے 11001 است ١١:٣٠ ام ۰:۱۸ اور ۴: ۲۲ استثنا ٣٣ " مسیر سے 1101 زاور ١١١ : "" دیکھو بید حال کو تبریک سے ظاہر کرنا.نفع نه هو بلکه یه تمهاري زندگانی هی میراث هو.اور جس وقت قوم کے پیشتر اور اسی چیز کے باعث سے اُس سرزمین سردار اور بنی إسرا ایل کے فرقے جمع تھے میں جہاں تم یردن پار اُترتے ھو کہ اُس وہ پیسورن میں بادشاہ تھا.کے وارث هو جاؤ، تمهاري عمر دراز هوگي ای کاش که روبن جیون اور نه ۴۸ اور خداوند نے اُسی دن موسیٰ کو مرے اور اُس کے لوگ تھوڑے نہ ھوں.فرمایا ، اور کہا، که ۴۹ عباریم کے کوهستان اور یہوداہ کے لیئے اُس نے کہا، ای نبو کے پہارپر جو موآب کی سرزمین میں خداوند یہوداہ کی آواز سن، اور اُسے اُس يريحو کے مقابل هي چڑھ جا، اور کنعان کے لوگوں کے درمیان پھر لا : اُس کے ھاتھ اور ۱ : ۲ کی سرزمین کو کہ جسے میں اسراايل کي اُس کے لیے کافي هوویں"، اور تو اُس کے " بعد ۰:۲۱ ملک کر دونگا، دیکھ : ٥٠ اور اُس پہاز پر دشمنوں کے مقابل اُس کا مددگار هو " زاور ۰:۱۳۱ جس پر تو جاتا هي، مرجا، اور اپنے لوگوں اور لاوی کے حق میں اُس نے کہا، شامل هو.جیسے تیرا بھائي هارون که تیرا تمیم اور تيرا أوريم اُس مقدس ۲۰:۲۰ حور کے پہاز پر مر گیا ، اور اپنے لوگوں میں امانت میں رہے ، جسے تو نے مر ۲۰:۱۰ اور ۳۳ : ۲۰ جا مال وہ اس لیئے کہ تم دونوں نے مسة.میں امتحان کیا ، اور جس کے ساتھ ۱۳:۲۰ روه ۰:۱۰ " evires PA است ۱:۳۴ PA میں 01 ለ آدمي كي خر ٢:١٠ است: " بني اسرا ایل کے درمیان دشت سین کے تو نے مریبہ کے چشمون پر جهگرا کیا ۱۰:۲۰:۳۰ قادس میں مریبه کے پانی کے نزدیک میرا ' جس نے اپنے باپ اور اپنی ما سے کہا، زاور ۸۱ : گناہ کیا، اور اسلیئے کہ تم نے بنی اسرا ایل کہ میں نے اُس پر نگاہ نہیں کي : اُس دیکھرام کے درمیان میری تقدیس نه کي ٥٣ پر نے اپنے بھائیوں کو بھي نہ مانا، اور اپنے اور ۲۷ : ۱۳ PH خر ٣٢: ٢٦ این سرزمین کو جو تیرے سامهنے بیٹوں کو بھی اُس نے نہ پہچانا : اس لیئے - است ۴:۳۴ ھی دیکھ لے لیکن اُس سرزمین میں کہ اُنھوں نے تیری باتوں پر دھیان رکھا، اور دیکھو ملا جو میں بنی اسراایل کو عنایت کرتا تیرے عہد کی محافظت کي.۱۰ وے تیری | زاور ۱۰ کا ھوں داخل نه هوگا.پیدا ۴ : ۲۸ سرنامه.، خرا: ۱۸ " ۳۳ باب عدالت کے فیصلے یعقوب کو سکھلاویں 11:15 اور تیری شریعت اسرائیل کو : وے تیرے...ا خدا كي حشمت و باره فرقوں كي بركتين.٢٦ إسرائل آگے بخور رکھینگے ، اور گل سوختني قرباني ورا حبة : كي نيك اغتي.دیکھو زاور دان ۱۰۷ گل : 1.خدا نے اپنے مرنے کو تیرے مذبح پر چرھا وینگے.۱۱ ای حزق ۴۴ : خر ٨،٧:٣٠ اور یہ وہ برکت ھی جو موسی مرد خداوند، اُس کے اسباب میں برکت دے، ملا : سے آگے بنی اسراایل اور اُس کے ھاتھوں کے کاموں کو قبول کد:۲۰ اُس کا 10:11 اُس نے کہا، کہ خدا کر : اور ان کی کمروں کو، جو اجرا : هبر ۲: ۲ کو بخشی : مکات:::: اور ۱ : ۱۶ اجرا :.زاور ۴۰ : ۴ ملا : سامنا کریں، اور ان کي جو أس كاكينه ١٠٠١٣ رکھیں، چھید کے توردل، تاکه اتھ سکیں.زاور ١١:٠٠ وے پھر نه اور یہ بنیامین کے حق میں کہا، خداوند کا پیارا سلامتی سے اُس کے پاس حزق ۲۷۴۳ ۲۴ زاور ۲۰ : ۳ حزق ۴۰:۲۰ ۲۱ ن هاں، وہ اُس قوم سے بڑی محبت رھیگا ، اور خداوند سارے دن اُس پر سایہ اور ۲۰:۲۳ راست رکھتا ھی اُس کے سارے مقدس تیرے کریگا، اور وہ اُس کے دونوں شانوں کے زاور ۰۰ :.ھاتھ میں ھیں : اور وے تیرے قدموں کے سکونت کریگا.بیچ لوگا ٢١:١٠ نزدیک بیٹھے ہیں : اور تیری باتوں کو اور یوسف کے حق میں کہا کہ ات مانینگے ۴ موسیٰ نے ہم کو ایک شریعت اسکي سرزمين خداوند کے حضور متبرک بید ۲۰:۳۱ اور : ۱۱ فرمائی، جو که یعقوب کی جماعت کي هووے آسمان کے تحفہ جات سے، الم : اور ٢٧٧

Page 769

الجزء الخامس ۸۸ کتاب مقدس یعنی پیرانا اور نیا تعهد نامه * ہندوستان کی بائیل سوسائٹی مهاتما گاندھی روڈ بنگلور ملحقات Revised Version 93 Printed in Great Britain by Lowe and Brydone (printers) Ltd.London

Page 770

الجزء الخامس ۸۹ استثنا ملحقات ۱۷ - ۳۳ ۳ ۴ کو اپنے آگے دیکھ لیگا لیکن وہاں اس ملک میں جوئیں بنی کیونکہ انہوں نے تیرے کلام کی احتیاط کی اور وہ تیرے عہد کو مانتے ہیں.اسرائیل کو دیتا ہوں جانے نہ پائیگا ہے اور مرد خدا موسی نے جو دعای خیر دیگر اپنی وفات سے وہ یعقوب کو تیرے احکام ہلے بنی اسرائیل کو برت دی وہ یہ ہے انڈر نے کہا.اور اسرائیل کو تیری شریعت سکھائینگے خداوند سینا سے آیا اور شعیر سے اُن پر آشکارا ہوا.وہ کوہ فاران سے جلوہ گر ہوا اور لاکھوں قدسیوں میں سے آیا.وہ تیرے آگے بخور اور تیرے مذبح پر پوری سوختنی قربانی رکھینگے.اب خداوند ! تو اُس کے مال میں برکت دے اور اُسکے ہاتھوں کی خدمت کو قبول کر.اُسکے رہنے ہاتھ پر انکے لئے آتشی شریعت تھی.جو اُسکے خلاف اٹھیں اُنکی کمر توڑ دے وہ بے شک قوموں سے محبت رکھتا ہے.اور انکی کمر بھی جنگو اس سے عداوت ہے تاکہ وہ پھر انھیں اسکے سب مقدس لوگ تیرے ہاتھ میں ہیں ہے اور نیمین کے حق میں اُس نے کہا :- خداوند کا پیارا سلامتی کے ساتھ اُسکے پاس رہیگا.اور وہ تیرے قدموں میں بیٹھے.ایک ایک تیری باتوں سے مستفیض ہوگا.وہ سارے دن اُسے ڈھانکے رہتا ہے اور وہ اُسکے کندھوں کے بیچ سکونت کرتا ہے.اور یوسف کے حق میں اُس نے کہا :- موسی نے ہمکو شریعت اور ا یعقوب کی جماعت کے لیئے میراث دی اور وہ اُس وقت نیورون میں بادشاہ تھا.اُسکی زمین خداوند کی طرف سے مُبارک ہو ! جب قوم کے سردار اکٹھے اور اسرائیل کے قبیلے جمع ہوئے.روین چیتا ر ہے اور مر نہ جائے تو بھی اُسکے آدمی تھوڑے ہی ہوں.آسمان کی بیش قیمت اشیا اور شبنم اور وہ گہرا پانی جو نیچے ہے اور سورج کے پکائے ہوئے بیش بہا پھل اور چاند کی اگائی ہوئی بیش قیمت چیزی ۱۲ ۱۳ ۱۴ ۱۵ 14 اور نیوواہ کے لیے یہ ہے جو موسی نے کہا :- اور قدیم پہاڑوں کی بیش قیمت چیزیں اسے خُداوند ! تو یہوداہ کی سُن اور ابدی پہاڑیوں کی بیش قیمت چیزیں اور اُسے اُسکے لوگوں کے پاس پہنچا.اور زمین اور اسکی معموری کی بیش قیمت چیزیں وہ اپنے لئے آپ اپنے ہاتھوں سے لڑا اور اُسکی خوشنودی جو جھاڑی میں رہتا تھا.خدا مراد ہے.اور تو ہی اُسکے دشمنوں کے مقابلہ میں اسکا مددگار ہوگا.ان سب کے اعتبار سے یوسف کے سر پر اور لادی کے حق میں اُس نے کہا :- یعنی اُسی کے سر کے چاند پر جو اپنے بھائیوں سے جدا رہا برکت تیرے تمیم اور اوریم اس مرد خدا کے پاس ہیں نازل ہو ! جسے تو نے منہ پر آزما لیا اُسکے بیل کے پہلوٹھے کی سی اُسکی شرکت ہے اور کے ساتھ قریہ کے چشمہ پر تیرا تائع ہوا.اور اسکے سینگ جنگلی سانڈ کے سے ہیں.9 جس نے اپنے ماں باپ کے بارے میں کہا کہ میں نے اُن ہی سے وہ سب قوموں کو بلکہ زمین کی انتہا کے لوگوں بارے میں کہ قوموں بلکہ کو دھکیا نیگا.انکو دیکھا نہیں اور نہ اُس نے اپنے بھائیوں کو اپنا مانا وہ افرائیم کے لاکھوں لاکھ اور نہ اپنے بیٹوں کو پہنچانا اور منتی کے ہزاروں ہزار ہیں.16 ۲۰۱

Page 770

← Previous BookNext Book →