Language: ARABIC
Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)
ATTAFSIR AL-KABIR Commentary of the Holy Qura'n By: Hadhrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad Khalifatul Masih II Volume: 4 Surah Hijr to Surah Kahf (Arabic Translation) © Islam International Publications Ltd First Published in England in 2004 by Al Shirkatul Islamiyyah Islamabad Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ (U.K) Printed by: Bath Press Lower Bristol Road BA2 3BL ISBN 185 372 781 4 التفسير الكبير الـ الرا ☐ 1 الكت
أ الحمد لله الذي وفقنا بعونه لإخراج المجلد الرابع من هذا التفسير القيم بلغة حبيبه محمد المصطفى ولقد كان شرف ترجمته إلى العربية من نصيب الأستاذ عبد المؤمن طاهر، حيث راجعه الأستاذ هانئ طاهر.تقبَّلَ الله سعيهما، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهما على إخراج الأجزاء المتبقية من هذا التفسير العظيم.آمين.ثمة أمور ينبغي توضيحها عن هذه الترجمة: أولاً: لم تذكر في الأصل (الأردو) معظم الاقتباسات من الحديث النبوي الشريف والسيرة وغيرهما من المراجع بنصوصها، وإنما ذكرها المفسر بألفاظه وأسلوبه..غير أننا رأينا عند الترجمة أن ننقلها بنصها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، اللهم إلا بعض الأماكن التي تعذر علينا فيها الأمر، فترجمنا المضمون مع الإشارة إلى النص الأصلي أو مرجعه في الهامش.ثانيًا: هناك مواضع في الأصل أشار فيها حضرة المفسر إلى بعض الأحداث إشارةً لا تُعتبر كافيةً لبعض القراء العرب، فقام المترجم بتوضيحها في الهامش صرفًا للالتباس.ثالثًا: نؤكد بهذا أن ترقيم الآيات في التفسير يبدأ بالبسملة من كل سورة.وأخيرًا فإننا نتقدم بخالص الشكر والدعاء لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وخصوصا الأستاذ سيد مير محمود أحمد ناصر، عميد الجامعة
الإسلامية الأحمدية (معهد تأهيل الدعاة بربوة، باكستان، لتفضله بالإشراف على مجموعات الطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهذا التفسير.وكذلك نخص بالشكر والدعاء الإخوة السادة الأفاضل : د.محمد حاتم حلمي، محمد طاهر نديم عبد القادر ناصر عودة، خالد البراقي، عبادة بربوش وعبد المجيد عامر، لمساعدتهم المشكورة في شتى المجالات العلمية والفنية.فجزاهم الله جميعا أحسن الجزاء.كما ندعو الله العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببًا لشفاء غليل من عباده علميًا وعمليا وروحيًا، وذريعةً لفهم كلامه – سبحانه وتعالى.الكثيرين آمین! جمادى الأول ١٤٢٥ هـ تموز (يوليو) ٢٠٠٤ م الناشر
الجزء الرابع سورة الحجر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم سورة الحجر مكية وهي مع البسملة مائة آية وستة ركوعات ورد في تفسير البحر المحيط أن هذه السورة مكية بلا خلاف".* ومن غرائب القدر أن الله تعالى قد جعل العلماء يُجمعون على اعتبار هذه السورة مكية بلا خلاف فلقد ورد فيها من القضايا والمسائل ما لا تنكشف عظمته كما ينبغي إلا إذا كانت السورة مكية.من علاقة سورة الحجر بسورة إبراهيم تكمن في أن السورة السابقة قد نوهت بأن الأنبياء السابقين لم يغلبوا بالأسباب المادية وإنما ببركة الوحى الذي نزل عليهم الله تعالى و بأن أمر محمد لوله لولا أيضًا سيتم بهذه الطريقة.وتتحدث هذه السورة عن القوة الكامنة في كلام الله تعالى حيث يخبرنا بل أن الوحي قوة خارقة بحيث لا شيء يستطيع الوقوف في وجهها.إن الافتراء على الله ليس بالأمر الهين، ومن المستحيل أن ينجو المفتري من عقابه الا الله فثبت أن القرآن حق، وأنه قد نزل مصحوبًا بالبينات الدالة على صدقه.لقد أكد الله تعالى في هذه السورة أن هذا الكلام عظيم لا مثيل له، حتى إن المعارضين كثيرًا ما يتمنون وسيتمنون بكل حسرة عند رؤية محاسنه: ليت لديهم * بالإضافة إلى تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأحزاب ،وأرباع فإنه ينقسم أيضًا إلى ركوعات..أقسام صغيرة تناسب القراءة في ركعات الصلاة، وهي مألوفة في المصاحف المطبوعة خارج الجزيرة العربية..وخاصة في القارة الهندية وإيران وأفغانستان وإندونيسيا وبعض بلاد المغرب العربي.(المترجم) وهي
سورة الحجر الجزء الرابع مثل هذا الكلام العظيم ولكنهم لا يستطيعون قبوله بسبب مصالحهم الشخصية، ولا يدركون أن مثل هذا التهاون يحرم صاحبه من قبول الحق إلى الأبد ويعرّضه للعذاب.أما وقد أنزل الله هذا الوحي فلا يمكن أن يتمحي ويندثر، بل لا بد أن يبقى ويدوم، لأن الله تعالى بنفسه تولّى حفظه وحمايته.فمن لم يقبله فلن يضر إلا نفسه.كان الناس ولا يزالون يسخرون من أنبيائهم بسبب ما نزل عليهم من الوحي، ولكنهم لا يفكرون أن الافتراء على الله ليس بالأمر الهين، لأن الله تعالى هو الذي يتولى الدفاع عن ذاته، فلا يدع أحدا يفتري عليه، وهو الذي يخص الوحي الحق بمزايا معينة ويهيئ الأسباب لقبوله وانتشاره، ويرفع الذين يقبلونه ويصدقونه من الحالة الدنيا إلى أسمى درجات الكمال.وكما أن الوحي الذي نزل على الأنبياء السابقين كان بمثابة الكنز الذي انتصروا به على العالم..كذلك سيحدث الآن أيضًا.فإذا كان المعارضون يستهينون بهذه الكنوز فدَعهم يا محمد وشأنهم فسوف يعاقبون على ذلك، فلا تتوان في توزيع تلك الكنوز على المؤمنين، ولا تَمَل من إنذار من يرفضها، وارفع أكف الضراعة والابتهال إلى ربك دائما، فهذا هو الأمر الذي سيمهد لتبليغ رسالة الله ونشرها.
الجزء الرابع شرح حِمِ اللهِ الرَّحمَراَ سورة الحجر الر تِلْكَ وَايَنتُ الكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينِ (3) الكلمات : آيات مفردها آية وهي: العلامة والدليل؛ ويقال لكل كلام من القرآن منفصل بفصل لفظي آية (تاج العروس).أرى أن الجمل القرآنية سُمِّيت آيات للحكمة نفسها، ليدرك الناس أن مضامين القرآن مرتبة ترتيبا كاملاً، وكل جملة منه دليل على صدق ما ورد في الجملة السابقة من معان وأنه بدون مراعاة هذا الترتيب لن يدرك أحد المعارف القرآنية بشكل جيد.وقد سُمّيت بالآيات كذلك لأن كل جملة قرآنية آية من آيات الله تعالى يزعم النصارى أن القرآن لا يدعي أنه معجزة، مع أن القرآن قد سمى كل جملة منه آية أي ،معجزة، مشيرًا إلى أنه يحتوي على معجزات كثيرة، بل إنه بنفسه معجزة عظمى.الكتاب: مصدرُ كتب يكتب.يقال: كتب الكتيبة: جمعها.وكتب السقاء: خرزه (تاج العروس)..أي سدّ فمه بخيطين من جلد.وبهذا المعنى يسمّى الكتاب كتابًا لأنه تُجمع فيه مسائل مختلفة، ولأنه يُصنع بتجميع الأوراق بخيط وغيره.والكتاب: "ما يُكتب فيه من مجموعة أوراق فارغة؛ ما كُتب؛ الفرض؛ الحكم؛ القدر؛ والكتاب الرسالة المكتوبة" (أقرب الموارد).مبين: أبان الشيء اتضح وأبان فلان الشيء: أوضحه (أقرب الموارد) لقد وردت كلمة (مبين) في سورة يوسف بمعنى الموضح، وأما هنا فبمعنى الواضح.وقد جاءت كلمة (قرآن) هنا بالتنوين تفخيما لشأنه.
الجزء الرابع ٤ سورة الحجر التفسير : لقد تحدث المفسرون فيما إذا كان هناك فرق بين (الكتاب) و(قرآن مبين)، لأن (و) العاطفة ترد عمومًا لبيان المغايرة بين شيئين.وصفةً في أحيان أخرى.فنبّاً وأخبر ب الحق أنهم وقعوا في هذا النقاش عبئًا حيث أخذوا (الكتاب) بمعنى مجموعة الأوراق المكتوبة، مع أن الله تعالى قد قصد بذكر كلمة (الكتاب) إزاء (قرآن) الإشارة إلى معنى خاص وهو أنه سوف يقوم بحماية القرآن الكريم كتابةً عل وتحفيظا..أي أنه سوف يُكتب ويدوّن، وسوف يُقرأ بكثرة.وكأنه تعالى قد أكد في مستهل السورة نفس النبأ الذي ذكره بعد قليل في قوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، حيث جاء بكلمتي (الكتاب) و(قرآن) كصفتين للقرآن لا كَاسْمين مثل كلمة "محمد" التي تُستخدم علما في بعض الأحيان، (الكتاب) بأنه سوف يتم تدوينه وكتابته،.(قرآن) أنه سوف يُقرأ بكثرة.والواقع أنه ليس هناك أي كتاب سماوي يتسم بهاتين الصفتين معا غير القرآن الكريم.لا شك أن التوراة والإنجيل يُقرءان بكثرة، ولكن لا أحد من الناس يحفظهما عن ظهر قلب.وأما "الفيدا" * كتاب الهندوس فإن لغته غير مفهومة إلا لقلة قليلة جداً، دَعك أن يحفظه أحد عن ظهر قلب.إن عدد الهندوس في الهند يبلغ في هذه الأيام حوالي ٢٥٠ مليون شخص، وقد بلغنا أنه أربعة بينهم أشخاص فقط قادرين على ترجمة "الفيدا" وتوضيح غموضه.ونفس الحال بالنسبة للزَّنْد أَفستا * *.إن القرآن الكريم هو الوحي الوحيد الذي يُقرأ في صورة كتاب، ويُحفظ عن ظهر قلب أيضًا، وهناك الملايين الذين ينتفعون منه بكلا الطريقين.يوجد * ** الفيدا كتاب مقدس للهندوس (المترجم).الزنذأفستا كتاب مقدس للزرادشيين (المترجم).
الجزء الرابع سورة الحجر هناك ملاحظة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن القرآن قد وصف بهاتين الصفتين (الكتاب والقرآن معًا في آيتين في الآية المذكورة هنا وفي الآية الثانية من سورة النمل، ولكن هناك فرق واضح، وهو أنه في هذه الآية قدمت كلمة (الكتاب) على كلمة (القرآن)، بينما حصل العكس في سورة النمل.أرى أن سبب هذا الفرق هو التأكيد على أمر معين في كلّ من الموضعين.فكان الهدف في هذه السورة إبراز كون هذا الوحي (قرآنًا) أكثر من كونه (كتابا)، فلذلك قدّم صفة (الكتاب) على صفة (القرآن) لأنهم أحيانًا يذكرون الأدنى قبل الأعلى بيانًا للدرجة.أما في سورة النمل فكان القصد هنالك إبراز صفة الكتابة لذلك أخَّر هناك كلمة (الكتاب) وقدم كلمة (القرآن).وثمة أمر آخر يجب التنبه إليه وهو أن الله تعالى لم يقل هنا "الكتاب المبين"، بل قال قرآن مبين، بينما ذكر العكس في سورة النمل إذ قال تلك آيات القرآن وكتاب مبين.وقد يظن البعض ممن لا حظ له من أسرار القرآن أن هذا الأسلوب راجع للسجع والقافية.وهذا ظن باطل، ذلك أنه إذا كان الله تعالى قد استخدم هناك كلمة (قرآن) للسجع فلماذا قدّمها على كلمة (الكتاب) خلافًا لما فعل هنا في سورة الحجر؟ فهذا يدل أن هناك حكمة في تغيير الأسلوب والكلمات.وليكن معلومًا أيضًا أن كلمة (مبين) لم ترد في هذين المكانين فقط، بل إنها قد وردت في عدة مواضع أخرى وعقب كلمات أخرى أيضا، وإليكم بيان ذلك: جاءت كلمة "مبين" صفة للقرآن في موضعين هما: هذه الآية من سورة الحجر والآية ٧٠ من سورة ياسين.6 ووردت صفةً للكتاب في ۱۲ موضعا وهي: المائدة: ١٦ الأنعام: ٦٠، يونس: ٦٢، هود: ٧ يوسف : ۲ ، الشعراء: ٣، النمل : ٢ و ٧٦، القصص: ٣، سبأ: ٤، الزخرف: ٣ والدخان: ٣ مما يعني أنه لا دخل للسجع هنا، بل إن الكلمات قد تغيرت لحكمة ما.
الجزء الرابع سورة الحجر وقد اتضح مما سبق أن هناك مكانين فقط وردت فيهما كلمتا (الكتاب، والقرآن معًا مقرونتين بصفة (مبين).فلا شك أن هذين الموضعين يتطلبان منا التدبر حتى نفهم الحكمة ونعلم سبب ورود كلمة (مبين) صفةً للكتاب في موضع وللقرآن في موضع آخر؟ علما أن سورتي الحجر والنمل تختلفان في الموضوع، فالأولى منهما تذكر الأحداث التي وقعت للأنبياء الذين لم يكن في زمنهم للكتابة رواج، بل كان الناس يعتمدون على الذاكرة للثقافة والمعرفة، مثل آدم وإبراهيم ولوط وأصحاب الأيكة وقوم صالح عليهم السلام.لقد بعث آدم في الفترة الأولى حينما لم يكن للناس دراية بفن الكتابة الذي لم يكن قد اخترع بعد.وكان إبراهيم ولوط من القبائل العربية وكان مولدهما ،العراق، ولم يكن للكتابة عندهم رواج أيضا.وأصحاب الأيكة كانوا قبيلة عربية كما كان قوم صالح، ولم يكن لديهم جميعا اهتمام كبير بالكتابة.فثبت من هذه الأمثلة أن سورة الحجر تخاطب عمومًا أولئك الأقوام الذين لم يهتموا بفن الكتابة كثيرا، والذين كان من المقدر أن ينتفعوا من معارف القرآن بالذاكرة أكثر من الكتابة؛ لذلك قال الله هنا قرآن مبين ليخبر أن هذا الوحي سينفع هؤلاء بصفته (قرآنا) أي ما يُقرأ كثيرًا؛ إلا أنه تعالى أضاف إلى ذلك كلمة (الكتاب) أيضًا تأكيدا لحمايته لهذا الوحى.وأما في سورة النمل فقال كتاب مبين، لأنه قد ركز فيها على ذكر أحداث موسى وداود عليهما السلام وهما من بني إسرائيل الذين كان اعتمادهم على الكتابة أكثر منه على الذاكرة ( 3 The Illustrated Bible Dictionary, Part 1657-1658.Under; 'Writing' P)، وكان من المقدر أن يستفيد أتباع هؤلاء الرسل مما نزل على محمد و بصفته (كتابا ) أكثر منه (قرآنا)، ولذلك جاء التأكيد في سورة النمل على كون هذا الوحي (كتابا) أكثر منه منه (قرآنا)، فقدم كلمة الكتاب مضيفا إليه صفة (مبين) فقال كتاب مبين.
الجزء الرابع سورة الحجر خلاصة القول إن هذا الوحى مبين سواء من ناحية كونه (قرآنًا) أو (كتابا)، وبما أنه نزل للعالم كله فسوف تنتفع منه الأمم كلها، سواء تلك التي تعتمد في صفةً علومها على القراءة والحفظ عن ظهر قلب أو التي تعتمد على الكتابة.وكما سبق أن بينت فإن كلمة مبين قد وردت في المصحف الشريف للقرآن مرتين فقط، بينما جاءت صفةً للكتاب ١٢ مرة، مما يشير إلى أن هذا الوحي سيكون أكثر تأثيرًا بصفته (كتابًا)، بمعنى أن معظم الناس سوف ينتفعون منه لأنهم سيجدونه مكتوبا، ولذلك فإنه سوف ينتشر بكثرة بين الأمم تحفظ العلوم والمعارف عن طريق الكتابة.التي كما أنني أرى في تكرار كلمة كتاب مبين بهذه الكثرة إشارةً ربانية للمسلمين بأن المنتفعين بالكتابة يكونون أكثر عددًا من المنتفعين بالذاكرة فقط، فعليهم أن يهتموا بنشر التعليم فيما بينهم حتى لا يُحرم أهل الإسلام مما في القرآن الكريم من منافع وبركات.لما كانت هذه السورة تتناول موضوع حفظ تعاليم الإسلام فقد وصف الله هذا الوحي هنا بصفتي (الكتاب) و(القرآن) تأكيدا لحمايته.ذلك أنه من المستحيل حماية أي تعليم حماية كاملة ما لم يتم ضبطه بالكتابة والحفظ معًا، إذ قد تخون الذاكرة وقد يسهو الكاتب، ولكنهما إذا اجتمعا أزال الواحد خطأ الآخر، فلا يبقى هناك احتمال للخطاً.ولقد تيسرت للقرآن الكريم الحماية بنوعيها، فإنه (کتاب)، إذ تم ضبطه أولا بأول بصورة كتابية في حياة النبي ، كما أنه (قرآن)..بمعنى أنه لم يزل ملايين الناس - منذ بداية نزوله إلى يومنا هذا - يحفظونه عن ظهر قلب ويقومون بتلاوته.
الجزء الرابع سورة الحجر رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَ رُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ شرح الكلمات : ربما أصله : (رُبَّ) و (ما).و (رب) يشدد ويخفف.و(رُبَّ) حرف لا اسم خلافا للكوفيين، ومعناها في المشهور التقليلُ لا التكثير.وقال أبو عبد الله الرازي: هناك إجماع لدى العلماء على أنها موضوعة للتقليل.وهذا ما يراه الزمخشري أيضًا.ولكن يروى عن سيبويه والزجاج أنها للتكثير.وقال آخرون: إنها لا تفيد تقليلاً ولا تكثيرًا، بل هي حرفُ إثبات (لسان العرب، والبحر المحيط، والكشاف، والرازي، ).الواقع أن كلمة ربما تفيد هنا التكثير، لأن الذين قالوا بكونها للتقليل أيضًا قد أوّلوها هنا بمعنى التكثير.(انظر لسان العرب) وهناك اختلاف آخر بين النحويين حول كلمة (رُبِّ ) : أتفيد المستقبل أم الماضي؟ والأكثر يرون أنها لا تفيد إلا الماضي، ولذلك أوّل هؤلاء كلمة بمعنى (وَدَّ) لأن ما يخبر الله بوقوعه مستقبلاً فإنه سيتحقق حتمًا وكأنه حقيقة قد ثبت وقوعها في الماضي.ولكن البحث يدل على أنها تفيد المستقبل أيضًا.قالت هند زوجة أبي سفيان: يا رُبَّ قائلة غدًا يا لهف أم معاويه وقال سليم القشيري: ومعتصم بالجبن من خشية الردى سيردى، وغاز مشفق سيؤوبُ (البحر المحيط) مسلمين: أسلم الرجلُ: تديَّنَ بالإسلام.أسلم أمره إلى الله : سلّمه.التفسير : هناك اختلاف بين المفسرين حول زمن أُمنية الكفار هذه، فقال البعض إنهم يعبرون عن أمنيتهم هذه عند غلبة المسلمين، وقال الآخرون إن هذا
الجزء الرابع سيحدث يوم ۹ سورة الحجر القيامة.بينما قال غيرهم بأنهم يودون ذلك لدى كل ازدهار يحققه المسلمون (فتح البيان).وأرى أنه لا بأس بهذا المعنى، لأن الإنسان حين يعادي غيره دون مبرر كما كان الكفار يفعلون بالنبي - فإنه يتحسر كلما يحقق خصمه ازدهاراً، ويقول: لو لم أناصب هذا الشخص العداء لكان خيرا لي.لم يكن العرب يعادون النبي الله إلا حسدًا فقط، ولكنه حينما حقق إنجازات غير عادية لم يعودوا يحسدونه وإنما بدأوا يقولون بكل حسرة: ليتنا لم نعارضه وكنا مسلمين.فمثلا حينما كانوا يُقتلون في معركة بدر فلا بد أنهم كانوا يتمنون أن لو كانوا مسلمين.فلا غرو أن الكفار كانوا يقولون في أنفسهم بكل حسرة عند انتصارات المسلمين: يا ليتنا كنا مسلمين.لقد سجل القرآن الكريم قولاً صريحًا كهذا للمنافقين، ولا شك أن هذه كانت حالة الكفار أيضًا، فهذا أمر طبيعي لا يمكن إنكاره.التي وأرى أن للآية معنى آخر أيضًا لم ينتبه إليه المفسرون لأنهم يهتمون عموما بمحاسن القرآن الظاهرة من فصاحة وبلاغة ومعجزات، وقلما يتحدثون عن محاسنه الباطنة من تعاليم سامية ومعارف عالية.إنني أرى أن أكبر دواعي نزول القرآن هو تعاليمه الكاملة والرائعة، وهي أشير إليها في قوله تعالى تلك آيات الكتاب ، وهي التي كان الكفار يغبطون النبي بسببها، بمعنى أنهم برؤية محاسن التعاليم الإسلامية كانوا يتمنون أن يكونوا مسلمين.لقد حصل هذا منهم مرارا في الماضي وسوف يتكرر في المستقبل أيضًا.ورد في الحديث أن يهوديا قال لسيدنا عمر : آية في كتابكم تقرأونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا! قال: أي آية؟ قال اليوم
الجزء الرابع سورة الحجر أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا.فقال ** لليهودي: كان لنا في ذلك اليوم عيدان: عيد يوم عرفة وعيد الجمعة.* وفي رواية أخرى أن يهوديا قال: من المحير أن شرعكم لم يترك جانبا من جوانب الحياة إلا وسلط عليه الضوء.هذه بعض الأماني التي تولدت في قلوب الآلاف من معارضي الإسلام، ولكن لم يتفوه بها إلا القليلون.وقد أشار القرآن الكريم أيضا إلى ذلك حيث لم يستخدم كلمة (يقولون) بل قال يود ، مما يعني أنهم يتمنون ذلك في قلوبهم، 6 ولكن لا يتفوهون به.وفي هذا العصر أيضا نجد معارضي الإسلام يشيدون بالتعاليم الإسلامية في شتى القضايا كالطلاق والإرث والخمر.فعندما يفكر أحد الأوروبيين أنه يجب سن القوانين حول الطلاق كما هي عند المسلمين..فإنه في الواقع يقول: ليتني كنت مسلما.وحينما يقول أحد الأمريكان في نفسه بأنه يجب الحظر على تعاطي الخمر..فكأنه يصدق ما أعلنه القرآن في قوله ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.قبل مدة قليلة تقدم هندوسي كان عضوا في المجلس التشريعي الهندي بمسودة قانون عن زواج القاصرات، وقال في خطابه أمام المجلس بحسرة تعتصر القلب: ليس لدينا نحن الهندوس قانون عن الزواج كالذي سنّه الإسلام، وحمی به مجتمعه.ونص الحديث هو: "قال: رجل من اليهود العُمر : يا أمير المؤمنين، لو أن علينا نزلت هذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا! فقال عمر: إني لأعلم أيَّ يوم نزلت هذه الآية نزلت يوم عرفة في يوم جمعة."(البخاري: كتاب الاعتصام، باب الاعتصام بالكتاب والسنة) ** ونص الحديث هو: "قد علَّمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة" (الترمذي: الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة).والخراءة هو التبرز والقعود للحاجة.
الجزء الرابع ۱۱ سورة الحجر وقد وردت في الآية أيضًا كلمة ربما التي تدل على التكرار، والمعنى أن المعارضين لن يهتموا بتصديق الإسلام ،كلية وإنما يغبطونه فقط بسبب تعاليمه من حين لآخر..ويودون لو أن هذا التعليم أو ذاك الحكم موجود في شرعهم.والمسلم من يُسلم أمره ونفسه لله كما ورد في القرآن أسلمت لرب العالمين (البقرة: ۱۳۲).وعلى ضوء هذا المعنى فقد يعني قوله تعالى لو كانوا مسلمين أن الكفار يرون فشل مكائدهم الدنيوية ضد النبي الله الذي يحقق نجاحا تلو نجاح متوكلا على الله وحده..مما يكسر كبرهم وغطرستهم لبعض الوقت..فيتمنون بكل حسرة أن يا ليتنا كنا على صلة مع الله، وفوّضنا أمرنا إليه، حتى لا نلقى هذه الهزيمة والهوان.والمسلم يعني أيضًا من يهيئ الأمن والسلام للآخرين.فالمراد من الآية أنهم عندما يرون تقدم المؤمنين يقولون في أنفسهم ليتنا لم نحاربهم بل عشنا مسالمين كي لا نرى هذا اليوم المشؤوم.ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) شرح الكلمات : الأمل: الرجاء.تأمّلتُ الشيء: نظرت إليه مستثبتًا له (الأقرب).التفسير: تخبرنا هذه الآية أن المعارضين سوف يعترفون بفضل تعاليم الإسلام في شتى مجالات الحياة، ولكنهم لن يوفقوا لاتخاذ الخطوة التالية، بل سيظلون محرومين من قبول الإسلام جراء مصالحهم المادية من مأكل ومشرب وتجارة وحرفة، وأمان عريضة.وهذا بالضبط ما يحدث اليوم أيضا، حيث نجد أهل أوروبا يعترفون بفضل تعاليم الإسلام، ولكنهم غير مستعدين لاعتناقه بسبب مجتمعهم.وكأن الآية جاءت ردا على سؤال نشأ من الآية السابقة، وهو: ما دام هؤلاء يتمنون - من صميم قلوبهم - أن يكونوا مسلمين فلماذا لا يسلمون إذن؟
الجزء الرابع ۱۲ سورة الحجر فقيل: إن عيشهم الهنيء وجشعهم المادي وأمانيهم العريضة هي التي تحول دون إسلامهم.تعلّمنا هذه الآية أنه لا بد لقبول الحق من البساطة في الأكل والشرب واجتناب نب الدنيا وطول الأمل.إن الذي يبحث عن الحقيقة لا مناص لــه من تجنب هذه الأمور.أما الذي لا يتجنب هذه الثلاثة فإن بحثه عن الحقيقة عبث، وسيبقى محروما من قبول الحق رغم انكشافه عليه.كما تشير الآية إلى أن الكفار يوسعون للناس الموائد، ويجمعون الأموال والثروات، ويتخذون من المكائد ما يفوق التصور ، ليبتوا الرعب في قلوب القوم، ولكن محمدا لله لا يلجأ إلى مكائد كهذه، ومع ذلك سيكون الفوز حليفه، ولن يملك الكفار إلا أن يحترقوا حسرةً ويموتوا كمدا برؤية رقيه العظيم.كما تشير الآية إلى أن رغبة الكفار في الإسلام عابرة مؤقتة، وأن رغبتهم الحقيقية هي أكل الطعام الشهي وجمع المال الطائل؛ والرغبة العابرة لا تنفع صاحبها.أما المؤمنون فرغبتهم في الإسلام رغبة دائمة ورغبتهم في الأكل وجمع المال واتخاذ التدابير لذلك مؤقتة أي لسد الحاجة فقط؛ ولذلك فإنهم ينالون هدي الله تعالى، في حين يبقى الكفار محرومين منه.وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ : شرح الكلمات: قرية: اسمٌ للموضع الذي يجتمع فيه الناس؛ وللناس جميعًا؛ ويُستعمل في كل واحد منهما؛ قال الله تعالى وَسْئَل القرية..قال كثير من المفسرين: معناه أهل القرية؛ وقال بعضهم: بل القرية ههنا القوم أنفسهم.(المفردات)
الجزء الرابع ۱۳ سورة الحجر والواو في ولها واو الحال، قال القاضي منذر : هذه الواو تفيد أن المذكور بعدها في اللفظ هو مقدَّم في الزمن، ومنه قوله تعالى: إذا جاءوها وفتحت أبوابها )).(راجع البحر المحيط) التفسير : اعلم أن كلمة القرية هنا لا تعني معناها العام، وإنما المراد منها القوم الذين يُبعث إليهم نبي من الأنبياء.وهذا مصطلح قرآني حيث يطلق القرآن الكريم كلمة القرية على كل القوم الذين تكون رسالة نبي موجهة إليهم.ذلك أن أول من يخاطبهم النبي هم أهل قريته أو بلدته، أما الذين سواهم فإنهم يندرجون بينهم تلقائيا.كما أن القرآن يسمّي قرية النبي أم القرى، لأن الأم إذا ماتت مات أولادها لعدم توافر الغذاء والقرية المشار إليها في قوله تعالى (وما أهلكنا من قرية هي تلك التي يُبعث فيها النبي، أما القرى الأخرى التي يكون النبي مرسلا إليها أيضًا فلم يذكرها القرآن لأنها تكون تابعة للقرية الأم.وإن قوله تعالى من أمة الوارد في الآية التالية دليل آخر على صحة موقفي هذا.يعترض البعض قائلين: لقد هلك أهل القرية الفلانية ومات سكان البلدة كيت وكيت، فأَرُونا أيَّ نبي بُعث إليهم؟ والحق أن قولهم هذا باطل تماما بموجب هذه الآية.حيث تخبرنا أنه حينما يُبعث نبي من الأنبياء في مكان ما فإن جميع قرى القوم الذين تكون رسالته موجهة إليهم تصبح تابعة لقريته، وبالتالي يستحقون العذاب إذا رفضوه وإن لم تطأ قدما النبي تلك القرى.وإذا كان مبعوثا إلى الدنيا كلها فأهلها جميعًا يستوجبون العذاب برفضهم له.كما تنبهنا الآية أن حلول العذاب بقرية ما لا يعني بالضرورة ظهور نبي فيها، وإنما العذاب الذي يكون علامة على ظهور نبي لا يحل إلا بالمنطقة الواسعة التي تكون رسالته موجهة إلى أهلها.فإذا كان النبي مبعوثا إلى قوم فالعذاب القومي يشكل دليلا على صدقه، وإذا كان مبعوثًا إلى العالم كله فالعذاب العالمي يكون
الجزء الرابع ١٤ سورة الحجر هو الدليل على صدق ذلك النبي.فمثلا لم يكن صدق أنبياء بني إسرائيل متوقفًا على عذاب ينزل بقرية معينة، وإنما كانت علامة صدقهم ذلك العذاب القومي الذي يحل بالأمة الإسرائيلية عمومًا.ولم تكن علامة صدق النبي الكريم أن يحل العذاب بقوم معين، بل كانت علامة صدقه تلك الكوارث الشاملة التي وقعت في العالم كله لأنه ﷺ مبعوث إلى العالم كله والتاريخ شاهد على أن العذاب حل بالعرب خاصةً عند بعثته (البخاري: التفسير: الدخان)، كما أنزل الله آفات عالمية أيضًا بعد بعثة النبي ﷺ بفترة وجيزة.وكلمة كتاب معلوم تعني المدة التي يعيّنها النبي لنزول العذاب بتوجيه من الله تعالى.والمراد من القرية هنا القوم الذين يصيبهم العذاب نتيجةً لمعارضة النبي.ولكنهم لا يتعرضون للعذاب إلا بعد أنباء واضحة.مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَكْخِرُونَ (3) شرح الكلمات أجل: الأجل: مدة الشيء والوقت الذي يحلّ فيه (الأقرب).أمة الأمة: الجماعة الجيل من كل حي (الأقرب).التفسير: لقد قال المفسرون في معنى قوله تعالى ما تسبق وقوله تعالى وما يستأخرون أقوالاً لا تسمن ولا تغني من جوع، وأرى أن المراد منها أنه من المستحيل أن تفلت أمة من الأمم من العذاب بعد أن ينزل الوعيد به..أي لا يمكن أن يحلّ العذاب في موعده ومع ذلك لا يضرهم ولا يهلكهم.فهذا محال حتما.كما أنه لا يمكن أن يتأخر العذاب دائما دون أن يصيبهم.لا شك أن معارضي الأنبياء يُعطون المهلة لبعض الوقت لتُتاح الفرصة لمن كان الهدى من نصيبه ، ولكن يستحيل أن يُمهلوا في كل مرة، دون أن ينزل العذاب في حياة ذلك النبي أو أتباعه.
الجزء الرابع سورة الحجر فالآية تحذر الكفار بألا يظنوا أنهم في مأمن من العذاب، إذ من المحال أن يكونوا في مأمن من الهلاك إلا بأحد الطريقين: الأول أن يحل بهم العذاب دون أن يدمرهم، والثاني أن يؤجل العذاب دائما ولا يصيبهم أبدا؛ ولكن لن يحدث أي من هذين الأمرين، فيجب ألا يتجاسروا على المعارضة مغترين بالمهلة.وَقَالُوا يَتَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ شرح الكلمات: الذكر: التلفظُ الدين بالشيء وإحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيت، ومنه: له ذكر في الناس؛ الثناء؛ الشرفُ، وفي القرآن إنه لذكر لك ولقومك؛ الصلاة الله تعالى والدعاء، يقال: إذا حَزَبَه أمرٌ فَزَعَ إلى الذكر؛ الكتاب فيه تفصيل ووضع الملل.والذكرُ من الرجال: القويُّ الشجاع الأبي.والذكرُ من المطر: الوابل الشديد.والذكرُ من القول: الصلب المتين.(الأقرب) مجنون: جُنّ الرجل جَنَّا وجنونًا: زال عقله، وقيل: فسد.وجُنَّ الشيء عنه: استتر.والجنون: مصدر جَنَّ؛ زوالُ العقل، وقيل: فساده.والمجنون: من زال عقله أو فسد.(الأقرب) والجنة: جماعة الجن، قال تعالى من الجنّة و الناس، وقال تعالى وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا والجنة: الجنون، قال تعالى ما بصاحبكم من جنة..أي جنون.والجنون حائل بين النفس والعقل.وجُنّ فلانٌ: قيل: أصابه الجن، وبنى فعله على فُعِلَ كبناء الأدواء نحو: زُكمَ ولُقِيَ وحُمَّ؛ وقيل: أصيبَ جَنانُه؛ وقيل: حيل بين نفسه وعقله فجُنّ عقله بذلك.(المفردات) هذا ما ذكره صاحب المفردات من آراء الناس حول ماهية الجنون.مما يدل على أن قولهم فلان) (مجنون لا يعني بالضرورة أنه أصابه الجن، بل معناه الحقيقي أن عقله قد فسد.فالذين يتبعون الأوهام يفسرونه بأن جنيًّا من الجنة غضب عليه
الجزء الرابع سورة الحجر فأفسد عقله، وأما الذين يعتبرون الأحاسيس والعواطف مصدرا للأسقام والأمراض فيفسرونه بأن قلبه أصيب بصدمة.والذين لهم إلمام بالطبيعيات يقولون إن خللاً حصل بعقله.وبالاختصار فإن كلمة (الجنون) لا تعنى إصابة الجن، وإنما يرى البعض أن إصابة الجن سبب من أسباب الجنون.ويضيف صاحب المفردات فيقول : معلم مجنون..أَنْ ضامَّه مَن يعلمه الجنّ.وكذلك قوله تعالى : أننا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون.والحق أن صاحب المفردات قد ذكر هذا المعنى تحت تأثير التفاسير الأخرى، وإلا فهو غير موجود في القواميس الموثوق بها، التي تقول إن المجنون هو من أصابه مرض الجنون.م من وورد في القاموس العصري تحت كلمة المجنون ,Mad, Crazy, Insane, Fool.Foolish التفسير: لقد أنبأ الله وعجل من قبل أن الكفار سيقولون في أنفسهم مرة بعد أخرى: ليتنا كنا مسلمين، والآن يخبر أنهم عند سماع نبأ هلاكهم سيقولون في استغراب شديد: لا شك أنك مجنون حيث تدّعي بهذا، ولسوف ترى قريبًا كيف نسحقك أتباعك سحقا.مع أما إذا اعتبرنا كلمة (ربما) تفيد المستقبل بمعنى أن الكفار سوف تتملكهم الحسرة لدى رؤية ازدهار الإسلام فيقولون ليتنا كنا مسلمين، أو ليتنا لم نحارب المسلمين، أو ليتنا سلّمنا نحن أيضا أمرنا إلى الله متوكلين عليه..فتعني هذه الآية: أنهم لدى سماع هذا الإعلان سيعتبرونه دعوى رجل مجنون، ويقولون: إنه لمجنون من يدعي بهذه الدعاوى العريضة، إذ من المستحيل أن تتولد عندنا نحن أعداء الإسلام مثل هذه الرغبة، وأنَّى لهذا النبي ولأتباعه أن يحققوا الرقي بحيث نغبطهم عليه."الذكر" اسم من أسماء القرآن الكريم، ويعني الشرف كما قال الله تعالى لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم..أي شرفكم وكان هذا الاسم معروفا لدى
الجزء الرابع ۱۷ سورة الحجر الكفار، وقد استخدمه الكفار هنا تعييرًا للمسلمين.ذلك أن الحديث هنا يدور عن ازدهار المسلمين وعزتهم وهلاك الكفار وهوانهم.ويشبه قولهم هذا قول الله تعالى لشخص من أهل النار : ذُق إنك أنت العزيز الكريم (الدخان: ٥٠)..بمعنى: انظر إلى أين أوصلتك عزتك وكرامتك.قال بعض الكتاب المسيحيين - بناءً على قول الكفار : إنك لمجنون - أن هذا يؤكد كون محمد مصابًا بنوع من الجنون وإلا لما سماه العرب مجنونا، إذ لا أحد ينسب الجنون إلى شخص سليم العقل! وقد أخطأ هؤلاء في تحديد معنى الجنون سعيا منهم لاتهام النبي : لاتهام النبي.فقد ترجم المسيحي جورج سيل هذه الآية كالآتي:.Thou art certainly possessed with a devil (تفسير القرآن لـ "ويري")..أي لا شك أن شيطانًا قد استحوذ عليك.وكتب المستشرق رودويل ما يلى: ”.Thou art surely possessed by a djinn (ترجمة القرآن لرودويل)..أي أنه قد أصابك أحد من الجن.وقال القسيس بامر.Verily thou art possessed (ترجمة القرآن لبامر)..أي لا شك أنك واقع في قبضة روح شريرة.وكأن المجنون عندهم من كان واقعا تحت تأثير شيطان أو جنّ.ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا أبدًا، بل إن المجنون هو من اختل عقله كما هو ثابت ومسجل في القواميس المذكورة أعلاه.الواقع أن الكتاب المسيحيين قد حاولوا إلصاق هذه التهمة فرارا من التهمة الموجهة إليهم هم، حيث ورد في أناجيلهم أن اليهود كانوا يتهمون المسيح ال بأن فيه شيطانًا.ولكن هؤلاء النصارى لم يفكروا أن التهمة ضد المسيح كانت من قبل اليهود، وأما هذه - ضد النبي ﷺ - فهي من قبل مشركي مكة؛ وكان اليهود يؤمنون أن الجن روح شريرة، وأن من لزمته تلك الروح الشريرة يصير
الجزء الرابع ۱۸ سورة الحجر شخصا شريرا؛ ولكن المشركين كانوا يعبدون الجن، ولم يقصدوا بقولهم ضد النبي ما أراده اليهود ضد المسيح الل، ولو كان الأمر كذلك لما عارضوا الرسول بل لخافوه وهابوه.صبیان والظلم الآخر الذي ارتكبه المعترضون النصارى أنهم قالوا: ما دام أهل مكة قد رموا محمدا بالجنون فلا بد أن هناك سببًا لذلك.ثم لفقوا هذا السبب من عند أنفسهم وقالوا أن محمدا كان مصابا - والعياذ بالله - بنوبات الصرع ثم استشهدوا على قولهم بذلك الحادث الذي ذكره بعض المؤرخين، والذي قد وقع للنبي عندما كان صبيا عند السيدة حليمة.ذات مرة كان النبي ﷺ مع كبار يرعون الغنم في البرية إذ أتاه شخصان بلباس أبيض براق، فألقياه على الأرض، وشقا صدره، ثم أخذا منه شيئًا أسود اللون ورميا به بعيدا (راجع مسند أحمد، مسند الشاميين، حديث عتبة بن عبد السلمي رقم ١٦٩٩٠).يستدل هؤلاء النصارى من هذا الحادث أن محمدًا الذي كان صبيا عندئذ لا يمكن أن يكون قد كذب على أهله ملفّقًا القصة منه بل لا بد أن هذا قد حدث به ذلك نوبة من نوبات الصرع! إنني لا أدخل الآن في النقاش ما إذا كان المصاب بالصرع يستطيع – أثناء نوبات الصرع – أن يفكر في مثل هذه المشاهد ويراها ويحفظها أم لا، غير أنني قد طالعت كتب الطب التي تتناول مرض الصرع بكل تفاصيله وأعراضه، ولم أقرأ في أحد منها أبدًا أن المصاب به يمكن أن يرى مثل هذا المشهد أثناء نوباته ثم يحفظه بنفس الترتيب والتفصيل.فعلاً، وكان كما أن عيون المصاب بهذا المرض وصورته وحالته العقلية وأعراضه الأخرى نفسها تدل بكل وضوح أن هذا الشخص مريض بالصرع، إذ تجده دومًا كثير الشكوى بلا داع، يشكو من كل أذى بسيط، فارغ الذهن حائر الجنان، وعصبي المزاج يغضب غضبا شديدا عند كل صغيرة وكبيرة.ولكن النبي ﷺ لم یکن به شيء من هذا القبيل أبدا.
۱۹ سورة الحجر الجزء الرابع يقول لنا هؤلاء النصارى: إذا لم يكن هناك سبب كهذا فلماذا كان كل القوم يسمون محمدًا مجنونًا؟ وأنا أقول: لقد خلق الله في الدنيا شخصا آخر اسمه يسوع، وقال الناس عنه أيضًا إنه فريسة للشيطان ومجنون حيث جاء: "فحدث أيضًا انشقاق بين اليهود بسبب هذا الكلام فقال كثيرون منهم: به شيطان وهو يهذي.لماذا تستمعون "له يوحنا ۱۰: ۱۹-۲۰.كما ورد عن أحد تلاميذ هذا العبد المختار واسمه بولس: "وبينما هو يحتج بهذا قال فَسْتُوسُ بصوت عظيم: أنت تهذي يا بولس الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان.(أعمال الرسل ٢٦: ٢٤) فأقول لهؤلاء النصارى قبل أن تتجهوا إلى سيدنا محمد بمثل هذه الترهات عليكم أن تثبتوا أولاً أن نوبات الصرع هي التي كانت وراء رمي اليهود المسيح وبولس بالهذيان، لأن من واجبكم أن تسووا القضية أولاً في بيتكم.يا ليت هؤلاء المسيحيين أنصفوا وفكروا بتأن ليدركوا أنه إذا كان ممكنا أن يُرمى المسيح الله بالهذيان والجنون بمجرد وعظه للقوم دون أن يكون مصابًا بنوبات الصرع..فكيف لا يُتوقع من الجاهلين بالعالم الروحاني أن يسموا سيدنا محمد امجنونًا حين ادّعى هذه الدعوى الكبيرة : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ؟ و اعتراض النصارى يبدو أكثر غرابة وبشاعة حين نجد الآية التالية تبين لنا سبب الكفار النبي الله ، بالجنون ، فإنهم ما كانوا يطلقون عليه هذه التسمية لنوبات الصرع، بل لأنهم كانوا يستبعدون دعاويه ويعتبرونها خارجة على العقل والقياس.والحق أن كل الأنبياء مشتركون في هذا الأمر، فما من نبي إلا وقد ادعى بما لم يكن أهل زمنه مستعدين لتصديقه.رمي
الجزء الرابع لوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَيكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ (3) شرح الكلمات: سورة الحجر لوما حكى النحاس: "لوما" و"لولا" و"هلا" "واحد.(تفسير القرطبي، هذه الآية) تحت التفسير : منذ عدة سور لا يزال الحديث يدور حول دعوى النبي ﷺ أن الإسلام سوف ينتصر في آخر المطاف ببركة الوحي النازل عليه ، لأنه كلام متسم بمزايا كثيرة بحيث لن يستطيع المعارضون الصمود أمام تأثيره.فلم يملك الكفار جوابًا على ذلك إلا أن قالوا إنك مجنون يا محمد، ودليلنا أنك تقول إن الملائكة تنزل عليك بالوحي، ولو كان الأمر كذلك لرأى الناس أيضًا هذه الملائكة نازلة عليك وما داموا لا يرون أي ملك ينزل عليك فهذا دليل أن ادعاءك وهم، وبالتالي برهان على إصابتك بالجنون.ما تنزل المليكة إلا بالحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنظَرِينَ ) شرح الحق: منه.الكلمات حقه حقا: غلبه على الحق.وحق الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين حق الخبر: وقف على حقيقته.والحق ضد الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ الملك الموجود الثابت؛ اليقين بعد الشكّ؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).منظرين: أنظَرَه الدِّينَ: أخره، يقال: كنت أنظر المعسر أي أُمهله (الأقرب).التفسير: كلمة الحق في قوله تعالى ما ننزل الملائكة إلا بالحق إما تعني الكلام الحق، فيكون المراد أن الملائكة إنما تنزل حاملة الله تعالى، ولكنكم أيها الكفار لستم من المرسلين أو ممن يستحقون تلقي الوحي حتى تشرّفكم الملائكة بكلام الله وعجل.وحي
۲۱ سورة الحجر الجزء الرابع أو تكون كلمة الحق هنا مفرد الحقوق، فيكون المراد أن الملائكة تنزل على كل إنسان بما يستحقه من الخير أو الشر.والملائكة التي تنزل على محمد ملائكة رحمة وهو الذي يمكن أن يراها ولا يمكن أن يراها من استحق غضب الله وعل.إن أئمة الكفر هؤلاء ستنزل عليهم ملائكة العذاب التي لن تنفعهم رؤيتها شيئا، إذ ستأتي لتهلكهم، ولن تمهلهم أكثر.وهذا ما حدث يوم بدر إذ نزلت ملائكة العذاب وقد رآها بعض الكفار بصورة الكشف، ولكن ما كان لهم أن ينتفعوا برؤيتها، لأن ذلك اليوم كان يوم هلاكهم.(السيرة النبوية لابن هشام الملائكة تشهد وقعة بدر) قد بين الله تعالى هنا أمرًا هاما جدًّا ألا وهو أن كلام الملائكة يكون مطابقا لباطن الإنسان..بمعنى أن إلهام كل إنسان يكون وفق حالة قلبه.يظن الناس عموما أننا إذا تلقينا إلهامًا فقد أصبحنا من أهل الله الكبار، ولكن هذا وحده لا يكفي، لأن كل واحد يتلقى الإلهام بحسب فطرته وحالة باطنه.كان هناك شخص ساذج من أهل المناطق الجبلية يأتي إلى قاديان بحثا عن العمل، وكان يقوم بالأعمال المنزلية عندنا عموما، وكان في بعض الأحيان يزور الخليفة الأول لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الل، وكلما نصحه حضرته بالصلاة ردّ عليه قائلا: الصلاة لا تلائمني.وبعد أيام وجده حضرة الخليفة في المسجد قائمًا يصلي، ولما فرغ من صلاته سأله الخليفة: ما هذا يا فلان!؟ فأجابه: لقد تلقيتُ البارحة إلهامًا يقول : قم أيها الحيوان وصَلِّ، ولذلك تراني بدأت الصلاة.والواضح أن هذا لا يمكن أن يكون من إلقاء الشيطان، بل إنه من إلهام الرحمن يقينًا، ولكنه كان وفق منزلة هذا الشخص فلا ريب أن تلقى الإلهام ليس بشيء، بل لا بد من النظر في نوعيته لنرى هل يحتوي الإلهام على أي تعبير عن حب الله لصاحب الإلهام، أو هل فيه ما يدل على عظمة شأنه في الحضرة الإلهية أم لا.
الجزء الرابع ۲۲ سورة الحجر كما أننا نعرف من الآية قانونا عاما يؤكد أن الملائكة إنما تنزل بالحق، والبديهي أن المؤمنين يتفاوتون في الدرجات، فمنهم الأدنى ومنهم الأعلى ومنهم من هو نبي مرسل من عند الله تعالى.ثم إن الأنبياء أيضًا ذوو درجات مختلفة.لا شك أن تسمية النبي تطلق على خاتم النبيين الله كما تطلق على زكريا وإلياس ويوسف وغيرهم عليهم السلام، ولكن كما أن اشتراكهم في الاسم لا يعني تساويهم في الدرجة، كذلك تماما لا يتساوى وحيهم رغم أن لهم صفةً نبوية مشتركة، وإنما ينزل الوحي على كل نبي بحسب درجته عند الله تعالى.وحين نأخذ هذا الأمر في الاعتبار نجد حلاً للسؤال القائل: لماذا لم تكن الأسفار السماوية الأخرى كالإنجيل والتوراة والزبور وغيرها منقطعة النظير كالقرآن الكريم؟ ذلك أن الله تعالى قد جعل ذلك الوحي مباركا بحسب درجات أولئك الأنبياء ومهماتهم، إذ كيف يمكن أن يفوّض الله إليهم أعمالاً متفاوتة النوعية والدرجة، بينما لا يهيئ لهم أسبابًا متفاوتة؟ من البديهي أنه لا سيهيئ لهم الأسباب التي تتلاءم مع رسالاتهم، وسيعين العمال وفق نوعية الأعمال.إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَظُونَ ) شرح الكلمات: الذكر (انظر شرح كلمات الآية (٧) التفسير: من معاني "الذكر" الشرفُ والنصيحة.وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا.لقد قال الكفار من قبل معيّرين الرسول : يا أيها الذي نزل عليه هذا الكلام المشرف العظيم إنك لمجنون، فجاء الرد عليهم من الله تعالى بقوله: ألا إنا نحن الذين نزلنا عليه هذا الكلام المشرف العظيم.إن هذه الآية تبلغ من العظمة والروعة بحيث إنها تشكل بمفردها برهانا قويًّا ساطعا على صدق القرآن الكريم.لقد تكرر فيها التأكيد بطرق شتى وأدوات
الجزء الرابع ۲۳ سورة الحجر لیگ مختلفة مثل: (إن)، وضمير المتكلم للجمع (نا) ، ولام التوكيد، وضمير المتكلم للجمع (نحن)، ثم مرة أخرى (إن) ولام التوكيد.ذلك أن المعارضين كانوا سخروا من النبي قائلين إنك لمجنون، فرد الله ل عليهم مؤكدا قوله بأربعة توكيدات، فقال إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.نعم، نحن الذين أنزلنا عليه هذا الكلام المشرف حقا، ونحن الذين سنحمي هذ الكلام حتمًا.ما أقوى هذه الكلمات وما أشدَّها ،وقعًا، وما أجلَّ هذا الميثاق الذي يأخذه الله على نفسه! ثمة أمر آخر جدير بالانتباه وهو أنه من ضمن ما قصده الكفار بتعييرهم أن هذا الكلام العظيم الذي تزعم أنه سيكون مدعاة لشرف العالم أجمع يتطلب أن تنزل معه الملائكة فرد الله عليهم أنكم أيها الحمقى تطالبون بنزول الملائكة مع هذا الوحي ،ألا، فاعلموا أن هذا الكلام فيه من السمو والعظمة ما يجعل قدرة الله بذاتها تتكفل بحفظه ورعايته، وسنرى بعد ذلك من الذي يتجاسر على محاولة الإساءة إليه.هو النبي وهذا لا يعني أن الملائكة لا تحفظ القرآن الكريم، لأنه ما دام الله الذي هو سيدهم ومالكهم حريصًا على حفظه فكم بالحري أن تقوم الملائكة أيضا بحفظه؛ والحق أن الله وعمل قد أشار بقوله وإنا له لحافظون إلى موضوع إضافي، وهو أن هذا الوحي يحتوي على مزايا ومحاسن خصوصية بحيث إن الملائكة أيضا لا تقدر على حفظها وحراستها ولذلك سنتولى هذه المهمة بأنفسنا.لا شك أن الملائكة تقوم بحماية كل شيء، ولكن الله يتولّى بنفسه حماية بعض الأشياء لحكمة معينة، والحكمة الكامنة هنا هي الفارق الذي يميز القرآن عن باقي الأسفار ، والذي سوف أشرحه لكم بعد قليل.إن هذه الآية الشريفة برهان عظيم على صدق القرآن الكريم، وإن كل من لم يُعمه التعصب إذا تدبر فيها بأمانة أدرك أنها ليست من ادعاء البشر.إن المفسرين
الجزء الرابع ٢٤ سورة الحجر كلهم أجمعين متفقون على أن هذه السورة مكية بلا خلاف فيرى ابن هشام أنها نزلت في السنة الرابعة من البعثة النبوية.إن المستشرقين الغربيين تواقون عمومًا لمخالفة المفسرين المسلمين فيما يتعلق بزمن نزول السور وقد اخترعوا لذلك ما يسمونه في زعمهم "قاعدة الشهادة الداخلية"..أي أن موضوع السورة نفسه يعين زمن نزولها.وقد أساءوا استخدام هذه القاعدة لدرجة أنه لم يبق هناك من شك في أنها ليست شهادة القرآن الداخلية وإنما هي شهادة خفايا باطنهم الخبيث.إلا أنني فرحت كثيرا عندما عرفت أثناء مطالعتي لما كتبه المستشرقون أنهم أيضًا لم يجدوا من اعتبار هذه السورة مكية.فيقول سبرينجر: إنها نزلت في السنة الرابعة من البعثة.وأما رودويل- الذي يعتبر نفسه نابغة في موضوع ترتيب سور القرآن فإنه هو الآخر قد وضعها في ترتيبه للقرآن بين السور التي نزلت في السنوات الأولى من البعثة.ولكن نولدکه (Noeldeke) يختلف قليلا، بناء على القاعدة الخاطئة نفسها التي يسمونها الشهادة الداخلية، فيقول: ١: بما أن السورة تتحدث عن تعذيب الكفار للمؤمنين فلا يمكن أن تكون مما نزل في الفترة الأولى من البعثة.٢: لقد ورد فيها لفظ يسبح بحمده ، وهذا اللفظ لم يرد في السور التي نزلت في أوائل البعثة النبوية، وعليه فلا يمكن أن تكون السورة من الفترة الأولى.: جاءت فيها كلمة (المشركين)، وبهذا فلا يمكن أن تكون من السور الأوائل.ثم يضيف قائلا: ولكنها مكية دون ريب حيث نزلت في أواخر الفترة المكية.لست هنا بصدد ما إذا كان نولدكه مصيب في رأيه أم غيره، وإنما أريد التأكيد أن الباحثين العصريين سواء من العرب أم من الغربيين متفقون مع المفسرين القدامى على أن هذه السورة مكية.وأما إذا افترضنا نزولها في السنوات الأخيرة من الفترة المكية فهذا أيضا لا يقلل من عظمتها شيئًا، لأن تلك الفترة كذلك كانت من أحلك الظروف على
سورة الحجر الجزء الرابع بالنسبة للمسلمين، حيث عاشها النبي ﷺ محاصرًا مع أتباعه في شعب أبي طالب، و لم يتيسر للمسلمين ملاذ يحتمون به وفي تلك الظروف العصيبة الحالكة يقول الله : لا داعي لأن تنزل الملائكة بهذا القرآن فإن الله تعالى ذاته سيتولى حمايته والحفاظ عليه.عل: الله، ما أجلَّ هذا الكلام وما أشدَّه قوةً!! إن الذين يعرفون اللغة العربية هم الذين يمكن أن يدركوا جيدًا مدى قوة قوله تعالى إنا نحن نزَلْنَا الذِّكْرَ وإنا له لحافظون).أليس غريبًا حقا أنه في الوقت الذي كان المسلمون فيه محاصرين من قبل الأعداء خائفين على حياتهم..يصدر الإعلان السماوي أن يا أيها الكافرون، قوموا ولا تدخروا وسعا ولا تألوا جهدًا في القضاء على رسالة القرآن، فإنكم لن تنجحوا في مرامكم لأن الله تعالى سوف يتولى حمايته وحفظه.وهكذا – وعلى الرغم من العداء الشديد - يأتي يوم يتحرر فيه النبي وأصحابه من حصار الأعداء، ويحقق الازدهار، وتتكون حولها الله جماعة عظيمة، وتتم حماية القرآن كما ينبغي، ولا تزال هذه الحماية قائمة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم الدين! فانظروا، هل كتب الله هذه الحماية المنقطعة النظير لأي كتاب سماوي آخر؟ يقول السير وليم ميور : “What we have, though possibly created by himself, is still his own." أي من الممكن جدا أن يكون القرآن من اختراع محمد (ﷺ)، وربما أحدث فيه تغييرا وتعديلا، إلا أنه مما لا شك فيه أن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه أتانا به محمد.(حياة محمد ص ٥٦٢) الذي ويضيف قائلا: "We may upon the strongest presumption affirm that every verse in the Qur'an is genuine and unaltered composition of Muhammad himself." - أي أننا نستطيع الجزم – بناء على قياسات قوية – بأن كل آية في القرآن الذي بين أيدينا هي آية أصلية غير محرفة، بل إنها هي هي كما أوردها محمد (ﷺ).(المرجع السابق)
الجزء الرابع ٢٦ وبعد قوله بأن ترتيب القرآن أمر غير مفهوم يستطرد قائلا: سورة الحجر "There is otherwise every security internal and external that we possess the text which Muhammad himself gave forth and used.” أي غير أن لدينا جميع أنواع البراهين القاطعة - سواء كان من قبيل الشهادة الداخلية أو الخارجية - أن هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا هو نفس الكتاب الذي عرضه محمد على العالم واتخذه دستورًا لحياته.(المرجع السابق ص ٥٦١) ثم يقول: "And conclude with at least a close approximation to the verdict of Van Hammer that we hold the Qur'an to be as surely Muhammad's words as the Muhammadans held it to be the word of God." أي أننا وإن لم نتفق مع السيد وان هامر تماما، إلا أننا نتوصل إلى نتيجة مماثلة لما توصل إليه، فنؤكد أن القرآن المتداول اليوم هو بكل يقين نفس ما اخترعه محمد مثلما يؤكد المسلمون أنه كلام الله يقينًا لم يتعرض لتحريف ولا تبديل.وأما نولدكه فيقول: "Slight clerical errors there may have been, but the Qur'an of Othman contains none but genuine elements, though sometimes in every strange order.Efforts of European scholars to prove the existence of later interpolations in the Qur'an have failed." أي من الممكن أن يتضمن القرآن أخطاء إملائية بسيطة، ولكن فحوى القرآن الذي قدمه عثمان ( ه ) للعالم هو نفس ما عرضه محمد ()، وإن كان ترتيبه (ه) يبدو غريبًا جدًّا في بعض الأحيان.لقد فشلت تماما محاولات العلماء الأوروبيين في إثبات أي تحريف في القرآن فيما بعد (الموسوعة البريطانية، القرآن) هذه شهادات من ألد أعداء الإسلام والفضل ما شهدت به الأعداء.أو ليس من أعظم الشهادات على كون هذا الكتاب من عند الله و أن نزل بين قوم أميين، ومع ذلك ظل محفوظًا تماما.بينما نزلت التوراة والإنجيل بين قوم كانوا يعتبرون مثقفين، ورغم هذا لم تُكتب لأي منهما السلامة من أيدي المحرفين ! يقول السير وليم بهذا الصدد بكل حسرة ومرارة: إن المقارنة بين كتاب
الجزء الرابع ۲۷ سورة الحجر المسلمين النزيه تماما من أي تحريف وبين أسفارنا ذات النصوص المتباينة المتناقضة هو كالمقارنة بين شيئين لا شَبَهَ بينهما على الإطلاق.(حياة محمد ص ٥٥٨) والسؤال الذي يفرض نفسه هو : هل المحافظة التامة على القرآن حتى اليوم كانت عن طريق الصدفة فحسب؟ إن تاريخ الإسلام يبين لنا أن هذا الأمر لم يكن صدفة، بل إن حمايته الظاهرة تمت بطريقين ذُكرا في مستهل هذه السورة وهما: (الكتاب) أي الكتابة) و(القرآن) أي القراءة؛ فإن الله تعالى قد تولى المحافظة عليه مع نزول الآية الأولى منه حيث كانت آياته تُكتب وتدوّن أولاً بأول.ثم هيأ الله وعمل لهذا القرآن حفاظًا مشغوفين به يحفظون كل حرف منه عن ظهر قلب؛ يرددونه ليل نهار، ويقرؤونه على أسماع الآخرين.كما فرض الله على المسلمين أن يقرءوا في صلواتهم ما تيسر من القرآن عن ظهر قلب.ولو قيل: إنما حُفظ القرآن لأن محمدًا فكّر بحفظه بهذا الطريق، لقلنا: حسنًا، فلماذا لم تخطر هذه الفكرة على بال زرادشت وموسى وصاحب "الفيدا" وغيرهم؟ مما يدل أن الله تعالى هو الذي ألقى هذه الفكرة في قلب محمد.عندما عاد كولومبس من اكتشاف أمريكا قال له بعض الحساد أي مفخرة لك في ذلك؟ لو أننا خرجنا لاكتشفناها نحن أيضًا.فانبرى كولومبس للرد عليهم بأن أخذ بيضة وناولهم إياها قائلا: حسنًا، تعالوا ثبتوا لي هذه البيضة على الطاولة التي أمامكم؟ فحاول الجميع ولكن بدون جدوى.فقام كولومبس وأتى بإبرة ثَقَبَ بها البيضة، واستخرج شيئًا من مائها اللاصق ووضعه على الطاولة، ثم ثبت به البيضة.فقالوا: نحن أيضا نستطيع فعل ذلك.فقال لهم: لقد احتججتم عن تقصيركم في اكتشاف أمريكا بأن الفرصة لم تتهيأ لكم، ولكني كنت منحتُ لكم الفرصة لتثبيت البيضة، فلماذا لم تستعينوا بعقولكم كما فعلتُ أنا.* * (Admiral of The Ocean Sea, V.P.9) هناك اختلاف بسيط بين ما ورد هنا وما ورد في المرجع الأصلي.(المترجم)
الجزء الرابع ۲۸ سورة الحجر كذلك نقول للمعترضين: لماذا لم يلجأ أهل الديانات الأخرى إلى التدابير التي اتخذها صاحب القرآن للحفاظ عليه؟ ولماذا لم تخطر هذه التدابير إلا على بال محمد ؟ هناك لم ويجب أن لا يغيب عن البال أنه لم يكن بوسع محمد لها ، بدون عون الله تعالى، أن يُلقي العزيمة في قلوب أولئك الذين انبروا يحفظون القرآن عن ظهر قلب ويقرؤونه في صلواتهم، ولذلك أخبر الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون..أي نحن الذين سنأتي بالذين سيقومون بحفظ القرآن.ولقد مضى على هذا العهد الإلهي أكثر من ۱۳ قرنًا ظهر فيها على الدوام ملايين الحفاظ.من الأوروبيين الذين يجهلون هذه الحقيقة فيقولون: من الذي يستطيع حفظ هذا الكتاب الضخم عن ظهر قلب ؟ فليعلم هؤلاء أنه يوجد حتى في قريتنا الصغيرة هذه قاديان العديد من حفظة القرآن الكريم، منهم ابني ناصر أحمد - سلّمه الله تعالى – الذي كان فرغ من حفظه وهو لا يزال في الحادية عشرة من عمره.الحق أن القدرة الإلهية الخاصة قد أنزلت القرآن بكلمات وترتيب خاص بحيث يتم حفظه بكل سهولة.إنه ليس بشعر، ولكنه أسهل حفظاً من الشعر.فإن حفظه لا يستغرق حتى نصف ما يُستغرق في حفظ العبارات الإنجليزية أو الأردية.يقول أحد الكتاب الإنجليز: إن القرآن كلام عجيب بحيث يضطر الإنسان لقراءته بالترتيل.فالواقع أن لغة القرآن وأسلوبه هو أيضا من الأسباب التي خلقها الله تعالى لحفظه من الضياع أو التحريف.بالإجمال فهذه هي الوسائل الأربع التي خلقها الله تعالى لحفظ القرآن الكريم: (أولاً) : لقد هيأ الله منذ البداية أناسا يحفظون القرآن من أوله إلى آخره؛ و(ثانيا): جعله كتابًا سهل اللغة جميل العبارة بحيث يسهل حفظه،؛ و(ثالثا): فرض قراءة ما تيسر منه في الصلوات عن ظهر قلب؛ و (رابعًا) ألقى في قلوب الناس شوقًا وشغفا غير عاديين لتلاوته يعترض النصارى دوماً على المسلمين بأنهم يعكفون على قراءة القرآن بلا تدبّر دون أن يفهموا ما يقولون؟ ولكن أحدا لو تدبر في
الجزء الرابع ۲۹ سورة الحجر في هذه هذه العادة حقا لتبين له أن هذا الأمر أيضًا تصديق للوعد الذي قطعه الله الآية.ذلك أن الله و قد ألقى في قلوب المسلمين حبًّا جما للقرآن الكريم بحيث إنهم لا يبرحون يتلونه سواء فهموا كلماته أم لم يفهموها.لا شك أن على كل مسلم ومسلمة أن يقرأ القرآن ويتدبر معانيه، لأن التهاون في هذا الأمر قد سبّب دمارًا كبيرًا للمسلمين، غير أن ما أريد تأكيده هو أن استمرارهم في تلاوته وحفظه لبرهان ساطع على تحقق الوعد الذي قطعه الله في هذه الآية.الحق أنه لو أُحرقت نسخ التوراة كلها اليوم لن يستطيع أصحابها أن يجمعوا حتى خمس ما ورد فيها، ولكن لو فقدت - لا سمح - جميع المصاحف من العالم لاستطاع المسلمون جمع القرآن بصورته الكاملة خلال أيام، بل إننا نستطيع كتابته كاملا حتى في قريتنا الصغيرة هذه قاديان، ناهيك عن المدن الكبيرة.ولكن ليس هناك أي كتاب سماوي آخر يمكن أن يبقى محفوظا بشكل كامل، لو أُتلف مرة.إن هذه الميزة قد خص بها الله القرآن الكريم وحده.الله ومن الوسائل التي اتخذها الله لحفظ كلامه الكريم أيضا أنه أشاعه في مختلف أقطار العالم عقب اكتمال نزوله على الفور، فلم يبق هناك احتمال لتغييره وتحريفه.يقال إن الحكومة الروسية أرادت مرة طبع المصحف بعد حذف آيات الجهاد منه، فقيل لها إن القرآن قد أشيع في الدنيا كلها وأن هذه الآيات لموجودة في العالم أجمع..فأقلعت عن خطتها الخبيثة.وكان من وسائل حفظ هذا الوحي أيضًا أن العلوم الإسلامية تأسست على القرآن الكريم نفسه، وهكذا تم حفظ كل حركة وسكون فيه.فمثلاً اخترع علم النحو لخدمة القرآن حيث يقال عن نشوء هذا العلم إن أبا الأسود الدؤلي جاء سيدنا عليا الله يشكو إليه مسلمًا حديث العهد بالإسلام كان يلحن في قول الله تعالى إن الله بريء من المشركين ورسوله، حيث يقرأ خطأ: (ورسوله)، وهذا باعث على الخوف من أن المسلمين الجدد قد يجدون صعوبة في فهم القرآن الكريم.وكان سيدنا عليه حينئذ على فرسه يريد الخروج، فأملى – وهو
الجزء الرابع سورة الحجر على هذه الحال – على أبي الأسود بعض القواعد كنموذج وقال: أُنْحُ نَحْوَه..أي ضع القواعد على ذلك المنوال.ومن هنا سُمّي هذا العلم "النحو".وهناك علم التاريخ الذي وضعه المسلمون أيضًا لخدمة القرآن الكريم لأنهم عندما أخذوا في تدوين أخبار الأمم الواردة في القرآن دوّنوا كذلك أحوال الأقوام الأخرى.وهناك علم الحديث الذي بدأه المسلمون ليعرفوا كيف فسر رسولهم ما أنزل عليه من عند الله تعالى.الكريم لتمكنا ثم إنهم قاموا بتجديد علم الفلسفة عند تصدّيهم لمطاعن الفلاسفة في القرآن الكريم.وشقوا في مجال المنطق طريقا جديدا أكثر تطوراً.ثم أبدعوا في تأسيس علم الطب على مبادئ جديدة بتوجيه من القرآن الكريم.ثم إنهم حين أرادوا ذكر الأمثلة والنظائر في النحو استشهدوا بآيات الذكر الحكيم، إذ اعتبروها أروع نموذج للأدب العربي، بل اقتبسوا آياته كنظائر في كل المجالات العلمية؛ وأرى أنه لو جُمعت آياته المقتبسة هنا وهناك في شتى المصادر والمواضيع من جمع القرآن مرة أخرى دون اللجوء إلى أي مصدر آخر.وهناك فائدة أخرى جناها الإسلام من اهتمام المسلمين بتحصيل العلوم المادية في سبيل خدمة القرآن ذلك أنه..بينما أصبح العلماء الماديون من أتباع الأديان الأخرى كارهين لكتبهم الدينية كراهة شديدة لم يبرح أصحاب هذه العلوم من المسلمين متمسكين بالقرآن خادمين له ،دائما لأنهم كانوا يدركون تماما أن القرآن لا يخالف العلوم الحقيقية بل يؤيدها ويدعمها.ومما ساعد على حفظ القرآن الكريم أيضًا أنه بعد نزوله توقفت اللغة العربية الفصحى عن التغير والتبدل.لم تبق في الدنيا لغة من اللغات على ما كانت عليه قبل ۱۳ قرنًا إلا العربية.خذوا الإنجليزية مثلاً..فإن ما كتبه بها جاسر وشيكسبير قبل ٣ قرون فقط غدا اليوم بحاجة إلى الشرح حتى يفهمه القارئ،
۳۱ سورة الحجر الجزء الرابع لأنه قد طرأ على اللغة تغير كبير في هذه الفترة الوجيزة أيضًا.ولكن القارئ لا يحتاج إلى القواميس القديمة لفهم لغة القرآن ما دام يعرف العربية الفصحى.علاوة على هذه الوسائل الظاهرة لحماية نص القرآن فإن هناك تدبيرا آخر لا دخل للملائكة فيه، قد اتخذه الله وعمل للحفاظ على معاني القرآن، ألا وهو الإلهام.ذلك أن الملائكة ليست سببًا للإلهام الإلهي، بل الله تعالى هو الذي يكلّم عباده، وما الملائكة إلا وسيلة لإيصال ذلك الإلهام إلى البشر؛ ولذلك قال الله تعالى: إنا نحن نزلنا الذِّكْر وإنا له لحافظون..أي سوف نحافظ على هذا الوحي في المستقبل بإلهامنا المتجدد من حين لآخر..وذلك ببعث المجددين والمأمورين الذين نوحي إليهم.الواقع أن الكتاب الذي يكون محفوظا في نصه فقط، من دون أن تكون معانيه محمية من الدس ،والتزوير، لا يمكن اعتباره كتابًا محفوظا حقا.فلو افترضنا أن "الفيدا" كتاب الهندوس محفوظ بنصه، فلن يُعتبر مع ذلك محفوظا بشكل تام، لأن اللغة التي نزل بها هذا الكتاب لم تعد محفوظة، وبالتالي أصبحت معانيه مشتبهة كليةً.فما لم يبين أحد المفهوم الصحيح لهذا الكتاب بإلهام إلهي فمن الذي يصدق أنه يبين مفهوما سليمًا، أو يعمل بهذا الكتاب كما أراد الله ذلك.ولا يمكن إزالة هذا العيب من هذه الكتب إلا أن يقيم الله من فترة إلى أخرى أناسا يعودون بالقوم إلى المفهوم الصحيح للكتاب بتلقين منه.ومثل هذه الحماية لم تتيسر بشكل دائم لأي كتاب إلا القرآن الكريم.لا شك أنها كانت ميسرة للأسفار الأخرى أيضًا عندما كانت تتمتع بالحياة.أي كانت صالحة للعمل، أما الآن فلا.واليوم لا يحظى بهذه الحماية إلا القرآن وحده.إنه الكتاب الوحيد الذي لم يزل بين أتباعه في كل عصر أناس أخبروا أنهم قد تلقوا الوحي من مباشرة، وأما هذا الزمن الذي بلغت فيه غفلة الناس عن الدين ذروتها، فقد بعث الله فيه من قام بتطهير تفسير القرآن من الحشو والشوائب كلية، وعرضه على العالم بصورته الأصيلة الغراء مرة أخرى..بحيث إن القرآن الذي كان قد عاد في الله
الجزء الرابع ۳۲ سورة الحجر الأسد.موقف النادم المعتذر أمام العلوم المعاصرة أصبح مرة أخرى في موقف المهاجم البطل..فتفر منه الفلسفات والمذاهب كلها فرار الظباء من فسبحان الله الملك العزيز وها إنني أتحدى بفضل الله تعالى ثم ببركة اتباعي لهذا المبعوث الرباني- أنه إذا طعن أحد من أصحاب العلوم المادية بشتى أنواعها في أي حكم من أحكام القرآن، فإنني سوف أفحمه بأدلة دامغة معقولة ومقنعة، وإن لم يعترف هو بهزيمته على الملأ عنادًا جرّاء حماسه العابر للجدال.هذا ما جربته منذ أكثر من ربع قرن، إذ لم يحدث – بفضل الله وعونه – ولا مرة واحدة أن رأيتُ وجه الندامة ظاهراً أو باطنًا مُذ دخلت هذا المضمار.= من الفساد وبالاختصار فإن الله تعالى لم يجعل العقل وحده سببًا لحماية معاني القرآن الكريم، ولم يترك أمر تفسيره في يد البشر فقط، بل قرر بأن يباشر بنفسه كشف معاني كلامه عن طريق الإلهام وهكذا فإن هذه الثمار التي تؤتى من حين لآخر للعاملين بالقرآن تمثل برهانا ساطعًا على كونه محفوظا من التلاعب والتحريف.ذلك أن الدواء إذا كان نافعًا اعتبرناه دواء ناجعا وإلا فهو فاسد لا جدوى منه.وإذا فإن هذه الثمار القرآنية المتجددة تؤكد أنه لا يزال محفوظا ومتمتعا بالحياة يقينًا.وهذه ميزة لم تتيسر لأي من الأسفار الأخرى سواه.هذا، وكما سبق أن ذكرنا فإن كلمة (الذكر) تعني أيضا الشرف والنصيحة.وقد سُمّي القرآن بالذكر لأنه سيحقق للمؤمنين شرفا وتقوى.إذن فقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ إشارة إلى أننا نحن الذين نضمن تحقيق هذه المزايا في القرآن، لأنها إذا لم تظهر في هذا الوحي فقد ضاع ما فيه من تعليم، ولكننا لن ندعه يضيع هكذا أبدا.كما أن الآية تتضمن نباً عن هلاك الكفار وغلبة المسلمين.ذلك أن القرآن الكريم يحتوي على أحكام تتعلق بمجالات الحياة كلها بما فيها السياسة والاقتصاد والاجتماع، والوحي الذي يشتمل على تشريع جديد لا تتجلى محاسن أحكامه العملية ما لم يكن مصحوبًا بحكومة في أول أمره.ولذلك كانت هناك حاجة إلى
الجزء الرابع ۳۳ سورة الحجر أمة حاكمة تحافظ على هذا "الذكر"، ولم يكن بد من القضاء على الحكومة العربية لتوطيد حكومة جديدة.يظن البعض أن قيام الحكومة الإسلامية كان إحدى المصادفات.وهذا خطأ، لأن النظر إلى الظروف السائدة عندئذ ينفي هذا الظن تماما، ثم بعد الاطلاع على الله هذا النبأ يستحيل على أي إنسان فيه مسكة من العقل أن يعتبر قيامها صدفة.إن القرآن الكريم لم يعلن فقط أن الحكومة العربية ستزول لتحل محلها حكومة المسلمين، بل أعلن أن الحكم سينتقل إلى قوم صفتهم (أولاً) أنهم يتمتعون بتقوى وخشيته، و(ثانيا) سينالون شرفًا عظيمًا حتى يعترف به العالم.لا شك أن ظاهرة زوال حكومة ومجيء غيرها ظاهرة مستمرة دومًا، ولكن السؤال: هل تتوافر الصفات المذكورة أعلاه في كل حكومة جديدة؟ ولكن انظروا كيف زالت الحكومة العربية، بحسب هذا النبأ، وحلت محلها حكومة توفرت فيها هذه الصفات تماما، حتى إن ألد أعداء الإسلام الذين يطعنون فيه ويسبون نبيه تراهم حين يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، يُحنون أعناقهم إجلالاً لهما واعترافا منهم بما تمتعا به من ذكاء وفطنة ونظام وانضباط، وصلاح وتقوى، وتضحية وإيثار.فهل قيام حكومة كهذه يكون صدفة ولا سيما بعد أن أنبأ القرآن عن قيامها؟ لقد صرّح الله جل للكفار قبل قيام مثل هذه الدولة بأمد بعيد: لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون (الأنبياء: (۱۱)..أي فيه ما يحقق لكم الشرف الديني والعز المادي، فلم تعارضونه إذن؟ ولإبراز هذه الصفة القرآنية نفسها سُمّى هذا الوحي بـ (الذكر) أحيانًا، وهنا في الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد أشير أيضًا إلى الأمر نفسه حيث قيل : ما لكم أيها الكفار، تعيرون رسولي بقولكم: إنك مجنون يا مَن نزَل عليه هذا الكلام العظيم الذي سيكون مدعاة شرف للمؤمنين به.فاعلموا أننا نحن الذين أنزلناه عليه، ولا بد أن نحقق له ولمن آمن به وعد الشرف والعزة هذا لأن هذا الوحي شرعي..أي أنه يتضمن من الشرائع
الجزء الرابع ٣٤ سورة الحجر والأحكام الجديدة ما لا يمكن العمل به في بداية الأمر إلا إذا تيسر الحكم للمؤمنين به ونالوا رقيا ماديا مع رقيهم الروحاني، وأما بدون ذلك فلن يتحقق هذا الكلام ولن يبقى محفوظا؛ ولذلك لا بد من القضاء على النظام الحالي وتوطيد نظام آخر يستطيع فيه المسلمون العمل بتعاليم القرآن وبالتالي يحققون المجد والتقوى اللذين وعدوا بهما.وهذا المعنى يصبح أكثر جلاء إذا ما تدبرنا هذه الآية على ضوء قوله قبل بضع آيات (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَة إِلا وَلَهَا كِتَابٌ ل مَعْلُومٌ (الآية : ٥).هناك مسألة لا بد من توضحيها هنا.لقد بينتُ قبل قليل أن وعد الله للمحافظة على الوحي عام يشمل وحي جميع الأنبياء والمرسلين، والآية التالية أيضا تؤيد هذا.والسؤال الذي يفرض نفسه هو : إذا كان هذا صحيحا فهل الأنبياء السابقين أيضًا لا يزال محفوظا حفظًا تاما؟ وإلا فكيف نصدق أن وحي وحي القرآن سوف يبقى محفوظاً إلى الأبد؟ لماذا لا نقول بأنه أيضا سوف يصبح عرضةً للعبث والفساد في وقت من الأوقات كما حدث بوحى الأنبياء الذين خلوا من قبل؟ فالجواب على الجزء الأول من السؤال كامن في كلمات هذه الآية نفسها حيث لم يقل الله تعالى فيها بأنه سيقوم بحماية "القرآن" أو "الكتاب"، وإنما وعد بحماية الذكر.وهذه الكلمة ضيّقت دائرة الشيء الذي سيتم حفظه، إذ بينت أنه تعالى يتكفل بحماية الوحي ما دام "ذكرًا..أي أنه (أولاً): يوطد الصلة بين العبد وربه ويأخذ العبد إلى مرتبة حيث يبقى نشوان بذكر الله تعالى؛ و(ثانيا): ويُبوئ العبد مقامًا بحيث يذكره الله أيضًا..أي يشرفه دائما بوحيه وتأييده ونصرته.فالوحي الذي يبقى حاملا لهذه المواصفات سوف يتولى الله عل حمايته وإلا فيتخلى عن حفظه والبديهي أن أي وحي سيبقى متصفا بهذه الصفات طالما يراه الله صالحا للعمل للعمل به، وحينما يعتبره الله وعمل قاصرًا عن سد حاجات العصر الجديدة سوف يتخلى عن حمايته، ليأتي مكانه بوحي جديد يكون ملائما وملبيا
الجزء الرابع سورة الحجر لحاجات العصر التي لم يستطع الوحي السابق تلبيتها.وحين يصبح أي وحي قاصرًا عن سد الحاجات التي أنزله الله لأجلها لا يبقى أي داع لحفظه، وعندما تُرفع عنه الحماية الإلهية يجد الأشرار الفرصة سانحة للتحريف والعبث به.فالخلاصة أنه لا وجه للاعتراض على تطرق الفساد إلى وحي الأنبياء السابقين، رغم الوعد الإلهي بحفظ وحي كل نبي، لأن القرآن الكريم وضح بكلمة (الذكر) أن وحيهم تمتع بالحماية الإلهية ما دام (ذكرا)، وحين لم يعد (ذكرًا) نُزع.منه وعد الحماية.وكون وحيهم لم يعد (ذكرا) أمر لا غبار عليه، ويمكن لكل واحد منا أن يختبر ذلك في عصرنا هذا على الأقل، إذ ليس ثمة بين سائر الديانات أي ديانة سوى الإسلام تدعي بوجود شخص بين أتباعها يمكن اعتباره دليلا عمليا على كون كتابها الذكر)..أعنى أنه لا يوجد بينهم من يعلن أنه استطاع بالعمل بكتاب دينه أن ينال قرب الله تعالى بحيث إن الله ل يذكره..أي يشرّفه بكلامه ويُري له الخوارق من قدرته فما دامت تلك الكتب قد فقدت عمليا ميزة كونها (الذكر) فلم تعد ثمة حاجة لحمايتها، ولا داعي لعائق سماوي يحول دون وصول أيدي المحرفين إليها.والجزء الثاني من السؤال يقول: كيف نصدّق إذا أن وحي القرآن سوف يبقى محفوظا إلى الأبد؟ لماذا لا نقول بأنه أيضا سوف يصبح عرضة للعبث والفساد في وقت من الأوقات، كما حدث بوحي الأنبياء الذين خلوا من قبل؟ وجوابه هو أن القرآن لا يزال يتمتع إلى يومنا هذا بميزة (الذكر)، إذ بوسع الإنسان اليوم أيضًا أن يصل إلى ربه و عاملا بتعاليم القرآن فبما أنه لا ينفك يلبي الحاجة التي نزل من أجلها لذلك لم يخرج عن الحماية الإلهية، فلا أحد يستطيع أن يتجاسر على العبث والتلاعب به.= أما السؤال: كيف نوقن أنه سيظل يتمتع بهذه الحماية في المستقبل كذلك، فجوابه الأول هو أنه لم يطرأ على القرآن أي تغيير ولا تبديل إلى يومنا هذا؛ وثانيًا هناك أنباء في القرآن تعلن بأنه كلما تغافل المسلمون عن العمل به سوف
الجزء الرابع ٣٦ سورة الحجر يبعث الله و بينهم من يأخذهم مرة أخرى إلى القرآن.فهذا الوعد يجعلنا نوقن بأنه سيظل يسد حاجات كل عصر إلى الأبد، ولن يقبل النسخ أبدًا، وبالتالي سيحظى دائمًا بالحماية الإلهية، إذ لا أحد من الحكماء يسمح بضياع ما ينفعه، والله أحكم الحكماء سبحانه وتعالى.وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعَ الْأَوَّلِينَ شرح الكلمات شيع جمعُ شيعة.شيعة الرجل : أتباعه وأنصاره (الأقرب).وقال الفراء في الأولين: هو من إضافة الشيء إلى صفته (البحر المحيط).أحدا يتبع التفسير : لقد سمى الله تعالى هنا كل جماعة من الناس شيعًا، وفي هذا دحض للذين يقولون إننا أحرار، ولا ننتمي إلى أية طائفة.الحق أنهم ليسوا في الواقع أحرارًا، كما أنهم لا يعتبرون أنفسهم أحراراً ، وإنما يقولون هذا كيدًا ومكرًا حتى يستمروا في الطعن في الآخرين دون أن يعترض عليهم أحد.فالله تعالى يعلن هنا أن هذا ادعاء باطل كلية.لا أحد يكون حراً، بل لا بد لكل إنسان من أن من الناس أو ينتمي إلى طائفة من الطوائف، سواء على صعيد الدين أو التقاليد أو الفلسفة.ذلك أن الإنسان يواجه الكثير من الأمور بحيث يستحيل عليه أن يتحرى عن كل واحد منها، ولذلك لا بد أن يقتنع إلى حد ما بأفكار الآخرين الذين يحسن الظن بهم.يقول علماء النفس إن التقليد هو أبرز سمة في النفس البشرية، وهذا ما يؤكده الله بقوله ولقد أرسلنا قبلك في شيع الأولين..أي لقد بعثنا الرسل من قبلك في شتى المجموعات البشرية التي متحدة بسبب من الأسباب.من كانت أما علاقة هذه الآية بما قبلها فهي أن الله تعالى قد أوضح أن الله تعالى قد أوضح هنا أنه بعث الرسل في الذين خلوا من قبل، وأنه حافظ على تعاليمهم أيضًا، كذلك سوف يقوم
الجزء الرابع ۳۷ سورة الحجر بحماية تعليم هذا الرسول.مع العلم أن هذه الحماية تكون نصا وروحا، وتتم في عصر الأنبياء المشرعين - بالإضافة إلى أسباب أخرى - حيث يمنح الله تعالى أتباعهم الحكم في عهدهم، فيبينون المفهوم الحقيقي لشرائعهم بتطبيقهم إياها بأنفسهم.أما الأنبياء غير المشرعين فيهب الله لأتباعهم أيضًا الغلبة لكي ترى الدنيا الثمار العملية لتعاليمهم، ولكن ليس من الضروري أن ينالوا الحكم على الفور.الغريب أن معارضي الأنبياء يرفضون دائمًا العمل بهذا الطريق السهل الذي لا بد أن يساعدهم على معرفة الحق بشكل يقيني وهو أن يقيسوا دعوى المدعي على منهاج النبوة، أي على أحوال الأنبياء السابقين.ولو أنهم قاسوا دعواه بهذا الطريق لعرفوا صدقه أو كذبه على الفور.ولكن المؤسف أن هذا هو ما يُعرضون عنه دوما، مما يدل على أنهم لا يبحثون عن الحق، وإنما يريدون خلط الأمور هروبا من قبول الحق.وَمَا يَأْتِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) : ۱۲ التفسير الاستهزاء هو الضحك على أحد بغية التحقير.ولهذه الآية علاقة بقولهم الساخر يا أيها الذي نُزِّلَ عليه الذكر حيث تعالى الكفار هنا أن سخريتهم بهذا النبي ليست ببدعة جديدة، بل إن الأنبياء الذين يؤمنون بهم تعرضوا لسخرية القوم أيضاً.نبه الله كما أخبر الله الله هنا أنه يعد كل نبي بحماية وحيه وتعليمه، وهذا ما يثير العجب لدى الكفار إذ يقولون : كيف يمكن أن يُكتب لتعليمه البقاء بالرغم من معارضتنا إياه؟ إنه لغريب حقا أنه ما من رسول إلا وقد استهزئ به، ومع ذلك كلما يُبعث نبي جديد يقول الناس: لم لم يُعط هذا العظمة والقوة بشكل غير عادي.تُرى لو
الجزء الرابع ۳۸ سورة الحجر أن الرسل السابقين قد بعثوا بعظمة وقوة كيف كان ممكنا للناس أن يجعلوهم عرضة للاستهزاء والسخرية؟ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) شرح الكلمات : و نسلكه : سلك المكان سَلْكًا وسلوكًا دخل فيه.سلك الطريق أي دخله وسار فيه متبعا إياه، فهو سالك.سلك الشيء في الشيء: أدخله فيه كما تُسلك اليد في الجيب والخيط في الإبرة، وفي القرآن سلكناه في قلوب المجرمين.سلك فلانًا المكان: أدخله (الأقرب).المجرمين: جرم يجرُم جَرْمًا: قطع، ومنه: جرَم النخلَ جَرْمًا إذا صرَمه.جرم زيدٌ: أذنب.جرم على قومه وإليهم جنى جناية.جرَم لأهله : كسب، ومنه في القرآن لا يجر منكم شَنَآنُ قوم على ألا تعدلوا أي لا يكسبتكم، وفُسّر أيضا بـ لا يحملتكم.أجرمَ : أذنب ؛ عظم جرمه.أجرم عليهم: جنى (الأقرب).لقد تبين من كل هذه الأمثلة أن المعنى الأصلي للجرم هو القطع.فبما أن الذنب يقطع صلة الإنسان عن الله تعالى وعن الناس، فلذلك يسمى في الشرع الإسلامي بالجرم.وليس الذنب إلا ما يقطع صلة مرتكبه عن الله أو يفسد ما بينه وبين الأناس الآخرين.فالمجرم هو من صار مقطوع الصلة عن الله وعن الناس.التفسير : هناك اختلاف بين المفسرين في تعيين مرجع ضمير الغائب في قوله تعالى نسلكه؛ فأرجعه بعضهم إلى عدم إيمانهم المذكور في الآية التالية، بينما قال البعض الآخر إنه يعود إلى عادة الاستهزاء (مجمع البيان).وأرى أن الرأي الثاني هو الصواب.
الجزء الرابع ۳۹ سورة الحجر وبقوله تعالى كذلك نَسلكه في قلوب المجرمين نبه إلى أن الإنسان عندما يرتكب سيئة تقل كراهيته تجاه السيئات بالتدريج، وتزداد رغبته في الآثام حتى يصبح قلبه مشغوفًا بها.تؤكد هذه الآية أن الله تعالى لا يجبر أحدًا على الإثم، وإنما يرتب النتائج الطبيعية على جريمته، وليس الله مسئولاً عن الإثم، بل الآثم نفسه.صلے لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَولِينَ ) شرح الكلمات سنة: السنة: السيرة؛ الطريقة؛ الطبيعة (الأقرب).التفسير: أي أن عادة الاستهزاء تؤدي إلى قسوة القلب، وبالتالي يُحرم المستهزئ من الإيمان رغم رؤية الآيات الواضحة ومعرفة البراهين القطعية.هذا ما حدث بالأمم الغابرة، وهذا ما سيحدث مع هؤلاء أيضا.تُرى من الذي نال الهدى بالاستهزاء حتى يهتدي هؤلاء المستهزئون؟ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكْرَتْ أَبْصَرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) شرح الكلمات: ١٦ يعرجون: عرج الرجلُ في الدرجة والسُّلّم يعرج عروجًا: ارتقى.وعُرج به: صعد به (الأقرب).سكرت: سكر الإناء يسكُر سَكرًا : ملأه.سكرت الريح: سكنت بعد الهبوب.سكرت عينه: تحيرت وسكنت عن النظر.وسكر الباب: سده.وسكرت أبصارنا أي حبست وحيرت (الأقرب).
الجزء الرابع ٤٠ سورة الحجر أبصارنا : البصر : حاسة الرؤية؛ العين؛ العلم (الأقرب) تَبَاعَدَ.مسحورون: سحره يسحر سحرًا عمل له السحر وخدعه.وسحر عنه: فلانا عن الأمر صرفه وسحره بكلامه وألحاظه: استماله وسلب وسحر لبه.وسحر المطر الطين والتراب سحرًا: أفسده فلم يصلح للعمل.المسحور أيضا المفسد من الطعام والمكان لكثرة المطر أو من قلة الكلأ (الأقرب).من التفسير: لقد طالب الكفار من قبل: لوما تأتينا بالملائكة إن كنتَ الصادقين..أي إذا لم يكن محمد ﷺ مجنونا وإذا لم يكن نزول الملائكة وهما منه..فلنرها نازلةً عليه.فكان ردُّ الله عليهم : (أولاً) إن الملائكة إنما تنزل على الإنسان بحسب ما يستحقه من رحمة أو عذاب، وما دمتم تستوجبون العذاب فلن تنزل عليكم إلا ملائكة العذاب الذي يدمركم؛ فكيف تنتفعون إذا من نزولها بعد الهلاك.و(ثانيا): إذا كنتم تتعجبون من نزول الملائكة عليه، فاعلموا أننا سوف نأتي بأنفسنا لحماية الوحي النازل عليه، لأننا نحن الذين أنزلناه عليه، ونحن أول المسؤولين عن حفظه وحمايته.وما دمنا قد قمنا بهذه المسئولية في زمن الأنبياء السابقين فما الذي يمنعنا الآن من القيام بها.وثالثا): ليس استهزاؤكم بالأمر الغريب، إذ لم يزل معارضو جميع الرسل السابقين يستهزئون بهم، حتى صار الاستهزاء بمثابة غذاء لهم يتلذذون به وهم غافلون حتى حُرموا من الإيمان.وهذا هو المصير الذي ينتظركم أيضًا.ويرد الله وعل هنا على هؤلاء المعترضين بأسلوب آخر فيقول: هل تعتقدون أن كل إنسان قادر على فهم الأمور كلها؟ كلا، بل إنه ما لم يكن الشيء ملائما لمزاج الإنسان ولمستوى كفاءاته فلن يستطيع إدراكه.وهناك بون شاسع بينكم وبين العلوم الإلهية الروحانية بحيث لو أُريتم ما يراه محمد من يراه محمد من تجليات ومشاهد، وحتى لو عُرج بكم إلى المدارج الروحانية العليا..فلن تصدقوها، بل ستقولون: إنما هو سحر قد سُحرت به عيوننا، ولذلك نرى هذه المشاهد العجيبة الغريبة.
الجزء الرابع سورة الحجر السماء؟ ونظرا إلى هذا المعنى فإن فتح باب من السماء يعني هنا الكشوف الروحانية، بينما يعني العروج في السماء الاطلاع على بعض المدارج الروحانية.ولو قيل: كيف يمكن أن يُحرم من الإيمان مَن يُفتح عليه باب من فالجواب هو أن قوله تعالى بابا من السماء ينطوي على إشارة إلى أن مثل هذا الشخص لا يُمنح العلوم السماوية بشكل كامل، ولا تنكشف عليه طرق المعرفة الكاملة، بل يُعرض عليه – بسبب إنكاره - شيء منها كنموذج وعينة فحسب؛ – والبديهي أن الإنسان لا يستفيد من المثال والعينة فقط ما لم يكن في قلبه رغبة صادقة للانتفاع به.فما يراه هؤلاء المكابرون سيُقيم الحجة عليهم فحسب، ولن يؤدي إلى إيمانهم.إنه من الحقائق الثابتة أن العديد من منكري الرسل يشترطون لإيمانهم رؤية آية من الآيات كرؤيا أو إلهام وغيرهما، ولكن حين يرونها يتهربون بشتى الأعذار.فتارةً يؤوّلونها تأويلاً خاطئًا، وتارة أخرى يقولون: ما قيمة الرؤيا والإلهام، إن إلا أوهام وهكذا فلا ينتفعون من الآيات وليس ذلك إلا لأن قلوبهم خالية من خشية الله تعالى.وإلى هذه الحالة القلبية الفاسدة تشير الآية التي نحن بصدد تفسيرها محذرةً أنه لا بد للإيمان من إصلاح القلب وصدق النية، إذ لا يوفّق للإيمان إلا من كان قلبه عامرا بخشية الله، أما بدون ذلك فيلوذ بشتى الأعذار الواهية خداعا لنفسه، ويبقى محروما من الإيمان، ولو رأى آلافا من الملائكة.وقد تعني الآية أنه عندما ينزل عليهم العذاب تتولد فيهم الخشية، فيقولون: لو زال عنا العذاب لآمنا، وعندما يزول عنهم يعودون لسيرتهم الأولى؛ وذلك كما فعل فرعون بحسب بيان القرآن الكريم.ونظرا إلى هذا المعنى فالمراد من قوله تعالى: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء هو فتح باب الرحمة ورفع العذاب وتأجيله، وسيعني قوله لظلوا فيه يعرجون انهماكهم مرة أخرى في جلب المتع المادية فقط.ومما يؤيد هذا المعنى هو الحديث عن العذاب فيما سبق في قوله تعالى وما كانوا إذا منظرين) (الآية) (۹) فالمراد من الآية التي نحن بصدد تفسيرها هو
الجزء الرابع ٤٢ سورة الحجر أن قلوبكم قد تحجرت لدرجة أنكم ستتندمون عند حلول العذاب، ولكن حين يزول عنكم ستعودون إلى الكفر والإنكار ثانية.وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّهَا لِلنَّاظِرِينَ ۱۷ وَحَظْنَهَا مِن كُلِّ شَيْطَنٍ رَّحِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ شرح الكلمات ۱۹ ۱۸ استرق افتعال من سرقه ومنه الشيء: أخذه خفية مِن حِرْز.والسرقة أخذُ الشيء في خفاء وحيلة.واسترق السمع: استمع مستخفيًا.واسترق الكاتب بعض المحاسبة: لم يُبرزه.(الأقرب) السمع: سمع الصوت يسمع سمعًا: أدركه بحاسة الأذن.السمع: حس الأذن؛ ما ولج فيها من شيء تسمع؛ الذكر المسموع.ويكون للواحد والجمع، لأنه في ایک الأصل مصدر فيحتمل القلة والكثرة بلفظ واحد، وجمعه أسماع (الأقرب).السمع: قوة في الأذن به يُدرك الأصوات، وفعله يقال له السمعُ أيضًا.ويعبر تارةً بالسمع عن الأذن نحو: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وتارةً عن فعله كالسَّماع نحو: إنهم عن السمع لمعزولون، وتارةً عن الفهم كقولهم: لم تسمع ما قلت، وتارةً عن الطاعة (المفردات).أَتبعه: تبع الشيء: سار في أثره.وتبعه مشى خلفه، أو مر به فمضى معه.وأتبعه: تبعه وذلك إذا كان سبقه فلحقه (الأقرب).شهاب: شعلة من نار ساطعة، أو كل مضيء متولد من النار؛ ما يُرى كأنه كوكب انقض؛ وقد يُطلق على الكوكب أو الدراري من الكواكب لشدة
الجزء الرابع ٤٣ سورة الحجر لمعانها.ويقال إن فلانا شهاب حرب، إذا كان ماضيًا فيها.وتُطلق الشهب على ثلاث ليال من الشهر وهي الليالي البيض (الأقرب).فالشهاب يُطلق مجازا على الأشياء المضيئة، وكذلك على الناس النشيطين الماضين في الأعمال.وجاء في المفردات: الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، ومن العارض في الجو.التفسير : البروج التي مفردها برج تعني - كما ورد في القواميس - منازل النجوم أي المدارات التي تتحرك فيها هذه الأجرام.كما تعني أيضا القصور والقلاع.ولكن بعض المفسرين بما فيهم قتادة قالوا أن "البروج" هنا بمعنى الكواكب البحر المحيط، الدر المنثور، وابن كثير).وقد أيد الإمام اللغوي الزجاج هذا الرأي (تاج العروس).ودليل المفسرين هو قول الله تعالى في مكان آخر: إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (الصافات: ٧).ولكن استدلالهم هذا من قوله تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ليس مما يمكن الجزم به، إذ قد يكون قوله تعالى وزيناها للناظرين حول موضوع آخر، وهو أننا قد جعلنا في السماء منازل كما جعلنا فيها النجوم التي تتحرك في هذه المنازل والتي تتسبب في زينة السماء فما دمنا لا نستطيع الجزم بأن البروج هي سبب الزينة، فليس هناك ما يدفع إلى أخذ البروج بمعنى الكواكب.على أية حال، فسواء أخذوا البروج بمعناها المتعارف وهو منازل النجوم أم بمعنى النجوم نفسها فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هي العلاقة بين حماية القرآن أو الأسفار السابقة وبين حفظ السماوات، ولماذا أردف الله موضوع حفظ الوحي بذكر حفظ السماء؟
الجزء الرابع ٤٤ سورة الحجر إن آراء المفسرين في هذا الشأن متضاربة، وبعضها لا يخرج عن كونه قصصاً وأساطير لا يقوم عليها دليل، ولا علاقة لها مطلقًا بكلام الله تعالى.وسوف أعلق عليها وعلى الروايات الأخرى الواردة في هذا الصدد بعد قليل، أما الآن فأود بيان ما فهمته من هذه الآيات في ضوء السياق القرآني.نعرف من دراسة القرآن الكريم أنه يؤكد بكل قوة وجود مماثلة كبيرة بين النظام المادي البادي لأنظارنا وبين النظام الروحاني، ولذلك لا ينفك يسوق أمثلة من العالم المادي لشرح العالم الروحاني.فتارة يشبه الوحي بالماء لبيان التشابه بين تأثيراتهما، وتارةً أخرى يتحدث عما يوجد بين السماء والأرض من صلات ليسلّط الضوء على العلاقة الموجودة بين الجسم والروح، وحينًا يستدل بالعلاقة الموجودة بين الضوء والعين على أن الحق وحده لا ينفع أحدًا بدون أن يستغل القدرات الكامنة في النفس البشرية وبالاختصار..فإن القرآن ينبهنا مرة بعد أخرى لتلقي الدروس الروحانية من ظواهر العالم المادي.وفي هذه الآية أيضًا يلفت أنظارنا إلى مماثلة كهذه.إن أهل الأرض يرون فوق رؤوسهم سماء فيها الكواكب التي تعمل بحسب نظام المواعيد والمنازل المحددة لها.وليس هنا من قوة تستطيع تبديل هذا النظام، لأن الله ل قد تولى حفظه.وقد ضُرب مثال نظام السماء المادية هذا في القرآن مرة بعد أخرى تدليلا على نظام السماء الروحانية وأرى أن هذه الآية أيضا تشير إلى الأمر نفسه..حيث يوضح الله تعالى أن نظام السماء الروحانية قائم على أسس متينة شأن نظام السماء المادية، كما أنه مقسوم مثله إلى عدة طبقات، وأن الطبقات العليا من السماء الروحانية محفوظة بطبيعة الحال من وصول أيدي العابثين إليها، وأما الطبقة الدنيا منها فهناك احتمال للعبث بها، فحفظناها بتزيينها بالنجوم.أي كما أن الطبقة الدنيا من السماء المادية عبارة عن نظام وعن أجرام تابعة له وحامية له..كذلك الحال بالنسبة للطبقة الدنيا من السماء الروحانية..فإنها أيضًا عبارة عن نظام وعدة نجوم تابعة له وحامية له.وكما أن السماء المادية
الجزء الرابع قائمة ٤٥ سورة الحجر بسبب النجوم المادية..كذلك فإن السماء الروحانية قائمة بسبب النجوم الروحانية، بل وكما أن السماء المادية الدنيا لا تعني إلا مجموعة نجوم وهي التي تزينها..كذلك فإن السماء الروحانية الدنيا لا تعني إلا مجموعة نجوم روحانية وهي التي تزينها ثم كما أن النجوم المادية وسيلة لحماية السماء المادية الدنيا، إذ جزء منها وفسادها يعني فساد نظام تلك السماء..كذلك فإن النجوم الروحانية سبب لحماية السماء الروحانية الدنيا، وفسادها يعني فساد تلك السماء، ولذلك حين ينوي أحد أن يفسد فيها فإن الله تعالى يرجمه بالأحجار والنار..كما تشير إلى ذلك كلمتا (رجيم) و(شهاب).هي وقد استعمل القرآن الكريم النار والأحجار بمعنى العذاب السماوي بكثرة، فقال فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدّت للكافرين) (البقرة: ٢٥)..أي أن السبب الروحاني لإشعال تلك النار هم الآثمون من الناس، وأما السبب المادي لها فهي الأحجار المادية من صنم ووثن كذلك عبّر هنا عن عذاب هؤلاء المفسدين في السماء الروحانية بكلمتي رجيم) و (شهاب).والآن أسوق الأدلة على أن القرآن الكريم قد شبه العالم المادي بالعالم الروحاني.يقول الله وعمل يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرا ونذيرا * وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا (الأحزاب: ٤٦-٤٧)..ومعنى السراج المنير هو الشمس المشرقة.وكما هو بين من الآيات الأخرى فإن النبي ﷺ هو بمثابة المركز لنظام النبوة شأن الشمس التي تُعتبر مركزا لنظامنا الشمسي.فقد نبه الله ولا بتسمية النبي بالشمس إلى وجود نجوم وأقمار أخرى تدور حوله في السماء الروحانية، وهذه النجوم والأقمار هم الأنبياء والرسل الآخرون الذين كانت نبواتهم إرهاصا وتمهيدًا لبعثه ، والذين يطوفون حول الشمس المحمدية.وكما أن النبي كان بمثابة شمس في السماء الروحانية الكونية نجومها الأنبياء الآخرون، كذلك كان الله شمس سماء أخرى هي أصغر من الأولى، وكان النجوم فيها، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: "أصحابي صحابته هم
الجزء الرابع ٤٦ سورة الحجر كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (المشكاة: الآداب، باب مناقب الصحابة).أي أن أصحابي هم بمنزلة النجوم حول الشمس، وكما أن النجوم تهدي الناس ما دامت مرتبطة بنظامها كذلك فإن أصحابي الذين سيظلون مرتبطين بنظامي سيعملون لكم عمل الشمسي، النجوم، وستهتدون باتباع أي واحد منهم، رغم الاختلاف الهامشي فيما بينهم.ومما يؤكد أن النظام الروحاني قد شبّه في لغة الوحي بالنظام الشمسي ما رآه سيدنا يوسف الله في رؤياه حيث جاء إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيتُ أَحَدَ عَشَرَ كوكبًا والشمس والقمر رأيتُهم لي ساجدين (يوسف:٥).ثم ذكر القرآن تعبير هذه الرؤيا كالآتي: ورفع أبويه على العرش وخَرُّوا له سُجَّدًا وقال يا أَبَت هذا تأويلُ رُؤياي تأويلُ رُؤياي من قبلُ قد جعلها ربي حقا وقد أَحسَنَ بي إذ أَخَرَجَني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزَغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم (يوسف:١٠١).هذه الرؤيا، مع تعبيرها الذي بينه القرآن، توضح جليا أن النظام العائلي أو الديني يشبه بالنظام الشمسي في لغة الوحي.وهذا هو المراد عندي من الآية التي هي قيد التفسير.بعد هذا الكلام التمهيدي أقول: حين أكد الله و حمايته لما أنزله على رسوله من الوحي، أتبعه بتمثيل النظام الشمسي..ليبين لنا كيف ستتم حمايته.فقال: كما ترون هناك في العالم المادي سماء أي مجموعة من النجوم..كذلك توجد في العالم الروحاني مجموعة من النجوم وهي الأنبياء.وكما أن النجم يشكل في حد ذاته زينة للسماء المادية، وسببًا لحمايتها عبر قانون الجاذبية وغيره من النواميس التي لم يطلع عليها البشر بعد..كذلك فإن كل نبي هو زينة للسماء الروحانية وسبب لحمايتها.فما من نبي إلا وقد جاء عند الحاجة، وفي الموعد المناسب، وبغاية معينة ما كانت لتتحقق إلا بمجيئه؛ وقد ساهم في حماية السماء الروحانية، عاملاً على نشر كلام الله تعالى، وموضحًا بشخصه وبأتباعه حقيقة وفضله وتأثيره، وهَزَمَ أعوان الشيطان الذين أرادوا أن يفسدوا كلام الوحي وأذلهم وأخزاهم؛ وكأنه سقط عليهم كالنار والأحجار.الله
الجزء الرابع ٤٧ سورة الحجر هذا، وقد أخبر الله تعالى في هذه الآية أيضًا أنه مما لا شك فيه أن الشياطين أي أهل السوء..يملكون في العالم المادي بعض التصرف والسلطة في الأرض، ولكن لا سلطة لهم في السماء؛ فتجدونهم في الأرض يفسدون ويظلمون أهلها ويستولون على نعمها وخيراتها، بيد أنهم لا يقدرون على حرمان الناس من النعم التي تنزل من السماء من هواء وضوء وتأثير للأجرام، كما لا سلطة لهم في السماء ولا تصرف لهم في شمسها وقمرها ونجومها.كذلك الحال في العالم الروحاني، إذ لا سلطة ولا تأثير للشياطين على الأنبياء وأتباعهم الكاملين، وهذا ما أكده الله جل في موضع آخر في هذه السورة نفسها بقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (الحجر: (٤٣ كما أنه من المستحيل أن يتصرفوا فيما ينزل من السماء الروحانية من بركات كالوحي والآيات والمعجزات، بل يصون الله على السماء الروحانية أي الأنبياء وتأثيراتهم من تدخل الشياطين كليةً.وكأن هذه الآية شرح لقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.الغريب أنه - بالرغم من هذه الآية القرآنية الصريحة - لا زال بين المسلمين من يعتقد أنه لم ينج أ.أحد من مس الشيطان إلا عيسى وأمه مريم! (القرطبي، تحت الآية: وإني أعيذها بك وذريتها...)؛ مع أن الله تعالى يعلن هنا حماية السماء الروحانية التي تشمل جميع الأنبياء والرسل من آدم إلى رسولنا الكريم – عليهم السلام - وأتباعهم الكاملين.وهي أيضًا وتقول الآية التالية: إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين..تؤكد أن الله تعالى إنما يتحدث هنا عن السماء والنظام الشمسي على سبيل التمثيل لا على وجه الحقيقة، إذ لا علاقة بين السماء المادية وبين استماع الكلام سرًّا وخفيةً كما لا وجه لورود كلمة الشهاب هنا موصوفة بصفة (مبين)، لو كان المقصود شهابا ماديا، لأن الشهاب لغةً: "هو شعلة من نار ساطعة؛ أو كلّ مضيء متولد من النار وما يُرى كأنه كوكب انقض".ووصف هذين الشيئين بصفة المبين هنا غير مستساغ وفي غير محله لو أخذنا الكلام على ظاهره.
الجزء الرابع ΕΛ سورة الحجر ولكن لو اعتبرنا (السماء) سماء روحانية وأخذنا (الشهاب) بمعنى النبي الذي يأتي مؤيداً من السماء بالآيات البيئة، ويكشف زيف الذين يريدون العبث بكلام الله تعالى..لوجدنا صفة (مبين ملائمة جدًّا في هذا السياق، لأن الشهاب المبين يعني عندئذ الآية البينة، وسيكون مفهوم هذه الآية أن الوحي الإلهي يكون مصونًا ومحفوظًا تماما ما دام في السماء أو حينما ينزل على أجرام السماء الروحانية..أي الأنبياء..ولكن بعد أن ينزل إلى السماء الدنيا ويُعرض على البشر، ويخرج من غطاء الغيب إلى حيز الحاضر المشهود، ويصير وعًا تتناقله ألسنة الناس..فإن الشياطين أي أعداء الأنبياء يسرقونه..بمعنى أنهم يتلقونه بغير حق أي يأخذونه مأخذاً غير حقيقي ويحرفونه، فعندئذ ينزل عليهم العذاب بواسطة الأنبياء عقابًا على جريمتهم، أو أن الأنبياء وأتباعهم يكشفون زيف هؤلاء أمام الدنيا بتوضيح المراد الحقيقي من الوحي، فيقعون في عذاب مهين حينما يفضحهم نور الحقيقة ويهتك سترهم.كلامًا مسموع فالمراد من سرقة الكلام هنا أن هؤلاء يأخذون وحي الله بغير حق شأن السارق الذي يأخذ مال غيره بدون حق..بمعنى أنهم لا يتلقونه بقصد فهمه والإيمان به، بل ليسيئوا استخدامه، ويحرفوه ليصدّوا الناس عن الحق.ومن معاني سرقة الوحي أيضًا أن المعارضين يختارون بعض تعاليم الأنبياء ويعزونها إلى أنفسهم إيهاما للناس أنهم أيضًا قادرون على الإتيان بمثل تلك المعارف والعلوم، بل إنهم يتهمون الأنبياء أنهم هم الذين قاموا بسرقة تعاليمهم مع هم.ولكن كما أن الثوب المسروق يُعرف على الفور إذ لا ينسجم تماما جسم السارق..كذلك فإن ما يسرقونه من تعاليم الأنبياء لا يتفق مع معتقداتهم الأخرى الخاطئة، وحينما يكشف الأنبياء وأتباعهم حقيقة الأمر يُفتضح هؤلاء أمام الناس.ولطالما تعرضت تعاليم الأنبياء إلى السرقة بنوعيها المذكورين أعلاه.فانتقى الناس أفضل تعاليم الأنبياء وحاولوا تقديمها إلى الدنيا على أنها من عندهم،
الجزء الرابع ساعين الحط من ٤٩ سورة الحجر شأن الأنبياء وعظمتهم.وكان تعليم الرسول الكريم أكثر عرضةً لهذه الحملة الشعواء من تعاليم الأنبياء الآخرين.فكم من مرة يحاول الكتاب المسيحيون والآريون الهندوس عرض تعاليم القرآن على الناس بصورة مبتورة ليثبتوا أنها مسروقة من كتبهم السماوية ولكنهم يرون خيبة الآمال ويُفتضحون حينما نكشف لهم النور الذي أتى به نبينا الكريم ، وتثبت لهم أن ما يعترضون عليه هو حلقة من سلسلة طويلة من المعارف القرآنية الواسعة الكثيرة التي لم تخطر لهم على بال حتى في الحلم.وكان صاحب "ينابيع الإسلام" المسيحي أحد هؤلاء المهاجمين الشرسين إذ اختطف بكل جسارة ووقاحة كثيرًا من المعارف القرآنية، لكي يُثبت للناس أنها مسروقة من كتب الديانات السابقة.والحق أن تلك المعارف أخذت مبتورةً عن السياق، وكانت جزءاً من كل لا يمكن أن يتجزأ، وحلقات منسلكة في سلسلة لا يمكن فكها منها وتركيبها في شيء آخر.ومن أراد التأكد من قولي فليرجع إلى تفسيري لسورة "الفاتحة" حيث فصلتُ معارف البسملة التي يزعم صاحب ينابيع الإسلام" أنها مسروقة من الكتب الزرادشتية.(انظر ينابيع الإسلام الفصل الخامس ص ٢١٩) والنوع الثاني من سرقة الوحي، كما بينت من قبل، هو أن المعارضين يختطفون منه أجزاء مبتورة عن السياق ليعرضوها على الدنيا بمفهوم محرَّف معاكس للمراد تماما..وقد تعرض له أيضًا وحي سائر الأنبياء.فما من نبي إلا وعرض الأعداء وحيه على الناس بصورة مشوهة محرفة ليثيروا مشاعر القوم ضده.يختطفون وحيه كاللصوص وينشرونه بين الناس بمفهوم محرف فاسد، إلى أن يأتي الله عل لنصرة نبيه بالآيات البيئة والمعجزات الخارقة فيبطل مطاعن المعترضين بالبراهين الساطعة، ومن جهة أخرى يؤيد رسوله بالآيات الدالة على قدرته وقهره، فيُهلك الأعداء ويحمي كلامه.وعل.وأحيانًا ينحرف أتباع النبي أنفسهم عن دينه وتسودهم اللادينية، فيفسدون الدين الأصلي..حيث يحرّفون معاني ما نزل على نبيهم من كلام الله تعالى،
الجزء الرابع سورة ا ويُخفون محاسنه تحت غبار التفاسير الخاطئة.وحينئذ ينزل أحد من أتباع النبي كـ"شهاب ثاقب" أو "شهاب مبين" من السماء الروحانية مشرفًا بالوحي ومؤيدا بالآيات البينات، لكي يُهلك هؤلاء الشياطين، ويعيد الأمور إلى نصابها؛ فيعود بالوحي السابق إلى مقامه الأصلي؛ وهكذا يحمي الله ل كلامه الذي في ذلك أصبح عرضةً للضياع والتحريف، ويكشف للدنيا مفاهيمه الحقيقية ثانيةً.يتضح مما سبق بيانه أن المراد من النجوم في هذه الآيات هم الأنبياء، وأن الشهاب المبين أو الشهاب الثاقب هو نبي العصر الذي يقع فيه التحريف.ذلك أن كل نبي نجم روحاني لا يزال يتسبب في زينة السماء الروحانية، ولكن لا يبقى كل نبي بعد وفاته شهابًا، أي سببًا في هلاك الشياطين الذين يعيثون فسادًا في حديقة الدين، وإنما يقوم بهذا الواجب النبيُّ الموجود في عصر التحريف، أو النبيُّ الذي لا تزال نبوته بعد وفاته حيةً جاريةً وشريعته سارية صالحة للعمل، فلو بعث أمته ني آخر تابع له عند تطرق الفساد إلى تعاليمه فإنه يبقى مع شهابًا " ، لأن قوته القدسية لا تبرح عاملة عبر النبي التابع له.وبناء على هذا الشرح فإن موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء السابقين – عليهم السلام – لا يزالون نجوم السماء الروحانية ولكنهم ليسوا الآن شُهُبا، لأن الله تعالى لا يستخدمهم اليوم لإهلاك الشياطين، غير أن محمدا رسول الله ﷺ لا يزال شهابًا، لأن أظلاله ونوابه من أتباعه سوف يستمرون في إسداء هذه الخدمة تجاه القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.فخلاصة القول: إن هذه الآيات شرح وتفصيل لقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون..حيث فصل الله فيها كيف إنه يقوم بحماية كل وحي أن يسمى "الذكر " حماية ظاهرةً وباطنةً، في حياة النبي وبعد وفاته، وأنه تعالى سوف يحفظ القرآن الكريم بهذه الوسائل كلها وكأن هذه الآيات تشترك في المعنى مع قوله تعالى في سورة الحج وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا ني إلا إذا تمنَّى ألقَى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِه فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ ثم يُحكمُ الله يستحق و
الجزء الرابع سورة الحجر آياته والله عليم حكيم الآية: (٥٣)..أي أنه ما من نبي ورسول إلا إذا قرأ على مسامع الناس وحي الله تعالى دسّ الشيطان في هذا الوحي شيئًا من عنده، وبدأ بنشر هذه المفاهيم المدسوسة الخاطئة بين القوم، ولكن الله تعالى يقوم بمحو ما يضيفه الشيطان حماية لكلامه الخالص النقي..أي لا شك أن ذوي الطبائع الشيطانية من البشر يحاولون تضليل الناس بتحريف وحي الله النازل على رسوله، ولكن الله تعالى يكشف صدق الوحي في آخر المطاف، ليجعل هؤلاء الماكرين خائبين خاسرين.واعلم أن هناك شَبَها كبيرًا بين آيات سورة الحجر التي نحن بصدد تفسيرها وبين هذه الآية المذكورة أعلاه من سورة الحج.فقد ذكر هنا أيضًا أن الله تعالى يحفظ السماء الروحانية، تماما كما ذُكر في سورة الحج أن الله تعالى يقوم بحماية وحيه.وقد أخبر الله هنا أن الشياطين يسعون للتدخل في السماء، تماما كما أخبر هناك أنهم يحاولون التدخل في كلام الله تعالى.وأكد أيضًا أنه لا يهلك الذين يريدون العبث بالسماء، كذلك أكد هناك أنه تعالى يمحو كل أثر قد يتركه المتلاعبون بكلامه عل.فاتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن الموضوع في الآيتين واحد.وحينما نجد أن موضوع تزيين السماء وحفظها ذكر دوما عقب الحديث عن الوحي الإلهي فلا يبقى من شك أن المقصود هنا إنما هو السماء الروحانية وحفظها، لا السماء المادية، وأن الأخيرة قد ذُكرت على سبيل التمثيل والمجاز فقط.أنه وتوضح هذه الآيات أن علامة الوحي "الذكر "..أي الذي يتم حفظه..هي كلما حاول أحد التلاعب به نزل "الشهاب" لحفظه من التحريف.فالوحى الذي لا ينزل "الشهاب" لحفظه لم يعد الآن على درجة "الذكر" وبالتالي لم يبق كلاما محفوظاً.ولنتذكر أن (الشهاب) معناه : (۱) شعلة من نار ساطعة، (٢) كل مضيء متولد من النار وما يُرى كأنه كوكب منقض، (۳) وقد يطلق على الكوكب.
الجزء الرابع الوحي ٥٢ سورة الحجر وقد ورد لفظ "الشهاب" هنا بمعنى الكوكب، لأن الله تعالى قد صرح بذلك في موضع آخر بقوله إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظًا من كلِّ شيطان مارد (الصافات: ۷ و ۸؛ وأيضا بقوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعَلْناها رُجُومًا للشياطين...الملك: ٦)..أي أنه تعالى جعل "المصابيح"، أي النجوم في السماء القريبة، وسيلة لرجم الشياطين.فثبت أن الشهاب يعني النجوم.فالمراد من إطلاق النجوم وراء الشياطين هو أنه طالما بقي متمتعا بالحياة وموصوفا بصفة (الذكر) حفظه الله تعالى بإرسال الشهب أي النجوم..أو بتعبير آخر..ببعث المأمورين.وفي الآية التي نحن بصدد تفسيرها قد قطع الله جل وعدًا خاصا بحماية الوحي القرآني بهذه الوسيلة.والحق أنه ليس هناك من وسيلة لحفظ الوحي أقوى منها، لأن المأمورين لا يذودون عن بيضة الشريعة الحقة ولا يردّون هجمات الشياطين بالآيات البينات فحسب، بل من خلال شرحهم للشريعة يُدرك المؤمنون المفهوم الحقيقي لكلام الله تعالى، لأن شرحهم يكون صحيحا وسليمًا بحيث لا يحوم حوله الشك لكونهم مؤيدين بالإلهام الإلهي، وهكذا ينجو المؤمنون من وحل التفاسير المتضاربة الخاطئة التي لا تزال تشوش أفكار الأولين.جليًّا مما أسلفناه إلى الآن أنه لا بد من بعث الأنبياء المأمورين لقد اتضح للمحافظة على الوحي السابق..أي لتطهيره من وساوس الشياطين وللتدليل على كونه وحيا حيا وذلك بآيات سماوية جديدة.ولكن المؤسف أن المسلمين ينكرون اليوم وجود هذه الميزة في القرآن الكريم حيث يظنون بأنه لا يمكن أن يُبعث الآن أي نبي ولو تابع للرسول الكريم ، مع أن القرآن الكريم يعلن هنا أنه طالما يبقى الوحي (ذكرًا) فإن الله تعالى ينزل النجوم والشهب من السماء الروحانية لحمايته من هجمات الأعداء.إن انقطاع بعث الأنبياء في الأديان الأخرى دليل على أن كتبها لم تعد (ذكرا)، ولكن القرآن الكريم هو (الذكر)، وسيظل هكذا إلى يوم القيامة، وبالتالي سوف يتم حفظه بهذه الوسيلة.وهذا لا
الجزء الرابع ۰۳ سورة الحجر ينقص من عظمته أبدا، وإنما العكس هو الصحيح، لأن هذا يؤكد أن الوحي القرآني لا ينفك متسما بميزة كونه (الذكر)..بمعنى أنه وسيلة لإنشاء الصلة بين العبد ،والخالق، ولذلك فإن الله تعالى كما حافظ على نصه كذلك يقوم بحماية مفاهيمه بإرسال المأمورين الذين يردون عنه هجمات الشياطين من الداخل والخارج.فالذي يقول بأن الله تعالى قد توقف الآن عن إرسال "الشهاب المبين" أي نجم السماء الروحانية لحماية القرآن فكأنه يقول - عياذا بالله أن القرآن لم يعد (الذكر)، ولا يتمتع الآن بالحماية الإلهية من هجمات الشياطين.قال أحد المفسرين المعاصرين أنه فيما يتعلق بالوحي القرآني فإن الله تعالى هو الذي يتولى حفظه، أما ما نزل قبله من الوحي فكان البشر يقومون بحمايته.وقد استدل على صحة زعمه بقول الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وقول الله تعالى: إنا أنزَلْنَا التوراة فيها هُدًى ونُورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) (المائدة: (٤٥)؛ ويقول هذا المفسر أن قوله تعالى: ﴿بمَا اسْتُحْفَظُوا أنهم جُعلوا مسؤولين عن حفظ كتاب الله (بیان القرآن ج ۲ من كتاب الله ص ١٠٤٨).ولكني أقول: كان هذا الاستدلال صحيحًا لو لم يرد هنا ذكر النبيين، ولكن الله تعالى يخبر أن النبيين هم الذين كانوا مسئولين عن حفظ الكتاب؛ والواضح أن لا يعمل بقوته هو وإنما بقدرة الله ، فكيف يمكن إذا القول أن حفظ التوراة كان موكولاً إلى البشر.لنفترض أن أحدًا غيّر مفهوما من مفاهيم التوراة، النبي وعهد الله بمهمة إصلاح هذا العيب إلى أحد الأنبياء، فكيف كان هذا النبي الله يعرف المفهوم الصحيح ؟ هل كانت لديه أية وسيلة لمعرفة الحقيقة سوى وحي ؟ وما دام الله هو الذي يُطلعه بوحيه على الخطأ والصواب فثبت أنه تعالى هو الذي قام بحفظ الكتاب وليس البشر.أو لنفترض أن شياطين القوم حاولوا
سورة الحجر الجزء الرابع تحريف معاني التوراة وتضليل الناس، فتصدى لهم هذا النبي بالمعجزات والآيات فلا ومع والبراهين السماوية؛ فهل يُعزى هذا إلى النبي؟ كلا، بل يُنسب هذا إلى الله عل.يصح القول إذن بأن الله تعالى قد تولى بنفسه حفظ الوحي القرآني فقط، وأما ما نزل قبله من الوحي فكان البشر يقومون بحفظه؛ بل الحق أنه تعالى هو الذي تولى حفظ كل وحي ما دام ذلك الوحي "ذكرًا"، وقد أثبت ذلك قبل قليل.إذا كان الله ينجز أمرًا ما عن طريق العباد فإنما مثلهم كمثل أداة يستخدمها أحد ليس إلا.وعلى سبيل المثال، فإن انتشار القرآن في العالم وحفظه عن ظهر قلب من قبل أصحاب الذاكرة القوية قد تم على يد البشر دونما شك، ذلك لا يمكن أن يدعي أحد أن حفظ القرآن موكول للبشر.ذلك لأن هذا كله أيضًا قد تم بتدبير وتوفيق من عند الله تعالى.واعلم أن فضل القرآن على الكتب الأخرى لا يكمن في كونه محميا بيد الله تعالى بشكل مباشر، وكون ما سبقه من الوحي محميا من قبل البشر، وإنما دواعي فضله هي كالآتي: أولاً: كون القرآن سيظل متصفا بصفة (الذكر) إلى يوم القيامة، وسوف يرسل من السماء "شُهبًا"..أي عبادًا له يتولون حماية القرآن من عبث الشياطين الذين يريدون له الفساد.وأما الأسفار الأخرى فبقيت على درجة (الذكر) لفترة محدودة، ثم فقدت هذه الميزة فرفع الله عنها حمايته، وقد حدث هذا منذ زمن بعيد، فلا يرسل له لحفظها الآن الشهب المهلكة للشياطين.ثانيا : إن القرآن الكريم كله كلام الله..أي أن كل حرف وكل حركة وسكون فيه كان من الوحى الإلهى، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة للكتب السابقة، فإنها خليط من كلام الله وكلام البشر الذي أضيف إليه كشرح له..وهذا بين وجلي في العهد القديم والأناجيل.فكان الله تعالى يكتفي بحماية مفاهيم الأسفار القديمة دون نصوصها، لأن (الذكر) كان يعني حينئذ المفهوم لا النص، إذ كان الأنبياء أو أتباعهم يبلغون الناس فحوى الوحي الإلهي بكلماتهم الله
الجزء الرابع 00 سورة الحجر عموما من دون نصه ولم يروا في ذلك أي حرج.ولكن بما أن وحي القرآن كان ذا صبغة أبدية، لذلك غيّر الله عند تنزيله أسلوب الحماية، ففرض على أهله أن يحفظوه بنصه وفصّه.فدُوّن كل لفظ منه مع حركاته، وحفظ عن ظهر قلب، وظل محفوظا محميًّا.وهذا الحفظ لم يتيسر لأي وحي آخر من قبل، لا بيد البشر ولا بيد الله تعالى.أما الحفظ المعنوي فلا جرم أن الكتب السابقة أيضا تمتعت به لزمن معين كما سيتمع به القرآن الكريم إلى يوم القيامة.وهناك سؤال آخر يستوجب الرد وهو هل لسقوط الشهب من السماء المادية أية علاقة ببعث الأنبياء؟ فما دام الأنبياء قد شُبّهوا بها فلا بد أن يكون في سقوطها من المنافع ما يمكن اعتباره بمثابة رمي الشياطين؟ والجواب أنه من سنة الله المستمرة منذ القديم أنه يُري من أجل رسله نوعين من الآيات: آيات أرضية أي ما يقع على الأرض قريبًا من البشر، مما يمكن أن يظن بعض المرتابين أن هذا ليس من فعل الله تعالى، بل هو من عمل المدعي نفسه قام به بحيلة بارعة خفية علينا ولكن هناك آيات أخرى تتعلق بالسماء أي بالأجرام السماوية، التي لا سلطة للبشر عليها ومن هذه الآيات السماوية سقوط الشهب.وتقع هذه الآيات إما تحقيقا لنبأ أدلى به النبي نفسه أو وفقا لأنباء الرسل أو الأولياء الذين خلوا من قبله.والثابت من تاريخ الأنبياء أن الشهب سقطت بكثرة لدى بعث المسيح الناصري ونبينا الكريم عليهما السلام.وقد سقطت في زمن النبي بكثرة حتى ظن الكفار أن أهل السماء قد هلكوا وأن القيامة قد حلت وحان هلاك أهل الأرض..حيث ذكر: "فلما بعث الله محمدا نبيًّا رسولاً رُجموا ليلةً من الليالي.ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا: هلك أهل السماء، لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب.فجعلوا يُعتقون أرقاءَهم ويُسيبون مواشيهم.فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف، أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، إنما هذا من أجل ابن أبي
الجزء الرابع كبشة يعني سورة الحجر محمدا ، وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء.فنظروا فرأوها، فكفّوا عن أموالهم ابن كثير، سورة الجن، قوله: وأنا لمسنا السماء...) هذه الآية ظهرت بحسب أنباء الأسفار السابقة حيث يذكر التاريخ أن أنبياء بني إسرائيل نبأوا بحدوث تقلبات سماوية في زمن ظهور النبي.فقد ورد في الحديث : "أن هرقل حين قدمَ إيلياء أصبَحَ يومًا خبيثَ النَّفْس، فقال بعضُ بطارقته: قد استَنْكَرْنا هيئتك - قال ابن الناظور: وكان هرَقْلُ حَزَاءً ينظُر في النجوم - فقال لهم حين سألوه: إني رأيتُ الليلة حين نظَرتُ في النجومِ مَلِكَ الختان قد ظهر." (البخاري: بدء الوحي) علما أن المراد من "ملك "الختان" هو ملك العرب أي نبينا الكريم.أما المسيح عيسى ابن مريم العليا فثمة أحاديث تؤكد سقوط الشهب بكثرة في زمنه أيضًا (شرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ۱ ص۱۲۲).كما ورد في الإنجيل أيضا عن البعثة الثانية للمسيح أنه: "تكون علامات في الشمس والقمر والنجوم." (لوقا ٢١: ٢٥) فكل هذا يؤكد أن سقوط الشهب كعلامة على بعث نبي من الأنبياء هو سنة إلهية مستمرة منذ القدم.أما الهدف الظاهر من سقوطها فقد سبق بيانه يريد بهذه الآيات السماوية تخليص الناس من الشكوك والوساوس، كي لا يظنوا أن معجزات النبي هي من قبيل خدع المشعوذين.غير أنه ليس من المستبعد أن يكون لسقوط الشهب لدى بعثة نبي هدف آخر وتأثير روحاني خفي لا يعرفه الله وهو أن الناس، ولكنه يساعد على دفع المكائد الشيطانية التي يلجأ إليها أعداء الأنبياء.وأتناول الآن الآيات المختلفة الواردة في هذا الموضوع وآراء المفسرين حولها.لقد ذكر القرآن الكريم موضوع سقوط الشهب رميًا للشياطين أو حفظا للسماء في الآيات التالية: ۱ - هذه الآيات من سورة الحجر التي نحن بصدد تفسيرها.٢ - ولقد زيَّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعَلْناها رُجومًا للشياطين (الملك: ٦).
الجزء الرابع OV سورة الحجر ٣- إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظًا من كل شيطان مارد لا يَسَّمَّعون إلى الملا الأعلى ويُقذفون من كل جانب دُحُورًا ولهم عذابٌ ایک واصب إلا مَن خَطَفَ الخَطْفةَ فأَتبَعَه شهاب ثاقب (الصافات: ۷-۱۱) وأنا لَمَسْنا السماء فوجَدْناها مُلَقَتْ حَرَسًا شديدًا وشُهبان وأنا كنا نقعد 0 هذه منه هي منها مقاعد للسمع فمَن يستمع الآنَ يَجِدْ له شهابًا رَصَدًا ) ( الجن: ۹ و ۱۰) وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) (فصلت:١٣) الأماكن الخمسة التي ورد فيها هذا الموضوع تفصيلاً أو إجمالاً.يقول المفسرون بأن الله يُنزل وحيه تدريجيا، وحين يصل الوحي إلى السماء الدنيا تصعد الشياطين بعضهم على بعض إلى السماء لتسترق منه شيئا، وحينما تخطف بعض الأخبار وترتد فإنها تُرمى بالشهب.وقد اختلف المفسرون فيما إذا كانت الشهب تقتل الجن أم لا، فهناك قول يُنسب إلى ابن عباس بأن الشهب لا تقتل الجنَّ وإنما تجرحهم أو تكسر بعض أعضائهم، بينما قال الحسن البصري وطائفة أخرى إنها تقتل الجن.ثم قال بعضهم: إنهم يُقتلون بعد إلقاء هذه الأخبار إلى السحرة والكهنة، بينما قال الماوردي إن الشهب تسقط عليهم وتقتلهم قبل أن يُلقوا ما اختطفوه.(القرطبي) ثم اختلفوا فيما إذا كان الرمي بالشهب قائما قبل النبي ﷺ أم لا؟ فقال أكثرهم: نعم، وقيل: لا.وقال الزجاج: الرمي بالشهب من آيات النبي ﷺ مما حدث بعد مولده، لأن الشعراء قبله لم يذكروه في أشعارهم.وقال صاحب "فتح البيان": وطريق الجمع بين القولين هو أن الرمي كان موجودا قبل مبعث النبي ، فلما بعث شُدّد ذلك.فتح البيان، سورة الحجر) وجاء في التفاسير أيضا: "عن ابن عباس قال: كان الشياطين لهم السماء يستمعون فيها الوحى، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعًا، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زادوا فيكون باطلاً.فلما بُعث رسول الله ﷺ منعوا مقاعدهم.فذكروا ذلك لإبليس، و لم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك.فقال لهم مقاعد في
الجزء الرابع ٥٨ سورة الحجر إبليس: ما هذا الأمر إلا لأمر حدث في الأرض! فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله ﷺ قائما يصلي بين جبلي نخلة.فأتوه فأخبروه.فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض.وفي رواية أن إبليس أتي من كل أرض بتربة فشمها.فقال لتربة تهامة: هنا حدث "الحدث الدر المنثور، سورة الجن) إنه لمن المؤسف أن هؤلاء المفسرين الكبار الذين بذلوا دون أي شك جهودًا جبارة مشكورة في تفسير القرآن الكريم..قد فرّطوا تفريطاً خطيرًا في هذه القضية مرتعبين من الروايات التي لا أصل لها بتانا والتي تخالف صريح القرآن.إن ملخص ما ورد في تفاسيرهم هو : (أولاً) أن الشياطين كانوا قادرين على سمع أخبار السماء، و(ثانيًا) أن هذه الأخبار كانت تحتوي على الغيب أيضًا، و(ثالثا) أن إبليس لم يعلم بمبعث النبي ﷺ إلا عندما رأى رمي الشهب.هذه هي المحاور الثلاثة التي تدور حولها التفاسير، ولو طرحناها من الروايات لم يبق فيها شيء يُذكر.ولكن الأمور الثلاثة باطلة تماما.أولاً: تقول التفاسير بأن الشياطين قادرون على سماع أخبار السماء، ولكن القرآن الكريم يخالف هذا الزعم صراحةً في الآيات التالية: أم لهم سلّم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين) (الطور : ٣٩).فالآية صريحة في إعلانها أن الكفار وأعوانهم غير قادرين حتى على الوصول إلى السماء ناهيك أن يستمعوا منها أخبارها.ولو سلمنا جدلاً بصعود الجن إلى السماء فسؤالنا هو: ألم يكن بإمكان الكفار أن يعترضوا على النبي ﷺ لدى نزول هذا الوحي قائلين: أنت تقول، من جهة، إن الجن تصعد إلى السماء، فكيف تقول لنا في الوقت نفسه أم لهم سُلّم يستمعون فيه ؟ ۲- وما تَنزَّلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إلهم عن السَّمْع لمعزولون) (الشعراء: ۲۱۱ ۲۱۳)..أي أنه لا حقيقة لاتمام الكفار بأن الشيطان هو نزل على محمد بهذا الكلام، وذلك للأسباب التالية: الأول: أنه من المستحيل أن تكون للشيطان علاقة مع شخص طاهر الذيل نزيه السيرة
الجزء الرابع ۰۹ سورة الحجر كمحمد والثاني: أن ما أتى به محمد من تعليم مقدس سام يستحيل أن يُنزله الشيطان، إذ كيف يمكن للشيطان أن يأمر الناس بما فيه هلاكه هو.والثالث: أن ما نزل على محمد يتضمن علوما سماويةً، والشيطان غير قادر على أن يسمعها، لأن الله تعالى قد حظر عليه سماعها.- يتصور أن فكيف يمكن لأحد - بعد قراءة هذه الأدلة القرآنية القوية – أن الشيطان يستطيع سماع أخبار السماء؟ ثانيا : يزعم كثير من المفسرين أن الشياطين أو الجن كانوا يختطفون هذه الأخبار الغيبية، ولكن هذا الزعم أيضًا باطل على ضوء الآيات القرآنية التالية: فقُلْ إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس: ٢١).أم عندهم الغيب فهم يكتبون (الطور : ٤٢ والقلم: ٤٨).فكيف يقال بعد هذه الآيات الصريحة - أن الجن كانوا يختطفون علم الغيب من السماء؟ وقد كفروا به من قبلُ ويَقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شَكٍّ مُريب (سبأ: ٥٤ و (٥٥)..أي أن هؤلاء في شك مريب، لذا هناك حائل بينهم وبين الغيب، لأنه لا ينزل إلا على قلب يكون أسمى من كل شك وريبة، ويكون على درجة عالية من الإيمان واليقين.إذن فهذه الآية أيضا تؤكد أنهم ما كانوا يصعدون إلى السماء، بل كانوا يقولون ما يقولون خرصا وتخمينا.٤ - وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرُفَ القول غُرُورًا ولو شاء ربُّك ما فعلوه فَذَرْهم وما يفترون) (الأنعام: ١١٣ ).لقد أكد الله تعالى هنا أيضًا أن أعداء الأنبياء من الجن والإنس ما كانوا يتبادلون أخبار الغيب، وإنما كانوا يتناقلون الكذب والغرور؛ ولذلك نجده الله لا يقول الرسوله بأنهم يسمعون أخبار السماء، فعليك بالحذر منهم، بل يقول: إنهم يفترون، فدَعهم وشأنهم، فإن الله تعالى هو الذي سوف يرد على افترائهم.
الجزء الرابع ٦٠ سورة الحجر - عالم الغيب فلا يُظهِرُ على غيبه أحدا إلا مَنِ ارتضى مِن رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خَلْفَه رَصَدًا ليعلَمَ أنْ قد أبلغوا رِسالاتِ ربِّهم وأحاطَ بما لديهم وأحصى كل شيء عَدَدًا (الجن: ۲۷-۲۹) يبرح فانظر كيف تبطل هذه الآية مزاعم هؤلاء المفسرين بكل وضوح وجلاء.فالله ل لا يعلن فيها أنه هو وحده يحتكر علم الغيب فحسب، بل يصرح كذلك أنه لا يُطلع على غيبه إلا رسله الذين يختارهم هو بنفسه وليس الناس.كما أنه تعالى لا يزال يحرس هذا الغيب إلى أن يصل إلى رسله دون أي تدخل من أحد، بل لا الله تعالى يحمى رسالته حتى بعد وصولها إليهم إلى أن يبلغوها الناس.وكأن الشياطين لا يعلمون من أمر الوحي شيئا قبل أن يوصله الرسل إلى البشر.أما بعد انتشاره بين القوم فكما هو ظاهر من آيات أخرى فإن الشياطين تبدأ في الكيد والمكر ضد الوحي، لكن من دون أن يفلحوا في مكائدهم الخبيثة.فثبت من هذه الآية أن اختطاف الوحي من قبل الشيطان يبدأ بعد أن يكون الأنبياء قد نشروه بين الناس.ونظرًا إلى هذا المفهوم فإن "السماء الدنيا ستعني مجلس النبي، وليس الجو أو الفضاء الذي نراه فوق رؤوسنا.٦- ذكرتُ حتى الآن الآيات التي فيها دلالة عمومية، وسأذكر الآن آية تتحدث عن الجن خاصة، وتبين تمامًا أنهم ما اطلعوا على الغيب قط، قليلاً أو كثيراً، لا في زمن النبي ﷺ ولا بعده، وهذه الآية هي قوله تعالى: فلما قضينا عليه الموت ما دَلَّهم على موته إلا دابةُ الأرض تأكُلُ منْسَأَتَه فلما حَرَّ تَبيَّنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) (سبأ : ١٥).تتحدث هذه الآية عن موت سليمان ال، وتدل صراحة على أن الجن لم يعلموا الغيب حتى قبل زمن الرسول الله أيضًا.لو كان الجن يستمعون أخبار الغيب من السماء فلماذا لم يطلعوا على وفاة سليمان؟ إن سليمان الا نبي، والظاهر أن خبر وفاته لا بد أن يكون قد نزل بالوحي مع ملائكة لأن مبعث نبي أو وفاته حادث بالغ الأهمية.خصوصيين
الجزء الرابع ٦١ سورة الحجر ثالثا : زعم المفسرون أن الجن بل إبليس إنما علم بمبعث النبي ﷺ بعد ظاهرة رمي الشهب حين وجد أعوانه الرسول ﷺ قائما يصلي بالناس.ولكن الثابت تاريخيا أن الرسول الله بدأ الصلاة بالجماعة علنًا بعد مبعثه بعدة سنوات (السيرة النبوية لابن هشام إسلام عمر.ولو سلمنا برأي المفسرين لكان معناه أن إبليس لم يعلم بمبعث النبي ﷺ إلا بعد مضي عدة سنوات، وهو أمر يخالف الواقع وصريح القرآن؛ ذلك أنه بمجرد أن يعلن النبي دعواه ينقلب بيت الشيطان مأتما، وتبدأ الشياطين، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن في الكيد والمكر بجماعة النبي.فإذا كان إبليس وغيره من الشياطين غافلين عن بعثة الرسول الله طيلة هذه الفترة فمن ذا الذي كان وراء موجة المعارضة والاضطهاد في مكة.فليفسروا كلمة إبليس بأي معنى يشاءون، إلا أن الزعم بأنه ظل جاهلاً بمبعث النبي طيلة هذه الفترة لزعم مناف للعقل والقرآن والسنة الإلهية؛ إذ يصرح الله وعمل في القرآن الكريم وكذلك جعلنا لكل بي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرُفَ القول غُرُورًا ﴾ (الأنعام: (۱۱۳).وهذا يعني أن الله تعالى نفسه يخبر الشياطين من الجن والإنس بمبعث النبي، وذلك بطريق يراه هو ملائما ومناسبا، فيناصبون النبي العداء بمجرد أن يعلن دعواه فكيف يمكن إذا أن يبقى إبليس وأعوانه غافلين عن مبعث الرسول طوال هذه الفترة.علما أنني قد استخدمتُ هنا مسميات الجن وإبليس والشيطان بمعناها المتداول والمتعارف عليه عمومًا، وذلك تسهيلاً للقارئ وإلزاما للخصم؛ فلا ينخدعن أحد بذلك فيظن أنني أقبل تلك المعاني مائة بالمائة؛ كلا، بل سوف أبين موقفي الخاص بصددها في مكانها.قائلا هذا، وبقي سؤال يجب الرد عليه وهو: إذا كان الجن غير قادرين على سرقة علم الغيب من السماء أو استماع أخبارها فما هو المراد مما ذُكر في الحديث بأنهم يصلون إلى السماء صاعدين بعضهم على بعض يختطفون أخبارها؟
الجزء الرابع ٦٢ سورة الحجر والجواب أن المراد من سرقة الجن علم الغيب هو استماعهم لحديث الأنبياء بسوء النية.وأما صعود بعضهم فوق بعض فيعني أن أئمة الكفر منهم لا يحضرون بأنفسهم مجالس الأنبياء لتزول شكوكهم بسماع موقف الأنبياء من أفواههم مباشرة، وإنما يطلعون على تعاليمهم دائما بوسائط عديدة أخرى ظانين أن هذا هو الطريق الأكثر دهاء وذكاءً.وبما أن نيتهم غير سليمة، وأنهم يعارضون بناءً هذا على ما يسمعونه من وذاك، فلذلك يختلط الكذب في حديثهم عن الرسل كثيرًا بحيث لو يصدقون فيه مرة فإنهم يكذبون فيه مائة مرة.وأما ما ورد في الروايات أن الجن يُرمون بالشهب أحيانًا قبل إلقائهم الأخبار إلى الناس، وأحيانًا بعد الإلقاء..فمعناه أن بعض أعداء الحق يعاقبون فورًا على إساءتهم للرسل، وبعضهم يمهلون طويلاً لحكمة يعلمها الله تعالى، فلا يبرحون في إثارة القوم ضد الرسل إلى أن يفاجئهم "الشهاب" في يوم من الأيام.وأود أن أنقل هنا اثنتين من الروايات حتى يستحضر القارئ نص الحديث.تقول الرواية الأولى: "عن أبي هريرة يبلغ به النبي ﷺ قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها - حُضُعانًا لقوله - كالسلسلة على صفوان.قال علي وقال غيره: صفوان يَنفُذهم ذلك.فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير.فيسمعها مسترقو السمع.ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر، ووصف سفيان بيده وفرّج بين أصابع يده اليمنى نَصبها بعضها فوق بعض فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن بها إلى صاحبه فيحرقه، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه إلى الذي هو منه حتى يلقوها إلى الأرض.وربما قال سفيان حتى تنتهى إلى الأرض فتلقى على فم الساحر، فيكذب معها مائة كذبة فيصدق، فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًا للكلمة التي سمعت من السماء".(البخاري: التفسير سورة الحجر) أسفل يرمي
الجزء الرابع ٦٣ سورة الحجر فإذا والرواية الثانية هي: قال ابن أبي حاتم عن النواس بن سمعان له قال قال رسول الله : إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله تعالى.سمع بذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا الله سجدًا.فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام فيكلمه الله من وحيه بما أراد.فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة كلها من سماء إلى سماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول ال: قال الحق وهو العلي الكبير.فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل.فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض".(تفسير ابن كثير، سورة الحجر) لقد أكدت هذه الرواية أن الوحى يصل تحت حراسة جبريل إلى حيث يريد الله على وصوله إليه..أي إلى الرسول.إذا فالراويات التي تقول بأن الجن يختطفون من الوحي لا تعني إلا أنهم يختطفون منه بعد وصوله إلى الرسول وبعد إعلانه عما نزل عليه بين الناس فينشر الجن بين أعوانهم ما اختطفوه من الوحى بعد خلطهم إياه بكثير من الأباطيل التي افتروها من عند أنفسهم.ومما لا شك فيه أن عامة الناس يستغربون دائمًا مما يعلنه النبي، وأنهم حين يسمعون من أتباع أنفسهم ما نقل إليهم شياطين الناس من الوحى على صورته الصحيحة فإنهم النبي أي عامة الناس يصدقون بسبب سذاجتهم كل ما يعزوه هؤلاء الشياطين إلى النبي من رطب ويابس، فيقولون - أي عامة الناس – فيما بينهم مخدوعين بمكر هؤلاء الشياطين: ألم تروا أن فلانًا من الصالحين الكبار كان قال عن هذا المدعي كذا وكذا وها قد ثبت ،صدقه فها إن أتباعه أنفسهم يؤكدونه.وهكذا يصدق هؤلاء السذج كلّ ما يبلغهم من قبل كبرائهم الكاذبين ضد الرسول من أباطيل؛ ظنّا أن أتباعه يُخفون الكثير من أمره، وأن الصحيح هو ما بلغهم عن طريق منهم زعمائهم.
الجزء الرابع ٦٤ سورة الحجر وتحدث هذه الظاهرة الغريبة في عصر كل نبي، فيقع الآلاف فريسةً لها؛ لأنهم لا يتكبدون بأنفسهم عناء البحث عن الحق، وإنما يعتمدون على بيانات زعمائهم الدينيين اعتمادًا كليًّا ،وأعمى، وبالتالي يظلون محرومين من قبول الحق.ثمة أمور أخرى أريد ذكرها هنا بصدد ما شاع بين العوام من معان خاطئة حول هذه الآيات، أو ذكرها بعض المفسرين خلافا لمراد القرآن الكريم، بسبب خطئهم في فهم الأحاديث الصحيحة أو لاعتمادهم على الروايات الضعيفة.لقد أخطأ المفسرون الذين ظنوا أن ما يسقط من السماء في صورة ضوء ساطع هو نجم كلا، بل هو شهاب إن القرآن الكريم لم يقل أبدا بأن النجوم الحقيقية هي التي تسقط، كما أن هذا ليس هو الأمر الواقع، ولم يقل به المفسرون الموثوق بهم، حتى إن الكفار أنفسهم كانوا يدركون أن علامة بعث النبي ﷺ هي سقوط الشهب لا سقوط النجوم..كما تؤكد على ذلك الرواية التي تتحدث عن أهل الطائف والتي سجلناها قبل بضع صفحات.هذا، وإن الله تعالى يؤكد في القرآن الكريم مراراً وتكرارًا أنه يقوم بحماية السماء، فكيف، يا تُرى، يستطيع الشيطان أن يختطف شيئا من السماء المحمية بيد الله عل.يقول البعض أن الشياطين تختطف بعض الوحي حينما تأتي به الملائكة إلى السماء الدنيا! وهنا نسأل أصحاب هذا الرأي: أي الفريقين أسبق من الآخر في إنزال الغيب على أوليائه..الملائكة أم الشياطين؟ فإذا كانت الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الرسول فما الداعي أن يختطفه الشياطين ما دام الناس قد سمعوا خبره من فم النبي نفسه؟ ولو قالوا أن الشياطين هم الذين يسبقون الملائكة في نشر خبر السماء بين أوليائهم فهذا يعرّض النظام الإلهي كله لسهام الطعن والارتياب! إذ لو كان هؤلاء المردة الأشرار يتمكنون من اختطاف الوحي قبل وصوله إلى البشر - رغم الحماية الإلهية الصارمة - فكيف يمكن أن يثق أحد بوحي الأنبياء؟ إذ قد يقول قائل: ربما يضيف هؤلاء الشياطين إلى الوحي شيئًا
الجزء الرابع سورة الحجر من عندهم قبل أن ينزل على الأنبياء مثلما يتمكنون من اختطافه وهو في السماء؟! وبالفعل يوجد بين المفسرين من يزعم أن الشيطان ألقى – والعياذ بالله بعض الكلمات من عنده على لسان الرسول أثناء نزول الوحي عليه (ابن كثير : سورة الحج).والحق أن الشيطان لو كان قادرا على اختطاف بعض رغم الحماية الإلهية - معاذ الله - لكان قادرًا أيضًا على إهلاك النبي بالرغم من العصمة الإلهية فكما أن هذا غير وارد كذلك اختطاف الشيطان للوحي وهو ينزل من السماء أمر محال.وحي الله الله وهناك من يحتج بقول الله تعالى إلا مَنِ استرق السمع وقوله إلا من خطف الخَطْفةَ..ويقول بأنه تعالى نفسه قد أعلن هنا أن الشيطان قادر على سماع غيب أو اختطاف خبر من الوحي.والجواب أن الاستثناء المذكور هنا بـ "إلا" متعلق بفعل الشيطان لا بفعل تعالى.لو أنه قال: إننا نحفظ وحينا إلا قليلا مما نسمح بأخذه للشيطان لجاز هذا الاستدلال، لأنه تعالى يمنحه هذا عن رضى ورغبة، ولكن الله تعالى يقول: إننا نحفظ كلامنا، ولكن الشيطان يختطف منه شيئا.فإذا المحال الأخذ بالمعنى من الظاهري الذي يتمسك به هؤلاء لأنه مناف لعظمة النبي والوحي، بل يشكل دليلاً – والعياذ بالله – على عجزه ل بدلاً من أن يؤكد قدرته.ثم لو كان هذا المعنى الظاهري صحيحًا للزم تساقط الشهب كلما قام أحد من المنجمين بعمل حسابه عن النجوم.ولكن الواقع يخالف ذلك، لأن هناك آلافا المنجمين والكهان وعلماء الرمل والجفر * والفلك والجو الذين يحاولون ليل نهار معرفة أخبار الغيب فإذا كانت الشياطين هي التي تزوّد هؤلاء بالأخبار التي من * ورد في المنجد : علم الجفر ويسمّى علم الحروف : علمٌ يدّعي أصحابه أنهم يعرفون به الحوادث إلى انقراض العالم.وعلم الرمل: هو البحث عن المجهولات بخطوط تُخط على الرمل، وهو من الخرافات (المترجم).
الجزء الرابع سورة الحجر تختطفها من وحي السماء..فيجب أن يستمر سقوط الشهب كالمطر ليل نهار دونما انقطاع! ولو قيل بأن الشهب إنما تسقط لدى سماع الشياطين أخبار السماء، لكان معناه أن سماعها واختطافها للأخبار عند مبعث نبي يكون أكثر منه في أي وقت آخر، لأنه زمن يكثر فيه سقوط الشهب عادة؛ مع أن مبعث نبي من أن مبعث نبي من الأنبياء هو فترة تكون الحماية الإلهية فيها على أشدها، ويجب أن تكون كذلك.ثم ما هو المقياس الذي نعرف به أنه فيما يتعلق بزمن نبي فإن المنجمين يتنبؤون عن أحداث المستقبل بمساعدة الشياطين، وأما في الأوقات الأخرى فيتنبؤون بناء على حساباتهم فحسب، إذ لا بد من التمييز بين هذين النوعين من الأخبار.فإن قيل أن أنباء المنجمين في زمن نبي تكون أكثر تحققاً منه في أي فترة أخرى، فهذا باطل بالبداهة؛ وإن قيل بأنهم يتنبؤون بمساعدة الشياطين دومًا، فهذا أمر سوف يرفضه ويعتبره خلافًا للعقل كلُّ مَن له إلمام بعلم النجوم.لا شك أن علم النجوم والرمل وما شاكلهما من العلوم لغو لا فائدة فيها، ولكنها قائمة على أسس علمية، ولا علاقة لها بالجن وغيره بتاتًا.نعم، هناك فئة من أصحاب هذه العلوم تسمّى "الأرواحية" أو "الروحانيين"، الذين يدعون بمناجاة الأرواح وتحضيرها.والواقع أن هؤلاء أيضًا فئتان: فئة يقومون بخداع الناس وتسفيههم، وعددهم كبير؛ وفئة أخرى هم مخدوعون بأنفسهم حيث إنهم بسبب جهلهم بدقائق العقل الإنساني – اعتبروا بعض القدرات الإنسانية الروحانية عملاً وتأثيراً من قبل أرواح العالم الأخروي.ومهما يكن من أمر فإن الآية لا تتحدث عن هذه الفئة ،أيضًا، لأننا لا نرى سقوط الشهب لدى قيامهم بتحضير الأرواح.وخلاصة القول إن هذه الآيات تتحدث عن الحماية الإلهية للوحي حيث ؤكد الله وعمل فيها أنه ليس بوسع كائن أن يطلع على شيء من الوحي قبل أن ينزله الله على رسوله، أما بعد نزوله عليه وإعلانه عنه فإن شياطين الإنس يؤك
الجزء الرابع ٦٧ سورة الحجر وحي والجن يختطفون الوحي بشتى الطرق، ليخلطوا فيه الكذب من عند أنفسهم وليعرضوه على القوم بهذا الشكل المشوه الممسوخ، إثارةً لمشاعر القوم ضد رسولهم.والواضح أن عملية خلط الوحي بالكذب إنما تنفع هؤلاء الماكرين في حالة واحدة فقط وهي بعد أن يكون الوحي قد نزل وإلا فلو كان الجن بالفعل يختطفون أخبار الغيب من السماء فما الداعى أن يخلطوها بالكذب؟ هل هم مجانين حتى يخلطوا هذه الأخبار بالكذب فيفضحوا أنفسهم بأنفسهم حين ينكشف زيف ما لا يتحقق من هذه الأخبار المستقبلية.أما قيام أعداء الحق بخلط الأنبياء بالكذب والباطل فهي ظاهرة مستمرة تشاهد على الدوام، حيث يأخذون عبارة من الوحي ويفسرونها تفسيرًا مشوَّها، أو يعرضون على الناس فقرة من الوحي مبتورة عن سياقها، ليثيروا القوم ضد الأنبياء.لم يزل هذا دأب أعداء الرسل في كل زمان وهذا هو الخطف الذي أجازته المشيئة الإلهية للشياطين، بل وقد أتاحت لهم الفرصة لذلك حيث يخبرنا الله بكلمات لا لبس فيها ولا غموض: وكذلك جَعَلْنا لكل بي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي ني بعضُهم إلى بعض زُخْرُفَ القولِ غُرُورًا)) (الأنعام: ۱۱۳)، وقال أيضا وكذلك جَعَلْنا في كل قرية أكابر محرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (الأنعام: ١٢٤).يسمح 6 أحد إذن، فكما أن الله تعالى يقوم بحماية وحيه بحيث لا يستطيع الأعداء من تبديل وحيه ، سواء كان هذا العدو ظاهرًا أو خفيًّا، كذلك فإن الله وعمل - لحكمة ما - الشياطين الناس بأن ينشروا بين القوم معاني محرفة لوحيه أو أن يثيروا مشاعرهم ضد نبيهم بنشر الأكاذيب حول ما نزل عليه من الوحي؛ ولكن بعد أن يقوم هؤلاء الماكرون بدعايتهم المزوّرة ضد وحي الأنبياء وإثارة القوم خلافهم بشتى الافتراءات ينزل عليهم شهاب من السماء، فيُفضحون على يد الأنبياء.
الجزء الرابع ٦٨ سورة الحجر وهذا الاستثناء - كما ترى - لا يقدح في عظمة الله تعالى لأنه هو الذي قد أجازه، كما لا يضر هذا بالدين شيئا، وإنما يبقى الدين مصونا محفوظا كما كان، لأن هذه الأباطيل تنتشر بين الأعداء فقط، ليفرحوا بها فرحةً باطلة عابرةً.يتضح من القرآن الكريم أن أصحاب هذه الأنشطة المعادية نوعان: علما أنه بل أُبعدوا فتنبئ أن منهم أولهما العدو من الداخل أي المنافقون، وثانيهما العدو من الخارج أي المعارضون.ذلك أن الله تعالى قد عزا هذه العمليات إلى شيطان رجيم" مرةً (سورة الحجر والملك، وإلى شيطان "مارد مرة أخرى سورة الصافات.والرجيم في اللغة هو المطرود المبعد، وأما المارد فهو الباغي المتمرد.إذًا فسورتا الحجر والملك تشيران إلى أعداء الدين من الكفار..أي الذين لم يوفقوا للاقتراب من الدين ولو ظاهرا، عنه، والله تعالى يَعدُ بحماية القرآن من هجماتهم.وأما سورة الصافات من أهل الإسلام من سيعرضون على الناس مفاهيم القرآن بصورة مشوَّهة، وهؤلاء هم مَرَدة الشياطين..أي أنهم - رغم انتمائهم إلى الإسلام في الظاهر - سيكونون في الواقع من المارقين المتمردين عليه، قصدًا أو خطأ، ولكن الله تعالى سوف يحفظ وحيه من شرورهم أيضًا.وهذا نبأ يتعلق بالمستقبل، حيث أخبر الله وعمل فيه أنه كلما تقاصرت عقول المسلمين عن فهم معارف القرآن، وشوه بعض منهم المفاهيم القرآنية الأصيلة، سيبعث الله يحمي القرآن من شرورهم.وفتنهم.فتبارك الله أحسن الخالقين! وثمة أمر آخر جدير بالذكر وهو أن هذه الآيات قد تنطبق أيضًا على المنجمين وعلى من يطلقون على أنفسهم "الروحانيين" أو "الأرواحيين"، لأن الأنبياء يقضون على أفكار هؤلاء أيضًا؛ ولكن هذا الانطباق انطباق ضمني جزئي.ذلك أنه فيما يتعلق بتأثيرات النجوم أو ما يوجد في علم الهيئة والفلك من حقائق فإن الإسلام لا ينكر ذلك أبدا، بل لقد أمرنا القرآن الكريم نفسه بالتفكر في الكون والتنقيب عن أسراره، لذا فمن المستحيل أن يؤكد القرآن على وجود حكم في علم الهيئة والفلك ويحتنا على السعي لمعرفتها من جهة، ومن جهة أخرى يرمي عنده من من
الجزء الرابع ٦٩ سورة الحجر بالشهب من يتعلم هذه الحكم والمعارف إن ما ينهى عنه الإسلام إنما هو الوهم والشرك.فنسبة هذه العلوم إلى الوهم والتخمين غير سليم، أما أن نهتم بها كاهتمامنا بالدين فهذا أيضا غير صحيح لأن هذا يصبح إشراكًا بالله تعالى.إذ لا شك أن لحركات النجوم تأثيرات يقينية، ولكنها واحد من النواميس الكونية الكثيرة الأخرى.فهناك آلاف الظواهر الطبيعية الأخرى التي تؤثر في الكون باستمرار وفي وقت واحد؛ والحق أنه لا شيء في الوجود يملك التأثير الكامل في ذاته بحيث لا يحتاج إلى سند خارجي إلا الله وحده..فمن ظن أن أي شيء مادي – دعك عن النجوم - يملك تأثيرًا ذاتيًا قطعيًّا يقينيًا فهو مشرك، ولذلك قال النبي : " من قال : مُطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر" (البخاري: الأذان).والنوء هو النجم.ذلك أنهم قد أضافوا إلى تأثيرات النجوم الحقيقية كثيرًا من الأوهام، ثم إن ما ثبت منها على أسس علمية فهو أيضا سبب من ملايين الأسباب الأخرى التي خلقها الله تعالى ويحافظ عليها.فالأولى بالإنسان أن يتوكل عليه هو.- فالمراد من رجم الشياطين بالشهب بالنسبة للمنجمين والأرواحيين وغيرهم- هو أن هؤلاء يقومون بدعاوى عريضة في زمن ليس فيه نبي، ولكنهم عند ظهور نبي يتلقون ضربة قاضية، إذ يفضحهم النبي أمام الدنيا بكشف خدعهم، ويعرف الناس الفرق بين معرفة الغيب الصافي وبين الخرص والتخمين.وَالْأَرْضَ مَدَدْنَهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ شرح الكلمات: ) مددناها: مده: بسطه.مدَّ المديون : أَمهَلَه.مدَّ الله عمره: أطاله.ومدَّ الشيء: جذبه.ومد القومَ: صار لهم مددًا وأغاثَهم بنفسه.وفي اللسان: مددت الأرض
الجزء الرابع V.سورة الحجر مدا : إذا زدت فيها ترابًا أو سمادًا من غيرها، فيكون أعمرَ لها وأكثر ريعًا لزرعها (الأقرب).:موزون وزنه وزنًا راز ثقله وخفته وامتحنه بما يعادله.وفي "الأساس": وَزَنْتُ الشيءَ ورَزَنْتُه وثَقَلتُه : إذا رُزْته بيدك لتعرف وزنه.ووزن تمر النخلة وزنًا: خرصه وحزره (الأقرب).فالشيء الموزون : المقدَّر ؛ الذي تم وزنه؛ المتناسب المتلائم.التفسير : لقوله تعالى والأرض مددناها معنيان: الأول: لقد فرشناها لتتلاءم مع حاجات الناس..أي وسعناها كثيرًا بحيث إنها – رغم كونها مستديرة - لا تُعيق عيش الإنسان عليها، بل إنه لا يشعر باستدارتها أصلاً.والثاني: لقد زوّدناها بالسماد.ذلك أن الأرض لا تزال تستمد قدرات جديدة من الأجرام الأخرى، بل لقد أثبت علماء الفلك أنه لا تنفك تسقط على الأرض ذرات دقيقة من هذه الأجرام، مما يزيد به حجم الأرض باستمرار، وهذا السماد لخارجي يزيد في طاقاتها زيادة كبيرة.وإلى جانب السماد، تكون الأرض بحاجة إلى الماء، ولذلك قال الله الله بعده : وجعلنا فيها الجبال الثابتة التي تحتفظ بالثلوج، وهكذا تدخر هذه الثلوج لأهل الدنيا بذخيرة كبيرة للمياه التي تصل عبر الأنهار إلى مختلف أقطار الأرض وترويها.لغة ثم قال الله تعالى وأنبتنا فيها من كل شيء موزون).والإنبات تعني إخراج النبات من الأرض، وتعني مجازا تنمية الشيء..حيث ورد في القرآن الكريم عن السيدة مريم عليها السلام وأنبتها نباتا حسنًا) (آل عمران: ۳۸).وقد وردت كلمة الإنبات هنا بالمعنيين: الأول : خلقنا في الأرض كل شيء مناسب لسد حاجات أهلها، أو لا نزال ننمي ذلك الشيء، والثاني: أننا أخرجنا فيها كلَّ شيء بقدر معين مناسب أو ننميه.أي أن الله تعالى عالم الغيب..يعلم ما الذي
الجزء الرابع ۷۱ سورة الحجر تحتاج إليه الأرض وبأي مقدار.فكلمة موزون تشير إلى أنه تعالى قد خلق فيها كل شيء مناسب كما ونوعا.وعلاقة هذه الآية بما قبلها هي أن الله و قد تحدث من قبل عن نزول القرآن الكريم وحمايته، ودلّل على هذه الحماية غير العادية بضرب مثال ذي صلة بالسماء.والآن ضرب مثالاً آخر ذا صلة بالأرض وقال: إننا قد زوّدناها أيضًا بوسائل غير عادية تحميها من الضعف وتنمي قدراتها.وبعض هذه الوسائل خارجية وبعضها داخلية مثل: ١- المواد والذرات التي تسقط عليها من السماء؛ ٢ - الجبال ۳ - قدرات الأرض الداخلية.وهذا هو حال الوحى أيضا، فإنه يتقوى بالمدد السماوي، ويعمل أئمة المؤمنين على حمايته، كما أن محاسنه الذاتية تجذب الناس من كل الطبقات إلى معارفه.وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَيشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ شرح الكلمات مَعايش جمع معيشة، والمعيشة : التي تعيش بها من المطعم والمشرب؛ ما تكون به الحياة وما يُعاش به من طعام ونحوه مما يُكسب أو يعاش فيه من مكان وزمان (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى : لقد جعلنا لكم في الأرض أنواع الوسائل التي تعيشون بها، كما جعلنا فيها الرزق حتى لتلك الكائنات التي لا يقدر الناس على تزويدها بالغذاء.مشقة يدعي الإنسان بفضله على الحيوانات الأخرى، ولكنه يتكبد في كسب رزقه وعناء، بينما تجد هذه الكائنات الحية من حيوانات وحشرات – التي تبلغ البلايين لا الملايين - غذاءها مهيَّئًا ميسرًا.وهذا دليل على وجود ذات عليا لا يخفى عليها أي من مخلوقاتها، إذ لا يرزقها الإنسان، وإنما يرزقها الله الله
الجزء الرابع ۷۲ سورة الحجر وحي وعلاقة هذه الآية بما قبلها هي أنه تعالى ينبه هنا إلى أن الإنسان في احتياج دائم إلى الغذاء الروحاني أيضًا، لأن الناس في عصر معين لا يستطيعون أن يزوّدوا أهل عصر آخر بغذاء روحاني مناسب؛ ولذلك تجدون العلوم الإنسانية تتغير بمرور الزمن.فمن دواعي نزول الوحي ذي المعارف الواسعة وحفظه أنه لو ترك الأمر في أيدي الناس لما اهتموا بالرزق الروحاني للأجيال القادمة أبدا، بل لأخضعوا الله للظروف والعلوم السائدة في عصرهم، وبالتالي يظل الذين يأتون من بعدهم حيارى تائهين في الظلمات، لأن العلوم السابقة لا تشفي غليلهم، كما أن الوحي السابق المشوه لا يلبي حاجاتهم المتجددة.فكأن الله يقول: كما أننا هيأنا الرزق للحيوانات التي لا تطعمونها أو لا تقدرون على إطعامها..كذلك ادخرنا في هذا الوحى القرآني ما سيهيئ الغذاء الروحاني للأجيال القادمة التي لا يقدر الأولون على إمدادها به عندما تمس حاجتهم إلى هذا الرزق سوف يفتح ل لهم هذه الذخائر، ليأخذوا منها نصيبهم.هي الله كبيرة منة الله علينا ! إذ لو كانت المعارف القرآنية محدودة مختصة بالماضي لعانى طلاب الغذاء الروحاني اليوم معاناة شديدة، ولكن الله قد جعل بفضله عالم الوحي القرآني واسعًا مثل العالم المادي، بل أوسعَ منه، فلا يزال يزودنا في كل عصر بمعارفه الجديدة.وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَابِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ شرح ۲۲ ) الكلمات : ننزل نزله صيّره نازلاً.ونزل القوم أنزلهم المنازل.ونزل الشيء: رتبه.ونزل العير : قدّر لها المنازل والتنزيل يكون تدريجيًّا (الأقرب).
الجزء الرابع ۷۳ سورة الحجر قدر: القدر: ما يقدّره الله من القضاء؛ وعرّفه بعضُهم بأنه الإرادة بالأشياء في أوقاتها.والقدر : مبلغ الشيء؛ الطاقة (الأقرب).التفسير : هذه الآية شرح للآية السابقة، حيث كشفت عن حقيقة كبرى ألا أن عند وهي الله خزائن كل شيء، وأنه يوجه انتباه البشر إليها لدى حاجتهم إليها، فينتفعون بها.فكل هذه الكنوز الأرضية التي تكتشف اليوم كانت موجودة فيها منذ البداية.خذوا مثلاً الحديد، فإنه كان موجودًا في الأرض منذ القدم، ولكن لم يعلم الإنسان بوجوده إلا بعد مدة مديدة، وعندما علم به انتفع به بكثرة.ولما احتاج الإنسان إلى السير في الأرض راكبًا الحديد عثر على الفحم الحجـــري وعلى الطاقة البخارية، فأصبح هذا الجمادُ أي الحديد الذي لم يكن به حراك ولا حياة، يجري ويعمل كذوي الحياة.ثم لما زادت حاجات الإنسان أكثر اخترع الطاقة الكهربائية وبالاختصار لا تزال الأرض تلقي بخزائنها في كل زمن وعصر بحسب حاجة البشر إليها.يقول الله تعالى: هكذا تمامًا نحافظ على الوحي ونحتفظ بكنوزه التي ننزلها وفق حاجات البشر شيئًا فشيئًا.فلا تظنوا أن الله تعالى كتاب فحسب..أنزله ثم تخلى عنه كلا، بل إن الوحى عالم فيه ملايين الكنوز للبشر من مختلف العصور، فكيف يمكن أن يتخلى الله عن حماية هذه الكنوز ما لم توزع كلها على مستحقيها أجمعين؟ نعم، حينما ينتهي ما في الوحي من خزائن يتخلى الله 6 عن حماية ذلك الوحي، حيث لا يبقى فيه ما يمكن توزيعه على الناس.وليكن معلومًا أن الآيات السابقة أيضًا تناولت موضوع حماية القرآن الكريم، بيد أن الخطاب فيها شمل المسلمين أيضا، وذلك ردًّا على الأخطاء التي كان من الممكن أن يقع فيها المسلمون حول عقيدة حماية القرآن.
الجزء الرابع ٧٤ سورة الحجر وَأَرْسَلْنَا الرِّيحَ لَوَقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ يَخَزِنِينَ (3) شرح الكلمات: لَوَاقِحَ يقال : لقحت الناقةُ لقاحًا وكذلك الشجرة: (أي صارت حُبلى).وألقح فلان النخل (أي) (برها) وأرسلنا الرياح لواقح: أي ذوات لقاح (المفردات).واللواقح من الرياح التي تحمل الندى ثم تمجه في السحاب، فإذا اجتمع في السحاب صار مطرا (الأقرب).التفسير : اللواقح هي الرياح التي تحمل ذرات اللقاح من عضو المذكر إلى عضو المؤنث من الأشجار؛ فتأتي بثمارها.وتعني اللواقح أيضا الرياح التي تحمل البخار الصاعد من على سطح الأرض ثم تؤلّف بينه فيصير سحابًا.وقد ينطبق هنا كلا المعنيين لكلمة اللواقح فيبين الله تعالى: نرسل الرياح التي تحمل ذرات اللقاح من عضو المذكر إلى عضو المؤنث من الأشجار لتكون صالحة للإثمار؛ كما نرسل أيضا الرياح التي تحمل البخار الصاعد من على سطح الأرض ثم تؤلّف بينه فيصير سحابًا ينزل في شكل المطر على الأشجار التي لقحتها الرياح الأولى، لتكون هذه الأشجار أكثر ريعًا وإنتاجًا.وأخيرًا لَفت النظر إلى أمر هام حيث بين أن هذا الماء، الذي يوجد بكثرة والذي هو بالغ الأهمية للإنسان لا يستطيع الإنسان تخزينه، فكيف يدعي إذن أنه قادر بنفسه على الحفاظ على ما يحتاج إليه في المجال الروحاني.لقد وجه الله الخطاب هنا إلى الكفار والمؤمنين معًا فيما يتعلق بحفظ الوحي.فأما الكفار الذين قالوا ما الداعي لنزول القرآن الكريم رغم وجود الأسفار السابقة، فأجابهم : ألستم بحاجة إلى السحب رغم المياه الأرضية؟ لماذا؟ لأن المياه الأرضية لا تبقى صالحة بدون المطر من السماء.
الجزء الرابع Vo سورة الحجر وأما المسلمون فنبههم ألا يغتروا من وجود القرآن بينهم، فيظنوا أن هذا کاف.كلا، وإنما عليهم أن يدركوا أن الماء السماوي لا يعود إليهم صافيًا إلا من قبل السماء.فكلما يكدرون ماء معارف الوحي القرآني بشوائب أفكارهم الفاسدة سوف يدبّر الله تعالى من السماء تصفية هذا الماء الروحاني ليعود إلى الدنيا صافيًا نقيا مرة أخرى.وَإِنَّا لَنَحْنُ في وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) شرح الكلمات: ٢٤ الوارثون: اسم فاعل من وَرِثَ؛ الباقي بعد فناء الخلق، وفي الدعاء: "اللهم أمتعني بسمعي وبصري، واجعله الوارثَ مني"..أي أبقهما معي صحيحين حتى أموت (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى: نحن الباقون وأنتم ،الفانون، وكيف تستطيعون أيها الفانون أن تحافظوا على وحينا.لذلك فلا نفوّض أمر حماية الوحي إلى البشر المعرضين للفناء.وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ (3) ۲۵ التفسير أي لا تقولوا ما دام المؤمنون موجودين في الدنيا فكيف لا يستطيعون الحفاظ على الوحى؟ ذلك أن حماية القرآن لا تتم بالعلوم الظاهرة وحدها، وإنما مدارها على طهارة القلب، والله تعالى وحده يعلم أحوال القلوب، وهو الوحيد الذي يعلم من هو المخلص في إيمانه والسابق في الخير حقيقة؛ ولذلك فإنه وعل يتولى بنفسه عملية تعيين المحافظين على هذا الوحي.فمن رآه سبّاقا في طهارة القلب عهد إليه هذه المهمة، أما الذين وجدهم مقصرين في طهارة الباطن لم يعتبرهم أهلاً لحمل هذه المسئولية، وإن كانوا جهابذة في العلوم الظاهرة.
الجزء الرابع ٧٦ سورة الحجر وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ تَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمُ عَلِيمٌ شرح الكلمات: ٢٦ يحشر: حشر الناس يحشر حشراً جمعهم.ويومُ الحشر: يوم البعث والمعاد، وهو مأخوذ م من حَشَرَ القومَ إذا جمعهم.والحاشر اسم من أسماء نبي المسلمين (الأقرب).التفسير يسمّى يوم البعث بعد الموت حشرًا لأن الله تعالى سوف يحشر فيه الأولين والآخرين.ويُطلق الحشر أيضًا على ذلك الاجتماع الذي يتم في الدنيا على أيدي الأنبياء..حيث يُخرج الله القوم كله من شتى الاختلافات والنزاعات لينخرطوا في سلك الوحدة تحت راية نبيهم.ما من نبي إلا وقد تم على يده هذا الحشر.انظروا إلى الحشر الرائع الذي وقع في عهد النبي ﷺ جمع أصحاب الأفكار المتباينة على كلمة واحدة، ثم انتشروا في العالم أجمع.وهذه الآية تشير إلى الحشر بنوعيه الدنيوي والأخروي.فقال عن الحشر الدنيوي: إن قومك يا محمد يعارضونك اليوم ولا شك، لكننا سنجمعهم كلهم على يدك في يوم من الأيام.وذكر الله ل هنا صفتي حكيم عليم ليبين أنهم لن يُجمعوا حول النبي ﷺ فورًا لأن هذا ينافي الحكمة الإلهية.وذلك (أولاً) لأن السبيل الجمعهم حوله على الفور هو أن يتصرف الله في قلوبهم فيُكرههم على الإسلام، ولكن إسلامهم هذا ما كان لينفعهم شيئًا، لأن مثل هذا الإيمان لا يُكسب صاحبه جزاء ولا إنعاما.و(ثانيا) لو أنهم آمنوا بهذا الأسلوب لما انكشف للناس الفرق بين ضعاف الإيمان وبين أصحاب القوى الروحانية العظيمة الذين يعرفون النبي منذ البداية، ولما أمكن التمييز بين أبي بكر الله وأبي جهل، ولما عرفت الدنيا الكفاءات الكامنة في الأول والجهالة المتأصلة في الأخير.فمن أجل هذه الحكم لم يُجبرهم ا الله على الإسلام وكانت النتيجة أن عرف الناس مزايا الكاملين وكذلك من
الجزء الرابع VV سورة الحجر من دونهم من المؤمنين، كما عرفوا أيضًا الحالة المتردية للذين كانوا عاطلين أصلاً أي خير وصلاحية؛ فانتفعت الدنيا من كفاءات أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كل في عهده – رضوان الله عليهم.ولو أن الجميع آمنوا في أول يوم فلربما اختار القوم أبا جهل أو من على شاكلته سيدًا عليهم بسبب سيادته السابقة، وبالتالي لحرموا من المنافع التي جنوها من أبي بكر وغيره من الصحابة الأوائل الذين سبقوا بالإيمان.وأما صفة عليم ففيها تذكير إلهي للنبي ﷺ بأن تأخير إسلام القوم لهذه الحكمة يجب ألا يولد فيك اليأس، فإننا نؤكد لك - بناء على علمنا – أن القوم جميعًا سوف يجتمعون على هذا الدين.أما بالنظر إلى الحياة الآخرة فالمراد من هذه الآية أن الأولين والآخرين سوف يحشرون جميعًا عند الله في يوم من الأيام، ليُجزَوا على أعمالهم.فيجب ألا يضيق أحد ذرعًا مما يلاقيه المسلمون اليوم من أذى وفتنة وألا يُعتبر خائبًا مَن يُقتل في هذه المعركة الدائرة بين قوى الرحمن والشيطان قبل فتح المؤمنين، لأن يوم الجزاء الحقيقي سوف يكون بعد الموت، إذ لم يجعل الله - لحكمته وعلمه – هذا العالم دار الجزاء الحقيقي.وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَنَ مِن صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ؟ شرح الكلمات: ۲۷ صلصال : صَلْصَلَ الشيءُ: صوَّت.وصلصل الجرس: رجع صوته.وصلصل فلانًا: أوعَدَه وهدّده.وصلصل :زيد قتل رئيس العسكر.(ذلك لأن قتل قائد الجيش يحدث ضجة كبيرة بين القوم).وصلصل الرعد: صفا صوته.والصلصال: الطينُ الحُرّ خُلط بالرمل؛ وقيل: الطين ما لم يُجعل خزفًا (الأقرب).
الجزء الرابع سورة الحجر وصَلَّ اللجام وصلصلَ َوكُلُّ يابس يصلصل : امتد صوته.وفي رواية: "أحيانًا يأتيني (أي الوحي) مثل صلصلة الجرس".والصلصال: الطين الحرّ خُلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ فهو الفخار.وقال مجاهد : الصلصال : حَمَةٌ مسنون.وصلصل الرجلُ: أوعَدَ وتهدّد؛ وأيضًا إذا قتل سيد العسكر.وتصلصل الغدير : إذا جنّت حَمْأَتُه.وفرس صلصال : حادّ الصوت دقيقه.وقال أبو أحمد العسكري: يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت صال وصلصال، وبه فُسّر الحديث: أتحبّون أن تكونوا مثل الحمير الصالة؟ كأنه يريد صحيحة الأجساد شديدة الأصوات لقوتها ونشاطها.(تاج العروس) وعن ابن عباس : الصلصال هو الماء يقع على الأرض فتنشق فيجف ويصير له الصوت والصلصال الطينُ اليابس يصل أي يصوّت عند النقر؛ أو (الطينُ) المنتنُ.انظر مجمع بحار الأنوار تحت "صلصال") حَمَــا : حَمَاً يحمأُ البشر: نزع حَمْأَتها.والحَمأُ والحَما: كلُّ ما كان من قبل الزوج مثل الأخ والأب.والحَمأُ : الطين الأسود (الأقرب).مسنون سَنَّ السكِّينَ يسُن سُنا : أحَدَّه وصقله.وهذا مما يستك على الطعام..أي يشحذك على أكله ويشهيه إليك.وسن الطينَ: عَمِلَه فحّارًا.وسنَّ الشيء: سهله؛ صوّره.وسنَّ على القوم سُنّةً : وصفها.) ومنه العمل المسنون..أي ما أقره لنا النبي الحمه المسنون: المنتن.والمسنونة: الأرض التي أُكل نباتها (الأقرب).التفسير : لقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة من حمأ مسنون الواردة في قوله تعالى : من صلصال من حمأ مسنون ، فقال بعضهم: إن من حما في موضع جرّ صفةٌ لصلصال..أي الصلصال الذي تكوَّن من حمأ مسنون (الإملاء، والكشاف).بينما يرى الحوفي أن من حمأ مسنون) بدل من قوله تعالى من صلصال.(البحر المحيط لأبي حيان، وإملاء ما من به الرحمن لأبي البقاء)
الجزء الرابع ۷۹ سورة الحجر فتعني الآية - على القول الأول - أن الإنسان في حالته الأولى كان حمأ مسنونًا ثم تحول إلى صلصال؛ وتعني – على القول الثاني – أن الصلصال والحمأ المسنون إنما تشيران إلى شيء واحد، وقد جيء بهذين المترادفين توضيحا للمراد فحسب.وفي حالة قبول الرأي الثاني أرى أن الأصح هو ألا نعتبر ألا نعتبر كلمة "من حماً مسنون" بدلاً، بل نعتبرها عطف بيان لأنه في حالة "البدل" يكون الاسم الثاني هو المقصود، بينما يُؤتى بالاسم الأول لتقريب المعنى فحسب؛ ولكن في حالة "عطف بيان" يكون الاسم الأول هو المقصود بينما يُؤتى بالاسم الثاني لتوضيح المراد أكثر.وأرى أن من صلصال" في هذه الآية هو المراد الأصلي، وأن "من حمأ مسنون" بيان وتوضيح له.وعليه فالمراد من الآية أن الله تعالى أخبر الملائكة أنني سأخلق بشرا من تراب مصوّت، أي من حمأ قد أفرغ على شكل معين؛ بمعنى أن الإنسان خُلق من تراب ممزوج بالماء، موضوع في قالب معين فارغ باطنه، يُحدث صوتًا عند الضرب.وقد أشير في هذه الجملة إلى عدة أمور هي: الأول: أن الإنسان مخلوق من التراب.والثاني: أنه قد رُكب تركيبا خاصا بحيث إنه يشعر في داخله بفراغ.والثالث: أنه يُحدث الصوت عند الضرب..بمعنى أنه قادر على تلبية النداء الإلهي، مثل الإناء الأجوف الذي إذا ضُرب رجّع الصوت.ذلك أن الله تعالى حينما يضرب الإنسان أي يختبره فإنه لو كان صالحًا سليم الباطن يستجيب له ويلبي نداءه.وهذا هو ما يميّز الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى..أعني أن الإنسان صالح لقبول الاختبار الإلهي ولاستجابة ندائه.أما الصورة التي خُلق عليها الإنسان في البداية والتي تشير إليها كلمة حماً مسنون فلم يحدّدها القرآن الكريم، ومن الممكن أن تكون تلك الصورة البدائية ـير مرئية كلية بالعين المجردة.ومهما يكن من أمر فإن تلك الصورة الإنسانية الترابية الأولى كانت منذ البداية صلصالاً، بمعنى أنها كانت صالحة لأن يختبرها الله فتستجيب له.
الجزء الرابع ۸۰ سورة الحجر لقد اتضح من ذلك أن القرآن الكريم يسلّم بتطور الخلق الإنساني، ولكنه تطور مخطط مدروس منذ البداية، وليس تطورًا عشوائيا حدث صدفة.يخبرنا القـــرآن أن خلق الإنسان تم بالتدريج مرحلة فمرحلة، ولكنه لا يسلّم بأن الخلية الحياتية التي قدر لها أن تصبح إنسانًا كانت في أي وقت شيئًا غير إنسان، بل إنه يؤكد أن تلك الخلية، منذ أن خُلقت وبأية صورة خُلقت، كانت مزودة بقدرة على أن تصبح إنسانًا وأن تتلقى الإلهام.إنها في كل مراحل خلقها كانت متجهةً إلى غاية محددة مخططة، وليس كما تقول نظرية دارون أن بعض أجزائها لم تزل تتفرع عنها في حالتها الناقصة، بينما لم تزل بعض أجزائها الصالحة في التطور والتقدم منفصلة.لقد فسّر المفسرون عموما كلمة "مسنون" بمعنى "منتن"، بينما فسرتُها بمعنى مصور، ذلك لأن العلامة أبا حيان قال في تفسيره: "وقال غيره إن "المسنون" من أَسَنَ الماء: إذا تغيَّرَ.ولا يصح لاختلاف المادتين".(البحر المحيط، تحت هذه الآية)..فما دامت كلمة "السن" تعني أيضًا إقرار العمل والتصوير، وتشحيذ الشيء وصقله، وعمل الفخّار..فيجب أن نقول إن المسنون بمعنى المتغير المنتن مجاز، وأن معناه الحقيقي هو الشيء المعمول على صورة معينة أو المركب تركيبا يُحدث فيه الصوت.هذه الآية تمثل ردًّا على الذين يستغربون من ظاهرة الوحي الإلهي قائلين: كيف يمكن أن يكلم الله البشر؟ فيرد الله عليهم : ليس غريبا أن يكلم الله البشر، وإنما الغريب ألا يكلّمهم.ذلك أن الإنسان مجبول، منذ بداية خلقه، على تلقي الوحى من عند الله تعالى وأنه عمل قد حدد غاية خلق الإنسان أن يصل إلى الكمال، فيتشرف بوحيه الله فلا تقولوا كيف تلقى محمد الوحى من الله : الله تعالى، أو كيف يمكن أن يتشرف أتباعه بالإلهام في المستقبل لحماية الوحي النازل عليه او له بل الحرية أن تتعجبوا على حالتكم، لأنكم رغم كونكم مخلوقين من
الجزء الرابع ۸۱ سورة الحجر صلصال - لا تزالون محرومين من نعمة الوحي الإلهى، فيجب أن تهتموا بإصلاح أنفسكم.كان الحديث في الآية السابقة عن الحشر حيث قال الله تعالى: وإن رَبَّكَ هو تشرهم إنه حَكِيمٌ عَليمٌ ، وأما الآن فبدأ الحديث عن خلق آدم.فهل هذا الأسلوب محض صدفة، يا تُرى؟ إن دراسة القرآن الكريم تكشف لنا أنه كلما تناول موضوع خلق آدم تحدث قبله دائمًا عما هو ذو صلة بالحشر أو البعث بعد الموت.وإليكم بيان ذلك: أولاً - ورد في سورة البقرة قبل الحديث عن خلق آدم: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يُمِيتُكم ثم يُحييكم ثم إليه ترجعون) (الآية: ٢٩) ثانيا وفي سورة الأعراف تناول الله تعالى موضوع الحشر من بدايتها حتى الآية رقم ١١، ثم أردفه بحديث خلق آدم.ثالثًا - وهنا في سورة الحجر تحدث أولاً عن الحشر، ثم ذكر خلق آدم.رابعا - ثم في سورة الكهف ذكر الله الحشر والبعث والجزاء ثم قصة آدم فقال: ويومَ نُسيّرُ الجبال وترى الأرض بارزةً وحشرناهم فلم نغادر منهم أَحَدًا * وعُرضوا على ربِّكَ صَفًّا لقد جئتُمونَا كما خَلَقْناكم أوّلَ مرّة بل زعمتم أَلَّنْ نجعَلَ لكم موعدًا * ووُضِعَ الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا وَيلَتَنا مال هذا الكتاب لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربُّكَ أَحَدًا * وإذْ قلنا للملائكة اسْجُدُوا لآدَمَ فسجدوا إلا إبليس.....(الآيات: ٤٨-٥١) خامسا - وفي سورة طه ذكر الله أولاً موضوع الحشر مفصلاً من قولــــه الله تعالى يَومَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ونَحشُرُ الْمُحرِمِينَ يَومَئِذٍ زُرْقًا حتى قوله وقُلْ رَبِّ زِدْني علمًا، ثم تحدث عن آدم وقال ولقد عَهِدْنا إلى آدَمَ..(الآيات.(١٠٣ - ١١٦
الجزء الرابع ۸۲ سورة الحجر سادسًا - ثم في سورة ص ذُكرت الجنة والنار قبل الحديث عن خلق آدم الآيات : ٥٠ - ٨٩ فبالنظر في هذه الأماكن كلها يمكن حتى لمعارضي القرآن أن يدركوا أن الذي أنزل القرآن قد راعى ترتيبًا معينًا، سواء فهموه أم لا، وأن القول بعدم وجود ترتیب ولا ربط في الوحي القرآني زعم باطل تمامًا.وإلا فلم لم يتناول القرآن موضوع الحشر قبل الحديث عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، بينما تحدث دائما عن هذا الموضوع بالذات قبل أن يتطرق إلى قصة آدم؟ هناك أمثلة كثيرة على ذلك حيث تكررت في أماكن معينة من القرآن الكريم بعض المواضيع المعينة بأسلوب معين في كل مرة.وعلى سبيل المثال، كلما أنبأ الله ل عن ازدهار الإسلام وانتشاره انتشارًا عالميا سجل هذا النبأ مشفوعا بذكر المسيح ال.لقد تكرر هذا الموضوع في ثلاثة أماكن، وفي كل مرة تطرق الحديث إلى المسيح.وأرى أن لمعارف القرآن كلها مفتاحًا وسرا، وهذا المفتاح يطلع عليه الإنسان من خلال الإلهام الإلهي أحيانًا، وفي أحيان أخرى بإعمال الفكر والتدبر في آيات القرآن الكريم.فقد أُلقي في روعي مرة أن مفتاح معارف سورة البقرة هو قوله تعالى: ﴿رَبَّنا وَابْعَثْ فيهم رسولاً منهم يَتلُوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (الآية: ١٣٠).فتمكنت – بمساعدة لذا المفتاح - من حل جميع الأماكن الصعبة من سورة البقرة.كذلك ألقى الله ا الله في قلبي مرة أن البسملة مفتاح لمعارف كل سورة من سور القرآن الكريم، ومن أجل ذلك وردت في مستهل كل سورة مع العلم أن سورة التوبة خالية من البسملة لكونها في الواقع تكملة لسورة الأنفال.أعود مرة أخرى إلى ما كنت بصدده وهو التأكيد أن القرآن قد ذكر الحشر قبل الحديث عن آدم في كل مرة وهذا يدل صراحة على أن بين الموضوعين صلة وثيقة، وهي كالآتي:
۸۳ سورة الحجر الجزء الرابع أولاً: إن قضية حشر الأجساد والجزاء منوطة تماماً بخلق آدم.ذلك أنه لو لم یکن هناك كائن عاقل قادر حر في أعماله لما كانت هناك من إمكانية للحشر والثواب والعقاب.فالحيوانات مثلاً لا تعمل وفق أية شريعة، لأنها لا تملك عقلاً، وبالتالي لا تستحق أي ثواب أو عقاب، ومن ثم لا تحتاج إلى أي حشر حقيقي.كذلك الملائكة لا تستحق أي جزاء على أفعالها، لأنها لا تملك حرية ولا إرادة، وإنما جبلت على فعل الخير فحسب، كما صرّح الله بذلك قائلا: ويفعلون ما يُؤمرون) (النحل: (٥١).أما الشيطان فهو أيضا لا يستوجب العقاب، لأنه يؤدّي واجبه، شأنه شأن الأشياء الرديئة الأخرى التى لا تستوجب العقاب لأنها رديئة في حد ذاتها.وأما الشياطين من الناس فلا جرم أنهم يستحقون العقاب على أعمالهم، لأن الحشر لن يقوم إلا لحساب الإنسان..هذا الكائن الذي يملك الإرادة والحرية في أعماله فثبت أن خلق الإنسان هو السبب لوقوع الحشر، ومن أجل ذلك كلما تحدث القرآن عن خلق آدم ذكر قبله الحشر، وذلك تدليلا على أن الخلق الإنساني يتطلب حشرًا، وأن الحشر يقتضي نزول شريعة، إذ لا منطق في أن يعاقب أو يثاب أحد على عمله من دون أن تقام عليه الحجة.وثانيًا: إن خلق الإنسان دليل على وجود الحشر وإليكم بعض الأدلة على ذلك: ١ - لقد اكتمل خلق الإنسان عبر عملية التطور من أدنى حالات الخلق.وهذا يشكل دليلاً على وجود دار الجزاء، إذ لو أن الإنسان خُلق هذه الخلقة الكاملة مرة واحدة لأمكن القول بأنه خُلق ،صدفة، شأنه شأن الأشياء الأخرى التي أيضا خلقت بالصدفة نتيجة التغيرات الطبيعية.ولكن كون الإنسان قد تطور من أدنى الات الخلق مرورًا بكثير من المراحل والتقلبات، ثم توقف تطوره بعد اكتمال خلقه في الصورة الحالية ولم يصبح مخلوقا آخر..كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الخلق الإنساني تم بحسب تخطيط معين، وأن الإنسان هو الغاية من خلق الكون كله.
٨٤ سورة الحجر الجزء الرابع ٢ - هناك قوتان في الدنيا: قوة الخير وقوة الشر والإنسان مزود بكلتيهما وقادر على التصرف بأيتهما شاء، مما يدل أنه خُلق ليحكم الدنيا؛ فلزم أن تكون نتيجة حياته أكثر من عمله، وهذا لا يتحقق إلا بوجود يوم الحشر والجزاء.٣- الرقي المادي متوقف على اتباع السنن الطبيعية، لا على المثل الأخلاقية والروحانية، ولكننا نجد أن الأخلاق النبيلة والأحوال الروحانية تشكل الجزء الأكبر من كيان الإنسان؛ فلا يمكن إذا أن يكون الرقي المادي هو الغاية التي يصبو إليها الإنسان بل لا بد من مكان آخر ينال فيه الإنسان الجزاء على ما يقدمه من تضحيات أخلاقية وروحانية.أما قوله تعالى من حمأ مسنون فبين فيه أن الإنسان مخلوق من خليطا من الماء والتراب.وقد ذكر الله له كل واحد والتراب، لأن الحماً يعني الماء من هذين العنصرين منفصلاً في أماكن أخرى، فقال في موضع: وجَعَلْنا الماء من كل شيء حي (الأنبياء (۳۱)، وقال في موضع آخر: إنّ مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون (آل عمران: ٦٠).وأما هنا في سورة الحجر فأشار إليهما معًا بكلمة حما) فقال: من صلصال من حمأ مسنون..أي خلقنا الإنسان من خليط الماء والتراب الذي أُفرغ في مورة معينة ليكون قادرًا على إحداث الصوت.فكلمة صلصال تشير صراحةً إلى قوة النطق التي يمتاز بها الإنسان عن سائر الحيوانات الأخرى، وكأنه قال: إن الكائنات الحية كلها مخلوقة من حمأ مسنون، ولكن الإنسان تغلب عليه الصفة الصلصالية، ومن أجل ذلك نجد الحديث الشريف – الذي مر ذكره في شرح الكلمات - يسمّى الناس: (الحمير الصالة)، كلمة مشابهة وهي للصلصال.هذا، وإن كلمة صلصال تشير أيضًا إلى أن نطق الإنسان متوقف على إرادة الله وعل، لأن لفظ (صل) أو (صلصل) يدل على صوت يحدث بالضرب.وهذه هي حقيقة الإنسان تماماً، إذ لا يصدر عنه الصوت الذي هو مخلوق من أجله ما
الجزء الرابع ٨٥ سورة الحجر لم يضربه الله تعالى..بمعنى أنه تعالى يشرفه بكلامه وعمل بعد اختباره بإلقائه في المحن والمصائب.وقوله تعالى من حمأ مسنون لا يعني أن الإنسان خُلق من تراب لا حياة فيه.كلا، إنما المراد منه البيان أن المادة الحيوانية لا يمكن أن تتطور بدون الجسم، والجسم يتكون من التراب؛ وإنما استخدم هذا التعبير ليعرف الإنسان كيف كانت بدايته.علما أن ادعاء العلماء بأن المادة الحيوانية لا تتولد إلا من حيوان لزعم يفتقر إلى البحث والتحقيق ذلك أن دليلهم الوحيد هو مشاهدتهم الحالية؛ ولكن من البديهي أن هناك بونا شاسعًا جدا بين الظروف السائدة الآن وبين ما كان عليه الكـون لــدى خلق هذه المادة الحيوانية الأولى.ثم إن هؤلاء العلماء أنفسهم يعترفون بأن المادة الحيوانية الأولى نفسها لم تزل تتطور حتى أصبحت في وقت من الأوقات إنسانًا، بيد أن هذا لا يحدث الآن؛ مما يوضح أن هناك تفاوتا كبيرًا جدا بين الظروف الحالية وبين ما كان عليه الكون عند بداية خلقه.كانت الأحوال آنذاك مواتيةً جدا لخلق الحياة بسرعة هائلة، ولكن الأمر ليس كذلك الآن.فمن المحتمل أن تكون الذرات الخالية من أي حياة تنقلب عندئذ إلى ذرات حية بسبب بعض التقلبات، ولكن الظروف لم تعد كذلك بعد أن اكتسبت الأرض الكمال.إذا فليس من العلم في شيء أن يقيس هؤلاء الظروف المتفاوتة المختلفة بمقياس واحد.كما أن هذه الآية لا تعني أن الإنسان صار إنسانًا فجأة، فإن القرآن الكريم ينص مرارًا أن الكون قد خُلق تدريجيًّا.وأخبر أن الخلق الإنساني نوعان: الخلق الترابي والخلق التناسلي، كما قال الله تعالى الله يبدأ الخلق ثم يعيده) (يونس: ٣٥).ونجد أن الخلق التناسلي يتم تدريجيا حيث لا يولد المولود فور اجتماع الزوجين؛ فلماذا لا نسلّم إذًا بأن الخلق الترابي قد تم كذلك تدريجيا؟
الجزء الرابع ٨٦ سورة الحجر فالحق أن هذه الآية تشير فقط إلى تلك المرحلة من الخلق الإنساني التي تطورت فيها قواه الحيوانية وزُوِّد بالقوى الإنسانية التي ميزته عن الحيوانات الأخرى، وهي المرحلة الصلصالية للحمأ المسنون، التي زُود فيها الإنسان بصلاحية تلقي الوحي أو أن الآية مجرد إشارة إلى تلك المرحلة من خلقه حين دبت فيه الحياة.ولو قيل: لماذا نسلّم بأن هذه الآية تشير إلى بداية المرحلة الإنسانية أو الحيوانية من الخلق البشري، ولماذا لا نقول إنما تعني أن الله تعالى بدأ خلق البشر بأن من الطين ونفخ فيه الروح، فصار إنسانًا؟ فالجواب أن القرآن الكريم نفسه تمثالاً صنع ينفي كون هذه الآية تتحدث عن بداية الخلق الإنساني، والدليل على ذلك هو قول الله تعالى (وَمِنْ آياته أَنْ خَلَقَكم من تُرَاب ثم إِذا أَنتم بَشَرٌ تَنتشرُونَ (الروم : ۲۱.فهناك تعارض في الظاهر بين هذه الآية وبين التي نحن بصدد تفسيرها، لأن هذه تذكر خلق الإنسان من تراب، بينما الآية التي تفسيرها تعلن عن خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون.فثبت أن الله تعالى قد أشار بكلمة (تراب) في سورة الروم إلى المرحلة البدائية من الخلق الإنساني، بينما في سورة الحجر لم يذكر الله له المرحلة الأولى الترابية، وإنما اكتفى بذكر المرحلة التالية لها باستخدام كلمة حمأ مسنون ).هذا، ونجد في موضع آخر فرقًا أكبر حيث يقول الله تعالى ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِن راب ثم من نطفة (فاطر: (۱۲)..فهنا حذف ذكر الحلقة الثانية أي الصلصالية من الخلق الإنساني، مكتفيًا بذكر الحلقة الأولى الترابية، ومشيرًا إلى حلقة أخرى وهي مرحلة النطفة.كما نجد في مكان آخر ذكرًا مختلفًا عن ذلك أيضًا حيث يعلن الله ل هو الذي خَلَقَكم مِن تُراب ثم مِنْ نُطفة ثم مِن عَلَقة ثم يُخرِجُكم طفلا (غافر : ٦٨).فبيّن أن الإنسان لم يُخلَق من النطفة فجأة، وإنما صار من النطفة علقةً، ثم طفلاً.
الجزء الرابع ۸۷ سورة الحجر ولكن في موضع آخر أضاف الله الا الله إلى الحلقات التالية للنطفة حلقة أخرى إذ قال يا أيها الناس إنْ كنتم في ريب مِن البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكم من تُراب ثم من عَلَقة ثم من نطفة ثم من لم يُخلـق مـــن مضغة مخلقة وغير مخلقة (الحج: ٦)..أي أن الإنسان العلقة مباشرةً، بل تحوّلت العلقة إلى المضغة التي مرت بمرحلتين أيضًا: المضغة الكاملة وغير الكاملة.الحلقات ثم في سورة المؤمنون ذكر الله هلال الاول حلقات إضافية أخرى فقال ولقد خَلَقْنا الإنسان من سُلالة من طين ثم جَعَلْناه نُطْفَةٌ في قَرارِ مَكين ثم خَلَقْنا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المضغة عظامًا فكسونا العظامَ لَحْمًا ثم أَنشَأْناه خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أحسنُ الخالقين) (الآيات: ١٣ - ١٥).فهنا ذكر ثلاث حلقات إضافية تكون بعد المضغة: خلق العظام، ثم تغطيتها باللحم، ثم خلق آخر حيث تدبّ الحياة في هذه المواد غير الحية في الظاهر.ندرك بالتدبر في هذه الآيات أن القرآن الكريم لا يذكر أحيانًا بعض من الخلق الإنساني، مما يبطل ظن العامة أن الله صنَع تمثالاً من الطين، ونفخ فيه الروح، فصار إنسانًا.الحق أن القرآن الكريم يعلّمنا أن الخلق الإنساني اكتمل مرورًا بمراحل مختلفة، وأن كلمة "التراب" لا تقصد إلا الإشارة إلى أن بداية الخلق الإنساني كان من التراب.وهذا أمر ثابت مؤكد، لأن الإنسان ما زال إلى اليوم يستمد غذاءه من التراب نفسه، وإنما يؤخذ غذاء أي شيء مما صُنع وإلا لن يكون غذاء مناسبًا له.فمثلاً إذا تأكل الحديد فلا يتم تلحيمه إلا بقطعة حديدية، لأن أي شيء آخر لن يقوم مقامه.فبما أن غذاء الإنسان إنما يتركب منه، من عناصر التراب فلا شك أنه خُلق أيضًا من العناصر التي تركب منها التراب.والإنسان آخر حلقة متطورة من حلقات خلق هذا الكون، ولم يأت من الخارج.ولست هنا بصدد الحديث حول الخلق الإنساني، وإنما المكان المناسب لهذا البحث هو في سورة البقرة أو سورة الأعراف.
الجزء الرابع وَالْجَانٌ خَلَقْتَهُ مِن قَبْلُ من نار السموم ).شرح الكلمات: ۲۸ سورة الحجر الجان: جَنَّ عليه الليلُ يُجنِّ جَنَّا وجُنونًا: ستره وأظلَمَ عليه.جَنَّ الليلُ : أَظلم واختلطت ظُلمتُه.وجَنَّ الجنين في الرحم استتر.والجان: اسم فاعل؛ واسم جمع للجن؛ وحَيّة بيضاءُ كَحْلاء العين لا تؤذي الأقرب).والجان أبو الجنّ.(التاج).السَّموم: سَمَّ الطعامَ يسمّ سَمَّا : جعَل فيه السم.وسَمَّ الأَمرَ: سَبَره ونظَر غُورَه.وسَمَّتِ الريحُ سُـ الريحُ سُمومًا أحرقت.والسَّمومُ : الريح الحارة.وقال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل وقيل : السَّموم الحر الشديد النافذ في المسام (الأقرب).والسموم عند ابن عباس: نار لا دخان لها (البحر المحيط).بالنظر إلى المعاني المذكورة أعلاه يعني السَّموم الشيء الذي ينفذ إلى شيء آخر بطريق دقيق ويؤثر فيه، ومنه سُمي السمّ الذي يسري إلى داخل جسم الضحية عبر العروق فيقضي عليها بسرعة، وهناك من السموم ما يؤثر حتى بالشم والمس.التفسير وكما سجلنا آنفًا فإن الجن تعني لغةً: كل شيء يغطي الشيء الآخر ويستره أو يُظلم عليه؛ أو كل شيء مظلم أو مستتر عن الأعين.وتعني الجن عرفا كائن يظل مستترا عن أعين البشر إلا أن يظهر بنفسه على أحد.والاعتقاد بوجود كائن كهذا سائد في العالم عموما.فهناك من الأمم التي تعتقد بأن الملائكة نفسها تصبح شريرة، لذلك فالملائكة عندهم نوعان: نوع خير وهو عام، ونوع شر وهو الجن والشياطين.يقول الهندوس أن هناك نوعين من الأرواح التي لا تُرى وهما "غندهروا" و"أبسرا".والأولى أرواح برية، والثانية أرواح بحرية؛ وباتصال الاثنتين خرج النسل الإنساني في شكل "ياما" وأُخته "يامي" التي خلقت معه توأما، فكانا أول زوج إنساني.
الجزء الرابع ۸۹ سورة الحجر وتقول الفكرة الهندوسية أيضًا أن أرواح "غندهروا" لها أرض منفصلة وخيل خاصة، وأن موطنها هو ما وراء نهر السند، وأن مدينة "تيكسلا" أيضًا تقع في الأراضي الغندهروية.(الموسوعة البريطانية، كلمة: غندهروا وأبسرا) والفكرة نفسها توجد لدى الزرادشتيين مع شيء من الاختلاف، إذ يعتقدون بوجود إلهين: إله الخير واسمه "أهر مزد"، وإله الشر واسمه "أهر من".ولإله الخير جند يمكن تسميته بالملائكة بحسب مصطلحنا، كما لإله الشر أيضًا جندٌ يمكن تسميته بالشياطين وفق مصطلحنا.(المرجع السابق كلمة ديمن) ونجــــد عند اليونان أيضا فكرة وجود الأرواح بنوعين: أرواح الخير وأرواح الشر، حيث كان أتباع فيثاغورس وأفلاطون يعتقدون بوجود كائنات غير مرئية بعضها خير وبعضها شرير.وأمــــا اليهود فيعترفون بوجود كائنات غير مرئية باسم الملائكة والشياطين والأرواح الشريرة، وهي مذكورة في صحف موسى ال.فقد جاء ذكر الملائكة في حلم يعقوب ال حيث قيل : ورأى" حلما، وإذا سُلّم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها." (تكوين (۲۸:۱۲ وذكر الشيطان في التوراة في قصة آدم ، حيث قام الشيطان بإغوائه وحواء، فأكلا من الشجرة الممنوعة (تكوين ١: ٣ - ٥.علما أن التوراة تذكر هنا اسم الحية، ولكنها تعني الشيطان وإطلاق الحية على الجن أو الأرواح الخبيثة هو من التعابير القديمة حيث تسمَّى الحية في اللغة العربية "الجان".بينما يعتقد الهندوس واليونان أن بعض الحيات تكون من صنف الجن.
الجزء الرابع ۹۰ سورة ا ة الحجر وأما الأرواح الشريرة فقد ذكرتها التوراة كما يلي: "ذبحوا لأوثان * ليست اللـــــة..الآلهة لم يعرفوها..أحداث قد جاءت من قريب لم يرهبها آباؤكم".(تثنية ٣٢: ۱۷) وليس المراد من الشياطين هنا إلا الأرواح الشريرة، ذلك أن التوراة تعلن بأن هذه الشياطين أحداث..أي أنها غريبة عن بني إسرائيل، أما الشياطين فكان بنو إسرائيل يعرفونها.وعلاوة على التوراة، فإن الروايات اليهودية أيضًا قد ركزت على ذكر الجن خاصة.يقول الربي اليعاذر الشركي بأن الجن يسكنون في المناطق الشمالية.وورد في الميغاتي بأنهم يطيرون كالملائكة.وورد في التلمود "شبات" أن الجن يتصلون بأناس، وأنهم قادرون على سماع أخبار السماء.(الموسوعة اليهودية تحت (Demonology وأما المسيحية فتحتل لديها الأرواح الشريرة مكانة خاصة، لأن الأناجيل تعتبر عملية طرد يسوع المسيح للأرواح الشريرة من أهم معجزاته، بل تقول إن الحواريين لم يزالوا يطردون الأرواح الشريرة بعد المسيح أيضًا.ويبدو من بيان الأناجيل وكأن الجن في تلك الفترة ثاروا بشكل غريب، حيث كانوا يستولون على أهل كل قرية ومدينة وفي بعض الأحيان كانوا يستولون على المئات من البشر.(متى ٨: ٦ - ٢٨ ومرقس ١: ٣٢ - ٣٤) وأما المسلمون فيعتقدون عموماً أن الأرواح غير المرئية ثلاثة أنواع: الأول: الملائكة التي هي أرواح خيرة كلها، وهناك من يرى أن بعض الملائكة تصبح شريرة مثل هاروت وماروت، ومثل إبليس الذي كان في أول الأمر ملكًا.والثاني: الشياطين وهي كلها شريرة والثالث الجن التي بعضها خير وبعضها شر، وأنها تستحوذ على الناس وأنه باستخدام بعض الحيل يمكن القبض عليها * ورد في الطبعة الأردية "شياطين" بدلاً من "أوثان".(المترجم)
الجزء الرابع ۹۱ سورة الحجر وتسخيرُها في الأعمال.(معالم التنزيل: سورة البقرة؛ والقرطبي: سورة الجن؛ وتاج العروس) من الملائكة منا أهم وفيما يتعلق بظاهر الكلمات فقد ذكر القرآن الكريم بالفعل كلا والشياطين والجن، وأن بعض الجن خير وبعضها شرير، وذلك كقولهم: الصالحون ومنا دون ذلك (الجن: (۱۲).كما يتضح من القرآن الكريم يخضعون للبشر ويعملون لهم، حيث ورد عن سيدنا سليمان العلة ومن الجنّ مَن يعمل بين يديه بإذن ربه (سبأ : (۱۳).ويبدو من القرآن أن بعض الجن آمنوا بسيدنا موسى العليا ونبينا الكريم (انظر سورة الأحقاف: ٣٠ – وورد في الأحاديث أيضا أن وفدا من الجن جاء لملاقاة النبي.(مسلم:.(۳۳ - كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة كما تذكر الأحاديث أن رسول الله ﷺ قال : "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن".(الترمذي : أبواب الطهارة؛ وأبو داود: كتاب الطهارة) وقال العلامة السندهي بأن الإمام أبا حنيفة يرى أن ثواب صالح الجنّ هو السلامة من العذاب فحسب، ولكن الإمامين مالك والبخاري يريان أن ثوابهم السلامة من العذاب مع الفوز بالجنة.وتحدث ابن العربي عن إجماع المسلمين على أن الجن يأكلون ويشربون وينكحون.(مجمع بحار الأنوار، تحت "جنن") أن كلمة (الجنّ) قد وردت في القرآن الكريم والحديث الشريف وعندي بمدلولات عديدة تدور كلها حول معنى الساتر أو المستتر.فالجن: كل شيء أو روح أو إنسان يستر غيره أو يبقى هو بنفسه خفيًّا عن الأعين عموما.ولما كان هذا الفعل يصدر عن أشياء وكائنات كثيرة فلذلك أُطلقت هذه التسمية في المصطلح الإسلامي على أكثر من شيء أو كائن.لقد ذكر القرآن الكريم الجن بالمواصفات التالية في المواضع الآتية: أ- لقد خُلق الجنّ من نار السموم.كما ورد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها)
الجزء الرابع ۹۲ سورة الحجر ب لقد خلقوا من الشعلة ذات اللهب الشديد من النار : وخَلَقَ الجان م مارج من نار) (الرحمن: ١٦) مِن ١٣ ج- قال إبليس الله تعالى: خلقتني من نار وخلقته من طين) (الأعراف: ۱۳ وص: ۷۷).د- وقال الله تعالى عن إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه (الكهف: ٥١)..مما يعني أن كون إبليس ناري الطبع راجع إلى كونه من الجن.- الجن يملكون قوى شهوانيةً أيضًا حيث قال الله تعالى عن حُور الجنة: يَطْمِثْهُنَّ إِنْس قبلهم ولا جان (سورة الرحمن: ٥٧)..لم يَطْمِثْهن: أي لم يمسسهن.عن و - قال الله في سورة الرحمن لدى الحديث عن الحساب فيومئذ لا يُسأل ذنبه إنس ولا جان (الآية : ٤٠)..أي يومئذ لن يُسأل الناس ولا الجن عن ذنوبهم، بل سوف يحيطهم دمار شامل من جراء الذنوب.ز - لقد خلقوا من أجل عبادة الله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات : ٥٧) ح يقول المشركون بأن للجن قرابة ونَسَبًا مع الله تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنّة نَسَبًا (الصافات: ١٥٩) ط - لقد اتخذ المشركون الجنَّ شركاء مع الله سبحانه: ﴿وَجَعَلُوا اللَّهُ شُرَكَاءَ الْحِنَّ وخَلَقَهُم وحَرَقُوا له بَنِينَ وبَنات بغير عِلْمٍ (الأنعام: ١٠١).كذلك أن الله تعالى سوف يسأل الملائكة يوم القيامة: هل كان المشركون عنهم ورد يعبدونكم؟ فيجيبون : بل كانوا يعبدون الجن) (سبأ: ٤٢) ي- تقوم طائفة من الجن بإغواء الناس وتضليلهم: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (الناس: ٦-٧).وكذلك قال الله تعالى: وقال الذِينَ كَفَروا رَبَّنَا أَرنا الَّذِينِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ والإنس نَجعَلْهما تحت أقدامنا ليكُونا من الأسفلين) (فصلت: ٣٠)
الجزء الرابع ۹۳ سورة الحجر ويخبرنا الله أيضًا: وكذلك جَعَلْنا لكلِّ بي عدوا شياطين الإنس والجن يُوحِي بعضُهم إلى بعض زُخْرُفَ القولِ غُرُورًا ﴾ (الأنعام: ۱۱۳) وكذلك قال الله تعالى يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس (الأنعام: ١٢٩) ك - يدخل الجن الجحيم: قال ادْخُلُوا في أمم قد خَلَتْ مِن قبلكم مِن الحِنِّ والإنس في النار (الأعراف: ٣٩) قد وقال الله تعالى في موضع آخر: أولئك الذين حَقَّ عليهم القولُ في أُمَمٍ خَلَتْ مِن قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) (الأحقاف:١٩)..أي أن الكفار أيضًا سينضمون إلى طوائف الناس والجن التي خلت قبلهم وأُقيمت الحجة عليهم فاستحقوا النار وكانوا من أهل الخسران.وقال أيضا: وحَقَّ عليهم القولُ في أُمَمٍ قد خَلَتْ قد خَلَتْ مِن قبلهم مِن الحِنٌ والإنس إنهم كانوا خاسرين (فصلت: ٢٦) وقال الله تعالى ولقد ذَرَأْنا لِجهنّم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بهما ولهم أعيُنٌ لا يُبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها (الأعراف: ١٨٠) ل- يلوذ بعض الناس بالجن وأنه كان رجالٌ مِن الإِنسِ يعوذون برجال من الجن فزادوهم رَهَقًا) (الجن: ٧) م الجن يعملون لبعض الناس: وحُشِرَ لِسليمانَ جُنودُه مِن الحِنِّ والإِنسِ ير (النمل: ۱۸)؛ وكذلك قال الله تعالى : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه (سبأ : ۱۳) ؛ وقال أيضًا: قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقُومَ من مَقامك )) (النمل: ٤٠ )..أي آتيك بعرش ملكة سبأ.ن ليس بوسع الجن أن يصنعوا كتابًا مثل القرآن الكريم: قُلْ لَئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأْتُوا مِثْلِ هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) (الإسراء: (۸۹) س- حضر الجن مجلس النبي وسمعوا القرآن وإذْ صَرَفْنا إليك نَفَرًا من الجن يستمعون القرآن فلمّا حضروه قالوا أَنْصتوا فلمّا قُضِيَ وَلَّوا إلى قومهم منذرين
الجزء الرابع ٩٤ سورة الحجر (الأحقاف:۳۰)، وقال تعالى في موضع آخر: قُلْ أُوحِيَ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنًا عَجَبًا (الجن: ٢) ع لقد آمن الجن بالنبي الله حيث يقول الجن عن القرآن إنه: يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نُشركَ بِرَبِّنا أَحَدًا (الجن: ٣) هذا ما سجّله القرآن الكريم عن الجن من صفات وأعمال، وهي - عندي - تؤكد أن تسمية الجن قد أُطلقت في القرآن على عدة أشياء: أولها: الأرواح الشريرة التي تُعتبر مصدرًا للأفكار الخبيثة مثلما تعتبر الملائكة مصـــــدرا للأفكـــــار الطيبة، وكأن هذه الأرواح الشريرة أظلال وأعوان للشيطان الذي يحض على الشر.وهذا المعنى مستنبط من قول الله تعالى: ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صدور الناس..من الجنّة والناس (الناس: ٧،٦).وثانيها: الأشياء التي يتوهم الكفار وجودَها ،ويعبدونها، مع أن الله تعالى لم ينص على وجودها، وإنما الكفار يتوهمون خطأً وجود هذه الأشياء التي لا حقيقة لها ولا وجود، ومع ذلك يشرعون في عبادتها.والدليل على ذلك هو قول الله وعل وجعلوا لله شركاء الجنَّ وخَلَقَهم وحَرَقُوا له بنين وبنات بغير علم (الأنعام: ۱۰۱)..أي أنه لا علم ولا دليل عندهم على اتخاذهم الجنَّ شركاء الله له ولا على اعتقادهم أن الله بنين وبنات.وقد يعترض البعض بأن قول الله تعالى: (وخَلَقَهم) يعطي انطباعا بأنه تعالى قد خلق بالفعل هذا النوع من الجن الذين يشركهم الكفار بالله وع؟ والجواب أن ضمير الجمع في (وخَلَقَهم) لا يرجع إلى الجن بل إلى المشركين الكفار أنفسهم، والمعنى أنه بالرغم من أن الله تعالى هو الذي خلق هؤلاء الكفار إلا أنهم يزعمون أن الجن شركاء مع الله في ملكوته.وهناك برهان آخر على أن لا حقيقة لهؤلاء الجن الذين يؤمن العامة بوجودهم خطأ ووهما، ألا وهو قوله تعالى: (ويوم يحشُرُهم جميعًا ثم يقولُ للملائكة أهؤلاء
الجزء الرابع ۹۵ سورة الحجر إياكم كانوا يَعبُدونَ ) قالوا سبحانَكَ أنتَ وَلِيُّنا من دونهم بل كانوا يَعْبُدونَ الجنَّ أَكثَرُهم بهم مؤمنون (سبأ: ٤١-٤٢).- وثمة سؤال يجب الرد عليه ما دام المشركون لا يعبدون الملائكة فلماذا وجه الله تعالى – وهو عالم الغيب - هذا السؤال إلى الملائكة؟ ثم إذا سلمنا بأن الناس ما ألهوا الملائكة بشكل من الأشكال يصبح هذا السؤال ظلما وإجحافًا بحق الملائكة ! هذا، ويقول الله تعالى في القرآن الكريم فاستفتهم أَلرَبِّكَ البناتُ ولهم البنون ا أم خَلَقْنَا الملائكة إناثًا وهم شاهدون) (الصافات: ١٥٠ - ١٥١)، مما يعني أن المشركين كانوا يؤمنون بكون الملائكة بنات الله.والبديهي أن بنت الله أيضًا ستُعتبر إها وستعبد، مثلما فعل بعيسى ال حيث حسبوه ابنا الله ثم ألهوه.وبالفعل فقد وجه الله اللوم إلى المشركين بسبب ذلك فقال: ويجعلون الله البنات سبحانه) (النحل : ٥٨)..أي أن من أعمالهم الوثنية أنهم جعلوا الله البنات، مع أنه بريء من هذه المنقصة.= إذا فما دام الناس اعتبروا الملائكة بنات لله تعالى، وهو إشراك بالله طبعا، فكيف ساغ للملائكة أن يقولوا إنهم لم يعبدونا بل كانوا يعبدون الجنَّ؟ فالاعتراض وارد عليهم لا على الله ! ولكننا لو أمعنا النظر لوجدنا أن الملائكة أيضا غير ملومين.ذلك أن الله تعالى إنما سألهم عن ظاهر الأمر، ولكنهم أجابوه عن واقع الأمر.فالمشركون يقولون دائما بأفواههم بأن الملائكة بنات الله ولا بد لهم من إرضاء بناته لكسب رضوانه؛ ولكن الواقع أنه لا علم لهم بالملائكة ولا بصفاتها وقدراتها، وإنما سمعوا عنها من كبارهم وبالتالي تصوروا وجودها في مخيلتهم، واعتبروا هذه الكائنات الوهمية ملائكةً وأنها بنات الله ، مع أنه لا علاقة لهذه الكائنات الوهمية بالملائكة ولا بصفاتها وأعمالها؛ فثبت أن المشركين لم يعبدوا الملائكة في حقيقة
الجزء الرابع سورة الحجر الأمر، وإنما عبدوا تلك الكائنات الوهمية غير المرئية التي يمكن أن نطلق عليها الجن باللغة العربية.فالحق أن جواب الملائكة أيضًا لا يجانب الصواب، بل هو حق وصدق؛ إذ قصدوا من قولهم هذا يا رب أنّى لهؤلاء المشركين أن يعبدونا، فنحن عبادك وتحت رعايتك؛ إنما كانوا يعبدون كائنات غير مرئية تصوّرتها أوهامهم المريضة.ولو كان هناك في الواقع شيء كأولئك الجن الذين يتوهم العامة وجودهم لبطل قول الملائكة بأن هؤلاء لم يعبدونا، بل كانوا يعبدون الجن؛ ذلك أن المشركين قد عبدوا الملائكة فعلاً باعتبارها بنات الله الله فلا يجوز اعتبار عبادتهم للملائكة عبادةً للجن إلا إذا فسرنا الجنَّ بمعنى الكائنات الوهمية التي لا وجود لها في الواقع.ولو قيل : كان المشركون يعبدون الجنّ أيضًا، ولذلك فلم تكذب الملائكة حين قالت: بل كانوا يعبدون الجن، فالجواب عليه مما لا شك فيه أن المشركين كانوا يعبدون أيضًا بعض الكائنات التي كانوا يسمونها الجنَّ، ولكن الله تعالى لم يسأل الملائكة هنا عن عبادة المشركين للجن.وإن عبادة المشركين للجن لا تنفي بالضرورة عبادتهم للملائكة؛ ذلك أن الوثنيين يعبدون آلاف الأشياء مثل الشمس والقمر والنهر والبشر والملائكة وأيضا تلك الكائنات الوهمية التي يطلقون عليها الجن؛ فلا يسوغ للملائكة أن تنفي عبادة المشركين لها بمجرد كون المشركين يعبدون الجن، وإنما يجوز لها ذلك القول إذا كان هناك برهان يدل على أن تلك العبادة التي تمت باسمها - أي الملائكة – إنما كانت في الواقع لكائنات وهمية.وهذا هو بالضبط ما تقصده الملائكة بقولها هذا.فالواقع أن الجن) تعني هنا تلك الكائنات الوهمية التي تصورتها عقول المشركين المريضة، والتي أطلقوا عليها اسم (الملائكة)، وما هي بملائكة.وثالثها شعوب البلاد الشمالية الباردة.فإن كلمة (الجن) تعني الشيء الخفي أيضا، وقد أطلقها القرآن الكريم على شعوب البلدان الباردة أيضًا بحسب عادة
الجزء الرابع ۹۷ سورة الحجر العرب في إطلاقها على غيرهم من الأمم.وكانت لهذه التسمية الأسباب التالية: الأول: قلة اختلاط أهل الشمال بشعوب المناطق الأخرى، لأن أهل الجنوب من البلاد الحارة الآسيوية وغيرها ما كانوا يسافرون عمومًا إلى المناطق الشمالية خوفًا من البرد القارس، كما أن أهل الشمال ما كانوا يخرجون إلى الجنوب الحار خشية الحر الشديد.والثاني: كان أهل الشمال بيض الوجوه حمر الألوان بحكم عيشهم في الطقس البارد وتعاطيهم الخمر بكثرة.مما حدا بأهل الجنوب ليعتبروا أهل الشمال كائنات غريبة، وأطلقوا عليهم الجن والجنيات.وكانت هذه التسمية عامة في قديم الزمان بحيث كان اليهود يعتقدون أن المناطق الشمالية هي موطن الجن.وقد سبق أن سجلت قولاً للربي اليعاذر الشركي الجن يعيشون عموما في المناطق الشمالية من العالم.كما اعتقد الهندوس بأن موطن الجن هو شمال الهند، حيث قالوا أن الأرواح الخفية البرية - واسمها عندهم "غندهروا" - كانت تسكن في الشمال الغربي من بلاد الهند ما وراء نهر السند..أي في منطقة هزاره وأفغانستان، وأن تيكسلا كانت إحدى مدنها.أن كما أن الأساطير الشائعة بين المسلمين أيضًا تحدد موطن الجن في جبال قوقاز وما وراءها.فثبت أن البيض الحمر من أهل الشمال كانوا (الجن) في نظر الآسيويين الأكثر حضارةً ومدنية، وذلك بسبب غرابة صورهم واختلاف طقوسهم الدينية ولقلة الاختلاط بهم إذ كانوا شبة منعزلين عنهم مدنيا بحكم البيئة وبعد المسافة.ولربما مى الهنود أهل المناطق الشمالية الغربية جنَّا لسبب آخر أيضا وهو خوفهم من شدة بأسهم، إذ ما زال هؤلاء يشنّون الغارات على الهند على مر التاريخ ووفق هذه العادة القديمة أطلق القرآن الكريم - في سورة الرحمن وخلال الحديــث عــن التقلبات التي ستقع في آخر الزمان - كلمة الجن على أهل الشمال أي ،الأوروبيين وأنبأ أنه سيكون في الدنيا مشرقان ومغربان في الزمن
الجزء الرابع ۹۸ سورة الحجر الأخير..أي بسب اكتشاف القارة الأمريكية ستُطلق تسمية "الشرق" على منطقتين وتسمية "الغرب" على منطقتين أخريين.كما أنبأ أيضًا عن التقاء بحرين وسير السفن العملاقة ماخرةً على مياه المحيطات - وقد تم هذا النبأ من خلال حفر قناة السويس - وعن تقدم العلم تقدما هائلاً حتى تداعب القوم فكرةُ تسخير ملكوت السماء، ظانين أنهم على وشك أن يحيطوا بسر هذا الكون؛ ولكن الله تعالى سينزل العذاب على الناس لغفلتهم عن الدين؛ حيث يطلق عليهم من السماء أضواء حمراء على شكل نيران مهلكة وقنابل مدمرة؛ وفي آخر المطاف سيقضي على الكفر والشرك قضاء نهائيًا، وسيقيم الإسلام مرة أخرى.(١٨ - ٤٠ : (سورة الرحمن: وفي هذا السياق قد خاطب الله وعمل معشر الجن والإنس و"الثَّقَلان"- علما أن "الجن" هنالك تعني شعوب المناطق الشمالية أي الأوروبية وأخبر عن اختلاط الشعوب الأوربية بالشعوب الآسيوية وغيرهما.واعلم أن كلمة الجن) تعطي معنى الكثرة * أيضًا، مثلما يمكن أن تأتي كلمة الإنس بمعنى الخواص * من القوم.ومن معاني النقل الشيء النفيس المصون، وذلك بدليل قول رسول الله ﷺ : "إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي" (مسلم) كتاب الفضائل باب فضائل علي، ومسند ج مسند أبي سعيد الخدري )؛ فقد أطلق هذه التسمية على أولاده والقرآن الكريم بمعنى النفيس الأفضل.* أحمد ورد في "لسان العرب": جنون الذباب كثرة ترأُمه ، وجُنَّ الذباب أي كثر صوته...وأرض مجنونة : مُعشبة لم يرعها أحد.ويقال...للنبتِ الملتف الكثيف الذي قد تأزّر بعضه في بعض مجنون.والجنة: الاجتنان وهو الستر لتكاثف أشجارها.من وورد في "أقرب الموارد": المتجننة من الأرض: التي كثر حتى ذهب كل مذهب.وجن الناس: مُعظَمُهم.أما قول المفسر : "إن كلمة الإنس يمكن أن تعني الخواص من القوم"؛ فذلك باعتبار "ال" الداخلة على الإنس استغراقيةً، كقولهم: أنت الرجل، أي اجتمعت فيك كلُّ صفات الرجل.(المترجم)
الجزء الرابع ۹۹ سورة الحجر إذن فقد تكون مفردات الجن والإنس والثقلان الواردة في سورة الرحمن إشارةً إلى نظامي الحكم الديموقراطي والدكتاتوري في العصر الحاضر، وذلك باعتبار الإنس بمعنى الدكتاتوريين الذين يحتفظون بالسلطة بأيديهم بحجة أنهم الخواص بين القوم، وباعتبار الجن بمعنى أصحاب الأغلبية أي الديموقراطيين؛ حيث تتنافس هاتان الكتلتان أو القوتان في تحقيق نواياهما للاستيلاء على مقادير العالم اليوم، إحداهما باسم الديموقراطية، والأخرى باسم الفاشية أو النازية؛ وكل منهما تدعي أنها أفضل من الأخرى.ورابعها الغرباء من أهل الشعوب والبلاد الأجنبية؛ وهم المراد من الجن الذين و كانوا في زمن سليمان والذين يقول القرآن إنهم كانوا يعملون لـه ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقُدور راسيات (سبأ: ١٤)..والجفان جمع القصعة أو البئر الصغيرة، والجواب جمع الجابية وهي الحوض، الحفنة والراسيات من القدور هي التي تبقى في مكانها ولا يحركها أحد لضخامتها.وعندما نرجع إلى التوراة لنعرف من الذي كان يقوم بهذه الأعمال لسليمان ال نجدها تقول: إن سيدنا سليمان أراد بناء معبد ضخم، فأرسل إلى ملك "صور" أن ابعث إلي مهندسا حكيما في صناعة الذهب والفضة والنحاس والحديد والأرجوان والقرمز والأسمانجوني، وماهرًا في النقش؛ وأَرسل إلي خشب بلدك مع عبيدك الماهرين في قطعها، وسأعطيهم كذا من الأجر (انظر أخبار الأيام الثاني ۲ : ۷ - ۱۰).ثم تخبر التوراة أن الملك الصوري أرسل إلى سليمان مهندساً ماهراً في الفنون كلها اسمه حورام أبي وقال : كما قد أمرتُ رجالي لقطع الخشب حسب حاجتك، فليتفضل سيدي الآن بإرسال أجرتهم المرجع السابق الفقرات: ١٣ - ١٦).ثم ورد في التوراة: "وعد" سليمان جميعَ الرجال الأجنبيين الذين في أرض إسرائيل بعد العد الذي عدّهم إياه داود أبوه ، فوجدوا مائة وثلاثة وخمسين ألفا وست
الجزء الرابع سورة الحجر مائة.فجعل منهم سبعين ألف حمّال وثمانين ألف قطاع على الجبل وثلاثة آلاف - وست مائة وكلاء لتشغيل الشعب".(المرجع السابق، الفقرتان: ۱۷ – ۱۸) التي أشير وهذا يعني أن هؤلاء الأجانب استخدموا أيضا كعمال في بناء المعبد.أما المهندس الصوري فتخبرنا التوراة أنه بنى قاعة كبيرة للعبادة، وهي إليها في القرآن الكريم بكلمة (محاريب).كما نقش صور الملائكة على حيطان القاعة الكبيرة.وعمل فيها تمثالين لملكين، وإليها يشير القرآن بكلمة (تماثيل).(انظر أخبار الأيام الثاني ٣: ۷ و ۱۱ - ۱۳) كما أنه صنع حوضا كبيرًا من المعدن، بالإضافة إلى عشرة أحواض أخرى، وإليها يشير القرآن بقوله (وجفان كالجواب).ثم تذكر التوراة أنه عمل بحراً واحدًا (أي حوضا كبيرًا) واثني عشر ثورًاً تحته، وقدورًا ورفوشًا ومناشل.وكل آنيتها عملها للملك سليمان حورام أبي لبيت الرب من نحاس مجلي (انظر المرجع السابق ٤ : ٢ و ٦ و ١٥ و ١٦).وقد ذُكرت في هذه الفقرة القدور الراسيات والجوابي والتماثيل معًا.وإذن فكل هذه الأعمال والأشياء قد صنعها لسليمان اللي مهندس أجنبي بمساعدة عمال أجانب أيضًا.فثبت أن (الجن) الوارد ذكرهم في قول الله الله يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إنما المراد منهم الغرباء من أمة أجنبية الذين ما كانوا يكنون لسيدنا سليمان العل أي حب، وإنما كانوا يعملون له بسبب ما حباه الله به من رعب وهيبة.ولكن بعد وفاته العلة بفترة زالت هيبة ملكه عن قلوب هؤلاء الغرباء نتيجة أخطاء ارتكبها ابنه الذي خلفه في الحكم، فندموا على حالتهم قائلين: بئس ما صنعنا إذ رضينا بهذا الضيم والذل على أيدي هؤلاء الحكام حيث قمنا لهم بهذه الأعمال الحقيرة من قطع الخشب وحمل الأثقال.لماذا لم نستمر في محاربتهم ما دام حكمهم موشكا على الزوال بهذه السرعة.
الجزء الرابع 1.1 سورة الحجر وخامسها : البشر الأوائل الذين عاشوا في قديم الزمن والذين قام منهم سيدنا آدم العل، فأرسى الأساس لنظام جديد للحياة.كان البشر قبله غافلين عن أهمية العيش معا على سطح الأرض منظمين متعاونين، حيث كانوا يعيشون منهم ليشرفه بوحيه، كالحيوانات منفصلين بعضهم عن بعض، مختفين في الكهوف والمغارات وأصول الشجر، إذ كانوا لا يستطيعون السير بحرية على سطح الأرض خوفًا من وحوش الغاب؛ فلذلك كله سُمُّوا بـ (الجن)، وهم الذين يطلق عليهم العلماء اليوم سكان الغار" (الموسوعة البريطانية كلمة الغار).ولما تطور العقل البشري وصار الإنسان جاهزا لتلقي نعمة الوحي، اختار الله وعمل أحدا وسماه "آدم" لأنه أصبح صالحًا للعيش على أديم الأرض، كما أطلق عليه اسم "إنسان"* لأنه صار جديرا بحب الله و من جهة، ومن جهة أخرى أصبح أهلاً للشفقة على البشر والتضحية من أجلهم راجع للمزيد كتابي: السير الروحاني).فالذين اتبعوا آدم وخضعوا لنظامه الجديد، فخرجوا من الكهوف واتخذوا لهم المساكن على سطح الأرض، ورضُوا بالعيش خاضعين للقوانين المدنية..فأولئك الذين سُمُّوا بالآدميين.وأما الذين أبوا الالتزام بقيود المدنية والتخلي عن حياة الهمجية والوحشية، معتبرين حياة الكهوف هي الحرية..فأولئك الذين عليهم (الجن) نظرا إلى نمط عيشتهم.ف (الجن) اسمٌ لأفراد من تلك المرحلة من مراحل التطور البشري حينما كانوا غافلين عن أهمية التمدن، وغير صالحين للعيش تحت النظام.وأما (الآدمي) فهو اسم لأفراد من تلك المرحلة من التطور البشري حينما قررت فئة منهم العيش معا تحت نظام قائم على التعاون والالتزام بالقوانين فصار هذان الاسمان بعد ذلك بمثابة صفتين أو مصطلحين فالذين خرجوا على النظام سُمّوا ذرية الجن، وأما الذين خضعوا للنظام فسُمّوا أولاد آدم ويُستعمل هذان الاسمان كصفتين بهذا * وهو أصلاً أُنسان أي محبّتانِ (المترجم) أطلق
۱۰۲ سورة الحجر الجزء الرابع المعنى، فأحيانًا يُصلح ذرية الجن أنفسهم فيصيرون أولاد آدم، ويحدث العكس تارةً حيث يفسد أبناء آدم ويخالفون النظام فيُعَدُّون من أبناء الجن.النبي وسادسها : الجن الذين زاروا النبي وآمنوا به وهم وفد من اليهود كما هو ثابت من القرآن الكريم، لأنهم يؤكدون إيمانهم بكتاب موسى ال (الأحقاف: ۳۰ و ۳۱).لقد سماهم الله وعمل الجنَّ لأنهم جاءوا من بلد أجنبي، ولأنهم قابلوا في الخفاء؛ إذ يتضح من بعض الأحاديث أن وطنهم نصيبين، وأنهم زاروا تحت ستر الليل (البخاري: المناقب).يبدو أنهم قابلوه في الخفاء خوفًا من كفار العرب، ولما استمعوا منه الله القرآن شهدت قلوبهم بصدقه، فلما رجعوا إلى قومهم بدؤوا في تبليغ الإسلام هذه الأمور كلها مسجلة في القرآن الكريم.وإليكم البراهين الدالة على كون هؤلاء الجن من البشر: الدليل الأول : لقاؤهم بالنبي الله سرًّا.لو كان هؤلاء جنا في الحقيقة فما الداعي أن يقابلوه في ظلمة الليل؛ لأنهم لو زاروه علنا في وضح النهار لما كان باستطاعة أحد أن يضرهم شيئًا، بل ما كان لأحد أن يراهم وذلك وفق ما يُعزى إلى الجن من غرائب الصفات.والدليل الثاني: هو قول الله تعالى في القرآن الكريم إنا أَرْسَلْناكَ شاهدًا ومبشّرًا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتُعزّروه وتُوفّرُوه (الفتح: ٩ و ١٠).فإذا كان لحن قد آمنوا بالرسول الكريم فكيف ومتى قاموا بنصرته وتوقيره؟ يقال أن يركبون عقول أعدائهم ويستحوذون عليهم ، وأنهم بنوا لسليمان العلي لحصون والقلاع وعملوا له كل عمل بسيط مع أنهم لم يؤمنوا به؛ ولكن ما بال هؤلاء الجن المؤمنين بالرسول الكريم لا لا اله الذين قد رأوه هدفًا لصنوف الأذى والعذاب على أيدي أشقياء الكفار، فلم يحركوا لنصرته ساكنا، ولم يعاقبوا أبا جهل وغيره من أهل العدوان؟ ثم يقال أن الجن يجلبون لمن يحبّون أنواع الفواكه والثمرات في غير موسمها وأوانها، ولكن هؤلاء الجن المؤمنين لم يعملوا قط أي
الجزء الرابع ۱۰۳ سورة الحجر صنيع من هذا القبيل مع رسولهم الكريم..أين كان هؤلاء عندما بلغ الجوع والفاقة بالنبي ﷺ وبأصحابه الكرام أثناء حفر الخندق مبلغا جعلهم يشدون الأحجار على بطونهم اتقاء قرصات الجوع ؟ (البخاري: كتاب المغازي باب غزوة الخندق).ليتهم أحضروا له ولأصحابه خبز الشعير على الأقل.هل هذا الإهمال من الإيمان في شيء؟ كلا، بل هو منتهى الشقاوة.ولكن الجن الذين آمنوا بالرسول ﷺ نجد القرآن الكريم يصفهم أنهم كانوا جد مخلصين في إيمانهم.فثبت مما أسلفنا أن الجن المذكورين في سورة الجن لا يقدرون على الاستحواذ على أحد ولا على مضايقته كما لا يملكون لأحد نفعًا؛ بل الحق أن مثل هؤلاء الجن لا يوجدون إلا في عقول هؤلاء المتوهمين.إن القرآن الكريم لا يقول بوجود الجن بهذه الصفات، وإنما يقول بوجود أولئك الجنّ الذين يملكون تلك الصفات التي ذكرتها أنا.إذا فالجن الذين آمنوا بالرسول الكريم ﷺ هم وفد من اليهود الذين كان وطنهم بعيدًا عن النبي ا ل ا ه ها و آلاف الأميال، ولا نعرف ما إذا كانت أخباره وصلتهم بعد عودتهم إلى بلادهم أم لا، ولذلك لا نجد أي ذكر لخوضهم عمليا في الحروب الإسلامية.والدليل الثالث: على كون هؤلاء الجن بشرًا هو أن الله تعالى يعلن في القرآن أنه إذا أراد بعث رسول إلى قوم فإنه يختاره منهم أي من بينهم ومن أنفُسهم.يقول ويوم نبعَثُ في كلِّ أُمّة شهيدًا عليهم من أنفُسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) (النحل: (۹۰).فلو كان الجن أمةً من دون الناس مؤمنة بالرسل ومكلفة بالشرع كالناس..فمن من الرسل سوف يشهد على إيمان هؤلاء الجن؟ إذ لم يكن موســـــى العليا من الجن حتى يُسأل عن الجن الذين آمنوا به ويكون شهيدًا على إيمانهم كما لم يكن النبي الا الله من الجن حتى يشهد على إيمانهم؛ بل ليس هناك من نبي كان من الجن حتى يشهد على إيمانهم، وبالتالي هل سيبقى الجن محرومين من الثواب والعقاب يا ترى؟
الجزء الرابع 1.2 سورة الحجر الدليل الرابع: يقول الله وعمل في القرآن الكريم يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رُسُلٌ منكم يقُصُّون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا (الأنعام: ۱۳۱).توضح هذه الآية جليًّا أن رسل الجن كانوا من الجن، وأن رسل الإنس كانوا من الإنس.فإذا كان الجن كائنات أخرى فلا يمكن – وفق هذه الآية – أن يكون موسى أو رسولنا الكريم - عليهما السلام – نبيًّا للجن، لأن أنبياءهم كانوا أيضا جنا مثلهم.نعم إذا كان المراد من الجن فئةً من البشر أنفسهم فكان بإمكانهم حتما أن يؤمنوا بموسى أو بمحمد - عليهما السلام – نبيًّا لهم.الدليل الخامس: يصف الله وعمل الجحيم قائلاً: فاتقُوا النار التي وقودها الناسُ والحجارة أُعدت للكافرين (البقرة: (٢٥).مما يؤكد أنه سيكون في النار الناس أو الأحجار وما شاكلها مما يمكن أن ينفع كحطب لجهنم.فلو كان الجن كائنًا مكلّفا كالإنسان للزم أن يقول الله تعالى "فاتَّقُوا النار التي وقودها الناسُ والجن والحجارة".فثبت أن القرآن حينما قال إن الجن سوف يدخلون النار فإنما قصد الجن من البشر، لا أي كائن آخر.الدليل السادس: ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ قام من الليل يصلي، فقال لرجال يحرسونه: "لقد أُعطيتُ الليلة خمسًا ما أُعطيهن أحد أما أنا فأرسلتُ إلى الناس كلهم عامةً، وكان من قبلي إنما يرسل إلى به : قبلي......قومه." (مسند أحمد ج ٢، أول مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما) علما أن هذه الرواية تذكر بعد ذلك أربع خصوصيات أخرى، والحق أن الرسول قد أخبر بهذه الخصوصيات الخمس مجموعةً في تلك الليلة، وإن كان قد خص بها منذ بداية البعثة، وكانت الخصوصية المذكورة أعلاه أيضًا مما أعطيه من أول يوم من البعثة الشريفة.فكيف يمكن لأحد أن يقول بعد قراءة هذا الحديث بأن الجن الذين آمنوا بالرسول كانوا كائنات غير البشر ؟ فإن القرآن الكريم ينص على كون هؤلاء
الجزء الرابع 0.1 سورة الحجر الجن مؤمنين بموسى، فكيف جاز لهم أن يؤمنوا به إذا لم يكونوا من الأمة الإسرائيلية التي بعث موسى إليها فقط دون غيرها.هذا وقد يعترض هنا أحد محتجاً بقوله تعالى: (إنا أرسَلْنا إليكم رسولا شاهدًا عليكم كما أرسَلْنا إلى فرعونَ رسولا) (المزمل: (١٦) فيقول: كيف يصح قولك مع أننا نجد موسى، الذي كان بعث إلى بني إسرائيل فقط، يدعو فرعونَ أيضًا إلى الإيمان، مع أن فرعون ما كان من الإسرائيليين؟ والجواب أن كلمة الأمة تعني قبيلة معينة حينًا، وأهل بلد حينا آخر.فمثلاً كان يعيش في الهند قبائل عديدة، وكان النبي المبعوث فيهم يرسل إلى كل الشعب الهندي، وليس إلى قبيلة معينة منه فقط مثل البراهمة أو الراجبوت وغيرهما.ذلك أن القبائل القاطنة في منطقة واحدة تُعتبر قومًا واحدًا دونما حرج.ولما كان سيدنا موسى ال مرتبطا بفرعون وقومه بحكم السلطة والسياسة والقانون والمدنية، العليا فلذلك اعتبر المصريون والإسرائيليون كلهم أمةً واحدة فيما يتعلق بالرسالة الموسوية.ولكن ما كان موسى مرتبطا بالجن حكمًا أو سياسة أو قانونًا أو مدنية، حتى يؤمر الجن بالإيمان به.قد يقال هنا: لا شك أن موسى قد أُرسل إلى بني إسرائيل والمصريين العائشين ــم، ور ولكن الجن آمنوا بموسى برغبتهم الذاتية.ولكن هذا القول أيضا غير سليم، ذلك أن الإنجيل قد سجل حادثًا للمسيح ليكشف لنا أنه لم يسمح للأمم الأخرى حتى بالانضمام إلى جماعته، بل لما طلب منه شخص من قوم آخر ينشر دعوته في قومه رفض المسيح طلبه قائلا: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب." (متى ١٥: (٢٦) فقد ثبت أنه ما كان لهؤلاء الجن أن يؤمنوا بموسى برغبتهم الذاتية، إذ لو كانوا مكلفين بالشرع أصلاً لكان من واجبهم - وفق نصوص القرآن – أن يؤمنوا أن فقط بمن يُبعث من أنفسهم، لا أن يؤمنوا بموسى الذي لم يكن من الجن.
الجزء الرابع ١٠٦ سورة الحجر وبالاختصار فإن الآيات والأحاديث المذكورة أعلاه تؤكد أنه لو كان الجن مكلفين بالشــرع لكان لزاما - ولو قبل النبي على الأقل – أن يُبعث لهم رسول من أنفسهم، بل أكثر من رسول مستقل لكل قبيلة من قبائلهم المختلفة.الدليل السابع: يأمر الله تعالى رسوله أن يعلن للعالم: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا )) (الأعراف: (١٥٩).فلم يذكر الله وعل هنا الجنَّ ضمن مَن كانت الرسالة المحمدية موجهة إليهم.فلو كان الجن كائنات أخرى من واجبها أو من حقها أن تصدق الرسالة المحمدية لكانت العبارة كالآتي: (يا أيها الناس والجن إني رسول الله إليكم جميعا)، ولكن القرآن الكريم لم يسجل إعلانًا إلهيًّا كهذا في أي مكان فثبت أن الجن الذين آمنوا بالرسول ﷺ إنما كانوا – بحسب تصريح القرآن – من البشر، ولأجل ذلك كلفوا بتصديقه.الدليل الثامن: هناك آية أكثر وضوحًا هي وما أرسَلْناكَ إِلا كافةً للناس (سبأ: ۲۹).علما أن كلمة "كافّة" مشتقة من الكفّ الذي معناه الجمع والمنع، وهكذا هذه الآية: إنما بعثناك لكي تجمع الناس ولا تترك أيا من البشر خارجًا عن نطاق دعوتك.فالآية صريحة في إعلانها أن محمدا لله إنما بعث لجمع البشر فقط، فكيف إذن يصح زعم البعض أن هناك كائنات أخرى مكلفة بتصديقه.الحق أن لا أحد من البشر خارج عن دائرة دعوته ، كما ليس هناك سوى البشر مكلف بالإيمان به.مما يؤكد أن الجن المؤمنين المذكورين في القرآن ــي كائن هو الكريم ما كانوا إلا من البشر.وأعود لأوجز الحديث هنا مرة أخرى فأقول : إن كلمة "الجن" قد وردت في القرآن الكريم في عدة معان منها: ١- كل كائن خفي غير مرئى لأعيننا من قبيل الشيطان.هذه الكائنات الخفية تحض البشر على الشر كما تحث الملائكة على الخير، ولكن تأثير الملائكة يكون واسعًا، بينما يكون تأثير هذه الكائنات ضيق النطاق..بمعنى أنها إنما تتغلب فقط
الجزء الرابع ۱۰۷ سورة الحجر على أولئك البشر الذين يميلون برغبتهم إلى الأفكار الشريرة.وقد تسمى هذه الكائنات شياطين أيضًا..۲- سكان الكهوف..أي أولئك البشر الذين عاشوا ما قبل صلاحية الإنسان لتلقي الوحي، والذين كانوا يقيمون تحت الأرض في المغارات والكهوف، وما كانوا ملتزمين بأي نظام أو قانون ولكن القرآن الكريم توسع في هذا الاستخدام فاخترع اصطلاحًا جديدًا، حيث أطلق كلمة "الإنسان" على من يميل إلى الطاعة والانقياد من البشر، وكلمة "الجن" على البشر الذين طبعائهم نارية ثائرة، فلا يخضعون للنظام والقانون.٣- سكان المناطق الشمالية الغربية مثل أوروبا وغيرها الذين كانوا شبه منعزلين عن أهل الجنوب من آسيا وغيرها، وكان من المقدر لهم أن يحققوا ازدهارا ماديا مدهشاً، وأن يتمردوا على الدين بشكل محير.وقد ذكرتهم سورة "الرحمن".- أجانب من أهل الشعوب والأديان الأخرى الذين اعتبرهم البعض- مثل الهندوس واليهود - كائنات غريبة.وبحسب هذا الاعتقاد السائد لدى هؤلاء قد أطلق عليهم القرآنُ هذه التسمية، كمثل الجن الذين عملوا لسليمان ال، أو الذين آمنوا بالنبي.وعندي أن الجن الذين ورد عنهم أنهم يدخلون النار فإنهم أصحاب الطبائع النارية من البشر أنفسهم الذين لا يخضعون للنظام والقانون، ولا يقبلون أي شرع أو دين.وأما الناس الذين ورد عنهم أنهم يدخلون النار فإنهم أولئك الكفار الذين يكونون منتمين إلى دين من الأديان أو المراد من "الجن" هنا سكان المناطق الشمالية الغربية، وأما "الإنس" فهم أهل الجنوب والشرق، مثلما كان هؤلاء معروفين بهذه الأسماء.وأما قوله تعالى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها والجان خلقناه من قبلُ من نار السموم فيعني أن أولئك البشر - الذين نسميهم هنا الجن – كانوا ذوي طبائع نارية..بمعنى أنهم كانوا يستشيطون غضبًا بسرعة، ولا يطيعون النظام
الجزء الرابع ۱۰۸ سورة الحجر بسهولة.وبالفعل هكذا كانت حالة البشر قبل آدم ال.لقد كان آدم أول إنسان حقق الكمال في الأخلاق والمدنية، ولذلك صار أول إنسان تلقى الوحي الذي هو ذو صلة وثيقة بالأخلاق والحضارة.فالذين تبعوا هذا الداعي إلى النظام والمدنية بحيث قضوا على أهوائهم النفسانية، ورسموا نقوش طاعة الله على ألواح قلوبهم، فسُموا أصحاب الطبائع الطينية، لأن الطين يقبل التشكل والنقش.وأما الذين آثروا الحرية الفردية على طاعة النظام والقانون فسمّوا أصحاب الطبائع النارية..بمعنى أنهم تمردوا مثل شعلة النار التي تأبى أن يسيطر عليها أحد.وبما أنهم كانوا يبيتون مختفين تحت سطح الأرض فلذلك سُمّوا بالجن أيضًا.ولو قيل: كيف تقول إن الجن هنا يعني أصحاب الطبائع النارية من البشر مع أن الله يعلن هنا صراحة والجان خلقناه من قبلُ من نار السموم..أي أن الجن قد خلقوا من النار؟ فالجواب أن الله ولم يعلن أيضا في موضع آخر: خُلق الإنسان من عَجَلٍ (الأنبياء: (۳۸)، ومعناه حرفيًّا : أنه خُلق من العجلة.وقد قال أصحاب البصيرة النافذة من المفسرين معناه أن الإنسان مطبوع على العجلة، أي يتعجل في طلب كثير من الأشياء التي تضره كما قال الله تعالى: وكان الإنسان عجولا.وتقول العرب للذي يكثر الشيءُ: خُلقت منه، وكما تقول : خُلقت من تَعَب، وخُلِقْتَ مِن غَضَبِ، تريد المبالغة في وصفه بذلك.(فتح منه البيان، والبغوي وكذلك يقول الله تعالى في موضع آخر : الله الذي خلقكم من ضعف) (الروم: ٥٥)..أي أن الإنسان عند ولادته يكون ضعيفا ويحتاج إلى مساعدة الآخرين.ولا أحد يفسر كلمة "الضعف" هنا بأنها مادة كالتراب أو الخشب يُخلق منها الإنسان! وقبل إنهاء تعليقي هذا أود أن أضيف أن كثيرًا من الأسلاف يتفقون معي على الأقل - في أنه لا وجود للجن الذين يمكن أن يقابلوا الناس ويركبوهم ويعطلوا عقولهم ويسخروهم في بعض الأعمال، كما تزعم العامة.فقد كتب
الجزء الرابع ۱۰۹ سورة الحجر العلامة أبو حيان: "قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه." (البحر المحيط، سورة الحجر، قوله تعالى: إلا عبادك منهم المخلصين).ولو قيل: إن بعضا من الأسلاف قد ذكروا رؤية الجن، فالجواب أن ما رأوه كان من قبيل الكشوف التي تعني رؤية بعض المشاهد في عالم المجاز والتمثيل وهذا ليس بأمر مستبعد.ولكن لما حكى هؤلاء كشوفهم للناس اعتبر العامة هذه الكائنات التمثيلية كائنات حقيقية مغترين بما كان شائعًا بينهم من منهم عقائد خاطئة عن الجن، وكذلك بسبب ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم.وأما عن خبرتي الشخصية فقد تلقيت في مختلف الأوقات كثيرا من الرسائل التي قال لي أصحابها إن الجن يقتحمون بيوتهم ويعيثون فيها الفساد.وفي كل مرة اقترحت على صاحب الرسالة أنني مستعد أن آتي إليك لتحري الأحوال بنفسى وعلى مسئوليتي ونفقتي، ولكنني استلمتُ في كل مرة جوابًا واحدًا بأن الجن قد توقفوا الآن عن مداهمة البيت، أو أنهم قد هربوا من البيت ببركة رسالتك أو رسولك الذي أتى بها.وعندي أن ما رأوه كان من قبيل أعراض بعض الأمراض العصبية التي كانوا مصابين بها، وبما أنهم اطمأنوا بمجيء رسالتي أو رسولي فلذلك زالت عنهم الحالة العصبية الطارئة.وبعد قولي هذا لو مر أحد باختبار مع هذا الكائن فليخبرني فإني لا أزال جاهزاً لتحري الحقيقة على نفقتي الخاصة.غير أن ما فهمتُ بناء على كثير من الأدلة القرآنية هو أن عقيدة عامة الناس عن الجن التي تقول بأنهم يتصلون بالبشر ويعملون لهم المستحيل فهي ليست إلا ضربًا من الوهم، أو من قبيل شعوذة بعض السحرة، التي لا يستطيع العامة أن يعرفوا
الجزء الرابع ۱۱۰ سورة الحجر مصدرها، فيعزونها إلى الجن.إنني ملم بهذا العلم وأعرف الكثير من الحيل الــــتي يلجأ إليها هؤلاء المشعوذون.غير أنني لا أنكر أن الإنسان ربما كان في البداية كائنا ناريا، ثم بتأثير التقلبــــات الجوية والزمنية تطوّر إلى كائن طينى، بمعنى أنه بعد هذا التحول كان أساس خلقه على ما تُنتجه الأرض ؛ وكان آدم سيدًا لأوائل هذه الكائنات.وهذا ليس بـأمر مستبعد، بل إن علم الجيولوجيا أيضًا يؤكد أن الأرض في بدايتها كانت كـــرة نارية ملتهبة، وأن قشرتها الترابية خُلقت فيما بعد.فلا يُستبعد أن تكون بدايــــة خلق الإنسان من النار قبل المرحلة الترابية من خلقه.ولكن كل هذه الأمور لا تخرج عن حد التخمين، ويستحيل الجزم بها، لذلك لا أكتب عنها أكثر.وهناك جزء من هذا الموضوع ذكر في قصة آدم مع إبليس في تفسير سورة البقــــرة، فليرجع إليه من أراد.وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَبِكَةِ إِنِّي خَلِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَلٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَحْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) شرح الكلمات: سويته: سوّى الشيء: جعله سَوِيًّا.وغلامٌ سوي: أي مستوي الأخلاق..لا داء به ولا عيب ومنه الدعاء: رَزَقَك الله ولدا سويًّا (الأقرب)..نفخت: نفخ بفمه ينفخ نَفْحًا ونفيحًا: أخرج منه الريح.يقال نفخ في النار ونفخها.ونَفَخَ شِدقيه: تكبَّرَ.ونفخ الشيطان في أنفه: تطاول إلى ما ليس لـــــــه (الأقرب).
الجزء الرابع ۱۱۱ سورة الحجر روحي الروحُ ما به حياة الأنفس؛ الوحي؛ جبرائيل؛ النفح؛ أمر النبوة؛ حكمُ الله وأمره؛ وتُطلق الأرواحُ على ما يقابل الأجسادَ؛ وعند أصحاب الكيمياء على المياه المقطَّرة من الأدوية (الأقرب).وهذا القول الأخير خطأ وقع فيه صاحب قاموس "الأقرب" لجهله بهذا الفن، فإن الكيمائيين لا يطلقون الروح على هذا الشيء، وإنما على ما يطفو على المياه المقطرة من الأدوية التي فيها زيت أو على ما يجمعونه من ماء مركز معطّر بعد تقطير هذه المياه مرارا وتكرارًا.وقد ذكــــر صاحب "الأقرب" أن الروح يعني جبريل أيضا، ولكنه ليس معنى حقيقيًّا، بل هو مجاز؛ فإن العرب يطلقون أحيانًا اسم المسبب على السبب نفسه، وهذا ما فعله القرآن الكريم أيضًا إذ سمّى جبريل بهذا الاسم المجازي، لأنه ينزل بالروح أي الوحي الإلهي.الواقع أن الروح في الحقيقة ما ينال به الشيء حياة مميزة لــــه عن غيره.فالروح هو ما يميّز الحيوان من الأشياء الأخرى، أو ما يميز الإنسان عن الحيوانات، أو ما يجعل الإنسان ربانيا.وإذن فالوحي لأنه يهب للإنسان حياة جديدة.أيضًا روح، ساجدين: السجود التذلل.وقوله اسجدوا لآدم) قيل: أمروا بالتذلل لـــه والقيام بمصالحه ومصالح أولاده وقوله : أدخلوا البابَ سُجَّدًا أي متذللين منقادين (الأقرب).التفسير : يضرب الله تعالى هنا مثالَ أول كائن متكامل خُلق عند بداية النوع الإنساني، حيث يخبرنا الله أن هذا الكائن هو الآخر تلقى الوحي، وسُخّرت الملائكة لإنجاز دعوته مما يدل على أن ظاهرة الوحي وحمايته ليست بأمر جديد، بل ما زالت جارية منذ البداية.
الجزء الرابع ۱۱۲ سورة الحجر هي علما أن الله تعالى قد أمر - في الظاهر - الملائكة بالسجود أي بالانقياد لآدم ولكن هذا الأمر كان في الحقيقة موجهًا إلى كل مخلوق؛ ذلك أن الملائكة العلة الأولى لكل الأسباب ، فلما أمرهم الله تعالى فكأنما أمر كل من في الكون.وكان هذا الأمر بمثابة إعلان رباني بأن آدم قد أعطى السيادة على سائر المخلوقات الأخرى في الكون، فينبغي على الملائكة – وهي العلة الأولى في الكون – أن يرتبوا النتائج الطبيعية على أعمال الإنسان.فكأن الملائكة قد جعلوا تابعين لجميع الناس فيما يخص ترتيب نتائج أعمالهم الحسنة أو السيئة وفق النواميس الطبيعية.وهذا قانون عام يشمل سائر البشر ، ولكن هناك قانون آخر خاص يتبعه الملائكة بصدد البشر، وهو أن الله وعمل ينقذ في زمن الأنبياء قدره الخاص، فمن واجب الملائكة أن يؤيدوا نبيه الذي يكون آدم عصره، ويحبطوا مكائد أعداءه.فَسَجَدَ الْمَلَيكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٢) إِلَّا إِبْلِيسَ أَي أَن يَكُونَ مَعَ السَّجِدِينَ.شرح الكلمات: إبليس أَبْلَسَ من رحمة الله يئس أبلس في :أمره: تحير.وإبليس قيل هو من أَبْلَس بمعنى يئس وتخيَّر، جمعه أباليس وأبالسة (الأقرب).التفسير : ثمة سؤال يجب الرد عليه : كان الأمر الإلهى بالسجود لآدم موجها إلى الملائكة فقط، فلماذا وجه الله الله اللوم إلى إبليس حين لم يسجد لآدم؟ الا والجواب أن الأمر الذي يوجه إلى مدير مكتب مثلاً يكون في الواقع موجها إلى الموظفين التابعين له أيضًا.وعلى سبيل المثال إذا أمر الملك قائد الجيش بالهجوم
الجزء الرابع ۱۱۳ سورة الحجر أن على منطقة ما فالأحرى بجنوده أن ينفّذوا الأمر الملكي، ولا يجوز لأي جندي يمتنع عن الهجوم بحجة أن الملك لم يأمره بذلك.فلما أمر الله وعمل الملائكة بترتيب النتائج على أعمال الإنسان أو بتأييد آدم في دعوته اعتبر الأمر الإلهي موجها - بشكل تلقائي – إلى الكائنات التي كانت أدنى من الملائكة.ولقد أوضح الله جل هذا الأمر أكثر في آية أخرى حيث قال لإبليس صراحةً: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)) (الأعراف (۱۳) مما يكشف أن الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم كان يشمل إبليس أيضًا، لأنه هو الآخر كان تابعًا للملائكة مثل الكائنات الأخرى.لقد سبق أن شرحتُ قصة آدم وإبليس في مكانها الأصلي في سورة البقرة، فليرجع إليها من شاء، غير أني أود ذكر أمر من الأمور باختصار.ليكن معلومًا أنه ليس ضروريًا أن يكون الحوار بين الله جل وبين إبليس قد وقع هكذا فعلاً، لأن من أساليب لغة الدين وبالأخص اللغة العربية ذكر بعض الحقائق على شكل حوار أحيانًا، وإن لم يكن قد وقع أي حوار أصلا.وعلى سبيل المثال تقول العرب: امتلأ الحوضُ وقال: قطني"..أي حسبي وكفاني؛ ولا يعني ذلك أن الحوض تكلم فعلاً، وإنما تكلم بلسان حاله (انظر لسان العرب).العليا هذا، وهناك كلمات أخرى خاصة بذوي الأرواح والإرادة، ولكنها تُستخدم للجماد أيضا على سبيل المجاز؛ فمثلاً ورد في القرآن في سياق الحديث عن سفر موسى مع فتاه إلى قرية من القرى: فوَجَدَا فيها جدارًا يريد أن ينقض (الكهف: ۷۸).مع أن الجدار لا عقل له ولا إرادة.وقال أبو منصور الثعالبي الإمام الشهير في اللغة عن الأديب المشهور أبي فراس - الذي كان يُنكر صدق الإسلام وكان شغله الشاغل الطعن في القرآن الكريم - أنه قال لي * يومًا ونحن في دار الوزير العباسي أبي العباس أحمد بن الحسين ننتظر مجيئه: هل تعرف العرب تنسب فعل الإرادة إلى الجماد؟ فقلت: إن العرب تعبّر عن الجمادات ،بقول، ولا قول لها في الحقيقة، كما قال الشاعر: ورد في المرجع الأصلي أن الحادث إنما وقع مع أبي بكر الصولي الذي نقل عنه الثعالبي هذا الكلام.(المترجم)
الجزء الرابع ١١٤ سورة الحجر امتلأ الحوض فقال قطني، وليس ثمة قول.فردّ علي: لم أسألك عن نسبة القول إلى غير عاقل، وإنما أسألك عن نسبة الإرادة إلى شيء غير عاقل.وكان في الواقع يقصد الطعن في قول الله تعالى فوَجَدَا فيها جدارًا يريد أن ينقض.فأيدني الله ل بأن تذكرت قول الراعي: في مَهْمَه فُلقَتْ به هاماتها فَلْقَ الفئوس إذا أردنَ نُصولا أي في فلاة كُسرت فيها رؤوس تلك القبيلة، كما تكسر الفؤوس الخشب إذا أرادت كسرها.ويضيف الإمام الثعالبي وقال : فكأنني ألقمتُه الحجر، وسُرِّ مَن كان صحيحَ النية، وسوَّد الله وجه أبي فراس (فقه اللغة للثعالبي، القسم الثاني، الفصل السادس والخمسون فصل في إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل) وينقل الثعالبي عن أبي محمد اليزيدي قوله: كنتُ والكسائي عند العباس بن الحسن العلوي فجاء غلام له وقال يا مولاي كنتُ عند فلان فإذا هو يريد أن يموت.فضحكنا.فقال العباس بن الحسن ممَّ ضحكتما؟ قلنا: من قوله: "يريد أن يموت".وهل يريد الإنسان أن يموت؟ فقال العباس: قد قال الله تعالى فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، وإنما هذا بمعنى يكاد.ففهمنا المراد.(المرجع السابق) وإذا فتقدير الأمر والشيء بظاهر حاله أيضًا يسمى قولاً منه وإرادة.والحق أن حادث آدم وإبليس أيضًا كان من هذا القبيل، فقد عبر الله تعالى عن حال الملائكة على شكل حوار منهم، مع أنهم لم يقولوا شيئًا بلسانهم.وقد اختار الله تعالى هذا الأسلوب لأن هذا الحادث كان في الزمن القديم، وكانت عادة الناس في القديم أن يُكثروا في حديثهم من التشبيه والمجاز لاعتقادهم التشبيه والمجاز لاعتقادهم أن لغة التمثيل أشد تأثيرًا.ونجد شتى الكتب السماوية السابقة أيضًا تسرد قصة آدم على هذا المنوال نفسه، واتبع القرآن الكريم الأسلوب العربي القديم نفسه في بيان هذا الحادث ليستوعبه الناس بسهولة.
الجزء الرابع 110 سورة الحجر وقد كثر التشبيه والاستعارة في الأسفار القديمة حتى إنها بينت الصفات الإلهية أيضًا بلغة تمثيلية.فمثلاً نجد فيها التعابير التالية : إن الله يجيد الرماية.إنه يصل إلى كل مكان على عربة سريعة.إنه يتندم على عقاب العباد.إن له أيادي وأرجلاً.(المزامير ١٦: ١١، و۱۸: ۹ ، و ۱۸: ١٤ ، و ۸: ٢١ ، و٦٤:٧، و٧٧:١٧، وزكريا ٩: ١٤، وتكوين ٨: ٢١، ٩: ١٠ -١١).ولا جرم أن هذا الكلام كله من عند الله تعالى، ولكنه ليس حقيقة، بل هو مجاز؛ ذلك أن الإنسان إذ ذاك كان في بداية في تلك الكتب هذا الكلام المجازي تطــوره وغير ناضج عقليا، فاستخدم ليسهل على الإنسان فهم تلك الأمور.الله غير أن القرآن الكريم هو الوحيد بين سائر الكتب الذي غيّر هذا الأسلوب، أنه فمـــع استخدم المجاز والاستعارة والتمثيل بدون شك، ولكن في أماكن قليلة جدا، وبهدف تغيير الطعم فحسب وإلا فإنه قد بيّن القضايا الحيوية كلها بلغة صريحة واضحة تمامًا.وإذا ذكر في مكان أمرًا من الأمور بلغة التمثيل فقد تحدث ذلك.عنه في مكان آخر بكلام واضح جلي، صرفًا لأي لبس أو غموض.وقصارى القول إن الحوار الذي سجّله القرآن الكريم في حادث آدم ليس حوارًا حقيقيًّا، وإنما هو من قبيل لسان الحال.والكتب الهندوسية أيضًا تذكر قصة الصراع بين قوى الخير والشر على شكل حوار، وقصة "هريش تشندرا" في التراث الهندوسي خير مثال على والتوراة أيضًا سردت قصة الصراع بين قوى الخير والشر على شكل حوار، حيث ذكرت أن الملائكة والشيطان مثلوا أمام الرب ذات يوم، وتحدثوا عن صلاح أيوب، فقال الشيطان الله تعالى : هل تحانًا يتقي أيوب الرب؟ إنه يتقيك لأنك قد أعطيته كل شيء.فسمح الله له باختبار أيوب.(انظر أيوب ا: ٦ - (۱۳ و كان هذا الكلام المجازي أحد الموانع التي حالت دون إيمان أهل الكتاب بنبينا ذلك أن الوحى النازل عليه قد بين هذه الأمور الروحانية بعبارات صريحة
الجزء الرابع ١١٦ سورة الحجر واضحة مكتفيًا بشيء يسير من هذه التمثيلات، في حين كان أهل الكتاب قد أخطئوا فهم ما ورد في كتبهم من استعارات ومجازات حول صفات الله والملائكة، والوحي والنبوة، واعتبروها حقيقة، فلما ذكرها القرآن بلغة واضحة صريحة، أخذوا بالدهشة والحيرة وظنّوا أن ما يذكره القرآن باطل ومخالف لما جاء في التوراة.علما أنه بالرغم من أن القرآن الكريم قد ذكر قصة آدم وإبليس على شكل الحوار والتمثيل، إلا أنه قد أزال الكثير من سوء الفهم الناتج عن مضامين الكتب السابقة، أو الذي يمكن أن يحصل جراء اللغة المجازية.وعلى سبيل المثال تذكر التوراة أن آدم أسكن في الجنة الحقيقية تكوين) ۲: ١٥)، وتزعم التوراة كذلك أن آدم ارتكب الإثم خلال إقامته في تلك الجنة! (تكوين ٣: ١٧)، مع أن من صفات الجنة الحقيقية أنه من المستحيل أن يرتكب أحد فيها الإثم.وأما القرآن الكريم فقد سمى أحيانًا المكان الذي أسكن فيه آدم بالجنة، ولكنه صرح أيضا في موضع آخر أن هذه التسمية مجازية حيث قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة : ۳۱).وهذا يعني أن آدم أسكن في هذه الأرض لا في الجنة الحقيقية.هذا، وهناك عديد من الأمور الأخرى المتعلقة بقصة آدم التي قد ذكرها القرآن على سبيل الاستعارة ،والمجاز ولكنه قام بشرح هذه الاستعارات في تلك الآيات نفسها أو في مواضع أخرى.الحق أن الإنسان ما دام قد منح القدرة على عمل الخير والشر كليهما فكان لزاما أن يُخلَق أيضا ما يحفزه عليهما، ولأجل ذلك خلق الله كل هذين الحافزين أي الملائكة والشيطان حتى قبل خلق الإنسان فأمر الملائكة أن تحفز الإنسان على الخير وأن ترتب النتائج وفق أعماله بينما سمح للشيطان أن يحاول دعوة الإنسان إلى الشر ما استطاع إليه سبيلا.ولما بعث الله آدم كان في هذه الدنيا - إلى جانب أتباع آدم - أناس آخرون لم
الجزء الرابع ۱۱۷ سورة الحجر يخضعوا للنظام الذي أتى به، وقد سمى الله رئيس الفئة المتمردة على آدم وعل بالشيطان أو إبليس لأن ذلك الرئيس ظل للشيطان الحقيقي.وما وقع بين آدم والرئيس المتمرد من أحداث في فترة طويلة ذكره الله الله على شكل حوار موجز.وليكن معلومًا أن الشيطان - الذي خُلق كحافز على الشر والذي هو غير كالملائكة - لا يأتي الناس بنفسه في صورة متجسدة ليحدثهم ويؤذيهم، مسند عبد الله الذين بل الحق أن الذين تتسبب سيئاتهم في زلة أقدامهم عن درجة الصلاح هم يصبحون أظلالاً للشيطان، وأعمالهم هي التي تُنسب إلى الشيطان.كذلك كل الحوافز الأخرى على المعصية أيضًا تسمى شيطانا، حيث ورد في الحديث: "قال رسول الله : ليس منكم من أحد إلا وقد وُكّل به قرينه من الشياطين.قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكن الله أعانني عليه فأسلم" (مسند أحمد ج ١ بن العباس بن عبد المطلب عن النبي..فلا يأمرني إلا بالخير.أي لقد أحرزت الكمال في التقوى لذلك فإن الأمور التي تدفع بالناس إلى المعصية تزيدني أنا صلاحًا.وليس المراد من قوله أن لكل إنسان شيطانا مستقلا، وأن الشيطان الذي وكل به الله قد صار مسلما.لو كان هذا هو المعنى فلماذا كان النبي يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.مما أن الشيطان الحقيقي كان على حالته لم يتغير منه شيء، ولكن ما ينوب عن الشيطان من أفكار ورغبات كان قد أسلم وأذعن للنبي الله ، وأما من كان يمثل الشيطان من يعني البشر كأبي جهل وغيره..فلم يُسلموا بل ما برحوا على شرهم ومكرهم.أما قوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) فضمير الغائب في (له) يعود إلى البشر أجمعين، لأن الله قد سخر الملائكة لمساعدة كل فرد من البشر، ولأن الروح يُنفخ في الجميع، وإن كانت درجاتهم في ذلك متفاوتة، حيث يتم نفخها في سائر البشر عموما، وفي الأنبياء خصوصاً.ومما يدل على أن هذا الأمر يشمل البشر أجمعين قوله تعالى : وسخر لكم ما في
الجزء الرابع ۱۱۸ سورة الحجر الملائكة هي السماوات وما في الأرض جميعًا) (الجاثية : ١٤)، كما يخبرنا القرآن الكريم أن العلة الأولى لجميع ما يحدث في الكون.وما دام كل ما في الكون مسخرا لصالح الإنسان فثبت أن الملائكة يعملون على خدمة البشر كلهم أجمعين.غير أن بعض الأشياء تخرج عن خدمة الإنسان نتيجة خطأ منه، فتضره بدلاً من أن تنفعه، أن تنفعه، وكأنها تخرج عن حكم الملائكة، وتتبع الشيطان الذي يعمل جاهدًا لإلحاق الضرر بالبشر.وأما الزعم أن ذلك الكائن غير المرئي الذي يسمى شيطانا هو الذي خرج بنفسه متجسدًا لمعارضة آدم فهو زعم باطل بداهة، ومخالف للواقع والتجربة.فإننا نعــــرف من القرآن الكريم أن الشيطان أتى آدم وزوجته وتحدث معهما لإغوائهما (الأعراف: ۲۸ فلو كان ذلك الذي أتاهما هو نفس الكائن الذي يحث على المعصية فلم لا يستطيع الآن أبناء آدم رؤية ذلك الشيطان بتلك العين التي رآه آدم بها؟ و لم لا يستطيعون الحديث مع الشيطان بذلك اللسان الذي تحدث به آدم معه؟ و لم لا يأتي ذلك الشيطان الناس لإغوائهم الآن أيضًا؟ خاصة وإن القرآن الكريم لا يقول أبدًا بأن جسد آدم كان مختلفا عن أجساد أبنائه اليوم حتى يقال بأن آدم استطاع بذلك الجسد رؤية الشيطان وحواره، ولكن أبناءه لا يستطيعون ذلك لاختلاف أجسادهم عن أبيهم.فما دام الأبناء أيضا يملكون اليوم نفس الأجساد والقدرات التي تمتع بها أبوهم آدم، وما دام الشيطان هو هو لم يتغير..فيجب أن يراه مئات الآلاف من البشر اليوم، ويجب أن يقابل هو بجسده كل الصالحين من بني آدم، سعيا منه لإغوائهم.ولكن لا نجد بين البشر آلافا ولا مئات بل ولا عشرات ممن يشهدون على أنهم مروا بمثل هذا الاختبار سواء في حالة الكشف أو الرؤيا اللهم إلا ما نجد في القصص والأساطير التي لا ينهض على صدقها دليل ولا برهان.ولكن الشيطان الذي أتحدث عنه فإنه ما زال إلى اليوم يعرقل طريق كل نبي بنفس الطريقة التي لجأ إليها في زمن ،آدم ويأبى ويستكبر كما أبى واستكبر أمام آدم، بل هذا هو دأبه
الجزء الرابع ۱۱۹ سورة الحجر مع كل الصالحين في كل زمان ومكان.قَالَ يَنإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّجِدِينَ » قَالَ لَمْ أَكُن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَلٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (3) ٣٤ التفسير : أي أجاب رأسُ الفئة المعارضة لآدم: إن آدم كائن ذليل حقير لذلك لا يعاف الطاعة والانقياد، ويرى هو وأتباعه تقليد الآخرين مفخرةً، ولكني لست ذليلاً حقيراً مثلهم إذ خلقتني مطبوعًا على الحرية والإباء، فكيف يمكن لي أن أرضى بطاعته.هذه العبارة أيضا هي من قبيل المجاز والتمثيل، إذ تعني أن العدو الأكبر لآدم وأتباعه اعتبروا النظام الذي جاء به آدم منافيًا لحرية الضمير ورأوا في اتباعه إهانة لهم، فرفضوا الخضوع له، ظانين أنهم أحسن نظامًا وأمثل طريقًا مما يدعو إليه آدم.وقد عبّر عن هذا المفهوم هنا بمصطلح الخلقة الطينية والخلقة النارية.قَالَ فَأَخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَحِيمٌ شرح الكلمات: رجيم: (انظر شرح الكلمات للآية رقم ١٦) ۳۵ التفسير: قال المفسرون أن ضمير الغائب في منها يعود على الجنة (تفسير البغوي والقرطبي، سورة الحجر، قوله تعالى: قال فاخرج منها...).ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو : إذا كان المراد هنا الجنة الحقيقية التي يدخلها الناس بعد الموت..فأولاً: من المستحيل أن يدخل فيها الشيطان، وثانيًا: من يدخل فيها لا يمكن أن يُخرج منها كما يؤكد ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة.* فكيف سُمح للشيطان بالدخول فيها، وكيف جاز طرد آدم منها؟ * قال الله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض
الجزء الرابع ۱۲۰ سورة الحجر ولـو قــيل بأنها لم تكن بالجنة الحقيقية، بل كانت جنة على هذه الأرض التي نعيش عليها فأيضًا ينشأ سؤال : ما دام الله تعالى قد قام بطرد الشيطان منها فكيف استطاع أن يدخل فيها مرة أخرى لإغواء آدم؟ من ولذلك أرى أن الجنة المشار إليها هنا لم تكن جنة حقيقية، كما لم تكن منطقة هذه الكرة الأرضية يمكن تسميتها بالجنة بل المراد منها ذلك المقام الروحاني من رضوان الله تعالى الذي يتمتع به الناس قبل أن يُبعث بينهم نبي من الأنبياء.ذلك أن الحجة لا تكون قد أقيمت عليهم عن طريق النبي، وبالتالي لا يزالون – رغم كونهم على الخطأ - يتمتعون برحمة الله ورضوانه؛ ولكن عندما يُبعث بينهم نبي ويكفرونه فإنهم يُحرمون من جنة الرضوان الإلهي.ومما يؤيد موقفي هذا أن القرآن الكريم قد صرح في سورة البقرة وكذلك في مواضع أخرى أنه بعد أن أغوى إبليس آدم طُردت ذرية كلّ منهما من الجنة.فثبت أن طرد الشيطان من الجنة لعدم سجوده لآدم ينطوي على مفهوم آخر.وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ شرح الكلمات اللعنة: لَعَنَه لَعْنا طرده؛ وأبعده من الخير؛ وأخزاه؛ وسبه.واللعنة: اسم من اللعن؛ العذاب (الأقرب).يوم: اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ الوقت مطلقا (الأقرب).عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة : (۳۷).وقال الله تعالى لإبليس: فَاهْبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (الأعراف: ١٤)، وقال: اخرج منها مذؤوما مدحورًا (الأعراف (۱۹ وقال : فاخْرُجُ منها فإنك رجيم ) ( ص: ۷۸).وقال الله عن أهل الجنة: لا يَمَسهم فيها نَصَبٌ وما هم منها بمخرجين ) ( الحجر: ٤٩).(المترجم) :
الجزء الرابع ۱۲۱ سورة الحجر الدين: هو الجزاء والمكافأة الطاعة؛ الذلُّ الحساب؛ القهر والغلبة والاستعلاء؛ السلطانُ والملك والحكم؛ التدبير؛ اسمٌ لجميع ما يُعبَد به الله ؛ المله؛ الورعُ؛ القضاء (الأقرب).التفسير: يمحو الله تعالى ذكر رأس المكفّرين لأنبيائه، ويُبقي على ذكر أنبيائه الكرام إجمالاً أو تفصيلاً.والنبوة هي في الواقع كسلسلة ينخرط فيها كل نبي قديم مع أتباعه بكل نبي جديد وأتباعه كالحلقات المتصلة..فلذلك نجد كل نبي يذكر معارضي الأنبياء السابقين بالسوء دائما، وإن لم يلعنهم بذكر أسمائهم فعلى الأقل يكن في قلبه كراهية شديدة تجاه أفعالهم المنكرة.وبما أن النبوة سارية إلى يوم القيامة فلذلك قال الله له لإبليس: وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.ولا تتحدث هذه الآية عن أي عذاب لهم لأن عذابهم سيبدأ بكل شدة وقوة بعد حلول يوم الدين.قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) شرح الكلمات : فَأَنْظُرْي: أنظَرَه الدِّينَ: أَخَّره (الأقرب).يُبعثون: بَعَثَهُ بَعْنًا : أرسَلَه أثارَه وهَيَّجَه.بَعَثَ الموتى: أحياهم.بعثه على الشيء: حمله على فعله.والبعث: النشر (الأقرب).التفسير: هذا الكلام أيضًا من قبيل المجاز أو لسان الحال، وليس أن الشيطان أو أشباهه طلبوا بالفعل من الله تعالى مهلة كهذه.لقد سبق أن بينتُ أن هذه الآيات تتحدث عن آدم وغيره من الأنبياء خصوصا، وعن أبناء آدم عموما، مع العلم أن معنى نفخ الروح في آدم والأنبياء الآخرين هو نزول الوحي عليهم، وأما معناه في خصوص أبناء آدم أي البشر عموما فهو تكميل النفس الإنسانية.وأما قول الشيطان الله تعالى: فأَنظُرْني إلى يوم يبعثون
الجزء الرابع ۱۲۲ سورة الحجر فمعناه أيضًا يختلف بالنظر إلى الفئتين: فيعني بالنسبة إلى الفئة الثانية أي البشر عمومًا: يا رب، آتني المهلة لإغوائهم حتى ما قبل بعثتهم روحانيا..أي ما لم يحم الإنسان نفسه من هجمات الشيطان بدخوله في عداد عباد الله المخلصين يُمنح الشيطان وذريته فرصة إغوائه.ومما يدل على أن البعث هنا روحاني وليس بمعنى حشر الأجساد أنه تعالى لم يقل هنا "إلى يوم الموت" بل قال إلى يوم يبعثون.ومعلوم أن إمهال الشيطان لإغواء البشر إلى يوم البعث الحقيقي مستحيل، لأن اختبار الإنسان ينتهي بموته، وليس هناك ديانة تعتقد بأن الشيطان أو الملائكة يستمرون في إغواء الإنسان أو هدايته بعد موته أيضا إلى أن تقوم القيامة.فلو أخذنا "يوم البعث" هنا بمعنى حشر الأجساد لخالفنا تعليم القرآن وخالفنا أيضًا ما يمليه علينا العقل والمنطق السليم.إذن فكل إنسان عاقل سوف يعتبر يوم البعث هنا بمعنى البعثة الروحانية، وأن المراد من الآية هو أن الشيطان أو أظلاله من البشر إنما يستطيعون إغواء أحد مـــن الناس ما لم تتم بعثته روحانيا..أو بتعبير آخر..ما لم تتيسر لـه النفس المطمئنة التي تطيع الله تعالى دائمًا؛ أما بعد حصوله على النفس المطمئنة فإن الشيطان وذريته يَيْتَسُون منه، ويشرعون في إيذائه وتعذيبه بدلاً من محاولة إغوائه وتضليله.وأما بالنظر إلى آدم وخلفائه الحقيقيين وهم الأنبياء فالمراد من إنظار الشيطان هو أنه يُسمح للشيطان وأتباعه بالطعن في الأنبياء بأنواع التهم والأكاذيب، وعرقلة طريقهم ومهاجمتهم وتعذيبهم إلى أن يأتي يوم بعث هؤلاء الأنبياء..أي إلى أن يأتي الزمن المقدر لانتصارهم وبتعبير آخر، يُمهل الشيطان وأعوانه وفق الوعد الإلهي المذكور في قوله تعالى إلا من استرق السمع وقوله إلا مَن خَطفَ الخطفة لكي يطعنوا ما شاءوا في تعاليم الأنبياء كذبا وزورا، ولكن عندما يأتي غلبتهم تذهب ريح هؤلاء الشياطين مثل الزبد هكذا جرت سنة الله وعل منذ زمن آدم إلى عصر نبينا حيث لم يزل الله تعالى يُمهل الكفار، بناءً على يوم
الجزء الرابع ۱۲۳ سورة الحجر بعض حكمه، ليملئوا الدنيا صراحًا وضجيجًا ضد الرسل، ويمكروا بهم بصنوف الحيل والخدع، إلى أن يأتي يوم بعثهم حيث ينادي الله رسله وجماعاتهم قائلاً: ها لقد انتهى زمن اختباركم، فهُبُوا الآن واستولوا على العالم؛ فأصبح الأنبياء ظاهرين منتصرين، وصار المعارضون خامدين حمود الزبد، بل آمن كثير منهم وانضموا إلى جماعة الأنبياء.الله تعالى ولا تعني هذه الآية أن الشيطان بالفعل يطلب من الله تعالى المهلة في زمن الأنبياء فيمنحه إياها، بل إنه كلام مجازي كما أسلفتُ ومعناه أن الشياطين أي الأعداء يتمنون في قلوبهم أن ينقضوا على أنبيائهم فيسحقوهم سحقًا، ويسمح لهؤلاء الماكرين بأن يدخروا وسعًا لتحقيق أمانيهم الخبيثة، ولكن هذا السماح يستمر إلى يوم بعث الأنبياء فقط، ثم يجعل الله رسله غالبين، ويردّ أعداءهم خائبين، فيرون هلاكهم بأم أعينهم.قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) ۳۸ ) التفسير: أي سنمنحكم المهلة، ولكن فقط إلى ذلك الوقت الذي أخرنا إليه انتصــار رسلنا، ولكـــن حين يأتي زمن غلبتهم ستنتهي فترة المهلة هذه، وسنسحقكم بآياتنا القهرية أيها الشياطين أئمة الكفر.وأما يوم الوقت المعلوم فهو ما سبقت الإشارة إليه في بداية السورة بقوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (الآية ٥)..أي أن كل قرية من القرى التي عارض أهلُها رسلنا لم نهلكها في أول يوم، بل أَمْهَلْنا كل واحدة منها بالنظر إلى المهمة الموكولة إلى كل رسول.فمنهم من أجلنا عقابهم قليلاً وأهلكناهم في حياة نبيهم كما حصل في زمن سيدنا موسى وفي زمن نبينا الكريم ، ومنهم من أمهلناهم طويلا، ثم أهلكناهم بعد رحيل نبيهم كما حصل مع المسيح اللة.
الجزء الرابع ١٢٤ سورة الحجر قَالَ رَبِّ مَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيْنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤) شرح الكلمات: أغويتَني: غَوِيَ الرجل وغَوَى: ضل.وأغواه: أضله (الأقرب).٤١ التفسير هذا الكلام أيضًا من قبيل المجاز أي لسان حال إبليس، والرسالة التي تنطوي عليها هذه الآية هي أن الذين يكفرون بالرسل في بادئ الأمر يمنعهم العناد من الإيمان فيما بعد أيضًا، فيحترقون كمدا وغضبًا بما لم يوفقوا للإيمان في أول الأمر، وبالتالي يريدون القضاء على جماعة الأنبياء، فلا يألون جهدا في تعذيب المؤمنين ليرتدوا عن دينهم.وقد أكد الله على هذا المعنى في موضع آخر من القرآن الكريم بقوله تلك القُرَى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا من قبلُ كذلك يطبَعُ اللَّهُ على قلوبِ الكافرين (الأعراف: ۱۰۲)..أي أن أئمة الكفر إنما يُحرمون من الإيمان لأنهم كفروا برسلهم في أول الأمر، فيرون في تصديقهم للرسل فيما بعد خزيًا وعارا عليهم، فيزدادون عداءً، ويُضلّون باقي القوم، تنفيسا لغيظهم.ولقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى في مستهل هذه السورة أيضًا في قول الله ربمــا يــــود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (الآية ٣)..أي كم يتمنى الكفار ليتهم آمنوا أول الأمر كيلا يروا هذا الخزي والهوان، ولكن ما دام كفرهم قد حرمهم هذا الشرف أول مرة، فلا يُؤمنون رغم حسرتهم هذه، بل يزدادون تعصبا وعنادا.وأما تحدّي الشيطان لتضليل الناس في قوله ولأُغوينهم فمثاله ما ذكره القرآن الكريم على لسان معارضي شعيب اللي في قوله تعالى لنخرجنكَ يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لَتعُودُنّ في ملتنا قال أولو كنا كارهين
الجزء الرابع ۱۲۵ سورة الحجر (الأعراف (۸۹) وقوله تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لَنُحْرِ جَنَّكُم مِن أرضنا أو لَتَعودُنّ في ملتنا ) (إبراهيم: (١٤).وكأن معارضي كل نبي أعلنوا: ما دمنا لم نوفق نحن للإيمان فلن نبرح حتى نردّ المؤمنين عن دينهم.وهكذا كان دأب أعداء الرسول حيث يقول القرآن عنهم ويريدون أن تضلُّوا السبيل ﷺ (النساء: (٤٥)..أي أن أعداءه الله من اليهود يريدون أن يرتد المسلمون عن دينهم.وكذلك ورد عن الكفار الآخرين ولا يزالون يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكم عن دينكم إن استطاعوا) (البقرة : (۲۱۸)..أي أنهم لن يبرحوا يحاربونكم إلى أن يردوكم عن الإسلام، ولكن الله تعالى سوف يكسر شوكتهم في آخر المطاف، ويجعلكم الغالبين.والمشهد نفسه نراه نحن المسلمين الأحمديين اليوم حيث تريد كل الدنيا ردنا موقفنا، ولكن من ذا الذي يستطيع إهلاك من يريد ما أشدَّ عماية الكافر ! فبدلاً من أن يلوم نفسه على رفضه الدين يريد أن يصب جام غضبه على الله تعالى قائلاً: ما دام هو لم يجعلني مؤمنًا فلن أبرح حتى أجعل عباده المؤمنين مرتدين! قَالَ هَذَا صِرَاطُ عَلَى مُسْتَقِيمُ : ٤٢ الله حياته؟ عن التفسير : لقد ذكر الله لهم من قبل أن عباده الذين يُخلصهم ويختارهم لا يملك عليهم الشيطان أي سلطة ولا تصرف وأما الآن فأخبر الله تعالى كيف يصبح العباد مخلصين حيث قال : هذا صراط على مستقيم أي أن من واجبي أن أهديهم إلى سبيلي، وسوف أدلّهم على سبيلى بالوحى والإلهام، فيصلون إلي رأسًا، ولا يمكن أن ينحرفوا عن سبيلي إلى سبيل الشيطان المردود.ونظرا إلى هذا المفهوم سيكون تقدير قوله هذا صراط علي مستقيم كالآتي: هــذا صراط مستقيم وبيانه علي..أي أن عباد الله المخلصين لا يعتمدون على
الجزء الرابع ١٢٦ سورة الحجر يخضع عقولهم وحدها بحثا عن صراط الله المستقيم، لأن من يعتمد في هذا البحث على العقل وحده يقع في قبضة الشيطان؛ ولكن الذي أهديه إلى سبيلي يستحيل أن للتأثيرات الشيطانية، إذ أتولى بنفسي رعايته وحمايته، فيأتي إلي رأسا من دون أن ينحرف عن سبيلى يمينا أو شمالاً.وقد تعني هذه الآية أن عبادي الذين يكونون مخلصين مختارين يجدونني على الفور، ولا يبقون بعد ذلك تائهين في البحث عني..أي أنهم ليسوا ممن يسير في الصراط المؤدي إلي، ولكنه يصير عرضة للشيطان الذي يختطفه قبل أن يصل إلي، بل إن عبادي المختارين هؤلاء يسيرون – بعد تلقي الوحي والإلهام مني – في الطريق الذي لا بد أن يمر علي..أي أنهم يكونون قد حازوا على وصالي وقربي من قبل، وأما حياتهم الباقية فيقضونها في محاولة التخلق بالأخلاق الإلهية خُلق تلو خلق؛ وأنى للشيطان أن يقترب من مثل هؤلاء المقربين لديه.لقد بين الله تعالى هنا أنه لا يكون هدفًا للانحراف عن صراط الله المستقيم إلا الذي ما يزال في طور البحث عنه ، ولكن الذي يكون قد وصل إلى الله الله ووجده فإنما يسعى للمزيد من قربه تعالى ومن المحال أن يُغويه الشيطان ويُضله، إذ كيف يمكن لإنسان أن ينكر ما شاهده بأم عينه وما جربه بنفسه؟ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنَّ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (3) شرح الكلمات: سلطان: هو الحجة التسلط؛ قدرة الملك (الأقرب).٤٢ التفسير : تتحدث هذه الآية عن فئة محمية أخرى ليست من الحائزين على درجة النبوة، كما ليست من الذين ينالون الهدى والإيمان ببحثهم الذاتي، وإنما تصل إلى الحق عن طريق الأنبياء وغيرهم من الواصلين إلى الله تعالى.فهؤلاء أيضًا يتمتعون بالحماية الإلهية بحيث إن الشيطان لا يقدر على أن يتسلط عليهم.إنه
الجزء الرابع ۱۲۷ سورة الحجر يحاول الهجوم عليهم ولكن هجومه يكون ضعيفا جدا بالنسبة لهم لأنهم يتمتعون من القوة الإيمانية بحيث يردّون هجمات الشيطان بنجاح، وينجون منه عمومًا.قد يكون بينهم من لا يكون إيمانه قائمًا على أساس متين من اليقين الكامل نعم الله بل تشوبه شوائب الضعف، ومثل هذا يخضع أحيانًا للتأثير الشيطاني..أي يرتكب المعصية، وهو الذي يبقى في خطر أن يقع فريسة لهجمة الشيطان الذي قد يقبض عليه ويتسلط.غير أن الشيطان يمارس سلطته على مثل هؤلاء بسبب ضعف إيمانهم وبعد ارتكابهم بعض المعاصي، وإلا فإن هؤلاء أيضًا يتمتعون بحماية في بداية الأمر.وفي هذا إيماءة إلى أن الفطرة الإنسانية نقية طاهرة، حيث بين الله تعالى أنه لا يضل عن الصراط السوي إلا من يُنجس بنفسه فطرته النقية ويتبع خطوات الشيطان.ولقد أوضح الله لك هذا المعنى في مكان آخر من القرآن الكريم بقوله وقد خاب من دساها) (الشمس : (۱۱)..أي لا يهلك إلا من يُفسد نفسه ١١)..الطاهرة ويدفنها تحت تراب المعاصي.وَإِنَّ جَهَمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الله لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ و لا دو بَابِ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقَسُومٌ شرح الكلمات: ٤٥ ) ٤٤ جهنم: دار العقاب بعد الموت (الأقرب).(راجع لمزيد التفصيل شرح الكلمات للآية رقم ۲۰ من تفسير سورة الرعد).موعدهم: الموعد: الوعد؛ ومكانه (الأقرب).التفسير: لقد ورد في موضع آخر من القرآن الكريم أن المراقبين على جهنم تسعة عشر (المدثر : ۳۱ و ۳۲).ذلك أن في الإنسان تسع حواس في عدده م
الجزء الرابع ۱۲۸ سورة الحجر الواقع، وإن كان المشهور أنها خمس ولكن لو أضفنا إليها ما نحس به الحر والبرد والوقت والثقل لصارت تسعًا.وهناك إزاء هذه الحواس التسع الظاهرة، تسع حواس أخرى ،روحانية، وهكذا يصبح عددها ۱۸ ، وعندما نضيف إليها القوة المتحكمة فيها يصبح المجموع ۱۹؛ وحين لا يعمل الإنسان وفق تعليمات هذه الحواس ال ۱۹ يضل سواء السبيل.وقد جعل الله له عدد المراقبين على جهنم أيضًا ۱۹ بحسب عدد هذه الحواس، تنبيهًا لأصحاب النار أن سوء استخدامهم لهذه القوى الـ ۱۹ هو الذي أدى بهم إلى هذا المصير.أما قوله تعالى لها سبعة أبواب فلا يعني بالضرورة أن أبواب جهنم سبعة بالضبط، لا أكثر ولا أقل؛ ذلك أن عدد السبع أو السبعين يعني عند العرب - الكثرة أو التمام والكمال المفردات للراغب وتاج العروس، تحت "سبع").أما قوله تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم فمعناه أنه سيكون في باب خاص بكل سيئة وسوف يُدعى منه كل من ارتكب تلك السيئة.وورد في الحديث أن للجنة أيضًا أبوابًا مختلفة نظرًا إلى حسنات مختلفة، وأن من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وهلم جرا.(الترمذي: المناقب) والمراد من الجزء هنا مجموعة من أهل النار.وهكذا فإن هذه الآية تساعدنا على خطأ تصحيح وقع فيه البعض لدى تفسير قوله تعالى لإبراهيم عن الطيور الأربعة ثم اجْعَلْ على كل جبل منهن جزءاً )) (البقرة : (٢٦١)..حيث زعموا – بسبب كلمة (جزءا) – أن الله تعالى أمر إبراهيم أن يمزّق الطيور ثم يضع جزءا من لحمها المفروم على كل جبل (انظر تفسير ابن كثير والبغوي).مع أن المراد من أجزاء الطيور هو نفس ما أريد في هذه الآية من أجزاء الجهنميين..والمعنى: ضَعْ ورود - على كل جبل طيرًا من هذه الطيور الأربعة.
الجزء الرابع ۱۲۹ سورة الحجر إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٤٦ الكلمات شرح الجنة: أصلُ الجَنِّ سترُ الشيء، يقال: جنَّه الليلُ : ستَره.والجَنَّةُ: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.وقد تُسمَّى الأشجارُ الساترة جَنَّةً.وسُمّيت الجنّة إما تشبيها بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما لستْره تعالى نعمها عنا التي أشار إليها بقوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )) (المفردات).التفسير: ليس المراد من قوله تعالى في جنات وعيون أن المتقين يعيشون في مياه العيون، وإنما المعنى أنهم يسكنون في جنات فيها العيون.لقد بين الله تعالى هنا أن الشياطين سوف يدخلون بسبب كفرهم الجحيم، التي ستتمثل لهم في هذه الدنيا على شكل نيران الحسرات والعذاب الدنيوي، وأما في الآخرة فعلى صورة عذاب النار ؛ وأن المؤمنين سيعيشون في هذه الدنيا تحت ظل رحمة الله ورعايته، وستتفجر من قلوبهم عيون المعارف والعلوم، مما سيزيدهم رحمة وفضلاً..شأن الشجرة التي تنمو وتزدهر بالري، وأما في الآخرة فسوف يُعطون تلك الجنات والعيون التي وُعدوا بها في آيات عديدة من القرآن الكريم.ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ءَامِنِينَ شرح الكلمات ٤٧ سلام السلام : اسمٌ من التسليم؛ الاستسلام للانقياد والطاعة.والسلام اسم أسماء الله لسلامته من النقص والعيب والفناء (الأقرب).من التفسير : يبدو أن هذا من قول الملائكة..أي أنها تقول للمؤمنين في الدنيا وفي الآخرة أن ادخلوا في جنة فيها السلام والأمن.ذلك أن المؤمنين يستجيبون للملائكة حين تحفزهم على الخير فلذلك تحبّهم الملائكة وتستأنس بهم، وتبشرهم
الجزء الرابع ۱۳۰ سورة الحجر فرحانة بما يقرره الله جل في شأنهم من خير وفضل.والســلام المشار إليه في قوله تعالى ادخلوها بسلام آمنين نوعان: السلام الداخلي والســـلام الخارجي، فكلمة سلام إشارة إلى السلام الداخلي أي حمايتهم مـــن كـــل حزن وقلق، وأما كلمة آمنين فهي إيماءة إلى السلام لخارجي أي نجاتهم من تعذيب العدو واضطهاده.كما أن لفظ سلام) إشارة إلى وعد الله الذي قد قطعه مع المؤمنين في قوله: سلام سلام قولا من رب رحيم ) (يس: ٥٩)..وكأن الملائكة تبشر هؤلاء المؤمنين بأن الله تعالى قد قدر لكم سلاما خاصا من عنده.وفي هذا دليل على شدة تعلّق الملائكة بالمؤمنين حيث تخبرهم بالقرارات الإلهية في شأنهم بأسرع ما يمكن.كما تحمل لنا هذه الآية رسالة أخرى بأنه ما لم ينزل الأمر من الله بالسلام لا يمكن لأحد أن يتمتع بالأمن والسكينة.كما أن هذه الجملة إشارة إلى فشل الشيطان في تهديده بأنه سيسعى جاهدًا لإغواء المؤمنين، فكأن الله وعمل يهنئ المؤمنين قائلاً: ها قد وصلتم أخيرًا إلى داري المباركة سالمين بالرغم من مكائد هؤلاء الشياطين.وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلَّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَبِلِينَ ) شرح الكلمات: ٤٨ غل: غَل صدره غلا: كان ذا غش أو حقد وضعن.والغل: الغش والحقد (الأقرب).سُوُر السرر جمع سرير وهو : التختُ، ويغلب على تخت الملك، يقال: زال عن سريره: ذهــب عــزه ونعمتُه.والسرير أيضا الملك؛ النعمة؛ خفض العيش (الأقرب).التفسير : لقد قال الله وعمل في موضع آخر ولمن خاف مقام ربه جنتان
الجزء الرابع ۱۳۱ سورة الحجر مما يعني الرحمن: (٤٧)..أي أن للمؤمنين جنتين: جنة في الدنيا وجنة في الآخرة.ولقد ذكر الله هنا من علامات الجنة أن قلوب أهلها تكون خالية من حقد الآخرين.أنه لن يدخل الجنة إلا من نزع من قلبه البغض والحقد ضد أخيه المؤمن في هذه الدنيا.لذا فمن واجب جماعتنا بل المسلمين جميعا أن ينتفعوا من هذه الوصفة الإلهية لدخول الجنة، فلا يكنوا في قلوبهم ضد أحد من غل ولا بغض.وقوله عل على سرر متقابلين أيضًا يشير إلى كونهم متحابين، لأن المحبة هي التي تجعل الإنسان يجلس مع صاحبه وجها لوجه، ليتمتع بالنظر إلى محياه.لقد ركز القرآن الكريم – في أماكن كثيرة وبتعبيرات شتى – على جلوس أهل الجنة على السرر ، ليبين أن كل إنسان في الجنة يكون بمثابة الملك، متحررا من حكم الآخرين إذ لا حكم يومئذ إلا لله الذي لا يمثل حكمه ثقلاً على الإنسان، بل يزيده عزا وشرفًا؛ لأن طاعته تعالى هي التي تمنح الإنسان الحرية الحقيقية.وقد أكد الله وعمل على هذا المعنى أيضًا في موضع آخر في القرآن حيث أعلن عن أهل الجنة لهم فيها ما يشاءون) (النحل: (۳۲)..بمعنى أنه ما من أمنية يتمنونها إلا ٣٢)..وسوف تتحقق، وكأن كل واحد منهم سوف يمارس حكمه وقانونه في دائرته الخاصة به؛ وهذا هو الملك والحكم بعينه.لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (3) : شرح الكلمات: نَصَبٌ: نَصِبَ الرجلُ ينصب نَصَبا: أعيا.ونصب في الأمر: جد واجتهد (الأقرب).التفسير : لقد أخبر الله له الا الله هنا أن الإنسان سوف يعمل في الجنة أيضا، ولكن من دون أن يشعر بالتعب أو الملل، فإن التعب دليل على الفناء.ذلك أن شعور الإنسان بالتعب هو في الواقع تحذير طبيعي أنه قد استهلك من بدنه بعض الخلايا
الجزء الرابع ۱۳۲ سورة الحجر النافعة كالشحم أو غيره، وأن عليه الآن أن يكفّ عن العمل ويرتاح، أو يتناول بعض الطعام ليتزود ببعض الوقود.لقد قرأتُ في أحد الكتب الطبية أن الإنسان يستهلك ملايين الخلايا من جسمه بمجرد أن يحرّك يده قليلا.فالشعور بالتعب بعد قليل من العمل دليل على ضياع الكثير من طاقات الجسم التي يجب أن تعوض.فثبت أن التعب علامة الفناء.إذن فقد أخبر الله تعالى بقوله لا يَمَسُّهم فيها نَصَبٌ أن الأجسام لن تتحلل في الجنة وبالتالي لن تتعرض للفناء.كما يتضح من ذلك أننا في الجنة لن نتغذى من أجل أن نعوّض عن طاقتنا المفقودة إذ لا فناء للطاقات هناك، بل سيكون للغذاء هناك نفع آخر وهو أن يزيدنا طاقة على طاقة؛ وبتعبير آخر فإن خطواتنا في الجنة لن ترجع القهقرى، بل ستمضي بنا إلى الأمام على الدوام.ثم قال الله الا الله وما هم منها بمخرجين..أي لن يأتي عليهم الموت ولا الفناء.ذلك أن التعب هو الذي يدفع بالإنسان إلى الموت، لأن طاقاته البدنية تستهلك شيئًا فشيئًا إلى أن تفنى نهائيًّا؛ وبما أن الجنة خالية من التعب والنصب، فلا موت فيها ولا خروج منها.علما أن الجنة مقام روحاني.مما لا شك فيه أن نعمها قد شبهت بنعم هذه الدنيا على وجه المجاز ،والتمثيل ولكن الحق أن نعمها أسمى من أن يستوعبها عقل الإنسان.والواقع أن هذه الآية إنما تومئ إلى حقيقة أخرى وهي أن الصالحين يعانون في الدنيا من الهجمات الشيطانية، ولكنهم في الجنة سيتخلصون من مثل هذه العراقيل تمامًا، وستنعم قلوبهم بأمان كامل من أي تعب ونصب، إذ ليس هناك أي خطر دائم ولا مؤقت لضرر الشيطان.كما يمكن أن نستدل بهذه الآية على أن الجنة ليست مكانًا للكسالى يستجمون فيها ويرتاحون عاطلين، بل إن أهلها سوف يعملون أيضًا؛ إذ لا داعي لنفي النصب عنهم لو لم يكن هناك أي عمل لهم؟ فالذين يظنون أن الجنة مكان للتمتع بالأكل الشهي والعيش الهنيء عليهم أن يصححوا تفكيرهم الخاطئ هذا.
الجزء الرابع ۱۳۳ سورة الحجر إن الجنة مقام العبودية كما صرح الله بذلك في قوله فادْخُلي في عبادي وادخلي جنتي (الفجر: ۳۰ و ۳۱)..أي إنما يحرز الإنسان مقام العبودية الكاملة الله تعالى بعد دخوله الجنة والظاهر أن العبد يعمل، ولا يجلس عاطلاً.فثبت أن المقام الحقيقى للعمل هو الجنة حيث يصير الإنسان كاملا في عبوديته.واعلموا أيضًا أن المتعة الحقيقية للجنة إنما تكمن في كون الإنسان سوف يجد هناك اللذة القصوى في عباداته التي سيقوم بها متحررا من تعب الصراع مع المشاعر التي تعرقله عن العبادة والظاهر أن الإنسان لا يمل ولا يتعب من العمل الذي يجد فيه المتعة واللذة.ولكن المؤسف أن المسلمين عمومًا يصوّرون الجنة وكأنها دار للمساكين حيث يعيش أهلها ،عاطلين، ويتمتعون بأشهى المأكولات مجانًا، من دون أن يطردهم منها أحد! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! نَى عِبَادِيَ أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤) ظنا التفسير: لقد وردت هنا كلمة عبادي بمعناها العام الذي يشمل الصالح والطالح من الناس، وتعني الآية: أنْ طَمئن عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ألا ييئسوا من رحمتي منهم أنهم قد ارتكبوا كثيرًا من المعاصي التي لا سبيل بعدها للتوبة؛ فأنا الغفور، سأغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم.وقل لعبادي المؤمنين ألا يكتفوا بما عملوا من الصالحات ظانين أنهم قد حققوا ما قدر لهم من الكمال الروحاني؛ فأنا الرحيم، سأزداد رحمةً وفضلاً عليهم كلما ازدادوا صلاحًا؛ فيجب ألا يتوقفوا عن فعل الخيرات.وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (3) ۵۱
الجزء الرابع الكلمات : ١٣٤ سورة الحجر شرح عذابي: العذاب: كلُّ ما شقَّ على الإنسان ومنعه عن مراده.وفي الكليات: "كل عذاب في القرآن فهو التعذيب إلا وَلْيَشهَدْ عذابهما طائفة فإن المراد الضرب" (الأقرب).التفسير: يقول الله وعجل : إن عذاب أحد لا يمكن أن يسمى عذابًا إزاء عذابي؛ ذلك أن تعذيب إنسان لأحد تعذيب مؤقت، ثم هناك مخرج منه وملاذ ألا وهو ذات البارئ ، ولكن إذا أراد الله أن يعذب قوما بعذاب فلا مناص منه، إلا أن يقول الإنسان لربه : لا ملجأ ولا مَنْجَى منك إلا إليك." وَنَبِّهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ! ۵۲ 6.التفسير : كان المقصود هنا الحديث عن سيدنا لوط العلم، ولكن القرآن – كما أسلفتُ - كلما تناول قصة لوط بالتفصيل تحدث أولاً عن إبراهيم عليهما السلام.ولم يفعل القرآن ذلك صدفة، بل قصدًا، وذلك ليبين أن لوطا كان رسولاً تابعا لإبراهيم عليهما السلام.وقد ذكر القرآن حادث لوط بعد قصة آدم عليهما السلام لأن أهل مكة كانوا يعتبرون أنفسهم من أولاد إبراهيم الذي كان لوط من أقاربه.فكأن القرآن الكريم يذكر بذلك أهل مكة بأن الوحي قد سبق أن نزل على إبراهيم ولوط اللذين تعرفون أحوالهما، فلم تنتابكم الوساوس والشبهات لدى نزول الوحي اليوم على محمد؟ كما يحذرهم القرآن بذكر آبائهم هؤلاء أن إنكار الوحي يعرض الإنسان للعقوبة الإلهية.ولا جرم أن هذا الأسلوب القرآني يمثل دحضًا لأولئك الذين يزعمون أن لا ربط ولا ترتيب بين آيات القرآن.
الجزء الرابع ۱۳۵ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ = شرح الكلمات: سورة الحجر وَجلُون وَجلَه يَوجَله وَجَلاً: خاف.وفي المفردات: استشعر بالخوف.والوجل: الخائف (الأقرب).التفسير: يبدو أن أمارات الخوف كانت بادية على وجوه ضيوف إبراهيم، فأدرك بفراسته أن وراءهم ما يهمهم ويقلقهم.أو توجس إبراهيم منهم الخوف لأنه حينما قدّم إليهم الطعام - كما ورد في سورة هود – اعتذروا عن تناوله، فعرف أنهم قد أتوه بخبر محزن ربما يخصه هو، فقال لهم: إن امتناعكم عن تناول الطعام يريبني وأخاف أنكم لم تأتوني لخير.وقد يكون سبب خوف إبراهيم أنه ظن أنه ربما قد أساء ضيافتهم، فقال لهم: أخاف أن أكون قد فرّطت في شأنكم.قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ٥٤ التفسير: لما لاحظ الضيوف آثار القلق لدى إبراهيم زقوا إليه البشرى الخاصة به وقالوا: إن الخبر المحزن الذي أتينا به لا يخصك، بل نبشرك بولادة غلام عليم.ولا جرم أن هؤلاء الضيوف أو أحدا منهم قد تلقى وحيا حول ما سيحدث مع إبراهيم ولوط عليهما السلام ولا غرابة في ذلك، إذ هكذا جرت سنة الله تعالى فيما يتعلق بالأنباء، فقد قال النبي ﷺ "يراها المؤمن أو تُرى لــــه" (الترمذي: الرؤيا)..بمعنى أنه لا يخبر المؤمن بمشيئته الا الله مباشرة وبواسطة الآخرين أيضًا.وعندي أن إبراهيم ولوطًا كانا غريبين في تلك المنطقة إذ هاجرا إليها من العراق، حيث ورد في التوراة أنهما كانا من سكان قرية للكلدانيين اسمها أور
الجزء الرابع ١٣٦ سورة الحجر (تكوين ۱۱: ۲۸ و ۳۱).كذلك يخبرنا القرآن الكريم أن إبراهيم لما أُوذي على يد قومه قال إني مهاجر إلى ربي (العنكبوت (۲۷).وبعد ما اشتدت المعارضة وحاول قومه إحراقه في النار التي جعلها الله و بردًا وسلاما عليه، قام إبراهيم بالهجرة إلى أرض كنعان حيث يخبرنا سبحانه وتعالى: ونَجَّيْناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) (الأنبياء: (۷۲)..أي نجاه الله إلى أرض كنعان التي تسمى اليوم فلسطين حيث توجد أماكن مقدسة لليهود مثل أورشليم وغيرها.(راجع أيضا تكوين ١٢ (٥) وكانت تلك المنطقة شبه غريبة للوط لأنه قد أتاها قبل فترة قصيرة، وكان خروجه من بين أهلها المجرمين سوف يعرّضه لكثير من الصعوبة والعناء..فأوحى الله إلى هؤلاء الضيوف الذين كانوا على ما يبدو من سكان المنطقة نفسها- أن يقوموا بتهدئة خاطر لوط وأن يشيروا عليه بالمكان المناسب الذي سيهاجر إليه.وأما قول الضيوف لإبراهيم إنا نبشرك بغلام عليم ففيه تأكيد وتسلية من الله تعالى لإبراهيم اللي الذي كان رقيق القلب جدا حيث يخبرنا الله تعالى إن إبراهيم لأوّاه حليم (التوبة: (١١٤).ذلك أن خبر هلاك القوم كان سيمثل صدمة فاجعة لإبراهيم، فتحفيفًا من صدمته زف الله له البشرى بولد عليم بواسطة هؤلاء الضيوف.فكأنه تعالى أنزل السكينة على قلب إبراهيم وقال: إذا كنا سنهلك قوما فاسدين من جهة، فإننا من جهة أخرى نرسي الأساس لأمة صالحة أيضًا.ولما كان العلم الحقيقي إنما يحصل بالنبوة فقد تنطوي كلمة (غلام عليم) على البشارة بكون هذا الغلام أي إسحاق نبيًّا أيضًا.قَال أَبَشِّرْتُمُونِي عَلَى أَن مِّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (2) ٥٥
الجزء الرابع ۱۳۷ سورة الحجر التفسير: فكر سيدنا إبراهيم ال أنه قد أصبح شيخًا طاعنا في السن، فلا بد أنهم يبشرونه بولادة الابن بناء على إلهام تلقوه من عند الله تعالى؟ فقال لهم مستفسرا : ما هو مصدر هذه البشرى؟ قَالُوا بَشَّرْنَكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَنِطِينَ شرح الكلمات: القانطين: قنط يقنط قنوطا: يَئس (الأقرب).التفسير : قال له الضيوف: لم نبشرك عن فراغ؛ إذ لا حق لنا كبشر أن ندلي بنبأ كهذا، إنما البشرى من الله تعالى ونزفّها إليك بما مَنَحَنا الله من حق؛ أو المعنى أننا نزفّها إليك بناء على أوامره التي آتانا إياها نظرا إلى الظروف السائدة، فلا تقنط من رحمة الله.وقولهم: فلا تَكُنْ من القانطين يدل على أن هؤلاء الضيوف كانوا بشرًا.وكانوا غير مطلعين على درجة إبراهيم في التوكل على الله.لو كانوا ملائكة لما خاطبوا إبراهيم بمثل هذه الكلمات لأن الملائكة كانت تعرف جيدا مقام إبراهيم في التوكل على الله تعالى.قَالَ وَمَن يَقْتَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُونَ ) التفسير: لما سمع إبراهيم قولهم فلا تَكُن من القانطين ردّ عليهم بنبرة قوية: هل تظنونني ضعيف الإيمان.إنه لا بيئس من رحمة الله إلا أهل الضلال؟ إنني واثق برحمة ربي الثقة كلها، إنما أقصد من سؤالي أن أعرف هل هذه البشرى من قبيل ثرثرة المنجمين أم أن الله تعالى هو الذي أخبركم بها بالوحي.أما وقد كشفتم حقيقة الأمر فلم يبق لديّ الآن أدنى شك في صحة البشرى.لاحظوا الغيرة الإيمانية عند إبراهيم ال فهو مضياف لدرجة أنه ما لبث أن
الجزء الرابع ۱۳۸ سورة الحجر ذبح عجلاً وقدّمه لضيوفه شواء لذيذا، وحين وجدهم لا يأكلون خاف أن يكون قد فرّط في ضيافتهم، ولكن لما قال له الضيوف فلا تَكُن من القانطين ثارت غيرته الإيمانية، فأجابهم من فوره ومَن يَقنَطُ من رحمة ربِّه إلا الضالون؟ أي أن المؤمن لا يبئس من رحمة الله أبدا.هكذا يغار أنبياء الله وعمل على إيمانهم ودينهم.فكم هو حري بكل مؤمن أن يبدي الغيرة من أجل إيمانه متأسيًا بأسوة هؤلاء الكرام لو كان هناك شخص آخر مكان إبراهيم لقال لأولئك الضيوف: كيف أصدقكم وقد هجم علي المشيب، ووهنت عظامي واضمحلت قوتي.ولكن إبراهيم يقول : إذا كان الخبر من البشر فأرى فحصه واجبًا، وأما إذا كان الله تعالى فإني أصدقه بالرغم مما أصابني من وهن وضعف.عند من قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ) قَالُوا إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ۵۹ شرح الكلمات : خطبكم الخطب الشأنُ؛ الأمرُ صغر أو عظم، ومنه: هذا خطب يسير وخطب جليل.وقيل: الخطب اسمٌ للأمر المكروه دون المحبوب؛ وقيل: هو المكروه والمحبوب جميعًا (الأقرب).التفسير : عندما تبين لإبراهيم أنهم لم يجدوا في ضيافته أي تقصير كما لم يأتوا له بأي خبر مخيف..أدرك من فوره أنهم جاءوه بهدف آخر، إذ لو كان قصدهم زف البشرى إليه فحسب لما أصابهم هذا الذعر والحزن؛ فلا شك أنهم يحملون خبرًا آخر أكثر خطورة، ولا يمكن أن يكون خبرا سارا وإلا لما عافوا الطعام.ولذلك سألهم ما خطبكم أيها المرسلون ؟ أراكم مذعورين قلقين؛ وهذا يعني أنكم لم تأتوا لتبشروني بالمولود فقط، إنما وراءكم أمر آخر أكثر خطورة.
الجزء الرابع ۱۳۹ سورة الحجر إن هذا الاستدلال من إبراهيم العلم أيضًا يدل بكل وضوح على أنه كان يعتبر الضيوف بشرًا، ومن أجل ذلك نجده لا يطمئن رغم تلقيه بشارة الابن على لسانهم، بل يستنتج من امتناعهم عن الأكل أنهم قد جاءوا بخبر محزن.فلو أن إبراهيم اعتبرهم ملائكة بسبب البشرى التي زفّوها إليه لما اندهش على امتناعهم عن الأكل ولما سألهم: فما خطبكم أيها المرسلون..أي ما هو هدفهم الحقيقي إذن؟ ذلك أن إبراهيم لم ينتبه إلى أن وراءهم أمرا خطيرًا آخر إلا بشيء واحد هـو امتناعهم عن تناول الطعام رغم كونهم بشرًا.فقال لهم: أراكم محزونين ولأجل ذلك لا تأكلون فأجابوه قائلين: الأمر هكذا، فإننا قد أُرسلنا بخبر نزول العذاب على قوم مجرمين.إلَّا وَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُتَجُوهُمْ أَجْمَعِينَ (3) التفسير : هنا حددوا لإبراهيم الشعب المقدر هلاكه، مؤكدين لـــه نجاة عائلة لوط كيلا يحزن إبراهيم عليهم.وأما قولهم إنا لمنجوهم فهو عندي إشارة إلى أن الله تعالى أرسلهم لكي يأخذوا لوطًا إلى مكان محفوظ.ويتبين من قولهم أجمعين أن من نجا مع لوط اللي كانوا جماعةً في نظر القرآن الكريم، ولكن التوراة تزعم أنه لم ينج معه إلا بنتان له فقط (تكوين ١٩: ٣٠).إِلَّا امْرَأَتَهُ، قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَبِرِينَ (٢) شرح الكلمات: قدرنا : التقدير تبيين كمية الشيء.وتقديرُ الله : الحكم منه أن يكون كذا أو لا يكون كذا.والتقدير من الإنسان: التفكر في الأمر بحسب نظر العقل وبناء الأمر عليه (المفردات).
الجزء الرابع ١٤٠ سورة الحجر الغابرين الغابر الباقي، وجمعُه الغُبَّرُ ،والغابرون، ومنه: فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين..أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا (الأقرب).التفسير: لما كانت زوجة سيدنا لوط تخلفت ولم تخرج.معه فما استطاع أن يخلصها من الهلاك.الله وبما أن كلمة قَدَّرْنا تعني أيضًا "حكمنا وقرَّرنا" لذلك يستنتج البعض منها أن الضيوف كانوا ملائكةً لأنها هي التي يحق لها أن تقول "قررنا".ولكن هذا الاستنتاج ليس بصحيح، إذ لا يحق للملائكة أيضًا أن يقولوا قَرَّرْنا وحكمنا بذلك، لأن الحكم والقدر بيد وحده، لا بيد الملائكة.فالحق أن قولهم قَدَّرْنا جاء هنا بمعنى التخمين والتقدير.ويبدو أن الله أخبر هؤلاء الضيوف أو بعضهم عن نجاة آل لوط بواسطة الإلهام أو الرؤيا، ولكن لم ينكشف لصاحب الرؤيا مصير زوجة لوط انكشافًا واضحا، غير أنه فهم منها أن زوجة لوط أيضًا من الهالكين، ولذلك لم يؤكد هؤلاء على هلاكها وإنما اكتفوا بقولهم بأنها بحسب تقديرنا لن تنجو من العذاب وقد قالوا ذلك تعظيما لله وعل، أو تخفيفا من وطأة الصدمة التي ستصيب إبراهيم العل.ولم يكن قولهم هذا كذبًا منهم، فإن الله تعالى يلغى أنباء العذاب أحيانًا.فمن المحتمل أن يكون هؤلاء قد فكروا لعل الله تعالى سينجي زوجة لوط لدعائه وابتهاله، فلم يجزموا بعذابها.هذا، وفي موضع آخر من القرآن الكريم قد نسب الله تعالى فعل التقدير هذا إلى نفسه صراحةً حيث قال: قَدَّرْناها من الغابرين) (النمل: ٥٨).فلا يمكن إذن لهؤلاء الضيوف – سواء كانوا بشرًا أو ملائكة - أن يقولوا: نحن حَكَمْنا وقررنا بعذابها.فالحق أن فعل التقدير - كما تؤكد القواميس - إذا كان من عند الله تعالى فيعني الحكم والتقرير بأمر من الأمور، وإذا كان من البشر فيعني التكهن والتخمين، وهذا هو المراد في هذه الآية.هذا، ونجد اختلافا بين التوراة والقرآن الكريم في صدد سرد هذا الحادث
الجزء الرابع ١٤١ سورة الحجر حيث ورد في التوراة: "ولما طلع الفجر كان الملكان يعجلان لوطًا قائلين: قُمْ خُذْ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة.ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبــيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة." (تكوين ١٩: ١٥ و ١٦) ولكن القرآن الكريم يبين أن الله تعالى كان قد أخبر لوطًا من قبل أن زوجته لن تخرج معه، بل تكون من الغابرين حيث قال: إنا منجُوكَ وأهلك إلا امْرَأَتَك كانت من الغابرين (العنكبوت (٣٤).وكل عاقل سيدرك بمنتهى السهولة أي من هذين البيانين أقرب إلى الصواب ما دام الله الله يعلم أن زوجة لوط هالكة لا محالة فما الداعي أن تُخرجها الملائكة من المدينة المقدر تدميرها؟ ولماذا تُخرج الملائكة القوم الذين تعلم أن الله و قد قرّر هلاكهم؟ لو كان أحد سوى الملائكة أخرج هذه المرأة لعُدَّ معذورًا، ولكن ما دامت الملائكة هي التي أتت بخبر هلاك هذه المرأة من عند الله فكيف ساغ للملائكة أن تخرج هذه المرأة من المدينة.فثبت أن بيان القرآن الكريم هو الحق والصواب، لا بيان التوراة.) ٦٣ فَلَمَّا جَاءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ - قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنكَرُونَ ) شرح الكلمات: منگرون أنكَرَه جهله.وأنكر حقه جحده وأنكر عليه فعله: عابه ونهاه.والمنكر: ما ليس فيه رضى الله من قول أو فعل، والمعروف ضده (الأقرب).إذن فمن معاني قوله: إنكم قومٌ (منكرون أنكم أجانب وغرباء عن هذه المنطقة.التفسير: لقد أكد القرآن الكريم بقوله المرسلون ثانيةً على كون هؤلاء الضيوف بشراً.ولكن حال التوراة عجيب حيث تصفهم مرة رجالاً، وتارةً تقول أنهم ملائكة (انظر تكوين ١٨ ٢ - ١٦ و ١٩: ١-٣)، ومع ذلك تزعم أن سيدنا لوطا قدّم لهؤلاء الملائكة خبزًا فطيرًا فأكلوه المرجع السابق ١٩: ٣).أليست
الجزء الرابع ١٤٢ سورة الحجر هذه الخرافات دليلاً قاطعًا على أن أهل التوراة قد دسّوا فيها كل رطب ويابس.قَالُوا بَلْ جِعْنَكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (٤) شرح الكلمات يمترون: امْتَرَى في الشيء: شك فيه (الأقرب).التفسير: لما قال لهم لوط ال: يبدو أنكم مسافرون قد جئتم من منطقة غريبة، ردّوا عليه لسنا ،مسافرين بل جئناك لأمر خطير وهو أن نخبرك بموعد العذاب الذي يشك فيه قومك.وقولهم بما كانوا فيه يمترون دليل على أن لوطًا ال كان قد أنذر قومه بالعذاب من قبل، ولكنه لم يعرف بعد موعد نزوله ولذلك نجد هؤلاء الرسل يقولون له: إن العذاب الذي يشكون فيه لموشك، فاخرج معنا الآن من القرية.وَأَتَيْنَكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَدِقُونَ ) شرح الكلمات : الحق حقه حقًّا غَلَبَه على الحق.وحَقَّ الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين منه.حق الخبر: وقف على حقيقته.والحقُّ: ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضى؛ العدلُ؛ الملك؛ الموجود الثابت؛ اليقين بعد الشك؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب) التفسير: لقد سبق أن هؤلاء الضيوف لما أتوا إبراهيم العلة سألهم فبم تبشرون ، فلذلك فكروا أن لوطًا أيضا سيوجه إليهم نفس الأسئلة، فأخبروه بدون أي سؤال من قبله وأتيناك بالحق وإنا لصادقون..أي لقد جئناك بخبر مبني على وحى الله تعالى، فلا تشك فيما نقول لأننا صادقون في دعوانا.
الجزء الرابع ١٤٣ سورة الحجر فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعِ مِنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَرَهُمْ وَلَا يَلْتَسِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَأمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (2) شرح الكلمات: ٦٦ أسر بأهلك: سَرَى الرجلُ: سارَ عامةَ الليل.وأَسْرَى الرجلُ: مِثلُ سَرَى.وقيل: "أسرى" لأول الليل و"سرى" لآخر الليل وأسرى به: سيره بالليل أي سيره ليلاً (الأقرب).بقطع من الليل : القِطْعُ ظلمةُ آخر الليل؛ وقيل: القطعة منه؛ وقيل: من أوله إلى ثلثه (الأقرب).التفسير : الإسراء يعني الخروج في أي وقت من الليل، غير أن الأقرب إلى القياس أن الرسل أشاروا على لوط العلم بالخروج في آخر الليل، وتدعم ذلك كلمة مصبحين الواردة في الآية التالية.وإذا كان هذا هو المراد فكلمة بقطع من الليل تكون شرحًا لآخر الليل.و كانت الحكمة في اختيار هذا الموعد هي ألا يستطيع العدو مطاردتهم.ذلك أن العذاب كان سيحل على القوم بعد رحيل قافلة المؤمنين من القرية في آخر الليل مباشرة، فما كان بإمكان أهل القرية، وقد حلّ بهم العذاب، مطاردة القافلة المؤمنة وإن علموا بهروبها.وأما قوله تعالى للوط واتَّبع أدبارهم فهو دليل على عظيم رحمة الله.ذلك أن الحماية الحقيقية من العذاب إنما تكون للنبي فقط، فما كان العذاب لينزل بالقرية ما لم يصل سيدنا لوط إلى مأمنه، لذلك نصحه الرسل أن يكون وراء القافلة المؤمنة حتى يضمن نجاة كل فرد منها.
الجزء الرابع ١٤٤ سورة الحجر هذه الآية تشكل دليلاً قاطعًا على إيمان بضعة أفراد من أهل القرية بلوط ال، وإن كان عددهم ضئيلاً جدًّا.تزعم التوراة أنه لم يخرج من القرية إلا مع الا بنتين لــه فقط لا غير (تكوين ١٩: (١٦) ، ولكن القرآن الكريم يخبرنا أنه قيل للوط واتَّبع أدبارهم ، والواضح أن ضمير (هم) يُستخدم لثلاثة أو أكثر من الرجال، أو لمجموعة من الذكور والإناث، إذ من عادة العرب أنهم في حالة وجود الجنسين في مجموعة يكتفون باستخدام ضمير المذكر للجنسين (انظُرْ سورة النور الآية (١٣).فلو لم يكن أحد من رجال القرية قد آمن بلوط ولم يخرج معه إلا بنتان له للزم أن يقال: (أدبارهما)، أو إذا كانت مع بنتى لوط نسوة أُخر لقيل: (أدبارهن)، ولكن يستحيل أن يقال من أجل بنتيه: (وَاتَّبع أدبارهم؛ مما يؤكد بشكل حاسم أن القافلة المؤمنة المهاجرة من القرية كانت تتضمن رجالاً مؤمنين إلى جانب لوط وبنتيه، ولهذه المجموعة من الذكور والإناث استخدم القرآن الكريم ضمير المذكر (هم).عنه من بل ورد في التوراة نفسها في موضع آخر ما يؤيد موقف القرآن الكريم، حيث تقول إن الرسل لما انصرفوا عن إبراهيم تقدم إلى الرب قائلاً: أتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة؟ أفتُهلك المكان ولا تصفَحُ - أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ فقال الرب إن وجدتُ خمسين بارا في القرية إني أصفح عنها كلها من أجلهم.ولم يزل إبراهيم ينقص العدد متوسلاً إلى ربه من أجل نجاة القرية حتى قال: عسى أن يوجد فيها عشرة من الأبرار؟ فقال الله عل: لن أهلكها من أجل العشرة أيضًا.وعندها لزم إبراهيم الصمت حيث أدرك أنه لا يوجد فيها حتى عشرة من الصلحاء (تكوين ۱۸ : ۲۲ - ۳۲).وهذا يوضح أن إبراهيم العلم كان على علم بإيمان بعض أهل القرية؛ إذ كان يعيش على مسافة غير بعيدة من قرية قوم لوط، ولا جرم أن أخبارها كانت تصله من حين لآخر؛ فكيف يمكن أن يبتهل هكذا إلى ربه لنجاة القرية لو كان يعلم أنه لا يوجد فيها ولا مؤمن واحد.فثبت أنه كان يعلم بالتأكيد أن في القرية
الجزء الرابع ١٤٥ سورة الحجر بعض المؤمنين وأن عددهم قليل جدا، ولأجل ذلك توسل إلى الله تعالى في البداية من أجل الخمسين، ثم ظل ينقص العدد حتى ترك الدعاء عندما بلغ عدد العشرة.وهذا يعني أن المؤمنين بلوط العلم كانوا أقل من العشرة.ولما كان ضمير (هم) يُستخدم لثلاثة وأكثر فيبدو أن عددهم كان يتراوح ما بين الثلاثة ودون العشرة.وأما قوله تعالى ولا يلتفت منكم أحدٌ فليس نهيًا عن الالتفات الظاهري، بل المراد ألا يكترثوا بالكفار ولْيَدَعوهم يهلكوا بالعذاب.وأما قول التوراة عن امرأة لوط بأنها "نظرت من ورائه فصارت عمودَ ملح" (تكوين ١٩: ٢٦)..فلا أعلق عليه بل أتركه لعقول اليهود والنصارى لتحكم فيه كيفما تشاء.إلا أنني أود أن أوضح هنا أن القرآن الكريم يعلن أن زوجة لوط لم تغادر القرية معه أصلاً، بل كانت من الغابرين وإن براءة القرآن الكريم من مثل هذه الخرافات الواردة في التوراة وحُلُوَّه منها يشكل برهانا ساطعا على أنه كلام الله حقا.ا.أليس غريبا أن التوراة التي هي أقرب زمنا من القرآن إلى هذا الحادث تسجله بهذا الأسلوب الخرافي، بينما نجد بيان القرآن الكريم خاليا من هذه الخرافة؟ وأما قوله تعالى وَامْضُوا حيث تُؤمَرُون فأيضًا يؤيد ما قلت من قبل من أن هؤلاء الضيوف الرسل كانوا من البشر الذين أخبرهم الله وعل بالإلهام باقتراب موعد العذاب، وأرسلهم إلى سيدنا لوط ليدلوه على المكان الذي يهاجر إليه بعد مغادرة القرية.فيبدو أنهم بعد أن وصفوا للوط اللي معالم المنطقة التي سيهاجر إليها تركوه في بيته ليستقبلوه هناك في مهجره الذي قدره الله له.
الجزء الرابع ١٤٦ سورة الحجر وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقطوع مُّصْبِحِينَ ! ٦٧ ) شرح الكلمات: قضينا: قضى بين الخصمين حكم وفصل وقضى الشيء قضاء: صنعه بإحكام وقدره.قضى الأمر عليه ختمه وأوجبه وأَلْزَمَه به وقضى الشيء: أعلمه وبينه.وقضى لك الأمر: أي حَكَمَ لك به (الأقرب).دابر الدابر التابع آخرُ كل شيء، يقال قطع الله دابرهم أي آخرَ مَن تبقى منهم؛ الأصلُ (الأقرب).فالدابر يعنى أحيانًا كبار القوم لأنهم يكونون كالأصل للآخرين، وتارةً يراد به القوم كلهم والمراد منه هنا سائر القوم إذ يخبر الله هنا بنجاة آل لوط فقط.التفسير: قد تكون الآية الماضية من مقولة الله وعلى وليست من قول الرسل، وأما هذه فهي بالتأكيد من كلام الله تعالى أنزله على لوط تصديقا منه ل بأنه هو الذي أرسل إليه الضيوف، وأن العذاب نازل حتمًا الليلة قبيل الصباح.وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ )) شرح الكلمات : المدينة : مَدَنَ بالمكان أقام به والمدينة: المصر الجامع؛ وقيل: الحصنُ يُبنى في أُصْطُمّةِ الأرض (الأقرب)..أي الحصن الذي يبنى في أرض خلاء وينفع كمركز القوم.التفسير : لقد سمى القرآن قرية قوم لوط ال بالمدينة، مما يعني أنها كانت تتمتع بمكانة خاصة، وبالفعل يتضح من التوراة أن تلك القرية كانت تعتبر مركزا لعدة
الجزء الرابع ١٤٧ سورة الحجر قرى (تکوین ۱۹: ۱۸-۳۱).أما قوله تعالى يستبشرون فيعني أن أهل المدينة فرحوا بأنهم وجدوا في حضور الضيوف الأجانب فرصة لإدانة لوط.وليس المراد أبدًا أنهم فرحوا لارتكاب الفاحشة مع الضيوف، كما ظن بعض المفسرين حيث قالوا أن عدد الرجال في القرية كان قليلا، ففرحوا بسماع خبر الضيوف طمعا في ارتكاب الفاحشة معهم (تفسير البغوي).قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَضَحُون وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا 79 تخرون الكلمات: شرح لا تَفضحون فَضَحَه : كشَف مَساوئه، وفي الدعاء: "لا تَفضَحْنا بين خلقك"..أي استر عيوبنا ولا تكشفها عنا (الأقرب).لا تخزون: أخزاه إخزاء: أوقعه في الخزي أو الخزاية وأهانه (الأقرب).التفسير : كان أهل المدينة قد نهوا سيدنا لوطا الا عن استضافة الغرباء، فلما جاءوه أدرك أنهم سوف يلومونه على إحضار الضيوف.فأخذهم ناحية وتوسل إليهم قائلاً : نعم لقد أحضرتُ الضيوف، ولكن بالله عليكم لا تحرجوني أمامهم، ولا تهينوني؛ فالضيافة عمل ،حسن فلا تعترضوا على بسببها.قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَلَمِينَ )) ۷۱ التفسير: كان هناك نزاع بين سكان تلك القرية وبين القرى المجاورة، فكان قوم لوط حذرين من الغرباء مخافة أن يتآمروا مع العدو، فيفاجئوهم على حين غفلة منهم انظُر) تكوين ١٤ : ١ - ١)، ولذلك كانوا ينهون سيدنا لوطًا عن
الجزء الرابع ١٤٨ سورة الحجر إحضار الأجانب.ولكن تلك المنطقة كانت بؤرة للشر والفساد، فلذلك كان لوط ال يستضيف في بيته المسافرين الأجانب خشية أن ينهبهم القوم إذا ما باتوا في الخارج.ولما جاء لوط بالضيوف هذه المرة قرر أهل القرية معاقبته، فرحين بأنه قد وقع الآن في قبضتهم وأن الفرصة مواتية لطرده من القرية ولحل القضية نهائيا.وكانوا من قبل مترددين في طرده لزواج اثنتين من بناته بينهم، وبالتالي كانت القرية وطنًا له أيضًا، فما كانوا ليطردوه منها من دون حجة.يتضح من هذه الآية أيضًا أن قوم لوط ل لم يأتوه طمعا في ارتكاب الفاحشة مع هؤلاء الأجانب.لو كانوا يرتكبون الفواحش مع الأجانب لما قالوا له أولم ننهك عن إحضار الغرباء، بل كان لا بد أن يفرحوا على إحضاره إياهم.وليس من المعقول الظن أنهم ما ارتكبوا الفاحشة مع الضيوف من قبل، وإنما اكتفوا بنهي لوط الا عن إحضارهم، أما هذه المرة فصمموا على ارتكاب الفاحشة معهم! الواقع أن الزعم أن قوم لوط كانوا يريدون فعل الفاحشة مع ضيوفه زعم مناف للعقل تماما، وقد نقله بعض المفسرين عن التوراة التي ورد فيها أن أهل المدينة کانوا ينوون فعل الفاحشة مع هؤلاء الملائكة تكوين ١٩: ٥ و٦).والحق أن التوراة مليئة بكثير من الرطب واليابس من هذا القبيل، كما يوجد فيها تناقضات عديدة، لذا من الخطورة بمكان الاعتماد على ما ورد في التوراة ما لم يدعمه القرآن الكريم أو التاريخ الصحيح أو المنطق السليم.قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِيَ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ) = التفسير: يعتبر البعض هذه الآية دليلاً على صدق الزعم المذكور أعلاه، ولكن استدلالهم هذا أفحش من زعمهم أيضًا؛ حيث يزعمون، من جهة، أن أهل القرية لما كانوا مغرمين بفعل الفاحشة مع الذكور سارعوا إلى لوط طامعين في
الجزء الرابع ١٤٩ سورة الحجر ضيوفه الرجال، ويقولون من جهة أخرى إن سيدنا لوطا عرض عليهم بنتين له ليشبعوا منهما رغبتهم الجنسية بدلاً من التعرض لضيوفه! لو كان القوم تواقين إلى الإناث فكانت في بيوتهم نساؤهم، وأما إذا كانوا قد جاءوا إلى لوط طمعًا في ضيوفه الذكور فقط فلا معنى لقوله لهم هؤلاء بناتي، فافعلوا بهن ما شئتم! هل يمكن أن تخرج مثل هذه الكلمة من فم إنسان سليم العقل يا ترى؟ كلا، من المستحيل أن يُنسب هذا المعنى - حتى من قبل الكافر – إلى إنسان معقول، بَلْه أن ينسبه أحد إلى نبي من أنبياء الله تعالى.لیست ثم كيف يُتوقع من نبي الله لوط ال أن يأمر القوم بارتكاب فاحشة هي بأقل شناعة وبشاعة من الأولى؟ هل من عاقل يصدّق بأنه في الوقت الذي كان العذاب على وشك أن يحل بالقوم بسبب ارتكابهم الفواحش..يشير عليهم نبي الله لوط بارتكاب فاحشة أخرى، من دون أن يتذكر أنه لم يجلب عليهم العذابَ من قبل إلا وقوعهم في مثل هذه المعاصي؟ إن ما يعنيه سيدنا لوط اللي بقوله هذا هو أنكم إذا كنتم تخافون أنني أتيتُ بالأجانب للتآمر مع أعدائكم فلا داعي لمثل هذا الخوف، لأن بناتي المتزوجات بينكم يشكلن ضمانًا يجب أن يُطَمئنكم، إذ تستطيعون بكل سهولة أن تعاقبوهن مني لو هربت من عندكم بعد الغدر وإلحاق الضرر بكم.كيف تتصورون أنه يمكنني أن أقوم بأي نشاط من شأنه أن يُلحق بكم ضررًا؟ فإذا كنتم مصممين على فعل شيء في كل حال فاعملوا باقتراحي فهو أفضل من خطتكم، وهي تضعوا بناتي هؤلاء تحت الرقابة، فإذا رأيتم مني ضررًا بكم وغدرا، عاقبتموهن وهكذا ستنحل المشكلة تلقائيا مني، من دون أن ترتكبوا إثم إهانة الضيوف بطردهم من قريتكم (راجع) للمزيد تفسير الآية رقم ٧٩ من سورة هود).ولو قيل: كيف يمكن لنبي من أنبياء الله تعالى أن يعرض بناته للأذى والتعذيب على يد القوم؟ فالجواب أن سيدنا لوطا إنما قصد بقوله هذا تهدئة ثورة القوم انتقاماً انتقاماً أن
الجزء الرابع ١٥٠ سورة الحجر فحسب، إذ ما كان له أن يغدر بهم حتى تتعرض بناته لاضطهادهم.ويرى بعض المفسرين أن لوطا الله يعني بقوله بناتي نساء قومه، لأنه كان نبيا وكبير السن فاعتبر نساء قومه بنات له، والمراد : اذهبوا إلى زوجاتكم وأشبعوا منهن رغباتكم إن كنتم فاعلين.(تفسير الرازي) وبالرغم من أن هذا المعنى أفضل من الزعم المذكور أعلاه، إلا أن فيه أيضًا إيماءة إلى أن القوم كانوا يريدون الفاحشة مع الضيوف، وقد برهنت آنفًا أن هذه الفكرة لا يدعمها القرآن الكريم ولا العقل السليم.فبالرغم من كون هذا المعنى أفضل نسبيًّا إلا أنه لا يبين تمامًا ما أراده القرآن الكريم.لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَهُمْ يَعْمَهُونَ ) شرح الكلمات ۷۳ لَعَمْرُك : العَمْرُ: الحياة؛ وقيل: العمر دون البقاء لأنه اسم لمدة عمارة البدن بالحياة والبقاء ضد الفناء ولهذا يوصف البارئ بالبقاء وقلما يوصف بالعمر.والعَمْرُ أيضًا الدِّينُ، ومنه "لَعَمْري" في القَسَم..أي لديني (الأقرب).فقوله تعالى لَعَمْرُك) يعنى أقسم بحياتك أو بدينك.التفسير: قال البعض إن الحلف بحياة أحد سوى الله غير جائز، فكيف حلف الله وعمل هنا بحياة نبيه؟ (القرطبي).والجواب : لاشك أنه لا يجوز للبشر أن يحلفوا بشيء سوى الله تعالى، ولكن الحالف هنا هو الله ،، ولا بأس في أن يحلف الله بحياة أحد من مخلوقاته فإنه تعالى قد حلف في القرآن بالليل والنهار والصبح والضحى والرياح أيضا.والحق أنه شتان بين حلف العباد وبين حلف الله تعالى، لأن البشر إنما يقصدون بالحلف تعظيم الشيء الذي يحلفون به، وأما الله تعالى فإن حلفه بشيء يعني أنه يقدّمه شهادةً على صدق ما يعلن، لأن مثل هذا الحلف نوع من أنواع الشهادة التي لا يمكن أن يقدّمها إلا الله، فإنه وحده يملك القدرة
الجزء الرابع سورة الحجر والحكم على كل شيء في الكون، ولكن أنَّى للإنسان المسكين أن يملك هذا التصرف والحكم.وإذا فلا بأس مطلقا في حلف الله بشيء من مخلوقاته.وهناك مسألة أخرى يجب حلها من الذي حلف الله الا الله بحياته هنا؟ أهو لوط العليا أم نبينا محمد ؟ قال بعض المفسرين إن المراد هو سيدنا لوط، وقد حلفت الملائكة بحياته (الكشاف).وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه نبينا حيث قال: ما سمعتُ الله أقسم بحياة أحد غير نبيه ابن كثير).وعندي أن كلمات القرآن الكريم تؤيد رأي ابن عباس رضي الله عنهما، لأننا لدى قبول الرأي الأول نضطر لتقدير محذوف هو "قالوا"، والمعروف أننا نلجأ إلى تقدير المحذوف حين يدل عليه السياق وحين يستحيل تفسير الكلام بمعنى خر؛ ولكن الأمر هنا ليس كذلك، إذ الخطاب هنا موجه إلى النبي ﷺ بشكل قاطع بحيث لا يمكن الاعتراض عليه لا لفظا ولا معنى.وقد حلف الله هنا بحياة نبيه الكريم..أو بتعبير آخر قدّم أحداث حياته المباركة..شهادةً على صدق ما حدث مع لوط العلبة.آخ الحق أن الله قد أشار في قول لوط هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين إلى مشابهة كانت بين لوط ونبينا محمد عليهما السلام ذلك أنه كما كانت بنات لوط متزوجات بين قومه..كذلك كانت ثلاث من بنات النبي متزوجات من الكفار، وكنّ هدفًا لاضطهادهم نتيجة دعواه ل السيرة النبوية لابن هشام: سعي قريش في تطليق بنات الرسول الله من أزواجهن.وبما أن قصة لوط كانت تمثل صدمة لقلب النبي بطبيعة الحال حيث كانت مثارا لشجونه الشخصية أيضًا..فأراد الله تعالى أن يخفف من وطأة الصدمة عنه شفقةً عليه وتعبيرا عن الالالالالة عظيم حبه له، فوجه الخطاب إلى النبي ا ل قائلا : العَمْرُكَ إنهم لَفِي سَكْرهم يَعمهون..وكأنه تعالى يقول: يا أحب الخلق إلي، لا تحزن فإننا على علم بمصابك الجلل.ذلك أن أعداء لوط ال - رغم وقوعهم في المساوئ لهذه الدرجة - لم يؤذوه من خلال بناته حيث يخبرنا القرآن الكريم أنه عندما قدم بناته
الجزء الرابع ١٥٢ سورة الحجر ضمانًا أو كرهائن عندهم ينتقمون منهن إذا رأوا منه غدرًا أجابوه: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) (هود) (۸۰).أي أنك تعلم أنه لا يحق لنا أن ننتقم من بناتك.أنت الذي تعرضنا للخطر، فكيف يمكن أن نعاقبهم عوضا عنك؟ هذا محال.وأما أعداء النبي الله الله فقد بلغ بهم السوء درجة أنهم آذوه وانتقموا منه من خلال بناته المتزوجات بينهم، حيث ورد في كتب السيرة: كان عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب تزوجا رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله ، فلما أعلن دعواه قال أبو لهب لابنيه: حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد السيرة لابن هشام، وأسد الغابة: تحت كلمة أم كلثوم والإصابة في تمييز الصحابة.وأما زينب بنت رسول الله ﷺ فكانت متزوجة من أبي العاص وكان سبب موتها أنها خرجت من مكة إلى المدينة لتلحق برسول الله ، وكانت حاملاً، فلم يزل الظالمون يضربون مطيتها وينفرونها حتى سقطت من ظهرها فأجهضت فلم يزل بها مرضها هذا حتى توفيت بسببه الاستيعاب في معرفة الأصحاب كتاب النساء، باب الزاي).فالله تعالى يواسي هنا حبيبه الا الله قائلاً: إن قومك أسوأ من قوم لوط، حيث لم يتحلوا بالمروءة مثل ،قومه بل قد آذوك في بناتك وسوف يؤذونك بسببهن في المستقبل أيضًا - مع العلم أن هذه السورة مكية وحادث السيدة زينب – رضي الله عنها - وقع بعد الهجرة – ونحلف بحياتك أنهم في غوايتهم يعمهون، ونقدم حياتك شهادة على غوايتهم هذه..بمعنى أنك لم تؤذهم أبدا حتى يثوروا عليك، بل لم ترد لهم إلا الخير والنصح دائمًا، مما يشكل برهانا ساطعا على أن العداوة قد أعمتهم، وأنهم محرومون كلية من خشية الله وتقواه.فما دمنا قد عاقبنا قوم لوط على جريمتهم، أفلا نعاقب هؤلاء الأشقياء وجرائمهم أبشع وأفظع؟ وعلاقة هذه الآية بموضوع السورة تتمثل في أن الله قد قال لرسوله هنا: لقد بلغ اللؤم بالكفار درجة أنهم يلجأون إلى هذه المكائد السخيفة للتشكيك فيما نزل عليك من الوحي، وكأن اضطهادهم لبناتك دليل - في زعمهم - على كذبك؛ ولكن الأمور تُعرف بخواتيمها ، ولسوف نستأصل شأفتهم في يوم من الأيام حماية
الجزء الرابع ١٥٣ سورة الحجر لوحينا وحفاظًا على شرفه، وسوف ننتقم منهم توطيدا لكرامتك.اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلّم إنك حميد مجيد.فدتك نفسي وروحي محمد.قد أُذويت كثيرًا في سبيل إعلاء كلمة الله.رفع الله شأنك، وأحيا ذكرك إلى أبد الآباد! فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ شرح الكلمات: الصيحة: العذابُ؛ الغارةُ إذا فوجئ الحي بها (الأقرب).مُشرقين: أشرقت الشمس: طلعت أضاءت؛ وقيل: شرقت الشمس: طلعت، وأشرقت: أضاءت وصَفَا شعاعُها.وأشرقت الأرض: أنارت بإشراق الشمس.وأشرق الرجلُ : دخل في شروق الشمس (الأقرب).التفسير : لقد قيل من قبل مصبحين، وأما الآن فقيل: مشرقين، مما يوهم لأول وهلة أن هناك تعارضًا في الكلام، ولكن ليس ثمة تعارض، لأن الصبح يكون من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، كما يُطلق الصبح على أول النهار أيضًا؛ وبما أن العذاب حل بالقوم وقت الإشراق (انظر تكوين ١٩: ١٥ - ٢٣)، فلا بأس من استخدام كلتا الكلمتين: مصبحين ومشرقين.فَجَعَلْنَا عَلِيهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيل شرح الكلمات: Vo أَمطَرْنا : أمطرت السماء : مطَرتْ.وقيل: مطَرَ في الخير والرحمة، وأمْطَرَ في الشر والعذاب (الأقرب).سجيل: سجل به سَجِّلاً: رمى به من فوق.وسجل الماء: صبَّه.والسِّجِّيل: یا
الجزء الرابع 154 سورة الحجر جارة كالمَدَر ؛ قيل معرَّب (الأقرب).ولكن كما بينت من قبل- في تفسير سورة الرعد الآية ۱۹ كلمة "جهنم"، وتفسير سورة إبراهيم الآية ٣٦ كلمة " أنه من الخطأ القول عن الكلمات التي تُستخدم مادتها أو مشتقاتها في اللغة العربية أنها معربة.- التفسير: كما أن قوم لوط القلبوا الموازين حيث رضوا بالرذائل معرضين عن الأخلاق السامية..كذلك قلب الله مدينتهم رأسًا على عقب، وجعل عاليها سافلها، وكأنه قال: حسنًا، فلتكونوا من الأسفلين المنحطين للأبد.وقال البعض: كيف نزلت الحجارة مطرًا عليهم؟ والجواب أن الزلزال العنيف في بعض الأحيان يجعل قطعًا من الأرض تتطاير في الهواء، وهذا ما حدث معهم، حيث تطايرت الأحجار بزلزال عنيف مدمر ، ثم عادت وسقطت عليهم كالمطر.وقد يكون المعنى أن جدران بيوتهم سقطت عليهم كمطر من الأحجار.ويبدو أن القوم كانوا يبنون بيوتهم من الحجر والطين لأن السِّجِّيل يعنى حجرًا مخلوطا به الطين.إِنَّ فِي ذَالِكَ لَآيَاتِ لِلْمُتَوَسِّمِينَ شرح الكلمات : ٧٦ المتوسمين: تَوسَّمَ الشيءَ: تَخيَّلَه وتفرَّسَه طَلَبَ وَسْمَه أَي علامته؛ تَعرَّفه، يقال: توسمتُ فيه الخير أي تبينتُ فيه أثره (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى إن في هذا الحادث لآيات لأصحاب العقل والفراسة، حيث يمكن لهم أن يدركوا أن هناك تشابها بين حادث لوط العلي وما يحدث بمحمد ، وأن الله تعالى سوف يدمر أعداء نبيه كما دمر قوم لوط.لا شك أنه لم يقع هناك أي زلزال لجعل أعداء سيدنا محمد ﷺ عبرة وآية، بيد أنهم أمطروا الحجارة يوم بدر، حيث هبت ريح عاصف، وتطايرت الرمال
الجزء الرابع 100 سورة الحجر والحصى، ووقعت في أعين الكفار، فلم يستطيعوا إصابة الهدف بدقة أثناء القتال.(شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية باب غزوة بدر العظمى ودلائل النبوة للبيهقي: باب التقى الجمعان) كما أن الله تعالى جعل عالي مكة سافلها بشكل معنوي أيضًا، حيث جعل عِلْيَةَ أهلها أدانيها، وأصاغرَها أكابرها، وذلك حين أهلَكَ زعماءهم كأبي جهل وعتبة ة مع عائلاتهم، بينما أتى الحكم والملك المستضعفين كأبي بكر وعمر لنا مشهد وشيبة مع وغيرهما.ولقد وقع في عهد خلافة سيدنا عمر حادث عجيب يرسم جعلِ الأصاغر أكابر والعكس كذلك.ذات مرة كان عمر له في مكة في موسم الحج، فجاء عليه قريش لزيارته، وكان عنده بعض الصحابة الذين كانوا عبيدا في الماضى، فقربهم عمر في المجلس وأخر أكابر مكة هؤلاء.ولما خرجوا من عنده قال بعضهم لبعض: لم نر مثل اليوم قط، فإن عمر قد أهاننا.فقال أحدهم لزملائه: الذنب ذنبنا، ففي الوقت الذي كان آباؤنا لا يألون جهدا في معارضة كان هؤلاء القوم يبذلون له كل غال ورخيص.أفليسوا أولى وأحق منا بالتكريم اليوم؟ سيرة) عمر لابن الجوزي: الباب الثامن والثلاثون، في ذكر عدله في رعيته) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلِ مُقِيم ) شرح الكلمات: VV سبيل مقيم: أي طريق بين واضح.(التاج) التفسير: يقول الله تعالى إن هذه القرى المدمرة تقع بالقرب من الطريق الذي لم تندثر معالمه بعد، بل ما زالت تمر به قوافلكم التجارية أيها الكافرون، ومع ذلك لا تعتبرون بمصيرهم.وبالفعل تقع منطقة قوم لوط لي قريبا من الطريق المؤدي من الجزيرة العربية إلى الشام.
الجزء الرابع سورة الحجر إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) ۷۸ التفسير: لقد قال الله تعالى هنا آية للمؤمنين، بينما قال في الآية قبل الماضية لآيات للْمُتَوَسِّمِينَ ، لماذا هذا الفرق يا ترى؟ فليكن واضحاً أنه تعالى بين في الآية السابقة أن هناك تشابها بين حادثة لوط وبين ما يقع بمحمد ، والواضح أن إدراك هذا التشابه ليس بوسع كل إنسان، وإنما يتمكن من ذلك المتفرسون فقط، فلذلك قال هناك آيات للمتوسمين..أي فيه آيات لذوي الفراسة الثاقبة.وأما اتخاذ العبرة بالمرور بالقرب من قرية دمرها الله بعذابه فلا يتطلب من الإنسان ذكاءً غير عادي، بل خشية الله فقط، ولذلك قال الله الله هنا آية للمؤمنين..أي أن المؤمنين سيجدون في هذا آيةً.وَإِن كَانَ أَصْحَبُ الْأَيْكَةِ لَظَلِمِينَ الكلمات : شرح ۷۹ الأيكة: الأيك: الشجر الكثير الملتف؛ وقيل: الغيضةُ تُنبت السِّدْرَ والأراك ونحوهما، والواحد أيكة (الأقرب).التفسير: يبدو أنه كان على مقربة من "مدين" غابة كثيفة تكثر فيها أشجار السدر والأراك، ومن أجل هذا سمّى سكانها بأصحاب الأيكة؛ والأغلب أن هذا الاسم أُطلق عليهم من قبل العرب الذين كانت قوافلهم التجارية تمر بهذه الغابة، وقد استخدم القرآن نفس الاسم المعروف لدى العرب إتماما للحجة عليهم.والثابت من القرآن أن أصحاب الأيكة هم قوم شعيب العلم، قال الله كذب أصحاب الأيكة المرسلين) إِذْ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين (الشعراء: ۱۷۷ - ۱۷۹).وفي موضع آخر أخبر القرآن أن شعيبا أُرسل إلى قوم مدين إذ قال وإلى مَدينَ أخاهم شعيباً ) (هود: (٨٥).فهل يا تُرى كان ثمة
الجزء الرابع ١٥٧ سورة الحجر نبيان باسم شعيب، أم أن شعيبًا بُعث إلى الشعبين أصحاب الأيكة وأهل مدين؟ إن بحثى في هذا الصدد يكشف أنهما قبيلتان من نسل واحد.فمنهم من عاشوا على تجارة السلع المنتجة في المدن ومنهم من عاشوا على تجارة السلع القروية من لبن وزبد وصوف.وهذا الواقع يمكن أن يشاهد بكثرة في المدن الواقعة على مقربة من البراري والغابات.لكن هل كان بالفعل بالقرب من "مدين" غابة فيها السدر والأراك؟ هذا أمر لا يمكن الجزم به بناء على القياس، ولكن الجغرافيين قد أكدوا هذا الأمر؛ فقد كتب الشيخ سليمان الندوي - نقلا عن "المناجم الذهبية بمدين" للمستشرق برتن - أن أحد الجغرافيين اليونان يذكر أنه وراء خليج عيلانه (أي العقبة) الذي يقيم حوله العرب الأنباط يوجد بلد باسم بوتيمانوس (بنو تيمن)، أرضه واسعة مسطحة وذات مياه، وليس بها إلا الأعشاب أو الأشجار التي تبلغ قامة الإنسان، والتي تعيش عليها قطعان من الإبل الوحشية والظبي والأيل، كما تتغذى بها الحيوانات الداجنة من ماعز وضأن ولكن إلى جانب هذه النعم يوجد فيها الأسود والذئاب مما انقلبت به نعم أهل المنطقة نقما.(أرض القرآن ج ٢ ص ٢٣-.(٢٤ وهذا يعني أن "مدين" كانت تقع على رأس خليج العقبة، وكانت بالقرب منها غابة تتميز بالمواصفات التالية: ١- تكثر بها الأشجار التي تبلغ طول الإنسان، علما أن شجر السدر البري والأراك يبلغ هذا القدر من الطول.٢- بها قطعان من الإبل الوحشية، وهذا يؤكد وجود شجر السدر والأراك بها، لأن الإبل تعيش على أشجار كهذه ٣ بها قطعان من المواشي والضأن، مما أن أهل هذه المدينة كانوا يربون الحيوانات الداجنة التي كانت ترعى في هذه الغابة نفسها.وهذه المدينة - التي كانت تقع على رأس هذه الأيكة أي الغابة - سُمّيت باسم هذه القبيلة القاطنة بها.فكان هناك مدينة باسم مدين، كما كان هناك قبيلة بالاسم نفسه؛ وقد استخدم القرآن الكريم هذه الكلمة بكلا المعنيين، فقال مشيرًا - يعني
الجزء الرابع ١٥٨ سورة الحجر إلى قوم مدين وإلى مدين أخاهم شعيبا ) (هود: (٨٥)، وقال مشيرا إلى مكانهم وأصحاب مدين والمؤتفكات (التوبة: (۷۰)..أي ألم يأتهم خبر أهل مدين وخبرُ القرى التي جعل الله عاليها سافلها..أي قوم لوط؟ ومدين هؤلاء كانوا من نسل إبراهيم حيث ورد في التوراة: "وعاد إبراهيم فأخذ زوجةً اسمها قطورة.فولدت له زمْرانَ ويَقْشَانَ ومَدَانَ ومَدْيَانَ ويشـباق وشُوحًا.وولد يَقْشَانُ شَبا ودَدَانَ.وكان بنو ددانَ أَشُورِيمَ وَلَطُوشِيمَ ولَأُمِّيمَ.وبنو مديانَ عَيْفةً وعِفْرُ وحَنُوكُ وأَبيدَاعُ وأَلْدَعَةُ.جميعُ هؤلاء بنو قطورة (تكوين ٢٥: ١- ٤).يتضح من هذه العبارة أن مدين كان ابنا لإبراهيم من بطن زوجته قطورة.وبما أن التوراة لم تذكر إلا أولاد يقشان ومديان فيبدو أن الآخرين لم يُرزقوا ذرية أو أن ذريتهم لم يُكتب لهم الازدهار ، بل انصهروا في أولاد الآخرين.وأما يقشان فإن نسل ابنه ددان أيضا كثروا وصاروا قبيلة، ولكنهم عاشوا مع نسل مديان، حيث يرى صاحب "أرض "القرآن" أن أصحاب الأيكة هم من نسل ددان القاطنين مع بني مدين في منطقة الأيكة نفسها، وكأن الجميع كانوا قبيلة واحدة.أرض القرآن ج ۲ ص ۲۱ و ۱۷۷) وعندي فإن هذا الرأي ذو ثقل ومنطق شريطة أن نقول إن القبيلتين كانتا تعيشان كقبيلة واحدة حيث كانت عاداتهما وأساليب حياتهما ذات طابع واحد.كان الجميع يمارسون التجارة كما كانوا يرعون المواشي، لا أن إحدى القبيلتين كانت تمارس التجارة بينما كانت الأخرى تعيش في البادية على رعي الماشية وتربية الحيوانات الداجنة ، فهذا خلاف لبيان القرآن الكريم.على كل فإن أصحاب الأيكة كانوا في الواقع بني قطورة من نسل أبيهم إبراهيم.ويتضح من التوراة أن هؤلاء القوم انصهروا في بني إسماعيل في آخر المطاف، إذ ورد فيها في صدد قصة يوسف أن فوطيفار من مصر اشتراه من قافلة المديانيين، بينما ورد في موضع آخر من التوراة نفسها أنه اشتراه من قافلة
الجزء الرابع ۱۰۹ سورة الحجر الإسماعيليين (تكوين :٣٧: ٣٦ و ۳۹: ۱)، وهذا يؤكد أن بني مدين كانوا قد انصهروا في بني إسماعيل قبل زمن موسى ومن أجل ذلك كان القوم يُدعون مديانيين تارة وإسماعيليين تارة أخرى.وهذا الرأي يدعمه القرآن الكريم أيضًا حيث يدين أهل مدين بما يدين به أصحاب الأيكة أيضا، إذ نجد سيدنا شعيبا ينصح هؤلاء بقوله فَأَوفُوا الكَيلَ والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءَهم ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها (الأعراف: ٨٦).ونفـس هــذه النصيحة قد وجهها شعيب إلى أصحاب الأيكة أيضا فقال أوفُوا الكَيلَ ولا تكونوا مِن المُحْسِرين وزِنُوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناسَ أشياءَهم ولا تَعثُوا في الأرض مُفسدين) (الشعراء: ١٨٢ - ١٨٤).فتبين مـــن هذا أن أهل مدين وأصحاب الأيكة كانوا منغمسين في مساوئ متشابهة، وكانوا يعيشون أساسًا على التجارة التي كانوا يغشون فيها كثيرًا.أما لو ظننا أن بني مدين كانوا يسكنون في بلدتهم "مدين"، بينما كان بنو ددان يقيمون في البادية في أيكتهم..لاستلزم ذلك القول أن الأولين كانوا يمارسون التجارة، في حين كان أصحاب الأيكة يعيشون على تربية المواشى ولكن هذا الرأي مخالف لبيان القرآن الكريم الذي ينص أن أصحاب الأيكة أيضا كانوا يمارسون التجارة التي غشوا فيها الناس.فالحق أن الاسمين هما لشعب واحد ذي مدنية واحدة، وهم بنو قطورة.وقد أطلق عليهم هذان اللقبان لكونهما صفتين بارزتين فيهم.فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (3) شرح الكلمات : ۸۰ إمام مبين: الإمام: الطريقُ الواسع، وبه فُسّر قوله تعالى وإنهما لبإمام مبين أي بطريق يُوَمُّ أي يُقصَد.وقال الفراء: أي في طريق لهم يمرون عليها في أسفارهم، فجعل الطريق إمامًا لأنه يُتبع (التاج).
الجزء الرابع سورة الحجر التفسير : كان مسكن أصحاب الأيكة أو أصحاب مدين على مقربة من الطريق المؤدي إلى الشام ومصر، وكانت القوافل العربية تمر به.وقد وصف هذا الطريق بـ "المبين" إشارةً إلى كونه يُستخدم بكثرة، لأن الطرق التي يكثر فيها السير تكون واضحة المعالم.وقد تحدث الله ل هنا عن هؤلاء القوم ليضرب مثالاً آخر على أن الذين يقومون بـ"استراق السمع" يُهلكون في آخر الأمر ويبادون.هذا، وقد سبق أن وصف الله له موطن قوم لوط بقوله وإنها لبسبيل مقيم، بينما قال الآن في وصف مسكن أصحاب الأيكة: وإنهما ليإمام مبين؟ ذلك ليشير إلى أن الطريق المار بالقرب من قرى قوم لوط ال سوف يبقى مطروقًا عـلـى مـر الأيام، وأما الطريق الذي يمر بمسكن أصحاب الأيكة فسوف يصبح متروكا، غير أن معالمه سوف تظل محفوظة ملحوظة.والواقع أيضا يصدق هذا البيان القرآني.وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَبُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (3) شرح الكلمات : 시 الحجر: هو الحصن؛ ديار ثمود (الأقرب).والحجر والتحجير: أن يُجعَل حول المكان حجارة.وسُمّي ما أُحيط به الحجارة حجرا (المفردات).التفسير وليكن معلومًا أنه بداية من هذه الآية وحتى قوله ولو شاء لهداكم أجمعين في السورة التالية..قد ذكر الله الله معارف عظيمة وأنباء هامة جدًّا.كانت والحجر هو المكان أو الحصن أو المدينة التي تحاط بسور من الحجارة.وأصحاب الحجــر هـــم ثمود قوم صالح الي.وقد سُمّوا بهذا اللقب لأن مدينتهم محصنة بجدران متينة، وقد استخدمت الأحجار بكثرة في بنائها.
الجزء الرابع ١٦١ سورة الحجر ورُوي أن رسول الله ﷺ لما نزل الحجر في غزوة تبوك أَمَرَهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها (البخاري: الأنبياء باب قول الله تعالى: وإلى محمود أخاهم صالحا) لأن هذه القرية صارت مورداً لعذاب الله عل.مع هذا، ويقول الله تعالى هنا إن أهل الحجر كذبوا المرسلين، مع أنهم لم يكذبوا إلا صالحا ال؟! ولقد تكرر هذا التعبير الخاص في سورة الشعراء مرارا كقول الله تعالى كذبت قوم نوح المرسلين (الآية (١٠٦)، وقوله تعالى كذبت عاد المرسلين (الآية: ١٢٤)، وقوله كذبت تمودُ المرسلين (الآية: ١٤٢)، وقوله تعالى كذبت قومُ لوط المرسلين (الآية : ١٦١)..في حين لم يكذب أي من هؤلاء الشعوب إلا نبيهم الخاص الذي أرسل إليهم.ثم كيف يصح هذا التعبير عـــن قوم نوح خاصة الذين لم يُبعث قبلهم رسل كثيرون، إذ يقول نبينا : "نوح أول الرسل" (البخاري: التفسير، سورة نوح، باب قول الله : ولقد أرسلنا نوحا).فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا : لماذا أدائهم الله تعالى بتكذيب الرسل أجمعين أنهم لم يرفضوا إلا رسولهم فقط؟ لقد أجاب العلامة أبو حيان على هذا جوابًا لطيفا حيث قال: "لأن من كذب واحدا منهم فكأنما كذبهم جميعًا" (البحر المحيط، قوله تعالى: ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين).ذلك أن الإيمان إنما ينفع صاحبه إذا آمنَ عن روية ودراية، فالذي يصدق نبيا الأنبياء من عن وعي واقتناع سيصدق جميع الرسل حتما إذ لن يصعب عليه معرفة صدقهم، لأن مثله كمثل الذي إذا أكل الشمام أو المانجو مرة فإنه كلما رأى هذه الفواكه عرف على الفور أن هذا شمام وذلك مانجو.أما إذا رفض أحد نبي زمانه توصلنا إلى نتيجة أنه لو كان في زمن أي من الأنبياء الآخرين لكذبه حتما، لأن أحوال جميع الأنبياء تكون متماثلة.ورأي أبي حيان هذا من الصدق والروعة بمكان ، ويمثل دحضًا لأولئك الذين يزعمون أن لا بأس في أن تكذب أمة ما بأحد من الرسل ما دامت هي مؤمنةً
الجزء الرابع ١٦٢ سورة الحجر بالرسل السابقين، فإيمانها بهؤلاء الآخرين يكفي لنجاتها؟ كلا، بل الحق أن أصحاب هذا الزعم الباطل غافلون عن حقيقة الإيمان؛ ذلك أن إيمانهم بالرسل الذين خلوا من قبل إنما يكون إيمانًا تقليديًا فارغا من الوعي والإدراك، إذ لو كان إيمانهم مبنيا على وعي ودراية فكيف أمكن لهم أن يكذبوا بمن جاء متتبعًا خطوات الرسل السابقين، وفي ظروف مماثلة.فثبت أن إيمانهم لا يعدو أن يكون تقليدًا أعمى.وأي شك في أن تسمية مثل هذا الإيمان إيمانا ظلم عظيم.وَاتَيْنَهُمْ ءَايَتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (2) شرح الكلمات: ۸۲ معرضين هو من العَرْض الذي يعني الجانب، يقال: أعرض عني: ولى مبديًا عَرْضَه أي ناحيته (المفردات).التفسير : يقول الله تعالى : لقد أريناهم آياتنا، ولكنهم ولوا عنها مدبرين، فكيف يصح : إذن زعمهم أنهم قد آمنوا أو سيؤمنون برسلنا الآخرين برؤية آيات مماثلة؟ لقد سرد الله في الآيات السابقة أحداث ثلاثة من الأمم وبالترتيب التالي: قوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح عليهم السلام ولكن الترتيب الواقعي لعصور هذه الأمم هو الآتي: قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ فلم غير الله الترتيب الواقعي يا ترى؟ والجواب هو أن الغرض من سرد أحداث هذه الشعوب أمام المكيين هو تحذيرهم بأنهم يعرفون أحوال هؤلاء الرسل، وكيف أن معارضيهم الذين رفضوا الوحي الذي نزل عليهم أهلكوا بعد أن أمهلهم الله لفترة من الزمان ليكيدوا كيدًا؛ فلا تفرحوا أيها المكيون على إنكاركم لما نزل على محمد من الوحي، ولا تظنوا - مغترين بالمهلة التي نمنحكم - أنكم الغالبون ولن تعاقبوا على جرائمكم.كلا، سوف نعاقبكم عليها حتمًا في الموعد الملائم كما عاقبنا هؤلاء الأمم.
الجزء الرابع ١٦٣ سورة الحجر مكانًا.وقد وإقامة للحجة على أهل مكة كان هناك طريقان لسرد هذه الأحداث.فإما أن تذكر وفق بعد هذه الأمم عن أهل مكة زمانًا، أو وفق بعدهم عنهم اختار القرآن الطريق الثاني، فسرد أولاً أحوال قوم لوط الذين كانوا أبعد هؤلاء عن المكيين موطنًا.ثم قص أحداث قوم كانوا أقرب مسكنا من الأولين وهم قوم شعيب.وأخيرًا ذكر بما حصل لثمود وهم من سكان الجزيرة العربية، الأم أجداد وكأنه قال لأهل مكة : أليس في مصير هؤلاء ما يردعكم عن التكذيب؟ تتحدث هذه السورة عن أولئك الرسل الذين لم يكن في أممهم رواج كثير لفن الكتابة، والذين كان العرب يؤمنون بهم؛ فسيدنا آدم مشترك بين جميع الشعوب، وأما سيدنا لوط فكان من أقارب سيدنا إبراهيم، وبالتالي كان.العرب، وأما سيدنا شعيب فكان من بني مدين الذين كانوا أبناء عم بني إسماعيل، بل كانوا قد انصهروا بينهم؛ وأما ثمود قوم صالح فكانوا أيضًا من العرب الأصليين.(مروج الذهب للمسعودي الجزء الثاني، ذكر مكة وأخبارها) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا عَامِنِينَ شرح الكلمات: ۸۳ من ينحتون : نَحَتَ الحجر سواه وأصلحه، وفي القرآن وتنحتون من الجبال بيوتا..أي تتخذون.ونحت الجبل: حفره (الأقرب).بيوتا: البيوت مفرد البيت وهو المسكنُ، سواء كان من شَعْرِ أو مَدَرٍ؛ الشرفُ؛ الشريفُ (الأقرب).وقد سُمّي الشريف بيتًا لأن قومه يعيشون تحت ظله.وقد طالعت في أحد كتب التاريخ أبياتًا رائعة جميلة بهذا المعنى.فحينما توفي حضرة جنيد البغدادي رحمه الله قال أحد الصوفية المجذوبين من بغداد في رثائه حين نظر إلى جثمانه الطاهر:
الجزء الرابع سورة الحجر واأسـفـى مـن فـــراق قـــومِ هُمُ المصابيح والحصون والمدن والمزن والرواسي والخير والأمن والسكونُ لم تتغـــــــير لنــــا الليـ الليالي حتى توفـتهـم المنـونُ فكل حـمـر لنا قلوب وكل ماء لنا العيون تاريخ) بغداد للخطيب البغدادي ج ٧ ص ٢٤٩ لقد بين الشاعر هنا بغاية الروعة والجمال أن الأسياد في الروحانية هم بمنزلة الحصون والمدن والسحب والجبال للدنيا، وكأن أهلها يعيشون بسببهم هم.التفسير : تبيّن هذه الآية أن هؤلاء القوم كانوا يحفرون الجبال ويتخذون فيها بيوتنا لهم، وأنهم كانوا من القوة والمنعة بحيث لم يكن أحد يجترئ على محاربتهم.يبدو من ذلك أن القوم كانوا ذوي حضارة عالية وثروات طائلة.كانت بلادهم تشتمل على السهول والجبال، وكانوا يتمتعون بالقوة والمنعة بحيث لم يكن يجرؤ أحد على شن الغارة على أرضهم حين كانوا يذهبون في موسم الحر إلى مصايفهم بالجبال للراحة والاستجمام وهذا هو معنى قوله تعالى: آمنين ؟ أو معناه أنهم كانوا يذهبون إلى المناطق الجبلية آمنين لا خوفا ولا تهربا من عدو.علما أن نحتهم البيوت في الجبال لا يعني أنه لم يكن لهم بيوت غيرها، وإنما فيه إشارة إلى المباني الخاصة الدالة على حضارتهم الراقية؛ إذ يبدو أن القوم اكتسبوا مهارة عالية في فن البناء والعمارة وشيّدوا بعض المباني القومية بالحفر في الجبال، على طراز المبنى الشهير باسم "أليفنتا كيوز" في بومباي، فهو قطعة رائعة من فن الحفر الهندوسي، ويزوره السياح الأجانب بأعداد كبيرة.رس فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) شرح الكلمات : ΛΕ = مصبحين: أصبحَ الرجلُ: دخل في الصباح.فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيحَةُ مُصبحين) أي
الجزء الرابع سورة الحجر وهم داخلون في الصباح (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى إن العذاب فاجأهم في الصباح الباكر.ويتضح من آيات أخرى أنهم أهلكوا بزلزال حيث قال الله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فأصبحوا في دارهم جاثمين (الأعراف: ۷۹)..أي أنهم دفنوا تحت أنقاض بيوتهم التي دمرها زلزال عنيف، إذ لم يكن هناك من يخرج جثثهم من فَمَا أَغْنى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) شرح الكلمات : Λο من تحتها.أغنى عنهم: أغنى عنه : أجزَأَه : ما يُغني عنك هذا أي ما يجدي عنك (الأقرب).يكسبون كسب الشيء: جمعه.وكسب مالاً وعلما : طلبه وربحه: كسب الإثم : تحمله.كسب لأهله: طلب المعيشة (الأقرب).التفسير: أي أنهم كانوا يبنون لحمايتهم مباني ضخمة شاهقة، ولكنها نفسها ضاعفت في عذابهم، لأن المبنى الضخم يكون أكثر عرضة للدمار أثناء الزلزال، إذ لا أمل في نجاة من يُدفن تحته.عليهم لقد حذر الله ل هنا مشركي مكة بأنهم يتباهون بكثرة العدة والعتاد، ولكن أن يتذكروا أن العذاب حين يحل بقوم فلا تنفعهم أموالهم ولا عتادهم شيئًا، وإنما تصبح عليهم وبالاً، وتزيدهم دماراً.
الجزء الرابع سورة الحجر وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ صل وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَأَصْحَ الصَّحَ الْجَمِيلَ ) شرح الكلمات: ٨٦ وجهه فَاصْفَحْ: صفَح صفح عنه صَفْحًا: أعرض عنه وتركه، وحقيقته: ولاه صفحة صد عنه؛ أعرض عن ذنبه وصفَح الناس: نظر في أحوالهم.وصفَح في الأمر: نظر فيه.والصَّفْح: الجانب.والصفح من الإنسان: جنبه (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجميل: ١- أعرض عن المنكرين فلا حاجة للنقاش والجدال معهم، لأن الحجة قد قامت عليهم؛ ٢- لا حاجة للاتصال بهم؛ ٣- انظُرْ في أحوالهم جيدًا وادرسها بدقة.التفسير : يقول الله تعالى: تدبروا في نظام الكون لتعرفوا أخُلق لغاية أم لا؟ فإن كل ذي عقل سليم لو أمعن النظر في هذه الصنعة الكونية لأدرك الغرض من خلق هذا النظام الهائل، وتوصل إلى أن الساعة آتية لا ريب فيها.يعني قل واعلم أن الساعة قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القيامة وأيضًا بمعنى الموعد المضروب لهلاك معارضي الرسل وغلبة المؤمنين؛ وإن نظام السماوات والأرض يشكل برهانًا على وجود الساعة بالمعنيين.إنه دليل على القيامة، لأننا لو ظننا أن حياة الإنسان ستنتهى في هذه الدنيا ولا حياة له بعد الممات فهذا أن الله تعالى خلق هذا الكون الهائل فقط ليخلق فيه هذا الكائن ليأكل ويشرب بعض الوقت ثم يفنى.وهذا الظن مخالف للعقل السليم بتانا، إذ إن خلق هذا النظام الهائل يحتم أن يكون وراءه غاية كبرى.وهذه الغاية لا تتحقق – فيما يبدو – في حياة الإنسان القصيرة مما يستلزم ألا تنحصر حياته في الفترة الدنيوية، بل تمتد إلى زمن أطول يحقق فيه غاية عظيمة تليق بهذا النظام الكوني العظيم.
الجزء الرابع ١٦٧ سورة الحجر من الحق أننا لو تدبرنا في الكون لوجدنا أن أحقر شيء فيه أيضًا – بَلْه نظام الكون کله - عظيم لدرجة تفوق تصوراتنا، فقد أودع الله كل هذا الشيء الحقير أيضًا الأسرار ما لا نهاية له.خذوا البدن الإنساني مثلاً، فإن نظامه معقد لدرجة أن مئات الآلاف من الأطباء وعلماء الأبدان كانوا ولا يزالون عاكفين على معرفة كنه البدن الإنساني وحقيقته، ولكنهم اعترفوا بفشلهم إذ لا يجدون لأسراره نهاية.لقد حقق أهل أوروبا تقدمًا علميًّا عظيمًا بعد نزول القرآن الكريم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يحيطوا بأسرار الجسم الإنساني كلها.أفليس من الغباء - والحال هذه - أن يقال عن هذا الكائن الإنساني، الذي تأسس خلقه على خلق هذا الكون الشاسع والمعقدِ النظم والقوانين بهذا الشكل المحير، أنه أتى الدنيا ليأكل ويشرب لبعض الوقت ثم يفنى للأبد.كما أن نظام الكون يمثل دليلاً على غلبة الأنبياء وهلاك أعدائهم في آخر المطاف.ذلك أن الأرض لو فصلت عن السماء لشملها الدمار ولم تبق لها من باقية.فكأنه تعالى يقول ما أشدَّ هؤلاء عماية وغباء إذ يظنون أنهم يستطيعون النجاة رغم قطعهم صلتهم عن السماء الروحانية! الحق أن لا سبيل لنجاة الإنسان إلا إذا صار جزءاً من نظام السماء الروحانية..شأن الأرض التي لا مناص لها من الدمار ما لم تكن مرتبطة بنظام السماء المادية.فالذي يحاول محاربة النظام السماوي الروحاني لن ينجو من الهلاك أبدا.فكأن الله تعالى يحذر معارضي النبي لا لا له ههنا أنهم قد قطعوا صلتهم عن السماء الروحانية، فلن تجديهم الآن أسبابهم الأرضية المادية شيئًا، بل قد حانت الآن ساعة هلاكهم وغلبة المسلمين.كم هي صريحة وقوية هذه الآية في تحذيرها لأهل مكة أن هلاكهم أمر محتوم وأنه قد اقترب جدا.وقد تحقق هذا النبأ بسرعة غريبة حيث حصلت بعد ذلك تقلبات سريعة أدت إلى هلاك الكفار المكيين؛ وكانت معجزةً عظيمةً لم يوجد
الجزء الرابع ١٦٨ سورة الحجر لها نظير في تاريخ الديانات كلها، لأن هذا الدمار قد حل بهؤلاء جراء عدائهم لأكبر نجم بل لأكبر شمس في السماء الروحانية بأسرها.معهم يتضح من هذه الآية أيضا أن الذين قالوا إن سورة الحجر نزلت في أواخر الفترة المكية كانوا أقرب إلى الصواب، لأن الله تعالى قد ركز فيها خاصة على قرب هلاك المكيين، كما أكد ذلك أيضًا في مستهل السورة التالية سورة النحل.وأما قوله تعالى: فَاصْفَح الصَّفْحَ الجميل فأخبر فيه ألا حاجة للنقاش الآن، لأن زمن الحوار قد ولّى ومضى، وأن السماء قد قضت بعقابهم، فلن يؤمنوا الآن حتى يروا العذاب الأليم.كما أشار الله تعالى بكلمة الجميل أننا لا نعني بذلك أن تُعرض حتى عمن يأتيك راغبا في الحوار باحثا عن الحقيقة.فإذا مال البعض إلى حديثك فلا بأس في مداولة الرأي معهم، إلا أنه لا داعي الآن للنقاش العام، لأنه قد أُقيمت الحجة عليهم وتم البلاغ المبين، ولكنهم ما انتفعوا من آيات السماء؛ فانتظر الآن مصيرهم.وهذا الأمر يحدث مع كل نبي، حيث لا ينفك في التبليغ مجادلاً أهل الباطل، ولكن بعد فترة معينة ينهاه الله تعالى عن المزيد من الحوار مع أئمة الكفر، وكأنما يقول له: الآن قد تمت الحجة على المنكرين، فدَعهم وشأنهم.و إنَّ رَبِّكَ هُوَ الخَلْقُ الْعَلِيمُ ) شرح الكلمات: ۸۷ -- الخلاق: الخالق وهو من صيغ المبالغة (الأقرب).التفسير: لقد أشار الله وعمل بإيراد صفته الخلاق هنا إلى أنه لا يبالي بدمار أمة قضى بهلاكها، لأن هذا لا يغيّر في ملكوته وجبروته شيئًا، فهو قادر تمامًا على أن يخلق أمة أخرى مكان الأمة الفاسدة الهالكة.وقد أكد الله وعل هذا المعنى
الجزء الرابع ١٦٩ سورة الحجر نفسه في سياق الحديث عن نجاة موسى وقومه وهلاك فرعون وجنوده حيث قال كذلك وأَورَثْناها قومًا آخرين * فما بَكَتْ عليهم السماء والأرض وما كانوا مُنظَرين (الدخان: ۲۹ و ۳۰)..أي أن هلاكهم لم ينقص من ملكوت الله شيئًا حتى يبكي على موتهم أهل السماء، كما لم يضر موتهم أهل الأرض حتى يتأسفوا عليهم.ذلك أن مناهضي الأنبياء يكونون دائمًا ،ظالمين، فلا تندب الدنيا على هلاكهم بل تتنفس بموتهم الصعداء وتنعم بالراحة.وقد ختم الله وعل هذه الآية بذكر صفته العليم، ليُخبر أنه على علم بنوعية النظام الجديد الذي سيأتي به بعد إهلاك هؤلاء الظالمين.إنه نظام رائع وجميل لدرجة أن العالم سوف يفرح بموت هؤلاء بدلاً من أن يبكي عليهم.ما أدلَّ هذه الآية على بلاغة القرآن الكريم حيث بين كل هذه المفاهيم الواسعة في كلمة وجيزة، وأشار بمنتهى الروعة إلى سمو نظام حكومة المسلمين.كما بين هذه المعارف بترتيب رائع، حيث أعلن في مستهل هذه السورة ذَرْهم يأكلوا ويتمتَّعوا ويُلْهِهِمُ الأمَلُ فسوف يعلمون ) (الآية : ٤)، بينما أعلن في هذه الآية التي نحن في صدد تفسيرها: هــا قد جاءت الآن ساعة هلاكهم، وانتهى زمن انغماسهم في الملذات وطول الآمال.وقد بيّن هذا المعنى بقوة تماثل قوة الماء المقترب من الشلال.كما أن هذه الآية ردُّ على الذين استبعدوا انتصار النبي ﷺ لافتقاره إلى الأسباب اللازمة قائلين: بماذا سيحقق محمد الغلبة؟ فنبهتهم أن الله و خلاق، وسيخلق أسباب غلبة المسلمين حين يقضي بهلاك الكفار.وتحقيقا لهذا النباً رغب الله الله بعض الحجاج من أهل المدينة في لقاء النبي ﷺ وسماع دعوته، فلما رجعوا إلى قومهم حكوا لهم ما رأوا، فأرسلوا إليه وفدًا يلتمسون منه أن يهاجر من مكة إلى بلدهم، فقبل دعوتهم بإذن من الله وهاجَرَ (السيرة النبوية لابن هشام أمرُ العقبة الثانية وما هي إلا أيام قلائل حتى أصبح هذا الذي كان لا يجد ملاذا في مكة مؤسس دولة قوية، وتيسرت لـه
الجزء الرابع ۱۷۰ سورة الحجر الأسباب المادية أيضا التي بسبب افتقاره إليها كان أهل مكة متأكدين من انتصارهم عليه.ولما وقع هذا التغير العظيم وقف أهل مكة حيارى منبهرين.وَلَقَدْ وَآتَيْنَكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ ) شرح الكلمات: الفاتحة.۸۸ و المثاني هي: آيات القرآن؛ والمثاني من الوادي: معاطفه.مَثْنَى الأيادي: إعادة المعروف مرتين فأكثر.ومثاني الشيء: قواه وطاقاته (الأقرب).وقال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس أيضًا والحسن وأبو العالية وابن مليكة وعبيد بن عمير وجماعة إن سبعًا من المثاني هنا هي آيات الحمد أي سورة ة.وعن أبي هريرة عن النبي لا أنها (أي الفاتحة) السبع المثاني وأُمُّ القرآن وفاتحة الكتاب.وسُميت بذلك لأنها تُثنى في كل ركعة.وقيل: لأنها يُثْنَى بها على الله تعالى.وقد جوّز الزجاج هذا المعنى، ولكن قال ابن عطية: في هذا القول من جهة التصريف نظر.وقد علّق العلامة أبو حيان على ذلك بقوله: لا نظر في ذلك، لأنها جمعُ مُثْنى وهو مُفْعَل مِن أَثْنَى ، والمثنى هو مَقَرُّ الثناء على الله تعالى..أي فيها أي (الفاتحة) ثناء على الله.(تفسير البحر المحيط).فالمراد من السبع المثاني هو الآيات السبع التي تتكرر مرة بعد أخرى، أو التي يُثنى بها على الله تعالى ثناء كاملاً.التفسير: يقول الله تعالى لرسوله: إن هؤلاء القوم سيهلكون قريبًا ليأخذ مكانهم المؤمنون، فبدلاً من تبديد جهودك في الجدال مع هؤلاء المتعنتين..عليك أن تركز معظم جهودك على المؤمنين لتعليمهم القرآن الكريم حتى يتعلموا المعارف القرآنية جيدًا، فيكونوا أهلاً لتحمل المسئولية التي ستلقى على عواتقهم في زمن غلبتهم الموشكة، ويكونوا جاهزين لإدارة النظام الجديد.فقد آتيناك نعمة عظيمة
۱۷۱ سورة الحجر الجزء الرابع كالقرآن العظيم إلى جانب الفاتحة التي هي سبع آيات ومثاني أيضًا، فعليك بتربيتهم بحيث ينتفعون بهذه النعمة العظيمة كما ينبغي.لقد بينتُ في شرح الكلمات أن من معاني المثاني قوى الشيء وطاقاته، وعليه فقد أشار الله ل بتسمية الفاتحة بالسبع المثاني إلى أنها قوام طاقات القرآن وخلاصته أي أن الفاتحة، رغم إيجازها الشديد، تحوي خلاصة المعارف القرآنية.وأما قوله تعالى والقرآن العظيم فقد يعني باقي القرآن الكريم، والمراد أننا آتيناك القرآن المختصر وكذلك القرآن المفصل.وقد يراد بالقرآن العظيم هنا جزءا منه، وذلك وفق عادة العرب في إطلاق الكل على البعض، حيث يقولون : أَسْمعني القرآن ولا يقصدون به كل القرآن طبعًا، بل شيئًا منه.وعليه فقد يكون المراد من القرآن العظيم هنا سورة الفاتحة نفسها.إشارة إلى كونها جزءًا هاما من القرآن الكريم.وهذا المعنى يمثل دحضا لزعم البعض أن الفاتحة ليست جزءاً من القرآن الكريم.لقد صرّح الحديث الشريف أيضًا أن الفاتحة هي القرآن العظيم حيث ورد: "عن أبي هريرة عن النبي أنه قال في أم القرآن هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم." (مسند أحمد ج ٢ مسند أبي هريرة ) ولكن هذا لا يعني أن "القرآن العظيم ليس اسما لباقي القرآن، بل يمكن إطلاق هذه التسمية على الفاتحة وباقي القرآن في وقت واحد، إذ لا منافاة ولا تعارض بينهما، والمعنى أننا آتيناك قرآنًا مختصرًا إلى جانب قرآن مفصل.رضي عنه لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَأَخْرِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ شرح الكلمات: ٨٩ لا تَمُدَّنٌ مدَّ نَظَرَه إِليه : طمح ببصره إليه (الأقرب).
الجزء الرابع ۱۷۲ سورة الحجر التفسير: لقد قال بعض المفسرين: جاءت إلى المدينة مرةً سبع قوافل من بصرى وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله ولقد آتيناكَ سَبْعًا من المثاني والقرآن العظيم).(تفسير القرطبي) ولكن هذا التفسير باطل، والدليل الأكيد على زيفه وبطلانه أن سورة الحجر هذه مكية كلها بإجماع سائر المفسرين، حتى إن المستشرقين المسيحيين أنفسهم لم يجدوا من الاتفاق مع مع هذا الرأي تفسير القرآن لـ "ويري"، وترجمة القرآن لرودويل).إن المسلمين لم يروا رخاء هذه القبائل اليهودية القاطنة بالمدينة المنورة إلا بعد هجرتهم إليها من مكة، فكيف يمكن أن يُذكر في السورة المكية ما وقع في المدينة بعد الهجرة؟.ويجب أن نتذكر أيضًا أن الخطاب هنا موجه إلى الرسول ﷺ دون الصحابة، وأرى أن نسبة مثل هذا المفهوم الخطير إليه الا الله ولا يجوز بحال من الأحوال، بل هو إساءة بشعة في حقه مع الأخذ في الاعتبار أن المحور الأساسي لهذه السورة هو تأكيد الله تعالى لرسوله بكل قوة وتكرار إننا نحن الذين سوف لهيئ الظروف والأسباب لرقي المسلمين، فتوكَّلْ علينا دائمًا؛ فكيف يمكن – رغم هذا التأكيد الإلهي المتكرر - أن تتولد هذه الفكرة الدنيئة في قلب الرسول ﷺ فيقول: يا ليت كانت عندنا أيضًا أموال كما عند اليهود.الواقع أن قوله تعالى و إن الساعة الآتية تضمن الإشارة إلى سقوط حكم الكفار عاجلاً، وكان هذا الخبر يمثل صدمة طبيعية للنبي ﷺ إذ كان يحمل بين جنبيه قلبا رقيقًا شفيقاً مفعما بالنصح لقومه، فلا بد أن يكون قد فكر أن قومه أو الصناديد منهم سوف يُهلكون محرومين من الإيمان، وبالتالي لا بد أن يكون متأسفا عليهم قائلاً: ليتهم لم يهلكوا وليت الله جعلهم كبارًا في الدين كما ، جعلهم كبارًا في الدنيا.وهذه أمنية نبيلة للغاية والحق أن أنبياء الله تعالى لا
الجزء الرابع ۱۷۳ سورة الحجر يفرحون في الواقع بهلاك أحد من أعدائهم، بل يتمنون أن يكون الجميع مؤمنين.وقد اشتدت هذه الرغبة بالنبي ﷺ بحيث كاد يُهلك نفسه أسفا عليهم حتى خاطبه الله قائلاً: لعلّكَ باخِعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين)(الشعراء:٤).فنظرًا إلى أحاسيسه المرهفة خفّف الله عنه قائلاً: لا شك أن خبر هلاكهم شاق عليك، ولكن هذا هو القرار الملائم في شأنهم فلا تتأسف على أئمة الكفر هؤلاء طامعا في إسلامهم نظراً إلى مكانتهم العالية، لأن أموالهم وشوكتهم الدنيوية لا تزيدهم في التقوى بل تحول دون إحرازها، لذلك سوف نجعلهم أقزاما صاغرين بل سوف نستأصل شأفتهم.فبدلاً من الطمع في إيمان هؤلاء وجه عنايتك إلى تربية المؤمنين الذين سيأخذون مكان ،الذاهبين لأن رقي العالم ليس منوطا الآن بنجاة السادة القدامى، وإنما يتوقف على تربية أتباعك تربية سليمة.وهذا المعنى الذي قد بينته تدعمه أيضًا الجملةُ التالية في الآية ولا تحزن عليهم..أي لا تحزن على هلاكهم، ولكن لو أخذنا برأي المفسرين بألا تنظر إلى اليهود طامعا في أموالهم، فلا ينسجم معه إطلاقًا قوله: ولا تحزن عليهم؛ بل يصبح الكلام عندئذ لغوا والسياق غير منسجم، ويحدث التعارض بين الجملتين، إذ كيف يمكن لمن يريد الاستيلاء على أموال الآخرين أن يتأسف على هلاكهم، لأن أمنيته هذه تمثل في الواقع دعاء عليهم بالهلاك.ولكن لدى قبول المعنى الذي بينته لا يحدث أي خلل في المفهوم ولا في السياق.كما أن قوله تعالى واخفض جَناحَك للمؤمنين أيضا يؤكد موقفى، لأننا لو أخذنا برأي المفسرين لصار مفهوم الآية هكذا : لا تتمنَّ أن تصير أموال الكفار في حوزتك ولا تتأسف على هلاكهم، بل وجّه اهتمامك إلى المؤمنين؛ وهكذا ويبدو ستصبح كل جملة من الآية غير منسجمة مع الأخرى ومتعارضةً مع السياق.أن قوله تعالى واخفض جناحك للمؤمنين كان ينطوي على إيماءة لطيفة إلى هجرة المسلمين.ذلك أن خفض الجناح للمؤمنين – أي تربيتهم وتوعيتهم بشكل كامل - كان يتطلب نظامًا، وكان من المستحيل في مكة
الجزء الرابع ١٧٤ سورة الحجر العملُ بأحكام القرآن المتعلقة بالنظام.إذن فقوله تعالى لرسوله بأن عليك الآن توعية المسلمين حتى يكونوا جاهزين لإدارة النظام القادم كان يحمل في طياته نبأ للرسول ﷺ بأن الله تعالى سوف يذهب بك إلى حيث تتمكن من تربية أتباعك كما ينبغي.وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ التفسير : أي أعلن للكفار بأنني أنا الذي عهد الله إليه الإنذار والتحذير، وها إني أقولها علنًا بأمر من الله تعالى أن ساعة هلاككم قد اقتربت وحانت.كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ) شرح الكلمات: المقتسمين اقتسموا المالَ بينهم: أخذ كلّ قسمه (الأقرب).وتقاسَمَا المالَ: اقتسماه بينهما.فالاقتسام والتقاسم بمعنى واحد (التاج).التفسير: لقد فسّر عامة المفسرين هذه الآية مع التي قبلها بأني أنا النذير المبين بالعذاب مثلما أنزلناه على المقتسمين (تفسير الرازي).ولكني أرى أن هنا تعليلية وليست لبيان المماثلة.وورود (كما) من أجل التعليل ثابت عن العرب (انظر تاج العروس")، ووردت في القرآن الكريم أيضًا بهذا المعنى مرارا كقوله تعالى واذكروه كما هداكم ﴾ (البقرة : (۱۹۹)..أي اذكروا الله تعالى لأنـه هداكم.وعليه فقوله تعالى وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين..يعني: قُلْ لهم يا محمد إني أنا النذير الذي لا خفاء في تحذيره، لأن الله تعالى قد قرّر الآن إنزال العذاب على المقتسمين.ولا شك أن هذا المعنى واضح جلي لا لبس فيه ولكن المفهوم الذي يذكره المفسرون الآخرون غير
الجزء الرابع ۱۷۵ سورة الحجر واضح، ولذلك قد واجهوا صعوبة كبيرة في شرح هذه الآية، ولجأوا إلى تأويلات كثيرة.كما أن المفسرين قد عانوا في تفسير كلمة المقتسمين عناء كبيرا، حيث فسروا المقتسمين بمعنى الحالفين بإيذاء النبي الله (الكشاف؛ والقرطبي).كما ورد هذا المعنى في البخاري أيضًا انظر البخاري كتاب التفسير).ولكن الاقتسام لا يعني القَسَم لغةً، بل يعني التقسيم كما سبق أن أثبتنا لدى شرح الكلمات.وهنا ينشأ سؤال: كيف وقع المفسرون في هذا الخطأ؟ والجواب أن هناك كلمة أخرى هي التقاسم، وعندما قرءوا قول أهل اللغة إن التقاسم والاقتسام بمعنى واحد حيث يقال تقاسما المال أي اقتسماه بينهما..ظنوا خطأ أن الاقتسام أيضًا يعني القسم والحلف، مع أنه لا يعني إلا التقسيم فقط، على عكس التقاسم الذي المعنيين أي التقسيم والقسم.وقد انخدع بهذا التشابه حتى عالم كبير يعني كالزمخشري أيضًا.ولقد ارتكب صاحب تاج العروس في هذا الصدد خطأ آخر حيث استشهد على هذا المعنى الخاطئ بقول ابن عرفة القائل: "هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول ﷺ (التاج).والظاهر أن هذا المعنى لا سند له من اللغة، وإنما نقله صاحب التاج بتأثير المفسرين.بعد هذا البيان التمهيدي أقول : إن المقتسمين المذكورين هنا هم أولئك الكفار الذين كانوا قسَموا فيما بينهم أعمال المكر والكيد بالرسول ؛ فمنهم من أخذ على عاتقه أن يقف بأنقاب مكة وطرقها ليقول لكل قادم إليها ألا يغتر بكلام ومنهم من أثار الضجة داخل مكة بأن محمدًا لو كان صادقًا لكنا أولى ومنهم من آذى المسلمين، ومنهم من تولى التعتيم ضده محمد بتصديقه لأنه أقاربنا، من في القبائل المجاورة لمكة.وقد أعلن الله تعالى هنا أننا قد قررنا الآن عذاب هؤلاء جميعا.
الجزء الرابع ١٧٦ سورة الحجر ومن المفسرين من قال أن هؤلاء المقتسمين هم أولئك الكفار الذين قسموا القرآن فيما بينهم..أي كانوا يؤمنون ببعض القرآن ويكفرون ببعضه.(فتح البيان، والقرطبي ) مما لا شك فيه أن القرآن الكريم سجّل في موضع آخر قول الكفار عن القرآن الكريم: نؤمن ببعض ونكفُر ببعض، ولكن تفسير هذه الآية بهذا المعنى غير سليم، لأن الاقتسام لا يحتمل معنى الإيمان ببعض والرفض ببعض.الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ (3) شرح الكلمات: ۹۲ جعلوا من معاني جَعَلَ ظَنَّ، يقال: جعَل البصرة بغداد أي ظنَّها إياها (الأقرب).عضين: جمع عضة ومعناها القطعة من الشيء والجزء منه، وهي مشتقة من العضـــاة: قطعها؛ وتعني أيضا الكذب من عضة الرجلُ يَعْضَهُ عَضَهَا: كَذَبَ؛ ومشتقة أيضًا من عضا الشيء يعضوه عَضوا أي فرَّقه انظُر الأقرب).التفسير : أرى أن المعنى الثاني لـ عضين أي الأكاذيب هو الأكثر انطباقًا هنا لأن كلمة (جعلوا هنا تعنى (ظنّوا)، فالمراد من هذه الآية مع ما قبلها: أنذر الذين اقتسموا فيما بينهم أعمال الفتنة والشغب ضدك والذين اعتبروا القرآن الكريم مجموعة من الأكاذيب بأنه قد حانت ساعة عذابهم.وهذا المعنى واضح جلي بحيث يخلصنا من كل المشاكل التي واجهت المفسرين.
الجزء الرابع ۱۷۷ سورة الحجر فَوَرَبِّكَ لَنَسْتَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ٩٤ التفسير : المراد من قوله تعالى لنسألنهم أن الله تعالى سيحاسبهم الآن على شرورهم ويعاقبهم عقابًا شديدًا.فَأَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) شرح الكلمات : ۹۵ فاصدَعْ: صدَعَه صَدْعًا: شقه؛ شقه وقيل: بنصفين؛ وقيل: شقه ولم يفترق.صدع الأمرَ: كشفه وبينه.صدع بالحق وبالحجة: تكلم بها جهارًا.صدع بالأمر: أصاب به موضعه وجاهَرَ به مصرّحًا.وصدَع الأمر بالحق: فَصَلَه (الأقرب).التفسير: قد يكون معنى هذه الآية أن جاهرهم بقرارنا بهلاكهم وغلبة المسلمين، ولا تناقشهم بعد اليوم، وقد تعني - وأرى هذا المعنى أكثر انطباقا - عليك أن تستعد للحكم بما أمرك الله به..بمعنى أننا سوف نتيح لك الآن الفرصة لتطبيق ما أنزلناه إليك من أحكام الشرع تطبيقا كاملاً بحيث لن تكترث بمكائد الكفار.وكأن هذه الآية أيضًا تمثل نبأ عن الهجرة النبوية وقيام الدولة الإسلامية.إِنَّا كَيْنَكَ الْمُسْتَهْزِينَ (3) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ 97 إليها اخر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ۹۷ التفسير: يقول الله تعالى لرسوله الكريم: لا داعي الآن للنقاش مع هؤلاء المستهزئين لأننا نريد أن نرد على استهزائهم بآيات من السماء، ونعاقبهم عقابًا
الجزء الرابع ۱۷۸ سورة الحجر يجعلهم عبرة لمن بعدهم لن نمهلهم أكثر من ذلك، ولن نسكت على إساءتهم إلينا المتمثلة في اتخاذهم الشركاء معنا.بن هذا النبأ لم يتحقق على نطاق قومي إلا بعد الهجرة النبوية حيث ضُربت على الكفار الذلة والمسكنة؛ غير أنه قد تحقق بشكل فردي أيضًا بصورة مدهشة.فقد قال محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير إن أكبر المستهزئين خمسة نفر..الأسود المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة.فأتى جبريل رسول الله الله في شأنهم وأشار إلى بطن الأسود بن عبد يغوث، فاجتمع في بطنه ماء أصفر، فمات منه.أما الوليد بن المغيرة فأشار جبريل إلى رجله، وكان بها أثر جرح قديم مندمل، فخُدش، فانتفض به فقتله.أما العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار لـه يريد الطائف، فأصيب في أخمص قدمه بشيء كالشوكة، فقتلته.أما الحارث ابن الطلاطلة فأشار إلى رأسه، فجُرح رأسه جرحًا قتله.أما الأسود بن المطلب فأشار جبريل إلى عينه، فعمي ومات (تفسير ابن كثير، قوله تعالى: إنا كفيناك المستهزئين).علما أن هذا مروي أيضًا عن سعيد بن جبير وعكرمة، حيث قال سعيد إن أحدهم هو الحارث بن الطلاطلة، بينما قال عكرمة اسمه الحارث بن قيس، ولكنه ليس باختلاف، إذ قال الزهري إن الطلاطلة أمه، وأن قيسا أبوه.وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) : ۹۸ التفسير قوله تعالى بما يقولون لا يعني أن رسول الله ﷺ كان يتضايق مما يقابله به الكفار من السباب والشتائم وإنما هو إشارة إلى قوله تعالى يجعلون مع الله إلَهًا آخَرَ ، والمراد أننا نعلم أنك - لما تكن لنا من حب بالغ – تضيق صدرًا وتتألم جدا من دعاواهم الوثنية، فاستبشر الآن وافرح، لأننا سنقضي على الشرك ونوطد التوحيد.
الجزء الرابع ۱۷۹ سورة الحجر فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّجِدِينَ ۹۹ التفسير أي سوف نوطد الآن التوحيد الذي هو الغاية من بعثك، فعليك وأداء الشكر لله فرحةً وسرورًا؛ أو معناه : عليك بتربية المؤمنين بحيث بالتسبيح الله.يشكلون للعالم برهانًا عمليًّا على سبوحية الله وحمده له.ما أروع ما خفّف الله به على رسوله من وطأة الآلام التي كان يعالجها.وَاعْبُدْ رَبِّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) شرح الكلمات: اليقين: إزاحة الشك وتحقيق الأمر؛ العلمُ الحاصل عن نظر واستدلال، ولهذا لا علم الله يقينًا؛ الموتُ (الأقرب).يسمى التفسير : اليقين قد يعني هنا الموت؛ فكأن الله تعالى يقول لرسوله: عليك الآن أن تواصل عبادة الله حتى الموت..بمعنى أنه لن يستطيع الآن أحد الحيلولة دون الغلبة التي سوف نكتبها للإسلام، وسوف تتمكن من عبادة ربك طيلة الحياة نهارًا جهارًا دونما عرقلة ومضايقة، لأننا سوف نستأصل شأفة هؤلاء الذين يمنعونك من عبادتنا.وقد يكون اليقين هنا بمعناها المعروف والمراد عليك أن تعكف على عبادة الله بشكل مركز حتى تأتي الساعة التي وعدت بها..وكأن اليقين هنا تعني ظهور آثار الساعة أي العذاب لأن الوعد الإلهي لا تتجلى حقيقته بشكل واضح إلا بعد تحققه.فالآية تعلّمنا أنه إذا قطع الله وعمل لقوم بوعد فعليهم أن ينهمكوا في العبادة والدعاء بشكل خاص لكي يحقق الله وعده مع كل خيراته وبركاته.
الجزء الرابع غير أن هذا لا يعني ۱۸۰ سورة الحجر أبدًا أنه يجوز للإنسان التهاون في العبادة في أيام أخرى، ذلك أن النبي كان يعبد الله تعالى قبل نزول هذه الآية أيضًا.فالحق أن الآية إنما تحتنا على العبادة أكثر من المعتاد في مثل تلك الأيام.وقد هَرَاً بعضُ الحمقى من أهل البدعة فقالوا أن هذه الآية تعني أن على الإنسان أن يواصل في العبادة إلى أن يحصل له اليقين، أما بعد ذلك فلا حاجة لـه بعبادة الله تعالى! الحق أن هؤلاء الحمقى لا يدرون أن قولهم هذا يشكل هجومًا على شخص الرسول ، لأن قولهم هذا سيعني أن النبي لم يكن – والعياذ بالله باليقين إلى حين نزول هذه الآية، لذلك أمر هنا أن يواصل العبادة حتى يأتيه يتمتع اليقين.وأقول: إذا كان محمد رسول الله ﷺ لم يتيسر له اليقين – كما يزعم هؤلاء الجاهلون - وذلك رغم تشرفه بالنبوة، فكيف يمكن لهم ادعاء إحراز اليقين، وأن لا حاجة لهم الآن إلى العبادة؟ نعوذ بالله من هذه الخرافات! مرة جاءني أحد هؤلاء المبتدعين وسألني : إذا وصلت السفينة إلى الساحل فهل ينبغي لراكبها أن ينزل عنها أم عليه ألا يبرحها؟ فأجبته: إذا كان لذلك البحر ساحل ووصلت السفينة إليه فعليه أن ينزل عنها، وأما إذا كان بحرا لا شاطئ له، فإن ما يظنه الراكب ساحلا فهو ليس إلا خدعة نظره، وحيثما ينزل عن السفينة يغرق.فبهت الذي كفر.
الجزء الرابع ۱۸۱ سورة النحل سورة النحل مكية وهي مع البسملة مائة وتسع وعشرون آيةً وستة عشر ركوعًا.وهي مكية كلها، قاله الحسن والعطاء وعكرمة وجابر.وقال ابن عباس: إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى ولا تشتروا بعهد الله..إلى قوله ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (الآيات: ٩٦ - ٩٨).بينما قال الآخرون: إن الآيات المدنية هي قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به إلى قوله تعالى والذين هم محسنون، وقد نزلت هذه الآيات بشأن تمثيل الكفار بحمزة وغيره من قتلى أحد.وقالت طائفة أخرى من العلماء: إن الآيات المدنية تقع في مستهل السورة بدايةً من قوله تعالى أتى أمر الله إلى قوله عما يشركون.(البحر المحيط) ولكن قتادة يحمل رأيًا معاكسا تمامًا حيث يعتبر السورة كلها مدنية، ما عدا الآيات الثلاث الأولى.(المرجع السابق) أما المستشرقون فإن "ويري" منهم يرى أن هذه السورة مكية كلها نزلت في أواخر الفترة المكية.ويوافقه في الرأي "نولدكه" (Noeldeke) إلا أنه يقول أن الآيات التي رقمها ٤٣، ۱١١، ۱۱۹، ۱۲۰، ۱۲۵ مدنية، علما أن "نولدكه" لا يعتبر في ترقيمه البسملة جزءا من السورة.وأما "سيل" (Sale) فيرى أنها مكية كلها ما عدا الآيات الثلاث الأخيرة.ولكن "ويل" (Weil) يعارض موقف "سيل" بشدة، ويرى أن السورة مكية كلها تفسير القرآن لـ "ويري")
الجزء الرابع سبب تسميتها : ۱۸۲ سورة النحل لقد سميت هذه السورة بالنحل لأن الله تعالى قد تحدث فيها عن نزول الوحي على النحل، ليدلّل به على أن هذه المصنعة الكونية كلها تدار بالوحي.فالوحي هو الموضوع الرئيسي المحوري لهذه السورة.والسبب الآخر لهذه التسمية هو أن الله تعالى قد تناول فيها موضوع الجهاد أي القتال لأول مرة، وكان طبيعيا أن تُثار الاعتراضات ضد القتال، فرد هذه المطاعن سلفا بذكر النحل، موضحًا أن النحل تنفع بعسلها كما تلسع بحُمَتها أيضًا، ولكن نفعها أكبر من ضررها؛ وذلك هو مثلُ الجهاد، فإنه أمر الله شاق، ولكن وراءه هدف نبيل ألا وهو الحفاظ على العسل الروحاني: الوحي.علاقة سورة النحل بغيرها على لقد سبق أن بينت أن هناك صلة بين مواضيع السور القرآنية وبين المقطعات الواردة في مستهلها، وأن السور الخالية من أي مقطع تابعة في المعنى للسورة التي استهلت بمقطع من قبل.وبحسب هذه القاعدة تُعتبر سورة النحل تسلسلاً للموضوع الذي عالجته السورة السابقة..الحجر، ولكن سورة النحل تتناوله بأسلوب آخر.لقد استهلت سورة الحجر بمقطع الر..ومعناه: أنا الله أرى، وقد نوقشت هذه الصفة الإلهية نفسها في سورة النحل ولكن من زاوية أخرى، حيث بين الله وعمل فيها أهمية الوحي وعظمته، والغرض من نزوله، والقوة الكامنة فيه.فقد برهن الله في سورة النحل على أن لا حدود للقوة القدسية الكامنة في القرآن : أكمل الكتب السماوية قاطبة، فكيف يمكن أن يحوم الشك حول نجاح المسلمين؟ ومما يربط هذه السورة بالتي قبلها أن الله و قد أنذر الكفار بالعذاب في السورة السابقة بقوله: (وأن الساعة الآتية، وبقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسئلتهم
الجزء الرابع أجمعين، ۱۸۳ سورة النحل ا، وقد أخبر الآن في مستهل سورة النحل أن هذا الوعيد على وشك أن يتحقق حيث قال: أتى أمرُ الله فلا تستعجلوه.هناك سؤال يجب الرد عليه : لماذا استخدم الله في السورة السابقة كلمة آتية) بينما قال هنا أتى ؟ لیكن معلومًا أن من أسلوب القرآن أنه حين يريد التأكيد على حدوث أمر أو على اقتراب وقوعه يستخدم له صيغة الماضي، لأن ما قد حدث في الماضي لا يحوم حول حدوثه شك ولا شبهة.وعليه فقوله أتى أمر الله أيضًا يشكل دليلاً على أن سورة النحل نزلت قبل حادثة الهجرة بفترة قصيرة جدا.ملخص محتواها : تتلخص مضامين هذه السورة في أن ساعة تحقق الوعد الذي قطع مع الكفار قد اقتربت جدًّا، وألا وزن لاعتراضهم: كيف نزل الوحي على شخص عادي كمحمد !؟ أفلا ينظرون إلى الإنسان كيف كان حقير الشأن في بداية خلقه، ومع ذلك رفع الله تعالى مكانته بتطوير قواه الكامنة، وجعله وارثًا لنعمه التي لا تعد ولا تحصى.كذلك تماما إذا اختار الله و شخصاً قليل الشأن فيما يبدو وفضله على الآخرين في العالم الروحاني، فليوقن هؤلاء أنه لم يقع عليه الاختيار الإلهي إلا لكفاءاته التي ما تزال عليهم خافية.ثم بين الله تعالى أنه كيف يمكن للذي هيأ الوسائل لرحلاتكم المؤقتة في العالم المادي أن يتغافل عن أن يهيئ الوسائل لرحلتكم الأبدية.لا أحد يقدر على سد حاجاتكم الروحانية، لا أنتم ولا آلهتكم الباطلة وإنما الله الله وحده هو القادر على أن يدلكم على الطريق الصحيح والأقرب إليه الله، ثم يهديكم إلى الوسائل الملائمة للسير في هذا الطريق.وبالفعل يُطلع الله عباده على هذه السبل
الجزء الرابع ١٨٤ سورة النحل والوسائل.أما إذا تدخل الإنسان في هذا الأمر وأخذه في يده، وخلق لنفسه المشاكل، فهو المسؤول عن هذه العواقب.ثم أخبر الله تعالى عن أحوال السالكين في سبيله، ومصير الذين ينحرفون عنه.كما وضح أن جزاء الإنسان يترتب بالنظر إلى عاقبة أمره.فلا قيمة للاعتراض بأن جميع الناس لا يؤمنون برسل الله على الفور، بل هناك من يعارضون دعوتهم في البداية ثم يصدقونها، فماذا سيفعل بهم؟ لأن المؤمنين والمنكرين سوف يُسألون بالنظر إلى خواتيم ،أمرهم، لأن الطريق المؤدي إلى الدار الآخرة يبدأ حيث ينتهى سفرهم في الدنيا بالموت.ثم ردّ الله على السؤال القائل: إذا كان الرسل يُبعثون من عند الله تعالى فكيف يتجاسر الناس على إنكارهم؟ فأخبر أن الله القادر يستطيع أن يجبرهم جميعًا على الإيمان، ولكن هذا يتنافى مع مشيئته تعالى.وبالإضافة إلى هذا الدليل المنطقي قدم برهانًا من التاريخ وقال : أنتم أيضا تؤمنون ببعض الرسل، فأخبرونا: هل جميع الناس آمنوا بهم؟ أحدا ثم نسبه الله المؤمنين أنهم إذا كانوا حريصين على أن يؤمن أقاربهم أيضًا بهذا فلا سبيل لذلك إلا أن يسعوا لتطهير قلوبهم، لأن الله تعالى لا يهدي بالجبر إذا ما كان هو مصرا على الضلال، لأن هذا يكون إجحافًا وظلمًا بالمؤمنين، ويبطل الحكمة من البعث بعد الموت.ثم أعاد الله تعالى قول الكفار بأن لا حقيقة للبعث بعد الموت، ثم ساق الأدلة على ضرورة البعث، موضحًا أن ما تأكدت ضرورته فلا بد من وجوده ده وفقًا لسنة الله الجارية.ثم أقام الدليل على ضرورة البعث بعد الموت بذكر بعض ما يقع في العالم المادي، فقال: إن الله تعالى يبعث الشعوب في هذه الدنيا أيضًا، وهذا البعث يبدأ هجرة المؤمنين من بلد الكافرين وهذا ما سيحدث مع جماعة هذا النبي أيضًا.وما دام لا بد من الفصل بينهم وبين الكفار بالهجرة لرقي المؤمنين رقيًّا ماديا
الجزء الرابع من بير سورة النحل كاملاً، فلماذا لا يفصل الله و بين الفئتين تحقيقًا للغاية العليا..لكي تسير كل الفئتين في طريقها الخاص بحرية تامة دونما عائق وهذا الفصل بين الفئتين- أو آخر – هذه الهجرة الروحانية ستتم بالموت.بعد هذه الهجرة يبدأ كل منهما في السير في طريقه الخاص في حرية تامة، ليحقق المؤمن الرقي الروحاني في الجنة بعيدا عن أي عرقلة من العدو فبرؤية ما سيحققه المؤمنون بعد الهجرة من رقي مادي..سيدرك الكفار ضرورة فصل الأرواح المؤمنة من الكافرة لتحقيق الغاية التي خلقوا من أجلها.ثم أشار الله و إلى نتائج الهجرة الدنيوية وبين كيف ستؤدي هجرة المؤمنين إلى نزول العذاب بالكفار وغلبة المؤمنين عليهم، حيث أخبر أن هذا لن يتم بتدابير مادية، بل إن تمسكهم بالتوحيد هو وحده سيأتي بهذه النتائج كلها.ثم أوضح أن إنكار الإنسان الآخرة يؤدي إلى فساد أعماله، وهذا أيضا يشكل دليلا على ضرورة البعث بعد الموت.ثم قال الله تعالى : إن ما نمنح الكفار من مهلة لا يعني أننا لا نريد توطيد الدين، وإنما نفعل ذلك رغبة في نجاة البشر.ذلك أن ظاهرة المهلة جارية حتى في نواميس العالم الطبيعي المادي أيضا، فكيف يمكن إنكار وجودها في العالم الديني الروحاني خصوصا وأننا نريد إنقاذ أكثر من يمكن إنقاذه.ثم أبطلت الآية نظرية الجبر قائلة: إن تزيين السيئة للناس هو دأب الشيطان ولا يمكن أن يُعزى ذلك إلى الله ،، لأن من واجبه سبحانه وتعالى أن يبين طريق الهدى فحسب.غير أن رحمته الواسعة تهيئ مزيدا من أسباب الهدى للناس حيث إن المؤمنين بوحيه يزدادون بالعمل به نعمةً وفضلاً على الدوام، وهكذا يتضح لأولي الألباب أن الله تعالى يحب هذا الطريق، فيهتدون.ثم رد الله عل على اعتراض الكفار أن محمدًا إذا كان من عند الله حقا فلماذا يعارض تعاليم الأولين؟ فأخبر أن تكفير الرسل السابقين ومخالفة تعاليمهم شيء، ورفض الطقوس الخاطئة والتعاليم الرائجة المنسوبة إليهم خطأً شيء آخر تماما.
الجزء الرابع ١٨٦ سورة النحل لأن النبي إنما يُبعث حين يقوم الناس بتشويه التعاليم الحقة السابقة ولا يستطيعون الحفاظ عليها، فيُحييها النبي من جديد.ثم ضرب مثالاً رائعًا ليبرهن على أن الله وحده حقيق بأن يهدي الناس، فقال: انظروا إلى الحيوانات كيف تأكل الكلأ وتنتج الحليب.الواقع أنه منتوج الآلة التي ركبها الله وعمل في جسم هذا الحيوان.ومثلُ أخلاق الإنسان البهيمية كمثل الكلأ، يحوّلها الله عبر آلة القانون الروحاني إلى أخلاق فاضلة نبيلة.ثم ضرب مثال النحل وأخبر أنها أيضًا تعمل وفق الوحي الإلهي، وتنتج من عناصر النبات البسيطة عسلاً مصفّى فيمكن أن تدركوا من هذا أن كل الكون يعمل بحسب قانون خفي من الوحي، فكيف تستبعدون أن يتزل الوحي لتطوير أخلاق الإنسان، ويأتي بنتائج طيبة شافية له كما يأتي عسل النحل بشفاء للناس؟ غير أن النحل أنواع وأن العسل من حيث جودته درجات متفاوتة، كذلك البشر متفاوتون في مراتبهم، فمع أن المؤمنين يتبعون الوحي نفسه إلا أن كل واحد منهم ينتج عسلاً روحانيا مختلفا عما ينتجه غيره.ثم دلّل بأسلوب آخر على ضرورة الوحي، فقال: كلما يكتب الله وعمل لقوم الازدهار فإنه بعد مرور زمن تحتكر فئة معينة منهم كل المنافع التي يأتي بها هذا الازدهار، مما يسد في وجه الآخرين طريق التقدم، لأن الفئة المستولية على زمام الأمور لا تسمح لهم بالتقدم رغم كفاءتهم وجدارتهم، مع أن الله تعالى قد جعل شركاء في نعمه وأفضاله.فهل هناك من طريق لتغيير هذا الوضع إلا الله الوحي؟ إن الكبراء في ذلك العصر المظلم يدّعون دائمًا : نحن أكفأ القوم وأفضلهم ولذلك نملك زمام الأمر في قبضتنا ولا يكون هناك من سبيل لإبطال دعواهم اللهم إلا أن يدبر لإلقاء القوم في اختبار جديد، وهذا يحتم بعث نبي.وعندما يأتي النبي ينكشف للجميع أن أهل السيادة الحالية ليسوا أكفاء لحمل مسئولية قيادة القوم لأنهم يبقون محرومين من اتباع الوحي النازل على النبي، وأما الذين يُستضعفون فإنهم يوفّقون لتصديق كلام الله مما يبين أن السيادة لم تكن في أيدي
الجزء الرابع ۱۸۷ سورة النحل الأكفاء.وهكذا يقوم الله و بحماية حقوق البشر من جديد، فيبدأ كل إنسان في الرقى وفق كفاءاته، ويتم القضاء على النظام القائم على العصبية والانحياز.ثم يسوق القرآن الكريم دليلاً آخر على ضرورة الوحى حيث يقول: حين تبتعد الأمم عن الله وعمل فإنها تقع في الأعمال الوثنية وتربط نفسها بمن لا يملك لهم ضراً ولا نفعا، وبالتالي تُحرم من وسائل الرقي الحقيقية.ولو لم يتم القضاء على هذا الوضع لتوقفت عجلة التقدم والازدهار.وبعدها بين أن البعد عن الوحي يُلحق نوعين من الأضرار: أحدهما ما سبق بيانه أي أن البعض يأخذ زمام أمور الناس عنوةً، ولا يسمح لأهل الكفاءة الحقيقية أن يتقدموا ويبرزوا على ساحة الأحداث، وثانيهما: أن الأعمال الوثنية تدمر الكفاءات والقدرات الكامنة في القوم.والله رحيم فكيف يمكن أن يلزم الصمت على هذا الظلم، ويبطل خطته بيده؟ إذ كيف يُستساغ أن يخلق هذه القدرات في القوم ثم يدعها تموت بنفسها، أو يسمح للظالمين أن يحولوا دون ظهورها؟ وبالاختصار فإن الله تعالى يكشف زيف دعاوى الكفار، لأن حكمته البالغة بأن يدمر الذين هم رأس هذه الفتنة والظلم.وهكذا فالذين لا يتلقون الدرس من وسائل الحماية الإلهية الظاهرة فإن الله ينزع منهم حمايته الظاهرة، كما أن الحماية الزائفة المتمثلة في شركائهم الباطلة أيضًا تتسبب في ذلهم وهوالهم..في الدنيا والآخرة.تقضي غير أنه تعالى وضح أيضًا أنه لن يعامل سائر الظالمين معاملة واحدة، بل سوف يعاقب أئمتهم الذين أضلوا غيرهم بأشد مما يعاقب به أتباعهم الضالين.ثم قال: أفلا يرون أن أسباب هذا الانقلاب لموجودة وبادية تماما، وأوّلُها الشهادة الداخلية للقرآن وهي كون تعليمه كاملاً جامعا، وثانيها أن تعليمه يهدي إلى الرقي والفلاح، وثالثها أن العاملين به ينالون البركات والنعم فعلاً.
الجزء الرابع ۱۸۸ سورة النحل بعد ذلك عندما ذكر أمثلة من التعاليم القرآنية الكاملة، قال الكفار مرة أخرى إنها تخالف ما ورد في الأسفار السابقة فرد الله وعمل عليهم بأن هذا الاعتراض سخيف وواه، لأن الوحى ينزل وفق متطلبات كل عصر.ثم أخـ أن الكفار حين يسمعون هذا الجواب يقولون أن هذا التعليم مسروق من كتب الأولين فرد عليهم وأثبت أن هذا الاعتراض يتنافى مع العقل تماما.ثم وضح الله تعالى أنه يمكن أن يرتد البعض عن الإسلام، ولكن ارتدادهم ليس دليلاً على أن القرآن الكريم لا يهب اليقين الكامل، إنما يتأكد ذلك إذا كان ارتدادهم بناء على دليل وبرهان وما دام ارتدادهم يرجع إلى المصالح الدنيوية فهذا دليل على خبث باطن المرتدين لا على ضعف تعاليم القرآن.وبعد ذلك أخبر أنه قد حان موعد حكم المسلمين، وأن ما بشروا به في القرآن أوشك على التحقق.سوف تقع حرب شديدة بين الكفر والإسلام، لينال فيها كل جزاءه وفق إيمانه.ثم أخبر الله بكلمات لا لبس فيها عن هلاك المكيين وزوال حكمهم.ثم تحدث مرة أخرى عن الرحمة، وبين كيف أن القرآن الكريم يمثل رحمةً لبني آدم حيث ينقذهم من قيود الطقوس الفارغة والعادات غير المعقولة.ثم ذكر أهل مكة بأبيهم إبراهيم وقال : إن أباكم هذا كان مسلمًا ومطيعا الله ل، فعليكم باتباع خطوات أبيكم، والعمل بأسوته.بعد ذلك خاطب اليهود والنصارى وقال لهم إنكم أيضًا قد غيرتم دينكم، فعليكم أن تصلحوا أنفسكم ولا تزدادوا ضلالاً وغوايةً، مغترين بما آتاكم الله من نعم الحياة ومتع الراحة.وأخيرًا نبّه الله ورسوله الكريم لا لا لو أن نطاق دعوتك سوف يتسع ليشمل اليهود والنصارى أيضًا، لذا نؤتيك من الآن بعض الأوامر والتعاليم في شأنهم.ثم قال الله للمسلمين كان أهل مكة وحدهم الذين يضطهدونكم إلى وعمل الآن، ولكن عن قريب سوف يبدأ اليهود والنصارى في العدوان عليكم، فيجب
الجزء الرابع ۱۸۹ سورة النحل أن تتمسكوا بأهداب الصبر والرحمة عند عدوانهم أيضا، ولكن لا تحزنوا على هلاكهم حينما يقرر الله عذابهم.كما قال للمؤمنين إن النصر سيكون حليفكم في الصراع مع أهل الكتاب أيضًا.
الجزء الرابع ۱۹۰ سورة النحل و حِمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الكلمات : شرح فلا تستعجلوه: استعجله : طلب عَجَلتَه و لم يصبر إلى وقته، ومنه يقال: مَرَّ فلان يستعجل أي يكلّف نفسه العجلة استعجل فلانًا: سبقه وتقدمه (الأقرب).سبحانه: سبحان الله : أي أُبرّئ الله من كل السوء براءةً (الأقرب) يشركون : أشرك بالله : جعل له شريكا (الأقرب) التفسير : لقد سبق أن أخبرتُ أن الله تعالى قد قال في آخر السورة السابقة أي الحجر : وإن الساعة الآتية ، والآن قال: أتى أمر الله..أي أن الساعة قد جاءت تقرع الأبواب.مع العلم أنه من أسلوب القرآن استخدام صيغة الماضي أحيانًا للتأكيد على وقوع الخبر أو على اقتراب موعده.أمرُ الله يمكن أن يفسّر هنا بمفهومين: الوعيد الذي تكرر ذكره في السور السالفة، أو الوعد المشار إليه في قوله تعالى: واخفض جناحك للمؤمنين؛ وكلا المعنيين ينطبق هنا في وقت واحد، حيث قيل للرسول : لقد حان هلاك الكفار، كما آن الأوان لأن تربّي أتباعك بشكل كامل وفي حرية تامة.وأما قوله تعالى فلا تستعجلوه فله أيضًا مفهومان: الأول: لا حاجة لكم، ها الكفار أن تستعجلوا العذاب الآن، فهو قد جاء يقرع أبوابكم؛ والثاني: کنتم تقولون للمؤمنين أين هو نظامكم الجديد الذي وعدتم به، فها قد حان توطيد هذا النظام، فلا داعي لأن تستعجلوه.
الجزء الرابع ۱۹۱ سورة النحل إن قوله ل أتى أمر الله يبين أن هذه السورة شرح للنبأ الوارد في سورة الحجر السابقة وتكملة لموضوعها.ووجود هذه السورة في هذا المكان من المصحف يكشف أن تدوين السور القرآنية قد تم وفق مواضيعها لا بحسب طولها أو قصرها..كما يزعم بعض الذين تنقصهم المعرفة الحقيقية.(Everymans Encyclopaedia V.v.٥٢٤: Koran) أخذ لقد نزلت سورة النحل في أواخر الفترة المكية من البعثة النبوية حين المسلمون في الهجرة من مكة نتيجة اضطهاد الكفار وعدوانهم عليهم، وقد تحدثت هذه السورة عن الهجرة بكلمات صريحة.لقد اختلف المفسرون في تحديد هذه الهجرة: أهي تلك التي تمت إلى المدينة أم إلى الحبشة ؟ فقال بعضهم إنها هجرة الحبشة.بينما قال الآخرون إنها هجرة المدينة بعـــث عندها النبي عمر إلى المدينة.ويرى غيرهم أنها نفس الهجرة التي خرج فيها النبي ﷺ قاصدًا المدينة.وعندي إنها ليست هجرة الحبشة لأنها كانت قد بدأت قبل نزول هذه السورة بعدة سنوات وأيضا لأن الهجرة إلى الحبشة لا يمكن أن تُعتبر مصداقا لقوله تعالى أتى أمرُ الله، لأنه تعالى لم يُظهر جلاله وقهره على الكفار عند تلك الهجرة.كما أن قوله تعالى أتى أمرُ الله يمثل ردًّا على اعتراضات الكفار التي أثاروها طعنًا في سورة الحجر، والتي أثيرت معظمها بعد الهجرة إلى الحبشة.ولذلك كله أرى أن قوله تعالى هذا نبأ عن هجرة النبي الله إلى المدينة عن قريب، أو إشارة إلى خروج بعض الصحابة إليها إذ كان خروجهم أساسا قويا لهجرة المدينة.وكأن قوله تعالى أتى أمر الله إيذان بأن تأثير الوحي المشار إليه في السورة السابقة سوف يظهر للعيان في فترة قريبة جدًّا.وأما قوله تعالى سبحانه فالمراد منه أننا يا محمد كنا أمرناك في السورة الماضية: فسبح بحمد ربك..أي دع النقاش العام وانهمك في تسبيح الله ل وكشف سبوحيته على المؤمنين، فقد آن الأوان لظهور سبوحية الله في الدنيا.
الله ۱۹۲ تعالى في حالة عدم سورة النحل الجزء الرابع و مما يشكل دليلاً آخر على وجود ترتيب وترابط في مضامين القرآن ومعارفه أن الله جل وعد في السورة السابقة : وإن الساعة الآتية، ثم في هذه السورة أخبر باقتراب هــــذا الوعد فقال: أتى أمر الله.كما أنه تعالى أمر رسوله في آخر السورة السابقة فسبح بحمد ربك، وبشره الآن في مستهل هذه السورة قائلاً: (سبحانه..بمعنى أن جهودك التي تبذلها لإظهار سبوحية الله لن تضيع بل قد حان أن تظهر على يدك سبوحيتُه أي براءته من كل ما يثار ضد ذاته تعالى من مطاعن واعتراضات.وكأن قوله تعالى أتى أمر الله رد على الاعتراضات التي كانت ستثار ضد تحقق قوله عل إن الساعة الآتية، وأما قوله تعالى سبحانه فيمثل دحضًا لما قد يثار ضد النبي من اعتراض في حالة عدم تيسر الظروف التي تتيح لـه حرية العمل بقوله تعالى فسبح بحمد ربك.وأما قوله وتعالى عما يشركون فيعني أنه وعمل أسمى من أن تحول أعمالهم الوثنية دون نفاذ قضائه، لأن آلهتهم الباطلة لا تقدر على تغيير القرار الإلهي.هذه الآية تكشف جليا الفرق بين وحي الله الخالص وبين افتراء البشر.ذلك أن أهل الدنيا إذا كانوا ذوي قوة ومنعة هدّدوا دائما بأنهم سيأتون بخيلهم ورجلهم، أو إذا كانوا ضعفاء اشتكوا من قلة الأعوان والأنصار وقالوا: ليس معنا أحد وإلا لفعلنا كذا وكذا.وهذا ما فعله "البهاء" الذي ادعى الألوهية، وأرجع عدم نجاحه إلى كونه وحيدًا قليل الأعوان والأنصار.(المبين ص ٢٨٦) ولكن الله الحق يركز دائما على كونه وحيدًا، ويسخط على الذين يجعلون له شركاء يساعدونه، ويغضب على الذين يزعمون أن له بنين أو بنات أو وزراء؛ مما يكشف على الدنيا قدرته حقا.فبينما تشكو الآلهة الباطلة من قلة الأعوان والأنصار..يتخذ الإله الحق وحدانيته دليلاً على صدقه الله.
الجزء الرابع ۱۹۳ سورة النحل يُنزَلُ الْمَلَيكَة بالروح مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (3) شرح الكلمات الروح راجع شرح الكلمات للآية رقم ٣٠ من سورة الحجر.يسمى التفسير: الروح هنا تعني الكلام الذي ينفخ الحياة في أهل الدنيا.كما الأمر بالنبوة أيضا روحًا.ويُطلق الروح على وحي الأنبياء والمأمورين لأنه ينفخ الحياة في أهل الدنيا.علما أن الوحي نوعان : نوع يخص من يتلقاه فقط، ولا يؤمر صاحبه بنشره بين الناس، وإن جاز له أن يخبر به الآخرين؛ ونوع آخر فيه منفعة الناس، ولذلك يُؤمر صاحبه بنشره بين القوم، بل يُعدّ محرماً إذا لم يقم بنشره فيهم؛ وهذا الوحي يتلقاه الأنبياء والرسل، وقد أشير في هذه الآية إلى هذا النوع من الوحي، والدليل عليه قوله تعالى أن أنذروا.وقد أشار بقوله تعالى من أمره إلى أمرين أحدهما أن الملائكة لا يستطيعون إنزال الوحي بأنفسهم، وإنما ينزلون بأمر الله تعالى ويتزلون بكلامه لله الذي أراد أن يبعثهم.به وثانيهما أن الوحى المقصود هنا ما يكون من أمر الله..أي يكون مشتملاً على الأوامر والنواهي من عند الله، وهذا أيضا يؤكد أن الحديث هنا يدور حول وحي النبوة الذي يتلقاه الأنبياء عليهم السلام.ثم إن قوله تعالى من أمره إشارة إلى قوله أتى أمر الله، وكأنه قال: إن إتياننا بأمرنا هو من سنتنا المستمرة مع الأنبياء جميعًا ، فإننا نرسل إلى كل منهم الملائكة بوحينا الذي يشتمل على أمرنا أي على قرارنا بهلاك الكفار وازدهار المؤمنين.فما من نبي إلا ويأتي بخبر هلاك قوم ورقي قوم آخرين.
الجزء الرابع ١٩٤ سورة النحل كما أن قوله تعالى من أمره يؤكد ضرورة الإيمان بكل نبي، لأن وحي النبوة يحتوي على الأوامر الإلهية، فإنكار أي نبي ليس إنكارًا لــه فقط، بل هو إنكار لله الذي أنزل عليه ذلك الوحي.وقد تكون من الواردة في قوله تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره بعضية، والمراد أننا لم ننزل أحكامنا كلها في وقت واحد وعلى نبي واحد، بل أنزلناها على أنبياء كثيرين في عصور مختلفة بحسب حاجاتها ومقتضياتها.فلا قيمة لاعتراض الكفار ما الداعي لبعث محمد رغم مجيء كثير من الرسل من قبل؟ فكما حدث في الماضي أن مست الحاجة لبعث نبي رغم مجيء كثير من يعبدونه الأنبياء من قبل كذلك قد مست الحاجة لبعث محمد رغم الأنبياء السابقين.أما العباد المذكورون في قوله تعالى على من يشاء من عباده فهم عباده الذين حقا، وليس كل واحد من البشر.وفيه تنبيه من الله الله إلى أن النبوة - رغم كونها هبة إلهية - لا يتشرف بها إلا الذين هم عباد الله حقا.وكأن هبة النبوة أيضًا مشروطة بشرط معين وهو أن يكون الإنسان عبدا حقيقيًّا الله تعالى، وهي ليست من الهبات التي ينالها الناس بدون الوفاء بأي شرط.وقوله تعالى من عباده دليل عظيم على التوحيد، حيث وضح أن النبوة لم توهب إلا لمن كان من زمرة عباد الله أي من الموحدين له.فإذا كان الشرك جائزاً فلم لم نجد بين الأنبياء نبيًّا واحدا كان عبدا غير مخلص الله تعالى، أي يعبد الله آلهة أخرى؟ فمن أقوى البراهين على وحدانية الله أنه لم يأت أي نبي كان مشركًا، فلا ندري بماذا يبرر المشركون عقائدهم الوثنية! كما أن قوله تعالى على من يشاء من عباده إيماءة إلى أنه عمل لا يجعل أحدًا نبيًّا وفق رغبة الناس واختيارهم، بل يصطفيه بحسب رغبته ومشيئته هو.وما دام الأمر هكذا فلا بد أن يختلف الناس في أمره فلا قيمة لقول الكفار: لماذا تتعارض أفكار النبي ومبادئه مع عقائد القوم ونظرياتهم؟ إن قولهم هذا ليس إلا دليلا على جهلهم وغبائهم فحسب.مع
الجزء الرابع ۱۹۵ سورة النحل أما قوله تعالى ينزل الملائكة فاعلم أن من معاني التنزيل إنزال الشيء بالتدريج ومرة بعد مرة..وقد بين الله ل بذلك أن الوحي ينزل على كل نبي بالتدريج دائمًا.وهكذا فإن هذه الآية تردّ على معارضي الإسلام - ولا سيما الكتاب النصارى - الذين يعترضون على النبي بقولهم: إن نزول القرآن شيئًا فشيئًا دليل على كونه من افتراء محمد، إذ كان يؤلفه من عنده بحسب الحاجة.والحق أن قولهم هذا دليل على جهلهم الشديد بسنة الله مع أنبيائه الجارية على مر العصور.إذ ليس بين الأنبياء أحد عرَض على الدنيا كتابه الكامل دفعة واحدة.إن صحف وأحداث عليهما السلام كلها تشكل عیسی موسی برهانا ساطعا على أن الأوامر والتعاليم التي أعطاها الله الدنيا بواسطة الأنبياء إنما أنزلها عليهم بالتدريج في فترة طويلة.فما يعترض به هؤلاء على نبينا محمد ﷺ يَردُ نفسه على موسى وعيسى أيضًا.ولكن الحق أن اعتراضهم باطل تماما، لأن التعليم الإلهي..الذي يكون مخالفًا للنظريات السائدة في العالم ويهدف القضاء عليها والترويج لعقائد جديدة..يجب نزولــه بالتدريج في فترة طويلة، لكي يتمكن الناس من العمل به بسهولة ويسر، ولكي يترسخ في أذهانهم بشكل جيد.وإلى هذا المعنى أشار الله بقوله تعالى في مكان آخر وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآنُ جُملةً واحدةً كذلك لنثبت به فُؤادَك ورتَّلْناه ترتيلاً) (الفرقان: ٣٣)..أي أن الغرض من إنزال القرآن تدريجيًّا أن نقوي به قلبك..أي أن تتمكن أنت وأتباعك من استيعاب القرآن بالعمل به جيدا، وأيضا لكي تزدادوا إيمانًا بسماع الوحي الذي يذكركم بما قد تحقق من أنبائه السابقة.وأي شك في أن الإشارة إلى الأنباء السابقة المتحققة يزيد المؤمنين القدامى والجدد إيمانًا مع إيمانهم، ولكن إذا اشتمل الوحى على الأنباء من دون الإشارة إلى تحققها فلا يشفي غليل المؤمنين، وإنما يظلون محتاجين إلى كتب أخرى.وقوله تعالى أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتَّقُون) خلاصة للتعاليم السماوية جمعاء.ذلك أنه مما لا شك فيه أن تعاليم الأنبياء تختلف في تفاصيلها، ولكنها
الجزء الرابع ١٩٦ سورة النحل كلها تتمحور حول محور واحد ألا أن الله وهو واحد؛ وهذا هو ملخص الدين ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة قال قال لي رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة، أعلن بين الناس : مَن شهد أَنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ فله الجنة.فكان أوّلَ مَن لقيتُ عمر، فأخذني إلى رسول الله الا الله وقال : أبعثت يا رسول الله ﷺ أبا هريرة ليُعلن بهذا بين الناس؟ قال : نَعَمْ.قال : فلا تَفْعَلْ فَإِني أَخْشَى أَنْ يَتَّكل الناسُ عليها، فخَلّهم يعملون.قال رسول الله الله : فَخَلّهم (انظر مسلم: كتاب الإيمان، باب ﷺ: الدليل على أنه من مات على التوحيد دخل الجنة).وهذا لا يعني أنه لم ير هذا الإعلان ضروريًّا، إنما المراد أن الإعلان قد تم لمن كانوا قادرين على فهم ،مغزاه وسوف يدركون أن لا إله إلا الله) هو إعلان يشمل أحكام الشرع كلها، وأما الآخرون الذين سيخطئون فهمه فلا حاجة لإبلاغهم بهذا.أما قوله تعالى (فاتقون) فأصلُه (فاتقوني)، وهو افتعال من وقى يقي وقاية؛ والمراد عليكم أن تتخذوني أنا وسيلة لحمايتكم؛ وليس أن تخافوني كما يخاف الناس من الأشياء الضارة؛ ذلك أن الله جل نفسه يحب العباد ويحثهم على التقرب إليه الله.خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالْحَقِّ تَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤) شرح الكلمات: الحق حقه حقا: غلبه على الحق.حقٌّ الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين منه.حَقَّ الخبر: وقف على حقيقته.والحق ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العَدلُ.الملك؛ الموجود الثابت؛ اليقين بعد الشك؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).التفسير : لقوله تعالى: خلق السماوات والأرض بالحق معنيان: الأول: أنه حدد لكل واحدة منهما حقها ونصيبها من العمل، بمعنى أنه تعالى أناط إنجاز
الجزء الرابع ۱۹۷ بعض المهام بالسماوات وبعضها الأخرى بالأرض، لكي تأتي الاثنتان التفاعل بينهما بالنتائج المنشودة.سورة النحل خلال من والمعنى الآخر هو أن الله و قد خلق كل واحدة منهما بحكمة بالغة، وفيه تنبيه للإنسان أن لا شيء غير الله تعالى كامل في حد ذاته؛ فالسماء بحاجة إلى الأرض للقيام بالمهام المنوطة بها، كما أن العكس أيضًا صحيح تماما؛ وأن الله هو الذي سخر كل شيء كما أراد.وبين بقوله تعالى عما يُشركون أن الذي لا يؤمن بأن السماوات والأرض قد خُلقتا بالحق والحكمة فلا شك في أنه مشرك؛ إذ من المستحيل أن يقول أحد من العقلاء إن الله خالق الكون بلا شك، ولكنه خلقه بدون أي هدف أو غاية.ذلك أنه إذا كان الله هو خالقه فلا بد أنه خلقه بالحق والحكمة..أي جعل لخلقه هدفًا وغايةً وأما إذا قبلنا أن ليس وراء خلق الكون غاية فلا يمكن القول إن الله خالقه، وإنما نضطر للقول أن الكون وُجد بنفسه، وهذا أن كل ذرة من الكون شريك مع الله تعالى لأنها ستعتبر عندئذ أزليةً مثله سيعني سبحانه وتعالى.وقد تعني الآية أننا خلقنا السماوات والأرض بحق..بمعنى أننا نحن الذين خلقنا المادة الأولى لهما، لذلك نملك حق التصرف فيهما.وهكذا تبطل هذه الآية زعم الذين يقولون من جهة أن الله ليس خالقا لمادة السماوات والأرض، ومن جهة أخرى يقولون إنه تعالى هو الذي تصرف في هذه المادة الأولى وصنَعَ منها الكون ستيارث بركاش (ترجمة (أردية ص (٢٧٤.مع أن الذي لا يملك الشيء لا يحق لـه أن يتصرف فيه، وأن يُخضع تحت حكمه هذا الموجود بذاته، لأن مثل هذا التصرف ظلم وعدوان.ثم إن مثل هذا الظن إشراك بالله تعالى، إذ يؤدي بنا إلى الاعتقاد بوجود كائنات لا حصر لها منذ الأزل إلى جانب الله سبحانه وتعالى.
الجزء الرابع ۱۹۸ سورة النحل خَلَقَ الْإِنسَنَ مِن نُّطْةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (٤) شرح الكلمات : نطفة: النطفة: الماء الصافي قل أو كثر، تقول: سقاني نطفة عذبة؛ وقيل: قليلُ ماء يبقى في دلو أو قربة؛ البحرُ؛ ماء الرجل والمرأة، وجمعه نُطَفٌ ونطاف (الأقرب).خصيم الخصيم المخاصم، جمعه خصماء (الأقرب).التفسير: يخبر الله وعل هنا أننا بعد أن خلقنا السماوات والأرض وفق خطة معينة خلقنا الإنسان وأنزلنا له التعليمات كحق لنا.ورغم أننا نحن الذين قمنا بتطوير خلق الإنسان من مادة حقيرة وجعلنا فيه القوى العظيمة والكفاءات الهائلة، إلا أنه أخذ في نكران هذا الجميل، وبدأ يخاصمنا في حقوقنا وقدراتنا زاعما أنه حرّ، وأنه من المستحيل أن يخلق الله الوجود من العدم، وإنما خُلق الكون بنفسه؟ وكذلك يدّعي أن الله لم يخلق المادة الأولى للكون، وإنما تصرف فيها على سبيل الظلم والعدوان وخلق بها الكون لنفسه! وآخر يقول: بأي حق الله الأوامر والتعليمات؟ أنا حر، وسوف أختار بنفسي منهجًا وقانونًا يؤتيني لحياتي.كما تبين هذه الآية أن الإنسان رغم خلقه من هذه المادة الحقيرة جدا يصاب بالزهو والغرور بنفسه لدرجة يتجاسر على الخصام مع الله تعالى من ناحية، ولكنه من ناحية أخرى يطعن في أنبياء الله الكرام قائلاً: كيف يمكن أن يصلوا إلى هذا المقام الرفيع؟ إنه يتناسى أن الله الذي خلق – من نطفة حقيرة – هذا الكائن المغرور بذكائه والمتخاصم مع الله تعالى..لقادر على أن يرفع إنسانًا وضيعًا حقيرًا فيما يبدو، ويمنحه من الشرف والكمال ما يجعله يطيع الله تعالى ويدعو الآخرين إلى طاعته وعل.
الجزء الرابع ۱۹۹ سورة النحل كما تتضمن هذه الآية الإشارة إلى أن المنطق السليم يرفض أن يكون الهدف من خلق السماوات والأرض خلق كائن كافر لنعم الله تعالى؛ كلا بل لا بد أن يكون الهدف أسمى من ذلك.وتحقيقا لهذا الهدف السامي عندما يبعث الله تعالى أحدًا إلى الدنيا يستغرب أهلها ويتعجبون! لماذا بعث؟ وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَتَاعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ شرح (3) الكلمات دفء: دَفى يدفاً دَفَاً ودُفوءًا ودَفَوَ يدفو دَفاعةٌ من البرد: تَسخَّنَ ووجد الحرَّ.الدفء: نقيضُ حدة البرد الدفء من الحائط: كنه، يقال: اقعد في دفء هذا الحائط أي كنه.والدفء: ما أَدْفَاً الأصواف والأوبار (الأقرب).من منافع: جمعُ منفعة وهي: اسمٌ من النفع؛ كلّ شيء يُنتفع به (الأقرب).التفسير : لقد رد الله وعل هنا بأسلوب جد لطيف على خصومة الإنسان في صفاته تعالى، فقال: نحن خلقناك ومع ذلك تدّعي أنك متحرّر من طاعتنا، بينما تتصرف أنت بأشياء ما خلقتها أنت وتستغلها لصالحك أيما استغلال، حتى إنك لا تتورع عن قتلها أحيانًا، بحجة أنك أفضل من هذه الحيوانات، فلا بأس في تسخيرها بل في ذبح الأدنى من أجل الأعلى.فلو جاز هذا المنطق فكيف يسوغ لك أيها الإنسان الاعتراض على حكمنا أو حكم رسلنا؟ لم لا تطبق على نفسك المبدأ الذي تطبقه على الله ورسله؟ وهناك معنى آخر لهذه الآية وهو أن الكفار لما اعترضوا من قبل: كيف يمكن أن يُنزل الله كلامه على عبده هذا الحقير ردّ الله عليهم: إذا شرفنا بالنبوة من ترونه حقيرًا فما وجه الاعتراض والاستغراب في ذلك؟ ألم تروا أننا قد رفعناكم
الجزء الرابع ۲۰۰ سورة النحل إلى مقام رفيع بين المخلوقات بالرغم من أننا قد خلقناكم من نطفة حقيرة؟ وأما في هذه الآية فيرد الله الا الله على اعتراض آخر قد يطعن به الكفار في قول الله تعالى أن أنذروا قائلين: كيف يمكن أن يشمل الله بعنايته أناسًا آثمين محتقرين مثلنا، ويُنزل وحيه لمصلحتنا ؟ فيقول الله لهم حينما نشملكم بعنايتنا ونهيئ لكم الغذاء المادي فلا ترونه منافيًا لعظمتنا، ولكن عندما نزوّدكم بالغذاء الروحاني تستغربون وتقولون: كيف يمكن أن يشرف الرب العظيم هذا الكائن الحقير بإنزال كلامه من أجله؟ العجيب أن أعداء الحق ما زالوا يوجهون إلى رسلهم مثل هذه المطاعن المتناقضة.فمن جهة يقولون : كيف اختار الله هذا الشخص الحقير من بيننا؟ وإذا كان لا بد من اختيار أحد فلم لم يختر أحدًا من علية القوم؟ ومن جهة أخرى يقولون: إن الله وعمل أسمى من أن يوجه عنايته إلى الإنسان..هذا الكائن الحقير، فيشرفه بإنزال الكلام من أجله.والاعتراض الأخير يثار من قبل الفلاسفة خاصة، ولكن كلا الاعتراضين باطل في الحقيقة ومتعارض مع الآخر، لأن أحدهما يدل على تفاخرهم وتعاليهم على الأنبياء، بينما الآخر اعتراف منهم بحقارة شأنهم.فثبت أنهم في الواقع يريدون بذلك التهرب من الإذعان لما ينزل الله في الوحي من أوامر وتعليمات.وأما قوله تعالى ومنها تأكلون، فقد قدّم فيه كلمة منها من أجل التخصيص.وقد يعترض على ذلك أحد فيقول : ألا يأكل الإنسان لحم الحيوانات الأخرى علاوة على لحم الأنعام، أو ألا يأكل الخضار، فكيف التخصيص؟ والجواب أن التخصيص يفيد الحصر تارةً كما يفيد الإشارة إلى الأهم والأفضل، وقد جيء به هنا للغرض الثاني، والمعنى أن غذاءكم الرئيسي يأتي من لحوم وألبان هذه الأنعام وما شاكلها كالبقر الوحشية والغزلان.مما لا شك فيه أن الديك والطيور الأخرى التي تصيدونها أيضًا مصدر غذائكم، ولكنها مصدر ثانوي.يصح هذا
الجزء الرابع ۲۰۱ سورة النحل لقد ذكر الله وعل هنا طريقين لاستهلاك الأنعام ذكرًا واضحًا: أولهما جلودها وأصوافها التي تُستخدم اتقاءً من الحر والبرد، وثانيهما لحومها وألبانها التي تستعمل كغذاء؛ بينما أشار لالالالالالاله إلى منفعتها الثالثة بكلمة منافع التي قد تعني تجارة هذه الحيوانات أو استخدامها للتوالد والتناسل.وَلَكُمْ فِيهَا جَمَال حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) شرح الكلمات : جمالٌ: الجَمالُ: الحسن في الخلق والخلق (الأقرب).تريحون : أراح الرجلُ إراحةً وإراحًا: راحت عليه إبله وغنمه وماله، ولا يكون إلا بعد الزوال.وأراح الإبل والغنم: ردَّها إلى المراح (الأقرب).:تسرحون سرّح الراعي المواشي : أسامها أي أرسلها ترعى (الأقرب).التفسير: أي تعتبرون هذه الحيوانات مدعاة فخر وشرف لكم، وتتباهون قائلين: عندي كذا وكذا من البقر والجمال والغنم والخيل.فما دمتم تعتبرون ما تملكونه سبب فخر وجمال لكم ، مع أنكم لم تخلُقوه، فكيف ظننتم بالله تعالى أنه خلق الإنسان ثم تركه سُدًى، حتى بدأ يطعن في الله بدلاً من أن يسبح بحمده الله ويقـــدس لـه ، وأصبح مثار اعتراض على خالقه عوضا أن يكون سببًا في انکشاف عظمته وجلاله سبحانه وتعالى؟ هلاً فكرتم أن الله الذي خلق الإنسان يود أن يكون مخلوقه هذا سببًا في جلاء حسنه وجماله..أي أن يكون الإنسان ذا خلق ودين حتى يقال: تبارك الله الذي خلق هذا الكائن الجميل.من الملفت للنظر أن الله تعالى قال ولكم فيها جمال حين تُريحون وحين تسرحون، فقدم تريحون وهو الرجوع بالماشية مساء، على تسرحون وهو إرسالها في الصباح لترعى ؛ فلماذا عكس الترتيب الطبيعي يا ترى؟ ذلك أن
الجزء الرابع ۲۰۲ سورة النحل الله لا يركز هنا على بيان موضوع الحسن والجمال، والواقع أن منظر الماشية حين رجوعا في المساء بعد الرعي يكون أجمل منه حين خروجها في الصباح؛ ذلك لأنها تكون لدى رجوعها أشبع بطنا وأكثر نشاطًا بعد أن أخذت نصيبها من الكلأ والتجوال في الخارج بحرية؛ ولأنها عندما تخرج في الصباح تنتاب أصحابها شتى المخاوف كأن يشرد بعضها ويضيع يشرد بعضها ويضيع أو يفترسها وحش كاسر؛ ولكن عند رجوعها في المساء سالمة يطمئنون بالا ويشعرون في داخلهم بنوع من الفخار.وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ج الأنس إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (٢) شرح الكلمات: شق: الشق: المشقة (الأقرب).أن رءوف رأف يرأف ورئف يرأف رأفةً: رَحمَ أشدَّ الرحمة (الأقرب).الواقع الرأفة واحد من أسباب كثيرة للرحمة، فهي في الحقيقة عاطفة الشفقة التي تتولد ب عند رؤية أحد في مصيبة أو ألم.فكون الله و رءوفا يعني أنه لا ستطيع يرضى أن يرى العباد في الآلام، لذلك هيأ لهم أنواع المرافق والتسهيلات.التفسير: يخبر الله تعالى هنا أنه لولا هذه الحيوانات لتكبدتم المشقة في نقل أثقالكم.فهلا فكّرتم أن الله الذي هيّأ لسفركم المادي هذه المرافق والتسهيلات..كيف يمكن أن لا يهيئ الوسائل والمرافق لرحلتكم الروحانية؟ فلم تستغربون لدى رؤية ما هيأه الله لكم من وسائل لسفركم الروحاني، وتقولون: من المحال أن يولي الله كائنا حقيراً مثل الإنسان هذا الاهتمام.لا شك أن قولكم أن الله أعظم من أن يتكلم مع الإنسان ليس إلا خداعًا وفراراً من تحمل المسئولية.إنكم
الجزء الرابع ۲۰۳ سورة النحل تنسون أنه عل إذا كان عظيمًا فإنه رعوف ورحيم أيضًا؛ والعظماء ذوو الرأفة والرحمة لا يعافون مساعدة الضعفاء، لأن هذا لا ينقص من عظمتهم شيئا، بل يشكل دليلاً على عظمتهم.رج وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (4) شرح الكلمات: الخيل: جماعة الأفراس لا واحد له (الأقرب).البغال : جمع البغل وهو حيوان أهلي للركوب والحمل، أبوه حمار وأمه فرس، ويتوسع فيه فيطلق على كل حيوان أبوه من جنس وأمه من آخر (الأقرب).الحمير : جمعُ الحمار، ويُجمع أيضًا على أحمرةٍ وحُمُرٍ (الأقرب).التفسير : جاءت كلمة زينة ) هنا منصوبة لكونها مفعولاً لأجله لفعل خَلَقَ المذكور من قبل.وليست الزينة هنا الزينة العادية، إذ قد سبقت الإشارة إليها في قول الله ولكم فيها جمال، بل المراد منها هنا القوة والشوكة والرعب، لأن الخيل والبغال والحمير تساعد الأمم في الحروب على إظهار القوة وبث الرعب.يذكرنا الله تعالى هنا أنه خلق لنا نوعين من الحيوانات: نوع يغذينا بلحومه وألبانه، كما يقينا من الحر والبرد بجلوده ،وأصوافه ويتسبب في عزنا وشرفنا، وأيضا يساعدنا على نقل أثقالنا من بلد إلى آخر ؛ ويشتمل هذا النوع على الجمال والبقر وغيرهما مما نستعين به في حاجاتنا الأهلية اليومية.والنوع الآخر هو ما نستعين به في حاجاتنا السياسية والحربية كالخيل والبغال والحمير.
الجزء الرابع ٢٠٤ سورة النحل إذن فقد ذكرت هنا ست منافع لنا في هذه الحيوانات جميعًا: الغذاء، الكساء، العز والجاه، حمل الأثقال، الركوب، وكونها مدعاة للقوة والمنعة.وكأن الله تعالى يذكرنا أننا قد قمنا بسد حاجاتكم المادية الست هذه، فكيف تظنون أننا سنتغافل عن سد ما يماثلها من حاجاتكم الروحانية؟ كما نبه عمل بهذه الآيات أنكم تسخّرون هذه الحيوانات لصالحكم مع أنكم لم تخلقوها، وأما الله الذي خلقكم والذي ليس لـه من حاجة إليكم فتدعون أنه لا حق لـه في إصلاحكم حتى تكونوا برهانا ساطعا على سبوحيته وقدوسيته وعظمته عل؟ ج وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَابِرٌ وَلَوْ شَاءَ هَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٢) شرح الكلمات: قصد : قَصَدَه وله وإليه : اعتزم عليه وتوجه إليه؛ اعتمد عليه.وقصد في الأمر: ضد أفرط.والقصد: استقامة الأمر؛ نقيضُ الإفراط.وعلى الله قصد السبيل أي بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق (الأقرب).جائر: جار يجور جَوْراً مالَ عن القصد والجائر : الحائد عن القصد؛ الزائغ عن الطريق؛ الظالم (الأقرب).التفسير : المراد من قوله تعالى : وعلى الله قصد السبيل أنه حق على الله بيان قصد السبيل.وقد ذكر القرآن هذا المعنى في موضع آخر في قوله تعالى إن علينا لَلْهُدى (الليل: ۱۳).وفي هذا تأكيد أن الله كل وحده قادر على أن يدل على الطريق الخالي من الإفراط والتفريط، أما ما يصفه البشر من مناهج فلا تخلو من العيب أبدًا.وقد تح بذلك أن كل البشر – إلا الذي يكون تحت رعاية الله الخاصة – فيهم
الجزء الرابع ٢٠٥ سورة النحل نزعة العصبية والانحياز بشكل أو آخر بسبب حبهم لأحد أو لبغضهم لآخر، وأن كل القوانين والتعاليم التي يسنّها البشر يعوزها العدل الكامل دائمًا، حيث يسلبون بها حقوق البعض ويمنحون البعض الآخر أكثر مما يستحق.فثبت أنه من المستحيل لأحد أن يسن قانونًا خاليًا من العيوب إلا الله الذي ليس بحاجة إلى أحد، بل الجميع عباده وسواسية عنده.كم هي جلية هذه الحقيقة إذ لا يزال الإنسان يسن القوانين منذ آلاف السنين، ولكنه يهضم فيها حقوق البعض ويمنح البعض أكثر من حقهم.يمكن أن تنظروا إلى الخلافات السياسية السائدة في العالم فبعض الحكومات تسلب حقوق العمال وبعضها الأخرى تعطيهم كل شيء وتنهب من الآخرين جميع حقوقهم الإنسانية.ذلك لأن الإنسان عبد العواطفه التي لا بد أن تؤثر فيه حينما يسن أي قانون، فلا يراعي عواطف جميع الناس ولا مشاعرهم، بل إنه لا يستطيع ذلك.وعلى سبيل المثال، من يميل إلى الرهبانية يرى الكفَّ عن التمتع بنعم الدنيا عملاً حسنًا، بينما الطمّاعُ في الدنيا يعتبر الرقي المادي هو الحسنة بعينها.فلا يمكن إذن أن يخلو من عيب الإفراط والتفريط سوى التعليم الذي ينزل من عند من خلق البشر، والذي يعلم بما في البشر من مشاعر وأحاسيس، فيراعي في تعليمه مشاعر الجميع إلى حد معقول.لقــد تــبين مما سبق بيانه أنه لا بد أن يكون كل وحى سماوي متحليا بالمزايا الست التالية: ١ - أن ينفع ككساء يقي من تأثيرات الحر والبرد، أي أن يكون خاليا من الإفراط والتفريط؛ فلا تكون فيه برودة قلة الحب الإلهي، كما يجب أن لا تكون فيه حرارة الظلم والعدوان باسم الدين بحيث يُكره الناس على قبوله قسرا؛ بل من واجب الوحى أن يولّد حب الله حل في قلوب المؤمنين من جهة، ومن جهة وعمل أخرى يدعوهم لاتباع الطريق الوسط في سلوكهم.
الجزء الرابع ٢٠٦ سورة النحل ٢ - أن ينفع كغذاء، أي أن يحتوي على طاقات روحانية لازمة، بمعنى أن يكون فيه من التعاليم ما يرغب الإنسان عن السيئة، ومن العقائد ما يُصلح حالته ويشحنه بالقوة الروحانية.٣- أن يكون مجلبة للحسن والجمال، أي أن يُضفي على العاملين به جمالاً وبهاءً وعل حتى تشعر الدنيا بأن هذا التعليم قد أحدث في هؤلاء القوم انقلابا طيبًا.٤ - أن ينفع كمطية، أي أن يُكسب العامل به معرفةً روحانية توصله إلى الله بسرعة، فلا تبقى رحلته الروحانية شاقة عليه ولا طويلة أكثر من اللازم.- أن يحمل هذا الوحي أثقال العاملين به، بمعنى أن يولد فيهم الإحساس بواجباتهم، ويفك عنهم أصفاد التقاليد الفارغة وأغلال العادات الضارة، حتى يتمكنوا من أداء واجبهم بحرية تامة.٦- أن يمنح المنعة والشوكة، أي أن ينال العاملون به شرفا وغلبة في الدين والدنيا؛ فيستتب نظامهم القومى الذي يعيشون في ظله في عز ووقار، كما ينالون الدرجات العلا في الآخرة.فالكلام الذي يتسم بهذه المزايا الست يستحق وحده أن يسمى وحي قد يقال هنا: أي حاجة للوحي الإلهي، فكل إنسان يستطيع أن يبحث عن الصراط المؤدي إلى الله تعالى ويصل إليه الله؟ ولقد رد الله على هذا بقوله ومنها جائر..أي أنكم بأنفسكم تسلّمون بأن بعض الطرق خاطئة تنحرف بسالكيها عن غايتهم؛ فلولا أن الله قد تولى الله الحق.بنفسه هداية الناس إلى الطريق الصحيح لسلك كثير منهم طرقًا خاطئة وهلكوا.الغريب أن الإنسان يقرّ من جهة أن هناك طرقا خاطئة وعادات فاسدة وأن البعض يتبعونها، ومن جهة أخرى لا يرى أي حاجة لنزول الهدى الإلهى ! والضمير في منها راجع إلى كلمة السبيل) التي تُستخدم مذكرًا ومؤننا أيضًا؛ ومثال استخدامها مذكرًا هو قوله وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا (الأعراف: ١٤٧).ومثال استخدامها =
الجزء الرابع ۲۰۷ سورة النحل کمؤنث هو قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)) (يوسف: ١٠٩)، غير أن بعض اللغويين يرون أن (السبيل مذكر ، ولكنه قد ورد هنا مؤنثا بمعنى المحجة (الأقرب).28 معنی وقد بين الله وعمل بإرجاع ضمير منها إلى السبيل لطيفا وواسعًا ألا وهو أنه تعالى يدل الناس بواسطة أنبيائه على السبيل الحق في أول الأمر، ولكنهم بمرور الزمن يختلقون من هذا السبيل الحق نفسه طرقا منحرفة، وهكذا ما تزال هناك على الدوام حاجة لنزول وحي جديد؛ فلا يصح قول أحد: أي حاجة لنزول كتاب جديد رغم وجود كتاب سابق؟ فإن الناس حين يشقون من السبيل الحق طرقًا أخرى معوجة يصبح لزاما على الله لا أن يأتي بالناس إلى طريق المعرفة الحقيقية مرة أخرى ببعث أحد من أنبيائه.هذا، وقد أكد الله تعالى بذلك أن الأديان الحقة أيضًا تُشوَّه وتفسد بمرور الوقت في آخر المطاف فتتسبب في الضلال، حيث يخترع الناس من السبيل الحق نفسه طرقا جائرة معوجة.فكون أي دين حقا في بداية الأمر لا يشكل وحده دليلا على كونه صالحا للعمل في كل زمان.ثم قال الله تعالى ولو شاء لهداكم أجمعين..أي لو لم يجعل الله لك أمر الهدى في يده لكان هناك طريق عادل واحد هو أن يخلق الفطرة الإنسانية مجبولة على الهدى بحيث لا يمكن للإنسان أن يسلك سبيل الضلال بأي حال.ولكنه تعالى لم يفعل هكذا، لأن هذا خلاف للحكمة، وإنما زود الإنسان بالقدرة على اختيار سبيل الرشد أو الضلال.وما دام الأمر هكذا فليس ثمة طريق معقول إلا أن ينزل الهدى من عند الله تعالى فيتيح أمام الإنسان الفرصة ليتجنب طريق الغي، ويمضي في طريق الروحانية قدمًا.
الجزء الرابع ۲۰۸ سورة النحل هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) شرح الكلمات: السماء: كلُّ ما علاك فأَظلك سقف كلّ شيء وكل بيت؛ رواق البيت؛ ظهرُ الفرس؛ السحابُ المطرُ؛ المَطْرة الجيدة؛ العُشب (الأقرب).تسيمون : أسامَ الإبل إسامةً: رعاها ؛ وقيل : أخرجها إلى المرعى (الأقرب).التفسير: السماء هنا تعني المطر، والمراد من الآية أن الله جل هو الذي أنزل المطر الذي تجدون به الماء الذي تشربون والذي تنبت به الأشجار والعشب التي ترعون فيها الأنعام.كان أول مخاطبي القرآن الكريم هم العرب الذين تندر في بلادهم مياه الآبار، وكان مصدر الماء في معظم مناطق الجزيرة هو ماء المطر الذي كانوا يخزنونه في البرك والجباب، ولولاها لماتوا عطشا.كانت في مكة المكرمة نفسها بئر واحدة هي زمزم، ولكن ماءها مالح إلى حد كبير؛ وقبل حفر قناة زبيدة كان أهل مكة يعتمدون أساســــا على مياه المطر التي كانت تخزن في الغدر والجباب، بل رغم وجود هذه القناة يعتمدون حتى الآن على مياه المطر التي يحملها البعض من هذه الجباب إلى مكة ويبيعونها لسكانها.وأما باقي البلد فالأكثرية من سكانها تعتمد على مثل هذه المياه.ومعظم سكان الجزيرة العربية يعيشون على تربية الإبل والغنم والمعز التي طعامها الشجر والعشب والكلاً التي لا تتيسر أيضًا إلا بفضل مياه الأمطار.هذه الآية أيضا تشير إلى الموضوع نفسه المذكور في الآيات الماضية بأن الله وعل ما دام قد خلق لكم في العالم المادي آلاف المرافق والتسهيلات التي تستعينون بها في حياتكم، فكيف لا يهيئ لكم ما يسهل عليكم حياتكم الروحانية.وما دمتم
الجزء الرابع ۲۰۹ سورة النحل تقبلون منه كل مرافق الحياة المادية بكل شوق وترحاب، فلم لا ترضون بما هياً لحياتكم الروحانية من أسباب ومرافق.وإذا كنتم ترون أن تلبيته ل لحاجاتكم المادية لا تتنافى مع عظمته، فكيف تظنون أن تلبيته لحاجاتكم الروحانية تتنافى مع عظمته وجلاله عل؟ إن مَن يُنكر وجود الله وعظنا منه أن الأسباب المادية خُلقت بنفسها فمن حقه أن يقول : ليس هناك من إله يهتم بهداية الناس ولكن لا يحق لمن يؤمن بوجود إله خالق للكون والأسباب المادية أن يقول: كيف يمكن أو يحق للإله أن يهتم بهداية البشر فيبعث إليهم الرسل وينزل لهم الكتب لأن هذا القول يتعارض مع ما يعتقد به ؛ والواقع أنه يستطيع أن يدرك خطأ قوله بهذا الدليل وحده، دون البحث عن أي دليل آخر.هذا، وإن هذه الآية إشارة إلى أن كل ما يوجد في الكون من أسباب إنما خُلقت في الواقع لصالح الإنسان، حتى إن الماء أيضًا لا ينزل من السماء إلا من أجله، لأنه هو الذي ينتفع من هذه الأشجار التي تنبت بالماء والحيوانات التي تعيش عليها.فثبت أن الإنسان هو النقطة الأخيرة أي الغاية الحقيقية من خلق الكون كله وأن الله تعالى إذا خلق الأسباب للرقي الروحاني للإنسان فهذا لا يتعارض مع عظمته ، بل لو لم يخلقها لعُدَّ منقصة وعيبا في حق الله ، إذ ول، يقال أنه خلق هذا النظام الكوني المذهل من أجل هذا الكائن الإنساني، ولكنه لم يجعل لخلقه غاية ملائمة عظيمة.لقد تحدث الله تعالى في الآية السابقة عن الحيوانات وعن الغذاء الحيواني، وأما في هذا الآية فذكر الماء والغذاء النباتي، وقد فصل الموضوع نفسه في الآية التالية.
الجزء الرابع ۲۱۰ سورة النحل يُنْبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَبَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَةَ كُرُونَ (ال) ۱۲ التفسير: كان الحديث في الآية السابقة عن الماء، فقال الله تعالى: إن هذا الماء يشربه الإنسان وتنبت به تلك الأشجار التي تعيش عليها الحيوانات التي بدورها تنفع الإنسان، أما في هذه الآية فبيّن الله و أن هذا الماء يُنبت أيضا تلك الأغذية النباتية التي يأكلها الإنسان مباشرة.ومن هذه الأغذية النباتية زروع تُنتج الغلال، ومنها ثمار يجنيها الإنسان من بعض الأشجار، مثل الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها.فالله تعالى ينبه الإنسان أن يفكّر أن هذه النباتات والأشجار أيضًا مسخرة لخدمته مثل الحيوانات؟ هذا، وفي هذه الآية إشارة أيضًا إلى أن الأرض مهما كانت مزودة بقابلية الإنبات إلا أنها لا تقدر على أن تنبت شيئًا بدون ماء السماء، كذلك هو حال فطرة الإنسان، فمهما بلغ العقل الإنساني من الجودة والكمال فإنه محتاج إلى ماء السماء لكشف قواه الكامنة، ولا يمكن أن يكتمل من دونه.فالذي يعتمد على عقله وحده لكسب الرقي الروحاني مثله كمثل الذي يحاول أن يُنبت الزرع بدون الماء.مما لا شك فيه أن النبات قد يخرج بفضل التربة الندية، ولكنه لن ينبت نباتًا حسنًا مكتملاً بدون ماء السماء.ومن الناس من يقول: ما هو الجديد الذي يأتي به الأنبياء؟ إنهم لا يقولون إلا ما هو موجود مسبقا في الفطرة الإنسانية نفسها وهذه الآية تمثل دحضًا لمزاعم هؤلاء أيضا، إذ تبين بمثال الماء أن كون الشيء موجودًا أمر، وتنميته وكشفه للعيان أمر مختلف تماما.لا شك أن كل ما يأتي به الأنبياء يتفق مع الفطرة الإنسانية، ولكن من المستحيل نماء هذه القوى الفطرية بدون الوحي..مثل قدرة الأرض على الإنبات التي لا تنكشف للعيان بدون الماء.هل يمكن لأحد أن
الجزء الرابع ۲۱۱ سورة النحل يقول: ما دام البذر موجودًا وما دامت الأرض قادرةً على الإنبات فأي حاجة للماء؟ إن الماء لا يأتي بالبذر كما لا يزيد في قدرة الأرض، ولكن الجميع يعرف أنه يساعدها على كشف قدرتها على الإنبات، إذ لا تستطيع الأرض بدون الماء كشف قواها الكامنة أو لا تستطيع كشفها كما ينبغي.هذا هو مثال الوحي، الغذاء فإنه لا يخلق في الإنسان فطرة جديدة، ولكنه يوقظ القوى الراقدة في فطرته.هذا، ومما يدل على روعة البيان القرآني أنه قد ذكر منافع الحيوانات بترتيب يعي تماما، حيث ذكر منها أولاً أهمها وهو الغذاء لكونه ضروريًا جدًّا لبقاء الإنسان، لأن المنافع الحيوانية الأخرى من كساء وركوب أقل أهمية من وإن كانت سببًا في شرف الإنسان ومنزلته.ثم لدى الحديث عن المنافع النباتية قدم ذكر الزروع على غيرها، لأنها مصدر أساسي وعام لغذاء الناس.ثم ذكر الزيتون الذي يُستخدم مع الخبز كإدام؛ ثم النخيل، لأن التمر غذاء وفاكهة أيضًا؛ وأخيرًا ذكر العنب وغيره من الثمار، فإنها وإن لم تكن ضرورية مثل الغذاء، لكنها تحافظ على صحة الإنسان وتنمي قواه العقلية.ولعل أحدًا يعترض هنا ويقول: ليس الغذاء الحيواني هو الغذاء الرئيسي للعالم، فإن هناك طبقة من الناس يعيشون على الأغذية النباتية فقط؟ هذا الزعم ناشئ عن قلة التدبر، لأن هؤلاء الذين يدّعون أنهم يتناولون الغذاء النباتي فقط ولا يأكلون لحم الحيوان لا يدركون أن غذاءهم الرئيسي أيضا غذاء حيواني.فمثلاً كل المواليد يتربون على لبن أمهاتهم؛ بل إن المولود الذي لا يرضع أمَّه أيضًا يتغذى على لبن الحيوانات الداجنة أليست ألبان الأمهات وهذه الحيوانات غذاء حيوانيا؟ وهؤلاء الذين يزعمون أنهم لا يتناولون الغذاء الحيواني بتاتا يستخدمون أيضا منتجات حيوانية من لبن وزبدة فثبت أن الغذاء الحيواني هو الغذاء الرئيسي للجميع، والذين يدعون أنهم لا يتناولون غذاء حيوانيا على الإطلاق فإنهم منخدعون أو مخادعون يمكنهم أن يقولوا إنهم لا يأكلون اللحم، ولكن من الخطأ أن يقولوا إنهم لا يتناولون أي غذاء حيواني.
الجزء الرابع وقد ختم ۲۱۲ سورة النحل الله وعمل الحديث عن الأغذية بقوله إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون ليشير إلى أمرين: أحدهما: أن العقل المادي كما ينمو بالغذاء المادي كذلك ينمو العقل الروحاني بالغذاء الروحاني وثانيهما: لا شك أن القوى الفكرية موجودة في فطرة كل إنسان، ولكن انكشافها يتطلب تناول غذاء ملائم، كذلك فإن القوى الفكرية الروحانية موجودة في فطرة كل إنسان، ولكن ظهورها يقتضي تناول غذاء روحاني مناسب.الناس سواسية، ومع ذلك ليسوا سواسية فيما يتعلق بالقوى الفكرية، فهذا يملك قوى فكرية خارقة، وذلك محروم منها.ما السر في ذلك؟ إنما السر أن هذا الأخير محروم من الغذاء المناسب.هذا هو الحال في المجال الروحاني، فكل البشر مطبوعون على حب الله ،، ولكن هذا يتناول الغذاء الروحاني المناسب الذي يجلو قواه الروحانية، فيكتسب النور، أما الآخر الذي لا يتناول الأغذية الروحانية الملائمة فيظل محروما من هذا النور.وَسَخَّرَ لَكُمُ الْمَلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ : شرح الكلمات: قلے سخر سخره كلّفه عملاً بلا أجرة؛ ذلله.وكل مقهور لا يملك لنفسه ما يخلّصه من القهر فذلك مسخّر (الأقرب).يعقلون عقل الغلامُ يعقل عقلاً: أدرك.وعقل الشيء عقلاً: فهمه وتدبره.وعقل البعير: ثنى وظيفه مع ذراعه فشدَّهما معًا بحبل هو العقال (الأقرب).التفسير : لقد أخذ الله تعالى الآن يعدّد نعمه التى تتعلق بالجمادات.وبما أنه عمل يركز هنا على ما ينمّي قوى الإنسان العقلية فقد اختار من بين هذه النعم تلك التي لها تأثير خاص في تنمية العقل الإنساني، مثل نعمة الليل والنهار والشمس
الجزء الرابع ۲۱۳ سورة النحل والقمر والنجوم.لا جرم أن الحديد والخشب والذهب والفضة والبرونز وغيرها المعادن أيضًا نافعة للإنسان، ولكن ليس لها أي تأثير مباشر في العقل من الإنساني، وإنما تنفعه عمومًا في مرافق الحياة من بناء أو إناء أو سلاح، ولذلك لم يذكرها الله هنا.قد يقال هنا: إن ظاهرة الليل والنهار ليست من الجمادات فلماذا ذكرت مع الجمادات؟ هذا صحيح، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن منافع الليل والنهار منوطة بتأثير الشمس والقمر والنجوم، لأن هذه الأجرام إنما تكشف تأثيراتها عبر ظاهرة الليل والنهار..أي بوصول أشعتها إلينا أو انقطاعها عنا فثبت أن ظاهرة الليل والنهار أيضًا تقع ضمن دائرة التأثيرات الجمادية.ولو قيل: ما دام الليل والنهار دليلا على وجود الشمس والقمر وغيرهما من الأجرام ومنافعها فما الحاجة لذكر هذه الأجرام على حدة؟ والجواب: لا شك أن ظاهرة الليل والنهار تكشف لنا تأثيرات هذه الأجرام، ولكن تأثيراتها على العالم لا تنحصر فقط فيما يظهر لنا من أشعتها التي تراها أعيننا عبر ظاهرة الليل والنهار، بل إن للشمس والقمر والنجوم تأثيرات أخرى أيضا كطاقاتها الكهربائية والمغناطيسية وغيرها مما يكتشفه العلماء كل يوم جديد، وما لن يستطيعوا اكتشافه أبدا...The Heavens فللإشارة إلى تأثيراتها الأخرى التي تنفع عقل الإنسان باستمرار لزم ذكر هذه الأجرام أيضًا إلى جانب الليل والنهار.ورب قائل يقول على ذلك فما الداعي إذن لذكر الليل والنهار؟ فقد كان حريًّا بالقرآن أن يكتفي هنا بذكر الأجرام فقط.والجواب أن العرب ما كانوا يعرفون حينذاك من تأثيرات الأجرام إلا ما كان باديًا بواسطة الليل والنهار، بل حتى اليوم لا يعلم تأثيراتها الأخرى إلا العلماء المتخصصون، وأما عامة الناس فلا علم لهم بها؛ فكان لزاما على القرآن الكريم-
الجزء الرابع ٢١٤ سورة النحل بيانًا لتأثيراتها الكثيرة وتقريبًا للمعنى إلى عقول المخاطبين الأوائل – أن يذكر الليل والنهار أيضا مع ذكر هذه الأجرام.مع العلم أن العلماء قد أكدوا من خلال تحليل الطيف الشمسي وجود معادن يعني أن معينة على أجرام معينة (الموسوعة البريطانية تحت Spectroscopy)؛ وهذا الأجرام السماوية لا تؤثر علينا بضوئها فقط بل أيضًا من خلال تأثيرات المعادن الموجودة فيها، لأن تأثيرات هذه المعادن أيضًا تنزل إلى الأرض وتعمل عملها على قوى الناس وعقولهم.أما القمر فإن تأثيراته تنكشف بعدة طرق.فمثلاً هناك اعتقاد شائع في بلادنا أن الخسوف القمري الكامل يؤثر سلبيا على الحوامل، لذلك لا يخرجن من حجراتهن أثناء الكسوف.ويُعتبر هذا الاعتقاد على العموم ضربًا من الوهم، ولكني قد فحصت الأمر بكل دقة، ووجدت أنه بعد الكسوف القمري الكامل تضع الحوامل حملهن بآلام قاسية وبصعوبة بالغة حتى إن عديدا منهن يتعرضن للموت.إنني لا أستطيع الجزم ما إذا كن يقاسين هذه الآلام بسبب نظرهن إلى القمر المنخسف أم بدونه، بيد أنني قد اختبرت هذا بنفسي مرارا كما أخبرتُ الآخرين، فصدقوني بعد أن شهدوا الأمر بأنفسهم.ولكن لا يمكن الجزم ما إذا كان هذا التأثير قمريًّا محضا وملاحَظًا في كل مرة، أم أنه يحصل بتأثير القمر والأجرام الأخرى معا حين يكون القمر منها على زاوية أو مسافة معينة.طبعًا إن فحص هذه الظاهرة وتحديد أسبابها على أسس علمية عمل يخص علماء هذا المجال من رجال الفلك والنجوم؛ أما أنا فإنما أسجل هنا ما لاحظته شخصيا من خلال تحرياتي عن هذه الأوهام الشائعة عند العامة.وخلاصة القول إن هذه الجمادات أيضًا تُحدث بأضوائها وأشعتها وقوتها المغناطيسية تأثيرات كبيرة على نماء قوى الإنسان وبعض هذه التأثيرات واضح وبعضها خفي، ومنها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر.وأقصد بتأثيراتها غير المباشرة ما يقع على النباتات والحيوانات التي يستهلكها الإنسان كغذاء.
الجزء الرابع ٢١٥ سورة النحل ومن ومن تأثيرات الشمس والقمر الملموسة على صحة الإنسان أن ضوء الشمس وقت النهار يقضي على أمراض كثيرة ويزيد البدن صحة ونشاطا The Vitamins)..ولذلك نجد الذين يعيشون قابعين ليل نهار في الأماكن المظلمة تتدهور صحتهم.كما نجد أن ظلام الليل يؤثر على الأعصاب تأثيرًا مريحًا مسكنا، أجل ذلك يكون النوم بالليل أجلب للراحة منه أثناء النهار وبالأخص عند الظهيرة، فإن النوم عندها لا يكون غير فقط بل يسبب في بعض الأحيان مريح أمراضا كالرشح وما شاكله.وبالاختصار إن النهار ملائم للعمل والليل ملائم للنوم.هذا، ويؤثر ضوء الشمس على بعض الخضار تأثيراً مباركًا جدا، بينما يترك نور القمر والنجوم في الليل على بعض الخضار الأخرى تأثيرًا قويًّا.فمثلاً الخيار تنمو بالليل بسرعة مذهلة بحيث لو جلست بجانب حقل من الخيار لسمعت أصواتًا لها وكأنها تشق طريقها بين الأوراق.كما أن هناك أزهارا تتفتح في الليالي المقمرة وأخرى تتفتح في الليالي المظلمة.فكل هذه الأمور إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الليل والنهار وهذه الأجرام السماوية تترك تأثيرًا خاصا في نماء أهل الأرض ورقيهم، وأنها لا تهيئ للأعين النور فقط، أو لا تريح بظلمتها الأعصاب فحسب، بل لها تأثيرات واسعة أخرى.ولا بد لمن سنحت له الفرصة للتنزه في ليلة مقمرة أن يكون قد اختبر بنفسه كيف يحدث في ذلك الوقت هيجان غريب في الأفكار، وتصاب القوة الفكرية بإعصار شديد.هذا، وتساعد هذه الأجرام والليل والنهار على معرفة الطرق؛ فإذا كان ضوء الشمس يبدد الظلام بإضاءة كل الجو مبينًا معالم الجهات الأربع ليهتدي المسافرون فإن القمر أيضًا ينفع بنوره في الليل مثل الشمس بالنهار، كما أن النجوم أيضًا تهدي السائرين بالليل حيث إن منازلها تساعد البحارة خاصة في تعيين اتجاه سفنهم.
الجزء الرابع ٢١٦ سورة النحل هذه والخلاصة أن الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كلها تلعب دورًا هاما في تنمية قوى عقل الإنسان وتيسير أمور حياته.ورغم أن هذه الأجرام جمادات، وأن صلتها بالإنسان صلة بعيدة، وأن قوة نمائها الذاتي خفية بحيث يستحيل تقديرها بعيون ظاهرة، بيد أنها تترك أثرًا كبيرًا على نماء النباتات والحيوانات، كما تؤثر على نماء الإنسان تأثيراً هاماً مباشرًا، وكذلك تأثيرا غير مباشر من خلال النباتات والحيوانات.ومن أجل ذلك ذكر الله ل بعد الغذاء الحيواني والنباتي هذا الغذاء الخفي الذي نستمده من الجمادات ولا سيما من الجمادات الكبيرة المتواجدة في جو السماء.وهناك أمر لطيف آخر جدير بالملاحظة وهو أنه عند الحديث عن الأنعام والنبات استخدم القرآن الكريم فعل (خَلَقَ)، وعند الحديث عن الليل والنهار والأجرام استعمل فعل (سخَّر ) ! ذلك أن الإنسان يظن أنه بقوته وقدرته يجلب هذه المنافع من الحيوانات، ولا شك أن ظنه هذا باطل، فلولا أن الله تعالى خلق هذه الأشياء لما انتفع بها الإنسان؛ إلا أنه لو استخدم فعل (خلق) تماشيا مع ظن الإنسان هذا وتصرفه في هذه الأشياء.ولكن بما أنه لا تصرُّف للإنسان في المنافع التي تتيسر له من الليل والنهار والأجرام فقال الله سخر)، ليبين للناس أن لا مناص لهم من الاعتراف بأن هذه الأشياء لا تسدي لهم خدماتها ومرافقها إلا بأمر الله ، إذ لا تصرف ولا سلطان لهم عليها بتانا.لقد قال الله تعالى في ختام الآيات الماضية إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون، بينما ختم هذه الآية بقوله إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)! ذلك أن القوة الفكرية تساعد على معرفة حقيقة الشيء القريب وأما القوة العقلية فإنها تعين على إدراك الأمر البعيد وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن المأكولات التي يدرك الإنسان تأثيرها في نفسه لذلك قال عندها لقوم يتفكرون، أما الأشياء المذكورة في هذه الآية فتأثيرها خارجي ،بعيد والاستفادة منها تتوقف على استخدام العقل، لذلك قال هنا: لقوم يعقلون ).
الجزء الرابع ۲۱۷ سورة النحل = قل وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَذْكُرُونَ (3) شرح الكلمات: ذَرَأَ ذَرَأَ الله الخلق: خَلَقَهم.ذَرَأَ الشيء: كثره.ذَرَأَ الأَرضَ: بذَرَها (الأقرب).ألوان: جمع لون وهو: ما فصل بين الشيء وبين غيره؛ صفة الجسد وهيئته من البياض والسواد والحمرة وغير ذلك؛ النوع (الأقرب).التفسير: من معاني الذَّرْء الخلقُ كما ذكر من قبل، إذن فهذه الآية تتحدث عن كل موجود في الكون من حيوان أو نبات أو جماد.يبدأ من هذه الآية موضوع جديد حيث بين الله وعل هنا اختلاف الألوان وتأثيرها ومنافعها للناس ما أعظم كلام الله القرآن الكريم! فقد بين دقائق الحكمة هذه في زمن كان أهله غافلين عنها تماما، إذ لم يُكتشف تأثير الألوان على أسس علمية إلا في العصر الحديث، فقد تمكّن العلماء اليوم إلى حد كبير من علاج الأمراض باستخدام الأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية وغيرها مما تم اكتشافه.وقد فتح علم تأثير الألوان بابًا جديدًا في الطب النباتي، فقد شرعوا في علاج الأمراض بمساعدة الألوان، حيث يملئون القوارير ذوات الألوان المختلفة بالماء العادي ويضعونها في الشمس ويحوّلون هذا الماء إلى دواء.لم يقم هذا العلاج بعد على أسس علمية، ولكن لا يمكن إنكارُ بعض منافعه الثابتة بالتجارب.كما أنه من الثابت المتحقق أن شيئين مماثلين من جنس واحد يُحدثان تأثيرين مختلفين إذا اختلفا في اللون.خذوا مثلاً ثمر التوت، فإن الأبيض الالتهاب في الحلق، بينما الأسود منه جد نافع في معالجة مرض خطير كالخناق.كذلك الصندل الأسود والأبيض مختلفان في قوتهما وفائدتهما (خزائن الأدوية ج ٥ منه يسبب
الجزء الرابع ۲۱۸ سورة النحل ص (۹۲).والحال نفسه بالنسبة لمئات الأشياء الأخرى.ولا شك أن هناك الكثير والكثير من الأشياء التي لم يكتشف العلماء بعد تأثير ألوانها، ومع ذلك فإن ما اكتشف إلى الآن يؤكد تأثير الألوان بحيث لا يسع أحدًا إنكاره.وفي الطب الحديث أيضا يعالجون بعض الأمراض الخطيرة بمختلف الألوان.فمثلاً وجدوا أن أكريفلافين (acriflavine) الأصفر ناجع في معالجة الجروح الخارجية، بينما مركوروكروم (mercurochrome) الأبيض نافع في الجروح الداخلية؛ وبالنظر إلى لون أكريفلافين (acriflavine) الأصفر خطر ببالي مرة أن اللون الأصفر له تأثير جيد في معالجة الجروح، وربما من أجل ذلك كانوا في القدم يستخدمون الكركم بكثرة لمعالجة الجروح.فقمت باستخراج لون الكركم، وآتيتُه أحد الأطباء ليقوم باختباره على مرضاه؛ فأخبرني أنه يماثل أكريفلافين الأصفر في التأثير غير أنه أقل منه قوة وفعالية.فأدركت من قوله هذا أنني لم أتمكن من استخراج جوهر الكركم بالقدر الذي تمكنت منه الشركة الألمانية التي صنعت هذا الدواء.وباختصار فإن تأثير الألوان حقيقة ثابتة، وإن كان هذا العلم ما زال بعد في طور التقدم والاكتمال.وقد لفت القرآن الكريم بذلك الأنظار إلى أنه ليست الأجرام وحدها التي سخرها الله و للناس، بل سخر لهم ألوان الأشياء أيضًا، وخلق لرقيهم البدني شتى الأسباب بهذه الطرق الدقيقة فكيف يحق لهم الظن أن لا داعي أن يهيئ الله تعالى لرقيهم الروحاني أسبابًا مماثلة بل ما هو أدق منها وأوسع.كما أشار ل بذكر اختلاف الألوان إلى أن الشيء الواحد يمكن أن يكون مماثلاً للشيء الآخر من الجنس نفسه، ولكنه في الوقت نفسه يختلف عنه في نواح أخرى.فمثلاً كل فرد من بني البشر إنسان، ومع ذلك ليس هناك اثنان منهم يستويان شكلاً وكفاءة.وبالمثل فكل رأس من الإبل يسمى بعيرا، ولكن لا يوجد بينها بعيران يتشابهان تماما من حيث الشكل والقوة.وهذا هو حال
الجزء الرابع ۲۱۹ سورة النحل النباتات أيضًا، خذوا مثلاً أشجار المانجو، فهي كلها أشجار، ولكن لكل شجرة منها هويتها وشكلها ؛ والأمر نفسه ينطبق على ثمارها أيضًا.فكأن كل فرد متحد مع أفراد جنسه الآخرين جدا ومختلف عنهم تماما في الوقت نفسه.والإنسان إنما يستطيع التمييز بين أقاربه، من أب وأم وولد وزوج وأخ، بفضل هذا الاختلاف في الألوان والملامح التي لولاها لصعب التمييز بين إنسان وآخر.فالله تعالى هو الذي جعل هذه الفروق الكثيرة بين شيء وآخر.وهذه الفروق دقيقة جدا، فاللون الأبيض مثلاً على أنواع ودرجات بحيث لا يمكن وصفها، كذلك يتنوع اللون الأسود درجات بحيث يستحيل بيانها باللسان، وإنما هي العين التي تدرك هذه الفروق الدقيقة وتميز بين شيء ،وآخر أما اللسان فهو يعجز عن وصفها في معظم الأحيان.منهم ولقد نبه الله وعمل هنا إلى الجانب الروحاني في هذا الفرق وقال: إن هذه الأشياء كما تختلف في ألوانها الظاهرة فإنها تختلف كذلك في ألوانها الباطنة؛ وكما أن حوائج الإنسان المادية مختلفة كذلك خلق الله ل إزاءها أشياء مختلفة الألوان والتأثير.فلا أحد من البشر يستطيع الإحاطة بحاجات الإنسان المادية بشكل تام، أحد أن يخلق الوسائل لتغطية تلك الحاجات الإنسانية؛ ذلك وليس بوسع لأن كل فرد من البشر يختلف عن غيره مزاجًا وحاجةً؛ فهذا ينفعه الحلو وذاك ينفعه الحامض، وهذا يحب الباذنجان وذاك يكرهه، وهذا يأكل الموز بشهية، وذاك يعاف حتى تذوقه.فطبائع البشر تختلف من حيث المزاج والذوق والحاجة اختلافا لا حد له، وقد خلق الله لا اله إزاءها أشياء متنوعة جدا بحيث يمكن لكل إنسان أن يجد بينها ما يلائم طبعه ومزاجه وحاجته.أما البشر فلا يقدرون حتى على إحصاء نواحي الاختلاف في الطبائع البشرية بَلْه أن يكونوا قادرين على تلبية حاجات الجميع وفق أمزجتهم المختلفة وأذواقهم المتباينة؛ وإنما وحده القادر على ذلك، فهو الذي خلق الناس بألوان وأمزجة وميول شتى، ثم خلق إزاء ذلك الله أشياء ذات أنواع وألوان شتى ليسدّ بها حاجاتهم المتنوعة.ونظرا إلى هذا فلا
الجزء الرابع ۲۲۰ سورة النحل تؤخذ كلمة أَلْوَانُهُ هنا بمعناها العادي فقط، بل أيضا بمعنى الأنواع والأقسام، وقد سُجِّل هذا المعنى في شرح الكلمات من قبل.فالله وعمل يلفت بذلك الأنظار إلى أنه هو الذي خلق الأشياء صنوفا وألوانا ليسد بها حاجاتكم المختلفة مراعيًا شتى رغباتكم وميولكم، وما كان لكم أن تسدّوها بأنفسكم أبدًا؛ فكيف تظنون أن بإمكان البشر أن يخترعوا تعليمًا ينفع الجميع على السواء رغم ما يوجد في قواهم الخلقية من تفاوت واختلاف.كلا، إنما الله وحده الذي يقدر على تلبية حاجاتهم المختلفة، فهو الذي خلقهم بهذه الطبائع والأمزجة والميول المتباينة وهو الأعلم بحاجاتهم المختلفة.أما ما يخترعه الإنسان من منهج وتعليم فلا بد أن يكون خاضعًا لأهوائه ورغباته هو، وإذا قامت مجموعة منهم واقترحوا أي منهج وقانون فلا بد أن يكون مشوبا بشوائب أمزجتهم وميولهم فقط.وإنما الله وحده الذي يمكن أن يُنزل تعليما يراعي ميول البشر كافة ويلبي مقتضيات الفطرة البشرية كلها، ويغطي حتى الحاجات الخفية أيضًا.فثبت أنه لا بد من نزول الوحي لرقي الإنسان روحانيا، إذ ليس بوسع البشر أن يلبوا حاجاتهم الروحانية بمساعدة عقولهم وحدها، وإذا حاولوا ذلك فسيكون في نطاق محدود جدا مما لن يسد حتى حاجات شخص واحد بشكل كامل، كما لن يلبي بعض حاجات الجميع.وختم الله هذه الآية بقوله : إن في ذلك لآيةً لقوم يذكرون لأن سد حاجات البشر ذوي الألوان المختلفة قضية أخلاقية بحتة، وهي بالطبع وثيقة الصلة بالذكر والنصح.وقد لا تهدف كلمات (يتفكرون، يعقلون ويذكرون) الواردة في نهاية كل من هذه الآيات الإشارة إلى موضوع كل واحدة من الآيات على حدة، وإنما تكون جميع هذه الكلمات ذات صلة بفحوى الآيات كلها معًا، وجاءت بهذا الترتيب بحسب درجاتها الطبيعية.فقد ذكر الله تعالى التفكر أولاً لكونه أول وسائل الإصلاح، لأن الإنسان حينما يميل إلى الخير أو الشر يبدأ في التفكير أولاً؛ وحين
الجزء الرابع ۲۲۱ سورة النحل ينضج فكره ويكتمل يتولد فيه العقل..بمعنى أنه يكف نفسه عن ارتكاب الشر، ويشرع في إصلاح أعماله وتليها المرحلة الثالثة أي التذكر حيث يتأصل الخير في الإنسان، فيتذكر واجبه عند كل خطوة، دون أية حاجة إلى مذكر خارجي يردعه عن المعاصى، وإنما يتذكر ويتعظ تلقائيا، ويمسك بمبدأ الخير دوما، حيث تصبح الصالحات طبيعة ثانية له.وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَريًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ شرح الكلمات طريًّا طَرِيَ الغصنُ واللحم والثوب يطرَى وطَرُوَ يطرو طَراوةً وطَراءةً وطَراء: كان طريا (الأقرب)..أي كان طازجا.حلية الحلية ما يُزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة، والجمعُ الحلي (الأقرب).الفُلك: السفينة يذكر ويؤنث (الأقرب).مواخر: جمعُ ماخرة.مخرت السفينة: جرت تشق الماء صوت؛ وقيل: استقبلت الريح في جريتها.ومخر السابحُ: شق الماء بيديه.والفُلك المواخر: التي تشق الماء مع صوت (الأقرب).التفسير: كان الحديث في الآيات السابقة عن النعم البرية أو التي يمكن أن ينتفع بها الإنسان وهو في البر، وأما الآن فذكر الله ع البحر وكونه مسخرا للإنسان.وهنا أيضا استخدم الله تعالى كلمة التسخير للبحر، لأنه لا سلطان للإنسان على البحر، وإنما ينتفع به فقط.
الجزء الرابع ۲۲۲ سورة النحل وجدير بالملاحظة هنا أنه لدى الحديث عن تسخير الليل والنهار والأجرام السماوية قد أضاف الله وكل كلمة بأمره ، ولكنه لدى الحديث عن تسخير البحر لم يضف كلمة بأمره ! وهذا لا يعني أن تسخير البحر لا يتم بأمر الله ، وإنما سببه أن الإنسان لا يتكبد مشقة ولا عناء في الانتفاع من الأجرام الفلكية، وهكذا تكون هذه الأشياء مسحرات للإنسان بأمره تعالى كليةً، وأما فيما يتعلق بالبحر فلا بد للإنسان من بذل المجهود حتى ينتفع من منافعه، كأن يصنع السفينة ويحيك المصيدة، ولذلك لم يقل الله هنا بأمره، وإلا فأي شك في أن كل شيء يتم بأمره ؟! إن البحر أيضًا وسيلة كبرى لسد حاجات البشر.إنه يحتفظ بكثير من الكنوز التي لا يمكن أن تظل مصونة بأي طريق آخر.وعلى سبيل المثال يدخر البحر المياه التي تحملها الشمس بأشعتها على شكل بخار.كما أن البحار تسهل السفر ونقل البضائع من مكان إلى آخر، لأن السفر في البحر أقل كلفة إلى حد كبير من السفر على اليابسة، وتستطيع البلاد الواقعة على شواطئ البحار أن تحقق تقدما سريعًا وكبيرًا في السياسة والتجارة، لأن البحر لا يقع في قبضة العدو بالسهولة التي تقع بها اليابسة في يده.إذن فالبحر وسيلة لحماية حرية الناس أيضًا.فقد نبه الله ولا بضرب مثال البحر أنه خلقه أيضا ليسد به حاجاتكم العديدة، حيث يغذيكم لحما طريًّا من السمك.أفليس عجيبًا أيها الناس أن يزودكم الله بأنواع التسهيلات المادية في رحلاتكم البرية والبحرية، بينما يتغافل عن تسهيل رحلتكم الروحانية؟ ثم أليس من المستغرب أنكم تقبلون بكل بشاشة وابتهاج ما يمنحكم الله لا من المرافق المادية، ولكنه تعالى حين يهيئ لكم المرافق الروحانية ترفضونها قائلين: ما الداعي أن يهيئ الله الأسباب لرقينا الروحاني؟ كما أن هذه الآية تذكرنا أنه بالرغم من أن الماء يسد حاجات البشر وأنه موجود في الأرض على شكل بحار، إلا أنه ليس بوسع الإنسان أن يستخدم هذا
الجزء الرابع ۲۲۳ سورة النحل الماء سواء لشفاء غليله أو لسقاء ،زرعه ولكن الله و يهيئ للإنسان من هذا الماء وعل نفسه غذاء عالي الجودة كالسمك؛ كما أنه تعالى يقوم بتصفية هذا الماء حيث يرفعه بواسطة أشعة الشمس إلى أعالي الجو ليصبح صالحا لشرب الإنسان.مما أن مجرد وجود الحقائق في الدنيا لا يسمن ولا يغني من جوع، وإنما تنفع هذه الحقائق فقط إذا قام الله و بتنقيتها وتصفيتها من خلال الوحي، وجعلها صالحة لاستخدام روح الإنسان.يعني ثم قال ل وتستخرجوا منه حلية..أي تتولد اللآلئ التي تلبسونها كحلي هذا الماء نفسه الذي لا يصلح للشرب؛ كما تمخر فيه السفن التي تسهل بها أسفاركم، وتزدهر بها تجارتكم.من والملفت للنظر أنه تعالى قال من قبل عن الأنعام إنها تحملكم وتحمل أثقالكم، وقد أشار هنا إلى هذا المعنى نفسه لدى الحديث عن السفن.والواقع أن نقل بتكلفة زهيدة بحيث يستحيل هذا عبر اليابسة، ومن أجل عبر البضائع البحر يتم ذلك تجدون تجارة سكان شواطئ البحار أكثر ازدهاراً.وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنهَرا وَسُبُلاً لعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (2) شرح الكلمات ١٦ ألقى ألقاه إلى الأرض: طرَحه.وألقى إليه القولَ وبالقول: أبلغه إياه.وألقى المتاع على الدابة: وضعه.وألقى عليه القول: أملاه، وهو كالتعليم.وألقى فيه الشيء: وضعه وألقى إليه السمع أصغى وألقى إليه خيرا: اصطنعه عنده (الأقرب).رواسي: الرواسي : الجبال الثوابت الرواسخ (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٢٤ سورة النحل تميد: ماد الشيءُ: تحرك وزاغَ، يقال: مادت به الأرض: دارت.وماد السراب: اضطرب (الأقرب).فالمراد أن الله تعالى قد جعل في الأرض الجبال الثابتة لئلا تضطرب الأرض بأهلها.التفسير : لقد استخدم القرآن الكريم هنا فعل ألقى وذكر بعده ثلاثة مفاعيل به هي رواسي وأنهاراً وسبلاً؛ ومن معاني الإلقاء الطرح، فكيف يصح أن يقال إن هذه الأشياء الثلاثة قد أُلقيت مع أن الجبال قد خرجت من باطن الأرض، والأنهار هي التضاريس التي يجري فيها الماء ليصل من مكان إلى مكان، والسبل الأماكن الذي يطرقها الناس لدى السير فيها؟ هي لقد رد البعض على هذا بقولهم: إن فعل (ألقى) متعلق بالجبال فقط، ولكنه استخدم للأنهار والسبل أيضًا بمعنى (جعل)، والمراد أنه كل ألقى في الأرض الجبال وجعل فيها الأنهار والسبل فتح البيان).مما لا شك فيه أن العرب تستخدم بعض الأحيان فعلاً واحدًا لشيئين مختلفين على سبيل المشاركة كقول الشاعر: قالوا: اقترح شيئًا نُجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي حُبةً وقميصاً (كليات أبي البقاء، فصل الميم) فقد استخدم المضيف في سؤاله فعل "الطبخ" للطعام، فردّدَ ضيفه الفعل نفسه للجبّة والقميص أيضًا.غير أن المشكلة تبقى على حالها فيما يتعلق بفعل الإلقاء في حق الجبال.فهل يصح القول إنه تعالى ألقاها في الأرض من الخارج؟ مع أن علم طبقات الأرض يؤكد أن مادة الجبال خرجت من الأرض نفسها، ولم تُلقَ فيها من الخارج..(The Text Book of Geology p.\\) لذلك لا أرى داعيًا لاعتبار فعل محذوف للأنهار والسبل، بل نعتبر ألقى بمعنى (جَعَلَ)، خاصة وأن القرآن يؤيدنا في ذلك حيث استخدم في أماكن أخرى فعل (جَعَلَ) لكل من الجبال والأنهار والسبل.فقال الله الله عن الأنهار وجعل
الجزء الرابع ٢٢٥ سورة النحل خلالها أنهارًا) (النمل: (٦٢)، وقال عن الجبال وجعلنا فيها رواسي (المرسلات: ۲۸)، وقال عن السبل وجعلنا فيها فجاجًا) (الأنبياء: ٣٢).فثبت أن إلقاء الجبال في الأرض لا يعني أنه لا أتى بها من خارج الكرة الأرضية، بل إن الإلقاء قد استخدم هنا ليعطي معنى خاصا آخر لغويا أو مجازيًّا.وحينما ننظر إلى معانيه اللغوية – المذكورة أعلاه - فلا نرى أيا منها ينطبق هنا، فلا مناص لنا إلا أن نقول إن فعل ألقى قد ورد هنا بالمعنى المجازي.ولو سئلت: ما هو المعنى المجازي الذي أراد الله إبرازه باستخدام فعل ألقى مكان (جعل) في بعض المواضع من القرآن الكريم..قلتُ: إن المعنى الحقيقي للإلقاء هو طرح الشيء، والفرق بين الطرح والوضع هو أن ما تضعه من شيء فإنه يصل إلى مكان معين ولكن ما تطرحه فإنه يتناثر هنا وهناك، حتى إننا في بعض الأحيان إذا أردنا التعبير عن توافر شيء في مكان بكثرة قلنا: كأن أحدًا نثره هناك، أو أن ذلك الشيء مبعثر هناك.وعندي هذا هو المعنى الذي أراد الله إبرازه باستخدام فعل ألقى..أي أنه تعالى قد خلق الجبال والأنهار والطرق في كل منطقة وكل قطر وبلد.وبالفعل فقد أُوتي كل قطر من الأرض نصيبه من الجبال والأنهار والسبل، وكل بلد من العالم يتمتع بهذه النعم؛ وكأن الله و قد نثر هذه الأشياء نثرا، فوقعت هنا وهناك في كل مكان.والواضح أن هذا المعنى لا يمكن التعبير عنه باستخدام فعل (جعل) وإنما هو ممكن بفعل ألقى وهذا المعنى يمثل برهانا على سعة المعارف القرآنية؛ ذلك أنه لما نزل القرآن الكريم لم يكن جزء من العالم - أعني القارة الأمريكية وأستراليا وغيرهما اكتشف بعد؛ كما كانت أقطار عديدة من العالم المعروف مجهولة أو شبه مجهولة للناس مثل كثير من الجزر والمناطق الوسطى والجنوبية من أفريقيا.فإعلان القرآن الكريم في ذلك الزمن بأن نعمة الجبال والأنهار والطرق ليست خاصة ببلد معين أو منطقة واحدة من العالم، بل لقد تم توزيعها على كل قطر من العالم..يشكّل دليلاً على أن الذي نزل عليه القرآن لم يعلم هذه الحقيقة إلا بإعلام من - قد الله
الجزء الرابع ٢٢٦ سورة النحل تعالى.واليوم، وبعد أن تم اكتشاف الدنيا كلها تقريبًا، قد تجلى للعالم أن هذه النعم توجد في كل القارات والأقطار، وأن كل الدنيا تتمتع بها.عادة التي تكثر ألقى فلكي يكشف القرآن الكريم هذه الحقيقة المجهولة استخدم هنا فعل لهذه الأشياء الثلاثة في موضع، بينما استخدم لها في مواضع أخرى فعل (جعل) تبكينًا لبعض الحمقى الذين قد ينخدعون بفعل ألقى فيعترضون على القرآن الكريم بأنه يدّعي بأن هذه الأشياء أُلقيت على الأرض من خارجها.وقد يثار هنا سؤال آخر وهو أن الجبال والأنهار إنما تكونت بسبب العوامل الطبيعية كما هو معلوم، ولكن السبل يصنعها الناس، فلماذا ذكرها القرآن الكريم هنا؟ والجواب: ليست السبل هنا بمعنى الطرق التي يشقها الإنسان بيده، فإنها لموجودة في كل مكان حتى في المدن أيضًا، وإنما يدور الحديث هنا فقط عن الطرق التي تُخلق بالعوامل الطبيعية أي بسبب الجبال والأنهار والغابات مثلاً؛ ومثل هذه الطرق هي " وينتفع بها الناس، ولاسيما في قديم الزمان.خذوا مثلاً الحدود الهندية والأفغانية الممتدة إلى مئات الأميال، فمعظم هذه المساحة الكبيرة الشاسعة خالية من الطرق، وإنما هناك بعض الطرق فقط على شكل ممرات تكونت بحسب طبيعة الجبال، والأمر نفسه ينطبق على التخوم بين الهند والصين وبورما، بل هكذا الحال في كل العالم.إن مد الطرق في المدن يتوقف على خيار الإنسان ولكنه لا يملك خيارًا لشق الطرق بين منطقة وأخرى وبلد ،وآخر، وإنما يتوقف هذا على السهولة الطبيعية المتمثلة في الأنهار وممرات الجبال وحافات.الغابات.فلم يزل الإنسان منذ القدم يسلك هذه الدروب الطبيعية، رغم أنها لم تكن من قبيل الطرق التي مهدها الإنسان، وإنما سلكها الناس لسهولتها الطبيعية ولا تزال هذه الدروب مطروقة منذ آلاف السنين.لقد مرت بها قوافل التجار كما طرقتها جحافل الغزاة عبر التاريخ الإنساني.إن دراسة الحملات التي شنّها الغزاة الأجانب على الهند تبين أنها كلها تمت عبر بضع ممرات ضيقة تقع على الحدود الشمالية (تاريخ إقليم
الجزء الرابع ۲۲۷ سورة النحل السرحد ص (٥٢).وعندما هاجر الشعب الآري إلى القارة الهندية دخلها وانتشر فيها عبر هذه الطرق الطبيعية نفسها المتكونة على شواطئ الأنهار الجارية في منطقة البنجاب ثم على ضفاف النهرين الغانج وجمنه، أو عبر ممرات جبال الهملايا وغيرها، أو على جوانب الغابات الكجلية وفي القديم كان من الضروري أن تكون للطريق معالم طبيعية حتى يتمكن السائرون عليها من تعيين المسافة وتقدير الجهة والحصول على الطعام، ولذلك كان طبيعيًا أن يسافروا على العموم في سفوح الجبال وعلى حافات الغابات وعلى ضفاف الأنهار؛ حيث كانت هذه الأشياء بمثابة طرق طبيعية تربط أهل بلد بسكان بلد آخر.إذن فكلمة سبلاً تشير إلى هذه الطرق الطبيعية، وليست إلى الطرق المصطنعة التي تربط بين مدينة وأخرى.هذا، وإن ما سبق بيانه يوضح أيضًا الحكمة وراء ذكر القرآن الكريم هذه الأشياء معا.عن كما قد يكون المراد من سبلا الوديان التي تجري خلالها الأنهار.فلو لم يخلق الله وعل هذه التضاريس الضيقة التي يمر بها الماء منكمشًا لغطت المياه وجه اليابسة كلها، ولم تعد الأرض صالحة لعيش الإنسان.هناك تساؤل آخر يجب الرد عليه ما الحكمة في ذكر هذه الأشياء منفصلة النعم السالفة الذكر؟ والجواب أن الله تعالى قد تحدث من قبل عن شتى النعم حديثا عاما، أما الآن فتحدث خاصة عن الأشياء التي تعمل كخزينة ومستودع للنعم الأخرى.فالجبال تحتفظ بذخائر المياه وتدّخر الأشجار والأعشاب بينما تأخذ الأنهار المياه من الجبال وتمد بها مختلف أنحاء الأرض طوال السنة؛ وأما السبل الطبيعية فتساعد الناس على الوصول إلى هذه النعم للتمتع بها.فلو كان الجبل تلةً كبيرة عالية ولم به مرتفعات متدرجة لما استطاع الإنسان الوصول إلى قمته.ولو كانت الأنهار ماءً منبسطاً على سطح الأرض ما نفع الناس، بل لجلب عليهم الضرر یکن
الجزء الرابع ۲۲۸ سورة النحل بتغطيته الأراضي الصالحة للزراعة، وبعرقلته سيرهم على الأرض.فثبت أنه إنما يمكن الانتفاع من الجبال والأنهار إذا كان ارتفاعها أو انتشارها بوضع معين، وأن كالآتي: تكون هناك طرق بجانبها توصل الناس من مكان إلى آخر للتمتع بهذه المنافع.وأما علاقة هذه الآية بما قبلها فهي ١ - يعدّد الله وعمل في هذه الآية أيضًا نعمه على البشر كما فعل في الآيات السابقة فيقول: ما دام قد خلق كل هذه الأسباب لمنافعكم المادية، فكيف يمكن أن يغض النظر عن حاجاتكم الروحانية؟ على الله وحده القادر ٢ - إن التدابير الإنسانية تسد حاجات زمن محدود فقط، وإنما أن يدبر ذخائر أبدية تلبي المتطلبات المتجددة في أي زمن وعصر؛ إذ حتّامَ يمكن للبرك والجباب أن تزوّد الناسَ بالماء؟ وإنما هي الأنهار الطبيعية التي تمدّهم بالماء طوال السنة، وتروي قطرًا بعد قطر.ثم إنما هي الجبال التي تغطي حاجات البلدان، وتهيئ لأهلها على مدار السنة ما يحتاجونه من صنوف الأعشاب الطبية والأزهار والثمار وذخائر الخشب التي لا تكاد تنتهي.ثم إن هذه السبل الرئيسية هي التي تمد جسور الاتصال بين أهل قطر وآخر.كذلك تماما - يقول الله تعالى- تقتضي حاجاتكم الروحانية، أيها الناس، نزول وحي سماوي لا يغطي حاجات طبقة معينة منكم أو أهل عصر محدد فحسب، بل يلبي مقتضيات أهل العصور كلها على تفاوت طبائعهم ورغباتهم وحاجاتهم، ويمكنهم من المسافة الروحانية..بمعنى أن ذلك الوحي قادر على إيصالهم من عصر نبي إلى طيّ عصر نبي آخر..أو بتعبير آخر يكون في الوحي قدرة التطور بالناس حيث يمكن الفطرة الإنسانية من السفر من قطر روحاني إلى قطر روحاني آخر، أي يؤهلها لقبول تعليم النبي المقبل.إذ كيف يمكن للإنسان أن يعرف مدى التطور الذي سیحرزه العقل الإنساني خلال القرنين المقبلين مثلاً يدبر بحسبه ما ينير به عقول الناس في تلك الشقة الزمنية؟ إنما يمكن طي هذه المسافة بالسير على المنهج حتى الإلهي الذي لا ينفك يطوّر العقل الإنساني ويأخذه دوما إلى الأمام وعلى طريق
الجزء الرابع ۲۲۹ سورة النحل واحد.ومن أجل ذلك نجد شتى الفلسفات الإنسانية لا تمضي قدمًا باستمرار، بل تتقدم مرة ثم ترجع القهقرى إلى فلسفة قديمة بمئات السنين؛ ولكن التعاليم التي ينزلها الله لا تأخذ العباد بواسطة الأنبياء على منهج واحد قدما، ولا تضطرهم إلى التقهقر ولو مرة واحدة.ج ۱۷ وَعَلَمَت وَبِالنَّجم هُمْ يَهْتَدُونَ ) التفسير وكلمة علامات أيضًا مفعول به لفعل ألقى الوارد في الآية السابقة.وقد أشار بها إلى أن الكرة الأرضية ليست متشابهة الشكل ولا متساوية السطح في كل مكان، بل جعلها الله و بين مرتفع ومنخفض، وبحر ويابس، وغابة وبرية، وجعل فيها فروقا كثيرة يستطيع بها الإنسان معرفة طريقه واتجاهه.فلو أن الأرض كلها كانت على طراز واحد لبقى الإنسان طوال الحياة دائرًا في مكان واحد كحمار المعصرة.هذا فيما يتعلق بالوسائل الأرضية التي تساعد على معرفة الطريق، ولكن هناك وسيلة سماوية أيضا تساعد السائرين على معرفة الطريق في ظلمات الليل ومتاهات البحر ألا وهي النجوم.وبالمثل فقد جعل الله وعمل في الرحلة الروحانية أيضا علامات أي معالم واضحة ومنازل مميزة يستطيع السالك برؤيتها معرفة الجهة التي يتوجه إليها، وما إذا كان يتقدم أو يتأخر أو ينحرف؛ وكذلك جعل للرحلة الروحانية النجوم أي الأنبياء الذين يهتدي بهم السالك في سيره الروحاني.وبما أن الأنبياء جميعا من مصدر واحد فكل نبي يساعد السالكين من كل زمن في رحلتهم الروحانية.وكما أن النجم يدلّ بمقامه ومنزله على وجود النجم الآخر كذلك ينبئ كل نبي في تعليمه عن مجيء النبي المقبل، فلا يبرح السالكون يزدادون في إيمانهم باستمرار.النبي الذي أتى بعده، وهذا أخبر بظهور من يُبعث لقد نبأ موسی العلية بمجيء
الجزء الرابع ۲۳۰ سورة النحل بعده وهلم جرا؛ وكأن كل نجم روحاني لم يزل يدل على النجم التالي، وفي الأخير دلت هذه النجوم الروحانية كلها على الشمس الروحانية أي محمد رسول الله، مما سهل للإنسان القيام بهذا السفر الروحاني والوصول إلى مركز الروحانية.قل أَفَمَن تَخلُقُ كَمَن لا تَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٨ التفسير : قال البعض كان ينبغي أن يقال هنا : أفمن لا يخلق كمن يخلق، لأنهم عند عقد المقارنة يذكرون الضعيف قبل القوي، فيقولون مثلا: هل يكون الطفل كالبطل، ولا يقال هل يكون البطل مثل الطفل؟ هذا الاعتراض كان معقولاً جدًّا لو كان الغرض منه المقارنة في القوة.فقد سجل العلامة الزمخشري في تفسيره هذا الاعتراض، ثم حاول الرد عليه قائلا: "حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسووا بينه وبينه، فقد من جنس المخلوقات وشبيهًا بها ، فأنكر عليهم ذلك بقوله (أَفَمَنْ يخلق جعلوا الله كَمَنْ لا يخلق" (الكشاف).وعندي أن هذا الجواب ليس قويًّا بما يكفي، وأنه يمكن الرد على هذا السؤال بالنظر إلى سياق الآيات السابقة، الذي ما زلت أركز عليه لدى تناولي موضوع الربط بين هذه الآيات.إن الموضوع الذي يناقش هنا هو: هل هناك داع لينـــزل الله ل وحيه للعباد؟ لقد زعم المشركون أن إنزال الوحي للبشر يتنافى مع عظمة آلهتهم، ولكن الله تعالى يعلن: ليس الأمر هكذا، بل الواقع أن آلهتهم الباطلة لا تقدر على إنزال الوحي أبدًا، لأنها لم تمنح أحدًا قط أية نعمة مادية، ولا تستطيع أن تعطيه أية نعمة روحانية أيضًا؛ أما الله تعالى فهو قادر على إنزال الوحي، فلا تشابه إذا بين الله تعالى وبين آلهتهم.إنه تعالى كما قد آتاكم النعم الدنيوية فإنه يمنحكم النعم الروحانية أيضًا.فهل تريدون الله و أن يصبح عاطلا
الجزء الرابع ۲۳۱ سورة النحل عن أي قدرة مثل آلهتكم الباطلة؟ كلا، إنه إله حي قوي قادر.فما دام قد خلق آلاف الأسباب لرقيكم المادي..فكيف يمكن أن يقصر - مثل آلهتكم – في هداية العباد إلى طرق رقيهم الروحاني.إن آلهتكم لا تحرم العباد من الوحي بسبب عظمتها، وإنما لعجزها وقلة حيلتها؛ ولكن الله وعمل ليس عاجزا، ولذلك كان ولا يزال ينزل وحيه للعباد والآية التالية أيضا تؤكد هذا المعنى.وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَ ُورٌ رَّحِيمٌ (٢) ۱۹ التفسير: أي ما الذي يمنع الله تعالى من إنزال النعم الروحانية أيضًا على العباد، ولماذا يصير مثل آلهة المشركين الباطلة ويبقى صامتا كالأصم، ما دام ل قد أنزل على العباد نعمه المادية بهذه الكثرة؟ ثم قال تعالى إن الله لغفور رحيم..أي لو لم ينزل الهدى عبر الوحي فكيف يتم الغفران للضعفاء المقصرين، وكيف يتم إعزاز الأكفاء المجتهدين؟ فثبت أنه لو لم ينزل الهداية لم يَعُدْ غفورا رحيما، ومن أجل ذلك لا يقصر في إنزالها.وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٤) التفسير والآن يسوق القرآن الكريم دليلاً آخر على أن البشر أو الآلهة الباطلة لا يقدرون على تزويد الناس بالهدي الملائم، وإنما الله وحده القادر على ذلك؛ فقال: إنه لا يعلم ما عندكم من قوى ظاهرة وخفية، وأيضًا ما يتولد في قلوبكم من وساوس وشبهات، سواء أظهرتموها أو أسررتموها، فلزم أن يتولى هو ول وحده هدايتكم أيضًا.وليكن معلومًا أنه لا بد لهداية الناس من أمرين أولهما العلم الكامل بدقائق الفطرة البشرية، فمن دون الإحاطة بقوى الإنسان ما ظهر منها وما بطن، يستحيل توجيهه بشكل صحيح، كما لا يمكن تنمية قواه كلها؛ وثانيهما معرفةُ
الجزء الرابع ۲۳۲ سورة النحل ما يختلج في قلب أحد من أفكار ووساوس، لأن هناك آلافا من الذين لا يذكرون شبهاتهم لأحد خوفًا من القوم، وأنى للطبيب أن يعالج مريضا لا يساعده على معرفة مرضه وعلى سبيل المثال يوجد في هذا العصر آلاف من المثقفين المسلمين الذين ينكرون الوحي أصلاً، ولو قلت لهم إن استمرار الوحي حق فإنهم - رهبةً من القوم - لن يصارحوك بما في قلوبهم ولن يقولوا لك بلسانهم بأن لا وجود للوحي مطلقا، وأن كل من ادعى بتلقي الوحي كان مفتريًا أو منخدعا، بل سيهربون من المواجهة بقولهم: ما الحاجة إلى الوحي بعد القرآن الكريم؟ كما أن هناك الملايين من بين المسلمين المعجبين بالثقافة الحديثة الذين ينكرون حتى وجودَ الله كليةً، ولكن لو تحدثت معهم عن الله وعل فلن يقولوا لك صراحةً أن ليس هناك أي شيء كالإله، بل سيلهونك بأمور هامشية ملتوية، فمثلاً يقولون: نعم نسلّم بوجود الله ، ولكن ما الداعي لأن يتدخل هو في شؤون أهل الدنيا؟ على الإنسان أن يكون طيب القلب، وهذا يكفي لإرضاء الرب.وهكذا يتهربون من طاعة الأوامر والنواهي التي أنزلها الله ل بالوحي لائذين بهذه الأقوال الباطلة التي تبناها المتصوفون الكاذبون..من دون أن يصارحوك – خوفًا خوفا من قومهم – أنهم في الواقع ينكرون ذات البارئ الله.والواضح أن المصلح العادي الذي يجهل مثل هذه الشبهات الخفية في الصدور سوف يسوق الأدلة على أمور أخرى لا تمت إلى المرض الحقيقي بصلة، وإنما ترددها الألسنة خداعًا للقوم؛ ولكن الذي هو مطّلع على ما في القلوب من أمراض وعيوب خفية سوف يركز على ضرورة تطهيرها من تلك الأمراض، غاضًا النظر عما يقول الناس بأفواههم، وهكذا سوف تكلل حملته الإصلاحية بالنجاح.وبما أن الله ل هو وحده العليم بما تخفي الصدور مثلما هو وحده الخبير بقوى الناس فهو الأولى والأحرى بإنزال الهدي لهم، ومنهجه هو وحده الذي يُكتب له النجاح في حملة إصلاح الناس والقرآن الكريم برهان عملي على هذه الدعوى؛ فإنه يتضمن بين دفتيه ما يقوم وينمّي القوى الإنسانية جميعها، -
الجزء الرابع ۲۳۳ سورة النحل سواء ما ظهر منها وما بطن؛ كما أن تعليمه يردّ على كل شبهة توسوس بها النفس البشرية، بل إن القرآن قد رد حتى على تلك الوساوس التي بدأت تتولد في القلوب في العصر الحديث جرّاء التقدم العلمى المادي، وإن كان معظم الناس لا يجهرون بهذه الوساوس والشبهات خشية الآخرين.وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ تخلَقُونَ ۲۱ التفسير: كان من الوارد هنا أن يقول المشركون على سبيل التعنت والعناد: ليس صحيحًا أن آلهتنا غير قادرة على إنزال الهدي؛ إنها تعلم خفايا الصدور وتستطيع أن تهدي الناس لو شاءت، ولكنها لا تريد إنزال الوحي لأن الإنسان ليس بحاجة إلى الوحي.وفعلاً يزعم معظم المشركين بكل شدة أن آلهتهم تعلم الغيب....Rig Veda)، بل إن بعض الحمقى من المتصوفين المسلمين أيضًا يظنون أن النبي كان يعلم الغيب – والعياذ بالله.أذكر أنني كنت أناقش مرة أحد المتصوفين كهؤلاء، وكنت آنذاك صبيا، وكان على رأسي طربوش تركي له ،ريش وكان ريش الطربوش في يدي.فقال لي هذا المتصوف الأحمق: إن الرسول الكريم الله يعلم أن هذا الريش في يدك.فالله تعالى يرد على مثل هؤلاء الوثنيين ويقول : إن علم الغيب لا يتيسر لأحد إلا أن يكون خالقًا، لأن خالق الشيء هو وحده يعلم بما في مخلوقه من قوى وصفات، ولو علم غيره بصفات ذلك الشيء ومزاياه لقدر هو الآخر على خلقه، ولكن الذين تتخذونهم آلهة ليسوا بخالقين، بل هم أنفسهم مخلوقون جميعًا.ما أروع ما فندت به هذه الآية كونَ أحد، أيا كان عالما بالغيب إلا الله عل! ولكن يا للغرابة والأسف على المسلمين، إذ يوجد بينهم من يزعمون أن
الجزء الرابع ٢٣٤ سورة النحل اللي كان يعلم الغيب ويخلق الطيور، مع أن الله وعل يصرح هنا أنه ليس بين كل ما يُعبد من دون الله أحد يستطيع خلق أي شيء.والظاهر أن عيسى هو من بين الآلهة الباطلة التي يعبدها الملايين.العليا صلے أَمْوَتُ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) شرح الكلمات: ۲۲ يشعرون: شعر به شعوراً: علم به.وشعر لكذا: فطن له؛ عقل؛ أحس به (الأقرب).التفسير: أي لا بد لمن يقترح منهجًا للناس أن يكون حيًّا بالإضافة إلى كونه خالقًا، حتى إذا طرأ على خلقه فساد أزاله على الفور.وهذا دليل آخر على حرمان الآلهة الباطلة من صلاحية الهدي والإرشاد حيث بين الله وعلى أن الموت قد شمل كل من تعبدونهم من دوني، فكيف يمكنهم أن يهدوكم؟ فلو حصل الآن فساد في الناس كيف يتمكن هؤلاء الأموات من دفع هذا الفساد وإزالته؟ فمثلاً العجيب أن كثيرًا من المسلمين يحملون عقائد تخالف هذه الآية الصريحة.يقولون بحياة عيسى بن مريم عليهما السلام مع أن الله تعالى يعلن هنا صراحة أن كل من كان يُعبد من دون الله حتى زمن نزول القرآن الكريم قد مات؛ وكان النصارى يعبدون المسيح ال، فثبتت وفاته قبل نزول القرآن بموجب شهادة هذه الآية، لأن التسليم بحياته يستلزم القول أنه لم يكن ممن اتخذوا آلهة بالباطل، بل كان – والعياذ بالله – إلها حقا! لقد أبطل الله وعمل في هاتين الآيتين عقيدة الشرك بأربعة أدلة قوية هي: 1 - أنهم لا يخلقون شيئًا، مع أنه لا بد للإله أن يكون خالقًا، لأن الألوهية تستلزم الكمال المطلق.
الجزء الرابع ۲۳۵ سورة النحل ۲- وهم يُخلقون، أي أن الآلهة الباطلة بحاجة إلى الغير، وهذا عوز ونقصان، والناقص لا يمكن أن يكون إلها.- أموات غيرُ أحياء ، أي أن الآلهة الباطلة لا يملكون الآن نفعًا ولا ضرا، ولكن الإله يجب أن يتصف بصفة النفع والضرر في كل حين وآن.- وما يشعرون أيانَ يُبعثون ، أي أن مصيرهم أيضًا ليس في أيديهم.قد يقول هنا :أحد ما الدليل على أنهم لا علم لهم متى يُبعثون؟ والجواب أن سيدنا عيسى الله - الذي هو أكثر مَن يُعبَد في الدنيا من دون الله عل – يقول عن يوم البعث: "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب.انظروا.اسهروا وصلوا، لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت." (مرقس ۱۳: ۳۲ و ۳۳) هذا هو حال عيسى ، فما بالك بالآلهة الباطلة الأخرى.العلا، وو ج إلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم وو و منكِرَةٌ وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ ) شرح الكلمات ۲۳ منكرة: أنكره: جهله الأقرب).(لمزيد من الشرح راجع الآية رقم ٦٣ من سورة الحجر).التفسير: إن قوله تعالى إلهكم إله واحد ليس ادعاء بدون دليل، لأن القرآن الكريم أثناء حواره مع الكفار لا يعرض عليهم الدعوى فقط، إذ لا تجدي الدعوى بدون دليل نفعا، بل إنه يتبع أحد طريقين: إما أن يعرض عليهم الدعوى أولاً ثم يسوق عليها البراهين، أو يقدم الأدلة أولاً ثم يذكر النتيجة المنطقية.وكل من الطريقين طبيعي يطمئنّ إليه العقل، وكل واحد منهما نافع جدا في محله.وقد اتبع القرآن الكريم هنا الطريق الثاني، حيث كانت الآيات السابقة تتحدث عن
الجزء الرابع ٢٣٦ سورة النحل موضوعين: أولهما أن كل ما في الكون منسلك في سلك نظام واحد، وأن كل شيء فيه يستند إلى غيره ويعتمد عليه، وأن الإنسان هو الغاية من خلق الكون.ثم بيّن أن غذاء الإنسان حيواني أساسًا، وأن هذه الحيوانات تتغذى على النبات من شجر وعشب، والنباتات تعيش وتنمو بالماء، والبشر يستقون من هذا الماء أيضًا كما يأكلون من هذه النباتات.وكل هذه الأشياء تأخذ في النماء والازدهار بتأثير ظاهرة الليل والنهار والأجرام السماوية من شمس وقمر ونجوم وغيرها، كما تعتمد هذه الأشياء كلها على البحر الذي يحتفظ بذخيرة الماء، فيتبخر منه ليصل إلى البشر والحيوان والنبات نقيا صافيًا.ولكي تبقى البحار على حالها جعل الله الجبال التي تدّخر الماء على شكل ثلوج، ومنها يجري الماء باستمرار على شكل أنهار تمر بدروب معينة لينفع العالم، ثم لينصب في البحر مرة أخرى، من دون أن ينتشر ويغطي سطح اليابسة كلها، وتبقى اليابسة صالحة لعيش الإنسان عليها كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن كل ما في الكون مرتبط بعضه ببعض تحت نظام محكم، وأن العالم ليس مجموعة أشياء مبعثرة لا نظم بينها ولا ربط، بل إن كل شيء فيه يمثل حلقة في سلسلة كثيرة الحلقات، لو نزعت منها حلقة واحدة لانفصمت السلسلة ولم يعد لها كذلك لو نُزعت ظاهرة من هذه الظواهر الشمل الدمار الكون كله.فمثلا لو جفت البحار لما وُجد الماء، ولو يبست الأنهار لنفدت البحار، ولو أزيلت التضاريس التي تهيئ مجرى للأنهار لغطّت مياهها وجه اليابسة كلها، وبالتالي لم تعد الأرض صالحة للعيش عليها ولولا الجبال لتعرضت الأرض للزلازل باستمرار، وهلك أهلها، ولجفّت الأنهار التي تستمد مياهها من ذخيرة الثلوج على قمم الجبال، لأن الأنهار سوف تصب مياهها مرة واحدة في البحار مما سيؤدي إلى الفيضانات البحرية من جهة وإلى حرمان أهل اليابسة من الماء الذي يتوزع فيها على مدار السنة من جهة أخرى.ولولا الأجرام الفلكية لحرمت الأرض وما عليها من تأثيرات النجوم النافعة، ولم تبق الأرض على حالتها.ولولا وجود.
الجزء الرابع ۲۳۷ سورة النحل الشمس لما كانت الأمطار، ولمات الإنسان والحيوان عطشا، و لم تنضج الثمار ولا الخضار، مما سيضر بصحة الإنسان، بل لما كانت هناك أية فرصة لتيسر الغذاء الحيواني له.وبالاختصار فإن كل ما في الكون يعمل معًا على خدمة للإنسان، وكل شيء فيه يعتمد على الشيء الآخر.وإذا كيف يصح – والحال هذه الاعتقاد بوجود أكثر من إله في الكون.لو كان هناك آلهة أخرى من دون الله ل فدلونا على شيء في الكون ليس بخاضع لهذا النظام حتى يقال عنه إنه مخلوق بيد خالق آخر.فبما أن كل ما في الكون خاضع لنظام واحد كحلقات سلسلة واحدة فلا مناص من التسليم بأن الكون مخلوق بيد إله واحد.اللهم إلا أن يقال أن الإله الواحد لم يكن بمفرده قادرًا على خلق الكون كله، فتوزّع الآلهة المتعددة الأعمال فيما بينهم، فأنجز كل منهم ما عُهد إليه بحسب الخطة المتفق عليها فيما بينهم من قبل.ولكن لا أحد يعتقد بهذا حتى ولا الملحدون لأنه مناف للعقل، إذ لا يمكن أن يكون الناقص إلها.وهذا الدليل يوصل المرء إلى نتيجة واحدة فقط هي: إلهكم إله واحد.وكان الموضوع الثاني الذي نوقش في الآيات السابقة هو أن كل من اتخذ إلها من دون الله تعالى قد أدركه الموت، فليس هناك إلا الإله الواحد الحق الذي هو أسمى من أن تصل إليه يد الفناء؛ فثبت بذلك أن قوله تعالى إلهكم إله واحد نتيجة منطقية لما ذكر من قبل، وليس بادعاء خال من الدليل والبرهان.ثم قال فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهـم مستكبرون).والفاء هنا جاءت بمعنى الواو بحسب عادة العرب (راجع الأقرب)، وتمثل هذه الجملة ردًّا على اعتراض محتمل وهو: إذا كانت وحدانية الله أمرا بديهي الثبوت فلماذا ينكر الناسُ ذلك؟ فقال : إن إنكارهم وحدانية الله تعالى ووقوعهم في الأعمال الوثنية لا يستند إلى دليل ولا برهان وإنما مرجعه أنهم قد أصبحوا في الواقع منكرين للبعث بعد الموت، فلم يعودوا جادين في أمور الدين.ذلك لظنهم
الجزء الرابع ۲۳۸ سورة النحل أنهم لن يحاسبوا على أعمالهم فلا يفكرون بجدية فيما إذا كانت أفعالهم حسنة أم سيئة، كما لا يرون في التعصب والتعنت بأسًا، وبالتالي يتمكن الجهل والغباوة من قلوبهم، فلا يبقى لديهم تلك الفطنة والشعور التي يملكها من يدرك أن أعماله ستأتي حتما بنتائج هامة، فينكر هؤلاء حتى البديهيات اليقينيات غير مكترثين.فقوله تعالى قلوبهم منكرة يعني أنهم غافلون وأغبياء، فلا يدرون أن هناك تعارضًا سافرًا بين عقائدهم.وهناك مرض آخر يصيب هؤلاء المنكرين – نتيجة إنكارهم للبعث بعد الموت- ألا هو الكبر والغطرسة، لأن منكر الآخرة لا يحذر من العواقب، والذي لا يخاف العواقب يتكبر ولا يرى لقبول الحق حاجة.فالواقع أن الآية تذكر نوعين من المشركين أولهما من قلوبهم منكرة، أي الذين قد ركبهم الجهل، فلا يملكون من الشعور ما يدفعهم للتفكير بجدية؛ وإن مرض قلوبهم هذا يحرمهم من الإيمان والنوع الآخر من هم مستكبرون، أي الذين إذا سمعوا البراهين على وحدانية الله و استيقنتها قلوبهم، ولكنهم يأبون الاعتراف بالحق بألسنتهم تعصباً واستكبارًا لأن إنكارهم للجزاء والعقاب قد جعلهم غير مبالين، فلا يرون في إنكار الحق حرجًا ولا ضررًا.ج لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا تُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) شرح الكلمات : لا جَرَمَ مِن جرم يجرم جرما: قطع: قال الفراء: كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بدَّ" و "لا محالة ، فجَرَتْ على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم وصارت بمنزلة "حقا"، وهو مأخوذ من معنى القطع (الأقرب).
الجزء الرابع ۲۳۹ سورة النحل التفسير : يعلن القرآن الكريم هنا أن البراهين المذكورة أعلاه إذ تدل على وحدانية الله ، فإنها تؤكد أيضًا على كونه عالم الغيب، وأن الذي يعلم سرَّهم وعلانيتهم لا بد أن يجزيهم على أعمالهم بيد أنه لن يعاقب الجميع على سواء، بل الذين كفروا بيوم البعث جهلاً سيكونون أخف عقوبةً من الذين علموا أن التوحيد حق، ومع ذلك أنكروه عنادًا واستكبارًا؛ فقوله تعالى إنه لا يحب المستكبرين إشارة إلى أن الذين يكفرون عمدًا يستوجبون عقابًا أشد.وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَطِيرُ الْأَوَّلِينَ شرح الكلمات: ۲۵ أساطير : سطر الكاتب: كتب.سطر الرجلَ : صرَعه.سطره بالسيف: قطعه به.والإسطار والأسطار والأُسطور والأسطير: ما يُسطَر أي يُكتب، وتُستعمل في حديث لا نظام له، وتُستعمل أيضًا للحكايات جمعه أساطير (الأقرب).التفسير: لقد عاد الحديث هنا إلى الموضوع الأصلي مرة أخرى حيث يخبرنا القرآن أن منكري التوحيد والبعث حين يسمعون هذه البراهين لا يفكرون فيها، بل يقولون: ما الجديد الذي يقدمه هذا النبي؟ إنه ينقل ما كتبه الأولون من أمور تافهة لا قيمة لها.لا شك أن "الأسطور" يعني الكتاب والحكاية أيضا، ولكن من الأفضل – نظرا إلى السياق – أن نأخذه هنا بمعنى الكتاب، لأن هذه السورة لا تحكي لنا قصص الأنبياء، وإنما تتناول بعض الأدلة والبراهين؛ فالمعنى أن أعداء الحق حين يسمعون هذه البراهين ويخافون أن يقتنع بها الناس فإنهم يقولون على سبيل الازدراء: ليس في هذه الأقوال من جديد، فقد سبق أن ذكر الأوائل في كتبهم مثل هذه الأمور التافهة؛ وذلك لكي يوهموا أتباعهم أن ما يقوله النبي ليس من كلام الله ، وإنما نقل عن كتب الأولين، وكُنا به عالمين ومن خطئه متأكدين.
الجزء الرابع ٢٤٠ سورة النحل الحق أن أعداء الحق وأئمة الكفر في كل عصر يلجئون إلى هذه الحيلة الملتوية.فحين يسمعون من أهل الحق أدلتهم القوية ويرون أنهم عاجزون عن دحضها يفرون من المواجهة دومًا قائلين: على رسلك يا فلان! ليس بيدك شيء معقول؟ إذ ما زال الناس منذ القدم يردّدون مثل هذه الأقوال السخيفة.فيظل الجهال الذين يتبعون أعداء الحق هؤلاء غافلين عن قوة براهين أهل الحق، فرحين بأن ما يقول لهم نبيهم ليس بشيء جديد، فلا يمكن أن يكون من عند الله تعالى.وكأن كل ما ينزل من عند الله ولا يجب أن يكون شيئًا جديدا، مع أن الواقع يخالف ذلك؛ لأن الهدف من نزول الوحي هو إحياء الحقائق السابقة التي تلاشت واختفت من العالم لا شك أن الوحي يتضمن أيضا بعض المعارف الجديدة وفق مستجدات العصر، ولكن المبادئ التي يدعو إليها الأنبياء جميعًا هي مو.مشتركة بينهم، ومن خالف تلك المبادئ وجاء يبدع فهو كاذب حتما.موحدة لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ شرح الكلمات ٢٦ أوزار وزره حمله.وفي اللسان : حَمَلَ ما يُثقل ظهره من الأشياء المثقلة.والوزر : السلاح لثقله على حامله؛ الحمل الثقيل، وجمعه أوزار (الأقرب) التفسير: يقول الله تعالى : لا جرم أن أعداء الحق ينجحون في خداع العامة بأقوالهم، ولكنهم يفسدون بذلك عاقبتهم أكثر من ذي قبل، لأنهم سوف يعاقبون على تضليل الآخرين بالإضافة إلى جزاء معاصيهم.مع العلم أن اللام في قوله تعالى ليحملوا هي لام العاقبة أي لبيان النتيجة، والمراد أن عذابهم المضاعَف نتيجة للخداع الذي كانوا يلجئون إليه.
الجزء الرابع ٢٤١ سورة النحل وقوله تعالى بغير علم متعلق بضمير (هم) الوارد في قوله يُضلونهم، والمعنى أن أئمة الكفر هؤلاء كانوا يُضلّون بأقوالهم أتباعهم الذين كانوا بغير علم..أي كانوا جاهلين.وليس المراد أن أئمة الكفر كانوا بسبب جهلهم يُضلون الآخرين، إذ صرحت الآيات السابقة أنهم يُضلّونهم تعصبا وفسادًا لا غير.ويمكن تفسير لفظ كاملة بطريقتين: أولهما أن نعتبره متعلقا بيوم القيامة، فيكون المعنى أنهم سينالون جزاء بعض أعمالهم في الدنيا، ولكنهم يُجزون عليها كاملةً يوم القيامة.وثانيهما أن يكون متعلقا بفعل ليحملوا، فيكون المعنى أنهم سيحملون أثقال أعمالهم كاملة من دون أن يُنقص منها شيء، ذلك أن المؤمن في الدنيا فيغفر له ذنوبه ويقل ثقله، ولكن هؤلاء المتكبرين يصرون على الذنوب عنادًا، فلا يُحَطَّ من ذنوبهم شيء، لذلك سوف يحملونها كاملة.يستغفر الله قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَنهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ) شرح الكلمات : ۲۷ مَكَرَ مكَره: خدعه مكر الله فلانًا: جازاه على المكر.قيل: المكر صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان: محمود يُقصد فيه الخير، ومذموم يُقصد فيه الشرُّ (الأقرب).فأتى الله بنيانهم أتاه جاءه أتى الأمر فعله أتى المكان: حضره: أتى على الشيء: أنفدَه وبلغ آخره.أتى عليه الدهر: أهلكه (الأقرب).خر سقط سقوطا يُسمع منه خرير.منه خرير.وخر الحجر: صوت منحدرا (الأقرب).القواعد: قواعد البيت: أساسه (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٤٢ سورة النحل التفسير : يقول الله وعمل : إن إثارة العامة ضد محمد تضليلاً وتعتيما ليس بأمر بدع من هؤلاء الكفار، إذ ما زال هذا دأب أعداء الحق ضد كل نبي في كل عصر، ولكن مكائدهم لم تنجح أبدا بل انقلبت عليهم.ما ألطف هذا البيان وما أروعَه! لقد سجل القرآن الكريم من قبل اعتراض الكفار بأن محمدًا لم يأت بشيء جديد، وإنما يقول ما يقول نقلاً عن الأولين، فرد الله عليهم بالأسلوب نفسه قائلاً: صحيح أن كثيرًا مما يقوله هذا النبي هو نفس ما قاله الأنبياء السابقون، وتظنون أنه يقول هذا تقليدًا لهم، ولكن ألا تفكرون أنكم أيضا تقلّدون أعداء الرسل الأولين إذ ترتكبون ضده نفس الشرور والمكائد التي ارتكبها هؤلاء ضد رسلهم.فلو كان وحيه تقليدًا للرسل الأولين، فهو تقليد محمود، ولكن تقليدكم مذموم، لأنه تقليد الأشرار.فلا يمكن أن تفرّوا بهذه الحجة من مواجهة الموقف أيضًا، لأن رسولنا يقلد الذين فازوا في هدفهم في آخر المطاف، ولكنكم تقلدون قومًا كان مصيرهم الهلاك، فلا شك أنكم الخاسرون في كل حال.إن أعداء الحق في الماضي أيضًا قاموا – مثلكم – بتأليب العامة على رسلهم، زاعمين أن ما يقولونه إنما هو تقليد لمن قبلهم، فهل استطاعوا بمكائدهم أن يحولوا دون انتشار تعاليم أنبيائهم؟ وهل نجحوا في تدميرهم وإهلاكهم؟ كلا، بل كانوا هم الهالكين.ثم وصف العذاب الذي دمر أعداء الحق فقال: فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف..أي أنه تعالى أنزل عليهم العذاب الذي هدّ مبانيهم من أسسها فسقطت الجدران مع السقف..والمراد أن كلهم – أسيادا وأتباعًا - هلكوا أجمعين؛ فالجدران أي الأتباع الذين كانوا يعتمدون على الأسياد سقطوا على وجوههم أي على أسيادهم كما تسببوا في هلاكهم أيضًا.فلا تغتروا، يا أعداء محمد، بما تتمتعون به من نفوذ وسلطان على العامة، لأنه حين يأتي عذاب
الجزء الرابع ٢٤٣ سورة النحل الله ولا فلن تنفعكم السلطة ولا النفوذ شيئًا، بل سيدمر نظامكم، ويسقط الأسياد مع الأتباع، بل إن الأتباع هم الذين يتسببون في هلاك الأسياد.ثم أخبر الله أن العذاب فاجأ الكفار بشكل خارق دائمًا، حتى إن أئمة الكفر أيضًا لم يشعروا بقدومه إلا بعد أن داهمهم، لأنه جاءهم بطرق لم تخطر ببالهم.علما أن تعبير "إتيان الله "الكفار" يعني في القرآن الكريم دائما نزول عذاب الله عليهم.ولكن البهائيين يستنتجون من هذا التعبير القرآني وما شاكله استنتاجا خاطئًا حيث يقولون: لقد أكد القرآن أن الله نفسه سيأتي، وها قد ظهر الله الآن في شخص "البهاء".ولكن الحق أن هذا التفسير البهائي يخالف تماما فحوى القرآن الكريم كما هو واضح من هذه الآية بكل جلاء.إن تفسيرهم مقبول في صورة واحدة فقط، وذلك إذا اعتبرنا "البهاء" عذابًا لأهل هذا الزمن.ولا اعتراض عندنا على اعتبار "البهاء" تحليًّا قهريًّا من عند الله تعالى، لأنه لا يعذب الغافلين عن دينه بما يزيدهم غفلةً وعمايةً.هذا، وبسرد أحداث الأمم السابقة حذر الله ولا أهل مكة أن نظامهم منخور من داخله وموشك على الانهيار بنفسه ؛ فأَنَّى لهم أن يدمروا النظام الذي جاء به محمد ﷺ كلا، بل إن بناءهم هو الذي سينهار بجدرانه وسقفه وهم ينظرون.ويعلم الذين لهم إلمام بالتاريخ أن المكيين كانوا في الظاهر غالبين حتى بيوم واحد قبل فتح مكة، ولكن الوضع انقلب فجأة، وانهار بناؤهم على الأرض كلية.ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَتَقُونَ فِيهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوَءَ عَلَى الْكَارِينَ شرح الكلمات حرف عطف يدل على الترتيب والتراخي، ربما أدخلوا عليه التاء كما قال:
الجزء الرابع ٢٤٤ سورة النحل ولقد أمر على اللئيم يسبّني فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يعنيني (الأقرب) يوم: اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ الوقت مطلقًا (الأقرب).يُخزي: أخزاه: أوقعه في الخزي أو الخزاية وأهانه.أخزى الله فلانًا: فضحه.والخزي: الهوان العقاب؛ البعد الندامة، وأصل الخزي: ذُلّ يُستحيا منه (الأقرب).تشاقون: شاقه: خالفه وعاداه (الأقرب).التفسير: في بعض الأحيان ينزل بالإنسان مصيبة تلحق به الضرر، ولكنها لا تسبب له أي عار أو إهانة، وأحيانًا يحل به خطب لا يُهلكه ولكن يهينه ويخزيه.يقول الله تعالى: إننا سوف نصب على أعداء نبينا الكريم عذابا يفضحهم ويدمرهم أيضًا.الَّذِينَ تَتَوَفَّتْهُمُ الْمَلَتَبِكَةُ ظَالِمِي أَنْسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ج مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىٰ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ) ۲۹ شرح الكلمات: السلم الاسمُ من التسليم بمعنى السلام؛ الاستسلام (الأقرب).بَلَى: جواب للتحقيق، توجب ما يقال لك لأنها ترك للنفى، فإذا قلت لزيد: أليس عندك كتاب، فقال "بلَى" لَزِمَه الكتاب، وإن قال "نعم" فلا يلزمه (الأقرب).التفسير: لقد صرح الله هنا أن هذا العذاب إنما يصيب أولئك الكفار الذين يصرون على الكفر حتى الموت، حيث بين بقوله ظالمي أنفسهم أن هؤلاء يفنون أعمارهم ظالمي أنفسهم وهم يحسبون أنهم يؤذون النبيين؛ فمثلهم كمثل
الجزء الرابع ٢٤٥ سورة النحل الوحش الذي لا يبرح يلعق الحجر فيجرح لسانه، ظنا منه أن لذة الدم الذي ينزف من لسانه إنما هي طعم الحجر، فلا ينفك يلعقه حتى يفقد لسانه كله.والسلم هو الصلح، لأنه يؤدي إلى سلامة كل من الفريقين من شر الآخر.والمراد من قوله تعالى فأَلقَوُا السَّلَمَ أنهم حين يرون العذاب لن يجدوا لهم مهربا، فيدعون إلى التصالح.آلهة الله وأما قولهم ما كنا نعمل من سوء فلا يعني - عندي – أنهم لن يعترفوا بتورطهم في الشرك، بل المراد أنهم لن يستطيعوا عند رؤية العذاب أن ينكروا عبادتهم لآلهتهم، لذلك سوف يبررون أعمالهم الوثنية بقولهم: لم نعملها بنية سيئة إنما عملناها بحسن النية.وهذا ما نراه في الدنيا أيضًا، فإن المشركين يقولون لدى عجزهم عن دحض براهين أهل التوحيد لا نسجد للأصنام وغيرها باعتبارها وإنما نفعل ذلك تركيزاً لتفكيرنا، وإلا فإننا لا نعبد إلا الله وحده! ويرد عليهم بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون..أي ليس قولكم هذا إلا عذرًا واهيا، لأننا أعلم بأي نية كنتم تعبدون آلهتكم الباطلة، بل كنتم مشركين، لأنكم لو كنتم تبحثون عن الله و بصدق النية لما لجأتم إلى هذه الطرق الزائفة.وقد يكون المراد من قولهم ما كنا نعمل من سوء أننا بذلنا كل ما أوتينا فطنة وذكاء، و لم نفعل ما فعلناه إلا ظنا منا أنه الحق؛ فيرد الله جل عليهم: إنكم كاذبون.إذ لو كنتم في الواقع صادقي النية في أفعالكم لهديناكم طبقا لسنتنا المستمرة: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا (العنكبوت: ۷۰).فلو بحثتم عنا بحسن النية لما سلكتم طريقًا خاطئًا، بل لتولينا هدايتكم إلى صراطنا المستقيم.فلا يمكن أن تنجوا من العقاب بتقديم هذا العذر الواهي.من
الجزء الرابع ٢٤٦ سورة النحل صلے فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا فَلَبِفْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبرين شرح الكلمات : جهنم دارُ العقاب بعد الموت راجع لمزيد التفصيل تفسير الآية رقم ١٩ من سورة الرعد.بئس: كلمة دم، عن وهي فعل ماض جَمَدَ لإخراجه عن موقعه، فهو محوَّل بَؤُسَ الرجلُ أي أصاب بؤساً، وحَقٌّ فاعله أن يكون مقرونا بلام الجنس أو مضافًا إلى مقرون بها، وقد يُضمر مفسَّراً بنكرة منصوبة على التمييز أو بما النكرة نحو: بئس رجلاً زيد، وبئس ما زيدٌ (الأقرب).مَثْوَى : التَّواء والمثوى: الإقامة مع الاستقرار (المفردات).المثوى: المنزل (الأقرب).التفسير : لقد أكد الله تعالى في هذه الآية أيضًا نفس الموضوع السابق بأن المتكبر - أي الذي يصر على رفض الحق بعد معرفته بسبب نية شريرة ويقول: كيف يمكن أن أكون من الأقزام باتباع النبي - لا بد أن يعاقب بأشد مما يعاقب به من يكفر غفلة وتهاونًا لا بنية شريرة، ذلك أن جريمة الكبر أبشع من فكلمة بنس بينت الفرق بين شناعة الجريمتين.الغفلة.وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (3) شرح الكلمات : خيرا: الخير: وجدان الشيء على كمالاته اللائقة؛ وقيل: حصول الشيء لما من شأنه أن يكون حاصلاً له..أي يناسبه ويليق به؛ المال مطلقًا؛ الكثير الخير (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٤٧ سورة النحل نعم: فعل غير متصرف لإنشاء المدح (المنجد).التفسير : تبين هذه الآية وجهة نظر المؤمنين تجاه القرآن الكريم، وتخبرنا بأية نظرة كانوا ينظرون إليه.قد يقال هنا: كان هؤلاء مسلمين، فما قيمة شهادتهم في حق القرآن الكريم؟ والجواب أنهم أدلوا بهذه الشهادة في مكة حين كانوا هدفًا لصنوف التعذيب والعدوان يخافون على حياتهم؛ فتصديقهم للقرآن الكريم ونظرهم إليه بهذه النظرة في تلك الظروف الحرجة الحالكة لشهادة قوية على صدقه.أما قولهم خيرا فالمراد منه أن هذا القرآن قد نزل على كمالاته اللائقة المناسبة..أي أن كل ما ينبغي توافره في أي كتاب سماوي لموجود في القرآن بتمامه وكماله؛ أو المعنى: أننا وجدنا القرآن أفضل مما كنا نتوقعه.لقد أخبرنا الله تعالى باستخدام كلمة أحسنوا أن زاوية النظر تلعب دورًا كبيرًا في أعمال الإنسان؛ فأحد هذين الفريقين نظر إلى القرآن الكريم على أساطير الأولين، فلم يُلق لإنذاره بالا، فهلك بينما اعتبره الفريق المؤمن خيرا، فاتبعه بصدق، فدخل به نعم الدار التي جاء وصفها في الآيات التالية.= صلے أنه جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ هُمْ فِيهَا مَا ج يَشَاءُونَ كَذَلِكَ تَجرى اللهُ الْمُتَّقِينَ ) شرح الكلمات جَنَّاتُ عَدْنٍ: أَصلُ الجَنّ سَترُ الشيء، يقال: جنَّه الليل: ستره.والجَنةُ: كلُّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.وقد تُسمى الأشجار الساترة جنةً.وسميت الجنة إما تشبيها بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما لستره
الجزء الرابع ٢٤٨ سورة النحل تعالى نعمها عنا المشار إليها بقوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (المفردات).وعدن بالمكان عدنا: أقام به.عدن البلد: توطنه؛ قيل: ومنه جنات عدن أي جنات إقامة لمكان الخلود (الأقرب).التفسير قوله تعالى جنات عدن يعني 6 أن دار الخير تلك سوف تبقى دائما، لأن كل ما هو حسن وخير يُحفظ ويُستبقى.كما فيه إشارة إلى أن ذلك المقام خال من أي نقص أو عيب لأن النقص هو الذي يعرض للفناء.أما قوله تعالى تجري من تحتها الأنهار فليس المراد منه أن تلك الأنهار تجري تحت أرضية الجنة، بل المعنى أن تلك الأنهار الجارية ستكون خاضعة لنظام أهل الجنة كلية ولن ينازعهم فيها أحد ؛ ذلك أن الأنهار في الدنيا لا تكون بالضرورة خاضعة لأهل الأرض أو البلد الذي تمر به، ولذلك لا يستطيعون الانتفاع بها كما ينبغي، وأحيانًا تمر الأنهار خلال أراضي بلاد عديدة مما يؤدي في بعض الأحيان إلى نشوب الحروب بينها على تقسيم المياه وغير ذلك.ويمكن تفسير قوله تعالى لهم فيها ما يشاءون بالآتي: ستصبح مشيئة 1- أن كل رغبة لهم سوف تتحقق في الجنة، لأن مشيئة الله لهم، وكأنهم سيصبحون مصداقا لقول الله تعالى وما تشاءون إلا أن يشاء الله الإنسان (۳۱؛ فلن يتمنوا إلا ما سينالونه حتمًا، إذ تخلو قلوبهم من كل طمع وجشع، وتكون محفوظة من نار الحسد، وتتطهر من كل دنس ورجس.- أو أنهم سيملكون التصرف الكامل في الجنات التي يسكنون فيها، فينالون كل ما يرغبون فيه من متعها ونعيمها.
الجزء الرابع ٢٤٩ سورة النحل الَّذِينَ تَتَوَفَّهُمُ الْمَلَيكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامُ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ : شرح الكلمات : سلام السلام اسمٌ من التسليم؛ الاستسلام للانقياد والطاعة؛ اسم من أسماء الله لسلامته من النقص والعيب والفناء (الأقرب).التفسير : المتقون هم أولئك القوم الذين يأتيهم الموت وهم طيبو النفوس..أي يكونون عندها بريئين من كل ما هو عيب ونقيصة، ومتحلّين بأنواع المحاسن من صدق وصفاء ورقي ونماء وعزم وهمة.(راجع للمزيد عن (طيبين) تفسير الآيات ٢٥ إلى ٢٧ من سورة إبراهيم).وقوله تعالى يقولون سلام عليكم..أي أن الكفار سيتمنون عندئذ عقد الصلح ليسلموا، وأما المؤمنون فسوف يستقبلهم الملائكة قائلين: سلام عليكم.دو هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَتَيكَةُ أَوْ يَأْتي أَمْرُ رَبِّكَ ج كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُواْ أَن سَهُمْ يَظْلِمُونَ (3) ٣٤ إلا التفسير: أي أن فترة المهلة التي أُعطيها الكفار قد انتهت، فلا ينتظرهم العذاب، وسيكون من نوعين: عذاب فردي سيحل بأفراد معينين، وقد أشير إليه في الآية السابقة، لأن إتيان الملائكة يدل على العذاب الفردي؛ وثانيهما عذاب قومي، وقد تمت الإشارة إليه بقوله تعالى: أو يأتي أمر ربك).
الجزء الرابع وقوله وما ظلمهم الله الالله يعني ٢٥٠ سورة النحل أن الكفار الذين خلوا من قبل قد استوجبوا العذاب جرّاء أعمالهم، وما دام هؤلاء أيضا يسلكون مسلكهم الخاطئ، فلن يضروا النبي، بل أنفسهم يظلمون.فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ۳۵ شرح الكلمات: حاق حاق به: أحاط (الأقرب).يستهزئون استهزأ هزاً أي سخر منه (الأقرب).التفسير : المراد من سيئات ما عملوا هو عاقبة أعمالهم الوخيمة.لقد وضح الله وعمل هنا أنه لا يعذب الكفار ،ظلما، بل إنهم بأعمالهم يخلقون لهم العذاب، لأن العذاب ليس شيئا يأتي من الخارج، وإنما هو نتيجة طبيعية لأعمال الشرير.الله هو لقد بين القرآن الكريم هنا فلسفة العذاب الإلهي، حيث أخبر أن عذاب العذاب الوحيد الذي لا يمكن الاعتراض عليه وأما ما سواه من العذاب الذي ليس من قبيل النتائج الطبيعية فيصبح مثارًا للطعن في كثير من الأحيان؛ فمثلاً حينما يعاقب القاضي أحد المجرمين فقد يرى الناس أن العقوبة أقسى من جريمته؛ ولكن حينما يمرض أحد نتيجة إسرافه في الأكل فلن يقول أحد عنه إن مرضه ليس بعقاب ملائم على سوء أكله، لأن الجميع يعرفون أن مرضه نتيجة طبيعية لما فعل ومن المستحيل أن يتجاوز حده الطبيعي.وأما قوله تعالى وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فقد نبه به إلى أن هؤلاء الكفار الطاعنين أنفسهم يتعرضون للمطاعن نفسها التي يثيرونها ضد أنبيائهم؛
الجزء الرابع ٢٥١ سورة النحل فإذا رموهم بالكذب كشف الله كذبهم هم للدنيا، وإذا اتهموهم بالمساوئ فَضَحَهم بكشف مساوئهم هم.وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ で ج كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَا الْمُبِينُ ٣٦ التفسير: لقد الله سبحانه وتعالى من قبل في هذه السورة ولو شاء صرح لهداكم أجمعين) (الآية: (۱۰)..أي ربما يفكر الكفار: لماذا جعل الله طرقًا جائرة أيضًا، والحق أن تفكيرهم هذا ليس في محله، لأنهم هم الذين اخترعوا هذه الطرق الخاطئة، وليس الله الله لأنه لا لا يمارس الجبر والإكراه، إذ لو نفذ مشيئته هو بالجبر لهدى الناس جميعًا.وأما هنا في هذه الآية فقال الكفار بالفعل: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا ،آباؤنا ولكنه لم يمنعنا من هذا، فثبت أن لا اعتراض ولا كراهية عنده تجاه أعمالنا الوثنية.الحق أن كل من يحمل عقيدة خاطئة - سواء كان فردًا أو قوما - لا بد أن – يسلك مسلكا غير معقول أمام قوة الأدلة والبراهين، لأنه لا يعارض الحق متمسكًا بمبدأ من المبادئ، فيضطر إلى تغيير مبدئه مرة بعد أخرى.ففي الآية رقم ٢٥ أخبر الله تعالى أن الكفار حين لا يقدرون على مواجهة أهل الحق يقولون: ما قيمة التعليم الذي يدعونا إليه ؟ إنما صنعه تقليدًا للأنبياء الأولين! فردّ الله عل على قولهم بأمرين: أولهما أنهم لا يقصدون بذلك إلا تشويه الحقيقة وتضليل العامة، لذا فلا وزن لاعتراضهم؛ إذ لو كان هذا الوحي مجرد تقليد للأولين فحسب، أفلا يليق بهم أن يقبلوه طالما هو حق وصدق؛ وثانيهما أنه لو كان
الجزء الرابع ٢٥٢ سورة النحل صاحب هذا الكلام يقلد الأنبياء الأولين فليعلموا أنهم أيضا يقلّدون أعداء الأنبياء السابقين؛ حيث كانوا يأتون ما يأتي هؤلاء من أعمال ونشاطات، ولكنهم لم ينجحوا في مراميهم، فكيف ينجح هؤلاء في أهدافهم؟ وهكذا فقد قدّم القرآن دليلاً عمليا على سخافة اعتراضهم، إذ لو كان اعتراضهم معقولا ولو كانت تعاليم الأنبياء مجرد تقليد للأولين لما اتبعها الناس تاركين أديانهم السابقة.ثم بعد الآية رقم ٢٥ بين القرآن الكريم بالتفصيل كيف سيعامل الله و المؤمنين والكفار.والآن وفي هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها استأنف القرآن الكريم الرد على مطاعن الكفار وأخبر أن الكافرين لما سمعوا الردّ الداحض لاعتراضهم ورأوا خيبة آمالهم الشريرة غيروا موقفهم وقالوا كيف يمكن أن يعذبنا الله؟ إذا كنا نحن وآباؤنا خاطئين عند الله فلم لم يصرفنا عما نحن عليه، ولم لم يسلب منا القدرة على ارتكاب الأعمال الوثنية؟ أليس هو قادرًا؟ ويرد الله على اعتراضهم هذا ويقول: كان هناك سبيل واحد لذلك وهو أن يأمر الله على أنبياءه بممارسة الجبر على الناس، ولكن يستحيل أن يقدّم هؤلاء الكفار أي نبي – من بين الأنبياء الذين هم يؤمنون بهم مثل إبراهيم ولوط، والذين يرون أن معارضيهم كانوا على الباطل - أَكْرَهَ الناس على الإيمان.فإذا لم يسمح الله لأنبيائهم أن يُكرهوا الناس على الإيمان..فكيف يتوقعون ذلك من محمد؟ فكما أن الرسل في الماضي نشروا تعاليمهم بالتبليغ لا بالإكراه كذلك سيحصل الآن أيضًا.أليس من المستغرب أنه بالرغم من وجود هذه الآية وكثير غيرها، يعتقد بعض المسلمين بجواز الإكراه في الدين؟ انظر ارتداد کي سزا اسلامی قانون مين – أي عقوبة الردة في الشرع الإسلامي - للمودودي: العقل وقتل المرتد).
الجزء الرابع ٢٥٣ سورة النحل وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مِّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مِّنْ で حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَلَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كان عَقِبَةُ الْمُكَذِّبين ) شرح الكلمات : اجتنبوا اجتنبه: بعد عنه (الأقرب).۳۷ الطاغوت كل متعد؛ الكاهن الشيطانُ؛ كل رأس ضلال؛ الأصنام؛ كلُّ معبود من دون الله ؛ مَرَدَةُ أهل الكتاب وجمعه طواغيت وطواغ (الأقرب).الطاغوت: الساحرُ؛ الماردُ من الجنّ؛ الصارفُ عن طريق الخير (المفردات).هدى هداه الطريق وإليه وله بينه وعرفه له.هدَى فلانًا: تقدَّمه، تقول: جاءت الخيل يهديها فرس أشقر أي يتقدمها هداه الله إلى الإيمان أي أرشده إليه (الأقرب).عاقبة آخرُ كل شيء (الأقرب).التفسير: لقد : لقد رد الله وعمل على طعن الكفار المذكور من قبل بعدة أجوبة هي: ١ - ولقد بَعَثْنا في كلِّ أمة رسولا أَن اعْبُدُوا الله..أي إذا كنتم مصيبين فيما تقولون فلماذا دعا كل نبي إلى التوحيد وحارب الشرك؟ لو كانت عقيدة الشرك مما رضي به الله لبعث رسولاً واحدًا على الأقل يدعو إلى الشرك.بعثنا في كل أمة رسولاً))..أي لو أراد الله و الإكراه في الدين لما كانت هناك حاجة لأكثر من رسول، بل لبعث رسولاً واحدا فقط ليهدي الناس قسرًا إلى الحق مرة واحدة وللأبد ؛ ولكن مجيء الأنبياء الواحد تلو الآخر، وفي كل أمة يدل على أن الناس كانوا ينحرفون عن طريق الأنبياء مرة بعد -۲
الجزء الرابع ٢٥٤ سورة النحل أخرى، مما تطلَّبَ بعثُ أكثر من رسول واحد.ولكن لو كان الجبر هو الخطة الإلهية لما جرت الأمور على هذا المنوال.الله ٣- واجتنبوا الطاغوت..أي أن كل نبي أمر باجتناب صحبة الشرير وعدم طاعته..أو بتعبير آخر أمر بأخذ الحذر من هجمات الشيطان.فلو كان الله عل هو الذي جعل البعض موحّدين والآخرين مشركين..فكيف يمكن أن يأمر أيضا باجتناب الطاغوت؟ لو كان الجميع متمسكين بدينهم ومعتقدهم بإكراه من تعالى وليس عن خيار منهم فما الحاجة أن يبعث الأنبياء لإنذارهم؛ فليبق الموحد موحدا والمشرك مشركًا لأن هذه هي المشيئة الإلهية! ٤- فمنهم من فمنهم مَن هَدَى اللَّهُ ومنهم من حقت عليه الضلالة..أي لو كان ما تزعمون حقا فكيف خرجت في كل زمن جماعة من الكفار تؤمن بالنبي؟ بمعنى أنه إذا كان الله هو الذي جعلهم من قبل كافرين فكيف صاروا مؤمنين؟ فهذه الشهادة من الواقع تدل دلالة واضحة على أنه تعالى لا يُكره أحدًا على الكفر.ه - فسيروا في الأرض فانظُروا كيف كان عاقبة المكذبين..أي أن أعداء كل نبي هلكوا، فإن كنتم لا تعلمون فسيروا في الأرض لتتأكدوا من ذلك؛ لأن كل العالم حافل بآثارهم.فإذا كان الله تعالى هو الذي جعلهم كافرين أو مشركين حسب زعمكم فكيف جاز أن يعاقبهم مع أنه هو الذي أكرههم على الكفر؟ فحلول العذاب بهم إن دل على شيء فإنما يدل أن الله تعالى لم يُكره أحدًا على الكفر أو الشرك، وإنما اتخذ كلُّ واحد موقفه بحريته وخياره.صلے إِن تَحْرصَ عَلَى هُدَتْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّصِرِينَ )) التفسير : الخطاب هنا موجه إلى النبي الله وأتباعه، حيث قال الله ل لهم: كل واحد منكم يريد الهداية للكفار ، ولكن ما كان الله ليهدي الجميع، لأنه كما لا
الجزء الرابع ٢٥٥ سورة النحل يُكره أحدًا على الكفر أو الشرك كذلك تمامًا لا يُجبر أحدا على الإيمان أو التوحيد، لأن هذا يُبطل الغرض من الإيمان ألا وهو تطهير القلب.أما قوله لا فإن الله لا يهدي من يُضل..فاعلم أن الضمير في يُضِلُّ لا يعود إلى الله تعالى، ولا تعني هذه الجملة أن من يُضلله الله فلا يهديه، فهذا مفهوم خاطئ وقد تم إبطاله في الآية السابقة، وإنما يعود هذا الضمير على (من)، والمراد أن الله تعالى لا يهدي من يقوم بتضليل الآخرين.كما تتضمن هذه الجملة الإشارة إلى أن الهدى إنما يتيسر لمن يبحث عنه، أما الذي لا يبرح في تضليل الآخرين فأَنَّى له أن يبحث عن الهدى، فبما أنه هو نفسه لا يغيّر حالة قلبه فكيف يمكن أن يهتدي؟ وبين بقوله ل وما لهم من ناصرين أنه فيما يتعلق بالهدى فلا يمكن أن ينصر الإنسان أحد سوى الله تعالى، ولكن هؤلاء قد سدوا باب النجدة الإلهية.فإذا كانوا يظنون أنهم سوف ينالون الهدى تلقائيا فهو ظن باطل.هناك سبيل واحد فقط لهدايتهم..أن يُسلموا، ولكنهم بدلاً من أن يدخلوا في الإسلام يعتبرون الأصنام وسيلة للهدى، فلا فرصة لهدايتهم؛ لأنهم ما داموا راغبين في آلهتهم الباطلة معرضين عن الله وعمل فلن يأتي هو لنجدتهم، وأما آلهتهم فهي قادرة على نجدتهم أصلا، وبالتالي فلا صريخ لهم ولا مغيث.لا غير وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَنِيهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات: ۳۹ جهد أيمانهم: جهد في الأمر جَهْدًا جدَّ وتعب فيه جهد دابته: بلغ جهدها وحملها فوق طاقتها.الجهد: الطاقة، يقال أفرغَ جَهدَه أي طاقته؛ المشقة.وأقسموا بالله جهد أيمانهم أي بالغوا في اليمين واجتهدوا (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٥٦ سورة النحل لا يبعث راجع شرح الآية رقم ٣٦ من سورة الحجر.التفسير : يقول الله تعالى إنهم عندما يعجزون أمام براهين أهل الحق يحلفون بأن لا حياة بعد الموت ليؤكدوا لأتباعهم أنهم في مأمن من العذاب، وذلك كيلا يبحث أتباعهم عن الحق بجدية.هي هنا سؤال: لم يحلف الكفار هكذا؟ وما هي الفائدة التي يرجونها من أيمانهم؟ الجواب أن بعض الناس يملكون شخصية ضعيفة ولا يقدرون على بت الأمر بأنفسهم، ويقع هؤلاء الضعفاء في حيرة من أمرهم حين يسمعون من أهل الحق البراهين القوية، وعندها يتقدم زعماؤهم وأسيادهم يحلفون ويقسمون لهم كيلا يتخلوا عن عقائدهم؛ تأخذهم رهبةُ أيمانهم لكونهم ضعيفي العزيمة، فيرجع بعضهم إلى معتقداتهم الفاسدة ثانية.فالأيمان الأخرى من الأسلحة التي ما زال أئمة الكفر يستخدمونها على مر العصور لصدّ الناس عن الهدى.ذلك أن العامة لا يدرون بسبب جهلهم أن الحلف إنما يفيد التأكيد، ولا يتقبل إلا من الصالحين الصادقين فقط، أما الكذابون كهؤلاء فيكذبون في أيمانهم تماما كما يكذبون في حياتهم العادية أو أن الحلف ينفع نفع الشهادة من الله على صدق أنه إذا حلف أحد في الأمور التي فيها تهديد إلهي للحالف كذبًا بالعذاب في الدنيا، ثم لم يتعرض هذا الحالف لعذاب الله في الدنيا، كان ذلك الحالف..بمعنى شهادةً الله على صدقه.أما الأمور الأخرى فالحالف فيها كذبا لا يعذب من بالضرورة في هذه الدنيا، كما لا يكون حلفه بمثابة الشهادة أو الدليل على صدقه، ومن أجل ذلك قال النبي ﷺ إن الذي يحلف كذبًا في محكمة الدين يعاقب في الدنيا..أي لا يعذَّب بالضرورة كلُّ حالف كاذب في الدنيا.
الجزء الرابع ٢٥٧ سورة النحل لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى تَحْتَلُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَذِبِينَ (٤) ينتهي التفسير : لقد دلّل الله وعمل بهذه الآية على ما سبق بيانه حيث أوضح أن البعث بعد الموت ضروري لإحراز اليقين بما يدعو إليه الدين؛ ذلك لأنه من المحال أن الاختلاف في الحياة الدنيا، فما زال الناس عند بعث كل نبي مختلفين بين مؤمن وكافر.فلو أن سلسلة حياة الإنسان انتهت بموته في الدنيا لأدى ذلك إلى أمرين: أولهما أن صدق دعوى النبي لن ينكشف انكشافا تاما، بل سيبقى غامضًا مشتبها، وثانيهما أنه سيُكتب الحرمان الأبدي من الهدى على المنكرين؛ وهذا يتنافى مع عظمة الله الا الله لأنه قد خلق الناس ليصبحوا كلهم عبادا له، ولكن لو أن حياتهم انتهت بموتهم في الدنيا لما تيسرت للكفار أية فرصة ليكونوا عبادا له.وعلى هذا فلا بد من أن ينال الإنسان حياة أخرى بعد الموت تتجلى فيها الحقيقة تماما حتى يتمكن من معرفة الحق من لم يستطع أن يعرفه في الدنيا.قد يعترض هنا أحد قائلا إن الله يُنزل الكتب ويرسل الرسل في الدنيا تبيانًا للحق وكشفًا لحقيقة ما اختلف فيه، كما صرح بذلك في هذه السورة نفسها بقوله : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه )) (الآية: ٦٥)..فكيف يصح القول إن الهدف من البعث بعد الموت هو كشف الحقائق؟ والجواب أن المراد من تبيين الحق في هذه الدنيا هو توضيح الحقيقة عقليا بالأدلة والبراهين ومثل هذا التبيين ينفع الذين يبحثون عن الحق بصدق، ولكنه لا ينفع غيرهم الذين ليسوا مثلهم، فهؤلاء بحاجة إلى التبيين الذي يكون من القوة والجلاء بحيث لا يسعهم بعده الإنكار ولا يبقى أمامهم محال للهروب بمختلف الأعذار.ولكن مثل هذا التبيين لا يمكن أن يتم في الدنيا، لأنه لا يمكن أن ينال المرء إيمانًا عاليًا بعد تبيين كهذا؛ ذلك لأن الاعتراف بوجود الشمس بعد رؤيتها
٢٥٨ سورة النحل الجزء الرابع مشرقة في كبد السماء ليس اعترافا ذا قيمة كذلك تمامًا فإن الإيمان..الذي يتم بعد أن حصحص الحق واضحًا جليًّا لا غموض فيه..لا يمكن أن يُكسب صاحبه الدرجات العلا.فالذين يريدون الفوز بأفضال الله الخاصة تتاح لهم الفرصة لذلك من خلال تبيين الحقيقة لهم عن طريق الرسل في الدنيا، أما كشف الحقيقة لكل النوع البشري كشفًا جليًّا لا غموض فيه فيتم من خلال التبيين المذكور في هذه الآية وسيكون في الآخرة فحسب؛ ولكن بعد ذلك التبيين لن ينفع الإيمان نفعًا خاصا غير أنه سيجعل الكفار صالحين للفوز برضوان الله و بعد أن يتحملوا عقوبة معاصيهم هنالك.إذن فالتبيين الذي يتيسر به الإيمان للجميع لا يتم في هذه الدنيا، وإنما يتطلب ذلك عاما آخر، وسيكون بالبعث بعد الموت.أما قوله تعالى وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فهو تتمة وتفصيل للدليل السالف الذكر بأن ذلك التبيين تبيين خاص بحيث لن يسع الكفار بعده إنكار الحق أبدًا، وسوف يوقنون أنهم كانوا على الباطل.إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ : التفسير : يقول الله تعالى: إن من دواعي إنكار الناس ليوم القيامة أنهم يستبعدون قدرتنا على إحياء الموتى.والحق أنهم لو تدبّروا في قدرتنا المتجلية في ظواهر الكون لأدركوا أن لا شيء مستحيل أمامنا، وإنما إذا أردنا شيئا فإنما أمرنا أن نقول له كن فيكون.لقد قدّم الله وعمل هنا الأنباء التي يدلي بها رسله دليلاً على وجود القيامة، حيث أخبر أن تلك الأنباء أيضًا تبدو مستحيلة بالنظر إلى مقاييس أهل الدنيا، ومع ذلك تتحقق لتشكل برهانا على كونه تعالى قادرًا فعالاً لما يريد؛ فيمكن أن يقيسوا بذلك أمر القيامة أيضًا.
الجزء الرابع ٢٥٩ سورة النحل ومن الناس من تهاجمهم الوساوس بسبب قوله تعالى كن، فيقولون: إذا سلّمنا بأنه قبل أن يخلق الله الكونَ كان هناك عدم محض فكيف يصح قوله تعالى كُن فيكون؟ فما الذي قيل له : كُن ؟ فمثلا يزعم الآريون الهندوس أن هذه الآية أيضًا دليل على أنه قبل أن يخلق الله الأشياء لم يكن هناك عدم محض، بل كانت هناك مادة ما تحكّم الله بها وتصرف فيها وخلق منها الكون، إذ كيف يصح أن يقول الله كُن لما هو غير موجود ستيارث بركاش (ترجمة أردية) باب ١٤ : تحقيق الديانة الإسلامية طبعة ١٩٤٣ ص ٥٣٠).الحق أن استدلالهم هذا غير سليم، لأنهم يفسرون الآية هكذا: "عندما نريد لشيء أن يكون فإننا نقول لذلك الشيء كن فيكون.والظاهر أن هذا المفهوم الذي يقترحونه لهذه الآية أيضًا لا يسلم من الاعتراض والطعن وإن سلّمنا بأزلية المادة التي خلق الله منها ذلك الشيء، لأنه ما لم تتشكل تلك المادة الموجودة من قبل بالشكل الجديد الذي أُريد لذلك الشيء، لا يمكن أن يأمره الله أن يكون الله كما يريد.فالحق أن استدلال الهندوس بهذه الآية على أزلية المادة باطل تماما، لأن ما يثيرونه ضد النظرية الإسلامية القائلة بكون المادة مخلوقة وأنها ليست أزلية مثل تعالى..يقع بالضبط على نظريتهم أيضًا القائلة بأزلية المادة؛ وهذا يعني أن هذه ما يقصد منها هؤلاء، بل لها مفهوم آخر.فما هو ذلك المفهوم الصحيح إذن؟ أرى أن استيعاب ذلك المفهوم يتطلب من القارئ فهم معنى كُن فهما سليما واضحًا.فاعلم أن كن لها مدلولات عدة منها: "فَلْيَكُن هكذا"؛ والدليل عليه هو الآية لا تعني الحادث التالي: عندما خرج النبي ﷺ لغزوة تبوك تخلف عنه أصحاب لــه منهم أبو خيثمة.وكان إنسانًا تقيا باراً لم يتصور أن يكون من المتخلفين؛ وكان سبب تخلفه أنه لم يكن بالمدينة لما خرج رسول الله الا الله إلى تبوك.فلما رجع إلى بيته وجد زوجته في
الجزء الرابع ٢٦٠ خرج للقتال.سورة النحل انتظاره تريد بثّ همومها إليه ؛ ولكنه غض النظر عن رغبتها تلك وسألها: إلى أين خرج النبي ؟ فقالت له: تعال اجلس أولاً واسترح.فرد عليها: لا، والله ما كان لأبي خيثمة أن يجلس عند أهله في راحة والرسول ﷺ قد فجهز فرسه على الفور وركض إلى الجهة التي خرج إليها رسول الله ، وما زال يركض حصانه حتى دنا من المكان الذي نزل فيه رسول الله بتبوك.فقال الناس: يا رسول الله، ها هو راكب مقبل.فقال النبي ﷺ: كن أبا خيثمة.فقالوا: هو والله أبو خيثمة.تاريخ الطبري: أحداث سنة ٩، ذكر الخبر عن غزوة تبوك).فقول النبي ﷺ: "كن أبا خيثمة" لا يعني أن هذا الراكب - أيا كان ينقلب أبا خيثمة، وإنما المراد أتمنى أن يكون القادم أبا خيثمة.وهذا هو المراد من قوله تعالى كُن..أي حينما نرغب في إيجاد شيء فإننا نريد أن يوجد في شكل كذا أو كذا، فيأخذ في الوجود وفق إرادتنا له علما أن الحديث هنا ليس عن خلق الأشياء من العدم في بداية خلق الكون، وإنما عن خلق الله الأشياء عمومًا.وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِثَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَر لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات: لنبوتتهم: بواه وبوَّاً له منزلاً: هيَّأه ومكن له فيه (الأقرب).٤٢ التفسير: هذه الآية وما بعدها تشكل دليلا على قدرة الله العظيمة المشار إليها من قبل، حيث ينذر الكفار : لا شك أن هذه الفئة المؤمنة قليلة، وقد اعتديتم عليهم عدوانًا دفعهم لترك أوطانهم، ولكنكم سترون كيف أننا سنمنحهم أفضل البلاد والأوطان، ولن تستطيع قوة أن تحول دون مشيئتنا هذه.
الجزء الرابع ٢٦١ سورة النحل أما كلمة (في الواردة في قوله تعالى والذين هاجروا في الله فيمكن تفسيرها بعدة أوجه منها: ١- أن تكون بمعنى (ل) وتعني الجملة أن هؤلاء قد هاجروا لوجه الله ، ولم يكن وراء هجرتهم هدف آخر، إذ ورد في الحديث الشريف أن الهجرة تكون لثلاثة أغراض : فهناك من تكون هجرته إلى دنيا يصيبها، وهناك من تكون هجرته إلى امرأة ينكحها، وهناك من يهاجر إلى الله تعالى (البخاري: بدء الوحي).يعترض أعداء الإسلام اليوم أن المسلمين الأوائل خاضوا الحروب طمعا في أموال الناس.وبما أن ربنا - الذي هو عالم الغيب - كان على علم أن مثل هذه المطاعن ستثار ضد عباده الأطهار، فقام بدحضها بقوله هذا حتى قبل نشوب تلك الحروب.٢- أن نقدّر محذوفًا بعد في، فيكون التقدير: (في دين الله)، أي أنهم هاجروا في سبيل دين الله تعالى، لأنهم لا يستطيعون نشر دينه في مكة بحرية، ولذلك يهاجرون في سبيل نشر دين الله إلى حيث يتمكنون من خدمة دينه وعل بحرية تامة.-٣- أن تكون (في) بمعناها المعروف، والمراد أنهم هاجروا متفانين في الله وعلق، مصطبغين بصبغته قاضين على أهواء نفوسهم، ومؤثرين الله جل على كل شيء؛ وكأنه لم يخرج من مكة بعض الآدميين فحسب، بل وقد خرج الله منها، وكأن الله وعل.أهلها فقدوا بخروج هذه الحفنة من عباده.وقد أوضح الله تعالى بقوله من بعد ما ظُلموا أن هجرتهم لم تكن بدون داع، بل لقد هاجروا لأن الظالمين لم يسمحوا لهم بالعيش هناك، وأجبروهم على مغادرة وطنهم.وفي الآية دلالة على أن من واجب المؤمن أن لا يستعجل في ترك بلده، وإنما عليه أن يستمر في التبليغ إلى أن يضطره الناسُ للهجرة بحيث يستحيل عليه في بلده العمل بأحكام الله تعالى.
الجزء الرابع ٢٦٢ سورة النحل ثم قال الله وعجل لنبوتنّهم في الدنيا حسنةً).اعلم أن هذه الآية تتحدث خاصة عن هجرة سيدنا عمر وبعض الصحابة الآخرين إلى المدينة، إلا أن المسلمين حيثما حلوا – سواء في هذه الهجرة أو بعدها - جعل الله مهجرهم خير منـزل وأفضل مقام.ولو نظرنا إلى نتائج الهجرة ككل وجدنا أنها صيّرت التجار العاديين ورعاة الإبل ملوكا يحكمون العالم.ثم قال ل ولأجر الآخرة أكبر..أي أن جزاءهم الحقيقي ينتظرهم بعد الموت، وسيكون جزاءً أكبر بكثير؛ غير أننا سنُحلّ المسلمين في الدنيا أيضا بأسمى مقام ليكون ذلك عبرةً لأعداء الحق.الحق أن ما حاز عليه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من مكانة سامية في الدنيا يساعد الإنسان على إدراك روعة قوله تعالى ولأجرُ الآخرة أكبر..لقد أتاهما الله و الحكم على معظم العالم المتمدن، ومع ذلك يقول الله تعالى إن هذا جزاء عادي، وإذا كان هذا جزاءً عاديا فيمكن تقدير حجم ما أعد الله لأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في الآخرة من نعيم عميم.و تتمثل علاقة هذه الآية بما قبلها في أن الله ع قد حذر الكفار من قبل أنكم تنكرون يوم القيامة لأنكم ترونه مستحيلاً على قدرتنا؛ ألا ترون كيف تقع في الدنيا بأمرنا أحداث تبدو مستحيلة في أعين الناس، فكيف تظنون بعد ذلك أن البعث بعد الموت أمر مستحيل علينا والآن قد ساق الله في هذه الآية أحد الأنباء كدليل على هذه الدعوى وقال إن أهل مكة يزدرون اليوم بالمسلمين، ويصبّون عليهم صنوف العذاب ليطردوهم من ديارهم ويشرّدوهم بلا مأوى، ولكننا سلفًا أن هجرتهم ستكون فاتحة خير لهم، ولن تجلب لهم حسنات الدين فحسب، بل أيضًا خيرات الدنيا، وحتى الحكم أيضًا.ولقد جيء هذا النبأ والرسول ﷺ مقيم في مكة، وكان المسلمون ضعفاء عديمي الحيلة بحيث كان أهل مكة يخططون ليقتلوه له أو يُخرجوه أو يسجنوه؛ ولكن بعد هذا النبأ بسنة أو ثلاث جعل الله المسلمين ملوكًا على العالم، وذلك بسبب هجرتهم.وإن في ذلك نعلن
الجزء الرابع ٢٦٣ سورة النحل لآية عظيمة للذين ينكرون القيامة ظانين أن الله لا يقدر على ذلك، إذ كيف يحق للإنسان أن يستغرب من قدرة الله وعمل الذي من سنته أن يُري العجائب دائما.الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ شرح الكلمات: ٤٣ صبروا الصبرُ: ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله، فإذا دعا الله العبد في كشف الشر عنه لا يُقدَح في صبره.وقال في الكليات: الصبر في المصيبة، أما في المحاربة فشجاعة.وصبر الرجلُ على الأمر: نقيضُ جَزِعَ..أي جرؤ وشجع وتحلَّدَ.وصبر عن الشيء: أمسَكَ.وصبر الدابة: حبسها بلا علف.وصبرتُ نفسي على كذا: حبستها، وتقول: صبرت على ما أكره، وصبرت عما أحب (الأقرب).يتوكلون: توكَّل على الله: استسلم إليه واعتمد عليه ووثق به (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إن هؤلاء المهاجرين المضطهدين جماعة تمسكت بأهداب الصبر ووثقت بربها رغم تشردها من ديارها على أيدي المعتدين.وكأن هذه الآية شرح لما سبق؛ فإن المظلوم منصور من عند الله ل عموما، ولكن المظلوم الصابر أكثر وأسرع اجتذابًا لرحمة الله وفضله.كذلك فإن الهجرة في سبيل الله حسنة كبيرة بلا شك، ولكن الذي يتعرض في سبيل الله ل للسلب والتشريد من وطنه، ومع ذلك يبقي واثقًا بأنه لن يضيع ولن يهلك بل سيأتي الله لنجدته حتمًا..فلا جرم أنه أحسن عملاً.
الجزء الرابع ٢٦٤ سورة النحل وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِيَ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ٤٤ شرح الكلمات: الذكر: التلفظ بالشيء؛ إحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه؛ الصيت، ومنه: "له ذكر في الناس"؛ الثناء؛ الشرفُ..وفي القرآن إنه لذكر لك ولقومك؛ الصلاة الله تعالى والدعاء.."إذا حَزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الذكر"؛ الكتاب فيه تفسير الدين ووضع الملل.والذكر من الرجال: القوي الشجاعُ الأَبي؛ والذكر من المطر: الوابل الشديد؛ والذكر من القول: الصلب المتين (الأقرب).التفسير: أي أن أكبر ما يحمل الكفار على معارضة هذا النبي هو ظنهم أنه بشر مثلهم لا يقدر على أن يضرهم شيئًا، ولكنهم لا يفكرون أن الرسل السابقين أيضًا كانوا من البشر، ومع ذلك نجحوا في مرامهم.أما قوله تعالى فَاسْأَلُوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فوجه به اللوم إلى الكفار، إذ كانوا يدعون أنهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنهم على علم بأحوالهما وكانوا يعرفون كيف أنهما نجحا في مهمتهما على الرغم مما لقيا من معارضة وإيذاء السيرة النبوية لابن هشام سياقة النسب من ولد إسماعيل).فيلومهم الله عل ويقول: يبدو أنكم قد نسيتم ما جرى على آبائكم، فاسألوا أهل الذكر عنهم إن كنتم لا تعلمون! وبما أن الذكر يعني حفظ الشيء أيضًا فالمراد: اسألوا عن أحوالهم من يذكرها ويحفظها..أي المسلمين ما أروع أسلوب القرآن هذا، وما أشده تأثيرًا، ولا جرم أن قلوب الكفار تكون قد تقطعت بسماع هذا الكلام المليء بالتعنيف والتقريع.أما قوله تعالى نوحي إليهم فقد أشار بذلك إلى أن عزة النبي ليست بالجنود والأسباب المادية، إنما ثروته الوحي، وبه ينال الفتح والظفر.وفيه إشارة أيضًا إلى أن الكفار إذا كانوا يظنون أنه من المستحيل أن ينال المسلمون الحكم عن طريق هذا الشخص ضعيف الحيلة..فليتذكروا أن الأنبياء في الماضي أيضًا
الجزء الرابع ٢٦٥ سورة النحل لم يملكوا من الوسائل والأسباب إلا الوحي، ومع ذلك قد أحدث الله وعمل على أيديهم انقلابات عظيمة وكأنما أقام القيامة في هذه الدنيا نفسها.وقوله ل رجالاً ردُّ على قول الكفار الذين قالوا: لماذا لا تنزل الملائكة علينا.لقد سجلت السورة السابقة أيضًا مطالبتهم هذه، إذ قالوا لوما تأتينا بالملائكة، فقوله تعالى رجالا تعيير بهم أنكم تعتبرون الملائكة بنات لله، والبنات لا يُوفَدن ممثلات عن أحد، فكيف يمكن أن تأتيكم الملائكة؟ وبما أن المسلمين كانوا سينالون الحكم بعد الهجرة، وكان طبيعيًا أن يظهر بين القوم طماعون في السلطة – مثل مسيلمة الكذاب وسجاح المتنبئة وغيرهما – ظنَّا أن هذه الحكومة أيضًا كغيرها من الحكومات الدنيوية، لذا فليس من المستبعد أن يكون قوله تعالى رجالاً نوحي إليهم إشارةً إلى هذه الفتنة القادمة، وتأكيدًا منه وعجل على أنه سيُخرج رجالاً يقومون بقمع هؤلاء المتنبئين والمتنبئات بسبب الفصاحة والبلاغة.منهم قلے بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَة كُرُونَ ) شرح الكلمات : ٤٥ البينات: جمع البيئة وهي: الدليل؛ الحجة (الأقرب).الزُّبُر: زبَره يزبُر زَبرا رماه بالحجارة زبر الكتاب يزبر ويزبر : كتبه – وزاد في مفردات الراغب – كتابةً غليظةً زبر السائل: انتهره.زبر عن الأمر: منعه ونهاه.والزبر: الكتاب، جمعُه الزُبُور والزبر.والزبور : الفرقة؛ الملك؛ الكتاب (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٦٦ سورة النحل التفسير : هذه الآية أيضا شرح للموضوع السابق حيث أوضحت أنه لم يأت الأنبياء إلا بالآيات والأحكام من عند الله تعالى إذ بهما يتحقق الغرض من بعثتهم وهما الوسيلة لنجاحهم.واعلم أن كلا من الذكر والزبر يعني الكتاب أي الوحى الذي يجب الإيمان به، ولكن بما أنهما قد وردا هنا متقابلين فيؤدي الذكر مفهوما خاصا، ذلك أنه إذا وردت كلمة مقابل كلمة أخرى مرادفة لها فإن الأخيرة منهما تكون لبيان الأفضلية أو الدونية، وبما أن السياق هنا يتطلب معنى الأفضلية فيكون الذكر هنا بمعنى الكتاب الذي هو أشرف وأكمل؛ إذا فمفهوم هذه الآية أن الله تعالى قد أتى الرسل قبلك البينات والزبر، ولكنه آتاك البينات والذكر، أي أفضل مما آتاهم، وما دام الرسل السابقون قد استطاعوا بكتبهم التي كانت أدنى من كتابك أن يهزموا أعداءهم فمن المحال أن لا تنجح أنت في إلحاق الهزيمة بأعدائك وعندك كتاب هو أفضل من كتبهم.ونظرًا لهذا المعنى تكون (ال) في الذكر للكمال.كما يمكن أن تنطبق هنا المعاني الأخرى للذكر أيضا مثل الدعاء؛ الصلب المتين؛ الصيت؛ الثناء؛ إحضار الشيء في الذهن بحيث لا يغيب عنه (الأقرب)؛ فتعني الآية أن من مزايا كتابك أنه يحتوي على أدعية كاملة، لذلك سوف يكون سببًا في نزول أفضال الله الخاصة.ثم إن تعليماته محكمة متينة فلن يضره طعن الطاعنين.كما أنه سيُكسب العاملين به ثناء الناس، لأنه سوف يصوغ أخلاقهم وأعمالهم بحيث ستضطر الدنيا للثناء عليهم، أو المعنى أن في كتابك ثناء كاملا الله تعالى مما سيزيد المؤمنين عرفانًا به.ثم إن كتابك سوف ينال من الصيت والقبول بحيث يتلوه الناس كل حين، فلا يمكن نسيانه.واللام في التبين للتعليل أو للعاقبة.فإذا كانت تعليلية فالمعنى أننا أنزلنا عليك كتابا أفضل من الكتب السابقة، لكي تقوم بتعليم العالم كله..أي أن فضل هذا
الجزء الرابع ٢٦٧ سورة النحل التعليم يكمن في أنه لا يختص بشعب أو بزمن معين، بل هو للناس جميعا.وأما إذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى أننا ما دمنا قد أنزلنا عليك أفضل كتاب فلا يمكن أن تخفيه عن الناس، فكونه أفضل كتاب يفرض عليك أن تدعو إليه الدنيا كلها، إذ كيف يمكن أن يلزم الصمت من نزَل عليه كلام سام كهذا.وأما قوله تعالى نُزِّلَ إليهم فاستثار به عواطف الكفار ترغيبا لهم في القرآن حيث قال: لا شك أن هذا الكتاب قد نزل عليك يا محمد، ولكن الواقع أنه قد نزل إلى الدنيا كلها لأن غرضه أن ينفع الناس جميعا، فلم البخل في الشكر على هذا العطف الرباني! كما أكد بقوله تعالى نُزِّلَ إليهم ضرورة تبليغ هذا الوحي إلى الجميع، لأنه نزل إلى الدنيا كلها، ولأنه ثروة مشتركة بين البشر كلهم، فتوزيعها على الجميع فريضة واجبة.أي ليت المسلمين أدركوا أهمية التبليغ والواقع أنهم لو لم يتهاونوا في أداء واجب تبليغ رسالة القرآن لم يُرَ في العالم اليوم دين سوى الإسلام، إذ ليس بوسع تعليم آخر أن يصمد أمام التعاليم الإسلامية المقدسة.لا شك أن هناك عوائق كثيرة في سبيل انتشار الإسلام اليوم، ولكنها حصلت بسبب الجشع المادي الذي يمنع الناس من اعتناقه، وقد حصل هذا حديثا، أما في الماضي فكانت الدنيا أيضًا في قبضة المسلمين مثلما كان الدين بأيديهم.هذا، وإن قوله تعالى التبين للناس إشارة إلى موضوع لطيف آخر أيضًا.هناك بعض الكتب التي لا يستطيع الإنسان قراءة ما فيها على غيره حياء وخجلاً، ومثاله بعض ما ورد في الكتاب المقدس في بعض الأماكن، ولكن القرآن الكريم يحتوي على أمور شريفة يمكن قراءتها في أي مجلس.حتى إن أحد الكتاب النصارى أيضًا قد اعترف بهذا قائلاً: إن من مزايا القرآن أنه يمكن قراءته في أي مكان ومجلس، ولكن هذا مستحيل بالنسبة لكتبنا.ومثاله ما ورد في الكتاب المقدس عن قصة لوط مع بناته وقتل بني إسرائيل زوجاتهم وصغارهم بأمر الله
الجزء الرابع ٢٦٨ سورة النحل تعالى (تكوين) ۱۹: ۳۱ - ۳۸ ، وتثنية (٣ (٦ إنه بكل تأكيد مما يثقل على :.الطبع ذكره في المجالس.ومثاله عند الآريا الهندوس تعليم باسم "النيوك"، * فإنه يبلغ من البشاعة والسخافة بحيث إن الهندوسي نفسه لا يقدر على قراءته على زوجته ناهيك أن يقرأه على أتباع الأديان الأخرى علنًا.ولكن القرآن الكريم قد ذكر شتى القضايا والأحكام وقد تناولها بلغة شريفة وكلمات فاضلة بحيث يمكن ذكرها أمام أي قوم وأي إنسان أيا كان عمره.وفي قوله تعالى لعلهم يتفكرون إيماءة إلى أن الوحي يجلو فكر الإنسان ويصقله، وكانت حياة الصحابة رضوان الله عليهم - أكبر دليل على صدق ذلك.كانوا أُميين وغير واقفين على أحوال الدنيا، ولكنهم بسماع الوحي القرآني واستيعابه صاروا أساتذة لعلماء العالم، وقد أُعطوا من الفهم والاستنارة بحيث خلفوا وراءهم أسوة يُحتذى بها في جميع المجالات العلمية.أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن تَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ شرح الكلمات: يخسف: خسف المكان خسوفًا: ذهَب في الأرض وغرق.خسف الله تعالى الأرضَ: أساحَها بما عليها.خسف الله الأرض بفلان: غيبه فيها.خسف في الأرض وخسف به مجهولاً: أي غاب فيها.خسف فلانًا: أذله وحمله ما يكرهه (الأقرب).التفسير: تتضمن هذه الآية نبأ آخر عن مصير الكفار.والخسف - كما ذكر آنها - يكون ظاهريًا ومعنويا أيضًا.لا شك أن كلمات الآية تدل على الخسف * حكم "النيوك" في الديانة الهندوسية يحتم على الزوج الهندوسي غير القادر على الإنجاب أن برسل زوجته إلى شخص قوي قادر على الإنجاب حتى لا يبقى هو وزوجته بدون أولاد (المترجم)
الجزء الرابع ٢٦٩ سورة النحل الظاهري لأن خسف الأرض بأحد يعني دفنه فيها، إلا أن المراد هنا هو الخسف المجازي أي الذل والإهانة ولقد تعرض الكفار لعذاب الخسف هذا بشكل مذهل بحيث إننا لا نجد اليوم أحدا يذكر أسماء صناديد العرب الكفار وعائلاتهم، ولكن لدى ذكر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولادهم - رضوان الله عليهم أجمعين- تنحني الهامات إجلالاً لهم وإكبارا.حق النبي أما قوله تعالى أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، فلا شك أن العذاب يفاجئ الكفار دائما، ولكن هناك أحداث في حياة النبي ينطبق عليها قول الله هذا بشكل محير.خذوا صلح الحديبية مثلاً، كان أهل مكة يرونه انتصاراً عظيماً لهم، ولكن الأيام دارت بعد الصلح دورة جعلت صلح الحديبية آية عظيمة في.لقد أصر أهل مكة عند الاتفاقية على أنه إذا أسلم أحد من أهل مكة وهرب إلى المدينة فلا بد من إرجاعه إلى المكيين، وهذا الشرط أدى إلى تكون عصابة من المسلمين أخذت في محاربة الكفار خارج النظام التابع للنبي ﷺ وضيقت على المكيين الخناق، حتى جاءوه صاغرين يتوسلون إليه بأن لهذه العصابة بالهجرة إلى المدينة.ثم بعدها اشتبكت بعض القبائل فيما بينها فساعدت قريش بعضها مخالفة بذلك الاتفاقية مما أفسح للمسلمين المجال للزحف على مكة، ففتحت بسرعة هائلة وبطريق مفاجئ جدا (السيرة النبوية لابن هشام: أمر الهدنة، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥- ٣٢ طبعة ١٩٣٥ ).أوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) شرح الكلمات : ٤٧ يسمح تقلب: تقلب الشيءُ: تحوَّل عن وجهه.تقلب على فراشه: تحول من جانب إلى جانب.تقلب في الأمور: تصرف فيها كيف شاء (الأقرب).
الجزء الرابع ۲۷۰ سورة النحل معجزين: أعجزه الشيءُ: فاته.أعجَزَ فلانٌ فلانًا: صيَّره عاجزا.أعجزه: وجده عاجزا (الأقرب).التفسير: التقلب يعني أيضا السفر بحسب قول الله تعالى في القرآن الكريم لا يغُرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد) (آل عمران: ۱۹۷)..أي لا تكن مغترا بأسفارهم التجارية هنا وهناك، فتقول إنهم أصحاب قوة وثراء فكيف يمكن أن يندحروا ويُغلبوا.ونظرًا إلى هذا المعنى يكون المراد من قوله تعالى أو يأخُذهم في تقلبهم أنه يجب ألا يظن الكفار أن أسفارهم التجارية ستكون مدعاة لقوتهم وشوكتهم، فإن الله تعالى سوف يعذبهم بسبب أسفارهم التجارية نفسها.وبالفعل خاض الكفار معركة بدر دفاعًا عن قافلة تجارية لهم، فذهبت ببدر ريحهم وانكسرت شوكتهم السيرة النبوية لابن هشام غزوة بدر الكبرى.ومن معاني التقلب التصرفُ، فتعني جملة أو يأخُذهم في تقلبهم أنه تعالى سوف يُخلّ بتصرفهم أي سلطتهم ويُضعف نفوذهم.وبالفعل أخذ أهل مكة بهذا العذاب أيضًا لدى الحديبية حيث رفضت بعض القبائل الكافرة الانضمام إلى صفوفهم، والتحقت بالمسلمين رغم الاختلاف العقائدي، وهي التي تسببت فيما بعد في زحف المسلمين على مكة وفتحها.أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمُ ) شرح الكلمات ٤٨ تخوف: تخوَّفَ عليه شيئًا تخوفًا: خافه عليه.وتخوف الشيء: تنقصه.تخوف حقه: تهضمه."هو يأخذهم على تخوف" أي يُصابون في أطراف قراهم بالشر حتى يأتي ذلك عليهم الأقرب).والتخوف ظهور الخوف من الإنسان (المفردات).
الجزء الرابع ۲۷۱ سورة النحل الجزيرة التفسير: من معاني التخوف النقصان فتعني الآية أن الله تعالى سيعذب أهل مكة أيضًا بنقصان الأراضي التابعة لهم، حيث تخرج مناطق نفوذهم من أيديهم شيئًا فشيئًا.وهذا ما حدث بالضبط حيث بدأ أهل الأقطار المختلفة من يدخلون في الإسلام حتى قبل فتح مكة.كما أن التخوف يعنى الرعب، فتعني الآية أنه سوف يعذبهم بعذاب الخوف..أي أنه سيلقي في قلوب الذين كفروا هيبة المسلمين بحيث تنخلع بها قلوبهم.والحق أن مثل هذا العذاب يكون من الألم بمكان، لأنه يحطّم أعصاب الإنسان ويلقيه في سعير القلق الشديد الذي لا انقطاع له.وقد تعرض المكيون لهذا العذاب أيضًا، فكان رعب النبي الله وأصحابه يعتصر قلوبهم باستمرار، حيث ورد في الحديث الشريف قول النبي ﷺ : "نصرت بالرعب مسيرة شهر" (البخاري: کتاب الصلاة باب قول النبي وجعلت لي الأرض مسجداً)..أي أن الله و قد نصر رسوله بالرعب والهيبة، فحيثما خرج ها به الناس حتى أولئك الذين يقطنون بعيدًا دفعة عنه مسافة شهر.ثم قال الله تعالى فإن ربكم لرءوف رحيم.وذكر الرأفة هنا بعد ذكر العذاب يبدو غريبًا لأوّل وهلة، لكن له أسبابًا عديدة أولها أن الله تعالى حتى في إنزال هذا العذاب المتنوع عليهم قد عاملهم بالرأفة، ولم يصبه عليهم واحدة؛ فقد حذرهم أولاً بالتخوف أي بنشر الإسلام في المناطق المجاورة لمكة، ثم حصلت اشتباكات بسيطة بينهم وبين المسلمين، ثم انعقد بالحديبية الصلح الذي ذهبت به ريحهم؛ ثم فاجأهم في عقر دارهم لدى فتح مكة.فهذا البطش البطيء كان رأفة ورحمة في حقهم، إذ تيسرت بذلك الهداية لمن كان أهلاً لها، وإلا فلو أراد الله لأهلكهم دفعةً واحدةً.والسبب الثاني - وهو الأولى عندي - هو أن الرأفة هنا تخص المسلمين وليس الكافرين، والمراد أن عذاب أهل مكة يمثل رأفة ورحمة بالمؤمنين، لأنه يستهدف
الجزء الرابع ۲۷۲ سورة النحل إنقاذ المسلمين المضطهدين من تعذيب أهل مكة وعدوانهم.والدليل على ما أقوله هو أنه لدى ذكر العذاب استخدم القرآن ضمير الغائب، ولكن عند الحديث عن الرأفة والرحمة استخدم ضمير الخطاب.الله من شَيْءٍ يَتَ يَتَيَؤُا ظِلَالُهُ عَنِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ الْيَمِينِ وَالشِّمَابِل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) شرح الكلمات: يتفيو: تفيَّأت الظلالُ: تقلبت (الأقرب).داخرون: دخر ودخر ذلّ وصغر، وفي القرآن: سيدخلون جهنم داخرين أي أذلاء مهانين (الأقرب).التفسير: يقول الله وعمل هنا للكفار لم لا تتدبرون في نواميس القدرة مطيعين الله و خاشعين له، لتروا كيف أن كل شيء إلى زوال، وأن كل أمة معرضة للانحطاط.فتدالُ الدُّول، وتخرَّب المدن، وتدمر البلاد، ويصير الفقير ثريا، والثري فقيرًا.فكل ما في الدنيا يتقلص ظله آخر المطاف..أي أن الإنسان يفقد في آخر الأمر كل ما يحققه من رقي ونفوذ ومنزلة ورعب وسطوة وصيت.فلماذا لا تفكرون في هذه القاعدة الكلية، متخلين عن الكبر والغطرسة، لكي تأخذوا العبرة وتقبلوا الحق.لقد بينت هذا المعنى باعتبار قوله تعالى سجدا لله وهم داخرون حالاً لضمير الغائب للجمع في أولم يروا، بينما اعتبره البعض حالاً لـ (ما) الواردة في قوله ما خلق الله من شيء ابن كثير؛ وبما أن الضمائر المستخدمة هنا للمذكر فأرى أن المعنى الذي بينته هو الأصح.هي
الجزء الرابع ۲۷۳ سورة النحل وهناك تساؤل آخر: قال الله تعالى هنا عن اليمين والشمائل، بينما كان الأولى أن تكون الكلمتان إما بصيغة الجمع أو المفرد، أي إما أن يقول: عن اليمائن والشمائل، أو يقول: عن اليمين والشمال؟ لقد أجاب عليه البعض وقال : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبّرت عن أحدهما بلفظ الواحد، وقد اتبع القرآن هذا الأسلوب في موضع آخر أيضا حيث قال وجعل الظلمات والنور.وقال غيره : لقد وحّد اليمين لأنه أراد واحدًا من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها.وقال البعض الآخر: وحد اليمين والمراد به الجمع (تفسير فتح البيان).كما أن المفسرين قد عانوا كثيرًا في تفسير كلمتي اليمين والشمائل)، فقالوا إن ظلال الأشياء تمتد أو تتقلص شرقا وغربا بحركة الشمس، وليس يمينا وشمالاً، فكيف قال هنا يتفيؤ" ظلاله عن اليمين والشمائل.وقد حاول البعض حل هذه المعضلة بقوله : إن اليمين هنا بمعنى المشرق والشمائل بمعنى المغرب، لأننا إذا اتجهنا إلى جهة الشمال كان المشرق على يميننا والمغرب على شمالنا (المرجع السابق).ولكني لا أرى هذا الرأي رأيًا، لأنه مخالف للمعتاد، فلتحديد الجهات يقف حدر الناس متجهين إلى الشرق لا إلى الشمال إنما المراد أن الله تعالى قد الكافرين من قبل من العذاب، والآن قد دلّل عليه وقال: أفلا يفكرون أن الوسائل لا تنقلب عدواً لمن خلقها وأوجدها؟ أفلا يرون أن أظلال الأشياء تتغير بحركة الشمس؟ وإذا كانت الشمس على ظهر شيء فيمتد ظله ويطول.فهل تظنون أن الله تعالى لا يملك من القدرة ما تملكه الشمس؟ فما دام الله عل يساند ويشد عضده فكيف يمكن أن لا يمد ظله ولا يحقق له الرقي؟ وبالعكس محمدا كيف لا يتقلص ظل مَن لم يكن الله يسانده؟ فالواقع أنه بضرب هذا المثال قد عقد الله المقارنة بين النبي ﷺ والكفار أهل مكة، وأخبر من الذي سوف يتقلص ظله ويزول ومن الذي سيطول ظله ويمتد
الجزء الرابع ٢٧٤ سورة النحل نفوذه.وبما أن النبي لو كان سيهاجر من مكة إلى المدينة – علمًا أن هذه السورة أيضا قد تحدثت عن الهجرة - لذلك أرى أن المراد من اليمين هو مكة ومن الشمال هو المدينة؛ ذلك لأن أحدًا إذا وقف بين حدود المدينتين متجها إلى الشرق كانت مكة على يمينه والمدينة على شماله.وقد استعمل "اليمين" مفردًا و"الشمائل" جمعًا، ليشير إلى أن ظل أهل مكة سوف يكون قليلاً وسيتقلص وينكمش، وأما محمد الذي سوف يهاجر إلى منطقة الشمال فسوف يكون له أظلال كثيرة أي سوف يحقق النفوذ في جهات عديدة.وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَتيكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (3) شرح الكلمات: دابة: دب دبا: مشى على هيئته (أي بطء كمشي الطفل والنملة والضعيف.والدابةُ : مؤنتُ الداب؛ ما دب من الحيوان، وغلب على ما يُركب ويُحمل عليه الأحمال، ويقع على المذكر، والهاء فيها للوحدة كما في الحمامة (الأقرب).التفسير: يقول الله : إن كلاً من أهل الأرض وملائكة السماء خاضع لحكمنا ومنقاد لمشيئتنا؛ وبما أن كل ما في الكون من أسباب ومدبّريها - أي الملائكة - واقع في قبضتنا فلم لا نسخّرهم في خدمة محمد، وكيف لا يمتد ظله ويتسع نفوذه ؟ وأوضح بقوله ل وهم لا يستكبرون أن المسخرين في خدمة محمد ﷺ يعملون له جاهدين في طاعة كاملة ولكن أتباعكم، أيها الكافرون، لا يطيعونكم بصدق ووفاء كاملين فلا بد أن يظل نظامكم ناقصا وسينهار عاجلا
الجزء الرابع ۲۷۵ سورة النحل وهناك تساؤل آخر إن كلمة "الدابة" تعنى المواشى عموما، فكيف استخدمها الله للناس؟ والجواب أن الدَبَّ يعني المشي ببطء وتَؤدة، واسم الفاعل منه هو الدابُ الذي مؤنثه الدابة، وهذا المعنى يشمل الإنسان أيضًا.تتَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَ عَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (2) ٥١ التفسير هذه الآية وصفٌ للملائكة، وإنها لتُبطل كل ما نسج حول هاروت وماروت من خرافات وأباطيل.إن الملائكة يخافون الله ل ويفعلون ما يأمرهم به، فكيف يمكن أن يخرجوا عن طاعته كما يقال في تلك الخزعبلات؟ وقوله تعالى من فوقهم حال للملائكة، والمعنى أنهم يخافون الله الذي هو قاهر فوقهم.وو وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ اللهُ وَاحِدٌ فَإِيَّنِي فَأَرْهَبُونِ الله شرح الكلمات ۵۲ صلى إلهين: الإله : المعبود مطلقا بحق أو بباطل لأن الأسماء تتبع الاعتقاد لا ما عليه الشيء في نفسه (الأقرب).واحد الواحد بمعنى الأحد أي المنفرد الذي لا نظير له أو ليس معه غيره (الأقرب).فَارْهَبون: رهَب الرجلُ رهبةً: خاف (الأقرب).التفسير: وقوله تعالى فإياي فَارْهَبون أصله هو : فإياي ارهبوني فَارْهبوني.وفيه تأكيد على خشية الله وحده.وعجل
الجزء الرابع ٢٧٦ سورة النحل لقد اعترض البعض على قوله تعالى لا تتخذوا إلهَين اثنين قائلا: لماذا جاء التركيز على الاثنين، بدلاً من أن يقال (لا تتخذوا آلهة)، فهذا الأسلوب يُوهم وكأنه لا بأس من اتخاذ آلهة كثيرة، أما إلهين اثنين فلا! الواقع أن هذا الاعتراض ناشئ عن قلة التدبر في القرآن الكريم، لأنه قد صرح بعد ذلك مباشرة إنما هو إله واحد ؛ وبعد هذا التصريح كيف يمكن القول بأن هذا الأسلوب القرآني يوهم جواز اتخاذ أكثر من إلهين؟ فكلمة الاثنين جاءت إزاء الواحد لتؤكد استحالة وجود أكثر من إله واحد..لا اثنين ولا أكثر.هذا، وهناك حكمة أخرى في اختيار هذا الأسلوب وهو أن المشركين أيضًا كانوا يفرقون بين الله وما يتخذون دونه من آلهة باطلة، فكانوا يعتقدون أن الله خالق الكون، ولكن للآلهة الأخرى أيضًا سلطة غير أنها محدودة نظرا إلى كون قدراتها وتخصصاتها محدودة، فهذا مثلاً يُنزل المطر، وذاك يهب الأولاد، والثالث يشفي من الأمراض وهلم جرا؛ أو أن كل قبيلة ومنطقة لها إله خاص يتفقدها ويرعاها فكأنهم كانوا يعتقدون بوجود نوعين من الآلهة: النوع الأول عبارة عن إله واحد قادر مطلق القدرة، والنوع الثاني يشمل عدة آلهة ذوات قدرات متفاوتة وهي آلهة مناطق وشعوب محددة (تفسير الرازي: سورة الزمر، الآية: ولئن سألتهم من خلق السماوات...).فقوله تعالى إلهين اثنين نفي لتقسيم الألوهية بين هذين النوعين من الآلهة.والحكمة الثالثة في اختيار هذا الأسلوب هو إبطال عقيدة المجوس خاصة، فإنهم يؤمنون بإلهين : إله للخير وإله للشر؛ فالله تعالى يعلن هنا أن ليس هناك من إلهين اثنين، إنما هو إله واحد وهو الذي يجزيكم بالخير والشر، فلا تتخذوا إلهين اثنين.لقد نبه الله و بذلك أنه ما دام هناك إله واحد فمن ذا الذي يمكن أن يُنـــزل الشرع من دونه إنه وحده يتمتع بهذه السلطة.الله كما أن هذه الآية تتضمن الإشارة إلى نتائج الهجرة التي تم التنبؤ عنها قبل قليل حيث أخبر الله له أنكم ستدركون لدى تحقق ذلك النبأ أن الله هو الإله وحده
الجزء الرابع ۲۷۷ سورة النحل ولا إله سواه، بمعنى أن نجاح المسلمين ورقيهم سيشكل برهانا ساطعا على وجود البارئ ل وتوحيده.هذا، وإن هذه الآية تعقد المقارنة بين تعليم القرآن الكريم وما عند الكفار من مبادئ ،وتعاليم وتكشف أن الناس لا غنى لهم عن تعليم القرآن.لقد أضلتهم عقولهم فاتخذوا هذه الآلهة العديدة، ولكن الحق أن الوحي هو الذي يهدي إلى التوحيد الحقيقي، ويحمي العقل الإنساني من الخطأ والشطط.وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ ۵۳ تَتَّقُونَ ) شرح الكلمات: الدين: دان يدين دِينًا: أطاع ودانَ فلانًا : خدمه؛ حكم عليه.الدين: الطاعة؛ القضاء الأقرب).واستعير "الدين" للشريعة (المفردات).واصبًا وصب الشيء يصب وُصُوبًا دام وثبت وصب الدَّينُ: وجب.وصَب.فلان على الأمر: وابَ وأحسَنَ القيامَ عليه الواصب: الدائم.وله الدين واصبًا أي دائمًا (الأقرب).التفسير: لقد ساق الله الله هنا برهانا قويًّا على بطلان العقيدة الوثنية، وقد ذكر هذا البرهان في أماكن عديدة أخرى في القرآن الكريم أيضًا.يقول عز من قائل: لو أمعنتم النظر في السماوات والأرض ودرستم نواميس الكون بنظرة فاحصة، لوجدتم في كل مكان قانونًا واحدًا، ورأيتم كل شيء منتظما في نظم واحد ؛ وما دام القانون الجاري في الكون واحدًا فكيف يمكن أن يحكمه ملكان أو أكثر.لو كان في الكون آلهة إلا الله لرأيتم في نواميسها وقوانينها اختلافا، لأنه لدى الاعتقاد بوجود أكثر من إله واحد لا يخلو الأمر من إحدى الحالتين:
الجزء الرابع ۲۷۸ سورة النحل ١- فإما أن يكون الإله الثاني مطيعا للإله الأول ومنفذا لأوامره؛ وفي هذه الحالة يصبح وجود الإله الثاني أو عدمه سيّين، لأن شخصًا واحدا إذا قدر بمفرده على القيام بعمل من الأعمال فلا داعي أن يُعهد هذا العمل نفسه إلى اثنين.- أو أن الإله الثاني أيضًا يقوم ببعض الأعمال في الكون بحسب قانون ونظام خاص به إلى جانب ما يفعله الإله الأول؛ وفي هذه الحالة لا بد من وجود اختلاف في الكون، ولكن الواقع لا يصدق هذا، فلا مناص من الاعتراف أن لا إله إلا إله واحد لا شريك له.وأما قوله تعالى وله الدين واصباً فقد أوضح به أنه كان هناك احتمال آخر لوجود إلهين وذلك بأن يكون أحدهما يمارس الحكم إلى زمن محدد ثم ينعزل ويتعطل ليأخذ الآخر مكانه، ولكن الواقع يعارض ذلك، حيث لا زالت النواميس الطبيعية منذ ملايين السنين كما هي من دون أن تتغير وتتبدل.فالاعتقاد بوجود إله إلى جانب هذا الإله الذي يملك السماوات والأرض والذي له القانون الجاري منذ الأزل إلى الأبد لهو اعتقاد فاحش وحماقة كبرى.وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْرُونَ ٥٤ شرح الكلمات نعمة هي الصنيعة والمنة؛ ما أنعم به عليك من رزق ومال وغيره؛ المسرة؛ اليد الحالة البيضاء الصالحة.وفي الكليات: النعمة في أصل وضعها التي يستلذ بها الإنسان، وهذا مبني على ما اشتهر عندهم من أن الفعلة بالكسر للحالة وبالفتح نعمة الله: ما أعطاه الله للعبد مما لا يتمنى غيره أن يعطيه إياه، وجمعها أنعم ونعم.فلان واسع النعمة أي واسع المال (الأقرب).للمرة.
الجزء الرابع ۲۷۹ سورة النحل الضُّر : ضدُّ النفع؛ سوء الحال والشدة.وفي الكليات: الضر بالفتح شائع في كل ضرر، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال (الأقرب).تَجْأَرون: جارَ الداعي جأَرًا: رفع صوته بالدعاء جار إلى الله بالدعاء: ضجّ وتضرع واستغاث، ومنه ثم إذا مَسَّكم الضُّرُّ فإليه تجأرون )) (الأقرب).التفسير : لقد ذكر القرآن الكريم هنا تلك الآيات والبراهين الدالة على التوحيد التي تُوجد في نفوس الكفار.يقول : إن كل ما عندكم من نعم فهو من الله تعالى، لأنها كلها خاضعة لنظام واحد، ومع ذلك تعزُون بعضها إلى آلهة أخرى؛ ولكن إذا أصابتكم آفة شديدة تنسون آلهتكم الباطلة هذه وتستغيثون ذلك الإله الذي هو واحد ،وحق وهذا يدل على أن قلوبكم غير مطمئنة بالشرك.وحيث إنكم أنفسكم غير مطمئنين بالشرك فلماذا تؤكدون عليه لهذه الدرجة.إنه لمن الحقائق الثابتة أنه عند حلول المصائب الشديدة لا يلجأ الناس إلا إلى الله.فمثلا إن النصارى يؤلهون المسيح الل، ولكنهم لا يبتهلون إليه بسبب الحرب الدائرة حاليا بين إنجلترا وألمانيا، وإنما يدعون الله تعالى لتفريج الكروب.فلو كانوا موقنين بألوهية المسيح حقًا لما فعلوا هكذا أبدا.ولم يَدْعُ الكفارُ النَّاتَ والعُزَّى لما حمى الوطيس في معركة بدر، حتى إن أبا جهل نفسه لم يستصرخ بهذه الآلهة الباطلة، بل دعا الله وعمل قائلا: اللهم إن كان هذا فأمطر علينا حجارةً من السماء أو التنا بعذاب أليم.وفعلا استجاب الله وال لابتهاله فأمطروا بالحصى ببدر كما حلّ بهم العذاب الأليم بأشكال أخرى (البخاري: كتاب التفسير، سورة الأنفال).فلو كان في قلوبهم يقين راسخ وتأثير عميق لألوهية اللات والعزى لاستغاثوا بهما في ذلك الوقت العصيب، ولكنهم لم يدعوهما، بل دعوا الله تعالى، وهذه هي شهادة الفطرة.هو الحق من عندك
الجزء الرابع ۲۸۰ سورة النحل ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون ) التفسير: وقال القرآن إنهم برهم يُشركون، فذكر "الرب" مضافًا إليهم، وذلك تعنيفًا لهم واستثارةً لحميتهم، لأن المرء يغار على ما هو لـــه.فكأن المعنى: إن الله ربكم وليس بينكم وبينه خصومة ولا عداوة تضطركم للإشراك به؛ فما لكم تستغيثونه عند الشدائد وحين يكشف عنكم الضر تعودون إلى آلهتكم الباطلة ثانية.لِيَكُرُواْ بِمَا ءَاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ٥٦ التفسير : واللام في ليكفروا للعاقبة، والمعنى أن الله تعالى حين يكشف عنهم المصائب والأهوال فإنهم يكفرون بنعمته بدلاً.من أن يشكروا لـه، زاعمين بأن ما حدث إنما كان بفضل كذا وكذا من الآلهة؛ ولا يمكن – والحال هذه – أن يستحقوا الفضل الإلهي الدائم.وكأن الله يقول لهم: من الممكن أن نستجيب لتضرعاتكم المؤقتة رحمةً منا ونرفع عنكم الآفات لبعض المرات، ولكن لن نفعل ذلك دائما، بل سوف نرفض أدعيتكم في يوم من الأيام، لنحيطكم بالعذاب.قلے وَتَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَتَرُونَ ) شرح الكلمات : نصيبا النصيب الحظ (الأقرب).: التفسير : لقد كشف القرآن الكريم هنا عن جانب شنيع آخر للعقيدة الوثنية، وهو أن الوثنيين ينسبون نعم الله إلى كائنات لا دليل عندهم على وجودها؛ وهذا برهان عظيم على بطلان الشرك.لقد اخترع الوثنيون في تأييد الشرك شتى
۲۸۱ سورة النحل الجزء الرابع الأمور الفلسفية التي يحتار أمامها ضعاف العقول بعض الشيء، فيصعب عليهم التمييز بين التوحيد والشرك؛ ولكن الدليل الذي ذكره القرآن هنا سهل الفهم جدا، فَلْنَدَع ويبلغ من القوة بحيث إنه يُبطل الوساوس الفلسفية كلها.وإليكم بيانه: المبحث الأصلي جانبًا وهو: هل يمكن أن يكون هناك أكثر من إله واحد، لأن احتمال وجود الشيء ،أمر، وأما وجوده بالفعل فشيء مختلف تماما؛ فلنسلّمْ - جدلاً - أن وجود أكثر من إله ممكن، ولكن هذه الإمكانية لا تُثبت أن ذلك الإنسان أو الصنم المعيَّن الذي اتخذه الناس إلها مع الله تعالى هو بالفعل إله حق، بل لا بد من تقديم الأدلة على كونه من الآلهة الحقة التي افترض وجودها.فالله تعالى يتحدى الكفار قائلا: خُذوا أيا من آلهتكم وقدموا ما في أيديكم من أدلة على كونه إلها بالفعل وحيث إنكم لا تملكون أي دليل على كون أي من آلهتكم إذًا حقا فكيف تستطيعون بالحجج الفلسفية الهروب من قبول التوحيد هذا الدليل يبلغ من القوة بحيث لا يقدر أي من المشركين مقاومته.لنفترض أنه من الممكن أن يكون هناك أكثر من إله، ولكن كيف ثبت بذلك أن "كالي" أو "رام" أو "كرشنا" أو المسيح أو غيرهم أيضًا آلهة في الواقع.كلا، بل لا بد من تقديم الأدلة على ذلك الزعم وهذا ما لن يقدر عليه أي من المشركين أبدا إنهم يسوقون دائمًا بعض الأمور الفلسفية أثناء الحوار دعمًا للشرك، ولكنهم لم ولن يستطيعوا أبدًا تقديم أي برهان معقول على كون شركائهم آلهةً آلهة بالفعل؛ ذلك لأن تقديم الأدلة الفلسفية على الشرك أمر، وإثبات كون الشيء الضعيف إلها بالبرهان أمر آخر تماما.والله تعالى قد أوجد بحكمته الكاملة كثيرًا من البراهين الدالة على ضعف كل ما اتخذ من دونه لا إلها، وهذه البراهين تبلغ من القوة بحيث إذا سمعها أي مشرك تبخرت من رأسه نشوة الكبرياء والغطرسة على الفور.لقد ذكرتُ هذا المعنى باعتبار ضمير الجمع للغائب في الما لا يعلمون عائدًا على المشركين.أما إذا كان الضمير عائدًا على آلهتهم فالمعنى أنه لا علم لهؤلاء
الجزء الرابع ۲۸۲ سورة النحل الآلهة بما يعزوه إليها المشركون من صفات إلهية.فالأصنام والأنهار والجبال وغيرها من الأشياء التي يؤلهونها إنما هي جماد لا شعور فيها؛ كذلك هو حال المسيح أو الحسين عليهما السلام، اللذين ينسب إليهما بعض الناس الألوهية قائلين إن المسيح أو الحسين هو الذي وهب لي كذا وكذا من النعم (إنجيل يوحنا ۱: ۱، وتحفة الاثنا عشرية، النسخة الفارسية ص ٩٣-٩٤)، مع أنه لا علم لهذين البريئين بما يقال عنهما، إذ لم يدع أي منهما في حياته بما نُسب إليه بعد وفاته.6 أما قوله تعالى تالله لتسئلن عما كنتم تفترون) فليس معناه أنهم سوف يُسألون عن الافتراء مجرد سؤال، وإنما المراد أنهم سيحاسبون ويعاقبون عليه حتما.وهذا التعبير شائع لدى كل قوم وفي كل بلد تقريبا.لقد قال بعض الجهلة: إن كلمة "الله" - التي تعني: أحلف بالله – دليل على أن هذا القرآن ليس من عند الله تعالى، لأنه لو كان وحيًا منه ول لما قال عن نفسه تالله، وإنما قال بعزتنا وجلالنا (تفسير القرآن لـ "ويري").ولكن هذا الاستدلال ليس بسليم، ولا بأس بهذا التعبير، إذ هو من قبيل التعابير الملكية، والغرض منه إظهار الجلال والهيبة؛ فمثلاً يقول الأب لابنه أحيانًا: إن أباك يأمرك بهذا، ولا يُفهم منه أبدًا أنه ينفي كونه أبا له، وإنما يريد التأكيد والشدة.وكذلك يقول الملك في بعض الأحيان إن ملككم يأمركم بكذا، ولا يُفهم منه أبدًا أنه ينفي كونه ملكًا وأن الأمر صادر عن ملك آخر.وَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَنَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ الكلمات : شرح سبحانه: سبحانَ الله : أي أبرئ الله من السوء براءةً (الأقرب).۵۸
الجزء الرابع ۲۸۳ سورة النحل يشتهون: شهاه يشهوه وشهيه يشهاه شهوةً: أحبه ورغب فيه وتمناه.واشتهاه بمعنى شَهيه (الأقرب).الإناثَ؛ منه التفسير: ليس المراد من هذه الآية أن الله تعالى سخط عليهم لأنهم يصفون الله البنات بدلاً من البنين فإن الله تعالى يكره نسبة الذكور إليه كما يكره نسبة إذ يقول في موضع آخر من القرآن الكريم تكاد السماوات يتفطَّرنَ وتنشقُ الأرضُ وتَخرُّ الجبالُ هَذَانِ أَنْ دعوا للرحمنِ ولدا (مريم: ۹۱ و ۹۲).فالآية تشير إلى غباء المشركين، وتبين أن الإنسان حين ينحرف عن الطريق السوي فإنه يرضى حتى بما يتعارض مع معتقداته أيضًا.فهؤلاء القوم ينسبون إلى الله و البنات من ناحية، ومن ناحية أخرى يعتبرون الإناث أحقر شأنا الذكور، ولو كانوا يعقلون شيئا لما نسبوا إلى الله ما يحتقرونه.لقد قدم الله بذلك دليلاً على ضرورة ،الوحى مبينًا كيف أن الإنسان إذا ما حاول البحث عن الهدى من دون الاستعانة بنور الوحي ارتكب أخطاء فادحة مكشوفة؛ إذن فما أكثر الإنسان عرضةً للخطأ في القضايا التي هي هذا أكثر من تعقيدًا وصعوبة فثبت أن الدلالة على الطريق الحق هو من اختصاص ولما كان بإمكان الكافرين أن يحتجوا هنا ويقولوا نحن لا نقصد الإساءة إلى الله الله حين نقول إنه قد اتخذ لنفسه البنات، لأن البنات أيضا من نعمه، لذلك ول عليهم في الآية التالية.من وحده.رد وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ (2) شرح الكلمات: بشر : بشره: أخبره ففرح (الأقرب).یک ۵۹ الله كظيم: المكروب (الأقرب).والكُظوم: احتباس النفس، ويعبر به عن السكوت.كظم الغيظ: حبسه.كظم السقاء: شدَّه بعد ملئه مانعا لنفسه (المفردات).
الجزء الرابع : ٢٨٤ سورة النحل التفسير هنا يوبخهم يسود وجهه، وتجتاحه مشاعر الخجل والعار حتى يصعب عليه ضبط عواطفه وأحاسيسه، ولكنه لا يشعر بأدنى خجل حين ينسب إلى الله الذي هو نور على نور ما يعتبره لنفسه وصمة عار في الجبين.الله تعالى ويقول : حين يُخبَر أحد منهم بولادة بنت في بيته يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هون أَمْ يَدُسُهُ في التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا تَحْكُمُونَ ) شرح الكلمات: يتوارى توارى عنه: استتر (الأقرب).هون: هانَ الرجلُ هُونًا: ذلَّ وحقُر؛ ضعف.الهون: الخزي (الأقرب).يدس : دَس الشيء تحت التراب : أدخله فيه ودفنه تحته وأخفاه (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إن هذا الشخص يقع في حيرة من أمر ابنته، فلا يدري- رغم عاطفة الأبوة - هل يُبقيها على قيد الحياة أم يخفيها حية في التراب.يظن العامة أن وأد البنات كان عادة شائعة لدى العرب، وهذا خطأ تماما، وإلا لقل عدد الإناث بينهم بشكل ملموس جدا.لا شك أن العرب كلهم تقريبًا كانوا يكرهون ولادة ،البنت، ولكن لم يمارس وأدَها بالفعل إلا بعض العمائد المصابين بالكبرياء والغرور.إن كراهية ولادة البنت شيء، ووأدها شيء آخر تماما، فما زال الناس حتى اليوم أيضًا يكرهون ولادة البنت عمومًا، إلا ما شاء الله، ولكن قلما يئدونها.علما أن وأد البنات في مكة كان نادرًا جدًّا (تاريخ الإسلام السياسي الجزء الأول ص ۳۷.إذن فالآية لا تنص على كون هذه العادة شائعة لدى الجميع، وإنما تُدينها لأن بعضا من أعيان القوم كانوا
الجزء الرابع ٢٨٥ سورة النحل يمارسونها، وأما العرب عمومًا فكانوا يرون هذه العادة مدعاة للشرف، وإن كانوا لا يرتكبونها.ثم قال الله وعمل ألا ساء ما يحكمون..أي أن الذين يكرهون ولادة الإناث عندهم إنما يأتون أمرًا جدَّ منكر، إذ لولا الإناث لما كان لهم ولا لذريتهم وجود.لقد عمل القرآن الكريم منذ البداية على توطيد شرف المرأة والاعتراف بحقوقها، ومع ذلك لا يزال الأعداء يثيرون ضجة حتى اليوم بأن محمدا قد ظلم النساء! ليتهم يدلُّوننا على كتاب واحد غير القرآن قد دافع عن حقوقهن منذ أول يوم من نزوله.إنه القرآن الكريم وحده الذي يتصف بهذه الميزة.لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) شرح الكلمات: ד المثل: الشبه والنظير؛ الصفةُ؛ الحجةُ ؛ يقال : أقام له مثلاً أي حجة؛ الحديث، يقال : بسط له مثلاً أي حديثا (الأقرب).التفسير : كلمة المثل هنا تعني الحديث وتعني الآية أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لا يتكلمون إلا بالسوء، في حين أن ما ينزل من عند الله لا يكون إلا خيرا.لقد أوضح الله جل هنا الموضوع الحيوي الرئيسي الذي تتمحور حوله هذه السورة، حيث أخبر أن الذين ينكرون يوم القيامة يرفضون الوحي أيضًا، ويريدون أن يخترعوا بأنفسهم منهجًا لهم، ولكنهم يفشلون في ذلك فشلاً ذريعا حيث ينقلب عليهم كل ما يقترحونه.ولكن الوحي الإلهي يخلو من العيوب تماما، ويتسم بالمحاسن كلها، فكيف يسعهم إذا إنكار ضرورة الوحي الإلهي.
الجزء الرابع ٢٨٦ سورة النحل قد يتساءل أحد هنا: لماذا قال الله إن الذين لا يؤمنون بالآخرة كلامهم مليء بالأخطاء، بدلاً من أن يقول : الذين لا يؤمنون بالوحي كلامهم مليء بالأخطاء؟ الجواب: إن من الأساليب التى يمتاز بها القرآن الكريم أنه حين ينبه على عيب من العيوب فإنه يسلط الضوء أيضًا على أسبابه ودواعيه وهذا ما فعله هنا، لأن إنكار الكافرين ضرورة الوحي راجع في الواقع إلى إنكارهم يوم القيامة، لأن من يؤمن بالقيامة لا يمكن أن ينكر ضرورة الوحي، لإيمانه أن زمن ما بعد الموت أهم فترة من الحياة الإنسانية، وبما أنه لا رجعة بعد الموت إلى الدنيا لذلك سيرى ضروريا أن يدله العليم الخبير بذلك العالم الأخروي على ما ينفعه في حياته هنالك، وهذا هو غرض الوحى، ولذلك قال : لا يؤمنون بالآخرة"، ولكن هذا المعنى ما كان ليؤدى لو قيل إن الذين "لا يؤمنون بالوحي".وختم الله الآية بقوله وهو العزيز الحكيم، لأن الغالب وحده يستطيع تنفيذ ما يريد، ولأن الحكيم وحده يقدر على بيان الحكم؛ فلا بد أن يكون ما يقترح العزيز الحكيم هو المنهج الأفضل والأصلح لنجاة البشر، أما الذي ليس بحكيم ولا عزيز فمن المحال أن يأتي بالتعليم الحكيم، أو يقدر على تحقيق ما يدعو إليه من الحكمة.والحكمة الأخرى لذكر هاتين الصفتين هي التأكيد على ضرورة يوم الآخرة، إذ بين الله تعالى أن فعل الحكيم لا يخلو من الحكمة ولولا الآخرة لبدا خلق الإنسان عملاً خاليًا من الحكمة.كما أن غلبة الإله العزيز لا يمكن أن تكتمل في هذه الدنيا فلا بد من يوم آخر لذلك.ولو قيل: لم لا تكتمل غلبته هنا؟ فالجواب لأنه حكيم أيضًا، فلو ظهرت غلبته وعجل بصورتها الكاملة في هذه الدنيا لم يبق للإيمان جدوى ولا قيمة، وصار بلا طائل.
الجزء الرابع ۲۸۷ سورة النحل وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا صلے يَسْتَخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ شرح الكلمات :.0.:دابة راجع شرح كلمات الآية رقم ٥٠.) ٦٢ أجل: الأجَل : مدة الشيء والوقت الذي يحل فيه (الأقرب).ساعة الساعة الوقت الحاضر القيامة؛ وقيل : الوقت الذي تقوم فيه القيامة؛ وعبارة عن عن جزء قليل من النهار أو الليل، يقال: جلستُ عندك ساعة من النهار أو الليل..أي وقتًا قليلاً منه (الأقرب).التفسير : هذه الآية رد على شبهة قد تتولد في قلوب الكافرين بسبب الآية السابقة، وتلك الشبهة هي : لو كان ما يقترحه الإنسان منهجًا خاطئا يدفع إلى الهلاك وكان المنهج الإلهي وحده الذي يهدي إلى النجاة..لكان لزاما أن يُهلك الله الكفار جميعًا على الفور، ولكن الواقع يخالف ذلك إذ لا يبرح الكافرون يحققون أنواع الرقي المادي، فثبت أنه لا يمكن تخطئتهم كلية، بل يمكن أن يكونوا هم أيضًا على الحق! فرد الله على هذه الشبهة وقال : دَعُوا الوحي الإلهي جانبا إذ لا تؤمنون به، وأخبرونا: هل يعاقب الله على الفور من يقع في الأمور التي ترونها أنتم أيضًا خلافا للمشيئة الإلهية كالسرقة والقتل والنهب وغيرها؟ فما دام الله يمنحهم المهلة أن تستدلوا – بما يمنحه الله لمنكري وحيه من مهلة – أن هذا الوحي فكيف يصح ليس من عند الله، وإلا لعجل لهم العذاب و لم يبق منهم أحدًا.
الجزء الرابع ۲۸۸ سورة النحل ثم بين الله تعالى سبب تأخير العذاب عن المجرمين وهو أنه لولا قانون المهلة لما استمر النسل الإنساني؛ ذلك لأنه ول لو أهلك كل محرم فور ارتكابه الجريمة لم يبق من بني آدم أحد بعد فترة من الزمن.قد يقول قائل هنا: ليس جميع من في الدنيا مجرمين، بل بينهم الصالحون أيضًا الذين يتسببون في استمرار النسل الإنساني؟ والجواب: ليس ضروريًا أن يكون كل واحد من آباء الصالحين الموجودين اليوم حتى زمن آدم صالحًا.فلو أهلك الله آباءهم المجرمين الأوائل هؤلاء لم يكن للصالحين الذين خرجوا من ذرياتهم وجود فثبت بذلك أنه ليس ضروريا أن يعاقب المرء على جريمته من فوره.وهذا يشكل دليلا آخر على وجود الآخرة التي سوف تكتمل فيها عملية جزاء الأعمال.أما إذا أنكرنا وجود الآخرة لاعتبرت القرارات الإلهية ناقصة.وهناك إشكال آخر يجب حله: لماذا قال الله تعالى هنا ولو يؤاخذ الله الناس أن الإنسان هو وحده المكلف بأحكام من دابة ، مع بظلمهم ما ترك عليها الشرع، فما ذنب هذه الحيوانات المسكينة حتى تعاقب معه؟ والجواب على ذلك هو ما صرّح به الله في مستهل هذه السورة بأن الحيوانات الأخرى قد خُلقت لنفع الإنسان؛ فلو هلك لما كان لهذه الحيوانات من حاجة، بل لقامت القيامة الشاملة.وَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ صلے لهُمُ الحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنهم ، رَطُونَ ) شرح الكلمات : تصف وصف الشيء: نَعَته بما فيه وحلاه.ووصف الطبيب للمريض وصفةً: بين له ما يتداوى به (الأقرب).
الجزء الرابع ۲۸۹ سورة النحل الحسنَى: ضِدُّ السُوءى؛ العاقبة الحسنة؛ النظر إلى الله؛ الظفر؛ الشهادة (الأقرب).لا جرم راجع شرح الآية رقم ٢٤.مفرطون : أفرط الأمرَ: نَسيه تركه وخلفه أفرط عليه: حمله ما لا يطيق.وما أفرطتُ من القوم أحدًا أي ما تركتُ (الأقرب).التفسير : تتناول هذه الآية الموضوع السابق نفسه ولكن بأسلوب آخر حيث تقول: كيف يتوقع الكافرون من الله مصيرًا حسنًا وهم يعزون إليه تعالى ما لا يرضون به لأنفسهم؟ كلا، بل إن من يعزو إليه العيوب لا بد أن يرى عاقبة سيئة.ثم قال الله تعالى وأنهم مفرطون..أي كما أنهم تركوا الله تعالى كذلك سيتركهم الله في العذاب وينساهم.تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَنُ أعْمَلَهُمْ فَهُوَ وَلهُمُ الْيَوْمَ وَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢) شرح الكلمات: وَلِيُّهم: الولي: المحبُّ والصديق؛ النصيرُ.وكلُّ مَن وَلِيَ أَمرَ أحد فهو وليه (الأقرب).التفسير: أي أن معارضي الأنبياء السابقين انخدعوا بقول الشيطان لهم بأنهم لن يعاقبوا على أعمالهم فاطمأنوا إليه وضلّوا؛ وكذلك حال أعداء الحق اليوم، فإنهم رغم إتيان المعاصي يجلسون مطمئنين، ولا يدرون أن عذابًا أليما يقترب إليهم باستمرار.
الجزء الرابع ۲۹۰ سورة النحل لا وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ هُمُ الَّذِي اخْتَلَ وا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) التفسير: يقول الله تعالى: هناك سبب آخر لنزول الوحي ألا وهو الاختلاف من الشديد الموجود بين الناس فيما يتعلق بالأخلاقيات والدين.هل كان هناك سبيل لرفع هذه الاختلافات بينهم إلا أن يأتيهم العلم اليقيني من عنده ؟ ولقد نزل هذا الكتاب بهذا العلم اليقيني.فلو أدرك الناس أن هذا الوحي نزل من عند الله تعالى أمكنهم إزالة هذه الاختلافات وإلا فكيف يتخلون عن موقفهم وكل واحد يرى بطبعه أن موقفه أفضل من موقف غيره؟ كما أن هذه الآية توجه اللوم إلى الكفار على قولهم : ما الحاجة إلى بعث نبي جديد وقد ظهر أنبياء كثيرون من قبل.إنهم لا يفكرون أن أعمالهم هي التي استدعت بعث هذا النبي الجديد، إذ تركوا الحق واختلفوا.لو لم يختلفوا لما كانت هناك حاجة لظهور نبي جديد.الغريب أنهم رغم إصابتهم بمرض الاختلاف يعترضون على مجيء طبيب أرسله الله وعمل ليعالجهم من مرضهم هذا! قد يعترض أحد على المعنى الذي ذكرته آنفًا ويقول: لنفترض أن الناس ظلوا عاملين بشرع موسى ال من دون أن يختلفوا فيه، أما نزلت الشريعة الكاملة عن طريق نبينا الكريم ؟ والجواب: إن هو إلا افتراض لا يمت إلى الحقيقة بصلة، لأن الناس ما كانوا لينتهوا في الواقع العملي عن الاختلاف، وبالتالي لم يكن بد من نزول هذه الشريعة الكاملة.ولو سلمنا جدلاً بإمكانية وقوع هذا المستحيل فقد سبق أن أجاب الله على وعمل ذلك أيضا بقوله قُلْ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم السماء ملكًا رسولا (الإسراء: ٩٦) أي لو أن كل البشر صاروا صالحين من
الجزء الرابع ۲۹۱ سورة النحل.كالملائكة لما كانت ثمة حاجة لبعث نبي، بل لصار الجميع أنبياء يتلقون الوحي من رسلنا الملائكة، ولما كان هناك منكر ولا كافر.ولكن لم يصبح أهل الدنيا كلهم أبرارًا قط، وبالتالي لم يتوقف بعث الأنبياء من عند الله أيضًا.وبين بقوله تعالى وهدى ورحمة لقوم يؤمنون أنه يجب عليك يا محمد أن تسعى بالقرآن لإزالة الاختلاف من بين المختلفين في أمرهم من جهة، ومن جهة أخرى عليك أن تسعى لكي يعمل المؤمنون بالقرآن ليزدادوا رحمةً وزلفى عند الله تعالى.وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَالِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ד التفسير : الماء هنا يعني الوحي، والدليل على ذلك أن الله كل قد قال بعد الحديث عن نزول الماء إن في ذلك لآيةً لقوم يسمعون؛ ونزول الماء المادي لا يكون آية لقوم يسمعون، إنما هو آية لقوم يشاهدون ويتدبرون فيدركون.فكلمة يسمعون) توضح جليًّا أن المراد من الماء هنا هو الوحي.فالله تعالى يلفت الأنظار إلى وحي الأنبياء السابقين موضحًا كم من مرة أنزلنا من السماء الماء الروحاني فأحيينا به العالم، ولو أنكم سمعتم أخبار الأنبياء الذين خلوا من قبل لصدقتم بما نزل إليكم من الحق.وقد جاء بقوله تعالى فأحيا به الأرض كدليل على كون القرآن هدى ورحمة حيث بين أن الوحي ما دام قد أحيا الموتى في الماضي فلم لا يكون القرآن سبب هدى ورحمة وحياة للمؤمنين.إن ما وقع في الماضي لا بد أن يقع اليوم.
الجزء الرابع ۲۹۲ سورة النحل وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نَسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَابِعًا لِلشَّرِبِينَ ) شرح الكلمات الأنعام: النعم: الإبلُ والشاءُ، وقيل: خاص بالإبل.وقال في المصباح: النَّعم: المالُ الراعي، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل.قال أبو عبيد: النَّعم: الجمال فقط، ويؤنث ويذكر، وجمعه أنعام.وقيل: النَّعَم: الإبلُ خاصة، والأنعام: ذواتُ الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم.وقيل: يُطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمٌ، وإن انفردت الغنم والبقر لم تسمَّ نَعمًا (الأقرب).فرْث: السرجين ما دام في الكرش (الأقرب).سائعًا: السائغ السهل المدخل من الطعام والشراب (الأقرب).التفسير: إن قوله عمل وإنّ لكم في الأنعام (لعبرة من الروعة والشفافية بمكان إن الأنعام تهيئ للإنسان الغذاء على شكل لبن ولحم، كما تنفعه في حمل أثقاله.وكان الجمل وسيلة النقل عموما في الجزيرة العربية لندرة البقر والثور هناك، ولكن في المناطق المختلفة الأخرى من العالم تخدم البقر الإنسان كثيرًا في نقل أحماله.أما المعز والنعاج فهي أيضًا تُستخدم لهذا الغرض في المناطق الجبلية، خاصة أثناء السفر في أعالي الجبال ؛ فإن الرعاة يضعون على ظهور هذه الحيوانات الصغيرة أثقال السياح نظير بعض النقود.ولقد رأيت في منطقة "كانغره" رعاةً قادمين من جبال "لاهول" وقد وضعوا أحمالهم على متون مئات من الغنم، على كل شاة حوالي عشرة أو عشرين كيلو غرامًا.ويا لــه من منظر رائع! وجدير بالملاحظة أن كلمة عبرة الواردة هنا مشتقة من العبور الذي يدل على السفر أيضا.وقد أشار الله باستخدامها إلى معنى رائع لطيف جدا وهو أنكم
الجزء الرابع ۲۹۳ سورة النحل تستعينون بهذه الأنعام في أسفاركم المادية، ولكن لا تستعينون بها في رحلتكم العقلية، فلا تتدبرون في حالة هذه الحيوانات حتى يعبر بكم هذا التدبر من عالم الجهل إلى دنيا العلم والمعرفة.وهذا هو معنى كلمة العبرة أيضا، إذ تعني انتقال الذهن برؤية شيء إلى أمر آخر وبالتالي فهم حقيقة الأمر قياسًا على ذلك أن ورود كلمة عبرة خلال الحديث عن الأنعام قد أضاف الشيء.فلا جرم إلى الموضوع شفافية رائعة.وما هي تلك العبرة؟ لقد فصلها الله تعالى إذ قال: إن هذه الأنعام تأكل العشب والكلأ الذي يتحول إلى الفرث الذي في الكرش، ثم ينقلب بعض هذا الفرث إلى الدم، ثم يصبح جزء من الدم لبنا خالصاً سائغا لدرجة أن أشد الناس نفاسةً وحساسية أيضًا يشربونه بمنتهى اللذة والمتعة ولا يجدون في شربه أي غضاضة وانقباض؛ مع أن اللبن هو نتاج الدم، حيث يتولد الدم من الفرث المتكون في كرش الحيوان من غذائه والذي يصل إلى الأمعاء، ثم يُنقل والذي يصل إلى الأمعاء، ثم يُنقل عبر العروق إلى القلب وحين يصل هناك يتحول إلى الدم ومن الدم ما يصل إلى الضرع ويصير لبنا.فالله تعالى ينبه هنا أن هذا الكلأ والعشب - الذي لا يستطيع الإنسان أكله - حين يصل إلى بطن الحيوان يتحول إلى لبن خالص من أي نجاسة وسائغ للشاربين.إن الإنسان لا يقدر على تحويل هذا العلف إلى لبن، ولكن الله عل يحوّله إلى لبن في جسم الحيوان؛ فينبغي للإنسان أن يتلقى من ذلك درسا..ألا وهو أن ذلك التعليم الفطري..الذي لا يستطيع به الإنسان إحراز اليقين، وإنما ملطَّحا بصنوف الرذائل والنقائص..يصبح كاللبن الخالص السائغ بعد أن يبقى يمر هذا التعليم عبر الآلة الروحانية التي خلقها الله ، علم، فلا يضر بصحة الإنسان الروحانية شيئا، بل ينفعه في كل مجال.فلم لا تأخذون العبرة من عملية صناعة اللبن في الحيوان ولم لا تدركون أن الميول الإنسانية الطبيعية لا يمكن أن تصير غذاء روحانيا حقيقيًا للإنسان ما لم يحوّلها الله و إلى لبن روحاني.ولكن هذا
٢٩٤ سورة النحل الجزء الرابع العمل هو خارج نطاق قدرة الإنسان، وما دام الإنسان لا يقدر على تحويل الكلأ إلى لبن فكيف يستطيع أن يحوّل الميول الطبيعية غير المهذبة إلى تعليم سام.ضمير ثمة إشكال لفظي في الآية وهو أن الله تعالى قد استخدم في بطونه ولقد أجاب المفسرون الواحد للغائب مع م أنه راجع إلى الأنعام التي هي.عليه بوجهين: أحدهما أن ضمير الفرد ورد نظرًا إلى المعنى المذكور وليس إلى اللفظ بتقدير (بطون ما ذَكَرْنا)؛ وثانيهما أن الضمير راجع إلى كل فرد من جنس الأنعام (انظر تفسير فتح البيان.وكلا الوجهين صحيح وفق القواعد العربية.هذا، وتشكل هذه الآية برهانًا عظيمًا على أن الذي أنزل القرآن هو الذي خَلَقَ الكون أيضاً، ذلك أن كيفية تكون اللبن - كما ذكرتها الآية – لم تكن معروفةً لدى الإنسان في زمن نزول القرآن وعملية تكون اللبن تتم كما يلي: عندما يصل الغذاء من كرش الحيوان إلى أمعائه يتحول إلى الفرث، ومن هذا الفرث ما يتحول إلى الدم، ثم يصير بعض الدم لبنًا.وهذه الحقيقة لم يكتشفها الإنسان إلا بعد نزول القرآن بزمن طويل، ولذلك نجد المفسرين المتأخرين يشيرون إلى أخطاء المفسرين القدامى في بيان كيفية تكون الدم.غير أن ما ذكره المتأخرون أيضا لا ما أكدته البحوث العلمية، ولكن كلمات القرآن الكريم متطابقة مع الاكتشافات الحديثة وهي: أن الغذاء يصل من معدة الحيوان إلى الأمعاء، وهناك جزء لطيف من هذا الغذاء المهضوم يصل مباشرةً إلى القلب عبر العروق وينقلب لدى وصوله إلى الأوردة دما، وهناك جزء لطيف آخر يصل من المعدة مباشرة إلى الكبد، ثم ينصب في القلب عبر الأوردة ويصير دما؛ ولدى انصباب الدم في الضرع يحدث من التفاعل ما يحوّله إلى اللبن.يتفق تماما تماماً مع كان الناس في الماضي يجهلون هذه الحقيقة بحيث إن المفسرين القدامى قد عانوا مشكلة كبيرة في شرح هذه الآية، لأنهم ظنوا بحسب الأفكار السائدة في زمنهم أنه خلال تحول الغذاء إلى الفرث والدم يقع تفاعل يُنتج اللبن.فقد كتب صاحب الكشاف: "إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طَبَحَتْه، فكان أسفله
الجزء الرابع ۲۹۵ سورة النحل أن فرئًا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما راجع أيضا البحر المحيط، ابن كثير).مع الآية تقول إن الغذاء يتكون لبنًا بعد مروره بمرحلتي الفرث والدم، وهما الشيئان اللذان لا يرضى أحد بتناولهما، ولكن عندما يصير الغذاء لبنا يستسيغ الناس شربه بكل شهية ومتعة لأنه عندئذ يكون خالصا نقيًّا مما يوجد في الفرث من نجاسة وفي الدم من سموم.مع العلم أن هذه الآية لا تعني أن لا أحد يقدر على صنع اللبن ولو بكمية ضئيلة، فقد يتمكن الإنسان في المستقبل من صنع اللبن بمقدار قليل، ولكنه لا يستطيع تزويد الدنيا كلها بهذا الغذاء الهام.فإن الإنسان قد استطاع صنع المطر بتفاعل بعض الغازات، ولكن تلك القطرات القلائل من الماء لا يمكن أن تغني غناء الأمطار.كذلك لا غرابة لو تمكّن الإنسان في المستقبل من صنع اللبن من العلف، لأن تزويد البشر باللبن سيبقى منوطًا بالأنعام شأن الماء الذي هو منوط بالسحب.كما أن الآية تتضمن الإشارة إلى أن الإنسان يمكن أن يفسد غذاء الحيوان، لكن لا يقدر على صنع اللبن منه وبالمثل فيمكنه أن يتلاعب بتعاليم الأنبياء ويفسدها، لكنه غير قادر على تحويل ما يوجد في العقل الإنساني من الحقائق الفطرية غير الصافية إلى تعليم روحاني سام خالص من الشوائب.وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْتَب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ شرح الكلمات : الأعناب: جمع العنب وهو: ثمرُ الكَرم وهو طري، فإذا يبس فهو الزبيب (الأقرب).
الجزء الرابع ٢٩٦ سورة النحل سَكَرًا: السكر: الخمر؛ نبيذُ يُتخذ من التمر والكشوث؛ كلُّ ما يُسكر؛ الخَل؛ الطعام (الأقرب).التفسير : لقد عانى المفسرون كثيرًا في تفسير هذه الآية.فمنهم من فسر كلمة سكرًا بمعنى الخمر.ولكنه لما واجه مشكلة أخرى – وهي وهي أن الله تعالى يتحدث هنا عن نعمه ولكن الخمر حرام - أجاب عليها قائلاً: إن الآية نزلت قبل تحريم الخمر وهي منسوخة! (تفسير القرطبي) ومنهم من فسر سَكَرًا بمعنى الطعام تجنبًا للمعضلة المذكورة أعلاه.ولكن اعترض عليه الآخرون وقالوا: هذا سيؤدي إلى التكرار عبئًا، لأن الطعام قد سبق ذكره في قوله تعالى ورزقًا حسنًا ؟ فقيل في الجواب إن كلمة سَكَرًا) تشير إلى ما في هذه الأشياء من قوة، بينما يشير قوله تعالى ورزقا حسنًا إلى ما فيها من غذاء! (تفسير البغوي) الواقع أن المفسرين قد واجهوا هذه الصعاب لأنهم حاولوا بهذه الآية الاستدلال على جواز تناول ما هو (سَكَر ) أو عدم جوازه؛ مع أن الله تعالى إنما يريد أن يبين هنا أنكم كثيرًا ما تتصرفون في طيباتنا فتفسدونها، فالشيء الذي يكون طيبًا في حالته الأصلية يصير بتدخلكم نجسا فاسدًا.ثم قال الله وعمل إن في ذلك لآية لقوم يعقلون..أي أن العاقلين يدركون أن استخدام الشيء في غير ما خُلق من أجله لا يأتي بطائل بل يؤدي إلى الفساد.فلا الإنسان بقادر على تقديم منهج روحاني، كما لا يحق له التصرف في التعليم الرباني ليصرفه عن الهدف الذي نزل من أجله وإلا فلا بد من أن يفسد ويخرب.
الجزء الرابع ۲۹۷ سورة النحل وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِمُونَ (3) بمعنى وحي مطلقا.هذا التفسير : لقد ضرب الله وعل هنا مثالاً ثالثًا للتأكيد على ضرورة الوحي، وهو أوضَحُ من المثالين السابقين؛ فبيّن أنه أنزل إلى النحل الوحي الذي يناسبها، فأمرها أن تتخذ بيوتها في الجبال والشجر والعرائش وهذا الوحي عبارة عن الغريزة المودعة في النحل.وقد أكد الله بذلك أن كل الأشياء في مصنع الكون تدور بفضل الوحي، فبعضها يدور بوحي خفي وبعضها بوحي جلي..أن كل شيء إنما يؤدي الغرض من خلقه بالسير وفق ما أودع الله فيه من قوى وميول، ولو أنه انحرف عنها قليلاً لما حقق الهدف من وجوده كما ينبغي.لقد أوضحت هذه الآية أن نطاق الوحي الإلهي واسع جدا.يظن البعض أن لا بعد رسول الله لختم النبوة والحركة الأحمدية ص ٧٤)، ولكن هذه الآية تؤكد أنه حتى الحشرات تتلقى الوحي من الله تعالى.والمراد من وحي هذه الحيوانات ما جبلها الله عليه من غرائز وميول طبيعية.وهذا النوع من الوحي ينزل بشكل متقطع حتى على البشر العاديين، حيث تخطر بقلب المرء فجأةً فكرة نافعة لـه جدا.إن جميع المخترعين تقريبا يقولون إن معظم ما اخترعوه قد أُلقيت فكرته في قلوبهم فجأةً، أو أنهم فكروا في بعض المخترعات من أجل بحثهم العلمي، ولكنهم وجدوا حلولاً لكثير من المشاكل التي كانت تعترض طريقهم نتيجة موجة تولدت في وجدانهم فجأة.فهذا أديسون مثلاً - أكبر مخترع عرفه التاريخ البشري - يعترف بذلك صراحة حيث يقول: لقد اخترعت حوالي ألف مخترع، وكانت أكبر هذه المخترعات نتيجة فكرة أُلقيت في روعي فجأةً.والحق أن هذه هي الحالة التي يطلق عليها الصوفية الإلهام.
الجزء الرابع ۲۹۸ سورة النحل أما الحشرات فقد قام العلماء بخصوص النحل والنمل ببحوث مستفيضة، تؤكد أن النمل تعيش بحسب نظام رائع مذهل؛ فهي تتحاور بالأيدي، وتحافظ كالإنسان على ،موتاها وتدّخر الغلال وتجهز لها مساكن مختلفة تلائم الطقس؛ فللشتاء مسكن وللصيف مسكن آخر، كما تبني الغرف بأكثر من طابق.وهناك دودة من نوع خاص تسيل منها مادة تستخدمها النمل كاللبن، وهي حريصة على ادخار هذه الديدان في بيوتها وتعتني بتغذيتها باستمرار لدرجة أنها في أيام قلة الغذاء تطعم هذه الديدان أولاً، ثم تأكل ما يتبقى من الغذاء.كما أن النمل تتحارب فيما بينها، وتتصالح أيضا.The Book Of Knowledge, Word Anti) فهناك نظام واسع محكم تعيش النمل بموجبه.وكل هذا نتيجة للوحي الذي يسمى الوحي الخفي.والنحل أيضا تعيش بحسب نظام رائع حتى إن بعض العلماء يقولون إن نظام خلية النحل أفضل من نُظم الإنسان، وأنها أرهف حسا منه في بعض المجالات.توجد في كل خلية ملكة تطيعها النحلُ كلها وأجيال النحل المختلفة لا تعيش كالبشر معا، بل يعيش كل منها منفصلاً دون اختلاط مع من ليس من جيله.عندما تولد ملكة جديدة يسعى الجيل القديم للقضاء عليها، ولكن الجيل الشاب كله يهب لحراستها ويدافع عنها، وعندما تكبر الملكة الجديدة فإنها تشن مع جيلها الهجوم على الجيل القديم وتطرده من الخلية لتستقل بها هي، أو تنهزم وتطير بجيلها لتصنع لها خلية جديدة مستقلة.وهناك تفاصيل مذهلة أخرى عن نظام النحل ولكن لا مجال لذكرها هنا (المرجع السابق ص ٤١٦ - ٤٢١).ولقد اختار الله وعل مثال النحل ليوجه نظر الإنسان إلى الذي منح النحل هذا العلم وجعل لها هذا النظام المذهل الذي لا يمكن أن يكون وليد تفكيرها.وهناك سبب آخر لاختيار مثال النحل وهو أن نظامها ينكشف للعيان بأدنى تدبر، وأيضًا لأن النحل تهيئ غذاء قد اعتبره الإنسان من أفضل الأغذية وأجودها.إن وجود النظام في حياتها يدل على أنها تتمتع بالعقل، ولكن عيشها بنمط واحد
الجزء الرابع ۲۹۹ سورة النحل باستمرار من دون تطور يدل على أن هناك قوة خارجية أخرى وضعت للنحل هذا النظام الذي ليس من وضعها هي أبدا.كما أن الله تعالى قد أخبر هنا أن النحل أنواع، فمنها ما تتخذ بيوتها في الجبال، ومنها ما تبنيها في شجر السهول، ومنها ما تصنعها في مساكن الناس أو عرائش الكرم وغيرها.ولقد لَفَتَ بذلك الأنظار إلى أن الذين يتلقون الوحى أيضا صنوف..أي يحتلون درجات متفاوتة؛ فمنهم من مقامه الجبال، ومنهم من مقامه الشجر، ومنهم من مقامه العريش وكأن الله تعالى قد أومأ هنا إلى ما صرح به في موضع آخر من القرآن الكريم بقوله: تلك الرسل فضنا على بعض (البقرة: ٢٥٤) وو بعضهم ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً تَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفُ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِاءُ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَةَ كُرُونَ ) شرح الكلمات: فَاسْلُكي: سلك المكانَ سَلْكًا دخل فيه، وكذا سلك الطريق أي دخله وسار فيه متبعا إياه (الأقرب).للمزيد راجع شرح الآية رقم ١٣ من سورة الحجر.ذُلُلاً جمعُ ذَلول.ذلَّ البعيرُ : ضِدُّ صَعُبَ، يقال: ذلّت له القوافي: سهلت، فهو ذلول (الأقرب).وقال فَاسْلُكي سبل ربك ذُلُلاً أي منقادةً غير متصعبة (المفردات).ألوان: راجع شرح الآية رقم ١٤.
الجزء الرابع سورة النحل التفسير: في هذه الآية مزيد من وصف النحل، حيث قال الله تعالى: إن مما نوحيه إلى النحل أن تتغذى على رحيق الأزهار لتحوله إلى عسل، مستعينة بما خلقنا في جسمها من أجهزة، ومتبعةً أوامرنا.ثم بين الله تعالى أن عسلها يخرج ألوانًا وأنواعًا، ولكن هناك قاسم مشترك بين كل لون ونوع منه، وهو أن فيه شفاء للناس.وقد نبه الله بذلك إلى أن ما أنزلناه على البشر من وحي فهو أيضًا نزل في أوقات مختلفة وبألوان شتى، حيث كان مختلفا تعليم نبي في بعض الأحيان عن تعليم نبي آخر في بعض النواحي، ومع ذلك صار تعليم كل نبي شفاء لمن نزل من أجلهم.ولقد أشار الله له بقوله فَاسْلُكي سبل ربك ذُلُلاً إلى أن تلقي الوحي ممكن لكل إنسان، شريطة أن يسلك الطريق الذي رسمه الله له في طاعة كاملة، وأن لا يلوث فطرته النقية.فلو عاش عاملاً بالوحي الخفي الذي ينزل على البشر كلهم بل على كل مخلوق، لشَرَّفَه الله ل بوحي يكون كالعسل في نقائه وشفائه للناس..أي بوحي يزيل ضعفهم البشري ويجعلهم كاملين في الروحانية.ثم نبه بقوله إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون إلى أنه من المستحيل أن يتم أي أمر في الدنيا بدون الوحي، فمن ظن أنه سينال الهدى بجهوده فهو على خطأ.ولقد ركز سيدنا المسيح الموعود الله على هذا المعنى خاصةً حيث قال: إن ما يبذله المرء في أمور دنياه من جهود فهو بمنزلة الدعاء، وما يخطر بباله بعد ذلك من تدبير فهو بمثابة الوحي من عند الله تعالى (بركات الدعاء، الخزائن الروحانية ج ٤ ص ٢٣٠).إذن فقد نبهنا الله تعالى بضرب مثال النحل إلى أن الحياة الناجحة مستحيلة من دون الوحي، حتى إن الحيوانات أيضًا ليست في غنى عن الوحي، فهي الأخرى تتلقى نوعًا من الوحي، والنحل أوضح مثال لك.وما دام الله تعالى قد أنزل الوحي لرقي المخلوقات الأخرى بأسرها، مع أنها أقصر حياة وأقل شعورًا من
الجزء الرابع ۳۰۱ سورة النحل الإنسان..فكيف يمكن لنظام حياة الإنسان الدنيوية التي لها تأثيرها على حياته الأخروية أن يدار بدون نور الوحي.هذا، وقد وصف الله كل القرآن الكريم في مواضع عديدة منه بما وصف به العسل، مما يعني أن في القرآن نفس الميزة التي هي في العسل، أعني ميزة الشفاء، فقال الله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين (الإسراء: ۸۳)، وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور (يونس:٥٨)، وقال تعالى: قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنوا هُدًى وشفاء (فصلت: ٤٥).وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّنَكُمْ وَمِنكُم مِّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر で لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ شرح الكلمات: ۷۱ أرذل العُمُر : الأرذَلُ : الدُونُ في منظره وحالاته؛ الرديء من كل شيء.وأرذلُ العمر : آخره في حال الكبر والعجز (الأقرب).التفسير في الآيات السابقة كان الحديث يدور حول عدم قدرة آلهة المشركين الباطلة على إنزال هدي كوحي الله تعالى، أما الآن فقد ندد الله وعمل بالمشركين بأنهم أنفسهم لا يستطيعون أن يأتوا بكلام كامل كوحي الله تعالى؛ فقال: إنما يقدر على تقديم هدي كامل من بيده الخلقُ ،والموتُ، ويملك التصرف على العقل الإنساني، فثبت أنه ليس بوسع الإنسان تقديم منهج مكتمل، إذ ليس بيده الخلق حتى يُودع في الناس كفاءات وطبائع تتناسب مع التعليم الذي يقترحه لهم، كما لا يملك الموت حتى يخلق أسباب الحياة بعد الموت، كما لا سلطان له على العقل الإنساني حتى يختار لهداية الجنس البشري أناسًا يضمن سلامة عقولهم من الآفات
الجزء الرابع ۳۰۲ سورة النحل وحده، والعاهات على الدوام؛ فكثيرا ما تختار الحكومات لتعليم النشء أساتذة ذوي ذكاء خارق، ولكنهم عندما يبلغون سن الهرم يأخذون في الهذيان والخرف، وليس هناك وسيلة نحدّد بها زمن إصابة عقولهم بالخرف حتى لا يؤخذ بخرافاتهم منذ ذلك الوقت؛ لذلك نجد الكثير من تلاميذهم السذج يصدقون خرافاتهم فيضلون.فثبت أن التعليم الذي يهدي الناس حقا إنما ينزل من عند الله فهو خالقهم وهو الأعلم بحاجاتهم، وهو الذي يُميتهم، وهو الأعلم بحاجاتهم بعد الموت، وهو الذي يملك التصرف على العقل الإنساني، وبالتالي يضمن سلامة عقول الذين يختارهم لوحيه وإن في هذا لآية للمتفكرين، إذ لا يوجد بين الأنبياء نبي واحد بَلَغ أرذل العمر حتى يقال عنه أن حالته العقلية ضعفت في وقت من الأوقات، فلم يعد لكلامه.اعتبار هل هناك أية حالة كهذه تعرفها الدنيا من بين مئات الأنبياء الذين تعرفهم؟ كلا، لن تستطيع الدنيا تقديم مثال واحد على ذلك.أفليس هذا برهانا ساطعًا على أن الذي يبعثهم هو مالك العقل الإنساني والمتصرف فيه، فإذا اختار عبدا من عباده لتعليم الناس تولّى بنفسه حماية عقل هذا العبد من كل مرض وعاهة.أما إذا فسرنا الآية من منظور الحياة القومية فالمراد أن الأمم أيضًا تصاب بالهرم والكبر وتنسى المعارف، فيتطلب الأمر أن يأتي الله بجيل جديد يتولّى بنفسه تعليمهم بإنزال الوحي إليهم من جديد.ثم أشار بقوله تعالى إن الله عليم قدير إلى أن الذي علمه دائم لا ينفد، والذي هو قادر فعّال لما يريد، فهو وحده الذي يحق له أن يُنزل الوحي.
الجزء الرابع ٣٠٣ سورة النحل وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِلُواْ بِرَادِى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَنُهُمْ فَهُمْ فِيهِ ج سَوَاءُ أَفَيعْمَةِ اللَّهِ تَجْحَدُونَ ) شرح الكلمات على ما ملكت أيمانهم : هو مَلَكَةُ.يميني أي أملكه وأقدر عليه (الأقرب).نعمة راجع شرح الآية رقم ٥٤.يجحدون: جحده حَقَّه وبحقه: أنكره مع علمه به.جحده: كفر به؛ كذبه (الأقرب).لا التفسير: لقد ساق الله و هنا دليلاً آخر على ضرورة الوحي، وهو أن الوحي يصحح العقائد الفاسدة فحسب، بل يعمل أيضًا على إصلاح توازن الحكومات الدنيوية.ففي كل زمن يخص الله بعض الأفراد والأمم بنعمه وفضله، فيسبقون غيرهم؛ وهذا قانون إلهي عام.ولو أن هؤلاء المتفوقين يتمسكون بالعدل والإنصاف ولا يهضمون حقوق الآخرين فلا بأس بسبقهم، ولكن ما يحدث دائمًا هو أن الذين يملكون زمام الأمور يرفضون كلية أن يتقاسموا تلك السلطة أو النعمة مع عبيدهم أو الذين هم كعبيد لهم؛ وليس هناك من سبيل لإخراج المظلومين من تحت وطأة الظالمين ولمنحهم الشرف والمنصب على أساس الجدارة والكفاءة والمساواة..إلا أن يبعث الله وعمل مرة أخرى نبيا من عنده يسترد للمظلومين حقوقهم.إن الذين يستولون على مقادير البلاد إنما حجتهم أن زمام الأمر يجب أن يبقى في أيدي الأكفاء، وبهذه الحجة يحصرون الكفاءة في أناس معينين وعائلات خاصة
الجزء الرابع ٣٠٤ سورة النحل يريدونها، فيصبح الحكم حكرًا على بعض العائلات والقبائل، وتتوطد الملكية، دون أن يؤخذ رأي العامة في الاعتبار أو أن يكون لهم دخل في الحكم.وهناك فئة أخرى أيضًا تقوم بسلب حقوق الناس وهم المحترفون الدينيون من حكم بعض براهمة ومشايخ وقسيسين ورهبان وكهان الذين يتصرفون وكأن الدين عليهم وملكّ وملك لهم، فيجعلون العامة في معزل عن الدين، فلا هم يُخبرونهم بحقائقه كما لا يتيحون لهم الفرصة لدراسته عن كثب، وإنما يُقنعونهم بأن ليس لهم إلا أن يقبلوا كل ما يقال لهم عن المسائل الدينية، من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء قراءة كتبهم الدينية والتدبر فيها حتى يفهموها وينتفعوا بها.أخذت فكلما ابتعدت الأمة عن زمن نبي الأسر السلطة والحقوق في أيديها، ثم توارثتها فيما بينها، حتى لا يُعتبر العامة أهلاً للإدلاء برأيهم في أمور الدين ولا الدنيا.وترجع هذه الأسر المحتكرة للسلطة هذا التمييز إلى كفاءة تكون موهومة في الواقع، حتى إن ابنا غبيًّا للملك يُعَدُّ أذكى شخص في العالم، وهذا الغبي يبلغ من الزهو والغرور بحيث إنه حينما يريد إصدار أمر من الأوامر يستخدم كلمات سخيفة جدا، فيقول مثلاً: إن السمو الملكي يقترح لمصلحة الرعايا اقتراحا رائعًا كذا، وها إننا نعلن عنه بهذا الإشعار؛ أو يقول: إنه من حسن حظ أهل البلد أن جلالة الملك يوافقني في رأي كذا.وكلما كثر غباؤه كثر زهوه واستكباره.والأمر نفسه ينطبق على العالم الديني.فإن الكثير يتلقبون بالمشايخ لأنهم أولاد علماء، في حين أنهم محرومون أصلاً من قوة التفكر والتدبر، ومع ذلك يطالبون الدنيا أن تقبل منهم سخفَهم من دون أدنى اعتراض؛ ومن فَضَّلَ كلام الله عل على خرافاتهم وترهاتهم التي لا برهان عليها أفتوا عليه بالكفر والارتداد.وفي مثل هذا الوقت العصيب لا ملجأ للناس ولا علاج لمشاكلهم إلا بعثة نبي من عند الله.وعندما يظهر النبي يُحرم من معرفته وتصديقه هؤلاء الأغبياء الذين يدعون العلم؛ أما الذين هم علماء حقا، والذين تراهم الدنيا بالعموم
الجزء الرابع ٣٠٥ سورة النحل جهالاً، فيؤمنون به بما أوتوا من نور البصيرة ونقاء الفطرة.وعندها تنشب الحرب بين الملائكة والشياطين، فأما الذين استضعفوا واعتبروا جاهلين غير أكفاء فيفشلون مكائد المستبدين المستعبدين للناس بحجة الكفاءة والجدارة، ويمزقون حججهم كما تمزق النسور لحم الجيفة ضربًا على الصخرة.وهكذا ينكشف على الدنيا زيف هؤلاء الأغبياء الذين ادعوا أنهم أكفأ الناس وأجدرهم بالحكم، وتتاح للمقهورين منذ أجيال فرصة الرقي مرة أخرى، وتتنفس الإنسانية في حرية تامة من جديد.هذا هو المعنى الذي تبينه هذه الآية، حيث تخبرنا أن الذين يحتكرون نعم الله في أيديهم لا يُشركون فيها الذين استعبدوهم كيلا ينتفع بها السيد والمسود على حد سواء.متى منح هؤلاء المستبدّون لأهل الدنيا حرية الرأي وحرية العمل؟ فكيف يتسنى للإنسانية - والحال هذه أن تتقدم وتزدهر ، اللهم إلا أن يبعث الله ل أنبياءه من حين لآخر ليعيدوا للإنسانية اعتبارها وحريتها.إذن، فهذه الآية تؤكد ضرورة النبوة، وتسوق بهذا الصدد برهانا عمليا يبلغ من القوة والوضوح بحيث لن يسع أهل البصيرة أمامه إلا الاعتراف بأنه لولا النبوة لما استطاع الناس حماية حقوقهم، ولولا نزول هذه النعمة مرة بعد أخرى لما قدر قدما.الإنسان على المضي وأما قوله تعالى أفبنعمة الله يجحدون فيمثل لوما لعامة الناس بأنكم تتنكرون لمن جاء لنجدتكم وتكفرون به، وتُظاهرون الظالمين الذين سلبوكم حقوقكم بالظلم والعدوان.هذا، والآية عرض رائع للنظرية الإسلامية عن الملكية.فقوله عمل رزقهم يمثل إعلانًا ربانيا أن ما في أيدي الأثرياء هو ملك لهم بدون شك، ولكنه ملك للفقراء أيضًا كما يتضح من قوله تعالى فما الذين فضلوا برادي رزقهم، لأنه إنما يُرَدُّ من الأشياء ما يكون للغير، أما ما يملكه أحد بالتمام والكمال فلا يُرَد.ويبدو لأول وهلة أن هناك تعارضًا في الآية، ولكن الأمر ليس كذلك.إن من
الجزء الرابع ٣٠٦ سورة النحل مزايا تعليم الإسلام أنه يعلن أن كل شيء ملك لاثنين: أحدهما مَنْ كَسَبَ هذا الشيء، وثانيهما البشرية جمعاء.إن الإسلام يوزّع الملك بين صاحبه وبين الناس أجمعين، لأن الواقع أن لكل فرد من البشر حق الملكية على كل شيء موجود في الدنيا لكون الناس سواسية، ولذلك فقد سعى الإسلام أن لا يملك أحد شيئًا ما بحيث يحول دون رقي الآخرين، بل قد أفسح الإسلام المجال للآخرين أيضًا لينتفعوا منه؛ وما أدل على ذلك من أحكام الإسلام في أداء الزكاة وتوزيع الإرث، ونهيه عن جمع الذهب والفضة، وعن التعامل الربوي وغيرها من الأحكام الكثيرة مما لا مجال هنا للخوض في تفصيله والخلاصة أن الإسلام لا يقول بملكية شخصية مطلقة، ولا بملكية قومية بلا حدود، بل يقيد الطرفين بشروط، لكي يزدهر كل منهما في دائرته المحددة.ما ملكت أيمانهم يعني العبيد عموما، وقد استخدمه القرآن بهذا المعنى في معظم الأحيان، ولكن مفهومه، لغةً، أشمل من ذلك، أي كلُّ ما هو تحت تصرف الإنسان من الخَدَم والموظفين والأجراء والعمال وغيرهم.المصلحة هذه الآية رد على الذين لا يرون أية حاجة للوحي السماوي ويقولون: بإمكاننا أن نختار بأنفسنا منهجًا مناسبًا لحياتنا.يقول الله تعالى: إن سن الشرائع يجب أن يكون من اختصاص الله فقط، لأن الله فقط، لأن سن القوانين السليمة من الخطأ والسقم إنما يستطيعه من لا مصلحة له في تقسيم الحقوق، إذ لا بد أن تدفع الشخصية أو القومية صاحبَها إلى الخطأ.فمثلاً لو سن الرجال قانونًا ما لم يرعوا فيه حقوق النساء كما ينبغي، ولو سنّ الأثرياء قانونًا ما لركزوا فيه على حماية حقوق كبراء القوم مهملين حقوق الفقراء، وهلم جرا.فلذا يقول الله تعالى: إننا لم نفوّض سنَّ الشرائع إلى البشر منعًا لاحتكار النعم في أيد معدودة، وإنما باشرنا هذا الأمر بأنفسنا حتى نسترد حقوق العامة الذين هم كالعبيد ولا يملكون صوتًا قويًّا يجبر الآخرين على ردّ حقوقهم إليهم.
الجزء الرابع ۳۰۷ سورة النحل واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَجكُم بَنِينَ وَحَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَتِ أَفَبِالْبَطِل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْرُونَ ) شرح الكلمات: أنفسكم: الأنفس جمعُ النفس.ونفس الشيء: عينه (أي ذاته) (الأقرب).حفدة: جمع الحافد وهو : الخادم؛ الناصرُ ؛ التابع؛ ولد الولد (الأقرب).الباطل ضدُّ الحق (الأقرب).التفسير: من خلال آيات عديدة وبطرق شتى ما زال الله تعالى يؤكد ضرورةً أمرين هما نزول الوحي ونفي الشرك تأكيدًا يكشف أن كلا من الموضوعين وثيق الصلة بالآخر، وأن الواحد يدعم الآخر؛ حيث بين الله تعالى أنه بدون الوحي يصاب الإنسان بمرض فتاك كالشرك، وأن من مقتضى التوحيد الكامل أن يهدي الله تعالى عباده؛ وفيما يلي بيان ذلك.إذا كان الإله إلها واحدا فكيف يمكن أن يترك أمر هداية العباد في يد غيره.نعم، لو كان هناك أكثر من إله لترك الواحد مهمة الهداية للآخر مثلما يفعل الوالدان فيما يتعلق بتربية الأولاد حيث يعتمد الأب أحيانًا على الأم، ويحدث العكس أحيانًا أخرى ولكن ما دام الخالق والمالك واحدًا فإلى من يوكل أمر الهدى؟ إنه لا بد أن يتولى بنفسه هداية الناس.كما أن التوحيد يقتضي الكمال، ولكن خلق الناس بدون هدف وغاية منقصةٌ تتعارض مع عقيدة التوحيد، فإذا كان الإنسان لم يُخلَق إلا لغاية فلا بد له من حياة بعد الموت، وبالتالي لا بد من نزول منهج من عند الله تعالى يجعل الإنسان صالحا للعيش في تلك الحياة الخالدة.ومن أجل ذلك فقد ساق الله وعمل في الآيات السابقة أدلة شتى على الحياة بعد الموت.
الجزء الرابع سورة النحل لقد ذكر الله تعالى موضوعي التوحيد والهدي السماوي باستمرار وبطرق مختلفة بحيث يدعم أحدهما الآخر، مما زاد البيان قوةً وروعة بحيث اتضح تماما أن أركان العالم الروحاني يشد بعضها بعضا كما تشدّ أجرام العالم المادي بعضُها بعضًا.وحيثما رأيت وجدت حقيقةً واحدةً ونظامًا واحدًا.وفي هذه الآية أيضًا عاد الحديث مرة أخرى إلى تأكيد التوحيد، حيث نبه الله تعالى أن اعتياد الناس احتكار المال والحكم يدل على أمرين: الأمر الأول – وهو ما قد سبق بيانه – أن الإنسان يكره بفطرته أن يُشرك في أمواله وسلطته أحدًا هو تحت حكمه، ولذلك يتطلب الأمر التدخل من قبل قوة خارجية تغير هذا النظام الفاسد بنظام يقوم على مبدأ تساوي البشر ويضمن للجميع حقوقهم.والثاني هو توحيد البارئ، حيث يذكر الله تعالى الإنسان أنه حين يخوّله نعمةً يسلّم أيضًا بملكيته المحددة لها، كما يجيز انتقال حقوقه بشأنها إلى أولاده بالوراثة؛ والإنسان حين يريد نقل خير أمواله، التي هي في الواقع منحة إلهية، فلا يمنحها إلا لأولاده، كما لا يعطي الآخرين الحق في أن يعطوا أملاكه من يشاءون؛ فما لهذا الإنسان يقع في الباطل أي في الشرك، ويصبح ناكرًا لنعمه ؟ أما وكيف يحصل هذا النكران لنعم الله فقد ذكر مفصلا في الآية التالية.وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) التفسير: يقول الله تعالى إننا قد سلّمنا بحقهم في الوراثة ونقلهم أموالهم وسلطتهم إلى أولادهم أو لمن هو على صلة بهم، ولكنهم يردّون على صنيعنا هذا بأنهم يمنحون – في زعمهم سلطتنا وحُكمنا لمن لم نعطه إياها أو لا نريد أن نعطيه.إن أموالهم وعقاراتهم هذه ليست ملكًا لهم في الحقيقة، وإنما هي منحة -
الجزء الرابع ۳۰۹ سورة النحل منا، ومع ذلك نمنح لهم حق التصرف فيها كما يحلو لهم وأن يعطوها من يشاءون، فكيف لا يكون لنا نحن إذا حرية التصرف في أمر ديننا، بحيث نجعل من يشاء من عبادنا وارثا للدين.كما أشار الله تعالى في هذه الآية أن الشرك يوقف رقي الأمم أيضًا، لأن المشرك عندما يصرف اهتمامه عن الله إلى ما لا يملك له نفعًا ولا ضرا فإنه لا ينتفع من التوسل إليه، وإنما يتضرر بكل تأكيد؛ إذ لم يتوسل إلى الله الذي كان بالفعل قادرًا على أن يعطيه النعم بكل أنواعها؛ وبالتالي يتوقف الرقي العقلي دومًا لدى الأمم المشركة، ويصاب تفكيرهم بخلل كبير جدًّا فيما يتعلق بأمور الدين.ولكن الأمم غير الوثنية لا تزال تحرز التقدم عقليًّا - رغم انحرافها عن الحق – لأنها لا تفتأ تفكر في تلك الذات التي هي منبع القوى كلها، فتصيب شيئا من الحقائق من حين لآخر رغم حرمانها من الوحي والإلهام.فَلَا تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) Vo التفسير أي لا تسعوا لسنّ القوانين عما يخص ذات البارئ تعالى، إذ لا علم لكم بسعة قدرته ؛ فهو الذي سوف يمنح بنفسه السلطة الدينية من يشاء من عباده وبقدر ما يشاء، وسوف يهبها للذين يراهم كأولاد روحانيين له نظرا إلى إخلاصهم وتفانيهم."I علما أنه في لغة الوحي قد سمي بعض الأنبياء أبناء الله ومثاله قول المسيح ال للحواريين: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس (متى :۲۸ (۱۹) فكلمة "الابن" هنا تعني أن الله تعالى قد اصطفى المسيح وجعله وارثًا للملكوت السماوي.وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون (الأنبياء: (۲۷)..أي يخطئ المشركون في قولهم بأن
الجزء الرابع ۳۱۰ سورة النحل الله اتخذ ولدًا له في الحقيقة، بل الذين يسميهم الله أبناء له إنما هم عباده، وإنما المقصود بهذه التسمية أن الله يحبهم ويكرمهم.ولكن المؤسف أن بعض الجاهلين يغترون بهذه الألقاب ويعتبرون عباد الله المتواضعين أبناء له حقا، بينما يهب بعض الأغبياء الآخرين ويطعنون في هذه الأسماء والألقاب.وقد بين الله تعالى بقوله إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أن ما يستخدمه الله من ألقاب وكلمات فإنه يرمز إلى بعض الحقائق التي لا تتنافى مع الصفات الإلهية الأخرى، ولكنكم أيها الأغبياء تستخدمون تلك الألقاب في المعنى الذي يدل على جهلكم المطلق، إذ لا يمت ما تقولونه إلى الحقيقة بصلة بتاتا.وعلى سبيل المثال حين يطلق الله على عبد من عباده "ابن الله" فإنما يقصد به الإشارة إلى حبه الشديد لذلك العبد الطاهر، ولكن المشرك يعتبره ابنا حقيقيا الله تعالى وهكذا يحوّل هذه الصلة الطاهرة بين الرب والعبد إلى صلة مادية، مما يمثل إساءة إلى ذات البارئ تعالى، كما يحطّ من شأن هؤلاء المكرمين؛ لأنهم باعتقادهم هذا ينكرون عظمتهم الحقيقية التي حصلت لهم بمعرفة الله والتضحية في سبيله تعالى، أما العظمة المادية التي يعزونها إليهم فهي موهومة كما لا تساوي أمام العظمة الروحانية شيئا.ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ ج يَسْتَوُانَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (3) ٧٦ التفسير : لقد نبه الله تعالى في الآية السالفة أن على الإنسان أن يقف عند الحد الذي يحدده الله تعالى في الأمور الروحانية وإلا ستزل قدمه وتنحرف به بعيدا عن جادة الصواب، كما أخبر الله الا الله في الآية السالفة أنه حين يريد تكريم بعض
الجزء الرابع ۳۱۱ سورة النحل عباده المحبوبين ويطلق عليهم أسماء غير عادية فإنما يقصد بذلك عكس ما يقصده المشركون بإطلاق تلك الألقاب على بعض من مخلوقاته؛ أما في هذه الآية الله به من فضرب الله تعالى مثالاً يزيد الأمر جلاء فقال: هلا فكرتم فيمن هو فريسة للجشع والهوى ومقيد بأصفاد الأوهام والتقاليد القومية شأن العبد الذي لا يستطيع استغلال كفاءاته كما ينبغي لكونه مملوكًا لغيره..فهل يمكن أن يتساوى هو ومن هو حر من قيود الأوهام والتقاليد القومية، ويستغل ما حباه قوى وكفاءات في خدمة الإنسانية بحرية تامة سرا وعلانية؟ كلا.فلا شك- والحال هذه - أن الله سيكون في عون الذي يستغل قواه الموهوبة من عنده ل في خدمة عباده؛ وبالتالي لا بد أن يكون النجاح حليفه هو.وهذا المثال إشارة إلى شخص النبي الا الله وحيث أخبر الله أن هذا هو الإنسان الذي بإمكانه أن يرث نعم الله تعالى، ومهما استعمل الله تعالى في حقه من كلمات المدح والتكريم فهو أحق بها وأهلها.وقد أشار بهذا المثال أيضًا إلى أنكم لا تشركون فيما خوّل الله لكم من نعم إلا أولادكم وأسركم فحسب، ولكن محمدا يشرك العالم أجمع في نعم فنجاحه مضمون وفشلكم أكيد.الله تعالى؛ ويمكن تفسير قوله تعالى (سرا وجهرًا) بثلاثة أوجه هي: 1- أن محمدا يسدي للإنسانية خدمةً خفية لا يراها الناس كالدعاء والاستغفار لهم، كما يخدمهم خدمة ظاهرة جلية مثل أخلاقه الفاضلة التي كان يعاملهم بها والتي قد أشارت إليها السيدة خديجة رضي الله عنها في قولها الشهير: "كلا، والله ما يُخزيك الله أبدا.إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق." (البخاري: كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي).والمراد من قولها "وتكسب المعدوم" أنك تتحلى بتلك الأخلاق السامية التي قد اختفت من بين الناس.
الجزء الرابع ۳۱۲ سورة النحل ٢ - أنه لا يعمل على خدمة الإنسانية ليل نهار، ولا يدّخر وسعا في نفع البشرية غاضًا الطرف عن راحته.- أن خدماته نوعان: نوع هو خاف أي لا يقدره الناس حق قدره لجهلهم إياه، مع أنه خدمة عظيمة كقيامه بتبليغ الحق لهم؛ ونوع ظاهر باد يقدره الناس ويعترفون به بلسانهم؛ ومثال ذلك أن شخصاً جاء النبي وشكا إليه أن أبا جهل لا يرد له ماله، فخرج النبي الله معه من فوره وطَرَقَ على أبي جهل بابه؛ فلما رأى النبي واقفا أمامه أصيب بالذهول لأنه لم يتوقع مجيئه إليه إذ كان يؤذيه دائمًا، فسأله في حيرة: ما الذي وراءك؟ فقال النبي : هل أكلت ماله؟ قال: نعم.قال: أعطه ماله على الفور ولا تؤذه قال نعم، ورجع وقد ملئ قلبه رعبًا وهيبةً، وردّ للغريب ماله فلما شاع هذا الخبر بين القوم لاموا أبا جهل قائلين: ويلك يا جبان! تأمرنا بخلاف ما صنعت مع محمد! فقال: ويحكم! والله، خرجت إليه وإن فوق رأسه فَحْلاً من الإبل ثائراً، ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه لفحل قط! والله لو أبيتُ لأكلني (السيرة النبوية لابن هشام: أمر الأراشي).من الممكن أن تكون رؤية أبي جهل للبعير مع النبي الرؤية كشف، بيد أنه لم يشر إلى ذلك قط؛ وقد يكون أبو جهل قد اختلق من عنده قصة البعير الفحل ليخفي عن زملائه الرعب الذي استولى عليه لدى قيام النبي بتأييد الحق بهذه الصورة المذهلة.هذا، وإن هذه الآية تتضمن أيضًا الإشارة إلى ضرورة يوم القيامة؛ ذلك أن بعض حسنات الإنسان تبقى خافية على الناس فلا يستطيعون أن يجازوه عليها بأي طريقة فلذا من الضروري أن يكون هناك يوم يُكشف فيه للناس مثل هذه الأعمال وينال صاحبها جزاءها.
الجزء الرابع ۳۱۳ سورة النحل وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى و شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَهُ أَيْنَمَا يُوَجْهَهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطِ مُسْتَقِيمٍ شرح VV ال الكلمات: أبكم بكم يبكُم بَكْمًا: حَرَس، فهو أبكُمُ (الأقرب).: كَلُّ الكَلُّ: المصيبة؛ الثقيلُ لا خير فيه؛ العَيلُ والعيال؛ الثقلُ؛ الضعيف.ويُطلَق الكَلُّ على الواحد وغيره (الأقرب).مولى المولى: المالك المعتق؛ الصاحب الحليف؛ الولي؛ الرب؛ المنعم؛ المحب (الأقرب).يوجهه وجهه إليه في حاجة أرسله فوجه إليه أي ذهب..لازم ومتعد (الأقرب).صراط: الصراط الطريق (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى من قبل بضرب المثال السالف أن الذي يتمتع بكفاءات ،وقدرات ولا يقدر على استغلالها لكونه تحت سلطة الآخرين، فوجوده أو عدمه سواء؛ والآن قد زاد الله هذا المعنى إيضاحا بضرب مثال آخر لعبدين: أحدهما أخرس لا خير فيه، إذ ليس هو بقادر على فعل أي خير حتى ينفع الآخرين بيده، كما لا يستطيع الكلام أيضًا حتى ينفعهم بلسانه بالوعظ والنصح على الأقل، وبالتالي صار عبئاً ثقيلاً على سيده، لأنه لا يأمره بشيء إلا وهو يفشل في إنجازه ؛ وعلى النقيض هناك عبد آخر لدى هذا السيد يأمر الناس بالعدل وفق أوامر سيده كما يسرّه بإنجاز كل مهمة يعهدها إليه، فلا شك أن
الجزء الرابع ٣١٤ سورة النحل هذا العبد أفضل من الأول بكثير، وبينهما بون شاسع، ولا يمكن أن يعاملهما سیدهما معاملة واحدة.الله هذه الآية أيضًا تعقد مقارنة بين النبي ﷺ وبين طائفة من الكفار، حيث يقول الله لهم: لقد صرتم بكما لأن المعاصي بكل أنواعها كانت ولا تزال تُرتكب أمام أعينكم، فكان القوم يشركون بالله تعالى، ويعرضون صفاته عرضًا مشوَّها، ومع ذلك لزمتم الصمت، ولم ينبر منكم أحد لينهى هؤلاء عن الشرك والإساءة إلى مولاهم الحق؛ ولم يتصدَّ لهم منكم أحد بقول الحق دفاعًا عن سيده سبحانه وتعالى إلا محمد الله فإذا كنتم قد فشلتم في أمر الناس بالمعروف والعدل فكان من واجبكم أن تتمسكوا بأنفسكم بالخير والعدل على الأقل، وتعلنوا من خلال أعمالكم الحسنة عن سبوحية الله وبراءته من العيوب.وإذا كنتم غير قادرين على فهي الآخرين عن الشرك فكان من واجبكم أن تنتهوا بأنفسكم، ولكنكم لم تفعلوا ذلك أيضًا.ولنَدَعْ أمر الدين جانبًا، فيا ليتكم تقدمتم في المجال الدنيوي بشكل ملحوظ طالما كنتم مهتمين فقط بمتاع الحياة الدنيا؛ ولكنكم بدلاً من أن عنه تكونوا عونًا للآخرين أصبحتم عبئًا ثقيلاً عليهم؛ ولكن محمدا – على النقيض يأمر الناس بالعدل والمعروف كما هو بنفسه سائر على الصراط المستقيم..أي أنه كامل من جميع النواحي.فهلا أخبرتموني من أحقُّ بنصرتنا، أنتم أم هو؟ والخلاصة أن الله تعالى قد عقد في هاتين الآيتين مقارنة بين النبي ﷺ وطائفتين من الكفار؛ فالطائفة الأولى منهم كانوا عبيدا للتقاليد والأوهام..كانوا يريدون القيام بأعمال الخير ولكنهم لم يفعلوها خوفًا من القوم.أما الطائفة الأخرى منهم فإنها كانت أسيرة في قبضة التقاليد والأوهام كما كانت كفاءاتهم الطبيعية لفعل الخير قد صارت ممسوخة مطموسة لدرجة أنهم لن يفعلوا الخير ولو تحرروا من قيود التقاليد والأوهام.لقد صاروا عبئًا على الله تعالى، إذ يسبب وجودهم الإساءة إلى سبوحية الله وقدوسيته.
الجزء الرابع ٣١٥ سورة النحل ولكن محمدا لله ليس عبدا لأحد غير الله تعالى، كما أنه قد سخر كلَّ ما أُوتي من قدرات وكفاءات في نفع الإنسانية، ثم إنه مزود بملكات روحانية خارقة تساعده على التحلي بمكارم الأخلاق، كما يدعو الآخرين إلى الهدى.فهل، يا تری، سيقع الخيار الإلهى على الذي عنده الكفاءة والاستعداد، والذي يعمل جاهدًا لنصرة دين الله، أم على الذي يملك هذه القدرات، ولكنه يهدرها سدى لأنه غير قادر على استغلالها في سبيل الله، إذ لا يستطيع الصمود أمام تقاليد القوم، أو أنه لا يملك أي كفاءة أصلاً، ولا هو حر من قيود التقاليد والطقوس.وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ و الْبَصَر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ شرح الكلمات: ۷۸ الساعة: راجع شرح الآية رقم ٦٢.لمح البصر : لَمَحَ البصرُ يلمح لمْحًا: امتد إلى الشيء.لمح الرجلُ الشيء: أبصره بنظر خفيف أو اختلس النظر.ولَح الشيء بالبصر : صوبه إليه يصح (الأقرب).شيء: مصدر شاء.شاءه يشاء شيئًا: أراده.وشاء الله الشيء: قدَّره.الشيءُ: ما أن يُعلَم ويُخبر عنه.وهو مذكر يُطلق على المذكر والمؤنث، ويقع على الواجب الممكن.جمعه أشياء (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى هنا لقد عرفتم أيها الكافرون أن أهل السوء لا يمكن أن يعاملوا بمثل ما يعامل به أهل الصلاح، والآن نكشف لكم – نحن الذين نعلم أسرار السماوات والأرض - سرًّا آخر ينبغي أن تستوعبوه تستوعبوه جيدا ألا ساعة هلاكهم قريبة، بل ستحل بكم في لمح البصر أو أقرب من ذلك.وهو أن
الجزء الرابع ٣١٦ سورة النحل ولما كان من الممكن القول أن معرفة الغيب لا تعني بالضرورة أن صاحب الغيب قادر على أن يأتي بالنتائج كما يريد، لذلك الله الآية بقوله إن الله ختم على كل شيء قدير..أي أننا لا نعلم الغيب فحسب، بل نملك القدرة كلها على صياغة أحداث المستقبل كما نريد.هذا، وفي الآية إيماءة إلى أنه سيأتي على الناس زمان سيزعم فيه البعض بأن هلاك أعداء محمد لم يكن إلا صدفة أو نتيجةً طبيعية للظروف السائدة حينئذ، وذلك لكي يقللوا من عظمة هذا الحادث.وبالفعل فإن الكتاب المسيحيين في العصر الحديث يرددون كثيرًا بأن هلاك مناهضي محمد كان أمرًا طبيعيًّا عاديا وليس بمعجزة.فانظر كيف أن عالم الغيب الذي أنزل القرآن قد رد عليهم هنا سلفًا حيث بدأ الآية بإعلانه الا الله أن منزلها هو عالم الغيب، ثم نبأ باقتراب هلاك الكفار، ثم ختم الآية مؤكدًا أن دمارهم لن يكون صدفةً واتفاقًا، بل نحن الذين سوف نفعل هذا بقدرتنا الغالبة وبما يفوق طاقات البشر.علما أن هذا النبأ قد أدلي به حين كان تعذيب أهل مكة للمسلمين على أشده، وكان المسلمون لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلاً إلا أن يهاجروا.فانظر كيف أن أهل المدينة – الذين لم يُسلم منهم قبل نزول هذا النبأ إلا بضعة أفراد – دخلوا في الإسلام أجمعين ؛ ثم انظر كيف أن الكفار أرغموا محمدا رسول الله ﷺ على الهجرة إلى المدينة، في حين أنه لم يكن يرغب في أن يغادر مكة، وما تركها إلا بعد أن قرر الكفار اغتياله، بل لقد خرج منها في الليلة والساعة اللتين حاصروا فيهما بيته ؛ وكأنه الله لقد أقام بذلك الحجة على الكفار بأنني لا أريد الخروج من هذا البلد، ولكنكم لم تتركوا لي مناصًا إلا أن أتركها، فها إني أخرج منها رغم أنفي.ثم انظر كيف أن الكفار لم يألوا جهدا في كسر شوكة النبي ﷺ بالمدينة، ولكنه ازداد قوة إلى قوته بسرعة مذهلة إلى أن دمر الكفار نهائيا.من ذا الذي يمكن أن يسمي هذا صدفةً، أو نتيجةً طبيعية للظروف السائدة حينئذ، ولا سيما بعد أن تم التنبؤ عن هلاكهم؟ يمكن للكتاب المسيحيين أن
الجزء الرابع ۳۱۷ سورة النحل يُثبتوا بأن أتباع محمد ﷺ حين هاجموا كسرى الفرس أو قيصر الروم كانت إمبراطورية كل منهما في زوال وانحطاط، وكان نجم دولة المسلمين في صعود وارتفاع؛ ولكن ليس السؤال هنا : كيف كانت حالة الحكومة الإيرانية أو الرومية إزاء المسلمين حين هجم عليهما أتباع محمد ، وإنما السؤال: أي قوة كان يملكها محمد رسول الله وهو في مكة حين نبأ بانتصاره وهزيمة مناهضيه؟ وإذا كان الله تعالى هو الذي منحه القوة التي قلبت حكم الجزيرة العربية لصالحه من جهة، وأطاحت بعروش كسرى وقيصر من جهة أخرى، أفليس هذا بمعجزة؟ وإذا لم يكن هذا معجزة فما الذي يسمى معجزة إذن؟! وليكن معلوماً أن هذا النبأ قد أدلي به في أواخر الفترة المكية، وأن أول انتصار حققه المسلمون كان في معركة بدر..أي بعد حوالي سنتين ونصف السنة أو وقد فتحت مكة بعد هذا النبأ بعشر سنين، ولكن كلمات النبأ تقول إن الفتح سيتم في لمح البصر أو هو أقرب؛ مما يوضح أن مثل هذه التعابير لا تؤخذ ثلاث، بحرفيتها، لأن القرآن الكريم لا يقصد بها إلا المستقبل القريب فحسب.ولقد لفت النظر إلى هذا الأمر لأن البعض يبدؤون بالطعن في بعض الأنباء عند قراءة مثل هذه الكلمات فيها، متجاهلين أساليب لغة الوحي كهذه.وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا لا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَرَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) التفسير: يقول الله تعالى: أيها الناس قد أخرجناكم من بطون أمهاتكم وأنتم لا تعلمون شيئا، وزودناك بالسمع والبصر والفؤاد لكي تتعلموا؛ ولكنكم لم تنتفعوا بنعمنا هذه، فلا بالعين رأيتم، ولا بالأذن سمعتم ولا بالفؤاد فكرتم ووعيتم.
الجزء الرابع كم هي ۳۱۸ سورة النحل مفعمة هذه الجملة بمشاعر الشفقة والتأسف ! فربنا القادر يتأسف على غفلة العباد التي أدّت بهم إلى العذاب بكلمات تنم عن محبته المتناهية! هذا، وعلاقة هذه الآية بما قبلها تكمن في أنها تمثل دليلاً آخر على ضرورة الوحي؛ ذلك لأن الإنسان يولد وهو لا يعلم شيئًا، ولكن الله يزوده بالأذن والعين والفؤاد التي تساعده على تحصيل العلم والمعرفة.فكل العلوم المادية إنما تتيسر للإنسان عبر هذه الوسائل، وليس بوسع أحد أن يقول: لا حاجة بي إلى هذه الوسائل التي خلقها الله، بل سأنال العلم بوسائل أخلقها بنفسي.فما دام الإنسان لا يقدر على تحصيل العلم المادي إلا بما خلق الله من وسائل، فكيف يسوغ له أن يرفض استخدام الوسائل التي خلقها الله تعالى لتحصيل العلم الروحاني؟ أليس من المستغرب أن كل ما يحققه الإنسان من شرف وكمال إنما يحققه باستخدام الوسائل التي هي عطية من الله ، من دون أن يرى في استخدامها د، أي عار، ولكنه عندما يُدعَى إلى استخدام الوسائل المماثلة في المجال الروحاني فيرد على هذه الدعوة بالإنكار قائلاً: ليس بي حاجة إلى هذه الوسائل، لأنني قادر على تحقيق الرقي الروحاني بدونها مع أن الحقيقة أنه ليس بوسع الإنسان أن يستغني عن الحواس المادية لكسب العلم المادي، كما لا يمكن له لكسب الكمال الروحاني أن يستغني عما خلقه الله بحكمته البالغة من وسائل روحانية.وقد ختم الله تعالى الآية بقوله لعلكم تشكرون لينبه أن الغرض من خلق هذه الحواس فيكم، أيها الناس، أن تقدروا نعم الله تعالى وتشكروه عليها، ولكنكم تأخذكم الكبرياء والغرور نتيجة هذه النعم، وتقولون لا حاجة بنا لأي تعليمات من الخارج! هذا، وقد ذكر الله تعالى الأذن أوّلاً ثم العين ثم الفؤاد، وبهذا الترتيب نفسه تساعد هذه الحواس الإنسان على زيادة معرفته؛ فالأذن هي التي تعمل في المولود قبل كل شيء لكسب المعرفة، ثم العين، ثم القلب أي القوة الفكرية.وهذا ما
الجزء الرابع ۳۱۹ سورة النحل أكدته البحوث العلمية الحديثة أيضًا؛ حيث نجد أن مواليد بعض الحيوانات تفتح عيونها بعد عدة أيام بينما تعمل آذانها عملها في هذه الفترة.أما طفل الإنسان فتبدو عينه مفتوحة عند الولادة، ولكن الواقع أنها تعمل عملها بعد الأذن، أما قوته الفكرية فتبدأ عملها بعد مرور فترة من الوقت.هذا الترتيب الطبيعى يشكل برهانا ساطعاً آخر على أن القرآن كلام الله تعالى إذ أخبر هنا بما لم يكن معلومًا لإنسان ذلك العصر.أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوَ السَّمَاءِ مَا قل يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَا يَنتِ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) شرح الكلمات: جو: الجو: ما بين السماء والأرض.جو البيت: داخله (الأقرب).يُمسكهن : أمسك الشيء بيده : قبضه.وأمْسَكَ اللهُ الغيثَ : حَبَسه ومنع نزوله.أمسك عن الكلام: سكت أمسك عن الأمر : كف عنه وامتنع (الأقرب).قوم: القوم: الجماعةُ من الرجال خاصةً، وقيل: تدخله النساء على تَبَعِية، سُمُّوا بذلك لقيامهم بالعظائم المهمات.يذكر ويؤنث فيقال: قام القومُ وقامت القومُ (الأقرب).التفسير: قال المفسرون في قوله تعالى ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء أن معناه أن الله قد مكنها من الطيران في الجو بدون سبب ظاهري، وذلك ليبرهن على قدرته الله الرازي، والبيضاوي).غير أني لا أراه معنى صائبا، وإنما الواقع أن الآية تتحدث عن عقاب الكفار، حيث حذرهم الله تعالى أنه قد منع هذه الطيور الآن من الانقضاض عليهم، ولكن الأيام موشكة حين تنقض عليهم هذه الطيور لتنهش جثثهم نهشا.وذلك
الجزء الرابع ۳۲۰ سورة النحل ما حدث بالفعل في عديد من المعارك التي دارت بينهم وبين المسلمين حيث كان الكافرون يفرون من ساحة القتال تاركين وراءهم جثث قتلاهم التي كانت تصير طعامًا سائعًا للطيور.وهناك بيت شعر للنابغة الذبياني في هذا المعنى حيث قال: إذا ما غدى بالجيش حلق فوقه عصائب طير تهتدي بالعصائب أي أن الممدوح إذا خرج بجيشه حلّقت الطيور فوقهم، لأنها تعرف أن هذا لا بد أن يفتك بأعدائه، مما سيهيئ لها طعامًا شهيًّا.وورد في التاريخ عن تيمور لنك أنه حيثما توجه بجنوده حلّقت النسور فوقه، لأنه حيثما قاتل تغلب على الأعداء، وكانت الطيور قد أدركت بما أوتيت من وجدان فطري أن طعامها مضمون ما دامت في رفقة هذا الجيش.فالواقع أن تحليق الطيور في جو السماء تعبير عن هلاك قوم وانتصار قوم آخرين، وقد أشير هنا إلى هذا المعنى نفسه.وقد استخدم القرآن الكريم هذا التعبير في مكان آخر أيضًا حيث قال الله تعالى ألم تر كيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسَلَ عليهم طيرًا أَبابيل * ترميهم بحجارة من سجِّيلٍ * فجعلهم كَعَصْف مأكول (سورة الفيل)..أي ألم تر كيف دمر ربك أبرهة وأصحابه الذين أتوا بجيش من الفيلة مهاجمين مكة، فأصابهم من الدمار والذعر ما أصابهم، ففروا تاركين وراءهم موتاهم في البرية.فاجتمعت حولها الطيور، وأكلت لحومهم تنهشها وتضربها على الصخور.علمًا من عادة النسور أنها تأخذ قطعة من لحم الجيفة إلى مكان عال مثل رأس شجرة أو صخرة وتنظفها من التراب وتنهشها بالضرب على الغصن أو الحجر.وقد تمثل هذه الآية الإشارة إلى حادث أصحاب الفيل حيث يحذر الله الكفار : أن رأيتم كيف أن الطيور أكلت جثث أعدائنا، وما تزال هذه الطيور أن لقد سبق نفسها تحلق في جو السماء في انتظار أمرنا وإننا ما زلنا نمنع المسلمين من
الجزء الرابع ۳۲۱ سورة النحل قتالكم، ولكنهم عندما يخرجون لحربكم فسوف ترون يوما كيوم أبرهة وجيشه من قبل.وهذا ما حدث بالفعل.وقال في ختام الآية إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون..أي أنكم أيها الكفار تقضون العجب من هذا النبأ، ولكن المؤمنين يرون فيه آيات وأي آيات، موقنين تماما بتحققه.وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنَّا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَمِ بُيُوتًا تَسْتَخِرُّ ونَهَا يَوْمَ طَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَثًا وَمَتَعًا إِلَىٰ حِينٍ شرح الكلمات : ۸۱ سكنا: سكن فلان داره استوطنها وأقام بها سكن إليه: ارتاح.السكن: كلُّ ما يُسكن إليه وفيه ويستأنس به؛ الرحمة؛ البركة (الأقرب).تستخفونها استخفه: ضدُّ استثقله (الأقرب).ظَعْن طعن يطعن طَعْنا : سارَ ، تقول : طعنوا عن ديارهم (الأقرب).أصواف : جمع الصوف: وهو للشاء كالشعر للمغزى والوبر للإبل (الأقرب).أشعار: جمع شعر، والشعر : ما ينبت من مسام البدن مما ليس بصوف ولا وبر (الأقرب).أثاثا : الأثاث : متاعُ البيت بلا واحد ؛ وقيل : هو ما يُتخذ للاستعمال والمتاع لا للتجارة؛ وقيل: المال كله (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى: تعيشون أيها الكفار في راحة تامة في مساكنكم الدائمة وكذلك في خيامكم التي تحملونها بسهولة في أسفاركم لتنزلوا حيث
الجزء الرابع ۳۲۲ سورة النحل شئتم، كما تنعمون بالحرية في أسفاركم التجارية؛ فلماذا تريدون أن تُنزع منكم هذه النعمة جراء سيئاتكم.لقد قال الله هنا بيوتا تستخفونها يومَ ظعنكم ويوم إقامتكم، ذلك لأن حمل هذه البيوت الجلدية في الأسفار سهل كما أن تنصيبها لا يتطلب جهدا كبيراً، حيث لا تمر دقائق قلائل حتى تتحوّل البادية بفضل هذه الخيام إلى مدينة مأهولة تضج بالحركة والحيوية.وقد ذكر الله وعمل خيام الجلود لأن العرب كانوا يستخدمون هذا النوع من الخيام (الرازي)، كما أنها أفضل من خيام القماش في حمايتها من البرد والمطر.وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ و أكْتَنَا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرِّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ۸۲ شرح الكلمات: أكنانًا: جمعُ كِنِّ وهو : وقاءُ كلّ شيء وستره؛ البيت (الأقرب).سرابيل: جمع سربال وهو : القميص؛ الدّرعُ؛ وقيل: كلُّ ما لُبس (الأقرب).و بأس: البأس الشدة في الحرب (الأقرب).تُسلمون: أسلم: انقاد أسلم فلان تَديَّنَ بالإسلام.أسلَمَ العدو: خذله.أسلَمَ أمره إلى الله: سلمه (الأقرب).فقوله تعالى لعلكم تسلمون ) يعني لكي تنقادوا الله تعالى، أو لكي تفوّضوا أموركم إليه.
الجزء الرابع ۳۲۳ سورة النحل التفسير: هذه الآية استمرار للموضوع السابق نفسه حيث يعدّد الله فيها مزيدًا من نعمه على الكفار، ويذكرهم أنهم ينعمون أثناء السفر بالراحة تحت ظلال الأشجار، ويتخذون مصايف في الجبال؛ كما هيّأ لهم اللباس الذي يقيهم من لظى الحر، وعلمهم صنعة الدروع التي تحميهم أثناء الحرب.لقد أوتوا كل هذه النعم لكي ينعموا بالراحة ويكونوا في مأمن من هجمات العدو؛ ولكنهم يدمرون هذا الأمن بأيديهم إذ يستغلون النعم ضد المنعم.لقد أعطاهم الله هذه النعم ليكونوا عبادًا مطيعين له شكرًا عليها، ولكن ما حصل منهم هو العكس، إذ بطرتهم هذه النعم وغرتهم هذه الحماية، فقاموا لمعارضته عز وجل! ومن معاني "أسلم" حمى غيره من شره، علما أن هذا المعنى لا تذكره القواميس المتوفرة حاليا، ولكنه جائز بحسب قواعد اللغة العربية حيث يحولون الفعل اللازم متعديا بإضافة الهمزة إليه وجعله من باب الإفعال كما هو ثابت من الحديث الشريف حيث ورد: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام).وأرى أن هذه الآية تتضمن هذا المفهوم أيضًا أي أننا وهبنا لكم هذه النعم لكي تسلموا من الآفات وتعيشوا عبادا شاكرين لله تعالى فتحموا غيركم من شروركم، ولكنكم اتخذتم هذه النعم أداة للعدوان على الآخرين.هذا، ويمكن أن نستنتج من هذه الآية أمراً آخر يتعلق بالسياسة وهو أنه لا يحق للأكثرية أن تطرد الأقلية من البلد.ولكن هذا لا يمنع من طرد الظالم من البلد، بل من يخالف القانون فلا بد من طرده من المجتمع.إنما أقول إن المسلمين الأوائل ما خرجوا على النظام الحاكم بمكة وما أخلوا بحكم أهلها، وإنما توسلوا إليهم أن لا يمارسوا الإكراه في الدين وأن يسمحوا لهم بأن يقولوا في حرية: ربنا الله، ومع ذلك كان هؤلاء الكفار يؤذونهم.
الجزء الرابع ٣٢٤ سورة النحل فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَا الْمُبِينُ (3) ۸۳ التفسير: يقول الله تعالى إذا لم ينته هؤلاء عن نواياهم الشريرة رغم محاولاتك للصلح واعتدوا على المسلمين دونما جريرة فما كان عليك إلا النصح، وقد قمتَ به، فسوف يتحملون الآن مسئولية ما يفعلونه من خير أو شر.يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَارِرُونَ شرح الكلمات : Λε ينكرون: راجع شرح الآية رقم ٢٣ من هذه السورة وشرح الآية رقم ٦٣ من سورة الحجر.التفسير : لقد نبه الله له بقوله يعرفون أنه ينبغي للإنسان أن يتعظ برؤية ما يوجد حوله من نعم الله تعالى، ولكن هؤلاء جد أشقياء لأن نعم الله قد نزلت عليهم، وإنهم يرونها في نفوسهم، ومع ذلك ينكرونها..أي لا يقدرونها بالعمل حق قدرها؛ وليس المراد أنهم ينكرون بأفواههم وجود هذه النعم، لأن الكافرين كانوا يعترفون بأنها من عند الله تعالى.وقال الله تعالى في آخر الآية وأكثرهم الكافرون).واعلم أن الكفر هنا ليس بمعنى الرفض العادي، إذ قد سبق الحديث عن الرفض العادي في قوله تعالى ينكرونها ؛ ثم إن الله سبحانه وتعالى لم يقل هنا : " وأكثرهم كافرون"، بل قال: وأكثرهم الكافرون)، و(ال) هنا للكمال، مثل قولنا لأحد: أنت الرجلُ..أي الكامل في الرجولية (انظر أقرب الموارد تحت "ال").فالمعنى أنهم ليسوا منكرين عاديين، بل متشددين في الإنكار مصرين عليه.إذن فقوله تعالى ثم ينكرونها يشمل الكفار عامة، أما قوله أكثرهم الكافرون فيتحدث عن الأكثرية منهم،
الجزء الرابع ٣٢٥ سورة النحل والمعنى أن كل هؤلاء القوم يتنكرون لنعم الله عمومًا، ولكن الأكثرية تجاوزوا كل حدود العناد والجحود لنعمه وعل.منهم قد الله المادية، ولكنهم أما بالنظر إلى ترتيب الموضوع فتعني الآية أنهم يعترفون بنعم يكفرون بوجود نعمه الروحانية؛ وكأن قوله تعالى يعرفون متعلق بالنعم الدنيوية وقوله ينكرونها متعلق بالنعم الروحانية.وَيَوْمَ نَبْعَثُ كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ من كَ رُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) شرح الكلمات: شهيدا الشهيد هو : الشاهدُ ؛ الأمينُ في شهادته (الأقرب).يُستعتبون: استعتبه : أعطاه العتبى؛ طلب إليه - أي منه – العتبى، يقال: استعتبتُه فأَعْتَبَني أي استرضيتُه فأرضاني ومنه ما بعد الموت مستعتب أي استرضاء.العتبى : الرّضى (الأقرب).والاستعتاب : أن يُطلب من الإنسان أن يذكر عتبه (أي عذره) ليُعتَب (المفردات).التفسير: بعد الحديث عن هذه الجريمة الشديدة جريمة نكران النعم، أشار الله تعالى من جديد إلى الحياة الآخرة، تنبيهًا للكفار أنهم سيعذبون في الآخرة أيضًا على جريمتهم إضافة إلى عقوبتهم الدنيوية، وسيكون ذلك العذاب أشد خزيًا وأكثر ذُلاً من عذاب الدنيا، إذ سيعذبونه هناك أمام جميع الأرواح الإنسانية من كل الأزمان والعصور، حيث يُؤتى برسول كل أمة ليشهد عليها؛ فلم لا يفكرون في الخزي الشديد الذي ينتظرهم في ذلك اليوم العصيب.
الجزء الرابع ٣٢٦ من سورة النحل وهناك آية أخرى تتحدث عن هذه الذلة وتقول: فكيف إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يَوَدُّ الذين كفَروا وَعَصَوُا الرسول لو تُسوَّى بهم الأرض) (النساء: ٤٣٩٤٢).هذا، وتؤكد هذه الآية أن الله تعالى قد بعث رسله في كل أمة الأمم.لقد بين القرآن الكريم هذه النظرية في آيات عديدة أخرى أيضًا، وهذا مما يميّز الإسلام عن الديانات الأخرى، ويشكّل واحدًا من البراهين الساطعة على صدقه.أما قوله ثم لا يُؤذَنُ للذين كفروا فقد فسره البعض بأنه لن يُسمح لهم بالكلام مع الله تعالى (روح) البيان، والتفسير المظهري).ولكن هذا المعنى خطأ، لأن القرآن الكريم قد أكد في آيات عديدة حوار الكفار مع الله تعالى يوم القيامة حيث يحاولون أن يقدموا إليه وأعذارهم.وعليه فقد يكون المراد أنه لن يؤذن للكفار بدخول الجنة، أو لن يؤذن بالشفاعة في حقهم ذلك حين يؤتى برسل الأمم يوم الحشر ليشفعوا في حق من لم يحقق الكمال الروحاني، ولكنه كان ضمنَ مَن يمكن أن يسميه الأنبياء من أتباعهم فيشفعون له.ولكن هؤلاء الأشقياء من الكفار سوف يُحرمون من شفاعة الشافعين.مع العلم أن القرآن الكريم والحديث الشريف يؤكدان أن الشفاعة لن تتم إلا بإذن الله؛ حيث قال الله تعالى: ولا تنفَع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (سبأ: ٢٤).وقد تكرر هذا المعنى في الأماكن التالية :أيضًا البقرة: ٢٥٦، يونس: ٤، طه: ۱۱۰ ، النجم: ٢٧ كما أكد الحديث الشريف هذا الأمر حيث ورد في رواية: "ثم يؤذن للملائكة والنبيين والشهداء أن يشفعوا" ٤٣ عن أبي بكرة).هذا، وقد ذكر القرآن لقوله تعالى ثم لا يؤذن للذين كفروا معنى آخر إذ قال ولا يؤذن لهم فيعتذرون...أي لن يُسمح للكفار بتقديم الأعذار.أما شهادة الأنبياء هذه فهي عندي تعني (مسند أحمد 0 ج ۵ ص أسوتهم العملية، أي أنهم سيقدّمون أنفسهم كشهادة عملية لتأثير الوحي الإلهي حيث يقولون: انظروا،
الجزء الرابع ۳۲۷ سورة النحل كيف أن الإيمان بالوحي رَفَعنا من الثرى إلى الثريا، وأتاح لنا الوصال بالله تعالى.وهكذا سوف يخزي الله وعمل الكافرين يوم القيامة ويقول: انظروا إلى ما حققه وحينا من معجزة، حيث شحن رسولنا بالقوى الروحانية التي حققت له هذا الكمال الروحاني، وكيف دفعكم إنكار الوحي إلى الحضيض.علما أن كل نبي يكون النموذج العملي لما في وحي الله من تأثير، ومن أجل ذلك لا يأتي الوحي إلا مع النبي فكأن النبي يكشف عظمة الوحي، والوحي يكشف عظمة النبي.وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا تُخَفُ عَنْهُمْ وَلَا هُم يُنظَرُونَ (3) وَإِذَا رَمَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ ٨٦ صلى قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ فَأَلْقَوْاْ إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَذِبُونَ ) شرح الكلمات: يُنظرون: راجع شرح الآية رقم 9 من سورة الحجر.۸۷ دون: نقيضُ فوق، تقول: هو دونه أي أحطّ منه رتبة؛ ويكون ظرفا بمعنى أسفل، تقول: هذا دون ذاك أي متسفّل عنه؛ وبمعنى أمام نحو: مشى دونه أي أمامه؛ وبمعنى وراء، يقال: قعد دونه أي وراءه؛ وبمعنى فوق وهو ضد (المعنى) الأول؛ وبمعنى غير؛ وبمعنى الشريف؛ وبمعنى الخسيس، يقال: شيء دون أي خسيس.وحال القوم دون فلان أي اعترضوا بينه وبين من يطلبه فلم يقدر أن يناله (الأقرب).
الجزء الرابع ۳۲۸ سورة النحل ألقوا : ألقاه إلى الأرض: طرحه.ألقى إليه القول وبالقول: أبلغه إياه.ألقى عليه القول: أملاه.ألقى إليه السمع أصغى (الأقرب).راجع للمزيد شرح الآية رقم ١٦.التفسير: اعلم أن العذاب المشار إليه هنا هو عذاب الآخرة.أما الغريب أن الكافرين كانوا يعارضون أنبياءهم في الدنيا من أجل شركائهم، يوم القيامة فيتوسلون إلى الله وعمل أن يا ربّنا عَذَّب شركاءنا لأنهم الذين دأبوا على تضليلنا.لقد نبهنا الله و بذلك إلى أن صداقة الكفر والإثم لا تكون مخلصة ومتينة أبدا؛ ذلك لأن الإنسان يمكن أن يتحمل الأذى من أجل الآخر إلى حد محدود، ولكن بما أن الكفر يجلب على صاحبه أنواعًا وصنوفًا من عذاب الله لذلك يأتي وقت تخمد فيه الصداقة بين الكافر وأصدقائه وتبرد ويتبرم كل منهم من صاحبه ويتبرأ.أما قوله تعالى فألقوا إليهم القول فله مفهومان: الأول: أن شركاءهم سوف يخبرون بموقفهم بكل صرامة وصراحة، وذلك من قولهم: ألقى إليه القول أي أبلغه إياه؛ والمفهوم الثاني هو أن شركاءهم سوف يردّون عليهم من فورهم دونما توقف، وذلك من قولهم: ألقاه أي طرحه، والطرح ينطوي على معنى العجلة كما لا يخفى.أما قوله تعالى فلا يخفَّفُ عنهم فالمراد منه أن عذرهم هذا غير معقول، لأن أحدًا إذا كان قد حاول تضليلهم فلماذا ضلوا هم؟ أَمَا كان هم؟ أما كان بوسعهم أن يرفضوا قول المضل.صلے وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَيذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَتَرُونَ ) ) شرح الكلمات: السلم: راجع شرح الكلمات للآية رقم ٢٩.
الجزء الرابع ضل ۳۲۹ سورة النحل ضل عنهم: ضلَّ يضلُّ: ضدُّ اهتدى ضلَّ فلان عن الطريق: لم يهتد إليه.وضلَّ الرجل في الدين ضلالاً وضلالةً: ضدُّ اهتدى ضلَّ فلانٌ الفرس: ذهَبَ عنه.كذا: ضاع.وضل الماء في اللبن: حَفِيَ وغاب.ضل الناسي: غاب عنه حفظ الشيء.وضل فلان فلانًا: نسيه ضل سعيه: عمل عملاً لم يعد عليه نفعه عني (الأقرب).جام جم لهم يفترون: افترى عليه الكذب: اختلقه (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى إن الكافرين حين يرون آلهتهم قد انقلبوا أعداء فسوف يغيرون على الفور نبرة حديثهم مع الله تعالى ويتوسلون إليه بمنتهى الخشوع والتذلل ربنا إننا عبادك أنت وما كنا لهدف من عبادتنا لغيرك إلا التركيز على عبادتك.لقد فعلنا هذا بحسن نية، لا بقصد الخروج عليك.عندها ستغيب عنهم كل تلك الدعاوى العريضة التي كانوا يتشدقون بها في الدنيا.الَّذِينَ كَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُ سِدُونَ ) شرح الكلمات: فوق الفوق : مصدرُ فاقَ يفوق؛ وهو في الأصل ظرف للمكان نحو: صعدتُ فوق الجبل، وقد يُستعمل للزمان نحو: لبثنا فوق شهر أي زمانًا أكثر من شهر؛ وهو معرَّب إلا إذا حُذف ما أضيف إليه ونُوي معناه دون لفظه فإنه يُبنى على الضم نحو: عندي مائة فما فوق، وإذا نُويَ لفظه دون معناه أعرب غير منوَّن.وقد يُستعمل اسما كقوله: "فإذا ذُكرت فكلُّ فوق دون".وقد يستعار للاستعلاء الحكمي ومعناه الزيادة والفضل فيقال: "العشرة فوق التسعة" أي تزيد عليها."هذا فوق ذاك" أي أفضل منه (الأقرب).
الجزء الرابع ۳۳۰ سورة النحل التفسير: لقد أوضح الله الله هنا مرة أخرى أن الكفار نوعان: الضال والمضل، وأن الأخير يعاقب بأشد مما يعاقب به الضال.العجيب أن هؤلاء المضلّين يقولون في الدنيا للجاهلين: اتبعونا ونحن نضمن لكم النجاة في الآخرة، ولكن الحق أنهم سيعذبون هنالك بأشد مما يعذب به أتباعهم الذين وعدوهم بالنجاة.صلى وَيَوْمَ تَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنسِهِمْ وَجَفْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَنَّا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) شرح الكلمات: تبيانا: بانَ الشيءُ يَبين تبيانًا: اتضح.و(بان) لازم وقد يتعدى فيقال: بنته أي أوضحته (الأقرب).التفسير: هذه الآية تكملة لموضوع الآية السابقة حيث يخبر الله و رسوله: سيُقدَّم الرسل يوم القيامة كنماذج لتأثير الوحي، وسوف نقدمك أيضا أمام هؤلاء الذين يكفرون بك الآن، وسنقول لهم هذا الشخص كان منكم، ومع ذلك رأيتم كيف حمى نفسه من نجاسة الشرك وغيره من عقائدكم الفاسدة، وكيف صار عبدًا مطيعا الله تعالى وتسبب في هداية الآخرين؟ أليس ذلك لأنه صار مهبطا لوحي الله ، بينما كنتم محرومين منه، بل لم تروا له من حاجة.ثم أشار الله تعالى إلى بركات هذا الوحي معلناً: يا محمد، لقد أنزلنا عليك الكتاب الذي يفصل كل حاجة روحانية ويهيئ أسباب الرحمة والهدى..أي إنما تفضل على قومك بفضل هذا الوحي.
الجزء الرابع ۳۳۱ سورة النحل أما كلمة كل شيء الواردة في قوله تعالى تبيانًا لكل شيء فلا يراد بها كل شيء موجود في العالم، وإنما يُقصد به كل ما له صلة بهذا الكتاب، ومثاله قول المعلم للتلميذ: خذ معك كل الكتب، فلا يعني بذلك كل الكتب الموجودة في المكتبة، وإنما يقصد به كتبه هو فقط.إذًا فالمقصود من كل شي هنا كل ما يحتاج إليه المرء في سبيل رقيه الروحاني.ورب قائل يقول هنا: كيف تصح دعوى القرآن الكريم بكونه تبيانًا لكل ع وهناك مسائل دينية كثيرة لا نجد تفصيلها إلا في الحديث الشريف؟ والجواب : أن أصول الأحكام كلها مذكورة في القرآن الكريم، أما التفصيل الذي نجده في الأحاديث فما هو إلا تفسير للقرآن الكريم، وذلك لأن الله تعالى قد منح النبي فهم القرآن أكثر من إنسان آخر، فإذا كان هو قد فصل بعض الأحكام الله القرآنية في أحاديثه فليس معناه أن القرآن الكريم ناقص، وإنما يعني استطاع بفضل فهمه الكامل أن يستنبط من القرآن أحكاما تقاصرت أفهامنا عن استنباطها منه بسبب دقتها ولطافتها.إن أهل القرآن * قد ارتكبوا خطأ كبيرًا في هذه المسألة حيث يقولون: كان أنه محمد بشرًا مثلنا فلماذا نقبل رأيه، وإنما نقبل ما يقوله القرآن نفسه! والحق أن القضية لا تتعلق بقبول رأي القرآن أو رأي النبي ، وإنما تتعلق بواقع كونه له و أدرى الناس بما نزل عليه من الوحى.يقول الله تعالى عن نبيه الكريم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى (النجم: ٤ و ٥)..أي أن كل ما قاله النبي الهلال الهلع عن القرآن الكريم إنما قاله بتوجيه ،إلهي، وما كان يخطئ في ذلك أبدا.فالذي عصمه الله من الخطأ لا مناص لنا من تفضيل تفسيره للقرآن وعل على تفاسير الآخرين.مما لا شك فيه أن من حقنا أن نناقش صحة رواية يقال أنها حديث للرسول ، ولكن لا يحق لنا أبدًا أن نقول: لا شك في صحة * أهل القرآن فرقة لا تأخذ بأحاديث الرسول.(المترجم)
الجزء الرابع ۳۳۲ سورة النحل الرواية، ولكن النبي جانب فيها الصواب - نعوذ بالله من ذلك! إن ما يقوله ﷺ – النبي تفسيرًا للقرآن الكريم لا بد لنا من قبوله سواء فهمناه أم لم نستطع فهمه، شريطة أن تكون الرواية التي ذُكر فيها التفسير النبوي صحيحة وفق المقاييس الموضوعة لمعرفة صحة الروايات.إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَنِ وَإِيتَابٍ ذِي الْقُرْى وَيَنْهَى عَنِ الْحَشَاءِ وَالْمُنكَر وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ شرح الكلمات : ) العدل: عدل يعدل فلانًا بفلان سوى بينهما عدل القاضي والوالي عدلاً وعدالة: أنصف.العَدْلُ: ضدُّ الجور؛ العادلُ المرضي للشهادة.والعدل من القضاة والحكام الوافون للحق في أحكامهم (الأقرب).الإحسان: أحسن: أتى بالحسن.وأحسن الشيء: جعله حسنا؛ علمه، ومنه: فلان يُحسن القراءة (الأقرب).القربى: القربُ في الرَّحم (الأقرب).الفحشاء: الفاحشة؛ البخلُ في أداء الزكاة (الأقرب).الله المنكر: ما ليس فيه رضى من قول أو فعل، والمعروف ضده (الأقرب).للمزيد راجع شرح الآية رقم ٦٣ من سورة الحجر.تذكرون: تذكَّرَ أي ذكر (الأقرب).التفسير : لقد أعلن الله تعالى من قبل أن في القرآن الكريم أربع ميزات: تبيانًا لكل شيء، وهدى، ورحمة ، وبشرى للمسلمين.وقد بدأ من هذه الآية وما يليها
الجزء الرابع ۳۳۳ سورة النحل يسوق البراهين على توافر هذه المزايا في تعليم القرآن، مؤكدا أنه من المحال أن يحوم حول نجاحه أي شك.وإن أول هذه البراهين مذكور في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، وأرى أن مضمونها ليكفي وحده لإثبات هذه المزايا الأربع في القرآن، وإليكم بيان ذلك: تأمر هذه الآية بثلاث وتنهى عن ثلاث، والظاهر أن الأمر بالمعروف هداية، بينما النهي عن المنكر رحمة؛ فأصبحت هذه الآية هدى ورحمة ثم بينت هذه الآية مراتب الأخلاق بأسرها، فصارت آيةً جامعة شاملة ومصداقاً رائعا لقوله تعالى: (تبيانًا لكل شيء.وتنتهي هذه الآية بقوله تعالى : لعلكم تذكرون)، ومعنى التذكر ذكر الشيء أو ذكر الله وتسبيحه وحمده ؛ فالمعنى: كي تذكروا حقوق الله وحقوق العباد وتؤدّوها، أو لكي تسبّحوا الله وتمجدوه الله وبما أن غاية خلق الإنسان تنحصر في هذين الأمرين الاثنين: حقوق الله وحقوق العباد..فصارت هذه الجملة بمثابة بشرى للناس بأنهم إذا عملوا بهذا التعليم حققوا غاية خلقهم حتمًا.فانظر كيف أن هذه الآية رغم قصرها، تلقي الضوء على كل هذه المزايا التي ادعى بها القرآن الكريم.والواقع أن هذا الإيجاز البليغ سمة للقرآن وحده دون سائر الأسفار الأخرى؛ فكلمات هذه الآية قليلة جدا، ومع ذلك ليس فيها غموض ولا إشكال، بل المعنى واضح جلي جدا بحيث يستطيع كل عاقل استيعابه بأدنى تدبر.والآن أتناول فحوى هذه الآية ببعض التفصيل اعلم أن لكل شيء جانبين: إيجابي وسلبي، ويستحيل اكتماله بدون اكتمال الجانبين فيه..بمعنى أنه يجب أن أن يتوافر في الشيء ما لا بد من توافره فيه حتى يكتمل ، وأن يخلو مما لا بد من يخلو منه حتى لا يقع فيه نقص أو عيب.ومن وجهة النظر الدينية، لا بد للتعليم الكامل من أن يتحلى بالمزايا التالية: 1 - أن يأمر بما يحقق الكمال الروحاني، وينهى عما يحول دون هذا الغرض.
الجزء الرابع ٣٣٤ سورة النحل ۲- أن يراعي - لدى سَن قانون عام لا يخص فردًا أو قوما بل أفرادا وأقواما كثيرة – كل الطبائع البشرية بمختلف أنواعها بحيث يتمكن كل إنسان من العمل به حسب استعداده.٣- أن يكون صالحا للعمل به حتى لا يؤدي إلى فساد دين الناس أو خُلقهم أو عقلهم أو حضارتهم.لقد جمع الله وعمل في هذه الآية القصيرة هذه الأوجه الثلاثة للكمال جمعا رائعًا؛ فقد أمر بالإيجابيات الثلاث العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن السلبيات الثلاث: الفحشاء والمنكر والبغى.فالعدل هو التساوي والمراد منه أن يعامل المرء صاحبه بالمثل؛ فإذا ظلمه انتقم منه بقدر ما ظلمه دون أن يعتدي عليه، وإذا صنع به معروفًا ردّ عليه بمعروف مثله على الأقل.يعني والعدل مع الله وعل أنه تعالى قد شمل الإنسان بنعم كثيرة، فعليه أن يؤدّي حق هذه النعم، فلا يتيح بأعماله السيئة الفرصة لأحد للطعن في ذاته الله، أو لا يعطي غير الله ما هو حقه ، وذلك بالإشراك به، لأن الشرك ظلم وهو بمثابة سلب حق من أحد وإعطائه غيره، ومن أجل ذلك فقد سمى القرآن الكريم الشرك ظلمًا عظيمًا.فالاعتقاد بوجود ابن أو زوجة أو شريك الله تعالى ظلم وخلاف للعدل.كما ليس من العدل مع الله تعالى أن يعزو الإنسان إلى نفسه الصفات الخاصة بالله تعالى.فمثلاً إن إنزال الوحي والشرع من اختصاص الله تعالى وحده، ولو أن أحدا ادعى أنه هو ينزل الوحي أو الشرع مثلما ادعى "البهاء" (قرن بديع ص ۱۸۱ و ۱۸۸)..فلا شك أنه يخالف مبدأ العدل والواقع أن الإنسان لو مع الله تعالى لما بقي للشرك والكفر والعصيان من أثر.عدل والوجه الثاني هو الإحسان، أي أن تصنع المعروف إلى غيرك، سواء أحسَنَ هو إليك أم أساء.وهذا أفضل من العدل، ويندرج تحته العفو عن الآخرين ومساعدة و
الجزء الرابع ٣٣٥ سورة النحل الفقراء وإعطاء الصدقات وأداء الخدمات القومية وما شابه ذلك.ومن الإحسان أيضًا السعي لترويج العلوم وتدوين المعارف ونشرها، إذ يعود هذا على الأقارب والأباعد بفوائد مادية جمة ومنافع روحانية كثيرة.والوجه الثالث هو "إيتاء ذي القربى"، أي أن تنفق على الناس كما تنفق على أقاربك..أي أن تعامل الناسَ كما يعامل القريب قريبه.ولا يراد به الإحسان الذي سبق ذكره، بل المعنى أن تعامل الناس بمحبة طبيعية تلقائية دونما تفكير في أي مقابل؛ ذلك أن الإنسان حين يردّ بالإحسان إلى من أحسن إليه، قد يفكر أنه لو ردّ على محسنه بأفضل مما أخذ منه لكسب به مدح الناس وثناءهم، أو يفكر - حين يغفر لأحد خطأه - أن هذا العمل سيمحو من قلبه العداوة وسيجعله صديقا له معينًا.ولكن ما تبديه الأم من حب وتفان لولدها لا تشوبه ذرة من شوائب التفكير في المقابل ،والجزاء، بل ليس وراء حبها إلا روح التفاني في خدمة الولد.إن المرأة لا تفكر في الإنجاب من أجل أن يخدمها ابنها، بل إن حبها للإنجاب يرجع إلى عاطفتها الطبيعية أن تُرزق ولدًا حتى تسهر على رعايته وخدمته وغذائه وكسائه وأن تزوّجه لترعى أولاده أيضا.فالأم لا تريد الأولاد لكي يخدموها، وإنما لكي تخدمهم.فلو فعل المرء المعروف بمثل هذه العاطفة فقد عمل أفضل حسنة، وإذا بلغ هذه الدرجة في الخيرات فقد اكتمل كيانه الخُلقي.وكأن الله تعالى ينصحنا هنا إذا كنتم قد تعودتم على فعل الإحسان بحيث صار العطاء أحب إليكم من الأخذ فعليكم أن تحوزوا الآن مرتبة أعلى منها، وانظروا إلى أفراد الجنس البشري جميعًا وكأنهم أولادكم حتى تفيض قلوبكم بعواطف التفاني في خدمتهم كما يفيض قلب الأم بمشاعر خدمة ولدها.إن التعليم المذكور أعلاه تعليم إيجابي ولا جَرَمَ أن القرآن قد أوجَزَ في الكلمات المختصرة الأخلاق الفاضلة بجميع أشكالها.ولنتذكر هنا أن حقوق الله لا تنتهي إلى حد العدل، إذ من المستحيل أن يعامل الإنسان ربَّه على سبيل الإحسان وإيتاء ذي القربي، ولكن فيما يتعلق ببني جنسه
الجزء الرابع ٣٣٦ سورة النحل فهو مأمور بأن يعاملهم على أساس العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؛ فالنوعان الأخيران من السلوك تخصان العباد فقط دون الله تعالى.وفي هذا تنبيه أنه لا مناص للإنسان للوصول إلى الله والظفر برضوانه و من إسداء الخير إلى عباده؛ وكأن الإحسان وإيتاء ذي القربى سُلّمان للتقرب إلى الله تعالى.بعد هذا التعليم الإيجابي بين الله ولا التعليم السلبي حيث فهي أيضًا عن ثلاث من المساوئ؛ وذكر في صدارتها الفحشاء التي تعني - إذا ذُكرت إزاء المنكر - السيئة التي لا يعلم بها إلا مرتكبها فقط.ثم نهى عن المنكر وهي السيئة التي يطلع عليها الآخرون أيضًا ويكرهونها، وإن لم يؤد ارتكابها إلى ضرر مباشر بحقوقهم..مثل السباب والكذب وما شابه ذلك.وقد سماها المنكر لأنها تلحق بالناس أذًى نفسانيا.وأخيرًا ذكر البغي أي هضم حقوق الآخرين، وهو بالطبع مما يحس به الناس ويكرهونه، كما يتضررون منه.والحق أن كل ما في الدنيا من سوء وفساد ينحصر في هذه الأنواع الثلاثة من السيئات؛ فإما أن تكون سيئة خفية على أعين الآخرين، أو تكون مما إذا اطلع عليه الناس أصابهم أذى نفساني وإن لم يصبهم أذى آخر مباشر؛ أو تكون من السيئات التي تبلغ من الفداحة والبشاعة حيث تضرّ البعض ضررًا نفسانيا، كما تؤدي إلى هضم حقوق البعض الآخر.لقد قلتُ من قبل إن التعليم الكامل الذي هدفه تلبية الحاجات الإنسانية بكل أنواعها لا بد له من أن يراعي الطبائع البشرية جمعاء، وإن هذا الشرط أيضًا متوفر في تعليم القرآن السلبي المذكور هنا.فمن الناس من يقع في الفحشاء ولكن يكره أن يظلم أحدا، ومنهم من يهضم أموال الآخرين ظلما ولكنه يكره الكذب، ومنهم من لا يسلب أموال الناس ظلمًا ولكن يرتكب المعاصي الأخرى من بغض وغيبة ونميمة وغيرها.والله تعالى قد حصر في هذه الكلمات الموجزة الثلاث كل أنواع المساوئ التي يمكن أن تصدر عن أي صنف من صنوف
الجزء الرابع ۳۳۷ سورة النحل الطبائع البشرية، مثلما شمل من قبل الحسنات بكل أنواعها باستخدام كلمات ثلاث العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.كما هدانا الله تعالى بهذه الكلمات الوجيزة إلى الطريق الطبيعي لتجنب المساوئ ولفعل الخيرات.فإنه تعالى عند ذكر السيئات أو الحسنات بدأ بالأدنى منها ثم الأعلى وهلم جرا؛ وقد نبهنا بذلك على أن من أراد التحلّي بالحسنات فعليه أن يُحرز أولاً مقام العدل ثم الإحسان ثم إيتاء ذي القربى؛ ومن أراد التخلص من المعاصي فليحاول أوّلاً تجنب البغي، وإذا فعل ذلك استطاع اجتناب المنكر، وإذا تخلص من المنكر قدر على ترك الفحشاء.كما نبه بهذا الترتيب أن من كان حائزا مقامَ إيتاء ذي القربى" عليه أن يسعى كان كل السعي للثبات في هذا المقام، وإلا هبط منه إلى درجة "الإحسان".ومن يتبوأ مقام "الإحسان" عليه أن يأخذ حذره وإلا سقط إلى مقام "العدل".كذلك يجب أن لا يفرح أحد ويقول في نفسه إنه لا يرتكب إلا "الفحشاء"، إذ من السهل جدا لمرتكب الفحشاء أن يقع في "المنكر" وبالتالي في "البغي".وبالاختصار لقد لفت الله تعالى بهذا الترتيب الرائع الأنظار إلى أن الإنسان يبدأ رحلته إلى الخير بفعل أصغر الحسنات، وبترك أكبر السيئات، وأن مثل كفاحه هذا كمثل السلم، فمن أراد الصعود على صرح الخير لا بد أن يضع قدمه أولاً على أولى درجات السلم فما فوقها؛ ومن كان قد وصل إلى قمة السيئات وأراد الهبوط منها فلا جرم أنه سيضع قدمه الأولى على عليا درجات السلم وينزل تدريجيا.والميزة الثالثة التي لا بد من توافرها في التعليم الكامل هي أن يكون صالحا للجميع بحيث يستطيع العمل به، وإن التعليم القرآني المذكور في هذه الآية يفي بهذا الشرط أيضًا، فبالرغم من أنه تعليم سام رفيع إلا أن كل إنسان يمكن أن يعمل به أيا كان مستواه وطبقته فلا هو يكتفي بالدعوة إلى النوع الأدنى من الأخلاقيات فقط غاضًا النظر عن إطفاء غليل الطامحين إلى ذروة الأخلاق
الجزء الرابع ۳۳۸ سورة النحل يعني الفاضلة، ولا هو يدعو إلى قمة الأخلاقيات فقط بحيث يبقى الضعفاء محرومين من كسب الخير؛ بل يبين كل المدارج من الخير والسوء، لكي يساعد أهل السوء على ترك السيئات، ويعين أهل الخير على الترقي في الحسنات؛ إذ لا جدوى من أن نقول لمن هو غارق في وحل المساوئ عليك أن تبلغ من الصلاح بحيث تكون سندا للدنيا كلها وتصبح بمثابة الأم للناس جميعًا، لأن هذا أننا نحاول أن نعلم الصغير الذي لا يزال يتعلم الألف والباء منهاج الماجستير.وبالمثل لو قلنا لمن قد بلغ مقاما عاليا في الصلاح لا تخرج على القانون، ولا تعتد على أحد، ولا تظلم أحدًا، لعدّ قولنا هذا مهزلة إنما يتأتى الإصلاح إذا سعينا لتخليص الغارق في المساوئ من الكبائر أولاً، أما الذي بدأ الترقي في الخير فلا داعي لتحذيره من المساوئ العادية لأنه قد تخلى عنها سلفا، بل يجب توجيهه إلى الحسنات العظام.وكل هذه المزايا موجودة في هذا التعليم القرآني، فإنه يهدي إلى الحسنات كبيراتها وصغيراتها ،أيضًا ويحذر من السيئات كبائرها وصغائرها، كما أن كل إنسان - أيا كان مستواه – يستطيع أن يفهم هذا التعليم ويعمل به.وجدير بالذكر أن الله تعالى قد ذكر هنا ثلاث درجات لكل من الخير والشر..أي ست درجات بالمجموع؛ ذلك لأننا نجد في النواميس الطبيعية أيضا أن كل شيء يمر قبل اكتماله بست مراحل من التطور.فكأن الآية تبين المنهج الكامل لطالب الروحانية الذي إذا أكمل دراسته نال الشهادة في الكمال الروحاني.فعلى الغارقين في الآثام أن يسعوا أولاً للتخلص من مستنقع البغي، فإذا تخلصوا منه سعوا للخروج من وحل المنكر، ثم عليهم أن يخرجوا من غبار الفحشاء، ليصلوا إلى حدود وادي العدل، وبعدها يمرون بحديقة الإحسان، ليصلوا بعد ذلك إلى البستان الذي تجري فيه عيون إيتاء ذي القربى، ثم يدخلون الجنة الفيحاء الغناء؛ وإلى هذا المعنى نفسه أشار النبي الله بقوله: "الجنة تحت أقدام الأمهات" (كنز العمال: الباب الثامن في بر الوالدين، الأم)، لأن هذه الآية تبين أن مرحلة "إيتاء ذي القربى" - التي تأمرنا بمعاملة الناس التي تأمرنا بمعاملة الناس معاملة الأم بولدها - هي آخر
الجزء الرابع مرحلة ۳۳۹ سورة النحل من الكمال الروحاني، وبعدها يدخل الإنسان الجنة.والجنة مقام الذاكر الذي يستغرق ويتفانى في ذات البارئ تعالى، ويصبح قلبه عرضًا الله ، حيث يتحد المحب مع الحبيب بالصلة الوثقى لا انفصام لها.هذا، السنة ومن قراءة هذه الآية في الخطبة الثانية من كل جمعة، وأول من سن الخلفاء هذه السنة هو سيدنا عمر بن عبد العزيز أحد خلفاء بني أمية (تاريخ للسيوطي: ذكر عمر بن عبد العزيز؛ مما يعني أن المسلمين منذ أوائل الإسلام هي الوصية الأولى - "(۳۹ كانوا يدركون عظمة هذه الآية.إن النصارى يضيقون بهذه الآية ذرعًا، حتى قال القسيس "ويري" أن المسلمين يتفاخرون بها عبثا، عليهم أن يقارنوها بتعليم ربنا المسيح التالي: "تحبُّ الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك.هذه والعظمى.الثانية مثلها تحبّ قريبك (أي جارَك كنفسك (متى ٢٢: ٣٧ (تفسير القرآن لـ "ويري").ولكن الحق أن النصارى هم الذين يتباهون بتعليم المسيح اللي عبثا، إذ شتان بينه وبين تعليم القرآن، بل هو بمثابة الخطوة الأولى إزاء ما يعلمه القرآن.لا جرم أن المسيح الا علمهم: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ، ولكن من الذي وهب لنا القلب والنفس والفكر؟ فمهما أحببنا الله بهذه الأشياء فلن يتجاوز حبنا له الا الله دائرة العدل.ولكن كلمة "العدل" الواردة في القرآن الكريم تنطوي على مدلول أوسع من هذا التعليم الإنجيلي، لأن هناك أشياء كثيرة - بالإضافة إلى القلب والنفس والفكر - يجب أن يبذلها الإنسان في سبيل الله تعالى مثل العواطف والأحاسيس والأهواء والرغبات.فإذا لم يكن الله أحب إلى الإنسان من كل ما سواه ل فلا يمكن أن يكون عادلاً في حق الله تعالى.لا شك أن حب المرء ربَّه أكثَرَ من نفسه شيء جميل، ولكن من الناس من يكون أولاده أحب إليه من نفسه وقلبه أيضًا، ومنهم من يكون عزّه وكرامته أحب إليه من نفسه حتى إنه لا يتردد في أن يضحي بحياته بحياته حفاظًا على
الجزء الرابع ٣٤٠ سورة النحل كرامته.إذن فكلمة : تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك" لا تؤدي معنى المحبة الكاملة والتضحية بكل أشكالها ومفهومها كما تؤديه كلمة "العدل" الواردة في القرآن.ولقد حث الله تعالى وعمل على التضحية بالمشاعر والعواطف بسائر أشكالها في مواضع أخرى من القرآن الكريم حيث قال: قُلْ إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقْتَرَفْتموها وتجارةٌ تَخشَون كَسادَها ومَساكِنُ تَرضونها أحب إليكم من ورسوله وجهاد في سبيله فتَربَّصوا حتى يأتي الله بأمرِه والله لا يهدِي القومَ الفاسقين (التوبة: ٢٤).الله فانظر كيف أن القرآن قد بيّن هنا مقياسًا لمعرفة حب الله و عند كل إنسان.فمن الناس من يكون الشعور بالإحسان عنده قويًّا فيكون آباؤه أحب إليه من كل شيء سواهم فقيل له : إن كان آباؤك أحب إليك من الله تعالى فلم تصل إلى درجة الإيمان بعد ومنهم من يستولي عليه حب استمرار النسل أكثر من أي شيء آخر، فيكون أولاده أحب شيء إليه، فقيل له ولأمثاله: إن كان أبناؤكم أحب إليكم من الله ل فلستم من الله وعجل فلستم من أهل الإيمان المقبول.ومنهم من يحبون أحزابهم، فقيل لهم: إن كان إخوانكم أحب إليكم من الله وعجل فلستم من أهل الإيمان الحقيقي.ومنهم من يكون مغلوبًا بيد الشهوة، فقيل له: إن لم تجعل حبك لزوجك تابعا لحبك لله فلن تفوز برضوانه ومنهم من يؤثر عشيرته على كل شيء آخر، فقيل له: إذا لم تحب الله لا أكثر من حبك لقبيلتك فلن تحظى بقرب الله تعالى.ومنهم من يضنّ بالمال بحيث يكون ماله أعزّ عليه وولده، فهناك كثير من البخلاء الذين أدت بهم الشقاوة لدرجة أنهم لم ينفقوا على علاج أولادهم المرضى، فماتوا وهم يقاسون آلام المرض؛ فقيل لمثل هؤلاء: عليكم أن تؤثروا حبَّ الله على حب المال وإلا لن تحرزوا مقاماً رفيعا في الصلاح والتقوى.ومنهم من يقدّم حب الوطن وخدمة القوم على كل أمر سواه، فيردّد من نفسه
الجزء الرابع ٣٤١ سورة النحل دائما : حب الوطن من الإيمان، مثلما حدث في بلادنا إبان الهجرة * حيث ترك مئات الآلاف أولادهم وديارهم وعقارهم وأموالهم باسم حب الوطن، فقيل لهؤلاء: إذا كان الوطن والبلد أحب إليكم من الله وعمل فلستم من المؤمنين.هذا هو الشرح الوجيز لكلمة "العدل" كما بينه القرآن الكريم.فشتان بينه وبين التعليم الإنجيلي القائل: تحب" ربك من كل قلبك وكل نفسك وكل فكرك؟" أما الجزء الثاني من هذا التعليم الإنجيلي فهو : " والثانية مثلها: تحبُّ قريبك (أي جارك) كنفسك." فأولاً : إن القول "والثانية مثلها" يخالف العقل.لا شك أنه تعليم هام، ولكنه لا يساوي التعليم الأول في الدرجة بتاتا، لأن الله تعالى لا بد أن يؤثر على كل ما سواه.فهل تعني كلمة "والثانية مثلها" أنه إذا تعارضت رغبة الجار مع حكم من أحكام الله تعالى فلا نخالف رغبة الجار قائلين: إن حب الله وحب الجار سيان! فأيهما يستحق الترجيح وبأي دليل؟ ثم إن هذا التعليم الإنجيلي لا يفوق "العدل"، لأنه يأمر كل إنسان بأن يحب جاره تماماً كما يحب نفسه ،هو، وهو ما يسميه الإسلام "العدل"، أو "الإحسان" على أسخى التقدير.ولكن الإسلام يريد أن يرفعنا إلى مقام أسمى من ذلك، فيأمرنا أن نعامل الناس معاملة تكون نزيهةً من شوائب الرياء أو انتظار المقابل والجزاء، شأن الأم التي هي أشد حبا لولدها من حبّها لنفسها، فتضحي براحتها من أجل راحته بمنتهى البشاشة والسعادة.ثم أين تعليم الإنجيل مما يقدمه القرآن الكريم هنا من تعليم جامع؟ فإنه قد أمر بالخير ونهى عن الشر مع ذكر درجاتهما بترتيبها الطبيعي، مراعيا شتى الطبائع حضرة المفسر له هنا إلى بعض المسلمين الهنود السذج الذين هاجرو إلى أفغانستان بترغيب من الهندوس الماكرين احتجاجًا على سياسة الإنجليز الحاكمين، ثم رجع هؤلاء إلى الهند ثانية وقد فقدوا كل شيء، وكان ذلك في العقد الثاني من القرن العشرين (المترجم)
الجزء الرابع ٣٤٢ سورة النحل البشرية، ولكن الإنجيل قد غض الطرف عن هذه الأمور الهامة كافة.فلا جرم أن تعليم القرآن الكريم هو الجامع والكامل والأسمى والصالح للعمل.وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَنهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ الْأَيْمَنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَرِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَعَلُونَ : شرح الكلمات: كفيلاً: كفل الرجل والصغيرَ كَفْلاً وكَفالةً: عالَه وأنفق عليه وقام به، فهو كافل.كفل بالمال كَفْلاً وكُفولاً ضمنه، فهو كفيل.والكفيلُ: المثيلُ؛ الضامن كالكافل.يقال: رجلٌ كفيل وامرأة كفيل.وفرّق الليث بين الكفيل والكافل فقال : الكفيل الضامن والكافل هو الذي يعول إنسانًا (الأقرب).التفسير: اعلم أن "عهد الله" المذكور هنا قد شرحه القرآن الكريم في مواضع فَمَن أخرى وهي: ١- يقول الله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يُبايعون اللَّهَ يَدُ الله فوق أيديهم نكت فإنما ينكُثُ على نفسه ومَن أوفى بما عاهَدَ عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا (الفتح: ١١).وهذا يوضح أن "عهد الله" كان يعني في حياة النبي ﷺ عهد البيعة على يده المباركة، أما بعد وفاته فيعني الدخول في الإسلام.۲ - ويقول الله الله وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمَنوا وَجْهَ النهار واكْفُرُوا آخِرَه لعلهم يرجعون...بلى من أوفى بعهده واتَّقَى فإن الله يحب المتقين إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثَمَنًا قليلا أولئك لا خَلاقَ لهم في الآخرة ولا يكلّمُهم الله ولا ينظُرُ إِليهم يَومَ القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليمٌ) (آل عمران الآيات ۷۳ و ۷۷ - ۷۸).و"الأيمان"
الجزء الرابع ٣٤٣ سورة النحل جمع اليمين وهي الحلف.والمراد من قوله تعالى ولا خلاق لهم أن لا نصيب لهم.ولقد أوضحت هذه الآية أيضًا أن المراد من "عهد الله" هنا الإسلام.٣- ويقول الله تعالى : ولقد كانوا عاهَدُوا اللَّهَ من قبلُ لا يُولُّون الأَدبار وكان عهد الله مَسْئُولا) (الأحزاب (١٦) ولكننا لا نجد في القرآن ولا في الحديث أي : ، عهد من قبل المنافقين بأنهم لا يولون الأدبار؛ غير أننا نجد أمرًا إلهيا يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفَروا زَحْفًا فلا تُولُّوهمُ الأَدبار (الأنفال: ١٦)؛ فثبت بذلك أن المراد من "عهد الله" هو عهد البيعة الذي يعاهد فيه المبايع على أن يعمل بأحكام الله تعالى كلها، ويقوم بكل عمل حسن.٤ - كما أن الله تعالى قد شرح هذا العهد في قوله تعالى إن الله اشْتَرَى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهمُ الجَنَّةَ يُقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وَعْدًا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومَن أَوفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتبْشِرُوا ببيعكمُ الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (التوبة: ١١١).تؤكد هذه الآيات القرآنية كلها أن عهد الله يعني الإسلام، إذن فالمراد من الآية التي نحن بصدد تفسيرها أنكم إذا رضيتم بالإسلام دينا فعليكم أن تعملوا بأحكامه كما ينبغي.علما أنه تعالى قد بين في الآية السالفة خلاصة تعاليم الإسلام وقد أكد الآن مرة أخرى على العمل بها.في مستهل هذه الآية وصانا الله تعالى أن نَفي بما عاهدناه عليه، كما نهانا عن نخلف المعاهدات التي تتم بيننا نحن البشر باسم الله تعالى، لأننا إذا خالَفْنا ما جَعَلْنا الله عليه وكيلاً ضامنًا فقد أسأنا إليه ، فلا بد أن يغار الله ويعاقبنا على ذلك.ومن الملاحظ أن الله تعالى قد أكد هنا أيضًا الموضوع نفسه الذي ذكر في الآية السابقة..أي الحث على أداء نوعين من الحقوق حقوق الله وحقوق العباد؛ مما يعني أن الإسلام أو "عهد الله اسمان لمسمَّى واحد ألا وهو إنشاء العلاقة السليمة مع الله ومع العباد.أن
الجزء الرابع مع ٣٤٤ سورة النحل الله وليكن معلومًا أن التأكيد على الوفاء بالمعاهدات التي تتم بين البشر باسم تعالى لا يعني أن لا حرج في أن نخالف العهد الذي لا نجعل الله فيه كفيلاً وضامنًا..أعني الوعد الذي لا نحلف فيه باسمه ، و ذلك لأن العهد الذي نقطع الله تعالى يتضمن أيضًا الوعد بأننا لن نقول إلا الحق دائما.فالواقع أن الآية تحثنا على الوفاء بكل ما يمكن أن يكون الله ضامنًا عليه أي ما يكون مبنيا على الحق والسداد..أو بتعبير آخر..ما يندرج تحت العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، أما ما سواه من وعود ظالمة مما يندرج تحت الفحشاء والمنكر والبغي فالوفاء به غير ضروري بل هو معصية؛ ذلك لأن الإنسان عندما يعد شخصا بأمر حلال فكأنه يعاهد الله أيضًا عليه ويكون الله ضامنًا ،له، لذلك لا بد من الوفاء به؛ ولكن إذا تعاهد الإنسان على ارتكاب ظلم أو معصية فعليه أن لا يفي بمثل هذا الوعد، لأنه لن يُسأل عنه، بل يجب ألا يفي به لأنه إثم، ولا يمكن أن يكون الله تعالى ضامنا لـــه، بل ينهى عنه.وهذه الوصية الإلهية تخص أولئك الذين يحلفون على أمر حرام، ثم يصرون على الوفاء به بحجة الوفاء بأيمانهم.وَلَا تَكُونُوا كَالَّتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَنَّا تَتَّخِذُونَ أَيْمَنتَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةً هي ج أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَحْتَلُونَ ) شرح الكلمات : نقضت: نقض البناء: هدَمه.نقض العظم: كسره.نقض الحبل: حلَّه (الأقرب).
الجزء الرابع ٣٤٥ سورة النحل غزلها: غزلت المرأة القطن والصوف: مدَّته وفتلته خيطانًا.الغزل: مصدر؛ المغزولُ (الأقرب).أنكاثًا: جمعُ نكث وهو: ما نقض من الأكسية والأخبية ليُغزَل ثانيةً (الأقرب).دَخَلاً: الدخل: ما داخلك فساد في العقل أو في الجسم؛ الخديعة والمكر، من وفي القرآن لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم ، ودَخَلاً) مفعول له (الأقرب).أربَى اسم تفضيل من ربا يربو المالُ زادَ ونما.وأربى عليه كذا: زادَ (الأقرب).يبلوكم بلاه يبلوه بلاء: جربه واختبره (الأقرب).حسن هو التفسير: اعلم أن هذه الآية يمكن اعتبارها مستقلةً بمعناها، كما يمكن أن نعتبرها مرتبطة بما قبلها.فلو اعتبرناها استمرارًا للموضوع السابق فالمعنى: عليكم أن تَفُوا بالمعاهدات وفاء تاما، وإلا فسوف تتلاشى من بينكم الثقة المتبادلة، وسيدمر شمل جماعتكم المتماسكة بكل قوة.الحق أن الالتزام بالعهود ضروري للوحدة القومية، لأن المعاملة قوام أي جماعة ولا يتأتى هذا إلا إذا التزم الناس بالعهود، أما إذا انعدم الوفاء بها أدى إلى الاستياء وعدم الثقة بين المجتمع، وبالتالي يصبح سوء الظن هو الحكم السائد فيه، وهكذا فإن سوء التصرف من بعض الأفراد يحرم المئات من المنافع المنوطة بالنظام القومي.فينبغي للإنسان أن يفي بما وعد مهما كلّفه ذلك من بذل وتضحية، ذلك لكى تتوطد الثقة بين الناس، فيكونوا مستعدين لمساعدة الآخرين بطيب النفس، ويستمر القوم في الترقي والازدهار.وبالإضافة إلى العهود الفردية هناك عهود قومية أيضًا حيث يتعاهد أفراد القوم على يد أحد منهم لبذل كل ما في وسعهم للرقي القومي، وهذا ما يسمّى بالخلافة؛ والآية تشير إلى هذا العهد أيضًا، حيث تنبّهنا أن الله تعالى قد جعلكم واحدة تحت نظام واحد وقد حلفتم بالله على طاعة هذا النظام، فعليكم أمة
٣٤٦ سورة النحل الجزء الرابع الآن الإذعان لهذا النظام دومًا، وإلا ستزول هيبة الإسلام التي توطدت بسبب تضحياتكم، وستضطرون لبذل الجهود من جديد لنشر هيبة الإسلام مرة أخرى.والحق أن القرآن قد بين هنا حكمة سياسية عظيمة.إن الفرقة بين بضعة أفراد من القوم يقضى على النظام كله فيذهب كل ما كسبه القوم سدى؛ وإقامة النظام مرةً أخرى يتطلب بذل جهود وتضحيات جسيمة من جديد، ومع لا يكون الأمر كما كان في الأول، لأن الثوب المرقع لا يكون كالجديد، ولأن القلوب إذا تنافَرَ ودُّها فمثلُ الزجاجة كسرها لا يُجبر.لذا هناك حاجة ماسة لبذل جهود مستميتة للوفاء بهذا العهد.ذلك كما يتضح من كلمات هذه الآية أنها تتحدث أيضا عن الاتفاقيات التي تتم بين المسلمين والأمم الأخرى؛ وبالنظر إلى هذا المعنى يمكن اعتبار الآية موضوعًا مستقلاً جديدًا، وهو أنه كما لا بد من مراعاة ما يعقده الإنسان مع الله عل أو الأمم مع قومه من عهود، كذلك لا مناص له من الالتزام بالمعاهدات التي تتم مع الأخرى، وإلا سيدمر سلام العالم وستعم الفوضى كما تشير إلى ذلك كلمات دَخَلاً بينكم وكالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكانًا.ونظرًا إلى هذا المفهوم يمكن أن تفسر الآية بما يلي: 1- لا يجوز لكم أيها المسلمون أن تعقدوا الصلح مع قوم لا تقدرون على كسر شوكتهم، وفي نيتكم أن يطمئنوا جانبكم نتيجة هذه الاتفاقية، فإذا اطمأنوا أعددتم لهم عُدتكم في الخفاء ودمرتموهم على حين غفلة منهم.كانت ولا تزال مثل هذه التصرفات تقع في العالم السياسي، ولكن أحكام الإسلام مبنية على العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، فإنه يكره مثل هذه التصرفات وينهى عن إتيانها ولو كانت ضد عدو لدود للإسلام.٢- لا تعقدوا اتفاقية مع شعب ضعيف بحجة المساعدة، وغرضُكم الأصلي أن تستولوا على مقادير بلادهم، وذلك كما تفعل الدول الأوروبية في هذا العصر.
الجزء الرابع ٣٤٧ سورة النحل - لا تَعاهَدوا من أجل إضعاف الأمة المعاهدة ووقفها عن الرقي، بل إذا عقدتم الصلح مع قوم فيجب أن يكون صلحا كاملاً وصادقًا.ما أروع ما يعلمنا الإسلام هنا من أخلاق عالية! إنه ينبه أن التفوق القومي شيء حسن دونما شك، ولكن لا يجوز تحقيقه باللجوء إلى الخداع والغدر بالآخرين.يجب أن تتم الاتفاقيات بهدف توطيد الأمن وإقرار السلام، وليس للكيد بالآخرين.وعلى النقيض انظروا ما تفعله أوروبا اليوم.إنهم يهدفون بالاتفاقيات إضعاف الشعوب الأخرى مثلما حدث في الماضى بالصين ومصر وتركيا وإيران وكذلك في الهند قبل فترة، ومثلما يحدث اليوم في بولندا وفرنسا وفنلندا، والنرويج ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا وغيرها.كم هو رائع وجميل هذا التعليم الإسلامي والحق أن العمل به يضمن اختفاء جميع الفتن والفساد من الدنيا مرة واحدة والواقع أن مثل هذه الاتفاقيات المغرضة هي التي كانت وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والحالية.فلولا "معاهدة فرساي Versailles) لما نشبت الحرب الحالية بين الاتحاديين وخصومهم.إن القرآن الكريم يحرّم مثل هذه المعاهدات، ويوصينا أن لا نعقد أية اتفاقية إلا بحسن النية وبهدف واحد هو: توطيد السلام." وأما قوله تعالى إنما يبلوكم الله به فنبه فيه المسلمين بأننا سوف نتيح لكم عن قريب فرصاً كهذه لنرى مدى تمسككم بتعاليم الإسلام الأخلاقية إبان اقتداركم، وما إذا كان الرقي المادي سيدفعكم إلى اتباع خطوات الأمم الأخرى أم لا؟ إن هذا البيان القرآني يشكل برهانا عظيمًا على صدق القرآن الكريم وعلى تفوق الإسلام على الديانات الأخرى ذلك لأن الله عمل قد أنزل هذه الأحكام المتعلقة بحكومة إسلامية قوية في وقت كان النبي ﷺ لا يزال فيه بمكة وما كان المسلمون يملكون حتى شبرًا من الأرض؛ كما كانت هذه الأحكام رائعة بحيث لا
الجزء الرابع ٣٤٨ سورة النحل يسع أي إنسان شريف إلا الاعتراف بفضل تعليم القرآن الكريم.أليس صحيحا أنه - بالرغم من انقضاء أكثر من ۱۳ قرنًا على نزول القرآن – لا يزال صدق هذا التعليم وفضله ينكشفان باستمرار؟ أليس كل ما يقع في الدنيا من قلاقل وما تتوجسه الدول بعضها من بعض من مخاوف إلا من جراء الإعراض عن هذه الأحكام الإسلامية؟ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (3) ٩٤ التفسير: قد يتساءل هنا أحد قائلاً: لا شك في سمو هذا التعليم، ولكن لماذا لم ينفذه الله وعلى جبرًا حتى تبقى الدنيا محمية من هذه الفتن؟ فرد الله و على ذلك في هذه الآية موضحا: لا جرم أننا لو أردنا تنفيذ مشيئتنا لفعلنا هذا، ولكننا قررنا اختبار الإنسان بحرية الخيار؛ فمن آثر الضلال على الهدى فلن نمنعه من ذلك، ومن أراد الإيمان هديناه إليه ؛ ذلك لأننا قد جعلناه مكلفا ومسئولاً عن أعماله، ولا يجوز تكليفه ما لم يعط القدرة والحرية ليختار ما يحلو له: الهدى أو الضلال.والحق أن الآية تمثل نصيحة للمسلمين إذ قد يخطر ببالهم: ما الحرج من عقد اتفاقيات ملتوية كهذه لصالح الإسلام؟ فالله تعالى يؤكد هنا تحريمها كلية، وإن كانت بنية تأييد الإسلام؛ ذلك لأنه لو كان جعل الدنيا كلها على طريقة واحدة أفضل وأولى من التمسك بمبادئ العدل والإنصاف كلها لجمعهم الله جميعا على الهدى ولم يتركهم يتورّطون في إثم الغدر ؛ لذا فجمع العالم كله على الإسلام أيضًا ليس مما يسوّغ لكم الغدر في المعاهدات.إذن فالآية تحذير إلهي بأن أية أمة
الجزء الرابع ٣٤٩ سورة النحل ستلجأ إلى الجبر والعدوان لتوحيد الدنيا على دين واحد فلن تنجح في هدفها أبدا، ولا بد أن تُسأل عن ذلك وتعاقب.والظاهر أنه من المستحيل أن تُرغَم أيُّ أمة على البقاء تحت سيادة أمة أخرى لفترة طويلة، والأمم التي تستعبد الآخرين تذوق وبال ذلك في النهاية حيث تفسد أخلاقها بأخلاق المستعبدين.والحق أن هذا هو أكبر سبب وراء الدمار الذي حل بالمسلمين، لأن أجيالهم تعلمت أخلاق العبيد الذين كانوا في بيوتهم، فتردَّت أخلاق هذه الأجيال شيئًا فشيئًا حتى صارت أخلاقهم كأخلاق العبيد تماما.فلو أنهم قضوا على الرق بسرعة عملاً بتعليم القرآن لما رأوا هذا اليوم المشئوم.فدمارهم يمثل منظرًا مؤلماً لصدق قول الله تعالى: (ولتُسألُن وَلَا تَتَّخِذُواْ أَيْمَنَكُمْ دَخَلَا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السُّوَءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ۹۵ التفسير: لقد أعاد الله ل هنا قوله ولا تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بينكم، لينبه على أن عقد الاتفاقيات بنية سيئة أو نقضها بعد توكيدها عمل سيئ من حيث المبدأ، ولكنه يصبح أسوأ للمسلمين خاصةً ، لأنهم حملة لواء الدين الحق، وسوف يؤثر سلوكهم الخاطئ - ولو في الأمور السياسية - على الناس سلبيا، وينفّرهم عن دين الله الحق.كما أن هذا لن يأتي بنتائج طيبة في حق الأمة الإسلامية نفسها، لأن عدوى هذا السلوك الخاطئ سيسري إلى معاملات أفرادها أيضًا، فيصيبهم الضعف والاضمحلال.وقوله تعالى وتذوقوا السوع إشارة إلى أنكم لو نكثتم العهود من أجل المصالح الدنيوية فستضرون بالدين.
الجزء الرابع ٣٥٠ سورة النحل أما قوله تعالى فتَزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها فالمراد من قدم هنا الحكومة القوية.وقد جاءت قدم نكرةً على سبيل التعظيم، وتحمل بشرى بقيام حكومة عظيمة للمسلمين.من إن هذا الحث الشديد للمسلمين على الوفاء بالمعاهدات كان في الواقع يمثل نبأ الله وعمل بأنه سوف تكتب لهم الغلبة على الأمم كلها.ذلك لأن الأمة التي يؤدي خروجها على المعاهدات إلى تفشي الفساد في العالم لا بد أن تكون أمة غالبة على الأمم الأخرى، لأن الأقوام الضعيفة لا تتجاسر على نقض الاتفاقيات، كما لا يخل نقضها للمعاهدات بأمن العالم.فثبت أن الله تعالى قد نبه المسلمين إلى العظمة التي تنتظرهم، ناصحا إياهم بأن يعقدوا الاتفاقيات بوعي وتدبر، وأن يفوا بها بصدق وأمانة.إنه الأوائل ه لمما يبعث على الأسف والحزن أنه لم يع هذا الدرس القرآني إلا المسلمون وحدهم، أما الذين أتوا بعدهم فنسوه، فهلكوا ولقد أتى على المسلمين حين من الدهر كان لفظ "المسلم" فيه مترادفا للثقة والاعتماد بحيث إذا عرف الناس أن فلانا مسلم لم يروا أية حاجة إلى ضمان أو كفالة.وأما اليوم فليس في العالم كلمة هي أقل اعتباراً وثقة من كلمة "المسلم".إنا لله وإنا إليه راجعون!! وَلَا تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً ۚ إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (3) : ٩٦ أن يقعوا التفسير هذه الآيات حملت نبأ عن رقي المسلمين وقيام دولتهم، وعن أن العدو سيتآمر على حكومتهم ببث العيون بين ظهرانيها وإغراء بعض أفرادها بالمال، لذلك قد حذر الله هنا المسلمين سلفا من هذه الظروف منبها إياهم من في فخ العدو، فأوضح سيأتي زمن أيها المسلمون يحاول فيه أهل مكة إغراءكم بالمال لتبثوا لهم أسرار النبي ، فحذار ثم حذار أن تفعلوا ذلك، ولا تشتروا
الجزء الرابع بعهد ٣٥١ سورة النحل الله ثمنا قليلاً، ولا تتهاونوا في الوفاء به؛ فإن هذه الرشوة ثمن قليل إزاء الأجر العظيم الذي ينتظركم عند الله تعالى، فهو خير لكم جدا بحيث لا تستطيعون الآن تصوره.وفعلاً ما كان المسلمون ليستوعبوا أبعاد هذا النبأ وهم في مكة.ورد في الحديث أن سيدنا عمر ه ه قال : لم أعرف تأويل قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر حتى كان يوم بدر وفتح مكة.صلے مَا عِندَكُمْ يَندُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ شرح الكلمات ۹۷ ينفد : نقد الشيء ينفد نفادًا: فني وذهَب وانقطع (الأقرب).التفسير: لقد نبه الله تعالى هنا أن أموال الرشوة التي من أجلها يغدر الناس أقوامهم تنفد وتفنى في آخر الأمر، ولكن العزة التي ينالها الإنسان برقي قومه عظيمة ولا تزول بسرعة.كما أخبر ال أنه مهما كثر المال الذي يقدمه العدو لأحد كرشوة فإنه مال محدود على كل حال، ولكن الجزاء الذي يناله الإنسان من الله و نظير الصلاح والتقوى والوفاء فهو جزاء أبدي حيث تمتد خيراته من هذه الحياة إلى الآخرة.* ورد في الحديث: "عن عكرمة ، قال : لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر قال عمر جعلتُ أقول: أي جمع سيُهرَم؟ حتى كان يوم بدر، رأيتُ النبي ﷺ يَثبُ في الدرع وهو يقول: سيُهزم الجمع ويولون الدبر)، فعرفت تأويلها" (الدر المنثور: سورة القمر).
الجزء الرابع ٣٥٢ سورة النحل وقال الله تعالى بأحسن ما كانوا يعملون أي أننا لا نتعامل معهم كزبون بخيل يختار أردأ حبة من السلع ويقيس ثمن الباقي بحسبها، بل سوف ننتقي أفضل عمل من أعمالهم، ونقيس عليه جزاء أعمالهم العادية الأخرى.كما بين الله بذلك أنه تعالى سيجزيهم بأكثر مما عملوا، لأن جزاء الحسنة الواحدة سيضاعف عشر مرات (الأنعام: ١٦١).ولكن الله تعالى نبّه أيضًا أن هذا الجزاء المضاعف إنما يكون للصابرين أي الذين لا يخافون المشاكل والصعاب، ولا يشترون حطام الدنيا بالدين.مَنْ عَمِلَ صَلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوَةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ التفسير: لقد نبه الله عل هنا المسلمين من جهة أن الإسلام يُقرر الحقوق للجنسين كليهما، وأنه تعالى سيجزي في هذا الكفاح كلاً من الذكر أو الأنثى وفق عمله جزاء سواء دونما تمييز بينهما؛ ومن جهة أخرى نبّه الكفار أنكم تقتلون الأنثى، فكيف يمكن أن يوضع زمام الحكم في أيدي الظالمين أمثالكم.كلا، إنما ننشئ الآن نظامًا سيحافظ على حقوق الجنسين كليهما.ما أقوى هذه الآية برهانًا على صدق الإسلام فبعد مرور آلاف السنين على تاريخ البشرية أقر الإسلام لأول مرة للجنسين حقوقهما، وذلك حين لم يكن المسلمون قد نالوا الحكم بعد وبالرغم من هذه الحقيقة الناصعة يقول الظالمون من أعداء الإسلام أنه لم يحافظ على حقوق المرأة!
الجزء الرابع ٣٥٣ سورة النحل ۹۹ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّحِيمِ (٣) شرح الكلمات: فاستعذ عاذَ به من كذا يعوذ عوذًا وعياذًا: لَجَأَ إليه واعتصم، تقول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أي التجى إلى الله وأعتصم من الشيطان.استعاذ به منه: اعتصم ولجأ إليه منه (الأقرب).يعني أنك إذا التفسير: لقد زعم البعض أن قوله تعالى فإذا قرأت القرآن ختمت قراءة القرآن فاقْرَأ المعوذتين أي السورتين الأخيرتين من المصحف.ولكن هذا الرأي ليس بسليم، لأن هاتين السورتين موجودتان في المصحف، ولا بد للقارئ أن يقرأهما على كل حال لدى وصوله إلى آخر القرآن؛ لذا فالمراد الحقيقي هو أن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بقولنا "أعوذ بالله الشيطان الرجيم"، كما هو ثابت من السنة الشريفة (الترمذي: فضائل القرآن) لقد قال الله وعمل من قبل إن الصابرين سينالون جوائز كبيرة، والآن أخبرنا عن واحدة من الطرق التي تضمن لنا هذه الجوائز والنعم فقال: عليكم أن تعتصموا بحمى من الله تعالى من هجمات الشياطين، لترثوا هذه النعم، ولا تضلوا الطريق.لقد زعم بعض الجهلة - بناء على آراء وروايات باطلة - أن هذه الآية تخاطب حيث قالوا إن النبي كان يقرأ سورة النجم ذات مرة، فأجرى الشيطان والعياذ بالله- على لسانه كلمات تنمّ عن الشرك، فأمره الله تعالى أن يستعيذ باسمه دومًا قبل قراءة القرآن، حتى لا يستطيع الشيطان إلقاء أي شيء النبي على لسانه.(تفسير القرآن للقسيس "ويري" مجلد ٣ ص ٤٣ و ١٦٧) ولكن الزعم أن هذه الآية تخاطب النبي الله زعم باطل، وذلك للأسباب التالية: أولاً: إن هذه الأسطورة باطلة لا أساس لها من الصحة، وسوف نناقشها بالتفصيل في محلها الأصلي في سورة الحج.وثانيًا: لا تمت هذه الخرافة إلى السياق بأية صلة، إذ كيف يمكن لعاقل أن يصدق بأن يكون الحادث المشار إليه قد وقع
الجزء الرابع ٣٥٤ سورة النحل لدى قراءة سورة النجم، ولكنه يُسجل في سورة الحج، ثم يؤمر النبي ﷺ بالاستعاذة في سورة النحل هنا خلال الحديث عن غلبة الإسلام.إنه أمر لا يستطيع أحد استيعابه.ونعوذ بالله من هذه الخرافات! الحق أن هذه الآية منسجمة تمامًا مع موضوع الآيات السابقة، وأن ربطها بأية خرافة كهذه إنما هو ظلم عظيم.ثم يجب أن لا يفوتنا قول النبي له بأن شيطانه قد أسلم فلا يأمره إلا بخير أحمد (مسند ج ١ ص ٢٥٧).فكيف يمكن لعاقل - بعد هذا التصريح النبوي – أن يقبل زعم هؤلاء الجهلة بأن الشيطان ألقى على لسان النبي ﷺ كلمات تنمّ عن الشرك؟ ما دام شیطانه مسلما، والمسلم يكون موحدا، فلا يمكن لهذا الشيطان الموحد - لو كان يملك عليه الا الله أي تصرف أصلاً - أن يُجري على لسانهما ينم عن الشرك.إذا فربط هذه القصة المنحولة بهذه الآية لبهتان عظیم ضد النبي.و أما السؤال: ما الداعي إذن للاستعاذة قبل تلاوة القرآن الكريم؟ فجوابه: أن السارق إنما يأتي حيث الكنز، وإنما يهتم الإنسان بمقاومة من يتوجس منه الخطر والقرآن الكريم كنز روحاني عظيم يتمنى الشيطان سرقته، كما أن القرآن هو السلاح الذي تُشَجِّ به هامة الشيطان، ولذلك يسعى الشيطان وأعوانه جاهدين لإبعاد الناس عن القرآن ومن أجل ذلك أُمرنا أن نعوذ بالله من الشيطان قبل تلاوته.ويمكن أن نستنتج من ذلك حكمًا آخر وهو أننا ما دمنا مأمورين بالاستعاذة بالله من الشيطان حتى قبل قراءة القرآن أيضًا، فما أحوجنا إلى ذلك قبل البدء في سائر الأعمال الأخرى! أما السؤال: لماذا ذكر هذا الحكم هنا بالذات، فجوابه: أن القرآن الكريم قد صرّح هنا لأول مرة وبكل وضوح عن قيام الدولة الإسلامية – مما لا شك فيه أنه قد أخبر عن قيامها من قبل أيضا، ولكن تلميحًا لا صراحةً – ومن الطبيعي
الجزء الرابع ٣٥٥ سورة النحل أنه لدى الحديث عن الرقي المادي ينصرف تفكير ضعاف الإيمان عن الدين إلى الأمور الدنيوية.وبما أن الله تعالى قد أخبر المسلمين هنا بالترقيات المادية فلم يلبث أن أمرهم أيضًا بأن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم قبل قراءة القرآن دائما، كيلا تصرف أنباء الفتوحات المادية هَمَّهم عن أهداف الدين العليا، فيؤثروا الدنيا على الدين.كم يفيض هذا الكلام بالقداسة والصفاء! وكم فيه من أسباب لحماية إيمان أعداء الإسلام الظالمون يقولون أن القرآن الكريم استمال قلوب القوم إلى الإسلام بشتى الإغراءات ستيارث بركاش (ترجمة أردية) المؤمنين! ومع ذلك لا يبرح طبعة ۱۹۳۹ باب ١٤ ص ٦٩٦).إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَنَّ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) التفسير : يظن البعض أنه من المستحيل أن يحب الإنسان ربه وهو منشغل بأمور الدنيا، حيث نُسب إلى المسيح اللة في الإنجيل القول التالي: "إن مرور جَمل من ثَقْب إبرة أَيْسَرُ من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (متى ١٩: ٢٤)، وأيضاً: "ما أَعْسَر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله، لأن دخول جَمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله (لوقا ۱۸: ٢٤ و ٢٥)؛ لذا كان من الممكن أن يطعن أصحاب هذا الرأي في القرآن فيقولوا: ما دام من المحتمل أن يؤدي خبر الفتوحات المادية إلى ضعف إيمان البعض فلماذا بشر القرآن أصلاً بالغلبة المادية؟ فرد الله وعمل على ذلك مفنّدًا قولهم: إنما يتغلب الشيطان على ضعاف الإيمان دومًا، أما المؤمن الحقيقى فإنه رغم انشغاله بشؤون الدنيا لا يتغافل عن الدين؛ وتحذيرنا هذا موجه إلى ضعاف الإيمان فحسب، لأن الذين هم أقوياء الإيمان فعلاً لن يتهاونوا في الدين بسبب واجباتهم الدنيوية.وكأن الإسلام
الجزء الرابع ٣٥٦ سورة النحل يعلّمنا أن نكون مصداقا للمثل القائل: قلبي مع الحبيب ويدي في الشغل.وهذا هو المقام الأعلى، ومن أجل ذلك لم يأمر الإسلام بترك الدنيا كلية، بل حثنا على إصلاح أهلها مع قيامنا بالشؤون الدنيوية.ذلك لأنه لو تم الفصل بين الأبرار والدنيا لما أمكن إصلاح أهلها أبدًا.أما إذا صار زمام الأمر في أيدي أولئك الذين يتمسكون بالعدل والإنصاف والتقوى، رغم تملكهم الحكم والسلطة، فعندئذ هناك إمكانية لإصلاح الدنيا بتقديم نموذج مثالي للآخرين.انظروا كيف انقطع النبي وصحابته عن الدنيا رغم ممارستهم السلطة والحكم، وضربوا في هذا المجال أروع مثال بحيث لا تزال قلوب أولي الألباب ترقص من ذكراه طربًا، رغم مرور ۱۳ قرنًا على ذلك.إِنَّمَا سُلْطَبُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ۱۰۱ التفسير: اعلم أن ضمير الغائب للواحد (به) في قوله تعالى هم به مشرکود يمكن أن يكون عائدًا على كلمة "الرب" المذكورة من قبل في قوله تعالى على ربهم يتوكلون، فيكون المعنى: أن الشيطان لا يملك السلطة إلا على الذين يشركون بالله.وقد يكون هذا الضمير راجعًا إلى الشيطان فالمعنى أنهم يقعون في الشرك بسبب إغواء الشيطان.لقد نبه الله تعالى بذلك أن الشيطان يمارس سلطته على أصحابه وأعوانه.فمن استعاذ بالله كل فكأنما أعلن عداوته للشيطان وهكذا خرج عن تصرف الشيطان وسلطانه.لقد تبين من ذلك أيضا أن قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله لا النبي بل غيره، وأن قصة إلقاء الشيطان على لسانه كلمات الشرك يخص
الجزء الرابع ٣٥٧ سورة النحل قصة ملفقة باطلة؛ ذلك لأنه تعالى يصرّح هنا أن الشيطان يتسلط على الذين يتخذونه وليا، وليس على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وقد أعلن النبي مرارا وتكرارًا أن لا سند له ولا عماد إلا الله لا وحده عل.冀 وَإِذَا بَدَّلْنَا وَآيَةً مِّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إنَّمَا أَنتَ مُتَر بَل أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) التفسير الآية هي في الأصل العلامة ،والدليل، وإن أطلقت أيضًا على جُمل القرآن الكريم، لأن كل جملة منه تمثل في حد ذاتها علامة للهداية؛ ولكن هذا المعنى الثاني ليس حقيقيًّا، إذ لا نجد القرآن قد استخدم الآية بهذا المعنى بشكل قطعي.لا شك أنه يبدو في بعض مواضع القرآن وكأن كلمة "الآية" قد استعملت هناك بمعنى الجملة، ولكن هذا ليس بأمر قطعي، إذ يمكن أن يراد بالآية هناك العلامة والدليل أيضًا.غير أن المسلمين قد استعملوها منذ البداية بمعنى الجملة حيث كان الصحابة يسمّون الجمل القرآنية آيات، كما نجد هذا الاستخدام في كلام النبي أيضا (البخاري: كتاب الجهاد وكتاب فضائل القرآن).فاشتبه الأمر على بعض المفسرين بسبب هذا الاستخدام ففسروا هذا اللفظ بمعنى الجملة القرآنية حتى في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، فقالوا أن المراد أن الله تعالى كلما نسخ آية من آيات القرآن وأنزل مكانها غيرها قال الكفار للنبي ﷺ: إنما أنت مفتر على الله تعالى.لو كان القرآن من عند الله لما اضطررت لنسخ آياته؟ (تفسير القرطبي) ولكن هذا المعنى ليس بصحيح في رأيي إذ ليس من الثابت تاريخيا أن آية من القرآن استبدلت بآية أخرى، وإلا لشهد على ذلك مئات الحفاظ الذين كانوا قد حفظوا القرآن عن ظهر قلب في حياة النبي ، ولقالوا: لقد حَفَّظَنا رسولُ الله في أول الأمر آية فلانية، ثم ألغاها وحفظنا مكانها آية كيت؛ مما يمثل برهانا
الجزء الرابع ٣٥٨ سورة النحل قطعيًّا على أن كل الأفكار الرائجة حول نسخ آيات من القرآن الكريم إنما أساسها الظن، وليس العلم والواقع إنني لا أنكر أن بعضا من الأحكام قد استبدلت في زمن النبي ، ولكني لم أجد أية شهادة تدل على أن حكما من الأحكام نزل في القرآن في البداية بشكل ثم استبدل بحكم آخر.وأرى أن الأحكام التي كانت ذات صبغة مؤقتة قد نزلت على النبي ﷺ حي منفصل عن وحي القرآن، فلم يتطلب الأمر تبديل أي حكم نزل في الوحي القرآني.ويمكن أن يتساءل هنا أحد : إذا لم يحدث أي تبديل ولا تغيير في آيات القرآن الكريم فماذا تعني هذه الآية إذن؟ والجواب: أن المعنى الحقيقي الذي أراده القرآن الكريم على العموم لكلمة هو العلامة السماوية، وهذا هو المعنى المراد هنا.فالله تعالى يعلن هنا أن من سنتنا أن نبدل علامة سماوية بعلامة أخرى لأننا الأعلم أي العلامات والمعجزات أكثر تلاؤمًا مع الظرف والموقف، ولكن الكفار لا يلبثون لجهلهم أن "الآية" يعترضوا ويقولوا للرسول: إنك مفتر، مع أنه ليس في هذا ما يدعو للطعن.وهذا هو الناموس الإلهي الذي تجلى دائما في زمن كل نبي ورسول ذلك لأن الله تعالى يخبر كل رسول بأنباء إنذارية تكون في الواقع مشروطة بشروط، فلو أن القوم غيروا حالة قلوبهم فقد يلغي الله بعض هذه الأنباء التحذيرية كلية، ومثاله ما حدث بقوم يونس الي حيث أخبرهم بهلاكهم الموشك، ولكنه تعالى ألغى قرار هلاكهم نتيجة توبتهم (يونس) (۹۹) فهذا هو القانون الإلهي العام فيما يتعلق بالأنباء التي فيها إنذار وتخويف، فلو أن أعداء الرسل تابوا فإنه تعالى يلغي الإنذار ويلغى العذاب.أما الأنباء المتعلقة بغلبة نبي وأتباعه فلا تُلغَى أبدا، بل لا بد من تحققها؛ غير أن الأمة التي قطع الله معها وعدًا من الوعود إذا قصرت في تقديم التضحيات أو في الطاعة فمن سنة الله تعالى أنه يؤجل الوفاء بما وعد؛ ومثال ذلك ما حدث بقوم موسی العليا، حيث خرج بهم من مصر بحسب وعد من الله عل - ليدخل
الجزء الرابع بهم ٣٥٩ يعني سورة النحل الأرض المقدسة فاتحا، ولكنه كل أجل تحقيق هذا النبأ لهم أربعين سنة جراء عصيانهم المتكرر لتعليمات نبيهم.ولقد سجل القرآن هذا الوعد الإلهي بلسان موسى كالآتي: يا قومِ ادْخُلُوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم (المائدة: ۲۲)، ثم ذكر عصيان اليهود لموسى ال والقرار الإلهي بحرمان الأرض عليهم أربعين سنة، في قوله تعالى لموسى: فإنها محرَّمة عليهم أربعين سنةً يَتيهون في الأرض فلا تَأْسَ على القوم الفاسقين (المائدة: ٢٧).مما أن هذا النبأ والوعد قد أُجل لبعض الوقت، ولكنه تعالى لم يُلغه كليةً، لأن الله لا يُخلف الميعاد.ووفق هذه السنة المتعلقة بعذاب الكفار كلما ألغى الله نبأ من الأنباء أثار الكفار ضجة بأن صاحبهم مفتر كذاب لماذا لم يتحقق ما أنذرنا به لو كان من الصادقين.وكان أعداء النبي الله أيضًا يثيرون مثل هذه المطاعن، فرد الله عليهم بأننا ننزل آيات العذاب لهدف معين وهو الإصلاح، وحين نرى أن أحدًا قد غير سيرته وأصلح حاله نبدل قرارنا السابق ونلغي عقابه أصلاً، وتُري آية الرحمة في حقه، لأن هدفنا الإصلاح لا الإيذاء.لقد حصل هذا مرارا في حياة فمثلاً أخبره الله في القرآن عن كفار مكة أنهم لا يؤمنون (البقرة: ٧) وكان هذا الخبر بمنزلة نبأ بعذابهم، ولكن الله تعالى ألغاه في حق كثير منهم ممن تولدت في قلوبهم خشية الله بعد الإنذار، فمنحهم نعمة الإيمان مكان العذاب.الله هذه القضية واضحة تماما، ومع ذلك يتعثر الناس دائما في فهمها، لأنهم يظنون أن إلغاء الوعد كذب، مع أن إلغاء وعد العقاب لا يُعَدّ كذبًا، وإنما إلغاء وعد العطاء يُعَدُّ كذبًا؛ فقد ورد في قواميس العربية: "الخُلْفُ في الوعد عند العرب كذب وفي الوعيد كرم (الأقرب).النبي إذن فالمراد الحقيقي من هذه الآية أننا نلغي أحيانًا الأنباء الإنذارية، فيعترض على ذلك الكفار، ولكن طعنهم باطل، لأن قرارنا هذا مبني على الحكمة، إذ ليس فيه هضم لحق أحد حتى يكون مثارًا للاعتراض.ونظرًا إلى هذا المعنى ستفسر "الآية" هنا بمعنى الأنباء التحذيرية التي مر ذكرها من قبل.
الجزء الرابع ٣٦٠ سورة النحل هذا، ونظراً إلى السياق وترتيب القرآن الكريم يمكن تفسير هذه الآية بمعنى آخر أكثر انطباقا هنا وهو كالآتي: لقد بينتُ من قبل أن هذه السورة تعالج موضوع ضرورة الوحي، ومن الأدلة التي سبق أن ذكرها الله بهذا الصدد مجىء الرسل في الماضي، كقول الله تعالى تالله لقد أرسَلْنا إلى أمم قبلك (الآية : من ٦٤)، وقوله تعالى ويوم نبعَثُ في كلِّ أُمّة شهيدًا عليهم من أنفسهم (الآية: ٩٠).ولما عجز الكفار أمام هذا البرهان قالوا: حسنًا، إذا كان الرسل قد بعثوا في الماضي فيجب أن يكون تعليمهم وتعليم الإسلام واحدا، ولكننا نجد فيما يعلمنا محمد أمورًا تخالف تعاليم الرسل السابقين؟ فثبت أنه كاذب، إذ كيف يمكن أن يقول الله لهؤلاء الرسل غير ما يقول لمحمد؟! لقد رد الله على هذا الزعم فقال والله أعلم بما ينزل..أي أن اختلاف القرآن مع بعض تعاليم الرسل الأولين لا يعني أنه يعارض تلك التعاليم الحقة، وإنما سببه أن حاجات هؤلاء تختلف عن حاجات أولئك، ولا بأس في ذلك إذ من الممكن أن يعطي الشخص الواحد تعليمات مختلفة لأناس مختلفين بالنظر إلى حاجاتهم المختلفة، ولا يجوز لأحد أبدًا أن يستنتج من ذلك أنه ما دامت الأحكام مختلفة فلا بد أن تكون قد صدرت من جهات مختلفة لا من جهة واحدة.ذلك لأن الأحكام لا تختلف بسبب اختلاف مصدرها فقط، بل تختلف أيضا بسبب اختلاف المخاطبين مع كون مصدرها واحدًا، لأنها تصدر بالنظر إلى استعداداتهم المختلفة.إذن فكان من واجب الكفار أن يروا ما إذا كان تعليم القرآن وفق مقتضيات العصر أم لا؟ فإذا توافر فيه هذا الشرط أصبح الاختلاف في تعليمه وتعليمات الأولين دليلاً على أن الله عالم الغيب هو الذي أنزل القرآن على محمد ، وليس أن الذي أنزل الوحي على محمد هو غيرُ من أنزل الوحي على الأنبياء السابقين.
الجزء الرابع ٣٦١ سورة النحل هذا المعنى الأخير يتماشى مع الآية التالية أيضًا، لذلك أراه أصح المعاني المذكورة.فتؤخذ كلمة "الآية" هنا بمعنى الكتاب؛ لأن الكتاب السماوي أيضا آية أي معجزة، بل إن كتب الأنبياء هي أكبر معجزاتهم.الغريب أن هذا الاعتراض لم يزل يتردد على مر العصور حيث لا ينفك الكتاب المسيحيون يقولون حتى اليوم: إذا كان القرآن يدعي بأنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية فلماذا يختلف معها إذن؟ فاختلافه مع الكتب السابقة أن محمدا قد اختلق القرآن من عنده ولما كان محمد غير ملم بالأسفار السابقة فلذلك ذكر في القرآن عند اختلاقه أموراً تتعارض مع ما ورد في تلك الأسفار (تفسير القرآن لـ "ويري: سورة البقرة الآية ٩٠).يعني هذا، وقد هرأ بعض المفسرين فقالوا أن هذه الآية إشارة تلك القصة التي تقول أن النبي ﷺ تلا سورة النجم أمام الكفار ، فألقى الشيطان بصوت عال كلمات في تلاوته ! الله تعالى الحق أن هذه القصة زائفة تمامًا، وسوف نثبت ذلك في محلها إن شاء الله تعالى.ولكن لو سلّمنا جدلاً بصحتها فأيضًا لا تثبت لتلك القصة أية صلة بهذه الآية، إذ يؤكد الله هنا أن الآية التي استبدلت كانت من وحي وأنه حل نفسه قام بتبديلها، بينما يعترف أصحاب تلك القصة المنحولة بأن الشيطان هو الذي ألقى آيات من عنده؛ فثبت من اعترافهم أيضًا أن لا علاقة لتلك القصة الملفقة بهذه الآية.كما أن الآية التالية أيضًا تفنّد زعمهم الباطل، إذ تقدم ردًّا ثانيًا على اعتراض الكفار حيث تقول قُل نزله روح القدس من ربك بالحق.والظاهر أنه ليس في قول الله هذا أي ردّ على اعتراض الكفار القائل: لماذا قدّم محمد من قبل تعليمًا ينم عن الشرك، ولماذا غيّره الآن.إن نزول روح القدس بالقرآن يمكن أن يكون دليلاً على كون القرآن محفوظا محميًا، ولكن ليس فيه أية دلالة على أن الشيطان أدخل شيئا من عنده في القرآن ثم قام الله تعالى بإلغاء ما ألقاه الشيطان في القرآن.=
الجزء الرابع ٣٦٢ سورة النحل قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ امَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) شرح الكلمات: ١٠٣ الحق: حَقَّه حقا غلَبه على الحق.وحقَّ الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين منه.وحق الخبر: وقف على حقيقته.والحقُّ: ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ الملك؛ الموجودُ الثابت؛ اليقين بعد الشك؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).ربك رب كل شيء: مالكه؛ مستحقه أو صاحبه.رَبَّ الشيء: جمعه؛ ملكه.رَبَّ القوم: ساسَهم وكان فوقهم رَبَّ النعمة زادها.ربَّ الأمرَ: أصلحه وأتمه.رَبَّ الدُّهنَ طَيَّبه وأجاده.رَبَّ الصبي: ربَّاه حتى أدرك (الأقرب).ليثبت: ثَبَتَ الأمرُ عند فلان: تحقق وتأكد ثبت فلانٌ على الأمر : داوَمَه وواظبه ثبته وأثبته : جعله ثابتًا في مكانه (الأقرب).التفسير: لقد رد الله و هنا على طعن الكفار بطريق آخر فقال: أولاً : قل نزله روح القدس..أي أن هذا الكتاب يحتوي على تعليم مقدس طاهر جدا، فلو كان من افتراء كذاب للزم أن تروا فيه ما يدل على مصلحة ومكسب لمن يختلقه.اقرؤوا القرآن كله فهل تجدون فيه ما يدل على أي أثر لجشع أو مصلحة شخصية من قبل محمد؟ كلا، بل إن هذا الكلام ينم عن روح القداسة والطهارة.فما دمتم قد جربتم هذه الطهارة والقداسة في هذا الكلام من جهة، ومن جهة أخرى بدا لكم اختلاف بينه وبين الأسفار السابقة، ولم تستطيعوا التوفيق بينهما، فكان الأولى بكم أن تدركوا من ذلك بمنتهى السهولة أن تلك الأسفار لا بد أن تكون قد تعرضت للتلاعب والتحريف، بدلاً تستنتجوا من ذلك أن القرآن ليس من عند الله؛ إذ من المستحيل أن يخلو وحي القداسة والطهارة، ويتسم كلام المفتري بهذه الميزة! الله من روح من أن
الجزء الرابع ٣٦٣ سورة النحل = و وقال ثانيا : إنه بالحق نزله..أي أن هذا الكتاب مشتمل على ما هو حق وصدق.إن كل قضية اختلف فيها القرآن مع الأسفار السابقة – إذا لم يكن سببه اختلاف الحاجات باختلاف الزمن - فستجدون فيها الحق مع القرآن دوما، إذ ستجدون العقل مؤيدا لموقف القرآن ورافضا لموقف الكتب السابقة، مما يشكل برهانا ساطعا على صدق القرآن الكريم.خذوا مثلاً قضية عبادة الإسرائيليين للعجل، فإن القرآن الكريم يبرئ ساحة هارون الله من هذا العمل الوثني (طه) (۹۱)، ولكن التوراة تتهمه بالتورط في عبادة العجل؛ وأي شك في أن الحق مع القرآن، لأن العقل يرفض تورط نبي من الأنبياء في الشرك.ثم إن التوراة نفسها تذكر أن الذين اتخذوا العجل إلها قتلوا، ولكنها تعود وتعارض نفسها بنفسها حيث تقول بعد ذكر حادث العجل مباشرة بأن الله تعالى لم يأمر بقتل هارون بل أنعم عليه بشرف خاص إذ جعل عمل الكهانة خاصاً بنسله.وهذا يدل أن هارون سلك في حادث العجل سلوكا محمودا، ولم يتورط في الشرك كما اتهمته التوراة من قبل خروج) ۳۲ ۲۷ و ٢۸، خروج ٤٠: ١٢- ١٥).إذن فما من أمر قد اختلف فيه القرآن مع الكتب السابقة إلا وثبت، بناء على العقل أو النقل أو بكليهما، أن موقف القرآن صحيح وموقف التوراة باطل.مما يؤكد أن اختلاف القرآن مع الأسفار السابقة ليس دليلاً على أنه من افتراء محمد وليس من عند الله تعالى، بل إنه برهان أكيد على أن القرآن وحي إلهي جديد محفوظ، وأن الكتب السابقة قد صارت محرفة مبدلة.وثالثًا: والدليل الثالث الذي تذكره هذه الآية على كون القرآن من عند الله أنه هُدىً متجسد..أي أنه ينشئ بين الله والعبد صلة سليمة ويوصله تعالى هو إلى العتبة الإلهية؛ وهذا التأثير لا يمكن أن يوجد في كلام المفتري.فما دام العمل بالقرآن يوصل الإنسان إلى الله تعالى بينما تخلو الكتب السابقة من هذه الميزة اليوم، فثبت أن تلك الأسفار قد نزلت من عند الله تعالى فعلاً إلا أنها فقدت الآن
الجزء الرابع ٣٦٤ سورة النحل الحيوية والتأثير إذ لا تلبي الحاجات التي يُتوقع منها تلبيتها؛ ولذلك فالحق مع القرآن عندما يختلف معها.ورابعا : إنه بشرى للمسلمين..بمعنى أن العامل بالقرآن الكريم يرث بالفعل أفضال الله تعالى، ويُري الله وعمل في تأييده آيات من عنده.فلو كان محمد مفتريًا فكيف حقق هذه البشارات لصالح العاملين بكتابه فلا شك أن ما يقدمه من تعليم هو من عند الله تعالى الذي يحقق هذه البشارات، لأن المفتري يمكن أن يدعي دعاوى عريضة، ولكنه لا يقدر على تحقيقها.هذه هي البراهين الأربعة التي ساقها الله وعمل في هذه الآية ردًّا على اعتراض الكافرين، والحق أن كل واحد منها ليكفي وحده لإبطال مطاعنهم.وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانُ عَرَبِيٌّ ١٠٤ شرح الكلمات بشر: البشر الإنسان ذكرًا وأنثى، واحدًا أو جمعًا، وقد يُثنّى كقول القرآن: أنؤ من لبشَرين مثلنا (الأقرب).لسان: المَقْوَلُ أَي آلة القول اللغةُ، مؤنَّثُ وقد يذكر باعتبار أنه لفظ، فيقال: لسانه فصيحة وفصيح..أي لغته فصيحة أو نطقه فصيح (الأقرب).يلحدون لحد بلسانه إلى كذا مالَ ألحد فلانٌ: مال عن الحق (المفردات).أعجمي: الأعجم: من لا يُفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب؛ مَن ليس بعربي وإن كان أفصح بالعَجَمية (الأقرب).
الجزء الرابع ٣٦٥ سورة النحل التفسير تتحدث هذه الآية عن اعتراض آخر للكافرين ما زال حتى اليوم موضع نقاش بين المسلمين والنصارى، وقبل أن أبين معاني هذه الآية أود أن أكشف زيف هذا الاعتراض.قال الكافرون أن محمدا - - لا يتلقى الوحى من الله تعالى، وإنما يعلمه أحد الناس.إن القرآن الكريم لم يسمّ هذا الشخص، ولكن يبدو من كلمات هذه الآية أنهم قصدوا بذلك شخصاً معينًا كانوا يرددون اسمه في دعايتهم ضد النبي ويقول القرآن ردًّا عليهم لسان محمد عربي ولسان ذلك الشخص أعجمي، فكيف يمكن لمحمد أن يؤلف كتابًا عربيًّا مُبينًا باستعانة من لسانه أعجمي؟ لقد نقل المفسرون عن هذا الشخص روايات شتى منها قيل هو عبدٌ لحُوَيْطَب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب، وقد أسلم وحسن إسلامه؛ وكان الكفار يقولون أنه يعلم محمدًا.قاله الفراء والزجاج (روح المعاني).وقال مقاتل وابن جبير : هو أبو فُكَيهة، وكان مولى لامرأة بمكة.قيل: اسمه يسار، وكان يهوديا (المرجع السابق).الله بن مسلم الحضرمي " وأخرج آدم بن أبي أياس والبيهقي وجماعة عن عبد قال: كان لنا عبدان نصرانيان من أهل "عين" التمر" يقال لأحدهما يسار وللآخر كانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرءان الإنجيل.فربما مر بهما النبي ﷺ جبر.وهما يقرءان، فيقف ويستمع.فقال المشركون : إنما يتعلم منهما" (المرجع السابق).وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما : إنك تعلّم محمدًا ؟ فقال: لا، بل هو يعلمني" (المرجع السابق)."وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان بمكة غلام أعجمي رومي لبعض قريش يقال له بلعام، وكان رسول الله يعلمه الإسلام.فقالت قريش: هذا يعلم محمدا." (المرجع السابق) وقال السيوطي: هو قين نصراني كان النبي يدخل عليه (الجلالين).
الجزء الرابع ٣٦٦ سورة النحل * II وفي رواية في الدر المنثور أنهم عنوا به عبدا لأوسة بن ربيع اسمه عداس."وفي رواية أنه عداس غلام عتبة ابن ربيعة" (القرطبي) وقيل: إنه سلمان الفارسي له (روح المعاني والكشاف).أما المستشرقون فقد نقل الدكتور سيل عن الدكتور بريديا قوله في كتابه "سيرة الله محمد": كان الناس يقولون إن محمدا كان يتعلم على يد عبد بن سلام الذي كان شهيرًا بين اليهود باسم عبديا بن سلوم.ثم يعلق الدكتور سيل على ذلك قائلا: إن د بريديا قد أخطأ فظن أنه الفارسي.الله عبد بن سلام.لا، بل هو سلمان ويضيف د.سيل: هناك رأي سائد بأن محمدا استعان بقسيس نسطوري اسمه 'سرجيوس"، وهو بحيرا الراهب الذي قابل محمدًا خلال سفره إلى الشام للتجارة بأموال السيدة خديجة.وقد استشهد د سيل على ذلك بقول للمؤلف الشهير المسعودي الذي كتب بأن بحيرا الراهب كان يُعرف عند النصارى باسم "سرجيوس" (تفسير القرآن لـ "ويري").أما القسيس "ويري" فيقول بعد نقل شتى الآراء والروايات: مهما اختلفت الروايات في تحديد اسم هذا الشخص فإننا نتوصل منها إلى نتيجة حتمية أن محمدا كان قبل الهجرة يملك من الوسائل ما مكنه بالاستعانة ببعض اليهود والنصارى والسور القرآنية من أواخر الفترة المكية تشكل دليلاً قاطعا لا يمكن رفضه على استعانة محمد بهؤلاء، حيث تذكر هذه السور القصص الواردة في كتب اليهود والنصارى.ثم يضيف هذا القسيس: يبدو من هذه الآية أن جيران محمد كانوا يتهمونه بالاستعانة بالأديان الأخرى، ولكن ما رد به القرآن على هذا يكشف في الواقع * ورد في "تفس (المترجم) - لا في "الدر المنثور" - ما يلي: "وفي رواية اسمه عداس".
الجزء الرابع ٣٦٧ سورة النحل ضعف موقف محمد.ولذلك فقد علّق السيد أورنلد على ذلك قائلاً: بالرغم من التسليم بكونهم من الأعاجم فإن هذا لا يمنعهم من أن يهيئوا لمحمد مادة للتأليف.ثم يعلق "ويري" قائلا: وهذا هو بالضبط ما كانوا يفعلون لمحمد.كانوا يمدونه بالمادة الخام، فكان يصوغ منها القصص والأحداث كما يحلو له تأييدا لدعواه، ليعزوها إلى الله تعالى قائلا: هذا ما نزل به الملاك جبريل علي من عند الله.ولا نتردد في تكرار هذه التهمة القديمة نفسها بأن محمدا كان يفتري على الله الكذب (المرجع السابق).إلى هنا نقلتُ آراء المفسرين المسلمين وأفكار المؤرخين المسيحيين وأقوال القسيسين، والآن أتوجه إلى بيان مفهوم الآية.يتضح من هذه الآية أن بعض الكافرين كانوا يقولون إن شخصا يعلم محمدا يعرضه على الناس باسم القرآن فرد الله عليهم أن لسان ذلك الشخص أعجمي، ولكن القرآن عربي مبين.ويقول الكتاب النصارى إن هذا الجواب ليس بسليم، لأن المعترضين ما كانوا يقولون بأن هذا الشخص كان يصوغ مفاهيم القرآن في قالب اللغة العربية، وإنما كان يمد محمد ا ل بما ورد في كتب اليهود من مطالب ومفاهيم، فكان محمد يصوغها بأسلوبه العربي.ما والرأي عندي هو: " من أن يفحصه أولاً بشكل :أولاً: لا بد للباحث - بهدف فهم بهدف فهم أي كتاب عام.فلو كان القرآن يرد على المطاعن الأخرى أيضًا بكلام تافه يعوزه القوة والإقناع كما يزعم القسيس ويري" والسيد أورنلد بصدد هذه الآية فيمكن أن نعير رأيهما اهتمامًا، أما إذا ثبت أن ردود القرآن الكريم على مطاعن المعترضين الأخرى مقنعة ومصحوبة بالأدلة والبراهين فلا مناص من أن نقول إن - القسيسين لم يفهموا اعتراض الكفار أو لم يستوعبوا رد القرآن عليهم.وثانيًا - إذا كان جواب القرآن غير مقنع – كما يزعم القسس القسس - فلماذا لم ينبر أهل مكة لرفضه ؟ أعني إذا كان اعتراضهم هو نفس ما يفهمه هؤلاء القسس
الجزء الرابع ٣٦٨ سورة النحل فكان يجب أن يردّ الكفار على محمد ﷺ قائلين: إنا لا نقول بأنك هذا تصوغ الكلام العربي بمساعدة أحد من العبيد اليهود أو المسيحيين، وإنما نقول إنه يزودك بالمادة الخام لتعرضها علينا بأسلوبك العربي.ولكنا لا نجد في التاريخ حتى رواية ضعيفة سجلت مثل هذا الاعتراض من قبل الكفار؛ علمًا أنه لا يمكن لأحد أن يظن أن المسلمين ربما أخفوا اعتراض الكفار هذا و لم يدوّنوه في تاريخهم، ذلك لأن المسلمين قد سجلوا بأيديهم في كتب الأحاديث عشرات الروايات التي تمثل إساءة إلى النبي ، فكيف يمكن أن يخافوا من نقل اعتراض الكفار هذا؟ فثبت من صمت الكفار أنهم أدركوا بهذا الرد القرآني أن محمدا قد فهم اعتراضهم جيدًا، وأجابهم بحسبه أيضًا.والآن تعالوا نَرَ ماذا يقصد القرآن الكريم بهذا الجواب؟ ولكي نستوعب مراد القرآن هنا يجب أولاً أن نفهم جيدًا معنى كلمة (أعْجَمي).هناك كلمتان في اللغة العربية تُستخدمان للعرب وغير العرب هما: العرب والعجم.والأعجمي مشتقة من العجم، فقد ورد في القاموس: "رجل أعجم وقوم أعجم" (تاج العروس)..أي من ليسوا من العرب.كما تذكر القواميس أن الأعجم من لا يُفصح ولا يبين كلامه وإن كان من العرب.والأعجم أيضًا مَن في لسانه عجمةٌ وإِنْ أفصَحَ بالعربية.والأعجمي مثلُ الأعجم (تاج العروس).والجدير بالذكر هنا أن كلمة أعجمي لم ترد هنا صفةً لذلك الشخص وإنما جاءت وصفا للسانه حيث قال الله تعالى: السانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي..أي أن لغته غير لغة العرب، أو أنه ركيك اللغة لا يقدر على التعبير الفصيح رغم كونه من العرب أو رغم تكلمه بالعربية.وعلى ضوء هذين المعنيين للأعجمي يمكن تفسير الآية كالتالي: ۱ - يقول الكفار : هناك شخص آخر يعلم محمدا، ولكن الذي يعزون إليه هذا القرآن لغته غير عربية.
٣٦٩ سورة النحل الجزء الرابع ٢ - أو أن ذلك الشخص لا يقدر على التعبير عن أفكاره بطريقة سليمة، ولكن لغة القرآن عربية تبلغ من الفصاحة والبلاغة بحيث تفيض بالمعاني والمعارف.وكلا الجوابين معقول جدًا ومدعم بالدليل ومفحم للخصم، ذلك لأن الذي يجهل اللغة العربية لا يمكن أن يعلّم أحدَ العرب شيئًا، كما أن الذي تكون حالته العقلية متردية بحيث لا يقدر على التعبير السليم لا يستطيع هو أيضا أن يزود غيره بشيء من المعارف.والآن أخبركم من هو الشخص الذي كان الكافرون يقصدونه بقولهم إنما يعلمه بشر.لقد اختلفت الروايات في اسمه، ولكني أرى أن الرواية التي تقول إن اسمه الأقرب إلى الصواب؛ ذلك لأن العبيد الآخرين الذين وردت أسماؤهم " جبر " هي كانوا ممن أعلنوا إسلامهم، وكانوا يقابلون النبي ﷺ جهارا نهارا دونما انقطاع، فلا مبرر لأن يختار الكافرون واحدًا منهم فقط ليصوّبوا إليه أصابع الاتهام، بل لاتهموهم جميعًا لو أرادوا ذلك.فأرى أن هذا الشخص الذي كان منفردًا من بينهم هو جبر الذي أسلم متأخرًا جدًا.كان لا يحضر مجلس النبي ، بل كان النبي يمر عليه أحيانًا وهو يقرأ آيات من الإنجيل أثناء عمله السيوف، كما تذكر الرواية.ويبدو أنه كان يقرأ الإنجيل مندفعا بحماسه الديني وهو يضرب الحديد لعمل السيوف، فكانت لغته الأجنبية تجتذب انتباه المارة، فكانوا يجتمعون حوله متفرجين.ويبدو أن الرسول ﷺ أعجب بحماسه الديني، فكان يقف عنده في بعض الأحيان، ليبلغه دعوة الإسلام، أن يدفعه حماسه الديني للتفكر في مسائل الدين بجدية.فأشاع بعض من رأى النبيله عند الرجل أنه يعلم النبي؛ حيث تذكر إحدى الروايات المذكورة أعلاه أن الناس سألوه أو صاحبَه : هل أنت تعلم محمدا؟ فقال: لا، بل هو يعلّمني.عسى ويتضح من هذا الحوار أن هذا هو الشخص الذي أشار إليه الكفار.فرد الله وعل عليهم بقوله السانُ الذي يُلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين..أي أنه لا يعرف اللغة العربية بتاتا، أو أن معرفته بالعربية ضئيلة جدا بحيث لا يمكن أن يقال عنه إنه يعرفها، ولكن لغة القرآن الكريم عربية فصيحة فكيف تبادلا الآراء والأفكار فيما بينهما يا تُرى؟ إن اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي كان بإمكانه أن يعلم بها النبي تعاليم
الجزء الرابع ۳۷۰ سورة النحل دينه، ولكن لسان النبي عربي ولسانه أعجمي، فكيف يستفيد العربي من معلومات الأعجمي؟ من الذي يمكن أن ينكر معقولية هذا الجواب؟ إنه معقول جدا.النبي ون والمعنى الآخر الذي يمكن أن تفسر به هذه الآية هو أن الشخص الذي يتهم بتعليم لغته الأم عربية، ولكنه غير قادر على التعبير عما يريد قوله.ونظرا إلى هذا المعنى أيضا فإن جواب القرآن على الاعتراض قوي ومفحم تماما، إذ قيل: إن لسان القرآن واسع المعاني بحيث سمي بكل جدارة عربي مبين..أي أنه بنفسه يرد على كل اعتراض أول بأول ردًّا واضحًا مقنعا ؛ فكيف يمكن لشخص بليد غير قادر على التعبير السليم عن خواطره أن يعلم محمدا لله هذه المعارف السامية التي جاءت فيها كل الدعاوي مصحوبة بأدلتها، والتي يجد فيها القارئ حلولاً مقنعة لجميع الإشكالات التي قد تتولد في ذهن الإنسان.= وهذا الجواب أيضًا يبلغ من القوة بحيث لا يحوم الشك حول صوابه ومعقوليته.رب قائل يقول هنا : أليس من الممكن أن يقص ذلك العبد البليد على النبي 鹦 بأسلوبه الرديء أحداث الإنجيل، فيصوغها النبي بالعربية؟ والرد على هذا السؤال يكمن في كلمة مبين، ذلك أن هذا العبد لو كان يعلّم النبي ﷺ تلك الحقائق في شكلها الناقص فبأي وسيلة تمكن النبي من تحويلها إلى حقائق مبينة..أي التي تشكل بنفسها برهانا على صدقها وحقانيتها؟ هل من أحد في الدنيا يستطيع أن يحوّل الكذب أو الخطأ إلى حقيقة مدعمة بالبراهين بحيث يتضح صدقها كالشمس في رابعة النهار؟ ومن المسيحيين من يثير هذا الاعتراض بأسلوب آخر، ويقول: إن القرآن يدعي بأنه يحكي من كتب اليهود والنصارى أمورًا لم يكن لمحمد أن يطلع عليها لكونه أُميًّا، فثبت بذلك أن الله تعالى هو الذي أخبره بها؛ ولكن الواقع أن محمدا كان يسمع من بعض العبيد المسيحيين روايات خاطئة لا ربط بين أحداثها ثم يضيفها إلى القرآن، ولا يتطلب هذا بالضرورة أن يسمعها من ذوي الذكاء الخارق وبما أن القرآن قد سرد
الجزء الرابع ۳۷۱ سورة النحل هذه القصص سردا خاطئًا فثبت أن محمدا قد سمعها من عبد بليد كهذا.فما يقوله القرآن لا يدفع عنه الاعتراض، وإنما يقويه أكثر ! وجواب ذلك هو أن الدعوى التي يعزوها المسيحيون هنا إلى القرآن الكريم لم ترد فيه في أي مكان.إن القرآن لا يعلن أبدًا بأنه ما دام قد ذكر أمورًا وردت في أسفار أهل الكتاب فثبت أنه من عند الله تعالى، وإنما يبرهن على صدقه بكونه يحوي حقائق ومعارف لا توجد حتى في أسفار أهل الكتاب.فمثلا قد أعلن الله قبل قليل في هذه السورة نفسها تالله لقد أرسَلْنا إلى أممٍ مِن قبلك فزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم فهو وَليُّهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمةً لقوم يؤمنون) (الآيتان: ٦٤ و٦٥).فهذه الآية تحدثت أولاً عن بعث الرسل في الأمم السالفة ثم عن نزول القرآن الكريم، وإنها لم تقل إن القرآن ما دام يذكر ما ورد في كتب الأنبياء السابقين فثبت أنه من عند الله تعالى، بل تقول إن الناس أعرضوا عن الأسفار السابقة واتبعوا الشيطان، فوقعوا في شتى الاختلافات والنزاعات وقد جاء القرآن ليفصل فيما يؤسس اختلفوا فيه، وليكشف الحقائق التي اختفت عن أعينهم.فبعد هذه الدعوى الصريحة في القرآن كيف يصح الزعم بأن محمدا كان صدقه على ما كان يسمعه من بعض العبيد من قصص كتب الأولين! ثم إن الآية التي نحن بصدد تفسيرها أيضًا تعلن أن فضل القرآن لا يكمن في من كتب الأولين، بل لأنه مبين.ذلك لأن كون الكتاب مبينا يتطلب أن يحتوي ذلك على معارف واسعة خفية عن الأعين، ويبين كل الحقائق مع أدلتها، ويرد على كل الاعتراضات بأجوبة مقنعة ولا يمكن حتى لأذكى الأذكياء أن يساعد محمدًا في تأليف مثل هذا الكتاب، ناهيك أن يُتوقع هذا من ذلك العبد الذي يتهمونه بالتعلم على يده.اقتباسه قد يقول البعض هنا: من الخطأ أن نعتبر ذلك العبد بليدا جاهلاً، فقد يكون محمد يستعين بعالم كبير آخر.والحق أن الكتاب النصارى الذين اعتبروا
الجزء الرابع ۳۷۲ سورة النحل "سرجيوس" " معلمًا للرسول ﷺ إنما فعلوا ذلك للسبب نفسه، مما يدل على كونهم أذكى من الآخرين حيث أدركوا أن البيان القرآني حول القضايا المختلف فيها بين الإسلام وأهل الكتاب أسمى من أن يؤلفه حتى أحد من المسيحيين ذوي الثقافة العالية، بَلْه ذلك العبد البليد، فاقترحوا شخصية وهمية باسم "سرجيوس"، قائلين: إنه كان راهبًا نسطوريا، وكان يعلم محمدًا.وبالرغم من أن الكتاب النصارى الآخرين أنفسهم قد أبطلوا هذا الرأي بالأدلة التاريخية، إلا أنني أود الرد عليه من الناحية العقلية.الحق أن النصارى لا يسيئون بهذا الرأي إلا إلى ديانتهم، إذ يعني ذلك أن الصورة الحقيقية لأهل الكتاب إنما هي تلك التي يرسمها القرآن وإن كان بعض البشر قد ساعد محمدًا في رسمها! ألا يعني هذا يا تُرى بطلان ديانتهم؟ لأن غاية ما حصل هو أنهم اعترفوا ببطلان ديانتهم وإن تعللوا بأنهم قد جعلوا القرآن أيضًا عرضة للشكوك والظنون! ولكن الظن لا يغني من الحق شيئا فإن ما يعزونه إلى القرآن قد أعلن علماؤهم أنفسهم أنه ساقط عن الاعتبار، ثم إن رأيهم هذا لا يُبقي من ديانتهم شيئًا، لأنه بمثابة اعتراف بأن كل ما ورد في القرآن من اختلاف مع أهل الكتاب إنما هو نتيجة بحث مستفيض قام به علامة بحاثة من خلال الفحص والتنقيب في المكتبات اليهودية والمسيحية، وكشف أخطاء ديانتهم الحالية إن غاية ما يمكن أن يعلّلوا به أنفسهم هو أن يقولوا: ليست اليهودية ما تقدمه الكتب اليهودية الحالية كالتوراة وغيرها، بل ما يقدمه القرآن وليست المسيحية ما تقدمه الأناجيل، بل ما يقدمه القرآن.أفلا منهم يعني هذا تصديقهم للقرآن يا ترى؟ وثمة أمر آخر جدير بالذكر.ربما يقول البعض: لماذا تفسر جملة لسان الذي يُلحدون إليه أعجمي بأن الشخص المشار إليه لا يعرف العربية أو لا يتقنها إتقانا يمكنه من التعبير السليم بها، ولم لا نفسرها بأن لغته الأم ليست عربية؛ وليس بمستحيل على مثل هذا الشخص أن يتعلم العربية فيما بعد إلى حد الإجادة، فيعلم محمدا؟!
الجزء الرابع ۳۷۳ سورة النحل والجواب أن هذه الآية لا يمكن أن تفسر بهذا المعنى، لأن القرآن الكريم قد " سجل في موضع آخر منه هذا الاعتراض مع الرد عليه فثبت من ذلك أن هذه الآية لا تقصد ما ذهب إليه المعترضون، وأن القسيس ويري" مخطئ في قوله بأن رد القرآن على هذا الاعتراض رد تافه يزيد الطين بلة.ذلك أن القرآن الكريم ما دام قد سبق أن تناول في سورة الفرقان السؤال الذي يستنتجه "ويري" وغيره من هذه الآية، وأجاب عليه هنالك جوابًا مفحما جدًّا، فكيف يمكن أن يعود ويجيب عليه هنا في سورة النحل جوابًا رديئًا؛ مع العلم أن "ويري" نفسه يعترف بأن سورة الفرقان أسبق نزولاً من سورة النحل، حيث كتب: إن آيات هذه السورة (أي الفرقان هي من أوائل الوحي المكي لمحمد (تفسير القرآن لـ "ويري" ج ٣ ص ٢٠٧)، بينما قال عن سورة النحل : إن جميع الشهادات الداخلية والخارجية تدفعنا لاعتبار هذه السورة من أواخر السور المكية (المرجع السابق ص ٢٤).فكيف يمكن لعاقل أن يصدّق أن القرآن قد ردّ على هذا الاعتراض نفسه في سورة الفرقان ردًّا قويًّا، ولكنه بعد حوالي ست سنوات لم يستطع أن يرد عليه بالقوة نفسها؟ لو كانت سورة النحل أقدم نزولاً من سورة الفرقان لجاز لأحد القول أن محمدًا لم يستطع فيها الرد على الاعتراض جيدا، غير أنه وجد الجواب المناسب فيما بعد في سورة الفرقان، ولكن المشكلة أن سورة الفرقان أسبق نزولاً من سورة النحل باعتراف الكتاب المسيحيين أنفسهم! وإيضاحًا للأمر أقدم الآن مقارنة بين ما ورد بهذا الخصوص في سورة النحل وما ورد في سورة الفرقان يقول الله تعالى في سورة الفرقان: وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانَه عليه قومٌ آخرون فقد جاءوا ظلما وزُورًا ظلمًا وزُورًا * وقالوا أساطير الأوَّلين اكتَتَبَها فهي تُمْلَى عليه بُكرَةً وأصيلا * قُلْ أَنزَلَه الذي يعلم السِّرَّ في السماوات والأرض إنه كان غفوراً رحيما ) (الفرقان: ٥ - ٧).قد ذكر القرآن هنا صراحة الاعتراض الذي يحاول "ويري" استنتاجه من الآية التي نحن بصدد تفسيرها في سورة النحل، ويتضح من ذلك جليًّا أن ما أثاره أهل °
الجزء الرابع ٣٧٤ سورة النحل مكة في سورة النحل مختلف عما أثاروه هنا في سورة الفرقان.ذلك (أولاً) لأن سورة الفرقان تخبر أنهم اتهموا النبي بالتعلم على أيدي جماعة من الناس، بينما هنا في سورة النحل وجّهوا أصابع الاتهام إلى شخص واحد.و(ثانيا) أن سورة الفرقان لم تحدد الجماعة المتهمة بتعليم النبي ، ولكن هنا في سورة النحل أشاروا إلى شخص معين معروف.و(ثالثًا) أن سورة النحل لم تحدد أي وقت لذلك، ولكن سورة الفرقان تذكر أن عملية التعليم هذه مستمرة بكرةً وأصيلاً.علما أن أصحاب النبي كانوا يجتمعون عنده في دار الأرقم بكرةً وعشيا لأداء الصلوات وتعلم القرآن (السيرة النبوية لابن هشام ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر).فظن المكيون لغبائهم أن بعض العبيد المسيحيين يجتمعون هناك الصحابة مع ليخبروهم أو يُملوا عليهم ما ورد في كتبهم، فيحفظه الصحابة بكرة وعشيا.ما كان لهؤلاء الجاهلين أن يفكروا أن المسلمين إنما يلتقون هناك لأداء الصلاة، فظنوا أنهم يجتمعون للتخطيط والتآمر.ولقد مررت شخصيا بتجربة مثلها مما يكشف تماماً حقيقة سوء الظن كهذا.فمنذ ما يقارب عشرين عامًا كنت في زيارة لمدينة لاهور.فجاء لمقابلتي الزعيم الآري الراحل الشهير "لاله رام بهغَت" مع زعماء آخرين أحدهم محرر الجريدة السيخية المسماة "شير بنجاب".وتصادف أن كان لي محاضرة في المساء، فمكثوا عندي لسماع المحاضرة أيضًا.ومن كثرة اللقاءات والمشاغل طيلة النهار لم أتمكن من تحضير آيات الذكر الحكيم التي كنت أود الاستعانة بها في محاضرتي.فطلبتُ إلى العالم الجليل المرحوم الحافظ روشن عليه – الذي كان طويل الباع في استخراج الآيات المطلوبة من القرآن الكريم بسرعة فائقة – أن يجلس على المنصة
الجزء الرابع ۳۷۵ سورة النحل بجنبي حتى إذا أشرتُ إليه أثناء الخطاب إلى فحوى آية من الآيات أريد الاستدلال * بها، قرأها علي.وبدأتُ الخطاب، وكلما أردتُ الاستدلال من آية قرأتُ على المرحوم بصوت خافت كلمات من تلك الآية أو أشرت إلى فحواها فكان يقرأ علي الآية كاملة، فكنت أقرأ الآية وأكمل حديثي.وفي اليوم التالي كتب محرر الجريدة السيخية فيها: لقد حضرتُ المحاضرة التى ألقاها البارحة إمامُ جماعة قاديان.كانت جميلة فعلاً، غير أنني لما قمتُ بالتحري والتجسس وذهبت وراء المنصة تبين لي أن حضرة الإمام كان قد أخفى هناك عالما كبيرًا كان يملي عليه باستمرار الموضوع الذي خطب به.فلم يزل الإخوة يضحكون بسبب هذه الطريفة لأيام كثيرة.ولما أُخبر محرر الجريدة بحقيقة الأمر ندم ندمًا كبيرًا، وقال يا ويلتاه كنت أظن أن ذكائي قد كشف سرا من الأسرار !! يبدو أن هذا ما فعله بعض أهل مكة أيضًا الذين أرادوا أن يتباهوا بذكائهم بين القوم.كان المسلمون لدى فراغهم من مشاغل الحياة اليومية يحضرون في دار الأرقم لأداء الصلاة وقراءة القرآن مع النبي الله بكرة وعشيا، فقال الكافرون: لقد عرفنا السر ، إنهم يجتمعون هنا لتأليف القرآن لأجل محمد.والحق أن في قول الكفار هذا آية لأولي الألباب، إذ اعترف الكافرون أن القرآن الكريم يبلغ من السمو والعظمة بحيث يستحيل أن يؤلّفه شخص واحد، ومن أجل ذلك قالوا: هناك مجموعة من الناس يساعدونه وراء الكواليس في تأليف القرآن: بعضهم يمده بالأدلة العقلية، وبعضهم يزوده بما ورد في صحف الأولين.والآن أفصل لكم ما أجاب به القرآن في سورة الفرقان على هذا الاعتراض.* مع العلم أن حضرة المؤلف له كان يلقي الخطب والمحاضرات ارتجالا بدون الاستعانة بأية مواد مكتوبة.(المترجم)
الجزء الرابع ٣٧٦ سورة النحل يجب أن نضع هنا في الاعتبار أمرين: (أولاً): هل يمكن لهؤلاء المتهمين القيام بما رموا به؟ و (ثانيا) هل يمكن لهذا الكلام الذي يقال أنه من تأليف هؤلاء العبيد أن يؤلفه البشر؟ لقد ردّ القرآن الكريم على السؤال الأول بقوله فقد جاءوا ظلمًا وزورًا.أي أن الطاعنين قد ارتكبوا ظلمًا عظيمًا حين اتهموا هؤلاء العبيد المساكين بذلك.أفلا يرون أن هؤلاء العبيد قد تعرضوا بسبب إسلامهم إلى أشد العذاب؟ فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء محمد الله القرآن، ثم يتحملوا من أجل هذا الكلام الملفق أنواع الاضطهاد ليل نهار فمنهم من نذروا للإسلام أرواحهم.ومنهم من استخرجت حدقات عيونهم.وكان بينهم زوجان قتلهما الكفار أبشع قتلة حيث طعنوا الزوجة بحربة في فرجها فماتت أمام عيني زوجها، وربطوا قدمي الزوج ببعيرين ونفروهما في اتجاهين معاكسين فانقطع المسكين قطعتين!!.كما عذبوا ابنهما أشد العذاب.وطالبهما الكفار أثناء التعذيب مرارا أن يكفرا بمحمد رسول الله الله حتى يُخلوا سبيلهما، ولكن الزوجين آثرا الموت على ترك الحق.الإصابة تحت "سمية"، وتفسير الرازي).إنه سيدنا ياسر..سيد الأحرار الذي كان يُدعى عبدا.وكان هو الآخر من بين العبيد الذين اتهموا بتعليم النبي.هل يصدق العقل أن يؤلف هؤلاء القرآن لمحمد، ثم ينذروا من أجله أرواحهم تحت وطأة هذه المظالم البشعة؟ لا شك أن ثورة الغضب المؤقتة أعمت أبصار أهل مكة، فلم يبصروا الحقيقة، ولكن أليس في العالم المسيحي اليوم عين تبصر الواقع ولسان ينطق بالحق، فيرفع صوته احتجاجًا على هذا الاعتراض الغاشم الذي طالما ردده أعداء الإسلام؟ والجانب الآخر من السؤال هو: هل يمكن أن يكون هذا الكلام من تأليف هؤلاء العبيد؟ وقد رد عليه القرآن أن ما تسمّونه أساطير كتب الأولين فهي ليست قصصا، بل هي أنباء أدلى بها عالم غيب السماوات والأرض..أي فيها
الجزء الرابع ۳۷۷ سورة النحل أخبار تتعلق بالمستقبل.والبديهي أن الإنسان لا يستطيع أن يعلم أخبار المستقبل ولا أن يخبر عنها.وأي شك في أن هذا الرد واضح وقوي جدا.إذن فإن سورة الفرقان هي وحدها التي تتحدث عن طعن الكفار بأن مجموعة البشر يعلمون محمدا ، وقد ردت عليه رداً مفحما بحيث إن كل إنسان شريف لن يردد هذا الاعتراض مرة أخرى.وأما سورة النحل فلا تعيد نفس الاعتراض، وإنما تتحدث عن اتهام الكفار عبدا معينًا معروفًا بتعليم محمد الله والحق أن ذلك العبد كان جاهلا باللغة العربية، وكل ما في الأمر هو أنه كان يردد فقرات من الإنجيل ربما باللغة اليونانية وهو منهمك في عمل السيوف؛ ولما رأى النبي الله و حماسه الديني أخذ يقف عنده لتبليغ رسالة الله أن عسى يسمع منه كلمةً ترشده إلى الحق.ومن أجل ذلك نجد أن الكفار لما سألوه : هل أنت تعلّم محمدا؟ قال: لا بل هو يعلمني.ولذلك يقول الله تعالى إن ذلك العبد الذي يوجهون إليه أصابع الاتمام أعجمي أي لا يعرف من العربية ما يستطيع به بيان موضوع علمي، بل غاية ما يمكن أن يساعد به هو أن يحفظه عبارات إنجيلية بالعبرية أو اليونانية، وفي هذه الصورة كان لا بد من وجود عبارات يونانية وعبرية في القرآن ولكن القرآن الكريم كله بالعربية.وحيث إن ذلك العبد لم يكن قادرًا على ترجمة العبارات الإنجيلية إلى العربية، وما دمنا لا نجد في القرآن أية عبارات عبرية أو يونانية..فمن هو المعلم ومن هو المتعلم إذن؟ النبي أليس هذا الرد القرآني ردًّا مقنعا؟ هل هناك أي رد هو أقوى من هذا؟ الحق أنه لن يقول بتفاهته إلا من هو غبى أو من قد أعماه التعصب والعناد؟ ومما يجدر بالانتباه أن الرواية التي أراها أكثر انطباقا هنا تذكر عبدين، لكنني قد تحدثتُ هنا عن عبد واحد هو جبر؛ وذلك لسبين: أولهما أنه يتضح من هذه الآية القرآنية أنهم كانوا يوجهون أصابع الاتهام إلى شخص واحد؛ وثانيهما أن هناك رواية أخرى تذكر عبدًا واحدًا، وهي التي ورد فيها أن الكافرين لما سألوه: هل
الجزء الرابع ۳۷۸ سورة النحل أنت تعلم محمدا؟ قال: لا، بل هو يعلّمني.فالذي شكوا فيه هو عبد واحد، وإن كان يشتغل معه هناك عبد آخر في عمل السيوف.وثمة أمر آخر بالغ الأهمية ويمكن أن يرشدنا إلى الصواب وهو: أكانت التوراة والإنجيل قد تُرجما إلى العربية إلى ذلك الوقت أم لا ؟ وهل كانت هذه الترجمة العربية متداولة بحيث يتسنى للعبيد العاديين قراءتها أثناء عملهم؛ إذ لولا ذلك لما كان بإمكان أولئك العبيد أن يستفيدوا من عبارات الكتب التي لغتها اليونانية أو العبرية، كما لم يكن النبي ﷺ ليستفيد منها، إذ يخبرنا التاريخ أنه لم يكن بين المسلمين أحد يعرف اللغة العبرية إلا عبد الله بن سلام (مسلم: الحدود)، وأما اللغة اليونانية فلم يذكر التاريخ أن أحدًا منهم كان ملما بها، بحسب معلوماتي.وفيما يتعلق بالأمر الأول فإن بحثي يؤكد أنه لم تكن التوراة والإنجيل قد تُرجما إلى العربية حتى ذلك الزمن.وما دامت ترجمة التوراة والإنجيل أيضًا غير موجودة فما بالك بتيسر ترجمة الكتب الهامشية مثل كتاب التلمود وغيره التي تذكر الروايات اليهودية.وإليكم الأدلة المؤيدة لموقفى لم يكن لدى أهل الكتاب عادة لترجمة الكتاب المقدس" حتى ذلك الوقت، وإنما اتجهوا إلى ترجمته في القرن الثالث عشر الهجري؛ ولذلك نجد المفسرين المسلمين - الذين حصلوا كل علم من العلوم المعروفة ليستعينوا بها في تفسير القرآن الكريم - قد ذكروا عند الحديث عما ورد في أسفار أهل الكتاب روايات خرافية لا أثر لها في التوراة والإنجيل ذلك لأنه لم تتيسر لهم ترجمتهما العربية.إذ لو كانت ترجمتهما متيسرة فلا يتوقع من الأمة التي درست واستوعبت فلسفة اليونان ومنطقهم أن لا تقرأها؟ ۲- كما يتضح من الروايات الإسلامية أن التوراة والإنجيل لم يكونا متوفرين عندئذ إلا باليونانية أو العبرية؛ فقد ورد في صحيح البخاري عن ورقة بن نوفل: "قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" (البخاري: كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي).
الجزء الرابع ۳۷۹ سورة النحل لا شك أن هناك روايات أخرى تذكر أنه كان يكتب من الإنجيل بالعربية، ولكن لا مناص لنا من ترجيح هذه الرواية، لأنه لو كانت التوراة والإنجيل متوفّرين بالعربية لوجد بين العرب، إلى جانب ورقة بن نوفل، كثيرون آخرون يقرءونهما بالعربية.بل أرى أن هنالك احتمالاً كبيرًا أن يكون الراوي قد أخطأ وذكر "العبرانية" مكان العربية، إذ لم تتوفر حينئذ إلا الترجمة اليونانية، وكانت الترجمة العبرية شبه منعدمة.-٣- لم تكن حتى لدى القبائل اليهودية المقيمة بالمدينة حينئذ أية ترجمة عربية للتوراة، لذلك نجد أن النبي كلما احتاج إلى فحص أمر من التوراة استعان بالصحابي عبد الله بن سلام الذي كان عالما بالعبرية (مسلم: كتاب الحدود، باب رجم اليهود).٤ - تؤكد لنا الأحاديث الشريفة أن سيدنا عمر انه كان بدأ تعلم العبرية لكي يستطيع قراءة التوراة والإنجيل (المشكاة: الإيمان)..وشهادة أحد الكتاب المسيحيين تؤيد موقفي.يقول د.الإسكندر سوتر: "Arabic versions: These come partly directly from Greek partly through syriac and partly through Coptic.Mohammad himself knew the gospel story only orally.century....Two The oldest manuscript goes no further back than Ath versions of the Arabic are reported to have taken place at Alexandria in the ۱۳th century".(The text and cannon of the new testament, p.Vε, Add.1990) من النص فهو يكتب تحت عنوان "التراجم العربية للإنجيل" أن بعضها تمت اليوناني مباشرة، وبعضها من الترجمة السريانية وبعضها من القبطية.وكانت أساس معرفة محمد بالأناجيل هو المعلومات الشفوية فقط.إن أقدم ترجمة عربية للإنجيل لا تعود إلى أبعد من القرن الثامن الميلادي - علمًا أن النبي ﷺ ولد في القرن السادس الميلادي- ثمة ترجمتان يقال أنهما تمتا بالإسكندرية في القرن الثالث عشر.لقد اتضح من هذه البراهين أن الإنجيل لم يكن قد تُرجم حتى عصر النبي وأن الذين كانوا يريدون قراءته كانوا يقرؤون النسخ اليونانية أو العبرية.إذا فلا
الجزء الرابع سورة النحل يمكن القول أن ذلك العبد المسمى بـ "جبر" كان يقرأ التوراة والإنجيل بالعربية، ويخبر النبي بمحتواهما.الواقع أنه كان يردد ما حفظه من عبارات إنجيلية باليونانية أو العبرية، فغاية ما يمكن أن يفعله النبي الله هو أن يحفظ بعض ما يتفوه به ذلك العبد من كلمات عبرية أو يونانية، ولكن ماذا سيجنيه من ذلك القدر يا ترى؟ وأخيرًا أود هنا إبراز إشارة قرآنية لطيفة تؤكد أن ذلك العبد هو "جبر".تتحدث الآيات التالية عن المرتدين، وهناك في حياة "جبر" حادث هام ذو صلة بأحد المرتدين.ذلك أن "جبر" كان مسلمًا في قلبه، ولكنه لم يجهر بإسلامه.ولما هاجر النبي إلى المدينة اختار عبد الله أبي بن كتبة بين من اختاره من الوحي، ولكنه شك مرة في وحي القرآن وارتد عن الإسلام.ولما لحق بالكفار بمكة أخبرهم أن "جبر" مسلم في الواقع، فأذاقوا "جبر" هذا صنوف الأذى سرح لسنوات طويلة (الإصابة تحت "جبر").ولقد ذكر الله تعالى بعد هذه الآية مباشرةً المرتدين، ليشير إشارة لطيفة إلى أن هذا العبد المتهم بتعليم النبي سوف يتعرض لمظالم الكفار بسبب أحد المرتدين.هذا، وثمة أمور هامة أخرى بهذا الصدد ألخصها فيما يلي للمنفعة العامة.冀 ١- إن القرآن الكريم لم يختلف مع ديانة واحدة فحسب، بل اختلف مع الديانات كلها.فمن أية ديانة كان ذلك الشخص "المعلم"؟ وهل كان يعلم النبي فمثلاً ضد دينه هو؟ ٢- لقد صحح القرآن أخطاء ارتكبتها التوراة في سرد أحداث التاريخ.أعلن أن هارون ا لم يشترك في عبادة العجل، كما برأ ساحة داود وسليمان أمور قد اضطر كتاب الغرب اليوم - بعد مرور ۱۳ قرنا ونوح من الكفر.الكفر.وهي على نزول القرآن - لتأييد موقف القرآن فيها، رافضين موقف التوراة.فهل كان باستطاعة عبد من العبيد أن يدلل النبي لا الهلال على هذه الأخطاء التوراتية؟
الجزء الرابع ۳۸۱ سورة النحل 3- - إن الأحداث التي سردتها التوراة قد ذكر القرآن حولها معلومات جديدة لم يعلمها أي طائفة من اليهود أو النصارى، ويتأكد صدقها بالبحوث العصرية كل يوم، ومثاله إخبار القرآن أن جثة فرعون محفوظة، وأنه سيتم العثور عليها.- تؤكد الروايات أن حادث وقوف الرسول ﷺ لدى هذا العبد وقع في السنة الرابعة أو الخامسة بعد إعلان دعواه ، فقد ورد فيها أنه كان يقف عنده في زمن المقاطعة الاجتماعية التي فرضها عليه الكفار.ولكن هناك سور من القرآن تتحدث عن المسيحية، أنها أسبق نزولاً من حادث المقاطعة هذا مثل مع سور الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والفرقان وغيرها.يقول الصحابي ابن مسعود ه - وكان من أوائل المسلمين - عن هذه السور: "إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي" (البخاري: كتاب التفسير والأنبياء)..أي أنها من السور القديمة التي نزلت أوائل البعثة والتي هي بمثابة مال تليد لي، إذ حفظتها منذ فترة طويلة.وهذه السور كلها تذكر وقائع اليهود والنصارى بكثرة.إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَايَتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ ) 1.0 شرح الكلمات الحجر.عذاب راجع شرح الكلمات للآية رقم ٥١ من سورة ا أليم: الأليم: الموجع (الأقرب).التفسير : أي أنهم رغم رؤية الآيات والمعجزات العظيمة يثيرون اعتراضات سخيفة، وبدلاً من قبول هذا التعليم السامي يضحكون عليه ويسخرون، فلا بد أن يحل بهم عذاب مؤلم.
الجزء الرابع ۳۸۲ سورة النحل صلے إِنَّمَا يَتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِشَايَتِ اللَّهِ وَأُولَتبكَ هُمُ الْكَذِبُونَ ) 1.7 التفسير : لقد قدّم الله وعل هنا حياة نبيه دليلا على صدقه، ليقيم الحجة على الكافرين، فقال: إنما يمكن أن يكذب على الله من لا يؤمن بقدرته ، ولكن محمدا رسول الله قد نذر نفسه لتوطيد عظمة الله وجلاله في الدنيا، بل يدعو الآخرين إلى تعظيمه ؛ فلا جرم أنه لا يعترض على مثل هذا الإنسان إلا من وع؛ اسود قلبه كلية.والمعنى الآخر هو أنه لا يمكن أن يتجاسر على الافتراء على الله إلا من هو كذاب بالعادة، ولكنكم أنفسكم تشهدون أن محمد ا لقد عاش بينكم صدوقا.مَن كَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَنِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَنُ بِالْإِيمَانِ وَلَكِن مِّن شَرَحَ بِالكُر صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ شرح الكلمات : و لیک مَنْ: يُعبر به عن الواحد والجمع (المفردات).۱۰۷ أكْرة: أكرهه على الأمر: حمله عليه قهراً.أكره فلانًا: حمله على أمر يكــــرهـه - وقيل – على أمر لا يريده طبعًا أو شرعًا ، فهو مكرة وذاك مكرة (الأقرب).قلبه القلب الفؤادُ ؛ وقد يطلق على العقل، وجمعه قلوب (الأقرب).مطمئن: اطمأن إلى كذا: سكن وآمن له (الأقرب).
الجزء الرابع غضب: الغضب : تَوَرانُ ۳۸۳ سورة النحل القلب إرادة الانتقام، وإذا وصف الله تعالى به دمِ فالمراد به الانتقام دون غيره (المفردات).التفسير: إلى هنا رد القرآن على اعتراض ضمني أثاره الكفار حين لفت أنظارهم إلى الانتصارات التي تنتظر الإسلام في المستقبل، وساق الأدلة على أن مثل هذا الحشر الروحاني يقيمه الله تعالى دائمًا في الدنيا.وبما أن هذه الأنباء قد أدلى بها القرآن على غرار قصص الأنبياء السابقين وحالاتهم لذا لم يلبث الكفار أن قالوا: لقد كنا نعلم من قبل أن القرآن هو من تأليف شخص آخر يزوّد محمدًا بما ورد في كتب الأولين.أما الآن فقد استأنف القرآن مرة أخرى الحديث عن الانتصارات الإسلامية، وأخبر المسلمين أن الترقيات لا تكون مصحوبة بالأمن دائمًا، بل قد تتسبب في بعض الفتن وتثير حماس المعارضين للانتقام، فعليكم أن تحافظوا عندئذ على إيمانكم بشكل خاص.كما نبههم أن من يرتدد منكم عن دينه لمصلحة دنيوية فسوف يعذب عذابًا عظيمًا."جبر" وأرى أن هذه الآية كانت تنطوي على نبأ عن ارتداد عبد الله بن أبي سرح، كما أسلفتُ.فبالإضافة إلى ما ذكرته من قبل من علاقة هذه الآية بما قبلها فبينهما صلة أخرى، وهي أن الكفار كما اتهموا النبي بالتعلم على يد العبد " ليثبتوا أن القرآن كلام البشر ، كذلك أرجع ابن أبي سرح ارتداده إلى أن القرآن ليس بكلام الله، بل هو كلام البشر.لا جرم أن هذا النبأ القرآني من العظمة والروعة بمكان، وتزداد عظمته أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم قد أخبر بارتداد هذا المرتد في الفترة المكية حين لم يكن قد تشرف بعد بكتابة الوحي القرآني، كما أشار القرآن أيضًا إلى الحجة التي سيبرر بها هذا الشخص ارتداده
الجزء الرابع ٣٨٤ سورة النحل ولعل قوله تعالى إلا من أكرة وقلبه مطمئن بالإيمان إشارة إلى "جبر"، فربما لم يجهر هذا بإسلامه بشجاعة خوفا من اضطهاد الكفار.هناك روايات تقول إن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر (تفسير الرازي)، ولكن يبدو من السياق أنها تنطبق على "جبر" أكثر.لقد بسط المسيحيون ألسنتهم بالطعن في هذه الآية أيضا فقالوا إن الإسلام يعلّم الجبن ويسمح بالارتداد اتقاء من الاضطهاد (تفسير القرآن لـ "ويري".الحق أنه قول باطل كمطاعنهم الأخرى، لأن الله تعالى لم يعلن هنا قط أنه سيغفر للمرتد جريمته، بل يقول فقط : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، أي أنه تعالى ما استثنى المرتد من العقوبة، وإنما فرّق بين فئة المرتدين والفئة السالفة، معلنًا أن الحكم فيهم سيصدر بعد قليل.ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَارِينَ (٢) شرح الكلمات ۱۰۸ استحبُّوا استحبه: أحبه؛ استحسنَه.واستحب الكفر على الإيمان: آثَرَه عليه (الأقرب).التفسير : لقد بين القرآن الكريم هنا أن الإسلام حق نزل من عند الله تعالى، فلا يمكن أن يرتد أحد عنه مللاً أحد عنه مللا منه، بل كل من يرتد عنه إنما يفعل ذلك لغرض دنيوي، وأنى لهذا الشخص أن يتوقع من الله جزاء حسنًا.لقد رد الله و هنا على زعم ابن أبي سرح بأنه ارتد عن الإسلام لأنه وجد وعل القرآن كلام البشر.يقول تعالى إن هذا يخفي السبب الحقيقي لارتداده وهو المطامع الدنيوية.
الجزء الرابع ٣٨٥ سورة النحل أُوْلَتَبِكَ أُولَنيك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ وَأَوْلَيكَ هُمُ الغَدِلُونَ (3) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخِرَةِ هُمُ الْخَسِرُونَ )) شرح الكلمات ۱۱۰ ۱۰۹ طبع: طبع الشيء: صوّره بصورة ما طبع عليه ختم عليه.طبع الله الخلق: خلقهم.طبع السيف: عَمِلَه وصاغه.طبع الدرهم: نقشه وسَكَّه (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إن الذين يرتدون عن دين الحق من أجل المكاسب المادية، لا بسبب خطأ في الفهم، نطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، لأنهم ضربوا أسوأ مثال للأخلاق الذميمة، وآثروا المنفعة القليلة على نعمة كبرى.وأضاف قائلا: لا جَرَمَ أنهم في الآخرة هم الخاسرون..أي ما دمنا نذيق هؤلاء الأشقياء أنواع الخزي والهوان في الدنيا فأي شك في أنه ليس لهم في الآخرة إلا العذاب، لأنها المكان الحقيقي للعقوبة على مثل هذه المعاصي.ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَ ورٌ رَّحِيمٌ (٢) شرح الكلمات فتنوا : فتَن زيدٌ عمرًا فَتْنا وفتونًا أوقعه في الفتنة ففتن هو أي وقع فيها، لازم ومتعد.فتنه : أعجبه.فتن المالُ الناس: استمالَهم.فتنه فتنةً: خبره.فتن فلانًا عن رأيه صده.فتن الصائعُ الذهب والفضة: أذابه وأحرقه بالنار ليبين الجيد من الرديء ويُعلم أنه خالص أو مشوب.وفُتِنَ الرجلُ في دينه: مالَ عنه.فتن فلان: أصابته فتنة فذَهَبَ ماله أو عقله، وكذلك إذا اختبر (الأقرب).
الجزء الرابع ٣٨٦ سورة النحل جاهدوا: جاهَدَ في سبيل الله مجاهدةً وجهادًا: بَذَلَ وجهادًا: بَذَلَ وُسْعَه.جاهد العدو: قاتله (الأقرب).التفسير : لقد أصدر الله وعمل هنا حُكمه في الذين استثناهم من قبل بقوله إلا من أكرة وقلبه مطمئن بالإيمان، وهذا الحكم هو أن من لم يقدر على تحمل اضطهاد الكفار وارتكب خطأ الارتداد في الظاهر بينما قلبه مرتاح بالإيمان فعليه بما يلي: أولاً- أن يهاجر من الأرض التي أعلن فيها ارتداده خوفًا من أهلها.ثانيا- أن يعمل على نشر الدين وكأنه قد نذر نفسه لنصرته.ثالثا- أن لا يتوقف عن هذه المجاهدة، بل يظل صابرًا عليها ومثابرًا، حتى يكفّر عن ارتداده بهداية الآخرين.رابعًا- أن لا يعود لمثل هذا الخطأ أبدا.فلو فعل ذلك كله فسوف يشمله الله الله برداء مغفرته.فثبت أن توبة المرتد لا تُقبَل إلا بعد هذه التضحيات كلها.إذن أفليس من من الظلم العظيم أن يرمي القسيسون الإسلام بأنه سمح بالارتداد في الظاهر اتقاء عدوان المعتدين (تفسير القرآن لـ "ويري")؟! وهذا واحد من الاعتداءات الكثيرة التي لم يزل هؤلاء المسيحيون يرتكبونها ضد الإسلام.يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَدِلُ عَن نَّسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَس مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) شرح الكلمات: ۱۱۲ تجادل : جادَلَه مجادلة وجدالاً : خاصمه شديدا (الأقرب).
الجزء الرابع ۳۸۷ سورة النحل التفسير: لقد وردت كلمة (يوم هنا ظرفًا لقوله تعالى من قبل: إن ربك من بعدها لغفور رحيم..أي في يوم القيامة الذي ستهتم فيه كل نفس بحسابها بكل جدية ولن تدخر وسعًا للتخلص من العقاب بأية وسيلة..سيجد هؤلاء – الذين تخاذلوا ولم يُبدوا الشجاعة الإيمانية مؤقتاً ثم ما زالوا في الإصلاح والتوبة وبذل التضحيات طيلة الحياة كفارةً لخطئهم - الله غفورا رحيما.فلينظر الذين يستنتجون من آية الارتداد أن الإسلام يعلم الجبن..إلى حجم التضحيات التي يطالب بها المرتدون.كيف يمكن للذي يدرك كبر هذه المسئولية أن يفكر في الارتداد؟ أنى للجبان أن يغادر وطنه، ويجاهد في سبيل الله، ويُوطّن نفسه على القيام بهذه الأعمال طيلة الحياة؟ إنه لا يوفق لهذه الأعمال العظيمة إلا الذي صَدَرَ عنه هذا التقصير لتساهل عابر ، أو الذي يتوب بعد ارتكاب الخطأ توبة صادقة.في عهد سيدنا عمر له أسلم أحد المرتدين المتنبئين هو طليحة بن خويلد أن ما عامله به عمرُ هو تفسير لهذه الآية.لقد خاض طليحة الأسدي، ويبدو بعض المعارك ضد المسلمين، ثم تاب وأراد أن يدخل في الإسلام، ولكن عمر الله لم يعف عنه.وتصادف بعدها أن اشتبك الصحابي شُرحبيل بن حسنة في إحدى أحد القادة الكافرين، وكان شُرَحْبيل نحيف الجثة وضعيفًا فيما يبدو، الحروب مع ولكنه كان ماهرًا في فن القتال بالسيف، فلما رأى الكافر أنه عاجز عن التغلب على شرحبيل ضربًا بالسيف تقدم وبطشه بيديه ورمی به الأرض.وكاد الكافر أن يجهز عليه بيد أن طليحة - الذي كان مسلماً بقلبه ولكنه كان لا يزال في صفوف الكفار لأن سيدنا عمر لم يقبل توبته - حين رأى هذا المشهد لم يستطع أن يكتم إيمانه أكثر، فبادر وضرب عنق صاحبه الكافر، وخلّص شُرَخبيل من الموت المحقق.وتأثر المسلمون من ذلك جدا وشفعوا الطليحة عند عمر الله بالعفو عنه.فقال عمر: سأعفو عنه شريطة أن يقضي باقي حياته في الجهاد مرابطا على
الجزء الرابع سورة النحل حدود الدولة الإسلامية.فقضى طليحة باقي أيام حياته مرابطا على الحدود، محاربًا الكفار في سبيل الله تعالى، وقضى نحبه مجاهدًا.لا شك أن ارتداده عن الإسلام كان عن عمد إلا أنني أرى أن سيدنا عمر به اقترح له هذه العقوبة مستدلا بالآية السالفة.وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ وَامِنَةً مُطْمَهِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) شرح الكلمات: ضرب الله مثلاً: ضربه بيده أصابه وصدمه بها.ضربه بالسوط: جلده.وضرب له مثلاً : وصفه وقاله وبينه (الأقرب).رَغَدًا: رغد عيشه رغَدًا: طابَ واتّسع وعيشةٌ رَغْدٌ ورَغَدٌ: واسعةً طيبة (الأقرب).الكعبة من أذاقها : ذاق العذابَ والمكروه : نزَل به فقاساه أذاقه صيَّره يذوق (الأقرب).التفسير: تتضمن هذه الآية نبأ بفتح مكة، ذلك لأن الله تعالى قد سبق أن عقد المقارنة بين الكفر والإسلام وأخبر بمصير الفريقين فكان هناك احتمال أن يفكر أهل الكفر خطأ أن مكة لن تسقط في أيدي المسلمين لما تتمتع به من حرمة سماوية، حيث كانوا قد رأوا في الماضي القريب كيف أن الله وعمل حمى أصحاب الفيل جنود أبرهة.لقد أبطل الله تعالى هنا ما كان لدى الكفار من اطمئنان زائف معلنًا أن مكة أيضًا لن تؤوي مثل هؤلاء المجرمين، بل سوف يسلب الله أهلها الأمان الذي يتمتعون به ويسلّط عليهم عذاب الخوف والجوع، لأن تصرفاتهم حَرَمَتْهم رحمة الله تعالى.
الجزء الرابع ۳۸۹ سورة النحل وبالفعل فقد حل هذا العذاب بنوعيه بأهل مكة بعد هجرة النبي.فأما عذاب الخوف فهو نتيجة حتمية للحروب التي خاضوها ضد المسلمين، وأما عذاب الجوع فأصابهم لما وقع عديد من قوافلهم التجارية في أيدي المسلمين، وحين تركوا أموالهم في الحروب غنائم للمؤمنين.وقد استخدم القرآن هنا كلمة لباس إيماء إلى أن العذاب بنوعيه سيكون شديد الوطأة بحيث يترك آثاره على أبدانهم، فتخفّ أجسامهم، وتتغير ألوانهم، وكأن الخوف والجوع ملتصقان بهم التصاق الثياب بالأبدان؟ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُمْ ظَلِمُونَ ) هنا هي ١١٤ مكة.فيوضح التفسير : لقد زادت هذه الآية الموضوع وضوحًا، وأكدت أن القرية المشار إليها الله تعالى: لقد تمت الحجة على أهلها إذ بعثنا لتحذيرهم رسولاً من أنفسهم، ولم نبعثه من الخارج كيلا يقولوا: كيف نعرف صدقه من كذبه ولسنا بمطلعين على أحواله وسيرته، ولكنهم رغم معرفتهم بأخلاقه الحميدة وبنصحه لهم كذبوه، لذلك قررنا عقابهم بالعذاب.لقد أدان الله عمل الكفار هنا بجريمتين: الأولى أنهم كذبوا رسوله، والثانية أنهم كذبوا ما اختبروه بأنفسهم وشاهدوه بأم أعينهم، حيث أنكروا دعوى النبي ﷺ رغم علمهم أنه لم يكذب في حياته قط.وقال الله وهم ظالمون..ليبيّن أن العذاب سيحيط بهم حتما على الله ظلمهم، بمعنى أنه لا يمكن أن ينجو هؤلاء الظالمون من العقاب، فيتحمل أولادهم تبعة أخطائهم، كلا، بل لا بد أن ينال الظالمون جزاء أعمالهم بأنفسهم.
الجزء الرابع ۳۹۰ سورة النحل فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلًا طَيِّبًا وَأَشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (3) ۱۱٥ التفسير : لقد نبأ القرآن من قبل عن عقاب الكفار بالخوف والجوع، والآن يبشر المؤمنين براحة البال وسعة الرزق.يقول سوف ينزع الله ل من الكفار رزقهم، ويزيد في أرزاق المسلمين؛ ولكن سيتم هذا مع فرق واضح ذلك أن الكافرين يكسبون المال بطرق مشروعة وغير مشروعة، ولكن رزق المسلمين سيكون حلالاً طيبا..أي سيأتيهم رزقهم من مصدر مشروع، كما سيكون نافعًا للصحة، ومقويا للجسم والعقل والقلب.علما أن كلمة طيبا نفي للخوف عن المؤمنين، لأن الطعام إنما ينفع الإنسان نفعًا حقيقيًّا ما دام في مأمن من الهموم والأخطار.كما أن قوله تعالى واشكروا نعمت الله أيضًا يشير إلى المعنى نفسه أي أنه تعالى قد من عليكم بوافر الرزق وراحة البال فاشكروا له على هذه النعم الظاهرة والباطنة.ومن الناس من يقول: هل الله بحاجة إلى الشكر من الإنسان، حتى يشكره؟ والجواب: تلقائيا من ١ - إنه اعتراض سخيف وتافه أصلاً، لأن الشكر تعبير طبيعي ينبع قلب كل إنسان شريف، اعترافًا بنعمة المحسن.فلا يتعلق الأمر بما إذا كان الله ول بحاجة إلى شكر منا أم لا.٢ - الشكر يقوّي إيمان المرء بالتوحيد كما أكدت هذه الآية نفسها.فكما أن عملاً من عنده الجسم إذا مارس الأعمال على التوالي والتكرار أصبح ذلك عادةً.كذلك العقل والقلب يتعودان على الأعمال التي يقوم بها الإنسان بالتكرار.فالذين يشكرون الله وعمل على نعمه دومًا فإن عملهم هذا يترك في عقولهم
الجزء الرابع ۳۹۱ سورة النحل وقلوبهم أثراً لا يمحي أبدًا، فيعتادون على الاعتراف بأن كل خير عطية إلهية، وهكذا يصبحون في مأمن من الأفكار الوثنية.إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدِّمَ وَلَحْمَ الْخِيزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غ ورٌ رَّحِيمٌ ) شرح الكلمات: ١١٦ أُهِلَّ : أَهَلَّ القومُ الهلال: رفعوا أصواتهم عند رؤيته.أهل الصبي: رفع صوته بالبكاء.أهل فلان بذكر الله: رفع صوته به عند نعمة أو رؤية شيء يُعجبه.أهل بالتسمية على الذبيحة أي قال الله ما أهل لغير الله به أي نُودي عليه بغير اسم الله عند ذبحه (الأقرب).اضطر: اضطره إليه : أحوَجَه وأجَأَه فَاضْطُرَّ هو بصيغة المجهول أي أُلْحِى بسم (الأقرب).التفسير : لقد نبه الله ع المسلمين من قبل أنه سيوسع عليهم الرزق، فعليهم أن يتعلموا من الآن أنه لا يجوز لهم إلا أن يستعملوا ما هو حلال وطيب معًا.وليكن معلومًا أنه فيما يتعلق بالمال فأساس حلّه أن يكتسب بطريقة مشروعة، وأما الطعام والشراب فتناوله يتطلب شرطًا إضافيًا وهو أن لا يكون مما قد نزل التحريم بشأنه.وهذه الآية تفصل ما هو حلال وما هو حرام.تكشف لنا الكلمات القرآنية أن الحل هو الأصل فيما يتعلق بالأكل والشرب، وأما التحريم فهو بمثابة الحظر والقيد فحسب.ولكن قال البعض إن الأصل هو الحرمة، لأن الله هو المالك، ولا يجوز استعمال شيء من دون إذن صاحبه.وهذا القول الأخير ليس بصحيح، لأن الله تعالى قد قال في القرآن الكريم صراحةً
الجزء الرابع ۳۹۲ سورة النحل إنه خلق كل شيء للإنسان، وسخره من أجله.وبعد هذا التصريح العام صار كل شيء حلالاً للإنسان إلا ما نهى الله عنه نصا أو إشارة.هناك اختلاف بين العلماء في تفسير لحم الخنزير، أيقصد به شحمه أم لا (القرطبي).لا شك أن هناك فرقا بين اللحم والشحم فيما يتعلق باللغة، ولكن المفسرين يرون أن الشحم مشمول في كلمة اللحم.وبالرغم أن حجة المفسرين ليست بقوية مثل حجة اللغويين، لكونها حجة ذوقية فقط، إلا أني أرى أن أكل شحم الخنزير حرام وحجتي هي قول النبي له بحرمة شحوم الميتة (البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الميتة).وتحريم الخنزير والميتة مذكور في آية واحدة وبكلمات واحدة، فلا بد أن يكون حكمهما واحدا.غير أن الانتفاع من الخنزير جائز، لأن جلده لا يؤكل بل يُستخدم لمنافع أخرى.فقد ورد في الحديث أن شاةً لأم سلمى رضي الله عنها ماتت فحملها البعض ليلقوها في الخارج.فقال لهم النبي ﷺ : لم لا تسلخونها وتنتفعون بجلدها؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة! فقال رسول الله : إنما حُرِّم أكلها.* جلد فثبت بذلك أن لا بأس في الانتفاع من جلد الحيوان الذي حُرّم أكله.بيد أن استعمال فرشاة الأسنان المصنوعة من شعر الخنزير مكروه، لأن الفرشاة توضع في الفم الذي هو أداة الأكل.هناك سؤال هام هل محرمات الأكل تنحصر في هذه الأشياء الأربعة، وليس هناك أي شيء حرام سواها؟ لقد أجاب بعض المفسرين على ذلك بأن "الحصر المستفاد من سياق الكلام وتصدير الجملة بـ (إنما) حصر إضافي بالنسبة إلى ما قالت الكفار "بتحريمها = ورد في الحديث : "أن النبي الله مَرَّ بشاة لمولاة لميمونة ميتة، فقال: ألا أخذوا إهابها فدبَغوه فانتفعوا به؟ فقالوا: يا رسول الله، إنها ميتة! فقال رسول الله : إنما حُرِّم أكلها" (مسند أحمد ج ٦ ص.(۳۲۹
الجزء الرابع ۳۹۳ سورة النحل (التفسير المظهري..بمعنى أن الكفار قالوا بتحريم البحيرة والسائبة وغيرهما من الحيوانات فرد الله عليهم أنها ليست بحرام وإنما الحرام ما نذكره هنا.والحصر في مثل هذه الحالة لا يكون لبيان العدد الكلي، وإنما لبيان النوع.وقال الآخرون أن هذا الحصر ،زماني، لأن هذه الأشياء حُرمت أولاً، أما ما سواها فترل به التحريم فيما بعد.ولكنه جواب يخالف الواقع، كما يدفعنا لاعتبار 6 قول الله تعالى إنما منسوحًا، مع أنه لا نسخ في القرآن في أي كلمة منه.وقد قال البعض الآخر مضطراً: إن الآية قد حضرت محرمات الأكل في الأربع المذكورة فقط، ولا شيء حرام سواها (الرازي، وروح المعاني وأقول : مما لا شك فيه أن الحصر يكون إضافيًّا أي نسبيا في بعض الأحيان، ولكنا نرى أن القرآن كلما تحدث عن محرمات الأكل قد حصرها في هذه الأربع فقط لا غير.لقد ورد هذا التحريم في الأماكن الأربعة التالية: سورة البقرة: ١٧٤، سورة المائدة : ٤ ، الأنعام ١٤٦ ، وهنا في سورة النحل.وفي سورتي الأنعام والنحل يكشف السياق أن الكافرين كانوا يحرمون الأشياء ويحلونها كيفما شاءوا، ولكن سورتي البقرة والمائدة خاليتان من أي ذكر كهذا، وإنما تناولت سورة البقرة هذه القضية خلال الحديث عن أعمال الخير، وأما سورة المائدة فذكرتها كموضوع مستقل من دون الإشارة إلى عادة الكفار في التحريم والتحليل؛ وأما هذه السورة أعني "النحل" فقد فصل الله فيها الحلال والحرام معًا.فما دام هذا الحصر موجودًا أيضًا في سورتي البقرة والمائدة، من دون الحديث عن عادة الكفار في التحريم والتحليل..فالقول بأن هذا الحصر إضافي ونسبي لا يبدو قولاً معقولاً.أما الذين يرون أن الحصر زماني أي أن هذا التحريم نزل في البداية، ثم نزل التحريم بأشياء أخرى فلا يبدو رأيهم سليمًا كذلك؛ إذ لو كان هذا الحكم منحصرا في السور المكية لأمكن التسليم بقولهم، ولكن الواقع أنه قد نزل في سورة البقرة أيضًا وهي سورة مدنية ويمتد زمن نزولها حتى السنة الثالثة بعد الهجرة؛ كما نزل هذا الحكم في سورة المائدة أيضًا وهي من أواخر السور نزولاً.
الجزء الرابع ٣٩٤ سورة النحل فما دام هذا الحكم بعينه مذكورًا في السور التي نزلت بعد الهجرة – وهي فترة قد نزل فيها التحريم بأشياء أخرى أيضًا - فثبت أن رأيهم ليس برأي سليم.أما الذين قالوا إن المحرمات تنحصر في هذه الأربعة فقط فأرى أنهم على حق في ذلك، إذ يستحيل تفسير الآية إلا بهذا المفهوم.وكان ابن عباس من الذين قالوا بهذا الرأي حيث سجل البخاري مذهبه هذا برواية جابر بن عبد الله.مذهب ابن عمر أيضا حيث ورد أنه "سئل عن أكل القنفذ، فتلا قُل لا أجد وهو فيما أُوحى إلي محرّما...الآية." (أبو داود: كتاب الأطعمة، باب في أكل حشرات الأرض) وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها أنها حين سئلت عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: قل لا أجد فيما أُوحي إلي محرّما...(روح المعاني، سورة الأنعام، وتفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، قوله تعالى: قُلْ لا أجد فيما أُوحي إلي).وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه: قُلْ لا أجد فيما أوحي إلى محرَّمًا...)(المرجع السابق).وهذا هو مذهب الإمام مالك أيضًا.أما السؤال: هل يجوز أكل كل ما سوى هذه المحرمات الأربع؟ فقد أجاب عليه نعم.ولكني أرى أنه لا يجوز أكل بعض الأشياء، غير أننا لا بعض الأئمة يمكن أن نسميها حرامًا بمفهوم المصطلح الشرعي المعروف.فقد روي عن سلمان قال: "سُئل رسول الله له عن السمن والجبن والفراء؟ قال: الحلال ما الفارسي Я أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه (ابن ماجة: كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن).وأستدل بقول النبي هذا على أنه ليس لنا أن نطلق مصطلح الحلال إلا على ما سماه الله لك حلالاً، ولا مصطلح الحرام إلا على ما سماه الله حراما، أما ما بينهما من الأشياء فيكون حكمها تابعًا للحلال أو الحرام، وليس كدلالة النص.وهناك في سورة المائدة أيضًا إشارة إلى هذا الأمر حيث قال الله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتلى عليكم (المائدة: ٢)..أي أحلت
الجزء الرابع ۳۹۵ سورة النحل لكم الأنعام من البهائم إلا التي ذكرت ضمن قائمة المحرمات.والأنعام أنواع مثل الإبل والمعز والشاة والبقر، فهذه حلال.به على ثم قال الله تعالى حُرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السَّبُعُ إِلا ما ذَكَّيْتم وما ذُبِحَ النصب )) (المائدة: (٤)..أي أن هناك محرمات إزاء هذه التي أحلت لكم وهي: الأول: كل ما أصبح ميتًا وإن كان من الحيوانات التي هي حلال، والثاني: الدم وإن كان من الحيوان الحلال أكله، والثالث: لحم الخنزير، والرابع كل حيوان ذكر عليه اسم أحد غير الله وإن كان من الحيوانات المباح أكلها.ثم فصل الميتة والدم أكثر فقال : والمنحنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أَكَلَ السَّبُعُ إلا ما ذَكَّيْتم...لأنها ليست محرمات إضافية وإنما هي أقسام الميتة والدم.والمنخنقة: ما مات خنقًا، والموقوذة: ما مات نتيجة الضرب الشديد، والمتردية: ما سقط من عَل فمات، والنطيحة: ما نطحه حيوان آخر فمات.وبعد هذا البيان كله يقول الله تعالى لرسوله الكريم إن المسلمين يسألونك ماذا أُحلّ لهم (المائدة: (٥).فلو كان قوله تعالى إنما حرم عليكم الميتة..إلخ) يعني أنه يجوز لكم أكل ما سوى هذه المحرمات الأربع فلم يكن ثمة داع لهذا السؤال بعد ذلك، لأنه سيصبح لغواً.ولكن الله تعالى سجل هذا السؤال وردّ عليه بالرغم من بيان الحلال والحرام من قبل مما يعني أن البيان السابق للحلال والحرام كان يكتنفه شيء من الغموض عند الصحابة فالتمسوا توضيح الأمر أكثر.والله تعالى أيضًا لم يردّ عليهم بأننا قد أخبرناهم بكل شيء، فلماذا يسألون مرة أخرى، بل سلّم بضرورة السؤال وأجاب عليه بقوله تعالى قُلْ أُحل لكم الطيبات (المائدة: (٥)..أي أن كل ما سوى هذه المحرمات الأربع إذا كان طيبًا فهو حلال، وإلا فلا.فثبت من ذلك أن ليس كل حلال بطيب كما لا يجوز أكل إلا ما هو طيب، أما ما لا يتصف بالطيب فلا يجوز أكله ولكن لا يمكن أن نسميه حراما؛ وقد
الجزء الرابع ٣٩٦ سورة النحل أشار الرسول الله أيضًا إلى هذا حيث قال: الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس.ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه ،محارمه وكما أن الراعي الحذر لا يرعى غنمه حول الحمى حتى لا * تقع في الحمى وهو غافل عنها فيستحق العقاب، كذلك المؤمن لا يرعى نفسه حول حمى المحرمات حتى لا يؤاخذ.فثبت أن هناك أشياء ما بين الحلال والحرام يشتبه على العامة أمرها، والحكم فيها يكون بالقياس والخبرة والمعلومات الطبية.ورغم أن هذه الأشياء المتشابهة بالحرام لا يمكن أن نسمّيها حراما، إلا أنه لا بد من تجنبها لأجل حصول التقوى.والحكم نفسه يجري على كل ما يصنعه الناس من أشياء جديدة، فعلينا أن نقيسه بالحلال البين والحرام البين، فإن كان أشبه بالحلال أكلناه، وإن كان أشبه بالحرام تجنبناه.ومثال ذلك التبعُ؛ فإن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال لما سئل عن التبغ قال: إنه قد اخترع حديثًا، ولكن نظرًا إلى تأثيره أرى أنه لو كان في زمن النبي الله لنهى عن تعاطيه (فتاوی المسيح الموعود ص ٢٠٦).الواقع أن الإسلام قد صنّف المأكولات درجات هي: حرام وممنوع، وحلال وطيب.والحرام ما حرّمه القرآن والممنوع ما منع منه النبي ﷺ وفقا للمبادئ التي وضعها القرآن، أو ما وُجد بعد النبي ﷺ وكره المسلمون تناوله بعد التحري والتجربة.والحلال ما هو طيب في وضعه الطبيعي، والطيب ما هو جيد في وضعه الحالي؛ بمعنى أن كل ما يجوز أكله في أية حالة فهو حلال، ومثاله لحم الكبش، * أقرب رواية بهذا المعنى هي: "الحلال" بيّن والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس.فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.ألا وإن لكل مَلِكِ حِمى، ألا وإن حمى الله محارمه" (ابن ماجة: كتاب الفتن).
الجزء الرابع ۳۹۷ سورة النحل ولكن بما أنه لا يمكن أكله نيئًا فلا يكون طيبا وهو نيئ، ولكنه يصير طيبا بعد الطهي وأفضل الطعام ما هو طيب، ثم الحلال.ثم هناك أشياء تندرج تحت الممنوع ولا يصح أكلها، فمثلاً في أيام الكوليرا إذا منع الطبيب من أكل الخيار فإنه لن يعود حينئذ طيبًا وإن كان حلالاً وطيبا في الأيام العادية.والأشياء التي هي دون الحرام أي هي ممنوعة فنقول عنها إنه لا أكلها..بمعنى أن أكلها سيضر بصحة الإنسان.يصح ولنتذكر أن الله تعالى قد خلق الحيوانات المختلفة لأغراض مختلفة.فبعضها للزينة لأنه جميل الشكل، وبعضها للغناء لأنه حلو الصوت، وبعضها للأكل لأنه جيد اللحم، وبعضها للتداوي لأن لحمه شفاء لمرض من الأمراض.فيجب أن لا يؤكل لحم الحيوان لمجرد كونه حلالاً، فقد يكون هناك حيوان لا يمثل لحمه خطرًا على صحة الإنسان، ولكن قد يكون فيه منافع أخرى أفضل؛ فمثلا إذا كان ذلك الحيوان يأكل الديدان التي تضر بالزروع أو بصحة الناس، فلن يعود طيبًا بالنظر إلى منافعه الأخرى ،هذه بالرغم أن لحمه حلال وطيب أساسا؛ لأن أكله سيؤدي إلى حرمان باقي الناس من فوائده العامة.لقد عُلّمتُ هذا الدرس منذ الصغر.فذات مرة رجعت إلى البيت بببغاء قمتُ بصيدها، فلما رآها أبي سيدنا الإمام المهدي قال لي: محمود، لحمها ليس بحرام ولكن الله تعالى لم يخلق كل حيوان للأكل.فقد جعل البعض الحيوانات جميل الشكل لكي تتمتع العيون برؤيته، وخلق بعضها حلو الصوت لتتلذذ الآذان بألحانه المطربة.إذن فقد جعل الله تعالى لكل حاسة من حواس الإنسان نصيبا من المتعة الموجودة في هذه النعم الحيوانية، فلا ينبغي للإنسان أن يسلب الحواس الأخرى ما يخصها من المتعة ويعطيها للسان فحسب.هلا نظرت إلى الببغاء وهي جالسة على غصن الشجر؟ أليست هي جميلة حقا!
الجزء الرابع ۳۹۸ سورة النحل إذن فالطيب هو ما لا يضر بصحة أكله، كما لا يؤدي أكله إلى سلب حقوق حواسه الأخرى أو حقوق غيره من الناس أو الحيوانات؛ بل من الضروري أن لا أكله إلى تجريح مشاعر الآخرين، فقد قال النبي ﷺ: "ما استخبته العرب فهو حرام" (روح المعاني: سورة الأنعام ولا يعني الحرام هنا أن آكله انما عند الله تعالى، وإنما المراد أنه يجب أن لا يأكله أمام العرب، لأن هذا سيؤدي إلى توتر العلاقات.يؤدي سيصبح ولحم البقر أيضًا يندرج تحت هذا البند في هذه الأيام بالهند، فعلى المسلمين أن يأخذوا الحيطة والحذر في أكل لحم البقر أمام الهندوس، ولا يتحدثوا حتى عن أكله عندهم لأن هذا يؤذي مشاعرهم.* وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ ج وَهَذَا حَرَامٌ لتَ تَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا : لمحُونَ شرح الكلمات : ۱۱۷ تصف راجع شرح الآية رقم ٦٣.: يفلحون: أفلَحَ الرجلُ : فاز وظفر بما طلب أفلَحَ زيد: نجح في سعيه وأصاب في عمله (الأقرب).التفسير: اعلم أن (ما) الواردة في قوله تعالى لما تصف ألسنتكم) إما مصدرية، والمعنى: لا تقولوا بناء على كذب لسانكم: هذا حلال وهذا حرام؛ * ذلك لأن الهندوس يقدسون البقر ويعبدونها.(المترجم)
الجزء الرابع ۳۹۹ سورة النحل وإما هي موصولة، والمعنى لا تقولوا عن الأشياء التي تكذب عنها ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام.والمراد من ألسنتكم هنا ألسنة زعماء القوم، لأن كل القوم لا يختلقون الكذب، وإنما زعماؤهم هم الذين يكذبون فيتبعهم الجميع.هي واللام في قوله تعالى التفتروا على الله الكذب للعاقبة، والمراد لا تقولوا هذا وإلا ستكون النتيجة أنكم ستصبحون في عداد المفترين على الله تعالى، لأن وحده يملك حق التحليل والتحريم.ثم قال الله تعالى إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون، وهذه حقيقة ثابتة، ولكن المسلمين لا يعيرون لها بالاً.والحق أن هذه أكبر علامة للمبعوثين من الله الله تعالى.وو متَنعُ قَلِيلٌ وَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ۱۱۸ التفسير: أي قد ينجو المفترون من عذاب الله لبعض الوقت، ولكنهم لا يعيشون طويلاً، بمعنى أنهم بعد إعلان وحيهم الكاذب لا يمكن أن يعيشوا مثل الفترة التي عاشها النبي ﷺ بعد نشر وحيه.وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْتَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَن سَهُمْ يَظْلِمُونَ ) شرح الكلمات: ۱۱۹ قصصنا: قصَّ أَثَرَه يقصُّ قَصَّا وقصصًا: تتبَّعَه شيئًا بعد شيء، ومنه: فارتدا على آثارهما قصصًا أي رجعا في الطريق التي سلكاها يقصان الأثر.وقص عليه
الجزء الرابع ٤٠٠ سورة النحل الخبر والرؤيا: حدّث بهما على وجههما ومنه نحن نقص عليك أحسن القصص..أي نبين لك أحسن البيان (الأقرب).التفسير : لقد نبه الله تعالى هنا الكافرين أن اليهود قد سبق أن ارتكبوا الخطأ الذي ترتكبونه اليوم فعاقبناهم، فسوف تلقون منا نفس الجزاء الذي لقيه هؤلاء اليهود.لقد اختلف المفسرون كثيرًا في تعيين معنى قوله تعالى (من قبل، فقال بعضهم إنه إشارة إلى المحرمات المذكورة في سورة الأنعام (تفسير مجمع البيان).ولكن هذا خطأ، إذ قد ورد في سورة الأنعام: قل لا أجد فيما أُوحِيَ إلي محرَّمًا على طاعم يطعمه (الأنعام: (١٤٦؛ فكلمات فيما أوحي إلي تدل أنه حتى قبل نزول سورة الأنعام كانت هناك أحكام نزلت في شأن التحريم.إذن فقوله تعالى من قبل لا يمكن أن يُعتبر إشارةً إلى المحرمات المذكورة في سورة الأنعام.وهنا نواجه مشكلة أخرى وهي أن هذه المحرمات الأربع ذكرت في أربع سور فقط في سورة البقرة وهي مدنية وفي سورة المائدة وهي أيضًا مدنية حيث نزلت في أواخر الفترة المدنية (انظر الرازي، تحت قوله تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم...)، وهنا في سورة النحل المكية التي تقول إن هذه الأحكام قد قصصناها من قبل، وفي سورة الأنعام المكية التي أشارت إلى نزول هذه الأحكام في الوحي السابق.فلا يمكن أن تكون كلّ من السورتين (أي سورتي النحل والأنعام) تشير إلى الأخرى، لأن كل واحدة منهما لا يمكن أن تكون قبل الأخرى.والمشكلة الأخرى أننا لا نجد هذا التحريم في أي سورة مكية أخرى.والمفسرون إما لم يهتموا بحل هذا اللغز، وإما أنهم لم يأتوا بأدلة مقنعة.فمثلاً قال بعضهم أن هذا إشارة إلى سورة المائدة.وهذا خطأ، لأن المائدة مدنية (تفسير القرطبي).
الجزء الرابع ٤٠١ يعني سورة النحل يطعمه أما الإمام الرازي فقال: إن سورة الأنعام هي أول السور التي نزل فيها هذا التحريم، وإن آيتها وقد فصل لكم ما حُرّم عليكم إشارة إلى آيتها الأخرى الواردة بعدها بقليل قل لا أجد فيما أوحي إلي محرَّمًا على طاعم (انظر تفسير الرازي: سورة الأنعام).ولكن جواب الرازي هذا ليس بصحيح، لأن الآية التي يعتبرها الرازي مشارا إليها أيضًا تقول لا أجد فيما أوحي إلي، مما أنها ليست بأول آية نزل فيها التحريم، بل هناك آية أخرى هي أسبق منها نزولاً وفيها جاء هذا الحكم.أما صاحب "فتح الباري" فقد رد عليه بجواب غريب ذي قيمة، وعندي أننا لو لم نجد حلا آخر لهذه المعضلة لكان هذا الرد أنسب جواب.إنه يقول: إن هذه الآية من سورة الأنعام تشير إلى سورة المائدة.لا شك أن "الأنعام" أسبق نزولاً " المائدة"، من ، غير أن "المائدة" كانت في علم الله و أسبق من "الأنعام" من حيث الترتيب النهائي للمصحف، لذلك قد أشار الله تعالى إليها وكأنها قد سبق نزولها، وهكذا برهن على أن ترتيب المصحف الحالي توقيفي أي بأمر الله تعالى.إن هذا الجواب غاية في اللطف والشفافية ويمكن أن يساعد على حل الآيات الصعبة الأخرى، إذ مما لا شك فيه أن السور الأسبق نزولاً والآخر ترتيبا في المصحف تحل في أحيان كثيرة غوامض السور التي هي آخر نزولاً وأسبق ترتيبا في المصحف.فمثلاً إن سورة الإسراء تفصل بعض المسائل المذكورة في سورة النحل، مع أن "الإسراء" أسبق من "النحل" نزولاً وآخر ترتيبا في المصحف.وهذا يشكل برهانا ساطعًا على الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.غير أننا لسنا بحاجة إلى مثل هذا الجواب هنا، إذ بوسعنا أن نحل هذه المعضلة سائرين مع الترتيب الطبيعي لنزول آيات القرآن الكريم أيضًا.وبيان ذلك أنه ثابت من القرآن نفسه أن سورة النحل أسبق نزولاً من سورة الأنعام، حيث نجد في "الأنعام" آيتين تشيران إلى موضوع سورة النحل؛ إحداهما قوله تعالى وقد فصل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه (الآية:١٢٠)، وثانيتهما قوله
الجزء الرابع ٤٠٢ سورة النحل تعالى (قُلْ لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إلي مُحرَّمًا على طاعم يَطْعَمُه إلا أن يكونَ مَيْتةً أو دَمًا مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رِجْسٌ أو فسقًا أُهل لغير الله الله به (الآية: ١٤٦).كما أن التاريخ أيضا يؤكد أن سورة النحل أسبق نزولاً من سورة الأنعام حيث ورد أن أحكام التحريم والتحليل هذه نزلت بعد حادثة الإسراء التي وقعت قبل الهجرة بفترة تتراوح ما بين ستة أشهر إلى سنة (الطبقات الكبرى لابن سعد: ذكر المعراج).كما تؤكد الأحاديث أيضًا أن سورة الأنعام نزلت كلها جملة واحدة لا على أقساط (تفسير "الإتقان" والمعجم الكبير للطبراني).فثبت أن سورة الأنعام نزلت بعد سورة النحل وأن ما ورد في آيتي "الأنعام" المذكورتين أعلاه إنما هو إشارة إلى ما ورد في سورة النحل نفسها.أما السؤال: ما هو المراد من قوله تعالى من قبل فجوابه سهل جدا، ولا ندري لم لم ينتبه إليه المفسرون الواقع أن من قبل ليس إشارة إلى أية سورة نزلت من قبل سورة النحل وإنما هي إشارة إلى آية وردت قبل قليل في سورة النحل نفسها، حيث قال الله تعالى فيها قبل هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بآيتين : إنما حرم عليكم الميتة والدمَ ولَحْمَ الخنزير وما أُهل لغير الله به فمَن اضْطُرَّ غَيرَ باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) (الآية: ١١٦).إذن فقوله من قبل إشارة إلى هذه الآية السابقة، إذ ليس ضروريا، لاستخدام تعبير من قبل، أن يكون الأمر المشار إليه قد وقع قبل سنة أو سنتين، بل كثيرًا ما يقول المؤلف "لقد كتبت من قبل، ولا يريد به كتابًا آخر له بل يقصد به أمرًا قد مرّ ذكره في الكتاب نفسه قبل بضعة أسطر.أما قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فهو إشارة إلى ما أن حُرِّم على اليهود من أشياء أخرى مثل شحوم البقر والغنم، فالله تعالى يخبر هذا التحريم لم يكن حقيقيًّا أبديًّا، بل فُرض عليهم عقابًا على بغيهم وظلمهم.وقد ذكر الله وعل هذا التحريم بالتفصيل في سورة الأنعام بقوله ومن البقر
الجزء الرابع ٤٠٣ سورة النحل والغَنَمِ حَرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أَوِ الْحَوايا أو ما اخْتَلَطَ بعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِم وإنا لصادقون (الآية: ١٤٧).ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَلَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَ ُورٌ رَّحِيمُ ) شرح الكلمات : ۱۲۰ السوء ما يَغُمُّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية من الأحوال النفسية : حميم (المفردات).والبدنية والخارجة من فوات مال وجاه وفقد جهالة: جهله جهالةً: ضدُّ علمه الجهالة: ضدُّ العلم والمعرفة (الأقرب).التفسير: لقد أخبر الله له من قبل أن اليهود ارتكبوا الظلم والعصيان فحلت بهم البلايا والآلام عقابًا لهم، أما هنا فينبههم أنهم لو تابوا الآن لوجدوا الله - رغم خطيئاتهم السابقة – غفورا رحيما.والحق أن هذا القانون ليس خاصا باليهود بل هو عام يشمل الناس كافة.ذلك لأن الآباء يتألمون طبعا بحلول المصائب بأولادهم كأن يمرض أحدهم مثلاً؛ فكما أنهم يتأذون من أجلهم في الدنيا فإنهم سيتألمون في الآخرة ألما شديدا لو دخل أولادهم النار.فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي سيتألم يوم القيامة حين يرى بعض الناس الذين كانوا أصحابًا له في الظاهر يدخلون النار حيث قال : "إنه يُجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أُصيحابي أُصيحابي" (البخاري: كتاب التفسير سورة المائدة).فلكي ينجي الله و عباده المحبوبين من هذه الآلام فإنه يعامل ذريتهم بلطف خاص، كما صرح بذلك في قوله والذين آمنوا واتبعتهم ذُرِّيَّتُهم بإيمان أَلْحَقْنا ذُريتهم (الطور: ٢٢)..أي أنه تعالى سوف يُلحق بهم في الجنة أولادهم وإن كان أولادهم أضعف هم منهم إيمانا.ومن أجل ذلك نجد القرآن يعد الأنبياء والصالحين مرارًا بأن الله تعالى سوف يعاملهم
الجزء الرابع ٤٠٤ سورة النحل بفضل خاص من عنده لكيلا يتأذوا بما يصيب أولادَهم من عذاب.وبما أن القرآن الكريم يعلن: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير، فثبت أن كل قوم يحظى بهذا الفضل الإلهي الخاص ولا خصوصية لليهود في ذلك.أما قوله تعالى للذين عملوا السوء بجهالة فاعلم أن الجهالة لا تعني هنا عدم العلم بل تعني عدم العرفان، لأن الذي يرتكب الخطأ لعدم العلم لا يعاقب.فالمراد أن الذي يعمل السوء لعدم العرفان أي أنه يعلم أن ذلك العمل إثم، ولكنه لقلة التقوى وخشية الله و لا يضبط نفسه ويقع في السوء – يستوجب العقاب إلا أن يتوب، لأن تقاعس المرء عن كسب التقوى رغم علمه بضرورته يُعتبر متعمدا.والحق أن العرفان هو الذي ينجي المرء من الإثم، أما الذين يرون الكفاية في العلم الظاهر فإنهم يقعون في المعاصي في آخر المطاف.فعلى الإنسان أن يسعى دوما ليزداد عرفانًا أي خشية الله وتقواه.واعلم أن الجهالة نوعان: أبدية ومؤقتة.فمن كان فريسة للجهالة الأبدية يبقى محروما من العرفان كلية، إذ لا يجد اللذة إلا في الإثم.أما الجهالة المؤقتة فقد يصاب بها حتى العارفون الذين ليسوا على درجة عالية، لأن مستوى عرفانهم يهبط في بعض الأحيان فيقعون فريسة لأهواء النفس.فقد ورد في الحديث الشريف: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فيخرج منه الإيمان فيصير فوق رأسه كالظُّلّة..أي أن حالة قلب المؤمن لا تكون حالة إيمان في ذلك الوقت.وقد قال بعض الشارحين في قوله : "فيصير فوق رأسه كالظلة" أن الإيمان يشفع له عند الله تعالى.* ورد في الحديث بهذا المعنى: "إذا زَنَى العَبدُ خَرَجَ منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان" (الترمذي: أبواب الإيمان، باب لا يزني الزاني).
الجزء الرابع ٤٠٥ سورة النحل وأما قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فأخبر فيه أن على الإنسان أن لا يكتفي بأن يتوب في قلبه فحسب، بل عليه أن يهتم بإزالة العوامل التي حملته على الإثم، حتى لا يعود لمثله أبدًا.أما إذا كانت كلمة وأصلحوا)) بمعنى إصلاح الآخرين فالمراد أن عليه أن يهتم بإصلاح الآخرين أيضا كفّارةً لذنوبه، ليثاب على هدايتهم، حتى إذا بقي نقص في أعماله سُدّ بهذا الأجر.إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتَا لِلَّهِ حَنِيًّا وَلَمْ يَكُ مِنَ ۱۲۱ المُشركين.شرح الكلمات: أمة : الأمة : الإمام الرجلُ الذي لا نظير له؛ معلّم للخير؛ الجامع للخير (التاج).قانتا : قَنَتَ يقنت قُنوتًا: أطاعَ، يقال: قنت الله وقنت الله.وقنت له: ذلّ.وقنت دعا؛ قام في الصلاة؛ أمْسَكَ عن الكلام القانت: القائم بالطاعة الدائم عليها؛ المصلّي (الأقرب).حنيفًا: الحنيف: الصحيحُ الميل إلى الإسلام الثابتُ عليه؛ المائل عن دين إلى دين؛ المسلم، جمعه الحنفاء (الأقرب).التفسير : لقد ذكر الله و هنا عدة صفات لإبراهيم القل.فسماه أولاً أُمّة، وله ثلاثة معان: 1 - أنه كان معلّمًا للخير.٢ - أنه كان جامعًا للخير إذ كان متحليًّا بسائر الأخلاق الفاضلة.- أنه كان ذا فطرة عالية مزودة بالقوى والكفاءات التي تنشئ الأمم، وكأنه كان بمثابة النواة لشجرة الأمة.
الجزء الرابع ومن صفاته الأخرى: ٤٠٦ سورة النحل - أنه كان قانتا لله..أي مطيعا له، كثير الدعاء.ه - أنه كان حنيفا..أي كان عنده مقاومة شديدة ضد الباطل، فما كان ينثني عن الحق أبدا.٦ - أنه لم يكن من المشركين..بمعنى أنه كان موحدا كاملاً.ومفهوم التوحيد الكامل مستفاد من كون هذه الجملة جاءت بعد الصفتين: قانتا لله حنيفا ، مما أن يوضح قوله تعالى ولم يَكُ من المشركين لا يراد به موحدا عاديًّا.الحق أن المرء ذا المزايا والكفاءات بشكل ملحوظ يصاب عمومًا بالزهو والعُجب والأنانية والاعتداد بالنفس، وهذا أيضا نوع من الشرك.فالله تعالى يخبرنا أن إبراهيم - بالرغم من كونه متحليًّا بهذه المحاسن والكفاءات - لم يزل عبدا لربه، ولم يقع في الشرك قط بعزو أي من هذه المزايا إلى ذكائه ومهارته.ج شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَنهُ وَهَدَنَهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ الكلمات شرح اجتباه: اختاره واصطفاه (الأقرب).۱۲۲ التفسير : أي أن إبراهيم اللي كان يرى أن كل ما فيه من محاسن ومزايا إنما هو تعالى، ولذلك كلما عطية ربانية، وأن كل هذه الكفاءات إنما هي هبة من 1 تألقت محاسنه ازداد شكرًا الله وإنابة إليه سبحانه وتعالى.سنة من الله وعمل أن الإنسان حين يتحلى بهذه الصفات الحسنة فإنه تعالى يصطفيه ليشمله بفضل خاص من عنده، ولأجل ذلك قال الله تعالى عقب ذلك اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم..أي من أجل هذه المحاسن في إبراهيم أحببناه واصطفيناه لأنفسنا.
الجزء الرابع ٤٠٧ سورة النحل لقد قال الله وعمل في صفة هذا الصراط إنه مستقيم ليشير إلى أنه كان طريقًا مؤديا إلى الله تعالى، لأن الخط المستقيم إنما هو ذلك الذي يكون بين نقطتين، وفي المصطلح الديني يكون الله تعالى والعبد بمثابة هاتين النقطتين؛ فالصراط الذي يوصل العبد إلى الله تعالى هو المستقيم، أما الذي لا يوصل إليه تعالى فلا يمكن أن يوصف بالاستقامة لأنه ينحرف عن جهة النقطة التي هي الغاية.هذا، وعلاقة هذه الآية بما قبلها هي أن الله تعالى قد نبه المسلمين من قبل أنه سوف يمتعهم بنعمه، فعليهم أن لا يكونوا مثل أهل مكة الذين رفضوا الشريعة السماوية أصلاً، مكتفين بما اخترعوه من عند أنفسهم من قوانين وعادات؛ كما على المسلمين أن لا يكونوا مثل اليهود أيضا الذين اختلفوا في شريعة الله وخالفوها؛ أما الآن فيخبر الله وعمل المسلمين بما يريده منهم، فيقول: عليكم أن تكونوا كعبدنا إبراهيم، وتتصفوا بمثل صفاته، لكي نعاملكم كمعاملتنا إياه.أما كيف عامَلَ الله إبراهيم ال فهو مذكور في الآية التالية.صلے وَءَاتَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ ۱۲۳ التفسير: يخبر الله تعالى أنه بسبب هذه المزايا وفقنا إبراهيم لإحراز رقيّ عظيم يعني في الدنيا والآخرة ؛ فمنحناه حياة رخاء وراحة وجعلناه في الآخرة من الصالحين.واعلم أن كون إبراهيم في الآخرة من الصالحين أنه سيُبعث في الآخرة بكفاءات ملائمة تماما مع الترقيات العليا التي تكون في الآخرة..بمعنى أنه ال سيُبعث جاهزا لأن يفوز بأسمى النعم وينتفع بها.وقال الله تعالى وآتيناه في الدنيا حسنة ليؤكد أننا نحن الذين وهبنا له هذه النعم.كما بين بذلك أنه لا يمكن لأحد أن يقول بأن إبراهيم لم يحرز أي رقي مادي لذلك فلم يكن أمامه أية فرصة ليفسد كلا، بل أعطيناه الرقي المادي أيضًا.والتوراة أيضا تؤكد أنه بالرغم من أن إبراهيم هاجر من وطنه ولكن الله
الجزء الرابع ٤٠٨ سورة النحل تعالى أصلح وضعه المادي، كما منحه الحكم تكوين ١٣: ٢ و ١٤ - ١٦)، ومع ذلك لم يبرح عاكفا على عتبة الله عل.فكأن الله ينصح المسلمين: إذا نلتم الحكم والملك فاعتبروا كل تقدم وانتصار نعمةً إلهية وأمانة ربانية، كما فعل إبراهيم، ولا تكونن من المتكبرين.ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيًّا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) شرح الكلمات: ١٢٤ ملة: الملة: الشريعة أو الدِّينُ.وقيل: الملةُ والطريقة سواء، وهي اسم من أمليتُ الكتاب، ثم نُقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي، وقد تُطلق على الباطل كـ "الكفرُ ملةٌ واحدةٌ"، ولا تضاف إلى الله ولا إلى آحاد الأمة (الأقرب).التفسير: لقد أوضح الله ولا هنا نفس المعنى الذي أشرتُ إليه آنفا، حيث نبّه المسلمين إلى ضرورة اتباع سنة إبراهيم، مؤكدًا أنه ما كان من المشركين..أي لا تتغافلوا، أيها المسلمون، عن الإيمان بالله تعالى والتوكل عليه إبان الانتصارات والترقيات.لقد قام بعض النصارى باستنتاج خاطئ من هذا حيث قالوا إن محمدا كان مجرد تابع لدين إبراهيم (تفسير القرآن لــ "ويري"، وحياة محمد للسير وليم ميور ج ٢ص ١٥٦).الحق أن الآية لا تقصد هذا أبدا، وإنما يأمر الله نبيه أن يكون كامل الشكر الله وكامل التوكل عليه كما كان إبراهيم.إنه تعالى لم يأمره أبدًا باتباع إبراهيم في الأحكام التفصيلية، وإنما فيما ذكر أعلاه فقط.وأي شك في أن كل إنسان بحاجة إلى اتباع إبراهيم في هذا المجال، ولا غنى لأحد بداية من آدم إلى آخر - شخص في الدنيا - عن التحلي بهذه الصفات.والحق أن جميع أهل الله قبل
الجزء الرابع ٤٠٩ سورة النحل إبراهيم كانوا متصفين بهذه المحاسن ،مثله، ولكن الله و قد خص إبراهيم بالذكر هنا لأن أهل مكة كانوا يعتبرونه أبا لهم (محاضرات) تاريخ الأمم الإسلامية ج ١ ص (٥٦).وأي شك في أن استثارة مشاعر الغيرة لدى الناس بذكر آبائهم خير سبيل لنصحهم وإصلاحهم.لم يملك السير وليم ميور إلا أن يعلق على هذه الآية قائلاً: لقد انكشف على محمد في زمن تلك الجاهلية أن الله تعالى لم يزل يرسل أنبياءه إلى جميع الأمم على مر العصور.كذلك يُجري الله وعل الحق على لسان العدو أحيانًا! رو ج إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَ وا فِيهِ ۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ تَحْتَدِ ونَ شرح الكلمات: ۱۲۵ السبت: سبت الرجلُ سَبْتًا: استراح السبتُ يوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد (الأقرب).التفسير: لقد احتار المفسرون حيرة كبيرة بسبب ذكر القرآن السبت هنا في سورة النحل مع أنها مكية! وقد أجاب عليه المستشرقون بجواب غريب فقالوا: يبدو من ذلك أنه كان هناك حديث عن اليهود في هذه السورة قبل هذه الآية، ولكن الآيات التي كانت تشتمل على ذكر اليهود ضاعت من القرآن ولذلك لا نجد في العبارة القرآنية هنا ترابطا.
الجزء الرابع 21.سورة النحل أما المفسرون فقد علل بعضهم ذلك بقوله: بما أن الله تعالى يأمر المسلمين هنا بفعل الصالحات، فأشار هنا إلى واحد من تعليماته لليهود الذين خالفوا أمر الله فعوقبوا؛ لكي يأخذ المسلمون الحيطة والحذر فيما يتعلق بأحكام الله تعالى.أما قوله تعالى جعل السبت فقال البعض إن تقديره: "جعل وبال مخالفة السبت"، والمعنى: إنما نزل عقاب مخالفة السبت على الذين اختلفوا في أمره (الكشاف).بينما قال أحد المفسرين المعاصرين أن السبت هنا بمعنى القطع (انظر بيان القرآن).ولكن هذا ليس بصحيح، لأن العرب لا يستعملون السبت بهذا المعنى في مثل هذه المناسبة ألبتة.بسبب وعندي أن السبت هنا يعني وبال السبت.وهناك نظائر كثيرة في القرآن الكريم والأدب العربي لحذف المضاف كما حصل هنا.فالمعنى إنما وقع وبال السبت على الذين اختلفوا فيه.ولقد أكد القرآن في سورة البقرة أيضا أن اليهود عوقبوا مخالفة السبت (الآيتان: ٦٦ و ٦٧).أما السؤال: ما علاقة السبت بالآيات السابقة فجوابه كالآتي: كان عند اليهود - قبل نزول القرآن بل حتى اليوم - اعتقاد بأن كل ما لاقوه من هلاك و دمار إنما سببه مخالفتهم للسبت، وأنه لن يُكتب لهم العز والغلبة ما لم يقيموا حرمة السبت مرة أخرى.ففي قرننا هذا العشرين الذي نجد فيه المسلمين ينتهكون حرمة يوم الجمعة والمسيحيين ينتهكون حرمة يوم الأحد..نجد لدى اليهود جمعيات دينية تدعو إلى توطيد حرمة السبت.وقد حدث أن حاول أصحابها إكراه الناس على احترام السبت في بعض القرى بفلسطين مما أدى إلى نشوب الفتن والفساد في أماكن عديدة.لقد قيل لليهود في الآيات السابقة إن رقيكم منوط الآن بقبول الإسلام، لذا كان من الممكن أن يفكروا في أنفسهم أنهم لو أسلموا فلن يستطيعوا احترام السبت الذي هو مدار رقيهم في الواقع، لأن المسلمين يحترمون الجمعة لا السبت،
سورة النحل الجزء الرابع فكان لزاما على القرآن أن يرد على هذه المخاوف اليهودية، وجاء الرد عليها هنا في هذه الآية، حيث يحذر الله اليهود بقوله إنما تملك الأمم بسبب مخالفة أوامر الله تعالى، وأن اليهود لم يهلكوا من قبل إلا جراء مخالفتهم أوامر الله تعالى عن حرمة السبت؛ وما دام الله يأمرهم الآن أن يدخلوا في عهد جديد عن طريق الإسلام، فعليهم أن يدركوا أن من يخالف هذا الأمر الإلهي الجديد سيجلب على نفسه الدمار، وبالتالي لن ينال اليهود العزة مرة أخرى وإن أقاموا حرمة السبت الآن، وإنما ينالونه الآن بقبول الإسلام والعمل بتعاليمه لا غير.معه ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَندِ لَهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ وَجَندِلْهُم صلے و عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ شرح الكلمات : ١٢٦ الحكمة: العدل العلم الحلم؛ النبوة؛ وقيل: ما يمنع من الجهل؛ وقيل: كلُّ كلام موافق الحق؛ وقيل: وضع الشيء في موضعه وصواب الأمر وسداده (الأقرب).التفسير لما كان أوان انتشار الإسلام على نطاق واسع قد حان، وكان على : المسلمين أن يصدعوا بالدعوة بين اليهود والنصارى الذين كانت لديهم أسفارهم..لذا نبه الله و المسلمين إلى ضرورة اتخاذ موقف أقوى في مواجهة هؤلاء؛ لأنه لدى الحوار مع المشركين ما كان على المسلمين - لحسم الأمر نهائيا إلا أن يبطلوا عقيدة الشرك فقط، ولكن لدى مواجهة أهل الكتاب لم يكن للمسلمين بد من الخوض في نقاشات مستفيضة للمقارنة بين الإسلام وشرائع -
الجزء الرابع ٤١٢ سورة النحل الكتابيين، فأمر الله له الا الله المسلمين منذ البداية أن يلتزموا الحكمة دوما عند مناظرة أهل الكتاب.علما أن كل المعاني التي سجلناها لكلمة "الحكمة" تنطبق هنا.خذوا منها مثلاً العلم، فتعني الآية على ضوء هذا المعنى: عليكم أن تدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام بناء على ما ورد في صحف أنبيائهم من أدلة علمية.ولكن المؤسف أن المفسرين لم يُولُوا هذا الأمر الرباني العناية الكافية، فنقلوا في تفاسيرهم كل ما سمعوه عن التوراة من رطب ويابس، مما جعل الإسلام عرضةً لمطاعن المسيحيين إلى اليوم.ومن معاني الحكمة صواب الأمر وسداده..فتعني الآية: عليكم أن تواجهوهم بدليل قوي ليس بهزل؛ ذلك لأن بعض الناس يخطئون أثناء النقاش حيث يقدمون الأدلة الثانوية مكان الأدلة الرئيسية الحيوية، مما يتيح للخصم أن يعترض أكثر فأكثر؛ لذلك أمر الله وعمل المسلمين أن يزنوا الأدلة أولاً، ولا يتصدوا للخصم إلا بما هو أقوى وأفضل البراهين.ومن معاني الحكمة العدلُ..فتعني الآية: عليكم أن لا تخاصموهم بما يمكن أن يرتد عليكم، لأن هذا الأسلوب بعيد عن الإنصاف، كما يتيح للخصم فرصة الطعن، مما يعرضكم للندم والفضيحة.ليس الحق أن ما يثيره الآريون الهندوس والمسيحيون اليوم من اعتراضات ضد الإسلام عدلاً..بمعنى بمعنى أنهم يثيرون ضد الإسلام الاعتراضات التي تقع على دياناتهم بشكل أشد فإذا كانت التعاليم الإسلامية التي يعتبرونها خاطئة فلماذا يدينون بأديانهم التي فيها تعليمات مماثلة؟! وبالرغم أن الإسلام ينهى عن إثارة مثل هذه المطاعن، إلا أن مسلمي اليوم غافلون، للأسف، عن هذا التعليم الرباني كليةً حيث يثيرون ضد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية من الاعتراضات ما يُعتبر قاسما مشتركًا بين الأنبياء والمرسلين جميعًا.فلو اعتُبرت هذه المطاعن صحيحة لكان معنى ذلك أن هؤلاء
الجزء الرابع ٤١٣ سورة النحل الطاعنين يكفرون في الواقع بالأنبياء كافة، لأن تلك الاعتراضات قد وجهت إلى الأنبياء الآخرين أيضًا! خصمه.ومن معاني الحكمة الحلم..فتعني الآية: عليكم أن تناقشوهم بالرفق والعقل، لأن الذي يحتد في النقاش حماسًا وغيضًا لا يستطيع أن يُقنع ومن معاني الحكمة النبوة..فتعني الآية: عليكم أن تدعوهم بناء على ما عندكم من الوحي..أي ناقشوهم بناء على ما ذكره القرآن الكريم من الأدلة والبراهين لا بالترهات من عند أنفسكم آه! لو أن المسلمين استوعبوا هذا الدرس لأتوا على اليهودية والنصرانية، لأن سلاحنا إنما هو القرآن الكريم الذي أمرنا الله وعمل في شأنه وجاهدهم به جهادًا كبيرًا )) (الفرقان : ٥٣)..أي اخرج لجهاد الدنيا متقلدا سيف القرآن.ولكن مما له أن المسلمين اليوم يحملون في أيديهم كل سلاح غير هذا السلاح يؤسف الذي أمرهم الله بأخذه! ومن معاني الحكمة "ما يمنع من الجهل"..فتعني الآية: عليكم أن تكلّموا الناس بكلام مفهوم لا يسبب عندهم سوء الفهم، بل يزيل جهلهم.ورد في الحديث الشريف: "أمرنا رسولُ الله أن نكلم الناس على قدر عقولهم" (فردوس الأخبار للديلمي، فصل أُمرتُ أُمرنا.إن بعض الناس يستعمل في حديثه كلمات فخمة ومصطلحات صعبة ومما لا شك فيه أن مثل هذا الكلام الفخم يمكن أن يرعب الجاهلين، ولكنه لن ينفعهم شيئا، ولن يزيل جهلهم أبدًا.ومن معاني الحكمة "كل" كلام موافق الحق..فتعني الآية: عليكم أن تقولوا ما هو مطابق للحق والواقع؛ ذلك لأن بعض الناس يذكرون أثناء الحوار أمورًا زائفة تخالف الواقع زاعمين أنهم ما داموا يؤيدون الدين الحق فلا بأس من الكذب! ولكن الله تعالى يحذرنا أن هذا الطريق ليس بسليم.فكل ما تقولون ضد أعداء الحق يجب أن يكون حقا وصدقا لا تنحرفوا أنتم عن الصراط المستقيم محاولين هداية الآخرين.وقد أكد الله على هذا المعنى في موضع آخر حيث قال لا
الجزء الرابع ٤١٤ سورة النحل يَضُرُّكم من ولو بقصد هداية الآخرين.عندما لا يهتدي الغير إلا على حساب هدايتكم فاهتموا أولاً بهدايتكم، مفوضين أمر هداية الآخرين إلى الله تعالى، لأنه تعالى يريد أن يهدي من ليس على الهدى، وليس أن يصير المؤمن كافرًا من أجل هداية الكافر.ومن معاني الحكمة "وضعُ الشيء في موضعه..فتعني الآية: عليكم أن يكون کلامكم أثناء التبليغ متلائما مع مقتضى الحال والظرف.فمثلاً إذا كان هناك خطر أن الخصم سيثور بسماع أدلة معينة ولن يستمع لكم فلا حاجة لإثارته بذكر تلك الأدلة، بل عليكم أن تعرضوا عليه أدلة أخرى يستمع لها في هدوء.وكأنه تعالى يأمرنا أن نجس نبض الخصم قبل إجراء الحوار، لأن إثارة حفيظته بدون داع لن تجدي نفعًا.ضل إذا اهتديتم ) (المائدة: ١٠٦)..أي لا تقولوا ما هو باطل وإثم يا لها من فصاحة وبلاغة فبكلمات موجزة جدا بين الله وعل هنا أساليب الدعوة كلها، بحيث إذا عمل بها أحد فمن المستحيل أن يفشل في مقصده.ثم قال الله تعالى والموعظة الحسنة..أي ناقشوهم بما يلين قلوبهم ويؤثر فيها.وقد نبه الله بذلك المسلمين أن لا يدعوا الناس إلى الإسلام بكلام جاف، بل بما يثير العواطف ويأخذ بمجامع القلوب، إلى جانب الالتزام بالحكمة.وقد وصف الله ال الموعظة بالحسن لينهاهم عن استثارة العواطف بقول باطل.ومثاله ما يفعل بعض المشايخ الجاهلين في هذه الأيام حيث يؤججون عواطف الناس ضد الصلحاء دونما ذنب.ثم قال تعالى وجادلهم بالتي هي أحسنُ..أي عند نقاشهم يجب أن تؤسسوا حواركم على أقوى البراهين وأفضلها، أما ما سواها من الأدلة الهامشية فاجعلوه تابعا لها، لأن سقوط الدليل الهامشي لا يضر بالدليل الجوهري المحوري، ولكن لو كان الدليل الحيوي الجوهري ضعيفا فلا تنفع عندئذ حتى الأدلة الجانبية وإن كانت في حد ذاتها قوية دامغة.
الجزء الرابع ٤١٥ سورة النحل وأما قوله تعالى إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فنصح به أن واجبكم نشر الدعوة بأقصى ما يمكن ولكن إذا لم يقبلها القوم فلا تيئسوا ظانين أنكم لا تعرفون أسلوب الدعوة الناجحة، إذ من الممكن أن يكون سلوبكم سليمًا من أي عيب، ويكون العيب بقلوب القوم التي قد أصابها صدأ الذنوب لدرجة لا يريد الله أن تنفذ إليها الهداية.فلا تملوا من التبليغ، وفوضوا أمر التأثير والنتائج إلى الله تعالى، فهو وحده القادر على ذلك.صل وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَبِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّبِرِينَ شرح الكلمات: ۱۳۷ عاقبتم: عاقب فلانا بذنبه وعلى ذنبه معاقبة وعقابًا: أخذه به (الأقرب).التفسير: قال بعض المفسرين أن هذه الآية ناسخة لما قبلها، ولكني لا أفهم ما الذي حملهم على هذا القول ؟ هل إدارة الحوار بطريقة علمية، أو الالتزام بالحكمة والسداد والصدق والحلم خلال الحديث، هو من الأمور التي يمكن نسخها؟ كل ما تعنيه هذه الآية هو أن الأعداء لن يرضوا بدعوتكم المليئة بالحكمة والموعظة الحسنة، بل سوف يشهرون السيوف لقتلكم، وعندها يحق لكم رفع السيف ضدهم دفاعا عن النفس.ما أشدَّ هذا الكلامَ إعجازًا ! ففى الوقت الذي كان النبي بمكة، حيث لم يكن قد خاض بعد في أي نقاش وخصام مع اليهود والنصارى..يخبره الله تعالى أن هؤلاء القوم هم الآخرون سيعتدون عليكم ويضطهدونكم، ونحن نسمح لكم بالتصدي لهم عندئذ دفاعًا ولكن نوصيكم ألا تتسرعوا، بل يجب أن تصبروا ما
الجزء الرابع ٤١٦ سورة النحل استطعتم إلى ذلك سبيلاً، أما إذا لم يبق أمامكم مناص ولا مهرب فقاتلوهم ردًّا لعدوانهم.ولقد عمل النبي ﷺ بهذا الحكم الرباني تمامًا، فتحمَّل الأذى من قبل أهل الكتاب فترة طويلة، ولما لم يبق أمامه خيار آخر خرج مضطرا لقتالهم.ما أسمى ما يعلمنا القرآن الكريم من أخلاق! فإنه قبل السماح بالقتال يبين حدود القتال وقيوده وشروطه حتى لا يبقى هناك احتمال للظلم والعدوان.أما قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به فقد بين به أن الجهاد إنما هو ذلك الذي يكون ردًّا لعدوان الظالم، وأما الاعتداء على قوم بظلم فلا يمكن أن يسمّى جهادًا؛ ذلك لأن كلمة عاقبتم مشتقة من العقاب الذي يطلق على ما يكون جوابًا على فعل ارتكبه شخص آخر.فقد أوصانا الله تعالى بذلك أن لا نعاقب أحدا إلا على جريمة ارتكبها.كما نبه بقوله تعالى فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به إلى أنكم لو اضطررتم لمعاقبة أحد فيجب أن لا تعاقبوه بأكثر مما آذاكم به.وبقوله تعالى (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين رغب في الصبر على عدوان العدو، لأن الصبر خير بكثير من حيث النتائج والعواقب.ففي معركة أُحد مثل الكفار بحثث شهداء المسلمين كحمزة عم النبي وغيره، حيث جدعوا آذانهم وأنوفهم، ولكنه بالرغم من تمكنه من الكفار صبر و لم يسمح لأتباعه بهذه الفعلة القبيحة المسيئة إلى الإنسانية.كما أنه ظل صابرًا على مخالفة الكفار للمعاهدات أحيانًا (الدر المنثور، والسيرة النبوية لابن هشام غزوة أحد)؛ ذلك لأن عاقبة الصبر جميل.لا شك أن الانتقام يُخمد ثورة الغضب لدى المنتقم، ولكن الصبر يزيد الإنسان روحانية.
الجزء الرابع سورة النحل وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ في ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) شرح الكلمات ۱۲۸ ضيق: ضاق الشيءُ يضيق ضيفًا وضَيِّقًا: ضدُّ اتسع.ضاق الرجلُ: بخل.الضيق: الشكُ فى القلب؛ ما ضاق عنه صدرك (الأقرب).التفسير : لم يرد الصبر هنا تكرارًا وبالمعنى السابق، بل ورد لسبب آخر.ذلك لأنه لما نزل الإذن بقتال الكفار أدرك النبي لا لا لا لولا أن العذاب موشك عليهم، فشق عليه هذا الخبر، وامتلأ قلبه حزنًا عليهم، فخفف الله على رسوله وقال: عليك بالصبر الآن لأن هذا هو قرارنا.وكأنه لا يواسي الرسول ﷺ على صدمته بسماع مصير الكفار.هذه الآية تكشف لنا مكارم الأخلاق النبوية.كانوا يؤذونه ليل نهار، محاولين قتله بكل وسيلة ولكنه حين يتلقى خبر هلاكهم يأخذ القلق والحزن منه كل مأخذ حتى يقول الله تعالى له مواسيا وما صبرك إلا بالله...إن هذه الصدمة تفوق احتمالك، ولن تصبر حتى نصبرك نحن بتوفيق منا.وقد تعني هذه الجملة: عليك بالصبر، لأن هذا الصبر ليس وراءه إلا طاعة أمر الله تعالى.وأي شك أن صبر المرء لدى قدرته على ضرب العدو هو الصبر الأخلاق الفاضلة، وليس ذلك الذي يبديه الإنسان وهو لا الوحيد الذي يُعَدُّ من يملك حيلة ولا سبيلا.وقوله تعالى ولا تحزن عليهم يؤيد ما ذهبت إليه من أن الصبر هنا لا يعني الصبر على أذى الكفار، وإنما على الألم والحزن الذي أصابه بتلقى خبر هلاكهم.
الجزء الرابع ٤١٨ سورة النحل أما قوله تعالى ولا تَكُ في ضَيق مما يمكرون)، فأيضا لا يعني أن لا تتضايق من مكر الكفار وشرورهم، وإنما هو تعبير عن الآلام التي قاساها النبي ﷺ بسماع خبر هلاك الكفار، حيث كانت حالته عندها كحالة الأم التي ترى أولادها معرضين للعقاب بسبب جرائمهم، ولا تستطيع إنقاذهم منه، فتأخذ في لومهم غاية اللوم؛ ولكن لومها هذا لا ينبع عن غضب منها ، وإنما هو تعبير عن أحزانها وآلامها التي تعتريها بسببهم..وكأنها تقول: لو لم ترتكبوا هذه الجرائم ما تعذبتم بأنفسكم كما لم تعذبوني أنا المسكينة.إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ ) ۱۳۹ التفسير: إن المتقي هو من يقوّي صلته بالله تعالى بحيث يصبح ل جُنَّةً وسترا له يحفظه ويرعاه.وأما المحسن فهو من يحتمي بحمى الله وعل، ثم يسعى ليأتي بالدنيا إلى هذا الملاذ.إذا فالمحسن أعلى درجة من المتقي.ومن الناس من يكون هناك على مستوى عال من الصلاح والتقوى، ولكنه لا يهتم بإنقاذ الآخرين، بينما يفكر في إصلاح الغير دون أن يصلح نفسه.فالله تعالى يؤكد هنا أن من من أراد أن يبلغ الكمال في وصال الله تعالى فعليه أن يكون متقيا، ومحسنا كذلك.عاطلاً علما أن المتقي ليس من يعتزل شؤون الحياة اليومية، كلا، بل إن القرآن الكريم يعده جاهلاً؛ إنما المتقي من تتجلى خشية الله وعمل في جميع أعماله.أما الذي يبقى ولا يقوم بأي عمل فكيف يمكن أن تستولي عليه خشية الله؟ إن كلمة "المتقي" نفسها تشير إلى أن هذا يخوض غمار الأخطار، ولكن الله تعالى يقيه ويحميه.إذن فالمتقى هو من يقوم بواجباته الدنيوية ولكن من دون أن يتأثر بتأثيرها الضار.
الجزء الرابع ٤١٩ سورة النحل وتذكروا أيضا أن ليس المحسن من يسرف ويبدر، إذ قال النبي ﷺ: "أنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أغنياء خيرٌ من أن تَدَعَهم عالةً يتكففون الناس في أيديهم" (البخاري: كتاب النفقات، باب فضل النفقة على الأهل.فمن معاني المحسن أيضًا من يقوم بأعمال تزيد الدنيا حسنًا وجمالاً، ولكن الذي يخرب بيته هو بالتبذير والإسراف كيف يمكن أن يجلب الحسن على العالم.فالمحسن من يحمي أهل بيته أولاً ثم يتفقد أحوال الآخرين.ولكن هذا لا يعني أيضًا أن يعيش الإنسان حياة بذخ ورخاء، وحين يأتي وقت الإنفاق على الآخرين يتلمس شتى الأعذار.ومن معاني المحسن أيضًا من تأتي أعماله بنتائج جيدة.فالذي يأتي إنفاقه بنتائج سيئة، سواء من الناحية الأخلاقية أو الاجتماعية، فلا يمكن أن يُعَدَّ محسنًا.هذا، وقد نبأنا الله في هذه الآية أيضًا عن مآل الحرب بين المسلمين وأهل الكتاب، فأعلن أن الله سيكون مع المسلمين؛ والبديهي أن من كان محظوظًا وعمل بمعية الله وعل يستحيل أن يتغلب عليه أحد.
الجزء الرابع ٤٢١ سورة بني إسرائيل سورة بني إسرائيل مكية، وهي مع البسملة مائة واثنتا عشرة آية واثنا عشر ركوعًا.سبب تسميتها : تسمى هذه السورة "بني إسرائيل"، لأنها تقص علينا أحداث الأمة الإسرائيلية منبئةً أنه سيأتي على المسلمين ما أتى على بني إسرائيل.ذلك أن الله تعالى كما اعتبر نبينا مثيلاً لموسى عليهما السلام، فقد اعتبر الأمة الإسلامية مثيلةً للأمة الإسرائيلية، فكان لا بد أن يمر المسلمون بأحداث مماثلة لأحداث اليهود؛ وإلى هذا الأمر تلفت هذه السورة الأنظار.ع الملاحظة أن هذه السورة قد تناولت أحداث الجزء الأول من التاريخ الإسرائيلي فقط؛ أي من زمن موسى حتى زمن عيسى عليهما السلام.أسماء هذه السورة "الإسراء"، لأنها استهلّت بذكر حادث الإسراء، ولأنه ومن موضوعها الأساسي.زمن نزولها إنها مكية بالإجماع عند البعض، بينما اعتبر الآخرون آيات منها – يتراوح عددها ما بين آيتين إلى ثمان - مَدَنيةً.(البحر المحيط).وروى ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية، وأنها مما نزل في أوائل الفترة المكية..أي في السنة الثالثة أو الرابعة.وورد في البخاري عن ابن مسعود أنه قال في السور بني إسرائيل والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول، وهُنَّ مِن تلادي" (البخاري: كتاب التفسير)..أي
الجزء الرابع ٤٢٢ سورة بني إسرائيل أنها من السور التي نزلت في بداية البعثة، والتي حفظتُها عن ظهر قلب في أوائل أيام إسلامي.يبدو من قول عبد الله بن مسعود أن هذه السورة مكية كلها أو بعضها، ولكن لا نعرف بالتحديد أي سنة يقصدها ابن مسعود ه من الفترة المكية.وعندي أن السورة ليست مما نزل في أوائل الفترة المكية، بل يمتد زمن نزولها من السنة الرابعة إلى الحادية عشرة، شريطة أن لا تكون الذاكرة قد خانت ابن مسعود، وإلا فأرى أن هذه السورة كلها نزلت ما بين السنة العاشرة إلى الحادية عشرة، بل ربما في السنة الثانية عشرة.كما أن المستشرقين المسيحيين قد حدّدوا زمن نزولها ما بين السنة السادسة إلى الثانية عشرة قبل الهجرة (تفسير القرآن لـ "ويري").ومن تصرفات القدر أن الله تعالى جعلهم ينطقون بالحق هنا، وإلا فإن ما يكنونه من نوايا خبيثة ضد القرآن ما كان ليتحقق إلا إذا اعتبروا هذه السورة مدنية.الترابط : وتتمثل علاقة هذه السورة بالتي قبلها في أن سورة النحل قد نبأت بازدهار المسلمين، مؤكدةً أنهم سينالون مُلكًا عظيمًا.كما ذكرتهم بتنكر اليهود لنعم الله تعالى، وتغافلهم عن عبادته إبان الغلبة، مشيرةً إلى ذلك بكلمة السبت (انظر سورة النحل: ١٢٥) - وذلك تحذيرًا للمسلمين كيلا يتغافلوا عن الله تعالى مثل اليهود، بل يجب أن يُكثروا من عبادته وعمل في أيام الازدهار.وهذه السورة سورة بني إسرائيل أيضًا أومأت إلى هذا الأمر وأخبرت أن المسلمين سيمنحون الحكم على المناطق التي كانت تحت حكم اليهود.وهناك علاقة أخرى تربط بداية هذه السورة بنهاية سورة النحل، وهي أن الله تعالى قد أخبر المسلمين في أواخر سورة النحل أن المواجهة بينكم وبين أهل الكتاب موشكة، وأنهم سوف يؤذونكم مثل الكافرين المكيين، فعليكم أن
الجزء الرابع فإن الله ٤٢٣ سورة بني إسرائيل تصبروا على أذاهم إلى أن يحين الوقت الذي تضطرون فيه للدفاع؛ ولئن صبرتم سوف ينصركم عليهم في آخر المطاف مثلما وعدكم بالنصر على كفار مكة.والآن في سورة "الإسراء" قد لمح الله إلى أن المواجهة بينكم وبين أهل الكتاب ستتم في المدينة، وأنكم ستنالون الحكم والسلطان على أماكنهم المقدسة.ملخص محتواها : لقد ركزت هذه السورة بشكل خاص على دمارين حلا باليهود نتيجة عصيانهم الله تعالى مرتين فأحاطهم في كل مرة عذاب مروّع.وقد أشارت بذلك إلى أنه سيأتي على المسلمين أيضًا زمن الفتن المروعة مرتين، ولكن بما أن هو خاتم النبيين فلن تهلك أمته من جراء هذه الفتن الهائلة، بل سوف محمدا تخرج منها أعظم شأنا وأكثر لمعانًا من ذي قبل.هناك أمور ذكرت في سورة النحل إشارةً، بينما تناولتها سورة الإسراء تفصيلاً.فقال الله تعالى في سورة النحل عن العسل فيه شفاء للنَّاس، مشيرًا هذا إلى أن كلام الله تعالى أيضا يمثل شفاء لهم، أما في سورة الإسراء فقد صرح المعنى فقال (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (الآية: ۸۳).إن سورة الإسراء أسبق نزولاً من سورة النحل، ولكنها، من حيث محتواها، كانت تستحق التأخير، فلذلك وضعها النبي ﷺ بأمر الله تعالى بعد سورة النحل عند تدوين المصحف.لقد أسلفتُ أن تدوين السور في المصحف مختلف عن ترتيبها النزولي ، لأن الترتيب الحالي كان ضروريًا من أجل تلاوة القرآن ككل، وكذلك بالنظر لحاجات المتأخرين الذين يخاطبهم القرآن.وإنه لمن معجزات القرآن أن كل سورة من سوره تتضمن موضوعًا مستقلاً، وفي الوقت نفسه هناك ترابط قوي بين سورة وأخرى.عندما كانت سُور القرآن تنزل منفصلةً وآخــذة في عين الاعتبار حاجة المخاطبين الأولين لم يواجه قارئوها أية مشكلة، لأن موضوع كل سورة كان مكتملاً في حد ذاته، وحين دون النبي ﷺ هذه
الجزء الرابع ٤٢٤ سورة بني إسرائيل السور بأمر الله ل بترتيب مغاير لترتيبها النزولي نشأت سلسلة من المعاني الجديدة بالترتيب الجديد - بالإضافة إلى المفهوم المستقل لكل سورة - مما وسع معارف القرآن ومفاهيمه بشكل محير.فتبارك الله أحسن الخالقين! ولقد استهل الله وعمل هذه السورة بذكر الإسراء إشارةً إلى أن محمدا قد جاء ليأخذ مكان موسی العليا ، وأن الأماكن التي وعد بها موسى قومه ستقع في قبضة محمد ، وأنه الله سيضطر للهجرة مثل موسى، وأن هذه الهجرة ستكون فاتحة خير وازدهار لأمته.ثم تتحدث هذه السورة عن أحداث جرت مع موسى العل، وتبين كيف بعثه الله تعالى، وحقق الرقي لقومه بواسطته، وكيف حذرهم من أن في أيام الغلبة، ولكنهم لم ينتفعوا بهذا التحذير، فنالوا عقابًا شديدًا.ثم يؤكد الله كل أنه قد جعل القرآن أقوى تأثيرًا من التوراة، لذا فإن الانقلاب الذي سيُحدثه القرآن سيكون أعظم من الذي أحدثته التوراة.ولكن القرآن أيضًا مهدد بالخطر نفسه الذي هدد التوراة، حيث سينغمس أهله أيضًا في الفسق والفجور أيام ثرائهم ،ورخائهم، لذا نبهت هذه السورة أن كسب الدنيا ليس أمرًا سيئا في حد ذاته، ولكن ينبغي للإنسان أن يكسب الدنيا غير مقصر في ذكر الله يسمعوا ينسوه سلالالالالالة تعالى وفعل الخيرات.ثم فصلت السورة مبادئ الخير وأصوله، وأخبرت أن منكري القرآن حين ن هذه المبادئ يعرضون عنها استكبارًا، غافلين عن مصيرهم، بدلاً من أن يتدبروا فيها، وإذا ذُكِّروا بالمصير فلا يبالون كذلك، ولذا فإن مناهضي القرآن سواء أكانوا من الخارج أو الداخل – سوف يلقون عقابًا شديدًا من الله تعالى.سيحل بالدنيا عند اقتراب القيامة، أي في زمن المسيح الموعود، عذاب شديد لتكذيب الناس القرآن الكريم، وستقع عندئذ حرب أخرى بين الملائكة وإبليس سينتصر فيها أتباعُ آدم.
الجزء الرابع ٤٢٥ سورة بني إسرائيل ثم أوضح الله تعالى لرسوله ﷺ أن القوم يريدون تدميرك، ولكننا قد قدّرنا لك غاية عظمى : سنذيع صيتك إلى أرجاء العالم حتى آخر الأزمان، وسنكشف كفاءاتك للدنيا قاطبة.ثم بين كل أننا قد جعلنا القرآن لينفع إلى أبد الآبدين، وسوف نكشف الخزائن الروحانية شيئًا فشيئًا، لأن الله تعالى ليس ببخيل.به وفي الختام ذكر الله تعالى علامات الزمن الأخير وفتنه، مذكرًا أن الدعاء هو الوسيلة للوقاية من تلك الشرور والفتن.
الجزء الرابع ٤٢٦ سورة بني إسرائيل مِ اللهِ الرَّحمن الرّحيمِ سُبْحَنَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَرَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ وَايَتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) شرح الكلمات: سبحان سبحان الله"..أي أبرّئ الله من السوء براءة (الأقرب).أَسْرَى أسراه وبه سيّره بالليل.(راجع للمزيد شرح الآية رقم ٦٦ من سورة الحجر) عبد: العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله.والعبادة ضربان: عبادة بالتسخير وعبادة بالاختيار.والعبد يقال على أربعة أضرب : الأول عبد بحكم الشرع، وهو و ابتیاعه وجمعُه عبيدٌ)، والثاني عبد بالإيجاد، وذلك بيعه الإنسان الذي يصح ليس إلا لله، والثالث عبد بالعبادة والخدمة والناس في هذا ضربان: عبد الله مخلصاً (أي العابدُ وجمعه عباد، وعبد للدنيا وأعراضها (المفردات).المسجد الحرام الكعبة (الأقرب).الأقصى: اسم تفضيل من قصا يقصو المكانُ وقَصِيَ يَقصَى : بَعُدَ، فالأقصى هو الأبعد وجمعُه الأقاصي (الأقرب).فالمسجد الأقصى يعني المسجد البعيد.التفسير: إن هذه الآية هي من تلك الآيات الهامة التي تضاربت الآراء في تفسيرها تضاربًا كبيرًا، وتقول الأغلبية العظمى من المفسرين والعلماء ، القدامى منهم والمعاصرين، بأنها تتكلم عن حادثة المعراج النبوي، وإن كانت الروايات حول تفاصيل المعراج تختلف فيما بينها اختلافا كبيرًا.وقد بلغت هذه القضية،
الجزء الرابع بسبب ٤٢٧ سورة بني إسرائيل تضارب الأحاديث والروايات من التعقيد والإشكال بحيث إنني سأضطر لتقسميها إلى عدة أجزاء حتى تتضح الحقيقة.فأولاً وقبل كل شيء أوضح لكم أن حادث المعراج مذكور في مكان آخر من القرآن الكريم أيضا، وذلك في سورة النجم حيث قال الله تعالى إِنْ هُوَ إِلا حْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى ) وهو بالأُفُق الأعلى ) مَا دَنَا فَتَدَلَّى فكان قَابَ قَوْسَيْن أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عبده ما أَوْحَى كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ على ما يَرَى ولقد رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عندَ عندها جَنَّةُ الْمَأْوَى ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ( مَا زَاغَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عندها وَمَا طَغَى ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّه الكبرى (النجم: ٥ - ١٩) الْبَصَرُ وَمَا طَغَى تشير هذه الآيات إلى المعراج النبوي الشريف، والدليل على ذلك هو أن كل ما ورد فيها يتعلق بحادث المعراج.ويُستخلص من هذه الآيات ما يلي: ١ - وصولُ النبي ﷺ إلى سدرة المنتهى - -۲- غشيان شيء ما سدرة المنتهى أثناء ذلك - رؤيته الجنة عندها ٤ - وصوله إلى حالة وصفها قوله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) - -0 - رؤيته البارئ تعالى ٦- نزول الوحي عليه.بيانها : وكل هذه الأمور مذكورة في الروايات التي تصف حادث المعراج.وإليكم 1- وصول النبي ﷺ إلى سدرة المنتهى: فهناك رواية عن أبي هريرة له وقد سجلها كل من هؤلاء المحدثين الستة في كتبهم: ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي.وقد ورد فيها أن النبي بعد أن وصل إلى السماء ليلة المعراج وقابل الأنبياء انتهى إلى السدرة (الخصائص الكبرى ج ۱ باب خصوصيته
الجزء الرابع ٤٢٨ سورة بني إسرائيل وهناك رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قد نقلها كل من ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن العساكر، وتؤكد هذه الرواية هـــاب النبي ﷺ إلى السماء، ولقائه بالأنبياء هناك، ثم وصوله إلى سدرة المنتهى.(المرجع السابق) وفي روايـــة أخـــرى عن مالك ابن صعصعة: "ثم رُفعتُ إلى سدرة المنتهى" (البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة؛ مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله؛ مسند أحمد: مسند الأنصار، وابن جرير) ثم هناك رواية في البخاري عن أبي ذرٍّ تذكر ذهابه إلى السماء ولقاءه الأنبياء، ووصوله إلى سدرة المنتهى.(البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فُرضت الصلاة) ٢- غشيان شيء ما السدرة حينذاك وهذا أيضا مسجل في أحاديث المعراج.: فقد ورد في الرواية المشار إليها أعلاه أن النبي الله قال : "فغَشيها نور الخلّاق ل" (الخصائص الكبرى).كما ورد: "فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحدٌ من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها" (مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - رؤية النبي الجنة عند سدرة المنتهى : وهذا أيضا مذكور في أحاديث المعراج حيث ورد في رواية لأبي سعيد الخدري نقلها العديد من المحدثين أنه قال: "ثم إني رُفعتُ إلى الجنة"، وذلك بعد لقائه بالأنبياء الآخرين.(الخصائص الكبرى ص ١٦٥).٤ - بـــرؤية هذه المشاهد طرأت على النبي ﷺ حالة وصفها الله بقوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى).وروايات المعراج تؤكد هذا الأمر أيضًا، فورد في رواية أبي سعيد الخدري المذكورة أعلاه أن النبي الله قال : بعد وصولي إلى سدرة المنتهى "كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى".(المرجع السابق ص ١٦٩)
الجزء الرابع ٤٢٩ سورة بني إسرائيل علما أني لست هنا بصدد شرح هذه الأحاديث، وإنما أريد التأكيد أن الأحاديث الواردة في وصف المعراج تذكر نفس المشاهد المذكورة في سورة النجم.ه - رؤية النبى الله البارئ ،تعالى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى.وقد ورد هذا المعنى في روايات عديدة عن المعراج، حيث نقل ابن مردويه عن أسماء بنت أبي بكر : سمعت رسول الله ﷺ وهو يصف سدرة المنتهى...فقلت يا رسول الله ما رأيت عندها؟ قال: رأيتُ عندها يعنى ربَّه." (المرجع السابق ص ۱۷۷).وقال ابن عباس في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةٌ أُخْرَى : رآه" بفؤاده مرتين".(مسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) ٦- كلام الله تعالى مع النبي عند سدرة المنتهى كما هو ظاهر من قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، وهذا أيضًا مسجّل في أحاديث المعراج، فقد نقلنا آنفا رواية عن أبي هريرة تقول إن النبي ﷺ لما بلغ سدرة المنتهى "فكلّمه الله تعالى عند ذلك" (الخصائص الكبرى ص ١٥٥).كذلك نقل ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قول الرسول ﷺ إني لما وصلت إلى سدرة المنتهى "قال الله لي: يا محمد".(المرجع السابق ص ١٥٥) لقد ثبت بذلك أن الحادث الذي تشير إليه سورة النجم إنما هو حادث من المعراج نفسه.والآن أورد الأدلة على أن سورة النجم قد نزلت بعد السنة الخامسة النبوة أو قبل ذلك بقليل.فهناك حادث شهير ذو صلة وثيقة بهذه السورة يحدد من نزولها بما لا يدع مجالا للشك، وذلك أن النبي ﷺ لما رأى أن اضطهاد الكفار المكيين لأصحابه قد بلغ المنتهى أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، حيث قال لهم مشيراً إلى جهة الغرب: هناك بلد لا يُظلم فيه أحد.فخرج بعض
الجزء الرابع ٤٣٠ سورة بني إسرائيل وعبد صحابته قاصدين الحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من النبوة، وكان فيهم سيدنا عثمان بزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ الطبقات الكبرى: هجرة الحبشة).ولما علمت قريش بذلك خرجت على آثار الصحابة، ولكنهم ركبوا السفن قبل أن يدركهم الكافرون، وعبروا البحر إلى أرض الحبشة وعاشوا هناك بأمان.ولما بلغ الكفار ذلك بعثوا إلى النجاشي ملك الحبشة وفدًا مكونا من عمرو بن العاص الله بن ربيعة ليسألاه تسليم المسلمين اللاجئين للمكيين، ولكن الملك رفض طلبهم، فرجع الوفد خائبًا خاسراً.ثم بعد ذلك جاء النبي ال ذات يوم في نادي الكفار وقرأ عليهم سورة النجم، وفيها أمر بالسجود، ولما سجد النبي ﷺ سجود التلاوة سجد معه الكفار كلهم، فأُشيع بين الناس أن أهل مكة كلهم، أو أعيانها على الأقل، قد أسلموا.وقال الكفار فيما بعد تبريراً لسجودهم أن محمدا كان مدح آلهتهم أثناء قراءته سورة النجم، فسجدوا معه.وقد قال بعض المفسرين بأن الشيطان هو الذي قال هذه الكلمات في مدح آلهة الكفار، وليس الرسول.ولكن بحثي يؤكد أن ما حدث في الحقيقة هو أن الكفار لما يئسوا من استرداد المسلمين المهاجرين من الحبشة أشاعوا في أرض الحبشة كذبا أن أهل مكة قد أسلموا جميعًا، وذلك ليعود المهاجرون.فلما عاد المسلمون المهاجرون خاف الكفار أن المهاجرين إذا اقتربوا من مكة وعرفوا كذب الخبر فربما يعودون على أدراجهم إلى الحبشة، فلجأوا إلى مكيدة أخرى حيث أتوا النبي وطلبوا إليه أن يسمعهم القرآن الكريم، ثم سجدوا معه أثناء التلاوة، لكي يشيع خبر سجدتهم بين الناس، فيسمعه المسلمون المهاجرون فلا يعودوا إلى مهجرهم.وبعد أن حقق الكفار غرضهم هذا قالوا لأتباعهم كذبًا وتخفيفًا من العار الذي لحقهم: لقد سجدنا مع محمد لأنه أثنى على آلهتنا.
الجزء الرابع سورة بني إسرائيل هــذا هو تعليقي باختصار على حادث السجود، ولكننا لسنا في صدد نقاشه الآن، وإنما محله في تفسير سورة الحج وسورة النجم إن شاء الله تعالى.وأعود الآن إلى ما كنت بصدده فأقول : إنه لم يمض على هجرة هؤلاء المسلمين إلى الحبشة ثلاثة أشهر حتى سمعوا خبر إسلام المكيين، فعاد بعضهم إلى مكة (المرجع السابق).وقد سجلت كتب التاريخ والحديث كلها هذا الحادث، مما يشكل دليلاً قاطعا على أن سورة النجم قد نزلت قبل شهر شوال من السنة الخامسة النبوية، وبما أن حادث المعراج مسجل في هذه السورة فثبت أن المعراج أيضا كان قد وقع قبل شوال من السنة الخامسة النبوية.أما الآن فأعود إلى حادث الإسراء المذكور في هذه السورة التي نحن بصدد تفسيرها.لقد ورد في التاريخ أن الإسراء وقع في ربيع الأول أو الثاني أو رجب أو شعبان من السنة الحادية عشرة النبوية (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية: وقتُ الإسراء).أما المستشرقون المسيحيون فأيضا يعترفون أن الإسراء وقع في السنة الثانية عشرة النبوية (حياة محمد للسير وليم ميور ص ١٢٥) كما أن روايات كتب الحديث أيضًا تحدد حادث الإسراء في زمن قريب من ذلك، حيث أخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال: "أُسري بالنبي ﷺ ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة" (الخصائص الكبرى ص ١٦١).كما أخرج البيهقي عن ابن شهاب قال: أُسري بالنبي ﷺ إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة المرجع السابق ص ١٦٢).وأيضا أخرج البيهقي عن السدي أنه أُسري بالنبي ﷺ قبل مهاجره بحوالي ستة أشهر.كما نقل ابن سعد عن أم سلمة أن حادث الإسراء وقع قبل الهجرة بسنة في السابعة عشرة من شهر ربيع الأول.إذن فكل هذه الروايات تجزم بأن الإسراء وقع قبل الهجرة بستة أشهر أو سنة.وهناك دليل آخر على وقوع الإسراء بعد خروج النبي ﷺ من شعب أبي طالب - علما أن الكافرين حاصروا النبي الله وأصحابه في شعب أبي طالب في
الجزء الرابع ٤٣٢ سورة بني إسرائيل الله السنة السابعة، ورفعوا هذا الحصار في السنة العاشرة (الطبقات الكبرى لابن سعد: ذكر حصر قريش رسول الله ﷺ وبني هاشم في الشعب) - هناك شاهد واحد للإسراء وهو أم هانئ بنت عم النبي أبي طالب فهي تقول: لقد بات النبي ﷺ في بيتها ليلة أُسري به.وقد وثق قولها هذا كثير من الصحابة رضوان عليهم أجمعين (الخصائص الكبرى ص ۱۷۷) والبديهي أن النبي ما كان ليبيت في بيت أم هانئ في حياة خديجة أو حياة أبي طالب، مما يعني أن حادث الإسراء حصل بعد وفاة خديجة وأبي طالب.ويخبرنا التاريخ أنهما توفّيا بعد السنة العاشرة النبوية (السيرة النبوية لابن هشام وفاة أبي طالب).فهذه شهادة تاريخية أخرى على صحة رأبي؟ فخلاصة الكلام أن التاريخ والحديث والعقل كل أولئك تؤكد أن حادث الإسراء قد وقع بعد السنة الحادية أو الثانية عشرة النبوية.وأما حادث المعراج فقد أثبت قبل قليل أنه حصل بعد السنة الخامسة النبوية.فما دام الحادثان تفصلهما فترة زمنية لا تقل عن ست أو سبع سنوات فكيف يمكن اعتبارهما حادثًا واحدًا؟ إذن فإن المعراج غيرُ الإسراء الذي زار فيه النبي ﷺ بيت المقدس.وبالإضافة إلى الشواهد التاريخية هناك أمر آخر يؤيد استنتاجي هذا، وهو أن الروايات تؤكد أن الصلوات قد فُرضت في المعراج فلو ظننا أن المعراج والإسراء حادث واحد لاضطررنا إلى القول أن الصلوات الخمس لم تُفرض إلا بعد السنة الحادية أو الثانية عشرة من البعثة، وهو قول باطل بالبداهة، لأنها فُرضت في أوائل البعثة، وذلك بحسب إجماع المسلمين كافة (البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فُرضت الصلاة في الإسراء).فثبت من ذلك أيضًا أن المعراج تم في أوائل البعثة، بينما وقع الإسراء في السنة الحادية أو الثانية عشرة بعد البعثة.بل أقول إن القرآن قد أشار إلى معراجين اثنين، ليدل على أن المعراج المذكور في سورة النجم هو ثاني المعراجين.والحق أن المعراج الأول كان في أوائل البعثة النبوية أو بعده ،بقليل وفيه فرضت الصلوات.فقد نقل ابن جرير في تفسيره
الجزء الرابع ٤٣٣ سورة بني إسرائيل حادث المعراج في رواية تقول: "جاءه ثلاثةُ نَفَرٍ قبل أن يوحى إليه." (البخاري: التوحيد).وتحكي الرواية نفس الأحداث التي وقعت في المعراج، ولكنها لا تذكر ذهاب النبي ﷺ إلى القدس بل إلى السماء رأسًا، وأخيرًا تذكر حادث فرضية الصلوات.ويتبين من هذا الحديث أن حادث المعراج حصل قبيل مبعث النبي ﷺ أو لدى بعثته، ومعظم المحققين ذهبوا إلى أن ذلك الحادث لم يقع قبل البعثة بل حصل لدى البعثة، وأن الراوي أخطأ بسبب قرب الزمن.وأنا أيضًا أؤيد رأي هؤلاء المحققين، لأن الصلوات فُرضت في بداية الإسلام، إذ لم تمض سنة واحدة في الإسلام لم تكن فيها الصلاة، كما أن فرضية الصلوات قبل البعثة أمر مخالف للعقل.وأوجز القول مرة أخرى فأقول : إن الإسراء والمعراج حادثان منفصلان، وأن المعراج تم مرتين كما هو ظاهر من آيات سورة النجم، وكما تؤكد الأحاديث أيضًا، حيث ورد فيها أن أول المعراجين حصل في أوائل البعثة، ويمكن أن نقول إنه في ذلك المعراج نفسه وُضع الأساس للنبوة التشريعية أي التي فيها أحكام وأوامر، حيث فُرضت فيه الصلوات.أما المعراج الثاني فتم في السنة الخامسة بعد البعثة، أو يمكن أن نقول إن المعراج الثاني أيضا حصل قبل ذلك ولكنه ذكر في سورة النجم.وأما الإسراء فهو حادث منفصل تماما عن المعراج حيث وقع في السنة الحادية أو الثانية عشرة بعد البعثة حين كانت زوجة النبي السيدة خديجة الله عنها قد توفيت، وكان النبي يبيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، كما هو ثابت من الأحاديث المتواترة والروايات التاريخية.بعد سرد الأدلة المسجلة في كتب التاريخ أتناول الآن الشهادات الواقعية التي تدل على كون الإسراء والمعراج حادثين منفصلين.الشهادة الأولى وهي من القرآن الكريم نفسه الذي سجل حادث المعراج في سورة النجم، ولكن دون أي إشارة إلى ذهاب النبي ﷺ إلى بيت المقدس.وعلى النقيض قد ذكر القرآن في سورة الإسراء صراحة ذهاب النبي ﷺ إلى القدس،
الجزء الرابع ٤٣٤ سورة بني إسرائيل ولكن دون الإشارة إلى صعوده إلى السماء.مما يوضح جليا أن الحادثين منفصلان، ولذلك لم ير القرآن أية حاجة إلى ذكرهما معًا.وإلا أفليس عجيبا أن يسجل القرآن في المرة الأولى الجزء الأخير من الحادث الواحد، ثم بعد مضي ست سنوات يذكر الجزء الأول من الحادث نفسه!؟ الشهادة الثانية - إن أول شاهد على حادث الإسراء هو أم هانئ حيث بات النبي في بيتها ليلة أسري به.وتقول أم هانئ إن النبي ﷺ أخبرني بحادث إسرائه إلى بيت المقدس قبل أي شخص آخر، ثم قام ليخرج، فقلتُ: لا تحدّث هذا الناس فيكذبوك ويؤذوك.فقال : والله لأحدّثنهم، فأخبرهم" (الخصائص الكبرى ص (۲۷۹).وهناك سبعة من المحدثين على الأقل الذين نقلوا قول هذا الشاهد الأول أم هانئ، وبرواية عن أربعة أشخاص مختلفين؛ وكل هذه الروايات إنما تشير إلى ذهابه إلى القدس ثم رجوعه منها.فلو أن النبي كان أخبر أم هانئ عن ذهابه إلى السماء من القدس لتكلمت عن ذلك في مناسبة من المناسبات، ولكنها في كل مرة قالت إن النبي ﷺ أخبرني بأنه ذهب إلى القدس ورجع منها.مما يؤكد أن حادث إسرائها إلى القدس مختلف عن حادث راجه إلى السماء.معرا.الشهادة الثالثة - إن من الرواة من يذكر ذهاب النبي إلى السماء مباشرة دون ذهابه إلى القدس ومنهم من يذكر ذهابه و أولا إلى القدس ثم من هناك إلى السماء، ومنهم من قال بذهابه إلى القدس دون أي ذكر لصعوده إلى السماء، ولكن عديدا من الرواة صرحوا أن النبي الله رجع من القدس إلى مكة المكرمة.والظاهر أن القائلين بصعود النبي ﷺ إلى السماء رأسًا أيضًا قد شهدوا على كون المعراج حادثًا منفصلاً عن الإسراء، لأن القدس لا تقع في الطريق إلى السماء.وأصحاب هذه الرواية هم أنس ومالك بن صعصعة وأبو ذر مع العلم أن أبا ذر كان من الصحابة الذين أسلموا في أوائل الدعوة، وكان ممن سمع عن هذا الحادث في أول أمره.
الجزء الرابع ٤٣٥ سورة بني إسرائيل أما الذين قالوا بذهابه إلى القدس دون أي ذكر لصعوده بعد ذلك إلى السماء فقد أكدوا بشهادتهم هذه أيضًا أنه فيما يتعلق بحادث الإسراء فإن النبي لم يذهب فيه إلى السماء، إذ كيف يمكن أن يكون النبي قد صعد في حادث الإسراء إلى السماء وتكلم مع الله وتشرف برؤيته ، ومع ذلك لا يتحدث هؤلاء عن أبرز وقائعه هذه.وأصحاب هذه الشهادة هم أنس وعبد الله مسعود، وهذا الأخير أيضًا من السابقين إلى الإسلام، وكان في صحبة النبي ﷺ الله بن على الدوام.أما أصحاب القول الثالث بأنه الا الله وذهب إلى القدس ورجع منها فقد شكلوا دليلاً واضحًا على أنه لم يتم في الإسراء إلى القدس أي صعود إلى السماء، وإنما أسري به إلى القدس فقط.وأصحاب هذه الرواية هم عبد الله بن مسعود وابن عباس وشداد بن أوس وأم هانئ وعائشة وأم سلمة – رضوان الله عليهم أجمعين.ولقد تحدثت آنفًا عن مقام ابن مسعود، وأما وأما عبد بن عباس فهو ابن عم النبي الله العباس، وهكذا تصير شهادته من القوة بمكان لكونه فردًا من العائلة النبوية.وأما عائشة وأم سلمة فهما من الزوجات المطهرات، وبالتالي كانتا من أفضل الشاهدين على الحادث وأما أم هانئ فهي التي وقع حادث الإسراء في بيتها والتي حكى لها النبي هذا الحادث قبل أي إنسان آخر.(راجع: البخاري: كتاب الصلاة والمناسك والأنبياء؛ ومسلم كتاب الإيمان والخصائص الكبرى ص ١٥٤ إلى ١٥٩ و ١٧٦ إلى ۱۷۹؛ والإصابة : باب الكنى، حرف الذال والعين) ولا يسع المجال لذكر جميع الروايات في هذا الشأن غير أنني أتناول بعضها فيما يلى: أولاً- تقول أم هانئ: لما صلى النبي الله الصبح قال لي: "يا أم هانئ، لقد صليتُ معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليتُ فيه، ثم صليتُ صلاة الغداة معكم الآن كما تَرَين.الخصائص الكبرى ص ۱۷۷)
الجزء الرابع ٤٣٦ سورة بني إسرائيل وصدقوه، الليلة ثانيا- تروي السيدة عائشة رضى الله عنها: "لما أُسري بالنبي ﷺ إلى المسجد الأقصى أصبح يحدّث الناس بذلك.فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أُسري به إلى بيت المقدس؟ قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم.قال: لئن قال ذلك لقد صدق.قالوا: فتُصدِّقه أنه ذهَب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، لأصـدقه بما هو أبعد من ذلك : أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة." (المرجع السابق ص ١٧٦) إني فهذه الرواية تؤكد أيضًا أن النبي لم يذهب إلى السماء في حادث الإسراء، وإلا لما استطاع أبو بكر تقديم الدليل الذي أفحم المعترضين، لأن نزول الوحي من السماء ليس أكثر غرابة من صعود أحد إليها وعودته منها.فلو كان النبي أنه قد ذهب في الإسراء إلى السماء لرد الكافرون على أبي بكر بأن سيدك يزعم صعد إلى السماء وأنت تتحدث عن نزول الوحي منها! ولكنهم لم يردوا عليه بجواب كهذا، مما يبين أن النبي أخبرهم بذهابه إلى القدس فقط و لم يقل لهم إنه صعد إلى السماء أيضًا.الله ثالثا- أما رواية عبد المسجد الأقصى ثم تقول : "ثم انصرفنا فأقبلنا" (المرجع السابق ص ١٦٢).الشهادة الرابعة على كون الإسراء غير المعراج هي أن بعض الروايات التي : تذكر ذهاب النبي ﷺ إلى القدس أولاً ثم إلى السماء تذكر أيضًا أنه بعد هبوطه من السماء مرّ بالقدس مرة أخرى عائدا إلى مكة (الخصائص الكبرى، رواية أنس، ص ١٥٤ و ١٥٥).بن مسعود فتذكر صلاة النبي ﷺ بالأنبياء الآخرين في إن العاقل يمكن أن يدرك سبب مرور النبي الله بالقدس وهو في طريقه إلى السماء، لأن الهدف في ذلك أن يصلى في المكان الذي قام أنبياء كثيرون بتبليغ رسالات الله إلى سكانه، ولكن لا يمكن أن يفهم العاقل ضرورة مروره بالقدس وهو عائد إلى مكة بعد هبوطه الله من السماء! كان الأمر مفهوما لو
الجزء الرابع ٤٣٧ سورة بني إسرائيل كانت هناك في القدس مهمة من المهام لم يستطع له الله القيام بها وقت الذهاب، فيقال: لقد أتي به مرة أخرى عند العودة لينجز تلك المهمة الباقية، ولكن لم يرد في أي رواية أن النبي ﷺ قام بأي عمل في القدس لدى العودة! فما الداعي إذا لتكبد مشقة المرور بالقدس مرة أخرى؟ هل الطريق إلى السماء يمر بالقدس فقط؟ وهل هناك في القدس سلّم إلى السماء حتى يقال أن الله تعالى اضطر للذهاب بالنبي ﷺ إلى القدس لينزل من هناك بذلك السلم؟ كلا، لا أحد من المسلمين يعتقد بهذا، لأن الصعود إلى السماء لا يتم بالسلالم.فثبت أن ذهابه إلى القدس أولاً – لدى العودة من السماء – ثم مجيئه من القدس إلى مكة أمر غير معقول.وأرى أن هناك سبيلاً واحدًا فقط لتأويل هذه الرواية وهو أن أنساه ذكر للناس حادث الإسراء إلى القدس وحادث المعراج إلى السماء، فاختلط الأمر على بعض الرواة، فظنهما حادثًا واحدًا، ولكنه وعى جيدًا أن أنسا ذكر – لدى لحديث عن حادث الإسراء – أن النبي ﷺ ذهب إلى القدس ورجع منها أيضًا، فظن – أي السامع من أنس - أنه في حادث المعراج نزل من السماء بالقدس، ومن ثم ذهب إلى مكة.هنا ينشأ سؤال: كيف يمكن أن يقع هذا الخلط كله؟ وجوابه أن كلمة الإسراء تُطلق في اللغة العربية على السير ليلاً سواء كان السير على سطح الأرض أم إلى السماء (الأقرب).ولأن كلتا الحادثتين أي الإسراء إلى القدس والمعراج إلى السماء، قد وقعتا بالليل فأطلق عليهما الناس لفظ "الإسراء".كما أن هناك عدة أمور مماثلة وقعت في كلا الحادثين مثل البراق، ولقائه بالأنبياء، وصلاته ،بهم، ورؤيته مشاهد من الجنة والجحيم.إذن فهناك تشابه بين الحادثين من حيث الأسماء والأعمال والمشاهد الروحانية العجيبة، مما أدى إلى خلط الحادثين في أذهان بعض الرواة، فظنوهما حادثا واحدًا ورووه للآخرين طبقا لهذا الظن الخاطئ.غير أن ذوي الذاكرة القوية من الرواة عندما تحدثوا عن
الجزء الرابع ٤٣٨ سورة بني إسرائيل "المعراج إلى السماء" قالوا: ثم أسري بالنبي و من بيته إلى السماء، وعندما تحدثوا عن "الإسراء إلى "القدس" اكتفوا بقولهم أسري به إلى القدس، ولم يذكروا بعد ذلك شيئا عن صعوده إلى السماء.الله عنهم.كلمة "الإسراء" على والدليل على إطلاق الصحابة – رضي الحادثين موجود في الأحاديث الشريفة حيث ورد في رواية: "عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله حدثهم عن ليلة أُسْرِيَ به، قال: بَيْنَا أنا في الحطيم - وربما قال قتادة: في الحجر - مضطجع إذ أتاني آت، فجعل يقول لصاحبه: الأوسَط بين الثلاثة.قال: فأتاني...فشَقَّ ما بين هذه إلى هذه...مِن تُغْرةِ نَحْرِه إلى شعرته...فاستخرج قلبي.فأُتيتُ بطَسْت من ذَهَب مملوءة إيمانا وحكمة.فغُسل قلبي ثم حُشِيَ ثم أُعِيدَ.ثم أُتِيتُ بدابَةٌ دُونَ البَغْلِ وفوق الحمار...يقع خطوه عند أقصَى طَرْفه.قال: فحملت عليه، فانطَلَقَ بي جبريل ال حتى أتى بي السماء الدنيا..." (مسند أحمد، مسند الشاميين ج ٤ ص ٢٠٨، البخاري: كتاب المناقب باب المعراج ومسلم كتاب الإيمان باب الإسراء؛ والخصائص الكبرى ص ١٦٥) يعني وهناك رواية مماثلة عن أنس بأن النبي أسري به من الكعبة إلى السماء رأسًا (البخاري: التوحيد والخصائص الكبرى ص ١٥٣ فيبدو من ظاهر كلمات الروايتين أنهم يتحدثون فيهما عن حادثة الإسراء، ولكن كل الوقائع المذكورة فيهما هي نفس ما حدث في المعراج إلى السماء، ولا ذكر فيهما لذهابه إلى القدس، وإنما ذكر ذهابه إلى السماء رأسًا.مما أن الصحابة كانوا يستخدمون أحيانًا كلمة "الإسراء" وهم يقصدون بها حادث المعراج.كما نجدهم يستخدمون كلمة الإسراء نفسها وهم يعنون بها ذهابه إلى القدس فقط، وذلك كما حصل في رواية جابر بن عبد الله (البخاري: التفسير؛ ومسلم: الإيمان؛ والخصائص الكبرى ص ١٥٧ و ١٥٨)، وأيضا كما حصل في رواية شداد بن أوس التي نقلها الطبراني والبيهقي وغيرهما.المرجع السابق ص ١٥٨ و ١٥٩)
الجزء الرابع ٤٣٩ سورة بني إسرائيل فثبت من هذه الروايات بنوعيها أن الصحابة كانوا يستعملون كلمة "الإسراء" للحادثين.وبسبب هذا الاستعمال وبسبب اشتراك الحادثين في بعض الأسماء والأمور كان من السهل جدا أن يخطئ بعض الرواة فيظنوا الحادثين حادثا واحدا، مما أدى إلى الخلط بين روايات ،الحادثين فظن الذين أتوا بعدهم أن هذه التفاصيل إنما هي لحادث واحد فقط.كما أن النظرة الفاحصة في الروايات تؤكد وجود الخلط فيها.فمثلاً ورد في الروايات التي تذكر ذهابه له إلى السماء مرورًا بالقدس أنه لقي في القدس آدمَ وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ولكن هذه الروايات نفسها تقول إنه صعد بعد ذلك ورأى هؤلاء الأنبياء في السماوات المختلفة، ولكنه لم يستطع أن يعرفهم فإذا كان هذان اللقاءان قد حصلا في حادث واحد فكيف وصل هؤلاء إلى السماوات المختلفة قبل النبي ؟ ثم كيف لم يتمكن النبي من معرفتهم وقد رآهم في القدس قبل قليل؟ إن هذا اللغز سيظل غير مفهوم، إلا إذا قلنا إن اللقاءين حصلا في حادثين مختلفين بينهما فاصل زمني، لذلك لم يستطع النبي الا الله أن يعرفهم لدى اللقاء الثاني.إذن فهذه الشهادة الداخلية أيضا تؤكد أن بعض الرواة خلطوا بين تفاصيل الحادثين المختلفين.وإن آراء بعض الأسلاف أيضا تدعم موقفي هذا حيث ورد: "ذهب كثيرون إلى أن الإسراء وقع مرتين، وجُمع بذلك بين اختلاف الواقع في الأحاديث.وممن اختار هذا القول أبو نصر القشيري وابن العربي والسهيلي." (الخصائص الكبرى: فوائد في تعداد الإسراء ص ۱۸۰ و ۱۸۱) وأتناول الآن حادث الإسراء بشيء من التفصيل.أرى أن رواية أنس التي نقلها ابن جرير في تفسيره ترسم لنا أدق وأصح صورة للإسراء، حيث ورد: " عن أنس بن مالك قال لما جاء جبرئيل بالبراق إلى رسول الله ﷺ ضربت بذنبها، فقال لها جبرئيل: مَنْ يا براق! فوالله إنْ رَكبَك مثله.فسار رسول الله ﷺ فإذا هو بعجوز ناء عن الطريق أي على جنب الطريق، فقال: ما هذه يا جبرئيل؟
الجزء الرابع ٤٤٠ سورة بني إسرائيل قال: سر یا محمد فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، قال جبرئيل: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير.قال: ثم لقيه خلق من الخلائق، فقال أحدهم: السلام عليك يا أول، والسلام عليك يا آخر، والسلام عليك يا حاشر ! فقال له جبرئيل: ارْدُدِ السلام يا محمد قال: فردَّ السلام ثم لقيه الثاني، فقال له مثل مقالة الأولين، حتى انتهى إلى بيت المقدس.فعُرض عليه الماء واللبنُ والخمرُ ، فتناول رسولُ الله اللبن.فقال له جبرئيل: أصبت يا محمد الفطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أُمِّتك، ولو شربت الخمرَ لغَوَيتَ وغَوَتْ أُمتك.ثم بعث لـــه آدم فمن دونه من الأنبياء.فأَمَّهم رسول الله ﷺ تلك الليلة.ثم قــال لــــه جبرئيل: أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر تلك العجوز.وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس..أراد أن تميل إليه.وأما الذي سلّموا عليك فذلك إبراهيم وموسى وعيسى (تفسير ابن جرير الطبري هذه الرواية قد نقلها ابن كثير في تفسيره وعلّق عليها قائلاً: "وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن وهب.وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة.طريق أخرى عن أنس ابن مالك، وفيها غرابة ونكارة جدا، سنن النسائي المجتبى، و لم أرها في الكبير.وهذه الرواية لابن جرير يمكن أن تساعدنا على السير في الطريق السليم في وهي في هذا البحث، لأنها – عندي - أصدق الروايات وأصحها.هناك خطأ واحد في هذه الرواية وهو أنها تذكر أنه عُرض على النبي أولا الماء ثم اللبن ثم الخمر، ولكن الترتيب الصحيح هو : الماء ثم الخمر ثم اللبن، كما ذكره ابن كثير في تفسيره؛ وسوف أبين بعد قليل أهمية تصحيح هذا الخطأ * علما أن المراد من "النسائي المجتبى" هو مختصر سنن النسائي، ومن "الكبير" هو "سنن النسائي".(المترجم)
الجزء الرابع ٤٤١ سورة بني إسرائيل البسيط، أما الآن فأريد التأكيد أن المراجع الأخرى أيضا قد سجلت المشروبات بالترتيب الذي أراه صحيحًا.فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن صهيب بن سنان قال: لما عُرض على رسول الله الله ليلةَ أُسري به الماء ثم الخمرُ ثم اللبنُ أَخَذَ اللبن" الخصائص الكبرى ج ۱ باب خصوصيته الإسراء، حديث صهيب ص ١٥٩).والرواية الواردة في الدر المنثور" أيضًا تدعم الترتيب الذي ذكره ابن كثير، لأن الترتيب الوارد فيها هو : الماء والخمر واللبن.إذن فبناء على هذه الشواهد كلها يمكن أن نجزم بأن الرواية التي نقلها ابن جرير كانت في الأصل بالترتيب الصحيح، ولكن في بعض النسخ حصل هذا الخطأ من الكاتب.سهو إن رواية ابن جرير هي أصح الروايات لأن محتوياتها تشكل شهادة داخلية على صحتها.اقرأوها مرة أخرى لتجدوا أن كل ما ورد فيها من وقائع وأحداث جــاء في تناسق وانسجام، وأن التأويلات التي ذكرها جبريل واضحة تمامًا ومدعمة من قبل القرآن الكريم.وعلى سبيل المثال، أوّلَ جبريلُ الماء بحطام الدنيا، وهذا حق، فإن الماء ينوب عن الدنيا، لأن به الحياة، كما قال الله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (الأنبياء: ۳۱).وقال جبريل: "لو شربت الخمرَ لغويت وغوَتْ أُمَّتك".وهذا أيضًا حق، لأن الخمر رمز للأعمال الشيطانية لقول الله تعالى (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: ٩١).وحين تناول رسول الله اول اللبن قال له جبريل: "أصبت يا محمد الفطرة"، ذلك لأن اللبن يتكون في ثدي الأم، ويكون خالصًا من أية شوائب، لذا يدل على الفطرة الصحيحة.ثم لاحظوا روعة الترتيب والتناسق بين ما عُرض على النبي ﷺ من مشروبات وبين من قابله في الطريق.فأول من مرّ به النبي هي العجوز التي عبّرها جبريل
الجزء الرابع ٤٤٢ سورة بني إسرائيل بالدنيا، وكذلك أول ما عُرض عليه هو الماء الذي عبّره جبريل أيضا بحطام الدنيا، وهذا هو ما يعلنه القرآن الكريم أيضا في قول الله تعالى ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ) (الكهف : ٤٦).ثم بعد العجوز رأى النبي الله في طريقه الشيطان، وبالترتيب نفسه عُرض عليه الخمر بعد الماء، ذلك تبيانًا بأن الخمر تدفع شاربَها إلى الغواية مثل الشيطان.وآخـــر مـــا رآه النبي ﷺ جماعة من الأنبياء الذين سلّموا عليه أي دعوا لـــه بالسلامة، وبالمثل عُرض عليه الله في آخر الأمر اللبن، وكان إشارةً إلى أن أمته ستحظى دائمًا بالعلوم الروحانية، وستنجو من الدمار.فكل ما في هذه الرواية من ترتيب جميل محكم وتعبيرات صحيحة رائعة يدل على أن راويها لا بد أن يكون قد سمع هذا الخبر من رسول الله.والآن أبين لكم مغزى الإسراء بناء على ما فهمته من القرآن الكريم والعلوم الروحانية.= إن الإسراء، في رأيي، كان كشفًا من الكشوف اللطيفة، وإليكم أدلتي: الدليل الأول : هو رواية أنس الهلهلهله التي أفضلها على باقي الروايات من حيث التفصيل.فقد جاء فيها أن النبي رأى في الطريق عجوزا، ثم شيئا يدعوه متنحيا عن الطريق، ثم خلقا من الخلائق، وبعد ذلك عُرض عليه الماء والخمر واللبن، فتناول اللبن، ثم قام جبريل اللي بتأويل هذه الأحداث كلها.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : إذا لم يكن الإسراء كشفًا من الكشوف فلماذا قام جبريل بهذه التأويلات؟ وإذا كان النبي ﷺ قد أُسري بجسده المادي فلماذا رأى الدنيا على شكل عجوز؟ وهل في القرآن أو الحديث أن الدنيا امرأة أن عجوز في الحقيقة؟ فرؤية النبي الدنيا على صورة عجوز تدل صراحة على الإسراء كان كشفًا من الكشوف الروحانية اللطيفة، وإلا لقال النبي ﷺ الجبريل على الفور: لماذا تتكلف وتلجأ إلى التأويل، فقد رأيتُ هذه العجوز بأم عيني
الجزء الرابع ٤٤٣ سورة بني إسرائيل الجسمانية آنفا؛ فهل يحتاج ما يُرى بالعين إلى تأويل؟ ولكنا نجد النبي ﷺ قد لزم الصمت على تأويل جبريل لهذه المناظر، مما يوضح أنه اعتبر هذا الحدث كشفًا.كشفا ثم إن فرحة جبريل على رفض النبي الهلال الماء أيضا تؤكد كون الإسراء الكشوف، إذ لو كانت رحلته هذه بجسده المادي فلماذا تغرق أمته نتيجة شربه الماء وقد كان يشرب الماء في حياته دائمًا؟ فما الضمان إذا لنجاة أمته من الغرق وقد شرب الماء آلاف المرات في حياته المادية؟! الدليل الثاني : إن القرآن الكريم أيضًا قد سمى هذا الحادث رؤيا كما قال الله تعالى في هذه السورة نفسها: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (الإسراء: (٦١) ، مما حدا بعديد من الصحابة والعلماء الأسلاف على اعتبار الإسراء رؤيا من الرؤى.فقد "أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال كانت رؤيا من الله صادقةً" (الدر المنثور).وهو أيضًا مذهب أم المؤمنين عائشة الله رضي * لابن هشام " ذكر الإسراء، ومختصر زاد المعاد فصل في الإسراء ص ٢٠٣) عنها.(السيرة النبوية الدليل الثالث: قول النبي ﷺ : لما أخبرتُ الناس بذهابي إلى القدس سألوني أن أصفها لهم، وكنت لا أعلم من معالمها شيئًا، فترددت في وصفها.فلو كان النبي قد زار القدس زيارة ظاهرة لما تردد في وصفها.فقد ورد أن النبي ﷺ قال: "لما كذبتني قريش حين أُسري بي إلى بيت المقدس، قمتُ في الحجر، فجلّى الله لي ت المقدس، فطَفَقْتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه." (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله أسرى بعبده ليلا) فهذا الحديث أيضًا يؤكد كون الإسراء كشفا، حيث فكر النبي سؤالهم أن ما رآه من مناظر القدس ربما لا يكون مطابقًا للواقع الظاهر، ولذلك تردد في وصفها، ولكن بما أن موجة المعارضة والاستهزاء من قبل الكفار كانت * لدى ورد في السيرة النبوية لابن هشام: "قال ابن إسحاق : وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي كانت تقول: ما فُقد جسد رسول الله ، ولكن الله أسرى بروحه".(المترجم)
الجزء الرابع ٤٤٤ سورة بني إسرائيل على أشدها لدى سماعهم هذا الخبر لذلك قرر الله تعالى أن يكشف لنبيه معالم القدس على صورتها الظاهرة أيضًا، فرآها النبي مرة أخرى رؤية كشف، فجعل يصفها لهم.فصدقه من كانوا على معرفة بمعالم القدس.وقد قال بعض المتعصبين من الكتاب النصارى تعليقا على هذا بأن خرائط القدس كانت متيسرة في زمن محمد، فربما استعان بها محمد في وصفه لمعالمها.(تفسير القرآن لـ "ويري") وأقول : قد تكون خريطة القدس متيسرة حينذاك، ولكن هل يوجد بين هؤلاء المتعصبين من يستطيع أن يجيب هكذا على أسئلة الناس عن مدينة من المدن مستعينًا بخرائطها فقط دون أن يزورها؟! وجدير بالذكر أنه مما لا شك فيه أن القرآن الكريم قد استخدم للإسراء كلمة الرؤيا، ولكن يجب أن لا ينخدع بذلك أحد فيظنها كالأحلام والرؤى العادية.فإن "الرؤيا" بلغتنا الأردية تطلق فقط على ما يراه النائم من مناظر ومشاهد، ولكنها في العربية تطلق على الحلم وكذلك على الكشف الروحاني.والكشف هو غير الحلم العادي، ولا يراه الإنسان في النوم، وإنما يراه ما بين النوم واليقظة..أي في حالة شبه غيبوبة حين لا يكون نائمًا، وإنما تكون حواسه الظاهرة نشيطة في عملها، بل أحيانًا يرى الإنسان الكشف وهو يحاور صاحبه.وكشوف الأنبياء أكثر لطافة وشفافية من كشوف الآخرين، لأنهم يستطيعون أن يروا بعيونهم الكشفية ما يقع بالضبط في أماكن نائية للغاية.واعلم أن الكشوف ثلاثة: - - ما تكون مناظره مطابقة للواقع المادي، تمامًا كما يرى الإنسان بالمرقب الأشياء البعيدة.٢- ما يكون بعض مناظره مطابقا للواقع المادي، وبعضه يتطلب التأويل.ما تحتاج كل مناظره إلى التأويل.
الجزء الرابع ٤٤٥ سورة بني إسرائيل وإن ما رآه النبي ﷺ في الإسراء كان من النوع الثاني.فبعض ما رآه من مشاهد كان مطابقا للواقع المادي، بينما كان بعضه يتطلب التأويل.وقد سبق أن تحدثت بالتفصيل عما كان بحاجة إلى التأويل.أما المناظر التي كانت طبقًا للواقع المادي فمنها – كما ورد في الحديث – أن النبي ﷺ قال للسائلين: مررت عند العودة بقافلة لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيرا لهم.ولما وصلت تلك القافلة مكة أكدوا أنهم بالفعل كانوا ضلوا بعيرًا لهم في ذلك اليوم نفسه وفي المكان نفسه (الخصائص الكبرى حديث شداد بن أوس ص ١٥٩) علما أنني صاحب خبرة بالكشوف، بفضل الله تعالى، و لم أقل ما قلت إلا بناء على خبراتي الشخصية.وأبين الآن الغرض من كشف الإسراء هذا.أرى أن هذه الرحلة الكشفية إلى القدس كانت تتضمن نبأ عن الهجرة النبوية إلى المدينة، وأن رؤيـة النبي ﷺ المسجد الأقصى كانت إشارة إلى بناء المسجد النبوي الذي قدّر له أن ينال تعظيمًا وتكريماً أكثر من المسجد الأقصى.وأما صلاته بالأنبياء الآخرين إمامًا لهم فكانت بشارةً بأن دعوته لن تبقى منحصرة في العرب وحدهم، بل ستمتد إلى الشعوب الأخرى، وستدخل أمم الأنبياء الآخرين في الإسلام وأن هذا الانتشار سيتم بعد الهجرة كما كان هذا نبأ بأن سينال الحكم على القدس، حيث ورد في كتب تعبير الرؤى: "وتدلّ رؤية كل مسجد على جهته والتوجه إليها كالمسجد الأقصى والمسجد الحرام ومسجد دمشق ومسجد مصر وما شاكل ذلك.وربما دلت على علماء جهاتهم أو ملوكهم أو نُوّاب ملوكهم.(تعطير الأنام كلمة المسجد)." وسأتناول الآن كلا من هذه المعاني واحدًا بعد الآخر، لأبين كيف أنها قد تحققت كلها لصالح النبي.
الجزء الرابع ٤٤٦ سورة بني إسرائيل المعنى الأول - لقد قلت آنفًا إن المراد من المسجد الأقصى في هذه الرؤيا هو المسجد النبوي، وأن القدس تعني المدينة المنورة، وأن سفره إلى القدس يعني هجرته إلى المدينة.لقد بدأ الله تعالى ذكر هذه الرؤيا بقوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعبده ليشير إلى أن الهجرة ستُجلّي سبوحية الله أي براءته من العيوب والنقائص كليةً.فكلمة سبحان أيضًا تبين أن هذه الرؤيا انطوت على نبأ، ذلك أن رؤية بيت المقدس في الظاهر لا تؤكد سبوحية الله، ولكن الهجرة إلى المدينة ساعدت على قيام الدولة الإسلامية التي حققت كثيرًا من الأنباء الواردة في القرآن الكريم، مما دل على سبوحية الله تعالى.فبقوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ أشار إلى أنه سيذهب بعبده إلى المسجد الأقصى أي إلى مسجد مماثل لـه، لكي تتحقق تلك الأنباء التي لا بد لتحققها من الهجرة، فترى الدنيا كيف أنه لا أنجز ما وعد به في القرآن من الأنباء المتعلقة بالجهاد والقتال وقيام الدولة الإسلامية وغيرها مما كان متوقفا على الهجرة.ثم إن قوله تعالى لنُرِيَهُ من آياتنا أيضًا يدل على أن هذه الرؤيا تشير إلى سفر ستتجلى فيه آيات إلهية خاصة ولا غرو أن الهجرة هي السفر الذي كشف الستار عن مستقبل مشرق للإسلام كان خافيًا على الدنيا من قبل.كما أن قوله تعالى (إنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) أيضًا يدعم موقفي، لأن رؤية القدس في الكشف وحدها ليست دليلا على كون الله سميعا بصيرا، ولكن هجرة المدينة قد جلّت هذا المعنى أيما جلاء.لقد دلت الهجرة على أن الله سميع..حيث تبين بها أن الله تعالى يسمع ويستجيب دعاء عباده، ودلّت على أنه تعالى بصير..حيث تحققت للمسلمين الانتصارات التي وعدوا بها بعد الهجرة.كما دلت حماية الله للمؤمنين إثر الهجرة على أن هناك إلها يبصر بالعباد ويحفظهم.
الجزء الرابع ٤٤٧ سورة بني إسرائيل حتى المسجد وكانت رؤيته المسجد النبوي على شكل المسجد الأقصى والمدينة على صورة القدس تتضمن الإشارة إلى أن مسجده ومدينته سيبارك فيهما كما بورك في الأقصى والقدس وربما يقال هنا: لماذا لم يُشبه المسجد النبوي بالمسجد الحرام بدلاً من الأقصى؟ والجواب أولاً : إن المسجد الحرام ينفرد- دون جميع المساجد الأقصى والمسجد النبوي- بخصوصيات تتعلق بشعائر الحج.وثانيًا: كان الهدف من رؤية النبي ﷺ المسجد الأقصى إعلامه أن تلك المنطقة ستقع في أيدي المسلمين، وهذا الهدف ما كان ليتحقق برؤيته المسجد الحرام.فبما أن كشف المهجــــر النبوي صراحةً لم يكن أمرًا حكيمًا بسبب الأوضاع السياسية السائدة حينذاك فرمز الله ولا لنبيه هنا بالمسجد الأقصى إلى المسجد النبوي وبالقدس إلى المدينة المنورة.وتحقق هذا النبأ في حق المسجد النبوي ظاهر مما روي عن أبي هريرة أن النبي قال : "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى." (البخاري: كتاب الجمعة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة) فالمسجد الأقصى قد شُبّه هنا بالمسجد النبوي، وبتأسيس المسجد النبوي تحقق نبأ أداء النبي الصلاة في المسجد الأقصى.وكان في رؤيا الإسراء نباً آخر يتعلق ببركة المدينة المنورة، وهو المشار إليه في قوله تعالى الذي بَارَكْنَا حَولَه..و حوله يعنى ما حول الأقصى وهو مدينة القدس.وطبقا لهذا النبأ بارك الله فيما حول المسجد النبوي أيضًا..أي في المدينة المنورة.وإليكم الأدلة على ذلك: ١- ورد في الحديث: "عن أنس عن النبي الله قال : اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلته بمكة من البركة البخاري: كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث)
الجزء الرابع ٤٤٨ سورة بني إسرائيل ٢ - وعن عائشة أن رسول الله الله قال : "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو ﷺ أشدَّ.اللهم بارك لنا في صاعنا ومُدِّنا (المرجع السابق).وقوله : "بارك في صاعنا ومُدِّنا" يعني أن يبارك الله في زراعة أهل المدينة وتجارتهم.وعن زيد بن عاصم أن رسول الله الله قال : إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة، وإني دعوتُ في صاعها ومُدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة." (مسلم: كتاب الحج، باب فضل المدينة) علما أن الدعاء للمدينة هنا كان من أجل البركة المادية، أما من حيث البركة الروحانية فإن مكة هى الأفضل بين سائر المدن بدون شك.لقد تبيَّن من هذه الأحاديث كلها أن المسجد الأقصى الذي بورك حولــه والذي رآه النبي ﷺ في الرؤيا كان المقصود منه المسجد النبوي، إذ لم تُؤتَ القدس حتى عُشْرَ ما أوتيت المدينة المنورة من البركة.وهناك رواية لعائشة رضي الله عنها توضح لنا كيف بارك الله في المدينة بركة ظاهرة حيث قالت: قبل مقدم النبي الله إلى المدينة كان وباء الحمى يتفشى فيها بكثرة، ولذلك كانت تسمى "يثرب" أي البكاء والعويل، فنجاها الله كل من هذا الوباء ببركة دعاء نبيه ، فسماها المدينة (البخاري: فضائل المدينة).كما ورد في كشف الإسراء أنه لول الله صلّى بالأنبياء في المسجد الأقصى.وهذا النبأ لم يتحقق إلا بعد هجرته إلى المدينة، حيث كانت المدينة نقطة انطلاق دعوة الإسلام إلى كل بقاع العالم؛ بل الواقع أن ازدهار الإسلام لم يتوقف إلا بعد أن نُقلت عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة.لقد حقق الإسلام في الثلاثين عاما - التي كانت فيها مدينة الرسول عاصمة للدولة الإسلامية - من الانتشار والازدهار ما لم يحققه في ثلاثة عشر قرنًا! وقد يقال هنا أن النبي ﷺ قد خص المدينة بهذه الخصوصيات والبركات من عند نفسه! والجواب: ليس بوسع الإنسان أن يمنح البركات.متى يقدر الإنسان على
الجزء الرابع ٤٤٩ سورة بني إسرائيل أن يدلي بمثل هذه الأنباء ثم يحققها أيضًا؟ الحق أن ما دعا به النبي ﷺ للمدينة كان بمثابة تصديق منه لما نبأه الله به من قبل.وجدير بالانتباه أن قوله تعالى أسْرَى بعبده يشير إلى أن عبد الله هذا لم في هذه الرحلة الليلية بخياره، بل الله نفسه قد سيّره.وهذا بالضبط ما حدث في الهجرة أيضا حين خرج النبي الله من مكة تحت ستار الليل، ولم يغادرها برغبته، وإنما اضطر للخروج منها حين حاصر الكفار بيته لاغتياله.إذن فلم تكن الهجرة برغبته ، بل إن المشيئة الإلهية هي التي دفعته للهجرة.ثم كما أن جبريل صاحب النبي ﷺ في إسرائه إلى القدس، كذلك رافق أبو بكر الرسول ﷺ أثناء الهجرة، وكان متفانيا في طاعته كما يطيع جبريل أوامر الله تعالى.وكلمة جبريل تعني "بطل الله"، وكذلك كان أبو بكر عبدا مختارا الله تعالى، وبطلاً مغوارا في سبيل دينه.أيضًا مسجد بني المعنى الثاني - وقد قلت أيضًا إن رؤية المسجد الأقصى تعني إسرائيل (أو المعبد الإسرائيلي بالقدس، والمراد أن الله تعالى سيجعل نبيه ﷺ غالبًا على ذلك البلد أيضًا.ولقد تحقق هذا النبأ أيضا حين وقعت القدس في أيدي المسلمين في عهد ثاني خلفاء الرسول الله، واستمر حكمهم عليها ثلاثة عشر قرنًا.لقد استولى عليها الآن المسيحيون، ولكنه استيلاء مؤقت، وقد تم أيضًا بحسب نبأ من أنباء الله تعالى، وسوف تعود القدس - عاجلاً أو آجلاً - إلى أيدي أتباع الرسول ﷺ مرة أخرى.ونظرًا إلى هذا المعنى، كان المراد من قوله تعالى ليلاً أن فتح القدس لن يتم بقوة الحروب المادية، وإنما ببركة تلك الرؤيا التي رآها النبي ليلا.وهذا ما حدث بالضبط، إذ متى كان جند العرب القليلُ العدد والعتاد قادرا على الصمود أمام جيوش إمبراطور عظيم كقيصر، وإنما هو وحي الله النازل ليلة الإسراء الذي
الجزء الرابع ٤٥٠ سورة بني إسرائيل جعل جيش قيصر العرمرم والخبير بفنون الحرب والقتال يفر أمام العرب العديمي العدة والعتاد فرار الحمير من الأسد.وقد يعترض أحد ويقول : لم تُفتح القدس في زمن النبي ﷺ وإنما في عهد عمر؟ والجواب: أن أتباع النبي أيضًا يكونون مشمولين في الأنباء التي يدلي بها.وهناك أمثلة كثيرة لذلك في الإسلام وفي كتب الأنبياء الذين خلوا من قبل.المعنى الثالث - لقد أخبرتُ أن رؤية المسجد في المنام تدل على علماء المنطقة التي فيها المسجد.وطبقًا لهذا النبأ نجد أن المسلمين لم يحققوا الغلبة السياسية على القدس فحسب، بل إن معظم سكان تلك البلاد دخلوا في الإسلام، ولم تزل القدس مركزا لعلماء المسلمين طيلة ثلاثة عشر قرنًا.والظاهر أنه لم يكن بوسع إنسان أن يُحدث هذا الانقلاب، بل إن الله هو الذي فعل ما فعل.والغريب أن النار التي رآها موسى ال أثناء أحد أسفاره قد وصفها القرآن كريم بكلمات مماثلة حيث قال الله تعالى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: (۹).فترى أن كلمات بورك ٩).و (مَنْ حَوْلَهَا ) و (سبحان تماثل الكلمات الواردة هنا في سورة الإسراء.علما أن البعض يقول أن المقصود من النار هو الله تعالى (القرطبي)، ولكن هذا خطأ، لأن الآية تقول بوركَ مَنْ في النار ، والله تعالى يبارك ولا يبارك.فالحق لوعة حب الله تعالى؛ والمراد أن الذي يلقي وإنما تعني الله ، أن النار هنا لا تعني نفسه في نار حب الله يبارك.وتشبيه الحب بالنار شائع في لغات العالم كلها.الحق أن المكان الذي يُظهر الله فيه جلاله توضع فيه البركة، وتتجلى فيه سبوحية الله تعالى؛ وإلى هذا السر الروحاني يشير كل من إسراء النبي ﷺ وحادث رؤية موسى العليا النار.وهناك حادث آخر لموسى المشابة للإسراء النبوي وقد ذكر في السورة اللاحقة أعني "الكهف"، وسأبين أوجه التشابه هذه لدى تفسير سورة الكهف.
الجزء الرابع ٤٥١ سورة بني إسرائيل هذا، وأرى أن كشف الإسراء يشير إلى رحلة نبوية روحانية أخرى أيضًا.فقد أخبر الله في هذا الكشف أنه سيأتي على أهل الإسلام عصر الظلام وسيبعث الله عندها رسوله محمد ا ل مرة أخرى في شخص أحد من من خدامه المطيعين له، ليكون مناراً للهدى في ذلك العصر المظلم كالليل، ولينال المسلمون بواسطته نفس البركات التي نالها أنبياء بني إسرائيل وأتباعهم.وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة الجمعة أيضًا حيث قال هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ ولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا رَسُولا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الجمعة: ٣-٤)..أي أن النبي ﷺ سوف يعلم الدين جماعة أخرى لم تلحق بعد بالمسلمين، بل ستظهر في المستقبل.وذلك ليس بمستبعد على الله تعالى، لأنه العزيز الحكيم..أي أنه لن يدع أمة المصطفى الله هلتهلك هكذا، بل لا بد أن يبعثه لإصلاحهم بعثة روحانية.وَوَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَاءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (٤) شرح الكلمات : هدى هداه الطريق وإليه وله : بينه له وعرفه به هَدَى فلانًا: تَقدَّمه، تقول: جاءت الخيلُ يهديها فرس أشقر..أي يتقدمها هداه الله إلى الإيمان أي أرشده إليه.(الأقرب) بني إسرائيل: إسرائيل لقب ليعقوب ال (تكوين ٣٢: ٢٨).وبنو إسرائيل هم نسله.دوني: راجع لشرح كلمة "دون" الآية رقم ٨٧ من سورة النحل.
الجزء الرابع ٤٥٢ سورة بني إسرائيل وكيلاً: الوكيل : فعيل بمعنى مفعول لأنه موكول إليه، وقد يكون للجمع والأنثى؛ ويكون بمعنى فاعل إذا كان بمعنى الحافظ، ووصف به الله تعالى، وقيل: الكافي الرازق (الأقرب).التفسير: تبدأ هذه الآية بذكر موسى وقومه..وهناك أكثر من رابط يربط هذه الآية بما قبلها، وإليكم بيان ذلك: منح الله ١ - في الآية السابقة وعد الله نبيه وأمته بأنه سيعطيهم القدس.وقد سبق أن موسى وقومه هذه البلدة وما حولها تحقيقا لوعد منه ، ولكن قوم موسى خالفوا وصايا الله تعالى فحُرموا من الأرض المقدسة.فالله تعالى يحذر هنا المسلمين بذكر الأمة الموسوية بأننا سنعطيكم الخير من ميراث أمة موسى، فحَذارِ أن ترثوا منها شر الميراث أيضًا، فتهلكوا.نصحهم ۲- كان في ختام سورة النحل نبأ المواجهة بين المسلمين واليهود حيث الله تعالى أن يجادلوا اليهود بالتي هي أحسن لأنهم أهل كتاب..أي أن يناقشوهم على ضوء مبادئهم ومعتقداتهم وبناء على الأدلة المستقاة من كتبهم، وأمــا هــنا في سورة الإسراء فقد وضح له الا الله للمسلمين أسلوب النقاش مع أهل الكتاب بذكر مثال عملي، حيث عرض على اليهود أنباء من كتابهم تحذرهم الآن بأنهم سيفسدون فيتعرضون للعذاب.كما حذر اليهود هنا أنه ليس أمامهم إلا سبيل وحيد للازدهار مرة أخرى وهو أن يدخلوا مع الله في هذا الميثاق الجديد ليرفع عنهم العذاب.فإذا كانت الأرض المقدسة قد ضاعت من أيديهم يهودية فبإمكانهم أن يدخلوها مرة أخرى بصفتهم مسلمين.بصفتهم أمة
الجزء الرابع ٤٥٣ سورة بني إسرائيل で ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( ) شرح الكلمات : ذرية: الذرية أصلُها الصغار من الأولاد، وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معا في التعارف ويُستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع (المفردات).شكورًا: صيغة المبالغة من الشكر.شكره وشكر له: أثنى عليه بما أولاه من المعروف (الأقرب).التفسير أي بعد أن أنزلنا لهم الكتاب على موسى قلنا لهم: يا أولاد أصحاب نوح، كـــان جدكم نوح عبدًا جد شاكر لربه، فكونوا كجدكم شاكرين الله تعالى.لقد قال بعض المفسرين أن الخطاب هنا يتعلق بعصر النبي أي موجه إلى قومه (فتح البيان، ولكني أراه متعلقا بزمن موسى ال وموجها إلى قومه؛ لأن الآية التالية أيضًا تتحدث عن هؤلاء، حيث نبّه الله تعالى بني إسرائيل أننا كما نجينا نوحا من الطوفان فقد أنجيناكم من البحر، فكونوا عبادا شاكرين لنا كما كان نوح وأصحابه.كما أن هذه الآية تحذير من الله للمسلمين بأننا سننجيكم من طوفان المعارضة والعداء الذي سيحاصر كم عما قريب، فعليكم أن تشكرونا ولا تتنكروا لنا.والفرق بين الأمتين أن قوم موسى التنكروا لنعم الله تعالى، ولكن أصحاب الرسول ل ضر ر ب ا مثالاً رائعًا عديم النظير في الشكر لله تعالى، وإن كان المسلمون الذين أتوا فيما بعد أيضًا تنكروا لنعم الله تعالى، وفي واقع الأمر قد جاءت هذه الآية تحذيرًا لهؤلاء المسلمين.
الجزء الرابع ٤٥٤ سورة بني إسرائيل وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ فِي الْكِتَابِ لَهُ سِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوا كَبِيرًا ) شرح الكلمات الآية قضينا: قضى الشيء: أعلمه وبينه (الأقرب).راجع لمزيد التفصيل شرح رقم ٦٦ من سورة الحجر.لَتَعْلُنَّ علا الشيءُ: ارتفع.علا فلان في الأرض: تكبَّرَ وتحبَّرَ.علا فلانًا: غلبه وقهره.علا فلانًا بالسيف ضربه علا المكان صعده: علا في المكارم: شرف (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى ولتعلُنَّ أنكم ستتكبرون وتتجبرون حتما.التفسير: يحذر الله تعالى هنا المسلمين بأن رسولكم مثيل لموسى، وتحقيقًا لهذه المماثلة سوف نعطيه القدس وما حولها؛ فحذار أن يحصل معكم فيما بعد ما حصل بقوم موسى بني إسرائيل.لقد حذرناهم سلفًا أنهم سيعيثون في الأرض فسادا، ويرتكبون ضد الناس مظالم بشعة مرتين وعقابا على جرائمهم سوف ندمرهم أيضًا مرتين.مع العلم أن عقابهم لم يُذكر هنا صراحة، ولكنه مذكور في الآية التالية بكل وضوح.أما قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَني إسرائيل في الكتاب فيؤكد أمرين: الأول أن الكتاب هنا هو كتاب موسى الل، والثاني أن كتابه سبق أن أنبأ عن طغيان بني إسرائيل مرتين، ثم تعرضهم لعذاب الله.لقد وقع المفسرون القدامى والمعاصرون في خطأين لدى تفسير هذه الآية حيث اكتفت جماعة منهم بذكر بعض الأحداث التاريخية عن هلاك بني إسرائيل (القرطبي، والقاسمي)، دون أية إشارة إلى ما يوجد في أسفار أهل الكتاب من الأنباء عن فسادهم وهلاكهم التي أشار إليها القرآن الكريم هنا، مما حال دون انكشاف صدق الوحي القرآني كما ينبغي.أما المفسرون الذين حاولوا ذكر تلك الأنباء
الجزء الرابع ٤٥٥ سورة بني إسرائيل من أسفار أهل الكتاب فتح البيان، والبحر المحيط)..فلم ينتبهوا إلى أن الكتاب المشار إليه في قوله تعالى في الكتاب هو كتاب موسى دون الأسفار الأخرى.أما أنا ـد راعيتُ في تفسيري الأمرين كليهما، فنقلتُ هذه الأنباء من كتاب موسى مع تسجيل الأحداث التاريخية التي تحققت بها هذه الأنباء.العليا العليلا وإليكم ما ورد في كتاب موسى من نبأ عن فساد بني إسرائيل وبغيهم على الناس: "ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك".(تثنية ٢٨: ١٥) ثم أسهب في تفصيل هذه اللعنات وقال: "يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك".(المرجع السابق الفقرة ٣٦).لم ويضيف: "يجلب الربُّ عليك أُمةً من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسرُ..أمةٌ لا تفهم لسانها..أمةٌ جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحنّ إلى الولد؛ فتأكل ثمرة بهائمك وثمرة أرضك حتى تهلك ولا تُبقي لك قمحا ولا حمرا ولا زيتا ولا نتاج بقرك ولا إناثَ غنمك، حتى تُفنيك.وتحاصرك في جميع أبوابك حتى تهبط أسوارك الشامخة الحصينة التي أنت تثق بها في كل أرضك.تحاصرك في جميع أبوابك في كل أرضك التي يعطيك الربُّ إلهك.فتأكلُ ثمرة بطنك، لحم بنيك وبناتك الذين أعطاك الرب إلهك في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك.الرجل المتنعم فيك والمترفّه جدًّا تبخل عينه على أخيه وامرأة حضنه وبقية أولاده الذين يُبقيهم..بأن يعطي أحدَهم من لحم بنيه الذي يأكله، لأنه لم يبق له شيء في الحصار والضيقة التي يضايقك بها عدوك في جميع أبوابك.والمرأةُ المتنعمة فيك والمترفهةُ التي لم تحرّب أن تضع أسفل قدمها على الأرض للتنعم والترفه تبخل عينها على رجُل حضنها وعلى ابنها وبنتها".(المرجع السابق الفقرات (07-29
سورة بني إسرائيل الجزء الرابع ثم يقول: "وكما فرح الربُّ لكم ليحسن إليكم ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويُهلككم، فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها.ويبددك الربُّ في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبد هناك آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من خشب وحجر".(المرجع السابق الفقرات ٦٣ و٦٤) مع العلم أن هذا النبأ يتعلق بفساد اليهود ودمارهم في أولى المرتين المذكورتين في قوله تعالى لتُفْسِدُنٌ فِي الْأَرْضِ مَرتين.وأما قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ...فيعني أن الله تعالى كان حذرهم في وحيه من المصيبة التي كانت تنتظرهم، ولكنهم لم يأخذوا حذرهم منها.واعلم أن التحذير يهدف إلى أمرين؛ الأول : أن يحاول الإنسان التجنب من الخطر الذي يحدق به، والثاني: أن تقام عليه الحجة إذا لم يسع للنجاة.ولقد حذر أيضًا أمته قائلاً: "لتتبعن سَنَنَ مَن كان قبلكم" (البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول النبي التتبعن سنن من قبلكم، وفي رواية لتتبعن اليهود والنصارى؛ ولكن المؤسف أن المسلمين أيضًا استهانوا بهذا الإنذار النبوي فوقعوا فرسى لهذه الآفة.النبي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَنَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ نک شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّ عُولاً ) شرح الكلمات: أولي بأس: أولو هو جمع بمعنى ذوو، لا واحد له، وقيل: اسم جمع واحده ذو كالغنم واحده شاةٌ (الأقرب).والبأس العذابُ ؛ الشدة في الحرب (الأقرب).جاسُوا جاس الشيء يجوس جوسًا: طلبه بالاستقصاء، فجاسُوا خلال الديار: دارُوا فيها بالعيث والفساد.وفسّره الجوهري بقوله: أي تخللوا فطلبوا ما فيه كما يجوس الرجلُ الأخبار أي يطلبها (الأقرب).
الجزء الرابع ٤٥٧ سورة بني إسرائيل الديار: جمعُ الدار، وهو : المحل؛ العَرْصةُ البلد.وخلال الديار أي ما حوالي حدودها وما بين بيوتها (الأقرب).التفسير : يفصل الله عمال هنا كيفية تحقق النبأ المتعلق بالدمار الأول ويقول: لما حان هذا الدمار سلّطنا عليكم يا بني إسرائيل، قوما محاربين، فاقتحموا عليكم بيوتكم ودمروكم.والخرابان المشار إليهما في هذه الآية وما بعدها قد ذكرهما القرآن الكريم في موضع آخر حيث قال لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (المائدة: (۷۹ فتوضح هذه الآية أن العذاب حل بهم مرتين: مرةً بعد عهد داود، ومرةً أخرى بعد زمن عيسى عليهما السلام.وما ورد في التوراة عن هذا الدمار الأول هو أن اليهود ما زالوا بعد موسى في الرقى والازدهار حتى قويت شوكتهم، وقامت لهم دولة قوية في زمن داود استمرت بعده لمدة من الزمان.ثم دبّ فيها الفساد فأخذت في الاضمحلال شيئا فشيئًا، حتى قضى عليها الأشوريون الذين كانت عاصمتهم نينوى.فصار اليهود يؤدون لهم الخراج.ثم هزم الأشوريين أمير مصري اسمه "نيكو" (NECHO)، وانتزع منهم الحكم، فصار اليهود يعيشون تحت حكم المصريين.ثم قبل المسيح بحوالي ٦٠٠ عام وبعد داود بحوالي ٤٠٠ عام حذر الله اليهود على مفاسدهم بواسطة إرميا الذي نبههم أنهم لو تابوا الآن فسوف يُلغي الله وعيد الجلاء، ولكنهم لم يرتدعوا (انظر إرميا ٧: ٢-٧) وأخيرًا سلط الله عليهم البابليين، وقد ورد ذكر هذا العذاب في سفر الملوك الثاني كالآتي: جــــاء نَبُوخَذْناصر ملك بابل هو وكلُّ جيشه على أورشليم وحاصرها، وطال الحصار؛ وكان ذلك في عهد الملك صدقيا.ولما اشتد الجوع في المدينة تُغرت، وهرب جميعُ رجال القتال ليلاً من أحد الأبواب.وهرب الملك ولكنه أسر، فقتلوا أبناءه أمامه، ثم قلعوا عينيه هو، وذهبوا به إلى بابل مقيدا =
الجزء الرابع ٤٥٨ سورة بني إسرائيل بالأصفاد.ثم أرسل الملك البابلى أحد قواده نبوزَرَادانَ إلى أورشليم، فأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء..أحرقها بالنار.وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها كلُّ جيوش الكلدانيين الذين مع رئيس الشرط.وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة الهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور سباهم نبوز رادان رئيس الشرط.(انظر الملوك الثاني ٢٥: ١-١١) ويتضح من سفر نحميا أن من أكبر أسباب هذا الدمار انتهاك اليهود حرمة السبت حيث جاء: "فخاصمتُ عظماء يهوذا وقلتُ لهم: ما هذا الأمر القبيح الذي تعملونه وتدنّسون يوم السبت؟ ألم يفعل آباؤكم هكذا، فجلب إلهنا علينا كل هذا الشرّ وعلى هذه المدينة؟ وأنتم تزيدون غضبًا على إسرائيل إذ تدنسون السبت." (نحميا ۱۳: ۱۷ و ۱۸) كذلك حذر النبى حزقيال اليهود حينها، فقال لهم وهو يعدّد عليهم معاصيهم: "ازدريت أقداسي ونجست سُبوتي" (حزقيال ٢٢: ٨).وورد فيه أيضًا: نَجَّسَنا مَقْدسى في ذلك اليوم ودَنَّسَتا سبوتي." (حزقيال ٢٣: ۳۸) لقد ركزت هنا خاصة على ذكر ما يتعلق بمخالفة اليهود السبت لأن هذه الآية التي تتحدث عن عذاب شديد إنما تشير إلى قول الله تعالى في سورة النحل إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فيه (الآية: ١٢٥)..أي أن عذاب السبت إنما نزل على الذين اختلفوا في كلام الله تعالى وأساءوا إلى دينه.ولا شك أن هذه الآية تشكّل برهانا ساطعًا على وجود ترتيب رائع في مواضيع القرآن الكريم، فبالرغم من أن سورة الإسراء أسبق نزولاً من سورة النحل وأن مكانها في المصحف جاء بعد سورة النحل، إلا أن مواضيعها تتلاءم مع مواضيع سورة النحل بحيث يبدو وكأن سورة الإسراء قد نزلت بعد سورة النحل، وأنها تكملة لها، وتردّ على الأسئلة التي نشأت فيها.ويقول التاريخ إنه في زمن ضعف دولة اليهود هجم عليهم الأشوريون وانتزعوا منهم الحكم وأخضعوهم لسلطانهم.ولكن بعد فترة جاء أحد الملوك
الجزء الرابع ٤٥٩ سورة بني إسرائيل المصريين وهو فرعون نيكو (Pharaoh Necho)، فقضى على حكم الأشوريين، ووقعت فلسطين في أيدي المصريين، وجعل الملك المصري على أرض فلسطين الياقيم Eliakim (ابن يوشيا)، الذي حَرّفوا اسمه إلى "يهويقيم".ولما رأى الملك البابلي دمار المملكة الأشورية المجاورة لــه بعــــث ابنه نبوخذنصر (Nebuchadnezzar) لمحاربة الملك المصري نيكو، فقام بغزو مصر، وهكذا خضعت فلسطين لسلطان البابليين.ولكن الملك الفلسطيني "يهويقيم" كان يكنّ الولاء لمصر، فأرسل نبوخذنصر قائده نبوزر آدم لمعاقبة "يهويقيم" في ٥٨٧ قبل الميلاد، ولكن "يهويقيم" مات قبل وصول الجيش البابلي إليه.وأما ابنه "يهويكين" (Jehoichin) فلم يستطع الصمود أمام البابليين، وطلب منهم العفو عنه.فأخذوه إلى بابل، وجعل الملك البابلي على فلسطين صدقيا (Zed chia) - واسمه الحقيقي متنياه (Mattaniah) وهو أخو يهويقيم - ولكنه أيضًا انحاز إلى الملك المصري حوفرا (Hophra).فقام البابليون بمحاصرة العاصمة الفلسطينية سنة ٥٨٨ قبل الميلاد، وتمكنوا من صدع سورها بعد سنتين، فلاذ صدقيا بالفرار، ولكنه أسر وأخذ إلى بابل بأمر الملك البابلي.وقام البابليون بحرق الأماكن المقدسة اليهودية، وهدموا سور العاصمة، ودمروها تدميرًا.ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَكُمْ أَكْثَرَ ذَ بِيرًا ) شرح الكلمات: في الكرة: كرَّ الفارسُ كَرَّاً : فرَّ للجَوَلان ثم عاد للقتال.الكرة: المرّة؛ الحَمْلةُ الحرب (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أَننا أعطيناكم من جديد قوة الهجوم عليهم.
الجزء الرابع ٤٦٠ سورة بني إسرائيل نفيرا : النفيرُ النَّفَرُ لما دون العشرة من الرجال ؛ القومُ ينفرون معك ويتنافرون في القتال؛ وقيل : هم الجماعة يتقدمون في الأمر (انظر الأقرب، واللسان).التفسير: يقول الله تعالى إننا بعد ذلك الدمار نجيناكم من قبضة العدو، و آتيناكم القوة مرة أخرى.وقد حصل حين زحف ملك فارس وميديا على بابل فناصره بنو إسرائيل بأمر من نبي لهم فحرّرهم الملك الفارسي من أسر البابليين.وقد سبق أن سجلت هذا الحادث مفصلا في تفسير سورة البقرة لدى ذكر سليمان العلة وهاروت وماروت).وقد سبق أن نبأ موسى العلن عن غلبة اليهود مرة أخرى بالكلمات التالية: "ومتى أتت عليك كل هذه الأمور..البركة واللعنة اللتان جعلتهما قدامك..فإنْ ردَدت في قلبك بين جميع الأمم الذين طردك الرب إلهك إليهم، ورجعت إلى الرب إلهك، وسمعت لصوته حسب كل ما أنا أوصيك به اليوم..أنت وبنوك بكل قلبك وبكل نفسك..يردُّ الربُّ إلهُكَ سَبْيَك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بددك إليهم الرب إلهك.إن يكن قد بددك إلى أقصاء السماوات فمن هناك يجمعك الرب إلهك، ومن هناك يأخذك ويأتي بك الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها، ويحسن إليك، ويكثرك أكثر من آبائك." (تثنية ٣٠: ١-٥) يتضح من ذلك أن موسى ال قد نباً بعودة الأمور ثانيةً إلى مجراها بعد الدمار الأول لبني إسرائيل، كما تؤكد ذلك هذه الآية القرآنية التي نحن بصدد تفسيرها.وتفصيل هذه العودة أن الملك الفارسي - واسمه كورش، ويسمى بالإنجليزية (Cyrus) بعد أن قام بغزو بابل سمح لليهود عام ٤٤٥ ق م بالعودة من منفاهم إلى القدس جزاءً على مساعدتهم له ضد الملك البابلي.وليس هذا فحسب، بل أرسل معهم نبيهم نحميا لتعمير القدس وغيرها من الأماكن المقدسة اليهودية من
الجزء الرابع ٤٦١ سورة بني إسرائيل جديد.كما أعطاهم ممتلكاتهم التي سلبها وأخذها نبوخذنصر البابلي معه حين غزا القدس.(عزرا ۱: ۱-۸) وعزرا هذا هو نفس النبي الذي ذكره القرآن باسم عُزير، والذي قال عنه اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ الله إن أَحْسَتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ إِنْ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُئُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيَتَبَرُوا مَا عَلَوْا تَثْبِيرًا (3) شرح الكلمات : ليَسُوءُوا : ساءَه يسوءه سوءاً : فعل به ما يكرهه أو أحزَنه (الأقرب).وجوهكم: الوجوه جمع الوجه وهو نفس الشيء؛ سيد القوم؛ الجاه (الأقرب).ليتبروا : تبره أهلكه و دمره تبر كل شيء كسره وفتته.التبارُ الهلاك (الأقرب).التفسير: تشير هذه الآية إلى فساد اليهود للمرة الثانية وإلى العقوبة التي حلت بهم حينذاك.والمراد من فسادهم هو إيذاؤهم عيسى الل، وأما العقوبة فهي ذلك الدمار الذي حل بهم على أيدي الرومان بعد حادث الصليب بسبعين سنة.مما يعني أنهم قد دُمروا في حياة عيسى الله، إذ يتضح من الأحاديث الشريفة أنه
الجزء الرابع ٤٦٢ سورة الإسراء اللي عاش ۱۲۰ عاما ، * وأما حادث الصليب فوقع حين كان في الـ ٣٣ من عمره -- A New Testament Commentary) وتفصيل هذا الخراب أن الملك الرومي بعث أحد قواده "فسباسين"(Vespasian) لقمع اليهود عقابًا على تمردهم.وبينما "فسباسين" منهمك في عملياته القمعية رأى رؤيا قرّر بناء على ما فهم منها العودة إلى روما، لأن الأخبار القادمة من هنالك لا تبشر بالخير وإنما تنذر باندلاع الفتن ولدى عودته إلى الوطن حصلت أمور دفعت الناس ليختاروه ملكًا فعيّن ابنه "تيطس" (Titus) أميرا على الجيش الذي خرج لغزو فلسطين.فقام "تيطس" بغزو القدس في ٧٠م، وأمر بهدمها.فهدمت أسوار المدينة ودمر معبدها، وتم القضاء على الحكومة اليهودية المتمردة.غير أن اليهود قاموا بثورة فاشلة أخرى في ١٣٥م لم تكن إلا بمثابة اضطراب الشعلة الأخيرة في الشمعة قبيل الفجر.(الموسوعة البريطانية: كلمة Jews، وتاريخ المؤرخين للعالم) وكانت التوراة قد تنبأت عن هذا الخراب الثاني بالكلمات التالية: "أغاروه بالأجانب وأغاظوه بالأرجاس.ذبحوا لأوثان ليست الله..لآلهة لم وَلَّدَك يعرفوها، أحداث قد جاءت من قريب لم يرهبها آباؤكم.الصخر الذي تركته، ونسيت الله الذي أبدأك.فرأى الربُّ ورَذَلَ من الغيظ بنيه وبناته، وقال: أحجُبُ وجهي عنهم، وأنظُرُ ماذا تكون آخرتُهم.إنهم جيل متقلب..أولاد لا أمانة فيهم.هم أغاروني بما ليس إلها.أغاظوني بأباطيلهم.فأنا أُغيرهم بما ليس شعبا..بأمة غبية أغيظهم.إنه قد اشتعلت نارّ ،بغضي، فتتقد إلى الهاوية السفلى، وتأكل الأرض وغلّتها، وتُحرق أسس الجبال.أجمع عليهم شرورًا، وأُنفِذُ سهامي * انظر كنز العمال، فضائل أهل البيت، فصل في فضلهم، فاطمة رضي الله عنها، رقم الحديث ٣٧٧٣٢)
الجزء الرابع ٤٦٣ سورة الإسراء فيهم، إذ هم خاؤون من جوع ومنهوكون من حُمّى وداء سامٌ.أُرسل فيهم أنياب الوحوش مع حُمَةِ زواحف الأرض.من خارج السيفُ يُثكِلُ، ومن داخل الخدورِ الرَّعْبَةُ..الفتى مع الفتاة، والرضيعُ مع الأشيب." (تثنية ٣٢: ١٦ - ٢٥) لقد ورد هذا النبأ في التوراة بعد النبأ عن الفساد اليهودي الأول، بل بعد الوعد الذي قطع الله تعالى معهم بأنه سيأتي بهم إلى القدس بعد الفساد الأول، مما يدل على أنه نبأ عن عذاب ثان غير العذاب الأول، وقد أشار القرآن إليه في قوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَرِينَ حَصِيرًا (3) شرح الكلمات : حصيرًا: الحصيرُ : السجن (الأقرب).التفسير : بعد أن أخبر القرآن الكريم اليهود عما سيحل بهم من دمار يُريهم الآن بارقة أمل، حيث يقول لهم: بالنسبة للتوراة فقد شملكم الدمار الأبدي، ولكن ما زالت أمامكم فرصة للازدهار خارج الشريعة الموسوية، حيث أفسح الله لكم مجال الرقي والازدهار مرة أخرى وذلك إذا عملتم بشرع الإسلام.فانتهزوا هذه الفرصة الذهبية، لترثوا أفضال الله ثانيةً.أما إذا لم تغتنموها فسوف تحيط بكم العقوبات الإلهية من جديد، وستدمرون نهائيا.ما أروع الأسلوب الذي اختاره الله تعالى لنصح اليهود.فقد ذكرهم أولاً بما ورد في كتبهم من أنباء عن هلاكهم، مبينًا لهم أن كتبهم نفسها تؤكد أن لا مستقبل لهم الآن؛ وما دامت كتبهم نفسها تقضي بهلاكهم، فالخير في أن لا
الجزء الرابع ٤٦٤ سورة الإسراء = يتلمسوا الأعذار للتخلي عن الطريق المهجور الذي قد أمر الله تعالى بتركه، وإنما ينبغي لهم أن يقبلوا الإسلام، ليرثوا البركات الروحانية والمادية تارة أخرى.وهناك نبأ في التوراة أيضًا عن هذا الطريق الجديد حيث تقول: "وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجلُ الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الربُّ من سيناء، وأشرق لهم من سَعيرَ، وتلألأ من جبل فاران، * وأتى مع عشرة آلاف قدوسي، وعن يمينه نار شريعة لهم.فأَحَبَّ الشعب.جميعُ قِدِّيسيه في يدك، وهم جالسون عند قدمك..يتقبلون من أقوالك" (تثنية ٣٣: ١-٣).أي بواسطة النبي الذي يظهر من جبال فاران سيهيئ الله لليهود أسباب البركة من جديد.فإن شاءوا ازدهروا مرة أخرى بقبول ما جاء به من الهدى.علما أن هذه النبوءة وردت في التوراة بعد نبأ الدمار اليهودي مباشرة وفي الباب التالي.ولنتذكر أن هذه الآيات كما تخبر اليهود أن مستقبلهم مظلم وفقا لأنباء كتبهم، فإنها تحذر المسلمين كذلك أنه سيحل بهم أيضًا العذاب مرتين لسوء أعمالهم كما حصل باليهود.وقد حل أول هذين العذابين بالمسلمين حين تم القضاء على خلافة العباسيين.وكان سبب ذلك الدمار الأول هو نفس السبب الذي كان وراء الدمار اليهودي بحسب التوراة، وهو أن المسلمين عندما فتحوا فرغانة تزوجوا بفتياتها الجميلات بكثرة، وكان أهل هذه المنطقة مشركين جدا، فأخذت العقائد الوثنية تتسرب إلى المسلمين عبر هؤلاء النسوة، وأخذت غيرتهم الإسلامية في الضعف شيئًا فشيئًا، إلى أن زحف على بغداد شعب همجي.والغريب أن هؤلاء القوم كانوا، بسبب همجيتهم وأجنبيتهم غرباء بالنسبة للبلاد والحضارة الإسلامية مثلما كان البابليون أجانب بالنسبة لأهل فلسطين.وقد أزهقت في * علما أن فاران هي جبال مكة، التي جاء النبي الله لفتحها بعشرة آلاف قدوسي من صحابته.ولقد حرفوا الآن الكلمات التي تحتها الخط في بعض الطبعات الحديثة خاصة العربية منها، ولكنها لا تزال كما هي في بعض الطبعات القديمة باللغتين الأردية والإنجليزية.انظُرْ صورة لها في آخر هذا الكتاب.(المترجم)
الجزء الرابع سورة الإسراء هذه المجزرة، التي نقذت في بغداد وضواحيها، أرواح مليون وثمانمائة ألف (۱۸۰۰۰۰۰) مسلم.لقد أعد هؤلاء الغزاة قوائم تضم أسماء أفراد الأسرة الملكية العباسية ،كلهم وبحثوا عن كل فرد منها وقتلوه الخلافة العباسية لعبد الفتاح السرنجاوي ص ٢٩٦ - ٢٩٧).ويقال إنه لم ينج من الأسرة الملكية إلا شخص واحد، ومن نسله كان حكام ولاية بهاولبور الهندية ولا يوجد اليوم سواهم عائلة واحدة تنتسب إلى العباسيين." والدمار الآخر للمسلمين كان مقدرًا في الزمن الأخير، وقد بدأت آثاره تلوح في الأفق الآن.عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا – والعياذ بالله.* إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّلِحَتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) التفسير: يقول الله تعالى إن هذا القرآن يهدي إلى غاية هي أسمى كثيرًا من الغايات التي كان ينشدها الأولون، لذا لا بد أن يحقق نتائج أفضل مما حققته كتب الأولين.وستكون جوائز العاملين بالقرآن روحانية ومادية أيضًا، فاعملوا بهذا الكتاب أيها اليهود واظفروا بهذه الجوائز.هذا، وتمثل هذه الآية تحذيرًا للمسلمين بأن الجوائز التي تنتظركم هي أفضل مما ناله من قبلكم ، فكُونوا أكثر منهم حذرًا، لكيلا تصاب أجيالكم في وقت من الأوقات بالزهو والغرور جراء هذه النعم، فتفسد وتستحق عذاب الله تعالى.* بعد تسجيل هذه الملاحظة علمتُ أن بعض فروع العائلة الملكية العباسية تقيم في ولاية "أُثر برديش" الهندية أيضًا، فبعضهم أرسلوا إلي شجرة نسبهم أيضًا.(المفس)
الجزء الرابع سورة الإسراء وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْاَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (3) التفسير : هذه الآية توضح المعنى الذي قد لمحت إليه الآية السابقة، حيث يعلن الله تعالى أنه ما من أمة تتغافل عن مصيرها إلا وتقع في العذاب في آخر المطاف.علما أن الآخرة تعني ما يأتي فيما بعد، ولكن بما أن هذه الكلمة قد تكررت في القرآن الكريم كثيرا بمعنى يوم الآخرة أيضًا فقد ترسخ في أذهان الناس أنها لا تعني إلا يوم القيامة.وهذا خطأ، لأن الآخرة لا تعني في الأصل إلا الشيء الآتي فيما بعد، فلذا يجب أن نفسرها بما يتلاءم مع السياق.وأرى أنها هنا تعني " مصير الأمم"، فهو المعنى الأكثر انطباقا هنا بالنظر إلى السياق؛ والمراد من الآية أن الأمة التي تنسى أن لكل شمس أفولاً، وتتغافل عن مصيرها، لا بد أن أداء مسؤولياتها، وبالتالي تستحق عذاب الله تعالى.فعلى كل أمة أن تتقاعس عن هذه تضع مصيرها في الحسبان دومًا، وتُصلح مسارها عند تسرب أي فساد إليه، لكي توهب الحياة من جديد، وتنجو من عذاب الله تعالى.أن والواو الداخلة على هذه الآية هي للعطف، وتؤكد ما ذهبت إليه من "الآخرة" لا تعني هنا القيامة، بل تعني "مصير الأمم"، لأن العطف يبين أن الخطاب هنا مازال موجهًا إلى المسلمين، والظاهر أن المسلمين يؤمنون بالآخرة وليسوا بمنكرين لها.وَيَدْعُ الْإِنسَنُ بِالشَّرِ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَنُ عَجُولاً شرح الكلمات ۱۲ يدعو: دعاه دعاء ودعوى رغب إليه.دعا زيدًا: استعانه.دعا فلانًا: ناداه وصاح به.دعاه إلى الأمر : ساقه إليه.دعا فلانا دعوةً ومدعاةً: طلبه ليأكل عنده
الجزء الرابع ٤٦٧ سورة الإسراء (الأقرب).وكل شيء إذا احتاج إلى شيء فقد دعا به.يقال لمن أخلقت ثيابه: دَعَتْ ثيابك أي احتجت أن تلبس غيره.دعا بالكتاب: استحضره (التاج).الخير راجع شرح الآية رقم ٣١ من سورة النحل.عجولاً : العجولُ المسرِعُ؛ الكثير العَجَلة (الأقرب).التفسير : إن هذه الآية تؤكد المعنى الذي بيّنته آنفا، إذ لا تتحدث عن القيامة، بل تذكر ما ذكرت، وكذلك الآيات التالية أيضًا تتحدث عن الموضوع نفسه.وقبل أن أتناول هذه الآية بالشرح والتفصيل أود أن أرسّخ معناها جيدًا.فليكن معلومًا أن هناك فرقًا كبيرًا بين (دعاه) و(دعا به)، لأن (دعاه) يعني: رغب إليه، أو ناداه، أو استعان به، وأما (دعا به فيعني: طلب منه أن يحضر إليه.وعليه فتعني هذه الآية أن الإنسان ينادي - في الظاهر – الخير ليأتي إليه، مع ينادي الشر في واقع الأمر، أو يكون المعنى: أنه ينادي الشر بالإلحاح الذي يجب أنه أداء حقوق أن ينادي به الخير.وحسب المعنى الأول تبين هذه الآية أن الأمم زمن رقيها تنسى أنها قد أُعطيت هذا الازدهار لكي ترسخ الدين والأمانة في العالم، وتعمل على ما يحقق الأمن والرخاء للإنسانية جمعاء، لتَرثَ أفضال الله تعالى؛ ولكنها تعمل النقيض وتنشغل في جمع النعم المادية، غاضة الطرف عن الآخرين.وتظن - وهي تجمع أسباب الرخاء المادي هذه أسباب الرخاء المادي هذه – أنها تجمع أسباب الخير لأجيالها، مع أنها في الواقع تجمع أنها في الواقع تجمع أسباب دمارها، غافلةً عن أداء المسؤولية الملقاة على عاتقها، والنتيجة أن مثل هذه الأمة تهلك في آخر المطاف.ساعة جد خطيرة، إذ إذن فالساعة التي يحقق فيها شعب ما الغلبة والرقي هي يغيب بعدها الخيرُ الحقيقي عن أنظار الناس، فيحسبون الشر خيرًا ويتبعونه، فضلون عن سواء السبيل.وأما قوله تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولا فإشارة إلى أن الخير الذي يناله المؤمن إنما يظفر به بعد الموت، لأن المؤمن إنما يوهب الانتصارات المادية لتتاح له الفرصة
الجزء الرابع ٤٦٨ سورة الإسراء للفوز بالخير الأخروي، ولكن بعض الناس يتعجلون، فيحسبون الرقي المادي هو فتنفلت من الخير الحقيقي، فينهمكون في تحقيقه فيصبحون كالباحث عن حتفه بظلفه.فالآية تحذر أنه إذا ما أحرز قوم من الأقوام رقيًّا ماديا، ونالوا الحكم أو الثروة مثلاً، فعليهم أن يأتوا بأعمال تساعد على بقاء تلك النعمة المادية فيهم، ويدخروا بها الخير الأخروي لهم، بدلا من أن يفعلوا ما يؤدي إلى زوال تلك النعمة عنهم، أيديهم فرصة كسب نعم الآخرة أيضًا.وستعني هذه الآية نظراً إلى المعنى الثاني: أن الإنسان مخلوق عجيب! يطلب الخير ويتمناه ،بلسانه ولكنه يطلب الشر بعمله وكأنه بسبب غبائه يطالب بأمرين نقيضين: الخير بلسانه، والشر بعمله! مع أنه لا يمكن أن يحرز الفلاح الحقيقي ما لم يكن قلبه وعمله في انسجام تام ، بمعنى أنه إذا كان يتمنى الخير بقلبه فليطلب الخير بعمله أيضًا.ويمكن أن تفسر الآية بطريق آخر، وذلك باعتبار ضمير الغائب في دعاءه راجعا إلى الإنسان، وباعتبار الله تعالى فاعلا لفعل الدعاء..أي أن الإنسان يدعو الشر بنفس الحماس الذي يدعوه به الله إلى الخير.وكأنه تعالى يقول: أيها الإنسان تعال إلى الخير ولكنه يقول: أيها الشر تعال أنت إلي.وبمعنى آخر: إن الله تعالى يهيئ للناس أسباب الخير، ولكن بعضهم يدعون بأعمالهم الشر لأنفسهم، ويهيئون لهم أسباب الدمار.لقد نبه الله بكلمة عجولاً) إلى أن الإنسان لا يُعمل الفكر ولا يتأنى في العمل، ولو فعل ذلك لأدرك خطأه.لقد قال النبي ﷺ ما معناه أن الغاضب لو توقف قليلاً لهدأت ثورة غضبه، ولوجد فسحة للتفكر (مسند أحمد مجلد ٥ ص ١٥٢).والحق أن العجلة سبب السيئات كلها.ولو أن الإنسان تأني قليلاً قبل ارتکاب سيئة من السيئات، وفكر في نفسه مليا هل إتيانها سيضره أم ينفعه، لتَجنَّبَ ارتكابها.
الجزء الرابع ٤٦٩ سورة الإسراء وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا وَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْتَهُ تَصِيلًا (3) شرح الكلمات: ۱۳ مبصرةً : أبصَرَه : رآه؛ أخبره بما وقعت عينه عليه؛ جعله بصيرًا.وأبصر الطريق: استبان ووضح (الأقرب).محونا: محا الشيء: أزاله وأذهب أثره (الأقرب).المحو: السواد في القمر (التاج).النقص ؛ البقية الزيادة؛ الإحسان.والفضل في الخير ضدُّ فضلاً: الفضل: يُستعمل لمطلق النفع (الأقرب).عدد : العدد: اسمٌ من عَدَّ بمعنى الإحصاء؛ المعدود، وجمعه أعداد (الأقرب).التفسير: الفاء في قوله تعالى (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ تفسيرية وليست للترتيب، إذ ليس المعنى أننا جعلنا الليل والنهار ثم محونا الليل منهما، وإنما المراد أننا خلقنا الليل والنهار كما لو أن الليل آية ممحوّة، والنهار آية مضيئة..أي أن الله تعالى جعل للناس في الليل منافع خفية، وفي النهار فوائد جلية، وكلاهما نافع لهم، حيث يستعينون بهما في معرفة الأيام والتواريخ وعلم الحساب.وفائدة معرفة التواريخ والأيام بواسطة القمر والشمس واضحة بينة لا تحتاج إلى توضيح، وأما علم الحساب فأيضا حصل نتيجة حفظ الناس الأيام خلال فترات طويلة متعاقبة، وكذلك نتيجة كون تحديد موعد السنة مرتبطا بالقمر والشمس.والحق أن إعداد التقويم الصحيح مستحيل بدون معرفة سرعة حركة الشمس.وإن معرفة دوران القمر والشمس أيضًا ذات علاقة بالحساب لأن الإنسان أثناء تفكيره لمعرفة حركتهما يحتاج إلى حسابات دقيقة جدا حتى إنه لم يتمكن إلى اليوم من تكميل
الجزء الرابع ٤٧٠ سورة الإسراء حساب دوران الشمس، ومن أجل ذلك ظل يرتكب في تحديد السنة الشمسية أخطاء ولا يزال يصححها مع تطور علم الحساب.لقد نبه الله تعالى بهذا أن الآيات الإلهية نوعان: آيات تساعد الإنسان على التقدم والرقي، وآيات تدفعه إلى الزوال والدمار.فاطلبوا من الله آيات التقدم والازدهار، ولا تطلبوا الآيات التي تمحو أثركم.كما أوصانا الله تعالى أن تستغل لبلوغ الكمالات الروحانية، حالتي الرقي والزوال كلتيهما، مثلما جعل الله تعالى كلاً من الليل الذي هو آية الظلام والنهار الذي هو آية النور سببًا لرقينا المادي؛ فلا ننسى الله وقت الشدائد، ولا نُعرض عنه زمن الانتصارات.وَكُلَّ إِنسَنِ أَلْزَمْتَهُ طَيَرَهُ فِي عُنُقِهِ وَتُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَبًا يَلْقَيهُ مَنشُورًا شرح الكلمات: الزمناه: أَلْزَمَ الشيء: أثبته وأدامَه وألزم فلانًا المال والعمل: أوجبه عليه (الأقرب).طائره: الطائر: كلُّ ذي جناح من الحيوان؛ الحظ؛ رزق الإنسان؛ عمله الذي قلّده وطار عنه من خير أو شر."هو ميمون الطائر" أي مبارك الطلعة."سر على الطائر الميمون" دعاء للمسافر."هو ساكنُ الطائر " أي حليم هادئ (الأقرب).منشورا: نشر الكتاب: بسطه (الأقرب).التفسير: لقد أخبرنا الله تعالى هنا أنه قد ربط عمل الإنسان بعنقه، وأنه سيأتي به يوم القيامة في صورة كتاب مفتوح أمامه، بمعنى أنه تعالى سوف يعامل
الجزء الرابع ٤٧١ سورة الإسراء الإنسان بحسب ما ورد في ذلك الكتاب، لأن السجلات الحسابية إنما تُفتح إما لتسجيل شيء جديد فيها، أو لإنهاء الحساب السابق كلية.لقد نبهنا الله وعل هنا أن كل إنسان يجب أن يدرك أن لا شيء من أعماله يضيع أبدا، لأن الله تعالى قد ألصق سجل أعماله بعنقه وإلصاق الشيء بالعنق دلالة على أنه لن يبرحه أبدًا، بل سيلازمه دائما، فما دام هذا السجل باقيا سيبقى تأثير أعماله ساريًا.وأشار الله باستعمال كلمة (طائر) إلى أن الطائر كما يطير ويغيب عن الأنظار، كذلك ينسى الإنسان عمله، فيغيب عن نظره، بل ينساه غيره من الناس أيضًا؛ ولكنه طائر مربوط بحبل في عنق صاحبه، لذا لن تنقطع صلته به، وإن طار وغاب عن الأنظار ، بل لا بد أن تظهر له عواقب أعماله في يوم من الأيام.كما أن هذا التعبير ينبه إلى أمر هام آخر، ألا وهو أن الطائر المربوطة رجله بخيط طويل إذا خُلّي سبيله، فإنه يطير إلى أبعد حد ممكن بحسب طول الخيط، كذلك حال أعمال الإنسان فإنها لا تظهر أحيانًا ذات خطورة في بادي الرأي، بينما يكون تأثيرها بعيد المدى وكأن الله تعالى يوصينا هنا بأخذ الحذر الشديد في أعمالنا، لأن الإنسان إذا ما قام بعمل من الأعمال فلا يبقى له أي خيار ولا تصرف في ذلك العمل، كما أن نتائجه تكون واسعة المدى؛ ثم إن عمله غائب أنظاره أن أنه في الحقيقة ملازم له دومًا، وهذا يعني محو ذلك العمل معب للغاية؛ لذا هناك حاجة ماسة لأخذ الحذر ، لأن عاقبة عمله آتية لا محالة، عاجلاً أو آجلاً.عن مع وقد نبه الا الله إلى ذلك لأن الإنسان يظن أحيانًا أن عمله قد طار مثل الطائر، ولكنه في الواقع طائر مربوط بحبل، وهو راجع حتمًا في آخر المطاف، ولا مناص لصاحب العمل من أن يذوق وبال أمره وقد أكد القرآن الكريم ذلك في موضع آخر منه حيث قال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
٤٧٢ سورة الإسراء الجزء الرابع شَرًّا يَرَهُ ﴾ (الزلزلة : ٨ و ٩..أي أن كل عمل يعمله الإنسان، خيرًا أو شرا، ولو ضئيلا كالنملة الحمراء أو الذرات التى تطير في الهواء، فلا بد أن يرى عاقبته.وليس المراد من هذه الآية أن توبة هذا الإنسان لن تُقبل.إن توبته ستُقبل، ولكن الإثم سيجعله أدنى درجة من الآخرين حتمًا.فمثلاً هناك شخصان متساويان في الحسنات فارتكب أحدهما سيئة ثم تاب عنها، فتاب الله عليه، وغفر له ذنبه؛ بينما عمل الآخر في هذه الأثناء حسنةً، فالتائب يظل في سلّم الحسنات حيث كان، ولكن الذي فعل الحسنة سيتقدمه بدرجة.إذن فالله تعالى سوف يغفر للمسىء التائب بسبب توبته ولكن لا يمكن أن يُلحقه الله بصاحبه الذي لم يرتكب تلك السيئة، بل سيظل هذا أفضل منه درجة.وإذا فكل عمل يُعقب نتيجةً.ويمكن فهم هذا المعنى الآن بسهولة بعد اكتشاف اللاسلكي والتلغراف والتلفون، الذي يؤكد أن كل حركة – مهما كانت ضئيلة لا تنفك تهتز وتنتشر في الجو لمسافات هائلة.فعلى الإنسان أن يكون شديد الحذر في أعماله، لأن كل عمل هو كالبذرة التي تنتج شجرةً جديدة، ولا يزال يزداد ويتضخم دون علم الإنسان.ورد في الحديث الشريف أن كل عمل يترك تأثيره على قلب الإنسان، فإن عمل حسنة صارت تلك الحسنة بقعة نورانية في قلبه حتى ينور قلبه كله بزيادة الحسنات، فتكتب له النجاة.أما إذا ارتكب سيئة صارت تلك السيئة بقعة سوداء في قلبه، حتى يسود قلبه كله بزيادة الذنوب، فيهلك.هذا، وقد قال البعض أن طائره يعنى نصيبه وحظه، أي ما كتب له عند القسمة منذ الأزل (القرطبي).ولكن هذا غير صحيح، لأنه تعالى قد أشار * * ورد في الحديث: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفرَ صُقل قلبه، فإن زاد زادت؛ فذلك الرانُ الذي ذكره الله في كتابه كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُون (ابن ماجة كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب).
الجزء الرابع ٤٧٣ سورة الإسراء بكلمة طائره إلى أن الإنسان هو صانع عمله، أما لو كان المراد بها ما قسم الله له لسمّاه حجرًا أو طوقًا، لا طائرًا.وقد يعني قوله تعالى أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ في عُنُقه أن الفال – الخير منه أو الشر- معلق بعنق الإنسان، ولكنه يبحث عنه عبثًا في الأشياء الأخرى.وقد استخدم الله تعالى كلمة (عنقه تنبيهًا إلى أن من طبيعة الإنسان أنه إذا عمل الخير رفع رأسه عزّةً وتفاخرا، وإذا ارتكب السيئة نكس رأسه خزيًا وهوانًا.فعليه أن يقوم بمحاسبة أعماله بعنقه أي رأسه بمعنى أن عليه أن يرى هل في عمله ما يجعله فخورا مرفوع الرأس بين زملائه الذين هم موضع أسراره أم لا؟ فإذا كان قلبه وزملاؤه يعتبرونه بريئا من العيوب فليعلم أن قدمه على الخير، أما إذا لامه ضميره أو أن أصحاب أسراره وجدوا فيه شتى أنواع النجاسات فماذا عساه ينتفع لو رفع رأسه بين القوم تفاخراً.أما قوله تعالى (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا فالمراد من الكتاب هو الجزاء، حيث يقولون: كتب عليه كذا أي قضى به عليه.والمراد من قوله تعالى يَلْقَاهُ مَنْشُورًا أن جزاء أعماله سيبدأ في الظهور هنالك، ولن يبقى مخفيًّا كالبذر، بل سينتشر كالشجرة انتشارا، ويأتي بثماره.اقْرَأْ كِتَبَكَ كَفَىٰ بِنَ سِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ) شرح الكلمات : : حسيبًا : الحسيب والمحاسبُ مَن يحاسبك (المفردات).التفسير قوله تعالى اقْرَأْ كِتَابَكَ يعني تَحمَّل الآن عقابك، واستمر في مذاكرة هذا الدرس.أما قوله تعالى كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا فيبين أن العقاب لن يأتي من الخارج، بل سينبع من داخل الإنسان.فكل ما يجد في الجحيم إنما هو سيئاته التي
الجزء الرابع ٤٧٤ سورة الإسراء ستتمثل له صنوفًا من العذاب وكل ما يجد في الجنة إنما هو حسناته التي ستتراءى له ألوانًا من النعم فكأن الله تعالى لن يعاقب الإنسان كما لن يعاقبه كائن آخر، بل إن الإنسان بنفسه سيجزي نفسه أو يعاقبها.صلے مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ قل عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً شرح الكلمات: تَزِرُ: وَزَرَه يَزِرُه وِزْراً : حمله، وفي اللسان حمل ما يُثقل ظهره من الأشياء المثقلة.والوزر: الإثم النقل السلاح لثقله على حامله؛ الحمل الثقيل (الأقرب).التفسير : هذه الآية شرح للآية السالفة حيث صرح الله تعالى فيها أن حسنات الإنسان لا تنفع إلا إياه، وأن سيئاته لا تضر إلا به.فما يفعله من شر أو خير إنما يفعله لنفسه لا لغيره.فالقاتلُ لا يزهق غيره بل نفسه، والظالم لا يعتدي على غيره بل على نفسه، والسارق لا يسرق مال غيره بل مال نفسه.وبالمثل فإن المتصدق لا ينفق إلا على نفسه والواعظ لا يعظ إلا نفسه، والناصح لا ينصح ولا يهدي إلا نفسه.ثم قال الله تعالى ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..أي لا يمكن أن يحمل أحد حمل غيره.يفرح المسيحيون بقراءة هذه الآية زاعمين أنها تؤيد عقيدة الكفّارة المسيحية حيث يقولون: نحن أيضا نقول أن الآثم لا يمكن أن يحمل عبء آثم آخر، وإنما الشخص الصالح الذي يمكنه أن يحمل عبء الآثم؛ وبما أن المسيح كان صالحًا
الجزء الرابع ٤٧٥ سورة الإسراء فتمكن من حمل أعباء الأئمين الآخرين، وبما أنه لم يكن ثمة صالح آخر سوى المسيح فلم يستطع أحدٌ غيرُه حمل أعباء الآثمين الآخرين!! أنا لا أريد هنا الخوض فيما إذا كان المسيح صالحا أم لا بحسب العقيدة المسيحية، كما لا أود الخوض فيما إذا كان هناك صالح آخر غير المسيح أم لا وفق العقيدة الإسلامية، لأنه لا يصلح هذا المجال لمثل هذا النقاش، غير أنني أقول ردًّا عليهم: إن هذه الآية إنما تعلن أن أعمال الإنسان – سواء كانت حسنة أو سيئة - إنما هي له أو عليه ويستحيل أن يحمل عواقبها غيره..بمعنى أن الثواب أو العقاب ليس بشيء يأتي من الخارج، وإنما هو ثمرة أعمال الإنسان نفسها.والظاهر أن البذر إنما ينبت ويثمر في المكان الذي يُبذر فيه، لا في أي مكان آخر.فمثلا إن شجرة المانجو المزروعة في مدينة لاهور لن تثمر في مدينة أمر تسار أبدا.فما دام الثواب أو العقاب لا ينبع إلا من داخل صاحب العمل فيستحيل يشاطره فيه غيره، أو يعتبر نفسه مسؤولا عن عمل غيره.فالحق أن هذه الآية ترفض الكفارة المسيحية ولا تدعمها أبدًا، لأن الكفارة إنما تتأسس على فكرة أن العقوبة عبء يُلقى على الإنسان من الخارج، ويمكن أن يحمله غيره نيابةً عنه.وفرارًا من هذا الاعتراض قال المسيحيون بكون جهنم مادية.(Catechism of Christian Doctrine, vol.p 099) أن وقولهم هذا يدل على حمقهم وغبائهم، إذ من غير المعقول أن تكون الجنة روحانية، بينما تكون جهنم مادية.فإما أن تكون كلتاهما ماديتين أو روحانيتين.وإذا كانت جهنم روحانية كالجنة فلا يمكن أن يتحمل أحد عذابها نيابة عن غيره، إذ من المستحيل لأحد أن يتقاسم مع غيره ندمه وجشعه وحزنه وغضبه وما إلى ذلك.إنه لا يستطيع أن يتقاسمها مع غيره لأنها أشياء تنبع من داخل الإنسان، وتكون نفسه مسؤولة عن حدوثها.ومثل هذه العقوبة إنما تنمحي فقط إذا فنيت النفس حقيقةً أو مجازاً..أي إذا تطهرت نتيجة شعورها بالندامة والخجل.ولا يمكن لأحد أن يشاطر غيره في فنائه هذا بشكل من الأشكال..
الجزء الرابع ٤٧٦ سورة الإسراء أعنى أنه من المستحيل لأي شخص عاقل أن يقول لغيره : لا ترهق نفسك بالخجل، فأنا أخجل نيابة عنك.ومن قال ذلك فلا شك أنه مخبول مجنون.فما لهؤلاء المسيحيين الذين يسيئون إلى المسيح عبد الله المختار حيث يعزون إليه مثل هذه الفكرة السخيفة؟! أما قوله تعالى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رسولا فقد فصله القرآن الكريم ) في أماكن أخرى منها: ١- قوله تعالى ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ)) (الملك: ۹ و ۱۰) ٢- وقوله تعالى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا (الزمر: (٧٢) وقوله تعالى (أَوَلَمْ نُعَمِّرُكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) (فاطر: ۳۸) ٤- وقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رسولا) (القصص: ٦٠) ه وقوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص: ٤٨)..أي بما أن هذا عذر معقول لذلك بعثنا إليهم الرسل دائما، ولم نعذبهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم وبعد أن كفروا برسلهم.كل هذه الآيات تبيّن أن من سنة الله تعالى أن لا يُنزل العذاب على أي قوم دون أن يبعث إليهم رسولا، بمعنى أن المنطقة التي تكون رسالة رسول ذلك العصر موجَّهةً إلى أهلها لا تتعرض للعذاب ما لم يظهر بينهم رسول آخر – وإن كان تابعًا للنبي السابق – وما لم يقم بإنذارهم.
الجزء الرابع ٤٧٧ سورة الإسراء وقد يسأل هنا أحد فما بال القوم الذين يذقون هذا العذاب ولم تقم عليهم الحجة؟ لقد جاء الجواب على ذلك في حديث ورد في مسند أحمد* بن حنبل والمروي عن أبي هريرة الله أن النبي الله الله قال : أربعة يحتجون يوم القيامة: رجلٌ ﷺ أَصَمُّ لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هَرم، ورجل مات في فترة.فأما الأصم فيقول: رَبِّ، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا؛ وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبَعْر؛ وأما الهرم فيقول: ربّ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا؛ وأما الذي مات في الفترة فيقول: رَبِّ، ما أتاني لك رسول؟ فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعُنَّه، فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار.فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سُحب إليها" (روح المعاني)..أي أن الله سوف يختبر هؤلاء يوم القيامة بهذا الطريق، فتنكشف فطرتهم على حقيقتها، ويُجزون بحسبها.وَإِذَا أَرَدْنَا أَن تُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَهَا الْقَوْلُ فَدَمرْنَهَا تَدْمِيرا ) * ني ۱۷ ونص الحديث: "عن الأسود بن سريع أن الله قال : أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا شيئا، ورجل أحمق، ورجل هَرِمٌ، ورجل مات في فترة.فأما الأصم فيقول: ربِّ، لقد جاء يسمع الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول: ربِّ، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ، ما أتاني لك رسول؟ فيأخذ مواثيقهم لَيُطِيعُنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار.قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بَرْدًا وسلامًا....عن أبي رافع عن أبي هريرة مثل هذا، غير أنه قال في آخره: فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يُسحب إليها" (مسند أحمد: مسند المدنيين رقم الحديث ١٥٧١٢)
الجزء الرابع شرح الكلمات: ٤٧٨ سورة الإسراء مُترفيها : المترف: المتنعم لا يُمنع من تنعمه؛ المتروك يصنع ما يشاء؛ الجبار (التاج).فسقوا فسق الرجلُ فسقا وفسوقا: ترَك أمر الله ؛ عصى وجار عن قصد السبيل؛ خرج عن طريق الحق.وفسقت الرطبة عن قشرها: خرجت (الأقرب).دمرنا: دمرهم وعليهم: أهلكهم (الأقرب).التفسير : لقد نبه الله الله هنا أنه يقضي بعذاب الأمم عند فسادها، فيرسل إليهم رسولاً ينذرهم بالعذاب، ولكنهم لا يصدقونه، بل يرفضونه مستهزئين، فيأخذهم العذاب.لقد فسر بعض أعداء الإسلام قوله تعالى (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فيها تفسيرًا خاطئًا، فقالوا أن القرآن يعلن هنا أن الله نفسه يأمر علية القوم من القرية بارتكاب الفواحش فيرتكبونها ثم بناء على تفسيرهم الخاطئ هذا يعترض هؤلاء: كيف يحث الله المترفين أوّلاً على ارتكاب الفواحش، ثم يعذبهم؟ فهذا خلاف العدل والنَّصفة! الحق أن تفسير هؤلاء الطاعنين المغرضين باطل تماماً، إذ لو أخذنا بتفسيرهم لأصبحت هذه الجملة مدحًا للمترفين، لأنها ستعني أن الله يأمرهم بارتكاب الفواحش، ولكنهم يعصون أمر الله هذا - علما أن فسقوا تعني عصوا - وكأنهم رغم حث الله لهم على الفواحش لا يرتكبونها بل يصبحون أكثر صلاحًا من ذي قبل! وهذا المعنى باطل بالبداهة، لأن هذه الآية جاءت في محل اللوم على المترفين.ولو فسرناها بأن الله الله يحث المترفين على الفواحش فيرتكبونها، لم تستقم كلمة فسقوا في السياق، لأنهم ما داموا ارتكبوا الفواحش بأمر الله تعالى فلم يفسقوا أي لم يعصوه له، بل أطاعوه.
الجزء الرابع ٤٧٩ سورة الإسراء فثبت أن تفسيرهم هذا دليل على جهلهم باللغة العربية، ولا يَرِدُ الاعتراض على القرآن الكريم في الواقع، وإنما على علمهم الناقص.إن ما يقوله القرآن الكريم هو أن الله تعالى يعطي هؤلاء المترفين أوامره – وهي طبعا أوامر حسنة لأنها منه الا الله - ولكنهم يفسقون أي يعصون أوامره.مع العلم أن المفعول الثاني لفعل أمرنا محذوف هنا لكونه ظاهرا بينا، وهو فعل الخيرات.وحذفُ أحد المفعولين أو كليهما جائز في العربية في مثل هذه المناسبات.لقد قلت إن المحذوف هنا ظاهر بين لأن القرآن الكريم قد أكد مرة بعد أخرى أن الله لك لا يأمر إلا بالخير، كما صرح الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بالعَدْلِ والإحسان وإيتاء ذي القُرْبى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يَعِظُكُم لعلكم تَذكَّرون) (النحل: (٩١)..أي أنه تعالى يأمر بالعدل والإحسان وكذلك بالخير الذي لا يمكن أن يفكر صاحبه في الجزاء عليه.وقال الله تعالى (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء)) (الأعراف: ۲۹) وباختصار فإن المفهوم الحقيقي للآية هو أن الله تعالى عندما يريد إهلاك قوم يأمرهم بعمل الصالحات بواسطة رسول يبعث فيهم، ولكنهم بدلاً من أن ينتفعوا هذا الإنذار يزدادون عصيانًا لأوامره ، فيُهلكهم.علما أن قوله تعالى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا لا يعني أنه تعالى يأمر الأثرياء منهم فحسب، ذلك لأن من معاني المترف : الذي يصنع ما يشاء ولا يُمنَع، وهذا المعنى يشمل الآثمين جميعًا، الأثرياء منهم والفقراء على حد سواء.وقد يكون المراد أن أَمْرَنا هذا يكون أمراً عاماً في الحقيقة، فيرفضه المترفون أي الجبابرة البغاة منهم، بينما يقبله الصلحاء من بينهم؛ ونظيره في القرآن قول الله تعالى لإبليس مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك (الأعراف:١٣)، مع أن أمر السجود لم يكن موجها إليه بشكل خاص، بل كان عاما يشمله مع غيره.
الجزء الرابع ٤٨٠ سورة الإسراء وهكذا تمامًا يأتي كل نبي بأحكام الله التي تخص القومَ كله، فيؤمن بها المؤمنون، ويكفر بها الكافرون.أما "القرية" فلم ترد هنا بمفهومها العام، بل جاءت بمعنى "أُم القرى"..أي القرية التي يختارها الله مركزا لدعوة نبيه المبعوث في ذلك العصر؛ كما قال الله تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا) (القصص: ٦٠) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) شرح الكلمات: ۱۸ أمته القرون: جمع قرن، ولها عدة معان منها : كلُّ أمة هلكت فلم يبق منها أحد؛ الوقت من الزمان أهل زمان واحداً أمةٌ بعد أُمة.وقرن الشيطان وقرناؤه: المتبعون لرأيه، أو قوّته وانتشاره وتسلطه (الأقرب).أنه لا يليق بالله التفسير : يقول الله تعالى إنكم ستجدون أمثلة كثيرة على بعث رسول إلى كل أمة على مر الدهور منذ عصر نوح حتى اليوم.وقوله تعالى وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوب عباده خَبِيرًا بَصِيرًا) عِبَادِهِ يعني الخبير البصير أن يلتزم الصمت وهو يرى عباده في الضلال تائهين!! وهذه الجملة أيضًا تبطل زعم أولئك الجاهلين الذين قالوا أن الآية السابقة تعني أن الله يدفع العباد إلى غشيان المعاصي ثم يعذبهم! فقد صرّح الله تعالى هنا أنه يرى الناسَ آلمين فيأمرهم بالكف عنها، وليس أنه هو الذي يدفعهم إلى ارتكاب الآثام.
الجزء الرابع ٤٨١ سورة الإسراء مِّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجِّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَيْهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (3) شرح الكلمات: العاجلة: عجل الرجلُ : أَسرَعَ العاجلةُ : الدنيا (الأقرب).وقوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ العاجلة..أي الأعراض الدنيوية (المفردات).جهنم: دار العقاب بعد الموت (الأقرب).راجع لمزيد التفصيل شرح كلمات الآية رقم ٢٠ من سورة الرعد.مدحوراً دخره يدحُر دُحورًا طَرَده ؛ أبعده؛ دفعه (الأقرب).التفسير: لقد نبه الله تعالى الإنسان هنا أن لا يطمع في المنفعة العاجلة، بل يطمح إلى ما هو مبارك وإن كان آجلا.كما نصح الإنسان ألا يُعدّ الترقيات المادية وحدها فضل الله تعالى، ذلك لأن الله لا يمنح بعض الأمم الرقي المادي أحيانًا، ولكنه لا يكون دليلاً على رضاه، لأن الرقي المادي لا يُعتبر فضلاً ورضواناً من الله إلا إذا صحبه الرقي الروحاني أيضًا.وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَتِيكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا ) أحدا التفسير: إن ضمير المؤنث في سعيها راجع إلى الآخرة، والمعنى: أنهم يسعون للآخرة السعي المناسب للفوز بها.وقد أشار الله الله بذلك إلى أنه لن ينفع في الآخرة السعي العادي، وإنما ينفعه من السعي ما يتلاءم ومتطلبات الفوز بالآخرة.
الجزء الرابع ٤٨٢ سورة الإسراء كما نبه الله بقوله وهو مؤمن إلى أن الفوز في الحياة الآخرة إنما أساسه طهارة القلب.ذلك أن الأعمال الدنيوية تنفع صاحبها في الدنيا أحيانًا بدون الإيمان أيضًا، ولكن في الآخرة لن ينفع الإنسان من أعماله إلا ما صدر عن إيمان صادق، لأن "مشكورًا" هنا يعني مقبولا أي لن يقبل عند الله إلا العمل الذي معه إيمان.علما أن قوله تعالى (وهو مؤمن لا يعني أنه لا يُقبل العمل الحسن أبدًا إلا من المؤمن، وإنما المراد أن الذي يعمل العمل الحسن مؤمنًا بجزاء الآخرة سينال الجزاء عليه هنالك، أما الذي يعمل العمل الحسن غير مؤمن بجزاء الآخرة فينال جزاءه عليه في هذه الدنيا نفسها.كُلاً تُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ محظورًا (3) شرح الكلمات لمد: أمدَّه أمهله؛ أمدَّ أجله : أخَره.أمدَّ الجندَ : نصرهم بجماعة.أمد فلانا بمال : أعطاه؛ أعانه وأغاثه (الأقرب).محظورا: المحظور: الممنوعُ المحرَّمُ، ومنه في القرآن وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْطُورًا ، وقيل : مقصوراً على طائفة دون أخرى من حَظَرَ الشيء إذا حازه لنفسه خاصة (الأقرب).التفسير: لقد أزال الله تعالى هنا الشبهة التي قد تتولد لدى قراءة الآية السالفة، صرّح الله إذ قد يظن البعض أن غير المؤمن لن ينال أي جزاء على حسناته؛ لذا الله هنا أن النصرة الإلهية نوعان: النوع الأول لا يختص بالدين والإيمان بل هو وتعالى عام؛ فكل من يعمل عملاً ويسعى لهدف ينال ثمرة جهوده، سواء أكان هندوسيا
الجزء الرابع ٤٨٣ سورة الإسراء أو مسلمًا أو مسيحيا أو يهوديا أو غير ذلك.والنوع الآخر من النصرة الإلهية خاص بالدين، ويتلقاه المؤمن دون الكافر.انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَتٍ وَأَكْبَرُ تَضِيلاً : ۲۲ التفسير : ورد في الحديث الشريف: "عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرِّيَّ من الأفق من المشرق أو المغرب..لتفاضل ما بينهم" (مسلم: كتاب الجنة، باب الغابر ترائي أهل الجنة أهل الغرف).لقد جيء بهذه الآية تدليلا على ما ذكر في الآية السالفة، حيث قال الله تعالى: انظروا كيف آتينا كثيرًا من الكافرين الرقي المادي، وليس وراءه إلا أعمالهم التي حظيت بالقبول لدينا.لقد كدحوا من أجل الدنيا فآتيناهم الدنيا.ولكن يجب ألا ينخدعن أحد بهذا، فيظن أن غير المؤمنين أيضًا يمكن أن يحرزوا الترقيات العليا الحقيقية.كلا، لأن هذه الإنجازات المادية ليست بشيء إذا ما قورنت بما في الآخرة من رقي عظيم.فالآية تحت المؤمنين على التنافس في الخيرات، مؤكدة أن عند الله على نعما عظمى، فعلى المؤمن ألا يتوقف عند حد معين من الحسنات.لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَنهَا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا تَحْذُولاً ۲۳ التفسير: لقد بين الله الله الله هنا لماذا لا يعطى الإنسان نعم الآخرة بدون الإيمان.ذلك أن المرء يكون مع من يتعلق به ؛ فمن كان ذا صلة بالله تعالى فلن يزال يمشى قدما مع الله تعالى، ومن كان على صلة بالآلهة الباطلة بدلاً من الله تعالى فسيكون حيث آلهته الباطلة.
الجزء الرابع ٤٨٤ سورة الإسراء علما أن الشرك يسبب سقوط الإنسان وتخلفه باستمرار.وليس في التاريخ البشري كله أمة أحرزت رقيًّا بسبب شركها، كلا، بل إن الأمة الوثنية كلما حققت رقيًّا حققته ضاربةً عقائدها الوثنية عرض الحائط، وليست عاملةً بها.ج وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل هُمَا أَيْ وَلَا تَهرُهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ) شرح الكلمات: قضى : قضى عليه عهدًا أوصاه.قضى العهد : أنفذه.قضى إليه الأمر: أنهاه وأبلغه.وفي الأساس: قضى إليه أمرًا وعهدًا: وصاه به وأَمَرَه به (الأقرب).أف: كلمة تكره وتضحر (الأقرب).لا تنهرهما : نَهَرَ السائل: زجَره (الأقرب).قولاً كريما : أي سهلاً لينا (الأقرب).التفسير : يخبرنا الله الله الآن كيف يستطيع الإنسان حماية نظامه، حيث أورد هنا ملخص تعاليم القرآن الكريم، منبها أنه لا بد للناس من مراعاة هذه الأحكام والالتزام بها في أيام إيمانهم، لينجوا من الانحطاط، وإلا لن يستمر رقيه.لقد أمر القرآن الكريم بإقامة التوحيد وردّ الشرك أولاً وقبل كل شيء، لأن الأمم عندما تنال الحكم والسلطان تتسرب إليها الأوهام والوثنية بشتى أنواعها، لذا قرن الله و أنباء الرقي بالتحذير من الأخطار القادمة لنأخذ الحذر منها.وقد قدّم القرآن الأمر بإقامة التوحيد ورفض الشرك على كل الأحكام الأخرى لأن الإثم لا يتولد بدون الشرك.وأرى أن كل المعاصي هي في الحقيقة فروع لشجرة الشرك والوثنية، إذ لا يرتكب الآثم أي إثم إلا لأنه في الواقع لا يؤمن
الجزء الرابع ٤٨٥ سورة الإسراء بذات الله وصفاته إيمانا كاملا ولا يتوكل عليه الله وتوكلا كاملا.إن عقيدة التوحيد إنما هي بمثابة البذرة للحسنات، وهي المحور للأديان كلها والأخلاق بأسرها، وإنكار التوحيد يُؤدي إلى زعزعة أسس قانون الطبيعة وقانون الشريعة كليهما.وعلاقة التوحيد بقانون الشريعة غنية عن البيان، وأما علاقته بقانون الطبيعة فاعلم أن التقدم العلمي والرقي المادي كله مرتبط بالتوحيد نفسه.ذلك أن الاعتقاد بأكثر من إله واحد يؤدي إلى الاعتقاد بأكثر من نظام في الطبيعة، أو على الأقل بحدوث تغيرات كثيرة باستمرار في النظام الطبيعي، ولولا وجود نظام طبيعي واحد غير قابل للتغير والتبدل لتوقفت كل التطورات العلمية دفعة واحدة.ذلك أن التقدم العلمي في شتى المجالات واختراع الأشياء المختلفة إنما أساسه وجود نظام موحد في الكون لا يتغير ولا يتبدل أبدا.ولو أن الإنسان ظن أن الكون لا يخضع لنظام موحد أو أن هذا النظام يتغير ويتبدل من حين لآخر لما اتجه أبدًا إلى معرفة أسرار الطبيعة.وبعد أن أمرنا الله بالإيمان بالتوحيد أوصانا بالإحسان إلى الوالدين، لأن وجودهما يوجهنا إلى الله..إنهما مظهر لقانون الطبيعة يأخذ بنا إلى قانون الشرع، إذ يدلنا على الذات التي هي مُبدئ الأشياء.إن الولادة عن طريق الوالدين دليل على أن الإنسان لم يُخلق ،صدفة، بل كان قبله أحد غيره وقبله أحد آخر وهلم جرا، وهذا يمثل برهانا على وجود البارئ.فلولا نظام التناسل لما فكر الإنسان في هذه السلسة الطويلة التي توصله إلى المبدأ الحقيقي.كما أن ظاهرة التناسل تحدو بنا إلى حقيقة أخرى ألا وهي أن غاية خلق الإنسان غاية عظيمة بحد ذاتها.ومن أجل ذلك كله أمرنا الله بالإحسان إلى الوالدين بعد أن أوصانا بالإيمان بالتوحيد، لأن الشكر على نعمة يذكر الإنسان بالشكر على نعمة أخرى.
الجزء الرابع ٤٨٦ سورة الإسراء 6 وقوله تعالى وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) عطف على (أن) الواردة في قوله تعالى ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ، والتقدير وأن أحسنوا بالوالدين إحسانًا، أي لقد أمركم الله ألا تعبدوا أحدًا غيره ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانًا.ما ألطف هذا البيان وما أروعه فحيث إن الإنسان لا يقدر إطلاقا على أن يجزي الله على نعمه على نعمه وأياديه، فلذا قال لدى الحديث عن الله تعالى: ما دمتم لا تستطيعون أن تحسنوا إلى الله تعالى، فتجنَّبوا ظُلم الشرك به على الأقل؛ أما الوالدان فقال الله عنهما: أحسنوا إلى الآباء كما أحسنوا إليكم، ذلك لأن بوسع الإنسان أن يرد على ما صنع به الوالدان من جميل.وأما قوله تعالى عندك فالمراد منه أن والديك لو كانا بكفالتك أي يسكنان في بيتك وتنفق عليهما فأيضًا لا تَقُل لهما ما يجرح مشاعرهما، فما بالك لو تعرضا لأذاك وهما يسكنان في بيت لهما مستقل.لقد ذكر الله هنا كفالتهما خاصة لأن العيش الدائم معا أدعى إلى الاختلافات، وأيضا لأن الإنسان إذا أنفق على أحد ظن أن له حقا عليه.و (أف كلمة تضحرٍ وتضايق، وقوله تعالى (ولا تنهرهما ولا تو بخهما..وكأنه تعالى يقول : لا تؤذهما بالقول ولا بالفعل.يعني لا تزجُرهما لقد حثّ الإسلام على خدمة الوالدين كثيرًا، فقد قال النبي ﷺ: "من أدرك ٤ ج ص ٣٤٤ مسند الكوفيين رقم أحد والديه ثم لم يُغفر له فأَبْعَدَه الله" لله" (مسند أحمد الحديث ١٨٢٥٦)..أي من أضاع مثل هذه الفرصة الذهبية لفعل الخير الذي يُكسبه غفران الله ورضوانه، فلا سبيل لوصوله إلى الجنة.وَأَخْرِضٌ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) ۲۵
الجزء الرابع شرح الكلمات : ٤٨٧ سورة الإسراء واخفض: خفض الشيء ضدُّ رفعه، وفي القرآن وَاحْفَضْ جَنَاحَكَ للمؤمنين أي تَواضع لهم.خفض صوته: أخفاه وغَضَّه وخفض الصوتُ نفسه: لان وسهل (الأقرب).جناح: الجناح ما يطير به الطائرُ ؛ يدُ الإنسان؛ العضد؛ الجانب؛ الكنف (الأقرب).الذُّل الانقياد؛ السهولة، واللين والتواضع (الأقرب).التفسير بهذا التشبيه اللطيف قد أوصى الله وعمل الإنسان أن يكون في خدمة والديه دومًا.كما نبه الله تعالى أن الإنسان على العموم لا يقوم بخدمة والديه كما خدماه في صغره، ولذلك أمره أن يدعو لهما دائما بالرحمة، حتى إذا حصل تقصير منه في خدمتهما تداركه بالدعاء لهما.والكاف تأتي للتشبيه أيضًا، فتعني جملة كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا أن الوالدين يحتاجان في الكبر إلى خدمة كتلك التي يحتاجها الطفل في صغره.لقد علمنا الله لالالالالالاله هذا الدعاء لسبب آخر أيضًا، ألا وهو أن الذي هو دائم الدعاء لوالديه لا بد أن يهتم بأداء واجب الخدمة تجاههما أيضًا.رَّبِّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُواْ صَلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّبِينَ غَرُورًا ) شرح الكلمات: ٢٦ أوابين: جمع أواب، وهو صيغة المبالغة من آب إلى الله: رجع عن ذنبه وتابَ (الأقرب).
الجزء الرابع ٤٨٨ سورة الإسراء التفسير: أي أنه لو صلحت نية الابن تماما فسوف يستر الله تعالى عيوبه ويسدّ أي تقصير يحصل منه في خدمة والديه.تشبه هذه الآية في مفهومها الحديث الشريف الآنف الذكر بأن "مَن أدرك أحد والديه ثم لم يُغفر له فأَبْعَدَه الله وعل" لأنها هي الأخرى تؤكد أن الصالحين- أي الذين يعملون بالتعليم المذكور أعلاه - سيعاملهم الله تعالى بالتسامح والمغفرة.وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ۲۷ شرح الكلمات لا تُبذر : بدر المال: فرقه إسرافًا (الأقرب).التفسير: لقد نبه الله تعالى هنا أن في مال كل إنسان حقا للأقارب والمساكين إذا والمسافرين.ذلك أن أقارب المرء يساعدونه في كسب المال بطرق شتى؛ فمثلاً أنفق الوالدان على تعليم أحد أبنائهما، فتقلد هذا منصبا مرموقا، بينما لم تتيسر لإخوته هذه السهولة من قبل الوالدين فلإخوته حق في ماله، إذ كان لهم جميعا الحق في المال الذي أنفق على تعليمه.وأما حق المساكين والسائلين والمسافرين فقد أقرّه الله و صراحة في آية أخرى حيث قال (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ للسَّائل وَالْمَحْرُوم (الذاريات: ٢٠) وقمة أسباب وحكم في إقرار حق المساكين في أموال الناس، ومن هذه الحكم: أوّلاً: أن الأيام دُوَل، ففقراء اليوم كانوا أثرياء الأمس، وأثرياء اليوم كانوا فقراء الأمس؛ وبما أن فقراء الأمس كانوا قد أحسنوا إلى أثرياء اليوم عند فقرهم، فوجب عليهم الآن أن يمدوا إليهم يد العون.ولو نظرنا إلى الدنيا من هذا المنظور
الجزء الرابع ٤٨٩ سورة الإسراء نظرةً شاملة لم نجد فيها شخصا واحدًا ماله ملك خالص لــه، بل لا بد أن يكون فيه حقوق للآخرين.وثانيًا: إن كل ما في الدنيا من أشياء قد خلقها الله تعالى للناس عامة، لا لزيد أو لبكر خاصةً.فإذا أصبح أحد ذا ثروة لسبب من الأسباب فهذا لا يلغي حقوق الآخرين في أمواله لكونهم شركاءه على قدم المساواة في ملكية ما في الدنيا لا شك أن الإسلام قد أقر بحق زائد لصاحب الأموال لما بذله في كسبها من جهود خاصة، ولكنه لا يعتبر هذه الأموال ملكًا له كلية دون شركة أحد سواه.أما المسافرون فمن أسباب إقرار حق لهم في أموال الآخرين أن الناس حين يسافرون إلى أرض أولئك المسافرين فإنهم يحسنون إليهم، فعليهم أيضا أن يخدموهم حين سفرهم بأرضهم، أداء لحق الضيافة التي قدمت لهم.وقد قال النبي ﷺ في حق ابن السبيل: إذا نزلتم في قرية فلكم حق الضيافة لثلاثة أيام.فقال الصحابة فإن لم يَقرُونا فماذا نفعل؟ قال النبي : فخذوا منهم * حق الضيف الذي ينبغي لهم..علما أن هذا الحكم يخص الزمن الذي يكون فيه النظام الإسلامي قائما، لأن غير المسلمين أيضًا سيستطيعون عندها أن يأخذوا من هذا النظام حق ضيافتهم.والواقع أن الدنيا لو عملت بهذا التعليم لاختفى منها كثير من المفاسد التي من جراء الفنادق والحانات ولسهل على الفقراء أيضًا السفر- الذي هو من * نشأت ورد في الحديث: قال النبي ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، قالها ثلاثًا.قال: وما كرامة يا رسول الله؟ قال: ثلاثة أيام.فما جلس بعد ذلك فهو عليه صدقة." (مسند أحمد: باقي مسند المكثرين الضيف رقم الحديث ١١٣٠١) وفي رواية: "عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِي اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تَبْعَثْنَا فَتَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلَا يَقْرُونَنَا، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ الله : إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الصَّيْف الَّذِي يَنْبَغِي لهم." (صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إكرام الضيف وخدمته)
الجزء الرابع ٤٩٠ سورة الإسراء أفضل وسائل تربية الإنسان وتوعيته إلى مختلف أنحاء العالم.ولكن الأسف أن المسلمين أنفسهم قد نسوا هذا الدرس.الحق أن هذا الحكم العام بحسن معاملة المسافرين يقضي على كثير من الفتن في العالم، لأن النزاعات والحروب إنما تنشب جرّاء النفور والكراهية، ولكن لو كان هناك رواج عام لضيافة المسافرين لانعدمت الكراهية بين الأقوام، ولقضي على الخصومات بين القرى والمدن؛ ذلك لأن الذين استمتعوا بضيافة بلد آخر لن يفكروا في محاربة أهله أبدًا ، اللهم إلا أهل الطبائع الخبيثة الذين عددهم أقل نسبيًا.كما أن العمل بهذا التعليم يوطّد النظام في القرى والمدن، لأن مسؤولية الضيافة تقع على القرية كلها، وأداء هذه المسؤولية سوف يؤدي بأهل القرية كلهم إلى الانخراط في نظام يمكنهم من أداء واجب ضيافة المسافرين.كما أن هذا النظام سينفعهم في أمور أخرى.لا يعني وأما قوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فاعلَمْ أن الإنفاق في المجالات المذكورة أعلاه أن يقوم المرء بإتلاف ماله كلية، وإنما المراد به النفقات الضرورية، لا أن يُهلك الإنسان ماله بإنفاقه فيما لا يحل فيه.فقد قال ابن مسعود: "التبذير: الإنفاق في غير حق" (ابن كثير.وهذا يعني أن الإنفاق في سبيل الدين ليس تبذيرا ، بل لو أنفق أحد كل ما يملك في سبيل الله تعالى لسد حاجة دينية فلن يُعَدَّ من المبذرين، لأنه لم ينفق في غير محله.لقد أوضح القرآن الكريم معنى التبذير في موضع آخر حيث قال (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلكَ قَوَامًا (الفرقان: ٦٨)..أي على المرء أن يسلك في الإنفاق طريقا وسطا، فلا يبالغ فيه ولا يبخل.
الجزء الرابع ٤٩١ سورة الإسراء إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كُورًا ۲۸ التفسير: يقول الله تعالى إن تبذيركم للمال يعني كفرانكم لنعمنا.لقد أعطيناكم المال لتنفقوه في محله، أما إذا أهلكتموه بالتبذير فرارا من أداء الواجبات المالية التي أمرناكم بها فيكون إنما منكم.ما أروع وألطف ما ردّ الله به هنا على الرهبانية وما شاكلها من الطرق الخاطئة.ما هي الرهبانية؟ إن هي إلا أحد طرق الفرار من تحمل المسؤولية.ولا يمكن أن يسمى مثل هذا الفعل خيرًا، بل هو إثم بَوَاحٌ وعمل شيطاني وكفران بنعمة الله عل.وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل هُمْ قَوْلاً مِّيْسُورًا ۲۹ شرح الكلمات : ميسورا: الميسور ما يُسرَ وهو خلاف المعسور، وهو مصدر على مفعول بمعنى اليُسر؛ السهل، ومنه: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (الأقرب).التفسير لهذه الآية مفهومان عندي: الأول: أنك إذا أعرضت عن الأقارب والمساكين وغيرهم..أي لم تستطع مساعدتهم لضيق اليد..فعليك أن تنوي في قلبك نية صادقة أنك ستساعدهم عندما يبسط الله لك؛ كما يجب أن تشرح لهم هذا الأمر بغاية اللطف والرفق.والثاني: أنك إذا أعرضت عن مساعدة الفقراء ابتغاء رحــمة مـــن ربك..أي بفكرة أن إنفاقك عليهم سوف يؤدي إلى فساد دينهم وخلقهم..فعليك
أن الجزء الرابع ٤٩٢ سورة الإسراء تشرح لهم ذلك بنبرة ملؤها اللطف والرقة.وكأن الله وعمل يقول: يجب أن يكون أساس إعراضك عن الإنفاق عليهم ابتغاء رحمة الله لهم، وليس بخلا منك.فمثلاً هناك متسول سليم الجسم قوي الجثة يمد يده أمام الناس، فلو امتنع أحد عن مساعدته مخافة أن تشيع عادة السؤال في القوم فهذا جائز، شريطة ألا يكون ذلك شحا وبخلاً.وبالمثل لو كان المتسول مسرفًا أو مدمنا على تعاطي الخمر أو الأفيون مثلاً، فامتنع أحد عن إعطائه شيئًا فلن يُعَدَّ آلما بل فاعلاً للخير؛ شرط أن تكون نيته أنه لو أنفق عليه فهذا سوف يدمّر صحته أكثر، ويؤدي إلى شيوع السيئة في البلد، وأن عدم إنفاقه عليه سيقضي على إدمانه، وسينفع المجتمع فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي الهلال لو كان يلزم الصمت عند سؤال مثل هؤلاء السائلين أو ينصحهم.انظر النسائى الزكاة، باب مسألة القوي المكتسب؛ أبو داود: الزكاة) أيضًا.وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (3) شرح الكلمات: مغلولةً : اسم مفعول مِن غلَّ فلانًا: وضَع في يده أو عنقه الغُلَّ (الأقرب).محسورًا: حسّر الشيء: كشفه.حسر الغصن: قشره.حسر البعير: ساقه حتى أعياه.حسر البيت: كنسه (الأقرب).التفسير: يوصي الله ل هنا ألا تجعلوا أيديكم مغلولة إلى الأعناق عند الإنفاق..أي لا تتردَّدوا في الإنفاق وقت الحاجة، كما لا تبسطوا أيديكم للإنفاق تمامًا، فتنفقوا فيما لا داعي له، بل أنفقوا عند الضرورة فقط، حتى لا يحرمكم الإنفاق في غير محله من الإنفاق في محله، فتُحرموا من الخير.
الجزء الرابع ٤٩٣ سورة الإسراء وللإنفاق في غير محله مضرتان إحداهما أن المنفق في غير محله يجد نفسه خاوي الوفاض عند الضرورة الحقة، فبينما ينفق أقرانه بسخاء ينظر هو إليهم حائراً متحسرًا، فيلومه القوم قائلين إن البلد أو الشعب اليوم في حاجة، لكنه لا يحرك ساكنًا.والمضرة الثانية أن المنفق في غير محله يصبح في مثل هذه المواقف محسورًا أي عاريًا..بمعنى أنه حين يفشل في إسعاف القوم وقت الشدة يصبح هدفًا للفضيحة و تنكشف للناس معايبه، حيث يدركون أنه شخص غبي لم يقدر على حفظ ماله، وأصبح اليوم عالة على الآخرين.والمحسور من البيوت ما قد كنس، ونظرًا إلى هذا المعنى فإن هذه الآية تعني إذا لم تسلك الطريق الوسط في الإنفاق كنس بيتك، و لم يبق فيه شيء.ج أنك إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ان التفسير: لقد بين الله و هنا أنه يعطى البعض بسطة في الرزق بينما يضيق على البعض الآخر رزقه، لكي ينظر هل يعين الغني الفقير.فإذا حفظتم أموالكم لكي تخدموا بها عباد الله إلى أكثر مدّى فهذه حسنة عظيمة جدا.ما أعظم إعجاز القرآن ففي الوقت الذي كان فيه المسلمون عرضة لصنوف المحن والتعذيب في مكة بدأ القرآن يبين لهم الأحكام التي سيحتاجون إليها زمن الرقي والغلبة فهل يمكن أن يتكلم بمثل هذا الكلام إلا الذي هو قادر بالفعل على تحقيق هذه الأمور قدرة كاملة.فثبت أن هذا القرآن لم يكن من افتراء بشر، إذ لو حاول أحد من البشر النطق بمثل هذا..الكلام في الفترة المكية وفي تلك الظروف الحالكة التى كان المسلمون يمرون بها..لَجَفٌ ريقه وغُصَّ به حلقومه.
الجزء الرابع ٤٩٤ سورة الإسراء وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) شرح الكلمات إملاق : أَملَقَ الرجلُ: أنفق ماله حتى افتقر (الأقرب).خطئًا: الخطءُ : الذَنْبُ؛ وما تُعمَّدَ منه (الأقرب).التفسير : في الركوع السالف الآيات) (۲٤ (۳۱) قد أمر الله تعالى أن أحسنوا إلى الناس، شريطة ألا يؤدي معروفكم إلى فساد الناس أكثر، أو إلى فسادكم أما الآن فقال : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ حَشْيَةَ إِمْلاق..أي لا تقتلوا أولادكم خوفًا من الإنفاق عليهم.علما أن هذا النهي ليس عن قتل البنات، لأن القرآن الكريم لم يقل في أي موضع منه أن الناس يقتلونهن خوفًا من الإنفاق أنتم، عليهن، وإنما أرجع قتلهن إلى الخزي الذي يشعر به البعض لدى ولادتهن.كما لا يمكن أن تفسر هذه الآية بألا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر والضيق المالي، لأن الإملاق لا يعني الفقر والضيق المالي، وإنما معناه الإنفاق، والمراد من هذه الآية: لا تقتلوا أولادكم خوفا من الإنفاق عليهم.وهنا ينشأ سؤال: هل في الدنيا أحد يقتل أولاده خوفا من الإنفاق عليهم؟ الحق أننا لا نجد بين أصحاء العقول من يرتكب جريمة قتل أولاده خشية الإنفاق عليهم، بل لا يوجد من يفعل ذلك حتى بين أولئك الذين لا يملكون المال.فثبت أن القتل هنا لا يعني معناه المعروف بل له مفهوم آخر، وعلينا بدراسة حياة البشر بحثا عن هذه "الجريمة".منهم لا وحين نفحص أحوال الناس على مختلف شرائحهم نجد أن هناك فئة تربي الأولاد تربية سليمة من جراء البخل والشح، حيث لا يطعمونهم كما ينبغي، أو لا يطعمونهم ما هو ضروري لنموّهم نمواً سليما.مما لا شك فيه أنه لا
الجزء الرابع ٤٩٥ سورة الإسراء يوجد في الدنيا بخيل يقتل أولاده بدس السم في طعامهم أو خنق حلقومهم خوفًا من الإنفاق عليهم..إلا بين المجانين فقط، ولكن ما أكثر ما نجد بين أصحاء العقول من يمنعه بخله من أن يهيئ لأولاده طعامًا مناسبًا ولباسًا ملائما، فيمرض أولاده أحيانًا لرداءة الغذاء، أو يقعون بسبب رداءة اللباس فرسى لأمراض فتاكة كالتهاب الرئة مثلاً.وهؤلاء البخلاء يوجدون في كل أنحاء العالم بالآلاف بل بالملايين.وقد تعني هذه الآية قتل الأولاد قتلا أخلاقيا وروحانيا، حيث لا يهيئ لهم الآباء فرصة التعليم المناسب خوفا من إنفاق المال.لذا ينهى الله المؤمنين عن ذلك، ويوصيهم ألا يترددوا أبدًا في الإنفاق على أولادهم لضمان صحتهم وأخلاقهم.هذا، وتشنيعا على هذه الفعلة فقد استخدم الله وعلى كلمة "القتل"، لأن الإنسان بفطرته يكره قتل أولاده.فالله تعالى ينبهنا أنكم لا يمكن أن تقتلوا أولادكم بأيديكم في حال من الأحوال، ومع ذلك فإنكم تقتلونهم بطرق أخرى، عندما لا تهتمون بإمدادهم بغذاء ولباس مناسبين بخلاً وشُحَّا، وهكذا تدمرون صحتهم، أو تقصرون في تربيتهم وتعليمهم فتقتلونهم قتلاً أخلاقيا.وهناك سبب آخر أيضًا لاستخدام كلمة "القتل" وهو أن الله تعالى لو اكتفى بقوله : لا بد لكم من الإنفاق على الأولاد، لم تتم الإشارة إلى التأثيرات السلبية الأخرى غير المباشرة التي تقع على حياة الأولاد، ولكن هذا التعبير القرآني قد أدى هذا الغرض، حيث أشار إلى كافة التأثيرات السلبية الأخرى غير المباشرة التي يصبح الأولاد عرضة لها مثل عدم اهتمام الرجل بغذاء الأم ولباسها كما ينبغي، أو إرهاقها بالعمل الشاق أثناء الحمل أو الرضاعة.فكلها أمور تؤثر على الأولاد سلبيًّا، فإما أن يُفقد الجنين أو يكون المولود معتل الصحة.كما يمكن تفسير هذه الآية بالمفهوم الذي ذكره بعض الصوفية وهو: لا تمنعوا الحمل مخافة أن يكثر الأولاد فلا يجدوا ما يكفيهم من الأكل، لأن هذا السلوك هو بمثابة قتل الأولاد الذي هو عمل حرام وسيئ في كل حال.
الجزء الرابع غير أن ٤٩٦ سورة الإسراء منع الحمل جائز في حالات معينة كأن تكون المرأة مريضة.ذلك أن العذر المرفوض في صدد قتل الأولاد - وهو خشية الإملاق - عذر موهوم غير مشهود، ومثل هذا العذر مرفوض لمنع الحمل أيضًا؛ أما منع الحمل بناء على عذر ملموس و خطر مشهود فليس بمحظور.وإضافة إلى منع الحمل فإن إجهاض الجنين أيضًا جائز في بعض الحالات، كأن تكون الحامل مهددةً بخطر الموت إذا ما تمت الولادة بطريقة طبيعية.ذلك أنه لا يمكن الجزم بما إذا كان الجنين سيولد حيًّا أم ميتًا، وهل سيعيش بعد الولادة أم لا؛ ولكن الأم موجودة كعضو مفيد في المجتمع، فلذلك سوف ترجح الخسارة المؤكدة على الخسارة الموهومة، فيتم إجهاض الجنين.وإذن فقد ربط القرآن الكريم النهي عن قتل الأولاد بشرط "خشية إملاق" ليلقي الضوء على موضوع واسع يشمل الاهتمام بتوعية الأولاد ورعايتهم، والحفاظ على صحة الأم وحياتها الغالية.وهذا جانب آخر من الإيجاز القرآني المعجز الذي يستحيل أن يوجد له نظير في أي كتاب آخر، بل الحق أنه موضوع فريد من نوعه لم يتطرق إليه أي سفر من الأسفار السماوية إلا القرآن الكريم.أما قوله تعالى إنَّ قَتَلَهم كان خطئًا كبيرًا فاعلم فاعلم أن هناك فرقا بين والخَطَأ، لأن الخطء ما تعمد الذنوب، أما الخطأ فيعني المتعمَّد منها أو هو من الخطء غير المتعمد.إذن فباستخدام كلمة "الخطء" قد أشار القرآن الكريم إلى أن قتل الأولاد جريمة تمجها الفطرة وترفضها..بمعنى أنه لا يمكن أن يأتي هذه الفعلة الشنيعة إلا الذي ماتت أحاسيسه الفطرية.ويؤكد التعبير القرآني إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئًا كبيرًا أيضًا أن القتل هنا لا يعني الذي يتم بسُمٌ أو سلاح، لأن هذا التعبير يوحي أن هذا النوع من القتل يتم بكثرة، ولكنا لا نجد أبدًا ظاهرة قتل الأولاد بأيدي الوالدين في أي بلد بكثرة بحيث يُعد جريمة عامة.
الجزء الرابع ٤٩٧ سورة الإسراء ومما يدل على أن القتل هنا لم يرد بمعناه المادي أن القرآن الكريم قد تناول أحكام القتل منفصلة فيما بعد، وتلك الأحكام تشمل قتل الأولاد أيضا.فثبت من ذلك أن القتل هنا له مفهوم خاص.وبين بقوله تعالى (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ أن رزق الأولاد مشمول في رزق الوالدين، فيجب ألا يُحرموا منه؛ ولأجل ذلك قال نرزقهم قبل وإياكم».وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (3) شرح الكلمات: فاحشة: ما يشتد قبحه من الذنوب؛ وقيل: كلُّ ما نهى الله عنه (الأقرب).التفسير : لقد جاء النهي عن الزنا هنا بعد النهي عن قتل الأولاد فورا، وفيه إشارة لطيفة إلى أن الزنا أيضًا يؤدي إلى قتل الأولاد؛ وذلك لسببين: أولهما أن الناس يسعون عمومًا لإجهاض جنين ،الحرام، وثانيهما أنه إذا لم يتم التخلص من جنين الحرام فإن الأب لا يساهم - في الغالب - في تنشئة وتربية ولده الحرام بشكل علني، ومن ثم يدمر مستقبل الطفل عمومًا، ويعيش محروما من الوارث الذي من واجبه أن يتولى رعايته.وباستخدام كلمات "ولا تقربوا الزنا" نبهنا الله إلى ضرورة تجنب مواقع الزنا أصلاً..فعلى المرء ألا يلتقى المحارم على انفراد ويتجنب الاختلاط بمن قدر الإمكان وما إلى ذلك من مواقع الزنا.واعلم أنه من فضائل القرآن الكبرى أنه لا ينهى عن الإثم فحسب، بل يدل على الوسائل التي تُجنّب الإنسان ارتكابه؛ ولا شك أن مثل هذا التعليم وحده كفيل بحماية المجتمع الإنساني.أما الكتاب الذي لا يدل الإنسان على ما يساعده على تجنب المعصية فإنه يدفعه إلى الحيرة والارتباك.وإنما يجلب للإنسان الطمأنينة والسكينة الكتابُ الذي ينهاه عن شيء ثم ينبهه على وسائل التجنب منه، لكي
الجزء الرابع ٤٩٨ سورة الإسراء يطمئن الإنسان أن بإمكانه العمل بما أُمر به.وعلى سبيل المثال، يقول الإنجيل: لا تَنظُرْ إلى امرأة بنية سيئة، ولكن القرآن الكريم ينهى عن النظر إلى المحارم أصلاً.ذلك لأنه إذا أُفسح المجال للشهوة التي تخلق الزلة في القلب فاجتنابها صعبًا يصبح جدا إن لم يكن مستحيلاً.ومن أجل هذه الحكمة يوصينا الله تعالى هنا أن نقف بعيدين عن مواقع الإثم بحيث نظل قادرين على مكافحته لقد طعن البعض في هذا التعليم فقالوا: هذا جبن! ولكنه ليس من الجبن في شيء، وإنما هو الحيطة والحذر ؛ وليس ثمة عاقل يعتبر الحذر جبنًا.ذلك أن الناس نوعان: أولهما من يقدر على تجنب المعصية وإن قاربها، وقد أمر هذا بالابتعاد عن مواقع الإثم لأنه وإن كان قادرًا على تجنب ارتكاب الإثم رغم مقاربته له، بيد أنه قد يتسبب في اقتراب بعض الضعفاء الآخرين من مواقع المعصية، فيقعون فريسة لها لضعفهم.فعليه ألا يكون حجر عثرة للآخرين.والنوع الآخر منهم من لا يقدر على اجتناب المعصية إذا ما توفرت دواعيها.والحكمة في نهيهم عن الاقتراب من مواقع الإثم واضحة.فسواء كان الإنسان قادرًا على تجنب المعصية رغم الاقتراب من مواقعها أم لا، عليه عدم الاقتراب من مسبباتها.يسمى عمله هذا كما أن المرء إذا ابتعد عما فيه مصلحة لـه ونفع فيمكن أن جبنا، ولكن ابتعاده عما ليس فيه منفعة ولا مصلحة لا يُعَدُّ جبنًا أبدًا.وأما قوله تعالى ﴿وَسَاءَ سَبيلاً فقد نبه به أن في الزنا مضار عديدة أخرى بالإضافة إلى كونه معصية أخلاقية.فمثلا من يريد الزواج يأخذ في الحسبان أن تكون الفتاة جيدة ،الصحة وبريئة من أي عدوى، وذات خُلق وسيرة طيبة، وكذلك يحسب أولياء الفتاة ألف حساب في شأن الفتى.ولكن هذه التدابير لا تتخذ وقت الزنا، لأنه لا يُرتكب إلا عند هيجان العواطف الشهوانية، حين لا يمكن لمرتكبه أن يتخذ أي حيطة، وتكون النتيجة تفشي الكثير من الأمراض
الجزء الرابع ٤٩٩ سورة الإسراء والدمار الاقتصادي.ومن أجل ذلك حذر الله تعالى منه، وقال إن إشباع الرغبات الشهوانية بهذا الطريق خطير جدا.ومع أن العلاقة التي تتم بين الزاني والزانية تشبه العلاقة التي تتم بين الزوجين إلا أنه من الملاحظ أن الأمراض التي يورثها الزنا لا تفشو بين المتزوجين، أو تكون في حكم النادر.لو فحصتم حالات المصابين بالزهري والسيلان في العالم لوجدتم أن عدد الذين أصابتهم هذه العدوى من زوجاتهم لا يتجاوز حتى الواحد بالمائة، بينما التسعة والتسعون بالمائة منهم أو أكثر يصابون بهذه العدوى جراء الزنا.والحق أن تناقُلَ هذا المرض بين الزوجين أيضًا عائد إلى حادث زنا فيما سلف.فبقوله وساء سبيلا قد نبهنا الله تعالى إلى حقيقة عظيمة جلية للجميع، ولكن قليل هم الذين يهتمون بها.وَلَا تَقْتُلُوا النَّسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيهِ سُلْطَنَا فَلَا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ) شرح الكلمات سلطانًا: السلطان الحجةُ ؛ التسلط؛ قدرة الملك (الأقرب).فلا يُسرف: أسرف في كذا: جاوَزَ الحد فيه وأفرط (الأقرب).صلے التفسير: كان الحديث في الآيتين السالفتين عن اثنين من أساليب القتل الخفي، أما الآن فقد أصدر الله تعالى حكمه في القتل العلني، فقال: يجب ألا تُقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق.
سورة الإسراء الجزء الرابع لقد قال إلا بالحق، لأن النفس تطلق على كل كائن متنفس، فتندرج تحتها الحيوانات بكافة أنواعها، بل تؤكد البحوث العلمية المعاصرة أن النباتات أيضا تتنفس 1.The Plant World, Vol).فجيء بهذا الاستثناء لأن قتل الأشياء الأخرى ليس محظورًا في حد ذاته إلا في الحالات الخاصة؛ فمثلا يحرم قتلُ أي حيوان في الحرم الشريف، كذلك يحرم قتلُ حيوان هو ملك لأحد، كما يحرم قتل الحيوانات التي هي حلال بأي طريق غير طريق الذبح.فقوله تعالى إلا حقق هدفين؛ أولهما تخصيص هذا الحكم بالناس دون غيرهم من الحيوانات وثانيهما استثناء أولئك الذين يجوز قتلهم لبعض الأسباب، كالذي يقتل غيره، أو الذي يهاجم الآخر بنية القتل.كما أشير بلفظ إلا بالحق إلى أن قتل مثل هذا الشخص جائز فقط إذا منح الحق لقتله من عند الله تعالى.وكأنه الله يقول: كما أن النهي عن القتل صادر من عندي كذلك يجب أيضًا أن يؤخذ مني أنا الإذن لقتل أحد.وهذا الشرط الإلهي قد قلل فرص الحروب، كما ضيق نطاق خيار الحكومة في شأن إصدار عقوبة الإعدام.وعلى سبيل المثال لو قتلت القابلة الوليد بحجة أن أمه قد أمرتها بقتله، أو لو أمر الحاكم بقتل بريء ظلمًا، فلن يُعَدّ الحاكم أو القابلة بريئا من الجريمة، وذلك بفضل شرط إلا بالحق، لأن قتل نفس من النفوس إنما يجوز الأحد فقط إذا مُنح حق قتلها من قبل خالقها.وأما قول الله تعالى ومَن قُتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يُسرف في القتل، فاعلم أن ولي المرء هو كل من يرثه وكذلك الولي من يعينه المرء لتولي أموره، كما رُوي أن الأعداء حينما كانوا يتآمرون لاغتيال سيدنا عثمان به عرض عليه معاوية الا الله أن يجعله وليًّا له ليعرف الثوار أن هناك من يأخذ ثأره، فير تدعوا عن قتله، ولكنه لاله رفض عرضه قائلاً: إنني أخاف أن تقسو على المسلمين.ويُستنبط من هذا أن تعيين ولي كهذا جائز.
الجزء الرابع 1.0 سورة الإسراء منه حقه، وأما السلطان فيعني الغلبة والحجة فالمراد من قوله تعالى الغلبة والحجة فالمراد من قوله تعالى فقد جعلنا لوليه سلطانًا أننا قد منحنا ولي القتيل الخيار أن يشتكي إلى الحاكم فيأخذ ثم إذا قضى الحاكم في صالحه فله الخيار أن يقتل القاتل أو يعفو عنه.ولكن إذا أدرك الحاكم أن ولي القتيل سيعفو عن القاتل بنية شريرة فللحاكم أيضا الحق أن يرفض العفو وينفذ الإعدام.ذلك لأن ولي القتيل إذا فشل في أداء واجبه لشر في نفسه أو لخوف من أحد فإن حق ولاية القتيل يرجع إلى الحاكم.هذا الحكم يبقى ساري المفعول في قضايا القصاص كلها، ونجد خير مثال له في قرار اتخذه سيدنا عليه.فلقد رأى ذات مرة شخصًا يضرب غيره، فنهاه علي ه عن ذلك، ثم أمر المضروب أن ينتقم من المعتدي، فقال: لا، لقد عفوت عنه.فأدرك الله أنه امتنع عن ضرب المعتدي خوفًا منه لكونه شخصاً جبّارًا.فقال علي : لقد عفوت عنه تاركًا حقك الشخصي، ولكني أمارس الآن حق الجماعة.ثم أمر بضرب المعتدي بمثل ما اعتدى على غيره.أما كثيرا من جدا قوله تعالى فلا يُسرف في القتل فقد حمى به حقوق القاتل.ذلك لأن الاعتداءات تقع عند القصاص، فمثلا يُقتل القاتل بطريق مؤلم كأن يستخدم الجلاد سلاحًا غير حادٌ ،مثلا، أو أن يصرّ ولي القتيل على إعدام القاتل بينما يكون العفو عنه هو التصرف الأمثل.كما أن في قوله تعالى فلا يُسرف في القتل إيماءة إلى أنه بالرغم أن قتل النفس بالنفس هو القانون العام، إلا أنه يجب على أولياء القتيل ألا يصروا على القتل في كل حال، وألا يتمادوا في مسلسل القتل، وإنما عليهم العفو عن القاتل إذا ما رأوا بارقة أمل ولو ضئيلة لإصلاحه.الواقع أن الإسلام قد أرسى بهذا الحكم الأساس لأمن البلاد.إن سلام العالم إنما ينعدم نتيجة أحد السببين أولهما عدمُ عقاب القاتل، وثانيهما إعدامه بطريقة عشوائية دون روية وتدبر.والحق أن العفو في بعض الحالات هو الأدعى والأنجع لتوطيد الأمن.ولكن القانون الرائج حاليا لا يمنح لأولياء القتيل خياراً كهذا، بل
الجزء الرابع ٥٠٢ سورة الإسراء ينص على قتل النفس بالنفس في كل حال، مما يقضي على أمن البلاد، ويزيد نيران العداوة لهيبًا.ولو أنهم عملوا بتعليم الإسلام لقلت حالات القتل بشكل ملموس، ولتلاشى التباغض إلى حد كبير.ثم ولا يغيب عن البال أنه من المحظور شرعًا أن يتولى الإنسان بنفسه إدانة أحد ينفذ فيه العقوبة من تلقاء نفسه.ومن يفعل ذلك اعتُبر مسرفًا في القتل.ورد في الحديث أن شخصاً قال: "يا رسول الله، إن وجدتُ مع امرأتي رجلاً أُمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم" (مسند أحمد ج ٢ ص ٤٦٥)..وقوله: أمهله يعني هل أنتظر ولا أقتله، بل آتي بأربعة شهداء؟! وفي رواية أخرى أن النبي ﷺ قال لــــه : لو قتلته بنفسك لصرت مرتكبا لجريمة القتل.وهذا ما يؤكده قوله تعالى إنه كان منصورًا، لأن معناه أن ولي القتيل سوف يتلقى النصرة من قبل الدولة؛ لذا عليه ألا يدين بنفسه أحدًا، ولا يأخذ بيده تنفيذ الإعدام، وإنما يقتص بوساطة الدولة.كما أن قوله تعالى إنه كان منصورًا تأكيد لقوله تعالى فلا يُسرف في حيث ذكر ولي القتيل أن من واجبه هو الآخر إقرار الأمن في المجتمع.القتل، فلا ينبغي له أن يعتدي عند الانتقام، متذكرًا بأن الله تعالى قد قام بحماية حقوقه، فمن واجبه هو أيضا أن يراعي حقوق الآخرين، ولا يعتدي على أحد فيُخل بنظام الدولة التي دافعت عن حقوقه.وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيم إلا بالتي هي أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ) شرح الكلمات ۳۵ العهد: الوصية الموثقُ؛ اليمين يحلف بها الرجل؛ الذي يكتبه ولي الأمر للولاة إيذانًا بتوليتهم (الأقرب).
الجزء الرابع ٥٠٣ سورة الإسراء التفسير : يصير الأطفال أيتاماً على العموم نتيجة الأحداث المفاجئة بما فيها القتل والأوبئة وغيرهما، ولذا ذكرنا الله تعالى هنا بحقوق اليتامى بعد أحكام القتل الذي يجعل الأطفال أيتاما في العائلتين: عائلة القتيل وعائلة القاتل بعد تنفيذ الإعدام فيه.فيوصينا الله : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن..أي هناك طريق واحد فقط للتصرف في مال اليتيم، وهو أن يؤدي هذا التصرف إلى زيادة هذا المال حتى ينتفع منه اليتيم.فكأنه تعالى يقول: لا ننهاكم عن التصرف في أموال اليتامى بطريق محرم فحسب، بل نأمركم بالتصرف فيها بحيث تزدهر تلك الأموال لصالح أصحابها الأيتام.لقد بين القرآن الكريم هنا مبدءا آخر من مبادئ النظام الإسلامي يميز الإسلام عن الديانات الأخرى.فكل دين آخر يأمر بحسن معاملة اليتامى، ولكن ليس ثمة دين يوصي بحماية أموال اليتامى واستثمارها فكأن هذه الآية توصينا بتشكيل لجنة عامة لحماية أموال الأيتام غير البالغين.إن البلاد الغربية تعمل بهذا المبدأ في هذه الأيام، ولكن الإسلام هو الذي وَضَعَ نواة هذه الفكرة لأول مرة قبل ثلاثة عشر قرنًا.واعلم أن قوله تعالى حتى يبلغ أشدَّه لا يعني أن أكل أموال اليتيم جائز إذا ما شب وتَر عَرَعَ ذلك لسببين : الأوّل أن البديهي أن اليتيم إذا بلغ سن الرشد فلن يسمح لأحد بأكل أمواله؛ والثاني أنه لا يُعقل أن يُشرف أحد على أموال اليتيم مستثمراً إياها ما دام اليتيم غير قادر على التصرف السليم فيها، ثم يبدأ في أكل هذه الأموال وإتلافها حين يصبح اليتيم بالغًا قادرًا على التصرف السليم الحق أن الإسلام لا يسمح بأكل مال أحد يتيما كان أو غيره، إذن فهذه وصية ربانية لولي اليتيم أو للحاكم ألا يبرح محافظًا على أموال اليتيم ولا يتخلى عن أداء هذا الواجب قبل بلوغ اليتيم سن الرشد وكمال الشباب حيث يكون قادرًا بنفسه على حماية أمواله.فمثلاً لا يجوز للولي أن يقول عند بلوغ اليتيم الثانية عشرة من
الجزء الرابع ٥٠٤ سورة الإسراء عمره مثلاً: لقد كبر هذا بما يكفي، وليَتَوَلَّ الآن حماية أمواله بنفسه.كما أن قوله تعالى هذا يتضمن الإشارة أيضًا إلى أن اليتيم إذا ما بلغ سن الرشد والعقل بحيث يصبح قادرًا على حماية أمواله بنفسه فيجب ألا يظل وليه قابضًا على أمواله بحجة أنه ما زال صبيا غريرًا.من إذًا فبقوله تعالى حتى يبلُغَ أَشُدَّه نهى الأقارب والحاكم من أن يسلكوا أيَّا هذين الطريقين الضارين باليتيم.فكثيرًا ما نرى أن أقارب اليتيم يملون من مساعدته بعد فترة ويتخلون عنه، مما يضره اقتصاديًّا؛ أو أنهم لا يعطون اليتيم حقه رغم بلوغه سن الرشد والشباب.وما أكثر ما نرى مثل هذه المشاهد في الولايات الهندية، حيث يكون الأمير اليتيم قد بلغ سن الرشد والعقل، ولكن كبار الموظفين الإداريين لا يسلّمون له السلطة بحجة أنه لا يزال غير بالغ أو غير عاقل، ولا يريدون بذلك إلا تحقيق مآربهم الشخصية.وقوله تعالى وأوفُوا بالعهد يبدو لأول وهلة غير متناسق في سياق الحديث عن اليتامى، إذ لا نرى في الظاهر أي شيء من العهد في حق اليتيم؛ ولكن الحقيقة ليست هكذا، وذلك للأسباب الآتية: أولاً: لأن العهد يعنى المسؤولية أيضًا، يقال: فلان ولي العهد..أي سيتولى مسؤولية الحكم؛ وعليه فالمراد من هذه الجملة عليكم بأداء مسؤوليتكم تجاه اليتامى ورعاية أموالهم ما داموا بحاجة لذلك، ورُدُّوا إليهم أموالهم في الموعد المناسب.كما أن قوله تعالى (وأوفُوا بالعهد إيماءة إلى أن حماية أموال اليتامى ليست عليهم وإحسانًا إليهم، بل هو أمر من أوامر الله تعالى ومبدأ من مبادئ نظام الإسلام؛ فلا تظنوا أنكم تسدون بذلك معروفًا إلى اليتامى، وإنما عليكم القيام به باعتباره فرضًا واجبًا عليكم.
الجزء الرابع ٥٠٥ سورة الإسراء وثانيًا: بما أن اليتيم لا يستطيع أن يسأل وليه عما يحصل في أمواله من نقصان أو زيادة، لذا اعتبر الله تعالى رعاية أموال اليتيم كعهد معه ، لكيلا يأكلها أحد ظنا منه أن ليس هناك من يسأله عنها.فقال : إذا أكلتموها فأنا سأحاسبكم.وثالثا: قد يندرج ضمن الأيتام أيضًا من ليس يتيمًا بالمعنى الحرفي، ولكن حاله كحال اليتامى، مثل الأقوام الضعيفة التي تضع نفسها تحت مظلة الأقوام القوية.فالله تعالى يذكرنا هنا بحماية حقوق هؤلاء الضعفاء أيضا، ويقول: إن بعض الأقوام يكونون بمثابة اليتامى، فإذا صارت حقوقهم في قبضتكم فمن واجبكم الإشراف عليها؛ ولكن لا تستولوا عليها للأبد بحجة الإشراف عليها، بل إذا لمستم فيهم الكفاءة لحماية حقوقهم وأموالهم فرُدُّوها إليهم.لو أن الدنيا عملت بهذا التعليم لتلاشت كلية هذه الكراهية والتنافر التي تتولد بين شتى الأقوام في هذه الأيام.لا شك أن الأقوام القوية تضطر في بعض الحالات لتولى أمور الأقوام الضعيفة حفاظًا على حقوق الأخيرة، ولكن من واجب الأقوام القوية أن تردّ إلى الضعيفة أموالها وحقوقها لتتصرف فيها بحرية بمجرد أن تتولد فيهم الصلاحية والكفاءة لإدارة أمورهم ويجب أن ينتهوا عن أي تصرّف في بلاد الضعفاء وأموالهم.ج وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) شرح الكلمات : الكيل: كال الطعام كيلاً واكتاله بمعنى واحد واكتالوا على الناس أي اكتالوا منهم لأنفسهم.قال ثعلب معناه من الناس.وقال غيره: اكتلتُ عليه أخذتُ منه.يقال: كال المعطي واكتال الآخذُ وكاله طعاما وكال له.والكيل والمكيل:
الجزء الرابع سورة الإسراء ما كيل به حديدا كان أو خشبا.وكالَ الدراهم وَزَنَها.كل ما وزن فقد كيل (التاج).القسطاس : الميزانُ؛ وأَقْوَمُ الموازين.وقيل: هو ميزان العدل (الأقرب).التفسير في الآية السالفة أوصانا الله الا الله بأداء الحقوق، وهنا أيضًا قد آتانا أمرًا مماثلاً لما سبق، وقال: كما قد أمرناكم برد أموال اليتامى إليهم، كذلك نأمركم برد الحقوق لأصحابها في المعاملات الأخرى التي تتم بينكم.ونبه بقوله تعالى ذلك خير وأحسن تأويلاً على أن هذا العمل خير لكم دينا ودنيا.ذلك أن التاجر الذي يعلم الناسُ أنه ينقص المكيال لا بد أن تصاب تجارته بالكساد في نهاية المطاف.وكذلك الحال بالنسبة للأمة التي لا تراعى الصدق والسداد في معاملاتها.وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالَّ وَادَ كُلُّ أُولَتيكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) شرح الكلمات: ۳۷ لا تَقْفُ: قفا أَثَرَه يقفُو : تَبعَه.قفا فلانًا بأمر: آثره به (الأقرب).التفسير: اعلم أن قوله تعالى لا تَقْفُ ما ليس لك به علم ليس فهيا عن تحصيل العلوم الجديدة أو عن القيام بالبحوث المبتكرة، وإنما المراد منه ألا تسيئوا الظن ولا تتهموا الآخرين دونما تحرّ وتبيّن؛ ومن أجل ذلك ذكر بعدها مسببات سوء الظن، أعني الأذن والعين والقلب.فأحيانًا يسمع المرء شيئًا عن غيره، وبناءً على ما سمعه يبدأ في معاداته دونما تحقيق وفحص؛ أو حادثا ما منه ويستنتج استنتاجا خاطئًا دون أن يكلّف نفسه عناء التحري، فقد يكون لما اعتبره خطيئة
الجزء الرابع ٥٠٧ سورة الإسراء ما يبرره ويُسوّغه.وكذلك يتولد في قلوب البعض أفكار سيئة عن الآخرين من دون أن يسمعوا أو يروا منهم شيئًا.والله تعالى ينهانا هنا عن كل تلك الأمور ويقول : لا تحرُوا وراء الظنون السيئة.واعلم أن الأذن هي أكبر دواعي سوء الظن، فإن الناس يسيئون الظن بالآخرين عموما بناء على ما يسمعون، ومن أجل ذلك ذكر الأذن قبل المسببات الأخرى.وتليها العين درجةً، ولذلك ذكرها في المقام الثاني.ثم ذكر القلب، لأن أسوأ الناس ظنا لا يسمع أي شيء ،ضده، كما لا يرى أي أمر مريب، وإنما يختلق من لا من عند نفسه ما يسيء به الظن بالآخرين فيبغضهم.ولكن بما أن هذا النوع من الظن قليل الوجود لذلك ذكر هنا في الأخير، لأن المصابين بالأمراض الخطيرة يكونون أقل عددًا من المرضى العاديين دومًا.يُسأل أما قوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد..إلخ فقد نبه به إلى أن المرء لن عن اعتدائه على أموال الآخرين وأنفسهم فقط، بل سيسأل أيضًا عما ناله من أعراضهم وكرامتهم.فلو أن الأذن استمعت عن الغير ما لا يحل لها سماعه فستُسأل عنه.ولو أن العين رأت من الغير ما لا يحلّ لها رؤيته فستُسأل عنه.ولو أن القلب حمل عن غيره ما لا يحل لـــه حمله فسيسأل عنه.لقد آتانا الله هنا تعليمًا أخلاقيا ساميًا جدًّا لو التزم به المرء لما بقي فيه أي نوع من الرجس والدرن على الإنسان ألا يعتمد في قراراته على الظن، وإنما على علم واليقين.إن شهادة السمع أو العين أو القلب وحدها لا تكفي، بل يجب على الإنسان أن يتحرّى الأمر بكل الإمكانيات المتاحة قبل أخذ القرار.ومن
الجزء الرابع 0.1 سورة الإسراء أجل ذلك قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - مقولته الشهيرة: إذا كان هناك تسعة وتسعون احتمالاً لكفر شخص واحتمال واحد لإيمانه فلا تكفّروه.* ولكن لا يعني هذا القول الحكيم، كما يزعم بعض الحمقى، أنه إذا كانت في أحد الناس ۹۹ وجهًا شرعيًّا للكفر فأيضا لا تكفّروه.ذلك أن وجوه الكفر ليست أكثر من سبعة أو ثمانية : الكفر بالله وملائكته وكتبه، ورسله، والدعاء، والقدر والبعث بعد الموت.فلو فسرنا هذه المقولة بأنه إذا كانت في أحد ٩٩ وجهًا للكفر فلا تكفّروه أيضًا..فلن يمكن حتى اعتبار الملحد كافرًا.وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُ الْجِبَالَ طُولاً شرح الكلمات: ت ۳۸ مَرَحًا: مَرِحَ الرجلُ مَرَحًا: اشتدّ فرحه ونشاطه حتى جاوز القدر وتبختر واختال (الأقرب).لن تخرق: خرق الثوب: مزقه فتمزّق.خرق المفازة: قطعها حتى بلغ أقصاها (الأقرب).التفسير: إلى هنا كان الحديث يدور حول الأخلاق التي لها صلة بالله تعالى أو بأناس آخرين، أما الآن فقد تحدث القرآن عن الأخلاق التي هي ذات صلة بالمرء نفسه، فقال عز من قائل: إذا كنت أيها الإنسان متحلّيا ببعض المحاسن فلا تجعلها * ونــــص العبارة كالآتي: "وقد ذكروا أن المسألة المتعلقة بالكفر : إذا كان لها تسع وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد في نفيه، فالأولى للمفتي والقاضي أن يعمل باحتمال النفي، لأن الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من الخطأ في إفناء مسلم واحد." (شرح الفقه الأكبر ص ١٩٧)
الجزء الرابع ٥٠ سورة الإسراء سببًا للزهو والكبرياء، لأن هذا سيحرمك ،الخيرات، ولن تقدر على إحراز المزيد من التقدم؛ لأن المتكبر يفكر أنه قد بلغ أوج الكمال، وبالتالي يُحرم المزيد من الرقي.كما نبه الله بذلك أن نجاحك يا ابن آدم نجاح محدود داخل نطاق القدرة الإنسانية على كل حال؛ فلا تفرح إلا الفرحة التي هي مقدَّرة للإنسان.وتَذكَّرْ أنك لن تقدر، رغم كفاءاتك وقدراتك، على خرق الأرض، أي على الخروج منها.يقال: خرق المفازة أي قطعها حتى بلغ أقصاها، وهذا المعنى نفسه ينطبق هنا، والمراد أنك لن تعيش إلا في هذا العالم المحدود ، وأن إنجازاتك أيضًا محدودة على كل حال؛ فلا تسلك مسلكا يجعل عيشك مع الآخرين صعبا.ويعرف الذين درسوا حياة المتكبرين عن كثب أن المتكبر يعيش عيشة مريرة جدا.ذلك من جهة يعتبر نفسه أعجوبة من الأعاجيب، ومن جهة أخرى يضطر للعيش مع بني جلدته، فيظل طيلة حياته في صراع مع عواطفه المتباينة المتضاربة.وتعيش العذاب نفسه الطبقة المثقفة بالثقافة الإنجليزية في بلدنا في هذه الأيام، حيث يرون أنهم أفضل من إخوانهم الهنود ، ولكن الأوروبيين أيضًا ينظرون إليهم بازدراء واحتقار.إنهم من ناحية لا يريدون العيش مع أبناء جلدتهم، ومن ناحية أخرى لا يتلقون ممن يقلدونهم إلا الذل والهوان.أنه فالله تعالى ينصح الإنسان بأنه عائش بين أبناء جنسه لا محالة، فينبغي ألا يُنمّي في قلبه أفكارًا تجعل عيشه جحيما.وأما قولــــــه تعالى ولن تبلغ الجبال طولا ، فاعلم أن من معاني الجبال سيد القوم وعالمهم (الأقرب).وهذا هو المعنى الذي ينطبق هنا.لقد نبهنا الله الا الله بذلك على أن سيادة القوم إنما تُنال بالخدمة أو العلم.وخادم القوم وعالمهم كلاهما يكون نموذجًا مثاليًّا في التواضع، كما تقول العرب: "سيد القوم خادمهم." أي أن سيد القوم يكون خادما لهم في الحقيقة.وكذلك قال الله
الجزء الرابع تعالى إنما يخشى الله سورة الإسراء من عباده العلماء)) (فاطر (۲۹)..أي كلما ازداد الإنسان : علما ازداد خشية الله تعالى.فالله تعالى قد نبه الإنسان أنك لن تنال سيادة القوم بالتكبر والغرور ، ولن تُعَدّ من علمائهم، لأن التكبر سوف يباعد بينك وبين قومك، كما يُبعدك عن الله الله فإذا كنت طالب عزة فاعلم أن غطرستك تضر.بنفسك، لأنها تحرمك مما ترومه.فلا تتكبر، بل انفَع قومك بما في نفسك من خير دنيوي، فتكون سيدا لهم، وإذا كان فيك أي خير ديني فاصنع به المعروف لقومك، لتكون محبوبا عند الله تعالى.هذا النهي عن التكبر يبلغ من الروعة بحيث يستحيل أن يقدم أي كتاب سماوي نظيره.كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيْتُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهَا شرح الكلمات: ۳۹ سيئه : السيئ: القبيح (الأقرب).التفسير: هذه الجملة الوجيزة قمة في البلاغة لأنها قد حصرت البحر في إناء.يقول الله تعالى إن للأمور المذكورة أعلاه جوانب خير وجوانب شر أيضًا؛ وإنما ننهاكم عن جوانبها السيئة ولا ننهاكم عن الحسنة منها.بمعنى أنه ليس في الدنيا أي عمل يمكن أن يُعَدَّ سيئًا على إطلاقه.خذوا مثلاً توحيد البارئ، فالإيمان به حسنة؛ ولكن لو أن أحدًا جعل عقيدة التوحيد هذه سببًا لنشر الفساد في الأرض، وسَبَّ آلهة الأمم الأخرى، لأصبح تمسكه بالتوحيد أمرًا سيئًا.وبالمثل فإن احترام الوالدين حسنة، ولكن لو أن أحدًا أشرك بالله أو ظلم الناس طاعةً لوالديه لصار احترامه للوالدين سيئة.ولا شك أن القتل سيئة، ولكن لو أن أحدًا تجنَّب قتل العدو أثناء الدفاع عن الوطن أو عند القصاص اللازم لعُدَّ عدم قتله سيئة.ثم إن الاقتراب من أموال اليتامى معصية، ولكن لو أن أحدًا تخلى عن
الجزء الرابع ۰۱۱ سورة الإسراء حماية هذه الأموال خوفًا من وقوعه في معصية التصرف الخاطئ فيها لكان فعله هذا سيئًا.وإن الأمانة في المعاملات حسنة، ولكن لو أن أحدا ترك كسب الحلال مخافة الخيانة في معاملاته لعدّ عمله سيئة.وضبط القوى الشهوانية في دائرتها المحددة حسنة، ولكن لو أن أحدًا تخلى عن ممارستها كليةً واختار الرهبانية، أو مارس الشهوة في حرام، فقد أتى معصية.وسوء الظن منكر من المنكرات، ولكن لو أن أحدا من الحراس ظن بالناس خيرا وسمح لهم بالاقتراب مما أُوكل إليه حراسته لاعتبر عمله سيئًا.وعدم الزهو والتكبر حسنة، ولكن لو أن أحدا تواضع في موطن يتطلب الشجاعة والبسالة لأتى عملاً سيئا.ولذلك يعظنا الله تعالى أن نفقه الحكمة في تعليماته، فنستخدم كل قوة من قوانا في محلها الملائم.إنه تعالى لا ينهانا عن الانتفاع من هذه الملكات، وإنما يمنعنا من استخدامها الخاطئ.وهذا الشرح للأعمال يبلغ من السمو والكمال بحيث إن عدم إدراك الإنسان لها هو الذي يؤدي إلى المفاسد كلها وما أقلهم الذين يسلكون هذا الطريق الوسط! قلے ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَيْهَا التفسير: سبحان الله ! ما أروع الترتيب في القرآن الكريم! ففي سورة النحل أخبر الله الكفار أن الحكمة في طريقها إليكم، وأما هنا فيقول ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة)، أي أن الأحكام المذكورة أعلاه بعض هذه الحكمة الموعودة، فأتوا بمثل هذا التعليم الحكيم من الكتب السماوية النازلة قبل القرآن إن إليها وَاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَم مَلُومًا مَّدْحُورًا ) جَهَنَّمَ كنتم صادقين.
الجزء الرابع ۱۲ سورة الإسراء لقد ذكر الله تعالى هنا بعض الوسائل التي تمكننا من إلحاق الهزيمة بأهل الكتاب في المناظرات.فبدءًا من الركوع السابق – أي من قوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا - تناول بيان الجانب العملي للتوحيد، فبين كيف نفعت عقيدة التوحيد الإسلامية العالم بصورة عملية، وأما الآن فذكر الجانب الآخر للتوحيد، وأخبر أن ليس المشرك من يعبد إلها من الآلهة الباطلة عبادة عملية فحسب، بل إن من يعتقد نظريًّا أن مع الله إلها آخر فهو أيضًا مشرك.= وقوله تعالى فتلقى في جهنم لا يعني وقوع المشرك في النار في الآخرة فحسب، بل إن الشرك نفسه نوع من الجحيم، ذلك أنه من المستحيل لمن يتخذ آلهة كثيرة أن يُرضيها كلها، بل لا بد أن يرضي إها و يُسخط آخر.ومن معاني إلقاء المشرك في جهنم أن الشرك لا دليل عليه، لذا يظل المشرك على الدوام ذليلاً مُهانًا أمام الآخرين.خُذوا مثلاً المسيحيين اليوم، كيف أصبحت عقيدة الثالوث جحيما لهم.سلُوا أَيا منهم، ولو كان قسيسا كبيرا، فلن يقدر على تقديم أي برهان على صحة عقيدة الثالوث.إن عقيدة التوحيد هي وحدها التي يرتاح بها الإنسان بالا، ويقر بها عينًا.ونبه بكلمة ملومًا أن المشرك عُرضة للملامة دائمًا.فإذا آمن بإله تعرض لملامة إله آخر، وإذا أطاع هذا صارت نقمة ذاك غُلا ثم حذر بكلمة مدحورًا بأن المشرك يظل في اضطراب وعذاب دائمين من في عنقه.جهة، ومن جهة أخرى يُلقى بعيدًا عن الله..منبع الراحة والسكينة.فلا يبقى من هؤلاء ولا من هؤلاء.
الجزء الرابع ۰۱۳ سورة الإسراء ج أَفَأَصْ َنكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَيكَةِ إننا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا (ع) شرح الكلمات: أَصفَى: أصفَى فلانًا بكذا: آثره به واختصه (الأقرب).التفسير: لقد ضرب الله هنا مثالاً للقلق النفسي واللوم اللذين يعيشهما المشرك.فقال: انظروا إلى غرابة الوثنيين؛ فهم يخصون الله ،بالبنات، ويستأثرون لأنفسهم بالبنين من جهة، ومن جهة أخرى يعبدون هذه الإناث نفسها التي يحتقرونها.فكأنهم يضطرون، نتيجة تركهم الله تعالى للسجود أمام نفس المخلوق الذي يعدونه ذليلاً مُهانًا.مع العلم أن قوله تعالى إنكم لتقولون قولاً عظيما يعني أن قولكم هذا غاية في السخف والغباء؛ ذلك أن لفظ "العظيم" إذا جاء وصفا للشيء القبيح فيعني أنه غاية في القبح والشناعة، وإذا جاء وصفًا للشيء الحسن فيعني أنه غاية في الحسن والجمال.فيخبرنا الله تعالى أن المشرك يصبح معتوه العقل، فيتكلم بكلام لا يتفوه به شخص عاقل.28 ويحضرني بهذه المناسبة حادث لطيف يكشف لنا تماماً عقلية المشرك، وقد حصل مع أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين اللهم ارفع درجاته كثيرا الذي علّمني القرآن الكريم.لا شك أن الله قد وهب لي الآن من علم القرآن كثيرًا، بل إن أستاذي نفسه كان يقول لي : لقد سمعتُ منك من معارف القرآن ما لم أعرفه قط، ولم أقرأه في كتب الأولين؛ ولكن الحق أن أستاذي هو الذي غرس في قلبي حب هذا الكتاب العظيم، وأرشدني إلى الطريق السليم للتفسير، وأرسى الأساس الذي استطعتُ رفع البناء عليه؛ لذا لا يزال قلبي يدعو له دومًا.
حادثا حصل سورة الإسراء الجزء الرابع كان حضرته يعمل طبيبًا ملَكيًّا لدى أحد المهراجات لولاية جامون بكشمير.ولما المهراجا خَلَفَه ابنه المهراجا "برتاب سنغ"، فأمر بنفي أستاذي من جامون.والسبب أنه كان لحضرته علاقات حميمة مع الراجا "أمر سنغ" والراجا "رام سنغ"، وهما أب وعم للمهراجا الحالي لجامون.فتوهم المهراجا "برتاب سنغ" أن أستاذي سوف يدس السم في طعامه ويقتله بإيماءة من صديقيه.فبعد أن تم نفيه هاجر إلى قاديان، ونتيجةً لتقواه وعلمه انتخب الخليفة الأول في جماعتنا.وكان يحكي لنا أثناء عمله في جامون قال له المهراجا ذات يوم أيها الأستاذ هل أنت أيضًا تحتفظ بصنم في بيتك أم لا؟ قال: لا.نحن لا نحتفظ بالأصنام، لأن هذا حرام في ديننا.فتحير المهراجا قليلاً وقال: أنصحك أن تضع عندك في البيت تمثال الإلهة السوداء * على الأقل، لأنه إله جبار يُلحق أضرارًا فادحة.قال: لا يمكن أن تمثال الإلهة السوداء أيضًا.قال: أفلا تصاب بخسائر إذن؟ قال: لا، يا مهراجا.ففكر مليا في تردد ثم قال: لقد فهمت القضية الآن.فلو أردتُ مثلاً أن أعاقبك في ولايتي "جامون" لعاقبتك بدون شك، ولكن إذا هربت من ولايتي إلى منطقة سيالكوت مثلاً فلن أتمكن من عقابك ونفس الحال في هذه القضية.لقد آمنا بالإلهة السوداء فوقعنا تحت نفوذها وسلطانها، ولذلك هي تعذبنا؛ ولكنكم، معشر المسلمين، قد أنكرتم بوجودها أصلاً، فخرجتم من دائرة نفوذها، فلا تقدر على إيذائكم.فقال: نعم ما فهمت يا مهراجا.بالفعل لقد تحررنا من نفوذ هذه الآلهة الباطلة بالإيمان بإله واحد فكان المهراجا مسرورًا بأنه عرف الحقيقة، أما أستاذي فكان أيضا فرحان لأن التوحيد قد حمانا نحن المسلمين من كثير من السفاسف نضع والمهازل.أحد الآلهة الكثيرة عند الهندوس، وهي أنثى عندهم، وتدعى "كالي ديوي، (أي الإلهة السوداء) و"كالي مان" (أي الأم السوداء).يصنعون لها تمثالاً أسود ويحتفظون به في بيوتهم (المترجم).
الجزء الرابع سورة الإسراء وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا دورات شرح ٤٢ الكلمات صرّفنا صرفه صَرْفًا: ردَّه عن وجهه.صرَّف الكلام: اشتق بعضه من بعض.صرف الله الرياح: حوّلها من وجه إلى وجه.صرف فلانًا في الأمر: قلبه فيه وفوّضه إليه (الأقرب).نفوراً : نفرت الدابةُ من كذا تنفر نفوراً: جزعت وتباعدت.نفَر القومُ نَفَراً: تفرّقوا.ونفَر القوم عن كذا أعرضوا وصدّوا.ونفر القوم من كذا: أنفوا وكرهوه (الأقرب).التفسير : نظرا إلى معاني (النفور) المبينة أعلاه، ستعني هذه الآية أننا قد بينا في القرآن صنوف الدلائل، ولكن الناس ينفرون منه ويُعرضون عنه بدلا من ينتفعوا بهذه البراهين.أن يعترض البعض على القرآن الكريم أن فيه تكرارًا (تفسير القرآن لـ "ويري").وقد ردّ الله وعمل عليهم سلفًا فقال ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذكروا..أي لقد بحثنا في القرآن المسائل بجميع جوانبها المختلفة لكي يفهمها الناس بالنظر إليها من أية زاوية، ولكنهم مع ذلك يُعرضون عنه.مع العلم أن من معاني "صرف" : (۱) ردُّ الشيء ردًّا جيدا، (۲) قلب الشيء من جهة إلى أخرى، يقال: صرف الله الرياح..أي حوّلها من وجه إلى وجه.إذن ستعني هذه الآية؛ أوَّلاً: أن الله يردّ على كل المطاعن أيما رد، وثانيا: أنه لة يسلط الضوء على كل مسألة من كافة جوانبها.والحق أن القرآن الكريم متسم بالميزتين كلتيهما، فهو يرد على كل الاعتراضات التي أُثيرت ضده ردا دامغا؛ كما يوضح جميع القضايا الحيوية الضرورية من شتى نواحيها.والكتاب الذي
سورة الإسراء الجزء الرابع يتناول كل قضية ببحث مستفيض لا بد له أن يبينها مرة بعد أخرى، ولا أحد من العقلاء يعد هذا البيان المعاد تكرارًا فارغا ، وإنما التكرار أن يُعاد الشيء دونما حاجة.أما إذا أُعيد الشيء من زاوية أخرى ولضرورة جديدة فكيف يمكن أن يُعد تكرارًا.الواقع أن هؤلاء الطاعنين لا يتدبرون القرآن لفهم مضامينه، بل يسارعون في الطعن فيه بناء على أمور سطحية.أما قوله تعالى وما يزيدهم إلا نفوراً فيبين فيه أن إصرارهم على إنكار القرآن رغم توضيحنا المتكرر للقضايا المختلفة يدلّ على أن الشرك قد أودى بعقولهم، وإلا لم لا يفهمون الحقيقة رغم توضيحنا إياها بشتى الأساليب؟ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ وَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذَا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا شرح الكلمات: العرش سرير الملك؛ العزُّ؛ قوامُ الأمر؛ ركن الشيء.وعرش البيت: سقفه.والعرش الخيمة؛ البيتُ الذي يُستظل به؛ شبه بيت من جريد يُجعَل فوقه التمام (الأقرب).التفسير : لقد ذكر هنا على الفور مثالاً للتصريف الذي مر ذكره من قبل، حيث تحدث مرة أخرى عن الشرك، ولكن دون أن يكرر ما قاله من قبل، بل أتى ببرهان آخر وهو: إذا كان الشرك منهجًا سليما فلم لم يصبح المشركون من الواصلين بالله ؟ هذا هو المراد من قوله تعالى إذًا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً..أي لو كان الشرك منهجًا صحيحًا لتمكن أهله من إنشاء صلة صاحب العرش، إذ يجب أن يفتح عليهم اتصالهم ببنات الله وأبنائه أبواب التقرب إليه سبحانه تعالى.مع
الجزء الرابع ۵۱۷ سورة الإسراء لقد سجل القرآن الكريم في موضع آخر منه دعوى المشركين بأن غرضهم من عبادة الأصنام هو التقرب إلى الله تعالى، إذ قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلْفَى (الزمر: (٤).إذن فالله تعالى يدحض هنا الشرك بناء على دعواهم هذه نفسها، فيقول: ما دام هدفهم من ذلك أن يحظوا بوصال ذي العرش، وما داموا قد أنشئوا الصلات مع المقرّبين لديه في زعمهم، فيجب أن يكونوا محظوظين بقربه، ولكن لا يوجد فيهم أية آثار للتقرب إليه.وقد بين القرآن الكريم علامات المقربين لدى الله تعالى كما يلي: العلامة الأولى : استجابة الدعاء، قال الله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ (البقرة : (۱۸۷)..أي حين يسألك عبادي عني قل لهم: إني قريب منكم.وعلامة قربي منهم أنني أستجيب دعاء الداعي.وهذه العلامة تبلغ من الصحة بحيث إن المشرك أيضًا لا يسعه إنكارها.ولكن لا أثر لها عند أهل الشرك، إذ ليس بينهم من يدعي استجابة دعواته.لم يوجد في الدنيا إلى اليوم شخص واحد ادعى الوصال بالله تعالى بوساطة الأصنام، وأنه تعالى يسمع دعواته ،ويتقبلها وأن الدنيا قد شهدت آيات الاستجابة الإلهية لدعواته.العلامة الثانية: يقول الله و عن المقربين لديه لا يسمعون فيها لَغْوًا ولا تأثيمًا إلا قيلاً سَلَامًا سَلامًا) (الواقعة: ٢٦ و ٢٧ )..أي من علامة مقام القرب و٢٧)..الإلهي أنه لا يكون فيه شيء من اللغو والإثم، بل يكون الناس في مأمن من شر الآخرين، وكل شخص فيه يسعى لسلامة غيره كما ينال السلام من الله أيضًا.ولا يمكن لأي مشرك أن ينكر هذا المعيار أيضا، إذ من الظاهر الجلي أن من يكون مقربًا لدى الله تعالى لا بد أن يحترز الأمور التي تدخل في حكم اللغو والإثم، ويعيش عبدا الله تعالى، ساعيًا لخير عباد الله الآخرين، متجنبا الفساد.وهذه العلامة أيضًا لا تتوافر في أي من الوثنيين.خُذوا الشق الأول من هذه العلامة، وهو اجتناب اللغو.متى يتحاشى المشرك اللغو؟ كلا بل إنه يأتي المهازل
الجزء الرابع ۵۱۸ سورة الإسراء بسبب شركه، حيث يعظم ويسجد لشيء موهوم لا علم لـه به، ولا ضرر يأتي منه؛ ويقف العاقل مدهوشاً مذهولاً برؤية أفعاله هذه.فمثلاً من العقلاء من يستسيغ هذه الغوغاء المثارة في الهند عن قداسة البقر.إن عَبَدَةَ البقر هؤلاء يحرمون ولدَها من لبنها ليستأثروا به، ويأكلون الحبوب والغلال بينما يُطعمون البقر الكلم والحشيش، ويقيّدونها في الحظائر، ويسخرون ذُكورها في حمل أثقالهم وكذلك في أسفارهم، ويضربونها؛ ومع كل هذا يعتبرونها إلها مقدسًا! والأغرب أنهم مع ذلك يسخرون من المسيحيين بأنهم اتخذوا الإنسان الضعيف إلها.أما المسيحيون فيضحكون بدورهم على الهندوس بأنهم يعتبرون حيوانا ضعيفًا إها! ولا يملك الإنسان الموحد لدى رؤية هذه المهازل إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.والشق الثاني من العلامة الثانية للمقربين أنهم يجتنبون الإثم.والوثني يستحيل عليه اجتناب الإثم وهو يشرك.إننا لا نشك في وجود بعض أهل الصلاح بين الوثنيين، ولكن صلاحهم لا يرجع إلى وثنيتهم، وإنما يكون على حسابهه ذلك أن فطرتهم تظل صالحة، فلا يقدر الشرك أن يؤصل فيها جذوره.خُذوا مثلاً البقر، فإن عَبَدَةَ البقر يؤذون إلههم هذا بأنواع الأذى.والحق أنهم مضطرون لذلك، لأن الله خلق البقر من أجل فائدة ،الإنسان، فلا بد لهم من تسخيرها لصالحهم.والنتيجة أنهم يسخرونها في أعمالهم من جهة، ومن جهة أخرى ينتابهم شعور مضطرد بالإثم جراء تسخيرهم لها، فتفسد ضمائرهم." ثم بعد ثم إن هؤلاء الهندوس الوثنيين يحتفلون بما يُطلقون عليه اسم "دَسَهْرَه" الاحتفال ينتابهم تفكير مريب بأن رام" "شندر كان كَهْتريًّا، وأن "راون" كان * احتفال هندوســــــي بذكرى الانتصار الذي حققه "الراجا رام شندر" - سابعُ الشخصيات المقدسة لـــدى الهندوس، والذي كان ينتمي إلى طبقة "كهتري" ثانية الطبقات الأربع في الديانة الهندوسية – على عدوه "الراجا راون" الذي كان ينتمي إلى طبقة "بَرَهْمَن" وهي أعلى الطبقات الهندوسية.(المترجم)
الجزء الرابع ۵۱۹ سورة الإسراء برهمنا، وإهانة البرهمن إثم؛ فيقومون بالتوبة في يوم آخر كفّارةً عن هذا الإثم.ونفس الحال للمسيحيين حيث يؤمنون أن المسيح إله من جهة، ومن جهة أخرى يحملونه آثامهم.وعقيدة الشرك هذه قد فتحت عليهم أبواب كل معصية، إذ يظنون أن إلههم المسيح قد حمل عنهم مسؤولية ذنوبهم.والعلامة الثالثة للمقربين لدى الله تعالى أنهم يُعطون العصمة والحماية من عنده تعالى.وهذه الميزة أيضًا لا تتوفر في المشرك، ولن تتوفر فيه، إذ كيف يمكن أن و يتمتع بالحفظ والحماية من يخضع ويسجد للأشياء التي سخرها الله للإنسان.والعلامة الرابعة للمقربين لدى الله تعالى أنهم يصبحون الله تعالى، فيعاملون عباده الآخرين بالحسنى، لكي يزداد الناس سلاما ووئاما.وهذه الميزة أيضًا لا يمكن أن يتحلّى بها المشرك، لأن التوحيد هو وحده القادر على توطيد السلام في العالم، بينما لن يؤدي وجود الآلهة المتعددة إلا إلى الفرقة والفساد.والحق أن الحروب بين الأقوام إنما تنشب بسبب الآلهة القومية، فالهندوسي مثلاً لا يمكن أن يؤمن بالمسيح، والمسيحي لا يمكن أن يعبد البقر ؛ ولكن هؤلاء جميعًا يمكن أن يعبدوا إلها واحدا، وبالتالي يمكن ضمان السلام العالمي.هذا، ومن معاني قوله تعالى إذًا لا بتغوا إلى ذي العرش سبيلاً أن الرسول ﷺ يقول لهم: لو كان هناك آلهة أخرى في الواقع لاتصلتم بهم يا أعدائي، ليدلوكم على ما يجعلكم قادرين على إضراري وإبادتي، ويعرفوكم إلى صاحب العرش ليدلكم على خطة تنجحون بها في مقاومتي.فازدهاري المضطرد رغم ضعفي، وانقراضكم المستمر رغم عبادتكم للأصنام واستعانتكم بها، يدل على أن عقيدة الشرك باطلة، وأن لا جدوى منها.ولقد اهتدى بهذا البرهان كثير من المشركين الكبار.فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي ﷺ لما جاءته النساء يبايعنه يوم فتح مكة قال لهن: لا تُشركْنَ بالله.وكانت بينهن هند زوج زوجة أبي سفيان التي لم تملك نفسها وقالت: يا رسول
الجزء الرابع سورة الإسراء الله، كيف نشرك بالله بعد هذا كله؟ لو كانت أصنامنا تملك شيئًا لنصرثنا لما انتصرت علينا رغم كونك وحيدًا ضعيف الحيلة!* سُبْحَنَهُ وَتَعَلَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا شرح الكلمات ٤٤ من تعالى: ارتفع (الأقرب).وراجع أيضًا شرح الكلمات للآية رقم ٥ من هذه السورة.التفسير: إن كلمة عُلُوًّا التي هي من باب نصر ينصر) هي توكيد لفعـــل تعالى الذي هو من باب التفاعل.وفي القرآن أمثلة أخرى لمثل هذا الاستخدام كقوله تعالى وأنبتها نباتا حسنًا) (آل عمران (۳۸).وقد قال المفسرون إن هذا الأسلوب يزيد التوكيد شدةً حيث يقدر فعل ومصدر إضافيان (روح المعاني)؛ والتقدير هنا: تعالى الله تعاليا وعلا عُلُوًّا عما يقولون؛ ومفهوم الجملة أنه مما يتنافى تماماً مع عظمة الله أن يهب لأحد قُربه بوساطة أحد، إذ ليس الحكمة أن يخلق ا الله الإنسان بيده، ثم يضع العراقيل في طريق معرفته به.قد يقول قائل: إذا كان الله تعالى لا يهب أحدًا قربه بوساطة أحد، فلماذا يبعث الأنبياء إذن، ولماذا فرض علينا الإيمان بهم؟ والجواب : أن النبي إنما يُبعث لإزالة العوائق الموجودة في سبيل التقرب إلى الله تعالى، ولتوجيه أنظار الناس إليه وعمل.فلا يقف النبي سدا عائقًا بين الله وبين العبد، بل رغم وجود النبي تبقى لكل عبد علاقة مباشرة مع الله تعالى.* هناك رواية تنسب هذا المعنى إلى زوج هند أبي سفيان حيث ورد أن الزبير بن العوام قال لأبي سفيان يوم الفتح حين كُسر صنمُ هُبل: "يا أبا سفيان، قد كُسر هبل! أما إنك قد كنتَ منه يومَ أُحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان." (كتاب المغازي للواقدي: شأن غزوة الفتح ج ۲ ص ۸۳۲) (المترجم)
الجزء الرابع で سورة الإسراء تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِن لَّا تَقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَرُورًا شرح الكلمات: ٤٥ لا تفقهون : فَقَة الشيء يفقه فقها: فَهِمَه.وفَقِدَ الرجلُ يفقه فَقَها: علم وكان فقيها (الأقرب).داعٍ للجملة الثانية.حليمًا: حلم يحلم حلمًا: صفَح وستر فهو حليم (الأقرب).التفسير : لقد بين الله لاله هنا أن النظرة الشمولية في الكون تدلّ على وحدانية الله تعالى، كما أن النظر في كل شيء منفردًا يوصلنا إلى النتيجة نفسها؛ علما أن جملة تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن تتحدث عن الدلالة الشمولية على التوحيد، وأما جملة وإن من شيء إلا يسبح بحمده فتتحدث عن الدلالة الفردية لكل شيء على التوحيد، إذ لو كانت الجملة الأولى تشمل الدلالة الفردية أيضا لما كان هناك أما الدلالة الشمولية فبيانها أن النظر في شتى الأشياء الموجودة في الكون يدل على وجود صلة متينة بينها.فبالرغم من ابتعاد هذه الأشياء بعضها عن بعض بملايين الأميال، إلا أنها متصلة فيما بينها بنظام شديد الإحكام؛ وارتباط هذه الأشياء بانسجام تام تحت نظام محكم واحد يدل جليًّا أنه لا يوجد في الكون إلا قانون واحد وإلا لاختل نظامه.وبما أنه لا يوجد في الكون إلا قانون واحد فكيف يمكن أن يوجد فيه مقنّن آخر.كما أن كل شيء في الكون يسبّح الله تعالى تسبيحًا فرديا أيضًا، إذ تتجلى في صفات البارئ الالم ككونه ستّارًا وغفّارًا وخالقًا ومالكًا وما إلى كل شيء
الجزء الرابع ٥٢٢ سورة الإسراء ذلك..بمعنى أنك تجد كل شيء يعمل وفق هذه الصفات الإلهية.لو فحصتم أية ذرة في الكون لوجدتم فيها بصمة هذه الصفات الإلهية كلها.فما دام كل شيء يُجلّي صفات الإله الواحد فكيف يمكن أن يُنسب إلى إله آخر؟ أما قوله تعالى ولكن لا تفقهون تسبيحهم فقد قال البعض أن المراد منه أن لكل شيء لغةً مستقلة يسبّح بها، ولكنا لا نفهم لغته.(تفسير البغوي) أقول: لو كان لكل شيء لغة يسبح بها ولكن لا نفهمها فكيف يكون هذا الأمر دليلاً لنا؟ إنما الدليل ما نستطيع فهمه وإدراكه إذن فليس المراد من هذه الجملة أننا لا نفهم لغة هذه الأشياء، إنما المفهوم الصحيح هو أننا لا ندرك أن تقوم بتسبيح الله تعالى.كل هذه الأشياء هي " ونبه الله تعالى بقوله إنه كان حليما غفورًا إلى أنه الا الله يعاملكم بحلم، ولكنكم لا تنتفعون من حلمه، وإنما تزدادون تمردا.هلا فكرتم أن عدم انتفاعكم من هذا النظام الكوني والبراهين الدالة عليه، وعدم نزول العقاب عليكم رغم استمراركم في الشر والتمرد، إنما يدل على أن الله حليم فلا يؤاخذكم فورًا؟ فالأولى بكم أن تتحلوا بالنبل وتتصرفوا بما يتلاءم مع هذا الحلم الرباني.وَإِذَا قَرَأْتِ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَة حجابًا مَّسْئُورًا ) شرح الكلمات: ٤٦ حجابًا: الحجاب: مصدر حجب يحجب.والحجاب: الستر؛ وكلُّ ما احتجبَ به (الأقرب).
الجزء الرابع سورة الإسراء التفسير لهذه الآية مفهومان أولهما: أنك حين تقرأ القرآن الكريم نجعل بينك وبين الذين يكفرون بالآخرة حجابًا خفيًّا لا يستطيعون رؤيته.وقد وصف من مَسَد استشاطت عن الحجاب بكونه مستورًا كيلا يظن أحد من الجاهلين أنه حجاب مادي.وقد قال البعض أن الله تعالى كان يلقي على النبي ﷺ حجابا يختفي به عن أعين الناس، وقد ساقوا بهذا الصدد قصة عن زوجة أبي لهب.قالوا: لما نزلت سورة المسد وسمعت هذه المرأةُ قوله تعالى في جيدها حبل غضبا، وأسرعت إلى النبي هل تريد إيذاءه.فدعا ربه ليحميه من شرها، فجعل الله بنيها وبين النبي حجابًا، فلم تستطع رؤيته الله ولا إيذاءه (الدر المنثور، والرازي).هذه خرافة من الخرافات إذ كيف يمكن للرسول الذي لم يخش الدنيا كلها أن يخاف هذه المرأة الضعيفة حتى يضطر الله تعالى لإخفائه في الحجاب!؟ هذا غير معقول، ويستحيل أن يقبله أي من العقلاء.إن الذين يذكرون هذه الرواية لا يفكرون أن الله تعالى قد وصف هذا الحجاب بكونه مستورا..أي خفيًّا الأعين، ولكنهم يقولون أنه كان مرئيا، وكان النبي ﷺ مختفيا وراءه! والمفهوم الثاني لهذه الآية هو أن ذلك الحجاب أيضًا مستور وراء حجاب آخر..بمعنى ليس بينك وبين الكفار حجاب ،واحد بل حُجب كثيرة من حمية قومية وأموال طائلة وأخلاق ذميمة وما إلى ذلك..أي تارة يمنعهم من الإيمان تفكيرهم أنهم لو آمنوا لاضطروا لترك عشيرتهم وقومهم، وتارة أخرى يحول دون إيمانهم خوفهم على أموالهم وأحيانًا يفكرون أن الإيمان سيتطلب منهم ترك الكثير من رذائل الأخلاق والعادات التي قد تعودوا عليها.فالله تعالى قد نبه نبيه هنا أنهم لن يصدقوك ما لم يزيلوا هذه الحجب ولكن المشكلة أن هذه الحجب خافية عليهم، فلا يستطيعون رؤيتها؛ ويظنون أن العيب في القرآن، إذ يقولون: لو كان خيرًا لتأثرت به قلوبنا على الفور.ولكن الحق أن الصدأ قد رانَ على قلوبهم، فيرون القبيح جميلاً، والجميل قبيحا، فأصبح إيمانهم بعيد المنال.
الجزء الرابع ٥٢٤ سورة الإسراء وهذا المفهوم الثاني تؤكده أيضًا الآية التالية: وجعلنا على قلوبهم أكنة..أي ليست قلوبهم في غطاء واحد، بل هي في أغطية كثيرة.で وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَقَهُوهُ وَفِي عَاذَانِهِمْ وَقَرَا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبِّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَرِهِمْ ذُورًا (3) شرح الكلمات: أكنة: جمع كن، وهو: وقاء كلّ شيء وستره (المنجد).وَقَرًا: وقرتْ أُذنُه تَقرُ وَقَرًا: ثقُلت، أو ذهَب سمعه كلَّه وصَمَّتْ (الأقرب).٤٧ ولوا: ولّى هاربًا أدبر.ولى الشيء وعن الشيء: أعرض ونأى (الأقرب).التفسير : اعلم أن كلمة أن يفقهوه متعلق بمفعول له محذوف، والمراد أننا قد جعلنا على قلوبهم الأكنّةَ كراهة أن يدخل في الإسلام مثل هؤلاء الأشرار الذين قد غطوا قلوبهم بشتى الظلمات، فيتسبّبوا في تشويه سمعته.وقد يثار هنا اعتراض وهو: بما أن الله هو الذي جعل على قلوبهم الأغطية فأنى لهم أن يدركوا الحقيقة، وكيف يجوز لومهم إذن؟ به إلا ولقد رد الله الله على ذلك ردا مبدئيا في مكان آخر فقال وما يُضِلُّ الفاسقين) (البقرة : (۲۷).أي أن هذه الحجب تتولد من عند أنفسهم، وليس من عند الخارج.وقد صرّح الله له بذلك في موضع آخر من القرآن الكريم فقال أم على قلوب أقفالُها (محمد (٢٥)..أي على قلوبهم أقفال تولدت من أنفسهم هم.فالإنسان يختار هذه الحجب والأقفال بحريته، أما الله تعالى فيضع على قلب الإنسان ما يختاره بنفسه.ذلك أن الإنسان ما لم يتطهر قلبه لن ينفعه الدخول في الجماعة الإلهية شيئًا، وإنما سيلطخ سمعتها.
الجزء الرابع ٥٢٥ سورة الإسراء أما قوله تعالى وإذا ذكرت ربَّك في القرآن وحدَه ولَّوا على أدبارهم نفوراً) فاعلم أن كلمة وحده تدل على أن المشركين يؤمنون بالله تعالى، ولكنهم يتضايقون من التوحيد وهذا الضيق أيضًا أحد هذه الحجب المذكورة أعلاه.نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا شرح الكلمات: ٤٨ يستمعون: استمع له وإليه: أصغَى (الأقرب).نَجْوَى: النجوى السرُّ؛ المسارون، وهو وصفٌ بالمصدر يستوي فيه المفرد والجمع (الأقرب).مسحورا: المخدوع؛ المصروف عن الأمر؛ المسلوب اللب؛ المسلول.* فكأنهم قالوا لهم: إنكم لا تتبعون إلا رجلاً قد انخدع؛ أو صُرف عن الحق؛ أو سلب عقله؛ أو أصيب بمرض لا علاج له.ذلك أن صحة أنبياء الله تعالى لا تكون جيدةً بالعموم لحزنهم على الحالة المتردية لأقوامهم، فيقول المعارضون إنه مريض ضعيف، وسيموت بعد برهة من الزمن؛ إن هو إلا "سحابة صيف عن قليل تقشع".التفسير: اعلم أن الباء في قوله تعالى يستمعون به جاءت بمعنى اللام، والمراد أننا نعلم جيدا الغرض الذي من أجله يستمع هؤلاء إلى أقوالك.إنما يستمعون * ورد في "أقرب الموارد : سحَره: عمل له السحر وخدعه؛ سحَره عن الأمر: صرفه؛ وسحره بكلامه وألحاظه: استماله وسلب لبه.وورد في "لسان العرب": سحره، فهو مسحور وسحير: أصابَ سَحْرَه.ورجلٌ سحر وسحير: انقطع سَحْرُه، وهو رئته، فإذا أصابه منه السِّلُ وذهَب لحمه فهو سحير وسحرٌ.(المترجم)
الجزء الرابع ٥٢٦ سورة الإسراء إليك لكي يرفضوك ويتهموك فحسب.وكأن هذه الجملة جاءت شرحًا للوقر المذكور في الآية الماضية.وقد تكون الباء في يستمعون به للمصاحبة، والمعنى أننا نعلم حالة قلوبهم وقت استماعهم لك.وما هي هذه الحالة؟ هي تفكيرهم في الاستهزاء بك ومعارضتك.تتحدث هذه الآية عن المزيد من الحجب التي غطت قلوب المنكرين.فقال الله تعالى : إن أول الحجب الحائلة دون إيمانهم هو الشرك وثانيها أنهم لا يستمعون إلى محمد رسول الله بتأن وتدبر إطلاقًا، وإنما يسمعونه بهدف السخرية والاتهام فحسب؛ فكيف يمكن إذن، والحال هذه أن يدركوا الحقيقة.وثالثها أنهم يستهينون بمحمد ظانين أن أمره لن يدوم فلماذا نؤمن به ونرى الخزي والهوان؟ ورابعها أن بعض الحمقى منهم يظنون أن محمدا قد سُلب عقله، فلا داعي للإصغاء إليه.وخامسها أنهم يحسبونه مخدوعًا، فلا يرون الحاجة للتدبر في أمره، فرحين في أنفسهم بأنهم مصيبون كبد الحقيقة.كما يتبين من هذه الآية أن الكفار لما فشلوا في صد تيار انتشار الإسلام بالظلم والعدوان على المسلمين لجأوا إلى حيل أخرى، حيث بدؤوا يهمسون في آذان القوم سرًّا وبكل رفق ما يصدونهم به عن الإسلام.انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ٤٩ سَبِيلاً (5) التفسير : باستخدام كلمة الأمثال قد أوضح الله تعالى أن جميع المعاني لكلمة مسحوراً تنطبق في الآية السالفة، وإلا لوجب استعمال كلمة (مثل).
الجزء الرابع سورة الإسراء واتضح من ذلك أيضًا أن القرآن إذ يستخدم كلمة ذات مدلولات عديدة، فكل تلك المدلولات تنطبق هناك في آن واحد إلا ما كان منها خلافا للسياق.وَقَالُواْ أَعِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَتًا أَعِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا شرح الكلمات عظامًا : العظام جمعُ العظم (الأقرب).رُفاتًا : الرُّفات : الحُطام كلُّ ما تَكسَّرَ وبَلِيَ (الأقرب).التفسير: لقد أنبأت الآيات السالفة عن رقي المؤمنين ووقوع الكافرين في الجحيم، وتتحدث هذه الآية عن شبهة قد تدور في خلد الكفار لدى سماع هذا الإعلان، وهي: كيف يمكن أن نُخلق من جديد وقد صارت عظامنا رفاتًا وذرات.قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ في ج صل صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ ج مَرَّةٍ فَسَيُبْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (3) شرح الكلمات: ۵۲ فسينغضون : أنغضَ فلان رأسه حرّكه كالمتعجب من الشيء (الأقرب).
الجزء الرابع ۵۲۸ سورة الإسراء التفسير : يجيب الله تعالى هنا على اعتراض الكفار الذي مرّ ذكره آنفا، فيقول: لن تنجوا من عذاب الله ل مهما تغيرتم، حتى ولو صرتم حجرًا أو حديدًا أو أي ء أصلب من ذلك.شيء وقد يكون المعنى أنه مهما تحجّرت قلوبكم وتصلبت فلن يحول هذا دون رقي رسولنا وازدهاره، بل لا بد أن يدخل كثير منكم في الإسلام، وأن يُحدث الله في قلوبهم انقلابا عظيمًا.أستنتج من هذه الآية أنه من الممكن أن يحدث في جسم الإنسان المدفون تحت الأرض لمدة طويلة تغير يحوّله إلى مادة جديدة.ذلك أنه فيما يخص النباتات فقد أثبتت البحوث العلمية أن كثيرًا من الشجر المدفونة تحت الأرض منذ أزمنة سحيقة قد صارت فحما، وبعضها تحولت إلى ألماس الموسوعة البريطانية الجديدة كلمة Coal).إذن فلا غرابة في أن يتحول الجسم الإنساني المدفون تحت الأرض لمدة طويلة إلى الحجر.لا شك أننا لم نعثر بعد في الآثار القديمة على ما يؤكد ذلك، ولكنه ليس بأمر مستحيل عقليًّا.لذلك أرى أن هذه الجملة تنص على أنه لا مناص للإنسان من البعث بعد الموت ولو مرّت على عصر الحياة الإنسانية فترة طويلة ممتدة إلى ملايين السنين تتبدل فيها الأجسام الإنسانية المدفونة تحت الأرض وتتغير كلية.وأما قولهم مَن يُعيدنا فاعلم أنهم لم يكونوا جادين في هذا السؤال، وإنما قالوا هذا على سبيل السخرية.وكأنهم يقولون: أرونا من يزعم أنه سيبعثنا من جديد؟ وهذا التعبير يماثل قولنا في لغتنا أرني وجهَ مَن يدعي هذا.فالاستفهام هنا إنكاري؟ وقوله تعالى فسينغضون إليك رؤوسهم يعنى أنهم سينظرون إليك من باب السخرية محركين رؤوسهم وقائلين حسنًا، فأنت الذي تعتقد بذلك؟
الجزء الرابع ۵۲۹ سورة الإسراء وأما قوله تعالى عسى أن يكون قريبا فالمراد منه أن البعث الذي نعنيه هنا ليس ذلك الذي تعترضون عليه، وإنما نعني البعث الذي سيتم بواسطة المسلمين في هذه الدنيا، واعلموا أنه موشك.وبالفعل فقد وقع البعث الذي نبأت به هذه السورة حين أسلم أهل الجزيرة العربية بفترة وجيزة.يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ محمدِه وتَظُنُّونَ إن لبثْتُم ۵۳ إلا قليلا التفسير: لقد دلّت هذه الآية أيضًا على أن البعث المذكور هنا سيتم في هذه الدنيا، حيث قال الله تعالى: إن هذا البعث سيقع في اليوم الذي يناديكم الله أو رسوله فيه، عندها لن تبقوا صامتين تجاه ندائه صمت الأموات، بل سيسر معظمكم إلى تلبية ندائه، وستفاجئون بسرعة غلبة الإسلام حتى تقولوا: إنا كنا خاطئين إذ استبعدنا هذه الغلبة، مع أنها كانت جد قريبة.و ولعل الآية تعني أيضا أن الناس عندما يؤمنون سيندمون على سنوات عمرهم التي أفنوها في الكفر، وسيرون أنهم قد ولدوا الآن ولادة حقيقية.كما أن المؤمنين أيضًا سينسون أيام المحن والشدائد ويرونها قد انقضت في لمح البصر.فالآية لا تتحدث عن طول الزمن أو قصره، وإنما تتحدث عن المشاعر التي ستنتابهم في ذلك الوقت.ورد في الحديث الشريف: "ليس على أهل "لا إله إلا الله" وحشة في قبورهم ولا في مَنشَرهم، وكأني بأهل "لا إله إلا الله" ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَنَ (روح المعاني، تحت هذه الآية، والترمذي، والمعجم الأوسط للطبراني الجزء العاشر رقم الحديث ٩٤٧٤).وكأنهم سوف ينسون كل همّ وحزن بمجرد أن تتيسر لهم الراحة والرقي، معتبرين فترة المحن والمعاناة قصيرة جدا.
الجزء الرابع ٥٣٠ سورة الإسراء وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَنَ يَنزَعُ ج بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَنَ كَانَ لِلْإِنسَنِ عَدُوا مُّبِينًا (3) شرح الكلمات: ينزغ نزَعَه نَرْعًا: طعن فيه واغتابه وذكره بقبيح.ونـــزغ بين القوم: أغرى وأفسَدَ وحَمَل بعضهم على بعض، ونزغ الشيطان بينهم (الأقرب).التفسير : ما أكثَرَ المتعة التي يجدها المرء في قراءة القرآن الكريم.فرغم أن ترتيبه ثم الحالي يختلف عن ترتيبه النزولي - حيث وضعت بعضُ سُوره قبل السور التي كانت أسبق منها نزولاً - فإنك تجد في مواضيعه انسجاما تاما بحيث يخيل إليك وكأن سورتين من سوره بابان من كتاب تم تأليفه في وقت واحد.فمثلا قال الله تعالى في السورة الماضية..النحل: ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسَنُ (الآية: ١٢٦)..وقد تناولت سورةُ الإسراء الآن هذه المواضيع بنفس الترتيب؛ فبعد بيان محاسن القرآن قال الله تعالى ذلك مما أوحى إليك ربُّك من الحكمة (الآية : ٤٠ )، مشيرًا إلى الحكمة؛ قال ولا تجعل مع الله إلها آخَرَ..إلخ) (الآية ٤٠ وما بعدها)، مشيرًا إلى الموعظة الحسنة) ؛ ثم قال وقُلْ لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ (الآية: ٥٤) مشيرًا إلى قوله وجادلهم بالتي هي أحسن.بعد رؤية هذا الترتيب المحكّم كيف يمكن لأحد أن يزعم بأن لا ربط ولا ترتيب في القرآن الكريم.أما قوله تعالى: إن الشيطان يَنزَع بينهم فلفت به أنظارنا إلى ضرورة القول الحسن حتى للأصدقاء، وأن علينا أخذ الحيطة والحذر أكثر بهذا الشأن خاصة حين يسعى العدو لبذر النفور والكراهية بين القوم، فنتحدث بأسلوب يلين جانب الناس تجاهنا.
۰۳۱ سورة الإسراء الجزء الرابع علمًا أنه قد يراد بالشيطان هنا الشخص الفاسق، كما يمكن أن يراد به الكائن الذي قد حُصَّ بهذا الاسم، فهو الذي يوسوس في صدور الناس.كما تتضمن هذه الآية وصية ربانية للمسلمين أنهم إذا كانوا فعلاً يريدون أن تقترب أيام البعث الإسلامي، أي أيام ازدهاره الموعود في قوله تعالى يوم يدعوكم فعليهم أي يسلكوا سلوكًا يؤدي إلى إسلام القوم بسرعة.لقد تبين من هذا أيضًا أن قوله تعالى من قبل فتستجيبون له كان يعني دخول القوم في الإسلام.صلى رَّبِّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْتَكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) ٥٥ التفسير : يقول الله تعالى إننا نحن أعلم بالإنسان في حالتيه: حالة خيره وحالة شره، ولا أحد سوانا يعلم ما في قلوب البشر، ولذلك احتفظنا بحق الجزاء في قبضتنا، ولم نضعه في يد أحد سوانا، حتى ولا في يد محمد رسول الله.فبقدر ما تتغير حالتكم تتغير معاملتنا لكم.وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا صلى بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَىٰ بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ٥٦ التفسير : لقد نبه الله لال له من قبل أنه أعلم بحالة أقوام الأنبياء، أما الآن فيقول: نحن أعلم بحال الأنبياء أيضا، سواء كانوا في السماوات..أي ممن قد أتى عليهم الفناء، أو الذين هم في الأرض..أي من الأحياء وكأنه تعالى يعلن هنا أنه أدرى بحال محمد رسول الله وكذلك بحال الأنبياء السابقين له، وأنه أدرى بحاجات كل
الجزء الرابع ۰۳۲ سورة الإسراء.عصر ليبعث نبيه بحسبها، ومن أجل ذلك فضل بعض النبيين على بعض، وبعث كل نبي بحسب حاجات زمنه.وقد ذكر الله له اسم داودَ هنا من بين الأنبياء - عليهم السلام – لغرض هام.ذلك أنه الله سبق أن أخبر - لدى الحديث عن اليهود - عن عذابين حلا بهم؛ أحدهما بعد داود العلا حين كثرت الأموال لدى اليهود، وانغمسوا في الملذات، وثانيهما بعد المسيح اللة لكفرهم به هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أخبرنا الله تعالى في القرآن أن نبينا الكريم مثيل لموسى - عليهما السلام – حيث قال الله إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدا عليكم كما أرسَلْنا إلى فرعونَ رسولا) (المزمل: ١٦)، كما سجلت التوراة من قبل نبأ على لسان موسى عن مجيء مثيل لـه (تثنية ۱۸: ۱۸)، ثم نجد في سورة الفاتحة نبأ على لسان محمد رسول الله ﷺ بكون أمته مثيلةً للأمة الإسرائيلية؛ وبسبب هذه المماثلة والمشابهة ذكر الله لدى نصح الا المسلمين اسم داود ال على وجه الخصوص، وكأنه تعالى يحذرهم قائلا: أيها المسلمون، لا تنسوا، إبّان رقيكم وازدهاركم ما حصل باليهود زمن داود حيث أضر بهم الرقي المادي ضررًا فادحا بدلاً من أن ينفعهم، إذ أصبحوا غافلين عن الدين.فلا تفعلوا مثلهم، بل اقضوا تلك الأيام في تقوى الله وخشيته عل.الكريم وبالرغم من هذا الإنذار الإلهي فقد تطرق الفساد إلى المسلمين بعد النبي بفترة تقارب نفس المدة التي فسد فيها بنو إسرائيل بعد موسى ال.لا جرم أنه لم يُبعث في المسلمين عند تسرب الفساد فيهم نبي كداود، ولكن مما لا شك فيه أنه كان فيهم عندئذ ملوك صالحون قدموا نموذجًا مثاليا للورع والتقوى كما فعل داود وسليمان عليهما السلام.ولكن المسلمين كانوا حينها سكارى بنشوة المال، غافلين عن خدمة الإسلام؛ فكانت النتيجة أن دُمِّرت بغداد بيد هولاكو خان بفترة تقارب الفترة التي دُمِّرت فيها أورشليم بعد موسى، وهكذا انمحت شوكة الإسلام ولم تتوطد بالقوة نفسها مرة أخرى.
الجزء الرابع سورة الإسراء بي قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِ عَنكُمْ وَلَا تَحويلاً ) شرح الكلمات: ۵۷ زعمتم: زعم الرجلُ يزعُم زَعْمًا: قال قولاً حقا، وكذا باطلاً وكذبًا، ضد وأكثر ما يقال في ما يُشَكٍّ فيه أو يُعتقد كذبه (الأقرب).فلا يملكون :مَلَكَه احتواه قادرًا على الاستبداد.به ملك على القوم: استولى عليهم.ملك على فلان أمره استولى عليه.وملك الخَشْفُ (أي ولد الظبي) أُمَّه : قوي وقدر أن يتبعها (الأقرب).كشف: كشف الشيء: أظهره ورفع عنه ما يواريه ويغطّيه.كشف الله غمَّه: أزاله (الأقرب).الضُّرّ: ضدُّ النفع؛ سوء الحال والشدة.وفي الكليات: الضُّرُّ بالفتح شائع في كل ضرر، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال (الأقرب).تحويلاً حوّله: نقله من موضع إلى آخر حول الشيء: قلبه وأزاله.وحول هو: انتقل، لازم متعد (الأقرب).التفسير : الموضوع الذي يتناوله القرآن الكريم في الآيات السابقة هو أن الكفار حين يسمعون ذكر بعث الإسلام، أي غلبته، يظنون خطأ أن المراد منه بعث الأجساد بعد الموت، فيشرعون في الاعتراض على ذلك.ومع أنه لا سبيل للاعتراض ولو كان المراد من البعث هو ما ظنوه ولكن الحق أنه تعالى لا يعنى هنا بعث الأجساد من القبور، بل بعثا روحانيا في هذه الدنيا، حيث يعلن تعالى أنه سوف ينادي عباده في الموعد المناسب، فيتمزق كل فخ نسجه أئمة الكفر بمكائدهم لاصطياد الناس، ويفرّ منهم صيدهم ليلتحق بمحمد رسول الله.ثم نصح والله المسلمين بأخذ الحيطة زمن الازدهار.واستأنف في هذه الآية الموضوع
الجزء الرابع ٥٣٤ سورة الإسراء : نفسه ثانية فقال للكفار يمكنكم أن تعرفوا كذبَ دينكم وحقيقة الشرك على ضوء ما أنبأنا به من ازدهار المسلمين وهلاككم.فها نحن نتحداكم أن العذاب نازل بكم، فادعوا آلهتكم لتروا هل تسمع ابتهالكم، وهل هي قادرة على تأجيل عذابنا لبعض الوقت، بَلْه أن تدفعه عنكم نهائيا.وبما أن الدمار القادم كان سيحل بالمسلمين جراء الشرك، فتناول القرآن موضوع الشرك هنا بالتفصيل.والحق أن مرض الشرك كان متفشيا في المسلمين حين دمرت بغداد.ذلك أنهم أثناء الفتوحات الإسلامية تزوجوا بالنساء الإيرانيات والتركيات ذوات الحسن والجمال، وكُنَّ مشركات متعصبات، فظهر أثر الشرك في أولادهن في نهاية المطاف.وكان ابن المقفع وعبد تلك الحقبة نفسها.الله بن صباح من أُولَتَيكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ ج أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، وَتَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا الكلمات ۵۸ شرح الوسيلة: وسَل إلى الله بالعمل يسل وسيلةً: رغب وتَقَرَّبَ.وَوَسَّلَ إلى الله بوسيلة وتَوسَّلَ.عمل عملاً تقرّب به إليه تعالى.وتوسلت إلى فلان بكذا: تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه الوسيلة : ما يُتقرب به إلى الغير (الأقرب).محذورًا ما يُحترز منه (الأقرب).التفسير : اعلم أن أولئك هنا إشارة إلى النبيين، والمراد من يدعون أن الأنبياء يدعون الناس إلى الله تعالى، أو أنهم يدعون الله وعمل في تضرع وخشوع؛ وأما يبتغون إلى ربهم الوسيلة فهو خبرٌ لي أولئك؛ ومفهوم الجملة: أن
الجزء الرابع ٥٣٥ سورة الإسراء أولئك النبيين – الذين صفتهم التبليغ أو الدعاء، والذين بلغوا تلك الدرجة من الصلاح وحب الله تعالى لا يبتغون إلا قرب ربهم، ولا يتخذون للتقرب إليه تعالى أي إله آخر.أما جملة أيهم أقرب فيرى الزمخشري - وقد أيد رأيه جمهور المفسرين – أن أي موصولة، بمعنى: من هم أقرب منهم، وهذه الجملة بدل من ضمير الفاعل في يبتغون)، والمراد أن هؤلاء الساعين للحصول على القرب الإلهي هم الأقرب إلى الله تعالى.وفي ذلك تنبية إلى أنه ما دام أولئك الذين هم أقرب الناس إلى الله تعالى يسعون للمزيد من قربه فكم بالحري أن لذلك مَنْ لم يحظ يسعى بقربه أصلاً.فمجمل القول إن القرب الإلهي ليس مما يُحرز بعبادة الآخرين.فما دام أعظم الأنبياء وأكثرهم تقربا هو الآخر لا يبرح يبتغي قرب الله ويريد المزيد من قربه تعالى؛ فأنى له أن يكون زعيمًا وضامنًا لكم.وحيث إن كبار الأنبياء العظام ما زالوا يبتغون المزيد من قربه ، فكم بالحرى أن تسعوا أيضا لذلك.ويمكن تفسير هذه الآية بمفهوم آخر بأن تكون أولئك إشارة إلى الذين اتخذوا آلهةً، ويكون ضمير الفاعل في يدعون عائدا إلى المشركين، وأن تكون أي استفهامية، عاملها فعل أو مصدر محذوف، أي: يحرصون أيهم أقرب إلى الله، أو بغيتهم أيهم أقرب إليه الله والمراد : أن أولئك الذين يدعوهم المشركون آلهة إنما يبتغون قرب الله تعالى، ويرون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى؟ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَالِكَ فِي الْكِتَبِ مَسْطُورًا ) شرح الكلمات: مسطورًا: اسم مفعول من سَطَرَ الكاتب: كتب (الأقرب).
الجزء الرابع ٥٣٦ سورة الإسراء التفسير: لقد تحدى الله و المشركين من قبل بأن يدعوا شركاءهم ليروا هل يدفعون عنهم العذاب أو يتحملون نصيبا منه نيابة عنهم، أما الآن فيضرب لذلك مثلاً ويقول: سيأتي على الناس زمان تتغلب فيه الأمم المشركة بحيث يكاد ينمحي أثر التوحيد من على وجه الأرض.وحين تصل غلبة الشرك هذه ذروتها وتغطي العالم كله ستنزل العذاب على الدنيا كلها لنقضي على هذا الشرك العالمي، وعندها سيتجلى للدنيا صدق ما نعلنه سيحيط بالدنيا كلها عذاب كما أنبأنا، وسيستغيث الناسُ آلهتهم الباطلة، ولكن بدون جدوى.وهذا النبأ سيُذكر في سورة الكهف مفصلاً.كما حذر الله تعالى هنا المسلمين أيضًا من عذاب ثان قد يهددهم لوجود المشابهة التامة بين الأمة المحمدية والأمة الموسوية.عالمي وَمَا مَنَعَنَا أَن تُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ مَا الْأَوَّلُونَ ج وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْاَيَتِ إِلَّا تَخوِيًّا شرح الكلمات: فظلموا بها: الظلمُ: التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد؛ وضع الشيء في غير موضعه.ظلم البعير ظلمًا: إذا نحره من غير داء (التاج).التفسير: يقول الله تعالى هنا يجب ألا يظنَّنَّ أهلُ أي زمن أن ظهور المعجزات السماوية قد انقطع الآن.وهذا النصح موجّه إلى المسلمين خاصة، إذ كان هناك خطر أن يتغافلوا عن الله تعالى، فيُحرموا من رؤية آياته المتجددة، فيظنوا أن الآيات لا يمكن أن تظهر الآن فنبههم الله تعالى ألا تنتابهم مثل هذه الظنون، لأنه تعالى يُري آياته دائمًا، ليتجدد الإيمان في قلوب العباد.
الجزء الرابع ۰۳۷ سورة الإسراء وقد دلّل الله وعمل على ظهور آياته دومًا بما يلي: ۱ - غاية ما يمكن أن يُقال في تأييد انقطاع آيات الله هو: متى استفاد الأولون من هذه الآيات حتى ينتفع بها الناس الآن ؟ والجواب أنه لو كانت هذه الحجة مقبولة لما ظهرت أية آية أبدا من عند الله بعد بعث أول الأنبياء.ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك، بل ما زال يرسل بالآيات رغم الإنكار المستمر لها من قبل أعداء الأنبياء.فلا يمكن أن تتوقف الآيات الإلهية من الظهور جراء إنكار المنكرين في أي زمن.لقد أظهر الله الآيات في زمن آدم، وأيضًا في زمن نوح، كما أظهرها لأمة ثمود التي كانت بعدهما.لقد خص الله لا قوم ثمود بالذكر هنا لأن هذا الشعب كان من العرب، وكانت آثارهم الباقية ماثلة أمام العرب كلهم سواء كانوا مشركين أو يهودًا أو نصارى، وكان بإمكان هذه الفئات كلها أن تأخذ العبرة من حالات قوم ثمود.٢- وساق الدليل الثاني قائلاً: إن ظهور الآيات ضروري قبل إنزال العذاب، لكي يُنقذ من العذاب من يمكن إنقاذه.وما دمنا ننبئ بحلول العذاب الشديد في المستقبل بحيث لن تنجو أية قرية في العالم من النوازل والبلايا، فيجب أن يدرك المسلمون من ذلك أن لا بد عندها من ظهور الآيات السماوية أيضا، لأن إنزال العذاب بدون إنذار وتخويف يتنافى مع سنتنا.ج وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّمْيَا أَلَّتِى أَرَيْنَكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وخوفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَنًا كَبِيرًا (3) شرح الكلمات: أحاط أحاط بالأمر : أحدق به من جوانبه.أحيط به: دنا هلاكه (الأقرب).で
۵۳۸ سورة الإسراء الجزء الرابع فتنة : مصدر فَتَنَ؛ الخبرة والابتلاء؛ الضلال والإثم والكفر؛ الفضيحة؛ العذاب؛ المرض؛ العبر؛ اختلافُ الناس في الآراء وما يقع بينهم من القتال (الأقرب).طغيانًا: طغَى يطغي وطغي يطغَى : جاوَز القدر والحدَّ.طغَى فلان: أسرف في المعاصي والظلم (الأقرب).التفسير : لقد سبق أن أوضحنا أن الإحاطة تعني احتواء الشيء وحصر جميع أجزائه، كما تعني أيضًا العذاب التام، لأنه إذا تمت محاصرة قوم محاصرة تامة فلا مفر لهم.أما هنا فينطبق معنى المحاصرة، والمراد تَذَكَّر، يا محمد، ذلك الوقت حين قلنا لك إننا نريد محاصرة أهل الدنيا كلها وضَمَّهم في دائرة واحدة.وهذه الآية تشير إلى الآية الأولى من هذه السورة أعني إلى مضمون الكشف النبوي الذي يسمى الإسراء، حيث رأى النبي الله أنه قد صلّى بالأنبياء أجمعين، وكان تعبيره أن أمم جميع الأنبياء ستدخل في دينه.وقد أشير إلى موضوع الإسراء هنا مرة أخرى لأن الآيات السابقة نبأت عن نزول العذاب على الدنيا كلها، فقد بين الله تعالى الآن الغاية من هذا العذاب، وقال: نستهدف بهذا العذاب تحقيق الكشف الذي أريناك في شكل الإسراء، وتحقيق نبأ دخول أتباع الأنبياء كلّهم في حظيرة الإسلام؛ لأن هذا العذاب العالمي سوف يمهد لتبليغ رسالة الإسلام، حيث ترجع كافة الشعوب إلى الدين بعد أن تكون قد يئست من المادية، وعندها سيفتح الله بفضله ورحمته قلوبها لقبول الحق، فتجتمع تحت راية محمد رسول الله.وقد بدأت آثار العذاب الموعود تظهر الآن في العالم، لتفسح الطريق لانتشار الإسلام على نطاق واسع بإذن الله تعالى.وقد زاد الله تعالى الأمر إيضاحًا في باقي الآية حيث قال وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس..أي أنه كان بإمكاننا أن ندلي بهذا النبأ بألفاظ صريحة واضحة، ولكننا ذكرناه - اختبارًا للقوم – بلغة المجاز والتمثيل على شكل
الجزء الرابع ۵۳۹ سورة الإسراء بعض المشاهد، لكي يؤمن به بعد سماعه مَن يحمل صفات كصفات أبي بكر، ويعترض عليه من خلا قلبه من تقوى الله تعالى.: تؤكد هذه الآية أن الآيات الإلهية تحمل جانبا من الاختبار والامتحان، ورغم هذه الحقيقة الناصعة يزعم حتى المسلمون اليوم أن أنباء الله يجب أن تكون واضحةً جليّةً بحيث لا يسع حتى لأكبر غبي في العالم إنكارها، وإلا فلا يمكن اعتبارها نبوءات صادقة.وأما قوله تعالى والشجرة الملعونة في القرآن فيعني أننا كما جعلنا الرؤيا التي أريناكها امتحاناً للناس كذلك قد جعلنا الشجرة التي وصفها القرآن بكونها ملعونة أيضا لاختبار الناس.ما هي تلك الشجرة الملعونة؟ لقد اختلف المفسرون في معناها كثيرًا؛ فقال بعضهم إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع هي: سورة الواقعة الآية ٥٣ وسورة الصافات الآية ٦٣ وسورة الدخان الآية ٤٤.الكشاف ،والرازي وابن كثير).ويقول هؤلاء المفسرون أن القرآن الكريم لما أخبر أن طعام أهل الجحيم الزقوم بدأ الكفار يستهزؤون بالنبي لأن الزقوم هو التمر والزبد بلغة اليمن فقالوا :ساخرين: إن الزقوم من أجود الثمار، فما نبغي غير ذلك؟ واستدل المفسرون على صحة قولهم بكون الزقوم قد وُصفت – مثل الشجرة - الملعونة – بالفتنة في قول الله تعالى إنا جعلناها فتنةً للظالمين﴾ (الصافات: ٦٤).ولكن واجهتهم مشكلة أخرى هي أن الزقوم لم توصف في أي موضع في القرآن بكونها ملعونة! فأجابوا على ذلك أن القرآن يعلن أن الزقوم يوجد في الجحيم، والبديهي أن كل شيء فيها ملعون، لأنها موضع غضب الله تعالى.ثم أثار هؤلاء بأنفسهم اعتراضًا على تأويلهم هذا قائلين: كيف تصبح الشجرة ملعونة، لأن الملعون هو الكائن العاصي، ولكن الشجرة ليست من ذوات الأرواح؟ فأجابوا على ذلك بقولهم: سميت ملعونةً لكون آكليها ملعونين.
الجزء الرابع ٥٤٠ سورة الإسراء بينما قال الآخرون أن الشجرة المشار إليها هي نبات "الكشوث" الذي يتلوى بالأشجار فيقتلها (فتح البيان).علما أن الكشوث في الحقيقة اسم لبذور نبات يسمى أفتيمون، له خيوط صفراء تلتف حول أغصان الأشجار وتمتص رحيقها حتى تأخذ في الجفاف.والنوع الموجود منه في الهند يسمى أكاسبيل أو أمربيل أو أمرلته، ويسمى في البنجاب كوريبيل أي النبات المرّ، ومنه قولهم: أنبتك الله نبات كوريبيل: أي أن تنمو سريعًا، وتقتل أعداءك كما يقتل هذا النبات الأشجار.ولكن ليس في القرآن ما يدعم هذا التأويل حتى ولا بدرجة الزقوم.ورُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك : إنكم الشجرة الملعونة في القرآن الدر المنثور).وقال بعضهم: إنها الشجرة الخبيثة التي مَرَّ ذكرها في سورة إبراهيم (روح المعاني).وكنت أنا أيضًا أفسر الشجرة الملعونة بأنها الشجرة الخبيثة، لأن كل ما سواه من المفاهيم المذكورة آنفا تتماشى مع باقي ألفاظ هذه الآية.فكنت أقول: الخبيث من الأشياء ما لا خير فيه، ويقول القرآن الكريم عما لا خير فيه فأما الزبد فيذهبُ جُفاء (الرعد: (۱)..أي أن الشيء الرديء يُرمى بعيدًا مثل الزبد واللعنة أيضًا تعني الإبعاد، فما يذهب جفاء يمكن أن نسمّيه ملعونًا كذلك.ولكني حين جلستُ لتسجيل هذه الملحوظات التفسيرية كشف الله علي مفهوما آخر، وها إني أذكره هنا، لأن هذا المفهوم يبدو أوثق صلة بسياق الآية.لاستيعاب هذا المفهوم يجب فهم معاني الشجرة جيدًا.فبالإضافة إلى معناها المعروف قد ورد في القواميس: "شجرةُ النسب ما يُبتدأ فيها من الجد الأعلى إلى أولاده ثم إلى أولادهم، وهَلُمَّ جرًّا (الأقرب).وبالنظر إلى هذا المفهوم يمكن أن تعني "الشجرة الملعونة" أسرةً ما زالت أو ستظلّ عرضةً للعنة الله تعالى لأجيال عديدة.وهذا المعنى تدعمها الرواية التي سجلتها من قبل عنها.وبالرغم أن هذه الرواية باطلة والتي تنسب إلى السيدة عائشة - رضي الله عندي، ولكننا يمكننا الاستناد إليها لفهم هذا التعبير العربي، لأن الذين رووا هذه الرواية والذين سجلوها في كتب الحديث عرب يفهمون التعابير العربية دونما شك.
الجزء الرابع سورة الإسراء بعد هذا الشرح والتمهيد تعالوا نَرَ معًا هل كان القرآن الكريم يتحدث عن أسرة ضُربت عليها اللعنة من عند الله تعالى لأجيال وأجيال؟ فإذا وجدنا في القرآن أسرة كهذه فهي الشجرة الملعونة.وبالفعل تدلّنا دراسة القرآن على أسرة أو أمة ضرب الله عليها اللعنة لمدة طويلة، وقد سجّل القرآن هذا الأمر في أماكن عديدة نذكر بعضها فيما يلي: ١- لعنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابنِ (المائدة: ۷۹) ٢ - يا أيها الذين أُوتُوا الكتاب آمنوا بما نزَلْنا مصدقا لما معكم من قبل أن نَمِسَ وُجُوهَا فَنَرُدَّها على أدبارها أو تلعَنَهم كما لَعَنَّا أصحاب السبت (النساء: ٤٨) ٣- كذلك قال الله تعالى عن اليهود فبما نقضهم ميثاقهم لَعَنَّاهم (المائدة: ١٤)..أي كنا أخذنا من اليهود وعدهم أنهم سيصدقون النبي الموعود أي محمدا رسول الله له له عند ظهوره ، ولكنهم لم يُوفُوا بوعدهم هذا فَلَعَنَّاهم.٤- وقال الله لليهود أنتم: مَن لَعَنَه الله وغَضِبَ عليه وجَعَلَ منهم القردة والخنازير (المائدة: ٦١).ه ثم قال بعد آيات وقالت اليهودُ يَدُ الله مغلولةٌ غُلَّتْ أَيديهم ولعنُوا بما قالُوا (المائدة: (٦٥)..أي بسبب أحكام الزكاة والتبرعات وغيرها يسخر اليهود من المسلمين قائلين: لا يعطيهم الله الأموال، لأن يده مغلولة مقيدة.وبسبب قولهم الوقح هذا قرّر الله تعالى أن يصابوا بمرض البخل وحب المال واللعنة.فثبت من هذه الأدلة أن إسرائيل، الذين كانوا من نسل واحد قد تعرضوا للعنة الإلهية على التوالي، كما لعنهم القرآن الكريم أيضًا، وقال: لا أمن لهذه الأمة أبدا إلا بطريقين اثنين فقط: إما أن تلوذ بشعوب قوية أخرى، أو تصير مسلمةً.فأرى أن بني إسرائيل هم الشجرة الملعونة المشار إليها هنا.ذلك أن هذه السورة عن هذه الأمة خاصة، حتى إن الرسول ﷺ سمى هذه السورة "بني تتحدث بني
الجزء الرابع ٥٤٢ سورة الإسراء إسرائيل" أيضًا (ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب عدد سجود القرآن).ثم إن الآية التي نحن بصدد تفسيرها أيضًا تتحدث عن بني إسرائيل، حيث تشير إلى إسراء الرسول ﷺ الذي رأى فيه أنه في مركزهم، وأنه يصلى هناك بالناس.كما توضح هذه الآية أنه كما كانت رؤيا الإسراء اختبارًا للناس كذلك كان بنو إسرائيل المذكورون في هذه الرؤيا فتنة لهم أيضا..بمعنى أنهم سيظلون يعارضون الإسلام بلا مبرر.وبالفعل ترون أنه بالرغم من أن اليهود يتمتعون بالأمن في البلاد الإسلامية أكثر من أي بلد آخر، فإنهم لا ينفكون يعادون الإسلام، من دون أن يدركوا أن الإسلام هو الملاذ الوحيد لهم، وإلا فلن يزالوا هدفًا لمظالم الدنيا.ولذلك قال الله تعالى في آخر الآية إننا ما زلنا نحذر هذا الشعب مرارا وتكرارا من المصير الذي ينتظرهم، ولكن لا يزيدهم ذلك إلا طغيانًا وعدوانًا.أما صلة هذه الآية بما قبلها فهي كالآتي: لقد أخبر الله تعالى من قبل عن وقوع عذاب عالمي هائل، وقد بين في هذه الآية أن هذا العذاب العالمي نتيجة طبيعية لرؤيا الإسراء، لأن غلبة الإسلام منوطة بذلك العذاب، حيث قدر الله تعالى انتشار الإسلام بعده انتشارا عالميًّا واسعًا.وقد ذكر اليهود مباشرة لينبه أن هذا الشعب أيضًا فتنة، بمعنى أن هذا الشعب الشرير الفتان سوف يوقظ الفتنة الثانية.وبالفعل لم تنشب الحرب العالمية الأولى ولا الحالية إلا بسبب اليهود.ففي الحرب الأولى عمل اليهود ضد ألمانيا بخطة منظمة، فكان أن بدأ الألمان يصبوّن عليهم العذاب انتقاما؛ فاستغل اليهود هذا الأمر، وقاموا بالدعايات الواسعة حتى نشبت الحرب الحالية.واليهود أكبر المسؤولين عن الانقلاب الحاصل في روسيا، والذي هو جزء من هذا العذاب نفسه؛ لأن عددًا من الزعماء الروس الكبار هم من نسل يهودي.لقد سبق أن نشرت بعض الجرائد قبل الحرب العالمية الأولى وثائق يهودية سريةً تكشف عن مؤامرة اليهود لإشعال حرب عظيمة يمهدون بها للعودة إلى فلسطين، ولقد أكدت الأحداث ما ذكرته الجرائد ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن
الجزء الرابع ٥٤٣ سورة الإسراء استيلاءهم على فلسطين أمر مؤقت، ولا يمكن أن يدوم طويلا، لأن الله تعالى قد كتبها للمسلمين للأبد.وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَيكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ وَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (3) شرح الكلمات ٦٢ لآدم للام الجارة اثنان وعشرون معنى منها المعية، قال الشاعر: فلما تَفَرَّقْنَا كأني ومالكا لطول اجتماع لم تثبت ليلة معا (مغني اللبيب، حرف اللام).فاللام في الطول) جاءت بمعنى "مع".فقوله تعالى اسجدوا لآدم يعني: اسجدوا مع آدم.إبليس: راجع شرح الآية رقم ٣٢ من سورة الحجر.الطين: تراب أو رَمْلٌ وكلْسٌ يُجعَل بالماء ويُطلى به (الأقرب).التفسير تتحدث الآيات السابقة عن طغيان اليهود وتمردهم، وتوضيحا للموضوع نفسه ذكر الله هنا قصة آدم على سبيل التمثيل، ليخبر أن الأنبياء ما زالوا هدفا للمعارضة في كل عصر.فهذا آدم أبو البشر الذي كان أول نبي أيضًا قد عاداه أحد الأبالسة زاعمًا : أنا خير منه، فكيف أطيعه.واليهود أنفسهم واقعون في الاختبار نفسه، حيث يرون أنهم خير من محمد رسول الله وقومه، وذلك لاعتقادهم الراسخ أن بني إسحاق قد احتكروا جميع البركات الإبراهيمية، وأن بني إسماعيل محرومون من هذا الإرث الإبراهيمي الروحاني.فهذا هو الاستكبار الذي سيحول دون إيمانهم.
الجزء الرابع ٥٤٤ سورة الإسراء قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَبِنْ أَخَرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا () شرح الكلمات: الله كرمت: كرمه تكريما وتكرمةً: عظمه ونزّهه (الأقرب).لأحتنكَنَّ : احتنَكَ الفَرَسَ : جَعَل الرسن في فيه.احتنكه: استولى عليه.احتنك زيدا: أخذ ماله كله.احتنك الجرادُ الأرضَ : أكل ما عليها وأتى على نباتها (الأقرب).التفسير: أي أن الشيطان طلب بلسان حاله من تعالى أن يُمهله حتى زمن ازدهار بني آدم ليُريه كيف يُلجمهم ليسوقهم حيثما شاء.(لمعرفة المزيد عن قصة آدم والشيطان راجع تفسير الآية رقم ٢٧ من سورة الحجر) مع العلم أن "القيامة" تعني هنا زمن رقي المؤمنين، إذ تقوم القيامة على الكفار حينئذ في شكل دمارهم، وعلى المؤمنين في شكل رقيهم.وأما قول الشيطان إلا قليلا فيعني أن قليلا من الناس ينجون من سيطرتي، أو أن قليلا من أعمالهم ستكون الله تعالى، ومعظمها تكون من أجلي.يزعم البعض أن الشيطان قام بادعاء كبير، ثم حقق ما ادعى، حيث تحدّى وقال لأحتَنكَنَّ ذُرِّيته ؛ وبالفعل نرى أن الخير في الدنيا قليل، والشر كثير؛ ولكن الله تعالى لم يستطع أن ينجز ما أعلنه إزاء تحدّي الشيطان، فإنه تعالى قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ومع ذلك نرى أن أكثر الناس ليسوا عبادا الله، بل أصبحوا عبادًا للشيطان؟ إن هذا الاعتراض ناتج عن قلة التدبر، لأن الشرّ في الواقع أقل من الخير بكثير.خذوا مثلاً أكبر الكذابين في العالم، فلو جمعنا كل ما نطق به من كلام في سائر حياته لوجدنا صدقه أكثر من كذبه.ونفس الحال بالنسبة للسيئات الأخرى.فالحق أن أكثر الناس في الدنيا نياتهم صالحة، ويسعون لفعل الخير قدر المستطاع،
الجزء الرابع ٥٤٥ سورة الإسراء وإن كانت الأهواء النفسانية تصرعهم أحيانًا.فمن الخطأ القول أن الشيطان نجح في مرامه.إننا نرى أن أحدًا إذا ارتكب سيئة، ولو صغيرة، انتشر خبره على نطاق واسع، وهذا أيضًا يشكل برهانًا على فشل الشيطان، إذ يدلّ على نقاوة الفطرة الإنسانية التي لا تتحمل السيئة وإن كانت صغيرة.قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً ٦٤ مَّوْفُورًا شرح الكلمات موفوراً : الموفور : الشيء التام.وجزاء موفور : لم ينقص منه شيء (الأقرب).التفسير قوله تعالى فإن جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً) يعني أن كل واحد منهم سينال هنالك جزاء كاملا ولكن لا يعني ذلك أن الله تعالى لن يخفف من عقابهم شيئًا، لأن الثابت من القرآن الكريم أن سنة الله تعالى في العقاب أن يفضّل الرحمة والعفو دوما.إن كلمة موفوراً) إنما تعني أن العقاب شيء لا يمكن أن يطلب الإنسان مزيدا منه، وأن كل واحد في الجحيم سيكون مشغولاً بعقابه بحيث لن يمكنه التفكير في شيء آخر.ويتضح من هذه الآية أن هذا العقاب سيكون نفسانيا، وأن كل واحد سيلقى العقاب بحسب حالته القلبية، شأن الشجرة التي تمتص الغذاء وفقا لحالتها الطبيعية من الأرض.لقد أتى إلى الدنيا ملايين الملايين من البشر وسيجيئون في المستقبل أيضًا، ولكن لا يوجد فيها حتى شخصان يتشابه قلباهما تشابها كاملا، بل حالة قلب كل واحد مختلفة، ومن ثم يجب أن يكون عقاب كل إنسان أيضا مختلفًا ؛ ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا كان العقاب نفسانيا، فيتحمل كل إنسان الآن النتائج الطبيعية لأعماله.عن
الجزء الرابع ٥٤٦ سورة الإسراء وَاسْتَزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَحِلِكَ وَشَارِكَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَندِ وَعِدْهُم وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ) شرح الكلمات: واستفزز: استفزه الخوف: استخفّه واستدعاه واستفزه من الشيء: أخرجه.حتله ج حتى ألقاه في مهلكة؛ استفز فلان فلانا أخرجه من داره وأزعجه، ويقال: قتله (الأقرب).أَجلب: أجلبَ القومُ : اختلطت أصواتهم وضَحُوا؛ تجمعوا من كل وجه للحرب، وفي القرآن وأجلب عليهم بخيلك ورجلك)..أي صح (الأقرب).خيلك: الخيل: جماعة الأفراس، لا واحد له؛ والفرسانُ على المجاز أَي رُكَّابُ الخيل، ومنه قول القرآن وأجلب عليهم بخيلك ورجلك..أي بفرسانك ومُشاتك (الأقرب).رجلك : الرجل: جمعُ الراجل وهو من ليس له ظهر يركبه (الأقرب).التفسير: قوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَن استطعت منهم بصوتك يبين أن الإنسان يكون في أول أمره في مقام الخير، فإذا أثر فيه الشيطان انزلق من مقامه الأصلي إلى مقام الشر.وهناك بون شاسع بين النظرية المسيحية والنظرية الإسلامية في هذه القضية، حيث ترى المسيحية أن أصل فطرة الإنسان هو الشر، ويُؤتَى بالإنسان من مقام الشر إلى مقام الخير من خلال الكفّارة (دنيا كا منجي ( أي مخلص العالم ص (۲) بينما يعلن الإسلام أن الخير هو المقام الأصلي للفطرة الإنسانية، ولكن الشيطان يُزلّ قدمه من الخير إلى الشر.
الجزء الرابع ٥٤٧ سورة الإسراء الضعف وفي قوله تعالى بصوتك إشارة إلى أن بعض الطبائع البشرية تبلغ من بحيث تصاب بالهلع بمجرد سماع التهديدات، أو تنتابها الشبهات بسماع الاعتراضات.إنها لا تملك الشجاعة للصمود ولا الهمة للتحقيق.لقد نبهنا الله تعالى هنا إلى أنواع مختلفة لهجمات الشيطان.فهناك من يهدّده الشيطان لينضم إليه..بمعنى أن أصحاب الطبائع الشيطانية يهددون فقراء الناس وضعفاءهم ليمنعوهم من الانضمام إلى جماعة الأنبياء وهناك من يمنعه الشيطان من الخير بالاستعانة بمشاته وفرسانه..بمعنى أن هؤلاء الأشرار يعرضون الناس لصنوف الأذى والتعذيب.وهناك من يدمّرهم الشيطان عن طريق التقاليد الفارغة والصُحبة الفاسدة وهناك مَن يُغريهم الشيطان بالمال والثراء ليمنعهم من قبول الحق.ولكن الذين في قلوبهم الإيمان لا يذعنون لإغراء الشيطان أو تهديده، وإنما يذعن له الذين في قلوبهم مرض.وأما قوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد فمعناه أن أعوان الشيطان يجمعون كل قوة، حيث يتحزبون ضد الأنبياء، كما يجمعون أموالهم وأولادهم لشن هجوم مو.موحد عليهم.لو تدبّرنا هذه المكائد الشيطانية لوجدنا أن أئمة الكفر يلجأون إلى ثلاثة أنواع من الحيل ضد رسلهم.فيستخدمون ضد الضعفاء سلاح التهديد والتخويف.وأما الذين هم مثلهم في القوة فيسعون لضمهم إلى صفوفهم على مبدأ اتحاد القوم والعشيرة.وأما الذين هم أكثر منهم قوةً فيحاولون إغراءهم بالغنيمة أو الزعامة.وفي تاريخ الأنبياء أمثلة كثيرة لتضليلهم لهذه الفئات الثلاث باستخدام هذه الحيل الثلاث، وتبلغ هذه الأمثلة من الكثرة والتواتر بحيث لا داعي لكتابة المزيد في هذا المجال.
الجزء الرابع ٥٤٨ سورة الإسراء إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ ۚ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (3) التفسير : لقد صرّح الله تعالى هنا أن من يصبح عبدا لله حقا لا يملك الشيطان أي سلطة عليه، لأن الشيطان إنما أُعطي المهلة إلى يوم القيامة..أي أن الإنسان يقع فريسة لهجمات الشيطان إذا كان ضعيفًا في الروحانية، ولكنه إذا تقوى روحانيا تولدت فيه الشجاعة، فلم يكترث للتهديد ولا الأذى ولا الإغراء.وتعلمنا هذه الآية سرَّ العصمة من هجمات الشيطان، ألا أن وهو يصير عبدا الله تعالى..أي أن يُسلم نفسه الله تعالى، ويتوكل عليه بدلاً من الاعتماد على الإنسان كفاءاته وقواه؛ لأن من أصبح الله وكيلا له لا يستطيع الشيطان أن يضره شيئًا.رَّبِّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اللكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن ج فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا شرح الكلمات: ٦٧ يُزجي: أزجاه إزجاء: بمعنى زجاه، ومنه في القرآن: رَبُّكُمُ الذي يُزجي لكم الفلك..أي يُجريه ويسوقه (الأقرب).التفسير: أي لقد خلق الله تعالى النعم الحقيقية ولكن الناس لا يقدرونها حق قدرها.فمثلاً إنه تعالى لم يوفّر وسائل السفر والاتصال على الأرض فحسب، بل جعل أيضًا السفن للإبحار، وهكذا وسع دائرة الاتصال بين الناس، وإلا لبقي أهل الجزر وسكان القارات يجهلون بعضهم بعضًا.ويتضمن هذا المثال - في رأيي - الإشارة إلى كون الإسلام دينا عالميا، وأنه سيكتب له الانتشار في العالم أجمع.ولما كان هذا الأمر منوطًا بالسفن التي
الجزء الرابع ٥٤٩ سورة الإسراء يستحيل بدونها السفر في البحار، لذا ذكر هنا نعمة البحار والسفن على وجه الخصوص، إشارةً إلى أن هذه النعمة سوف ينالها المسلمون بكثرة.مما لا شك فيه أن المسلمين ضعفاء في هذا المجال في العصر الحاضر، ولكن قد أتى عليهم حين من الدهر كانت سفنهم فيه تمخر عباب المحيطات في العالم كله.وكل الخرائط والطرق البحرية الموجودة قد وضعها المسلمون والحق أن الرحلات البحرية الأوروبية إلى الهند مرهونة بفضل أحد البحارة المسلمين العرب الذي وجد بعض السفن البرتغالية وقد ضلّت طريقها، فأوصلها إلى الهند آخذا بها حول القارة الأفريقية.- -.1.Arabian Students, vol) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَجَنكُمْ إِلَى الْبَر أَعْرَضَمْ وَكَانَ الإِنسَنُ كُورًا ) التفسير : يقول الله تعالى: إن الإنسان كثير الجحود إذ ينسى دائما حالته السابقة.حين تحل به مصيبة يقول: لو نجوت منها فلن أعمل إلا صالحا، ولكنه عند زوال المصيبة ينسى كل ما قال ووعد.لقد نبه الله المسلمين هنا ألا يسلكوا مسلك الكفار إبان الازدهار، بل عليهم أن يذكروا الله تعالى زمن رقيهم على الدوام كي ينصرهم عند المصائب.أَفَأَمِنتُمْ أَن تَتَخسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً شرح الكلمات: يخسف: راجع شرح الآية رقم ٤٦ من سورة النحل.79
الجزء الرابع ٥٥٠ سورة الإسراء حاصبا حصبه يحصبه رماه بالحصباء.والحاصب: ريح تحمل التراب والحصباء؛ وقيل: هو ما تناثَرَ من دقاق الثلج والبَرَد؛ السحاب لأنه يرمي بالثلج والبرد (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى أيها الناس تتجاسرون علينا حين تكونون على اليابسة! أتظنون أننا غير قادرين على أن نرسل عليكم العذاب وأنتم في البر؟ أليس الله قادرًا على أن يدفنكم في الأرض، أو يرسل عليكم مطرا من الحجارة؟ فما هي الفائدة التي تجنونها بالتفريق بين البر والبحر فيما يتعلق بسلوككم؟ وعندي أن هذه الآية تحمل النبأ عن غزوة بدر.ففي هذه الغزوة رمى النبي ﷺ حفنة من الحصى إلى الكفار، وتزامن ذلك هبوب ريح شديدة، فبدأت الحصى تقع في وجوه الكفار.وكانت الريح تهب تجاه الكفار ففقدت سهامهم التي يطلقونها إلى المسلمين السرعة والقوة، بينما ازدادت سهام المسلمين سرعةً وقوةً بسبب الريح.(دلائل النبوة للبيهقي، باب إذا التقى الجمعان) كان العرب كلهم، مسلمين ويهودًا ونصارى، يخافون البحر خوفا شديدًا، لذلك ساق الله هنا مثال البحر لينبه به غير المسلمين أنهم حين يخرجون إلى البحر بهم يصابون بالهلع الشديد نتيجة طوفان بسيط، ظانين أنه عذاب مدمر قد أحاط جراء سيئاتهم، ولكنهم حين يكونون في البر يتجاسرون علينا.فليعلموا أنا نستطيع أن ندمرهم في البر أيضا.الله كما أن هذه الآية تحت المسلمين على الأسفار البحرية، حيث نصحهم تعالى: ما دام البر والبحر كلاهما محفوفًا بالأخطار فلا يدفعنكم الغباء لتقبعوا في البر فقط ولا تخرجوا إلى البحار.
الجزء الرابع 001 سورة الإسراء أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصُوا مِّنَ الريح فَيُعْرِفَكُم بِمَا كَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) شرح الكلمات: قاصفًا: اسم فاعل من قصف الشيء يقصف قَصْفًا فقصَف هو: كسره فانكسر، لازم متعد.قصف الرعد: اشتدَّ صوتُه.رعد قاصف أي صيت.ريح قاصف أي شديدة تكسر ما مرت به من الشجر وغيره (الأقرب).تبيعا: التبيع: الناصر؛ التابع (الأقرب).فتح عن التفسير: أرى أن قوله تعالى أن يُعيدكم فيه تارةً أخرى كان يتضمن نا مكة، إذ هرب كثير من المشركين على متون السفن إلى اليمن أو الحبشة؛ فجاءهم الطوفان في البحر، فغرق معظمهم.وكان عكرمة بن أبي جهل من بين هؤلاء الهاربين، ولكنه لم يجد أي سفينة فتخلَّفَ.فجاءت زوجته النبي ﷺ تستأمنه له فأمن عكرمة فلحقت به بالساحل وجاءت به السيرة النبوية لابن هشام أمان الرسول لصفوان بن أمية) وَلَقَد كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْتَهُمْ فِي الْبَرِ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْتَهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تضيلا تضيلات التفسير : يقول الله تعالى : إنه قد أعز الناس كافةً، وليس شعبا بعينه دون غيره؛ فلا يحق للأمم أن تتفاخر بعضُها على بعض.
الجزء الرابع ٥٥٢ الله سورة الإسراء واعلم أن هذا النصح موجه إلى اليهود وقريش خاصةً، الذين كانوا يرون أنهم أفضل من غيرهم.لقد نبههم الله تعالى أنه قد أكرم كل الأقوام، ولكن بعضها لا ينتفعون من هذا التكريم، فيسدون في وجههم الأبواب التي فتحها لهم.وأشار بقوله تعالى وحملناهم في البر والبحر إلى أنه قد خلق البر والبحر كليهما لرقي الإنسان، فإذا أراد شعب ما العزة فعليه بالاستفادة من كليهما على حد سواء.يقول البعض أن القرآن من اختلاق محمد ﷺ (ستیارت بركاش باب ١٤ في تحقيق الإسلام ص ٦٧١).ولكن كيف يمكن أن تخرج الأمور المذكورة هنا من فم أُمِّى عربي لم يركب السفينة قط.من المؤسف أن المسلمين نسوا هذا النصح الإلهي بعد بضعة قرون، فذهبت ريحهم.ولو أنهم اهتموا بأساطيلهم البحرية لم يصب الإسلام هذا الضعف والاضمحلال.هذا، وقد استنتج البعض من قوله تعالى وفضَّلْناهم على كثيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تفضيلاً أن الإنسان أفضل من بعض المخلوقات، وليس من بعض المخلوقات، وليس كلها (تفسير البغوي).لكن هذا الاستنتاج غير سليم، لأن الله تعالى يتحدث هنا عن بني آدم ككل.وأي شك في أن ليس كل فرد من النوع الإنساني بأفضل من كل مخلوق آخر؛ إذ يوجد بين الناس من هو أسوأ حتى من البهائم ومنهم من هو متوسط، وهو أفضل من البهائم؛ ومنهم من فيه الخير الكثير وهو أفضل من الملائكة العاديين؛ ومنهم من يبلغ درجةً أسمى من ذلك أيضًا، وهو أفضل من الملائكة الكبار أيضًا.وبالاختصار ليس كل فرد من البشر أفضل من كل المخلوقات الأخرى، بل إن بعضهم أفضل من جميع المخلوقات الأخرى، أما الإنسان كنوع أفضل من معظم هذه المخلوقات، لأن الشمس والقمر والنجوم والحيوانات كالفرس والثور والجمل والغنم وغيرها كلها تعمل لخير الجميع ومسخرات لكل البشر، سواء
الجزء الرابع ٥٥٣ سورة الإسراء الكافر منهم والمؤمن إذا فالإنسان كجنس أفضل من أكثر الكائنات، وأما كفرد كامل فإنه أفضل منها جميعًا.يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمَهِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَبِكَ يَقْرَءُونَ كِتَبَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا شرح الكلمات: ۷۲ فتيلاً: الفتيل: المفتولُ؛ حبل دقيق مِن حَرَمٍ أو ليف؛ السَّحاةُ التي في شقّ النواة؛ ما فَتَلْتَه بين أصابعك من الوسخ (الأقرب).التفسير : قال المفسرون أن قوله تعالى بإمامهم يعني بكتابهم (البغوي).ولكنا نقول: ما دام الأئمة قد خلوا في كل الأمم، فيجب أن نفسر كلمة الإمام بمفهومها المعروف المتداول عموماً ، أي أن كل أمة سوف تدعى باسم نبيها، ويقال: فلتتقدم الآن أمة النبي الفلاني.ذلك أن كل نبي سوف يشهد أنه قد بلغهم رسالة الله تعالى.وهذا ما ينص عليه القرآن الكريم، ويؤكده الحديث الشريف أيضًا.(النساء :٤٢، ومسند أحمد ۳ ص ۳۲ رواية أبي سعيد الخدري) أما قوله تعالى فمن أوتي كتابه بيمينه فالمراد من الكتاب هنا سجل الأعمال، كما تؤكد ذلك آية أخرى: يا ليتني لم أُوتَ كتابيه * ولم أَدْرِ ما حسابيه (الحاقة: ٢٦ و ٢٧).واعلم أن الإسلام قد اعتبر اليد اليمنى علامة ،البركة، واليد اليسرى علامة العقاب.وفي البنية الإنسانية أيضًا يفوق الجانب الأيمن على الجانب الأيسر لأن أعضاء الجانب الأيمن أقدر على العمل عمومًا.فإيتاء سجل الأعمال في يمين أحد أن حسابه يكون يسيرًا مباركًا.ونجد الجنس البشري يُجمع على كثرة استعمال اليمين.فحكم استعمال اليمين في شرعنا ليس أمراً متكلَّفا، بل إن الناس من كل شعب وملة، مثقفين يعني
الجزء الرابع ٥٥٤ سورة الإسراء وغيرهم على حد سواء، ما زالوا يستخدمون اليد اليمنى في أعمالهم على العموم.بل كل الناس - سواء الآسيويون منهم أو الأوروبيون أو الأفارقة والأمريكان والمتحضرون منهم وغير المتحضرين المتدينون أو العلمانيون كلهم يعملون باليمني، اللهم إلا من كان مريضًا أو تحت تأثير غير طبيعي.ونعرف بالتجربة نفسها أن العين اليمنى في الغالب تكون أقوى من اليسرى.يقول البعض أن الإنسان يفضّل استعمال اليمين بسبب العادة.ولكن السؤال هنا: كيف رسخت هذه العادة في الإنسان؟ ما الذي دفعه إلى ذلك في أول الأمر؟ لا شك أنه بطبعه بدأ استعمال اليمين في أول الأمر، فترسخت هذه العادة في نسله.إذن فلم لا نقول : كما أن الإنسان الأول فكر في استعمال اليمين في أعماله مدفوعا بطبعه، كذلك حصل بأجياله.وقد أرجع بعض الأطباء استعمال اليمين إلى وجود القلب في الجانب الأيسر من الجسم، وبالتالي فإن تدفق الدم إلى الجانب الأيسر من المخ يكون أكثر نسبيًا، الأمر الذي يجعل الجانب الأيسر من المخ أقوى.وبما أن الجانب الأيمن من المخ يشغل أعصاب الناحية اليسرى من الجسم، بينما يشغل الجانب الأيسر من المخ – وهو الجانب الأقوى كما رأينا - أعصاب الناحية اليمنى من الجسم، لذلك تتقوى أعصاب الناحية اليمنى من الجسم أكثر مما يدفع الإنسان يميل إلى استخدام الأعضاء اليمنى.(۳۲۳.Foundation of Anatomy and Physiology) ولكن لا يهمنا هذا التفسير الطبي، صوابا كان أو خطأ، وإنما المهم أن كل الدنيا تفضّل اليمين على اليسار، وأن استعمال اليمنى أكثر هو الأمر الطبيعي.وهناك أمر غريب آخر جدير بالتدبر في هذا الصدد إن الإحصائيات تدلّنا أن نسبة العاملين باليسرى بين أصحاء العقل تبلغ ما بين أربعة إلى ثمانية بالمائة فحسب، ولكن هذه النسبة ترتفع جدا بين المجانين (الموسوعة البريطانية كلمة Handedness).وهذا بحد ذاته برهان آخر على أن قانون الطبيعة هو الذي قد فضل اليد اليمنى على اليسرى.
الجزء الرابع 000 سورة الإسراء في لقد ثبت مما سبق بيانه أن اليد اليمنى أنسب للعمل، وبها تعمل الأغلبية العالم.إذا فاليد اليمنى يمكن أن تُعتبر رمزًا للقوة العملية.وحيثما ذكر القرآن أن الصالحين سيُعطون سجل أعمالهم في يمينهم فهو الإشارة إلى أنهم كانوا العاملين المجتهدين المضحين.وحيثما ذكر أن البعض سيؤتون سجل أعمالهم في يسارهم فالمراد منه أنهم كانوا العاطلين الكسالى المتهربين من التضحية.ذلك أن اليد اليسرى أقل عملا بكثير من اليمنى.ومما يجدر ذكره أيضًا أن الشرع قد خص اليد اليمنى لأداء الأعمال الطيبة، واليسرى لإزالة النجس والخبث وغير ذلك.وعليه فقد يكون المراد من إيتاء البعض كتابه في اليمنى بأنه كان يعمل الصالحات وأما من أوتي كتابه بيده الشمال فكان يعمل الخبيثات.وأيضًا فإن اليمين إيماءة إلى أمر آخر.قال الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم الأَخَذْنا باليمين (الحاقة: (٤٦)، وقد فسره المفسرون: أننا سوف منه نبطش به بالقوة والقدرة (القرطبي)؛ وعليه فقد يعني قوله تعالى فمَن أُوتي كتابه بيمينه أن هذا أمسك بالخير بكل قوة ولذلك نجا.وأما غيره فكأنه يقال له: حيث إنك لم تسع كما ينبغي للاستمساك بالخير والتقوى، واستخدمت يدك اليسرى التي هي ضعيفة فكان مصيرك الدمار.ثم إن اليمن يعني البركة أيضًا) (الأقرب)، كما ورد في الحديث: "كلتا يدي ربي أي في كلتيهما بركة، ولا شمال له سبحانه وتعالى؛ وعليه ففي إيتاء * 1128 يمين" كتابهم في يمينهم إشارة إلى كون مصيرهم مباركًا.* أقرب الروايات بهذا المعنى هي: "قال رسول الله ﷺ: إن المقسطين عند الله عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين" (مسلم) كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل).
الجزء الرابع سورة الإسراء وأما قوله تعالى فأولئك يقرؤون كتابهم فإشارة إلى فرحتهم، لأن الذي ينال جائزة يقرأ خبرها فورًا من فرط الشوق والسرور، ولكن الذي ينال عقابًا فلا يقدر على قراءة قرار العقاب بل يفر من قراءته قدر الإمكان.وأما قوله تعالى ولا يُظلمون فتيلا..فاعلم أن الفتيل هو الحبل الدقيق، وكذلك الغطاء الذي يكون في شق نواة التمر، ويُستعار للشيء القليل؛ فالمعنى: أنهم لن يُظلموا مثقال ذرة.وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ٧٤ التفسير: أي من لم يبصر بعيونه الروحانية في الدنيا لن يعطى العيون الروحانية في الآخرة، وسيبقى محروما من رؤية الله تعالى.ولقد أكد القرآن هذا المعنى في أماكن أخرى منها: ١- قد جاءكم بصائر من ربِّكم فمَن أَبصر فلنفسه ومَن عَمِيَ فعليها (الأنعام: ١٠٥).٢ - والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربِّهم لم يَخِرُّوا عليها صُمَّا وعُمْيانًا) (الفرقان: ٧٤)..أي إنما المؤمنون الذين إذا ذُكرت أمامهم آيات ربهم لم يعاملوها كالصُّمّ والعميان، وإنما أصغوا إليها بملء آذانهم وعيونهم.إذن فقد أطلق الله تعالى هنا اسم العميان على من يصدقون الأمور دونما فحص وتحقيق.ومَن أَعرَضَ عن ذكري فإنّ له معيشةً ضَنْكًا ونحشره يومَ القيامة أعمى (طه: ۱۲۵)..فالأعمى هنا من يتعامى عن الحقائق والبصائر التي تأتي من عند الله تعالى، ولأنه ارتضى لنفسه أن يكون أعمى في هذه الدنيا فلن يتمكن من رؤية الله تعالى في الآخرة.
الجزء الرابع ٥٥٧ سورة الإسراء وليس المراد من هذه الآية أن المصابين بالعمى المادي في الدنيا سيبعثون في الآخرة كذلك عميانًا، ذلك أن النقائص البدنية ستزول كلها لدى البعث بعد الموت، لأن الجسم المادي سيبقى في هذه الدنيا.إذن فالمقصود عمى روحاني.وَإِن كَادُوا لَيَ تِنُونَكَ عَن الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَ تَرِيَ صلے عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ت شرح الكلمات : ٧٤ خليلا: الخليل : الصديق المختص؛ وقيل: هو الذي صادقته بعد إذ جربته خلافه؟ (الأقرب).التفسير: لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية روايات مفادها أن الكفار قالوا لرسول الله ﷺ: تعالَ تَمَسَّحْ آلهتنا باحترام ندخل معك في دينك.فقال رسول الله في نفسه نفسه – والعياذ بالله: وما على لو فعلتُ، والله يعلم مني فأنزل الله تعالى هذه الآيات (فتح البيان، والدر المنثور).لكن ليس في الآية مفهوم من هذا القبيل أبدًا، كما أنه مناف لمقام النبي ، ومتناقض مع معنى الآيات التالية أيضًا.ولنعلم أن "كاد" إذا اقترنت بالنفي فتعني أن الفعل المذكور بعدها قد وقع، وإذا لم تقترن بالنفي فتعني عدم وقوع ذلك الفعل (المفردات).وبما أن (كاد) قد وردت هنا بدون نفي فالمعنى أن فعل الفتنة المذكور في قوله تعالى (ليفتنونك لم يقع.إلقاء أحد في الابتلاء أي في الاختبار أو العذاب (أقرب الموارد).فلو فسرناها بالابتلاء فالمراد أنهم أوشكوا أن يلقوك في الابتلاء، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك.وأما إذا فسرناها بالعذاب فالمراد أنهم أوشكوا أن يُلقوك في العذاب، ولكنهم لم يقدروا على ذلك.علما أن الفتنة تعني غير أن معنى الابتلاء يُوهم وكأن النبي ﷺ أوشك أن يغير القرآن جراء ضغط
الجزء الرابع 001 سورة الإسراء الكفار، ولكنه لم يفعل ذلك.وغني عن البيان أن هذا المعنى أيضًا يتنافى مع مقام نبينا الكريم ؛ إذ لا يقال عن الرجل الشريف مثلا: كاد يسرق، أو كاد يظلم، أو: كاد يضرب أُمَّه، فهذه التعبيرات إساءة إليه بلا شك.فمن الخطأ الفاحش وأيضًا من المخالف للواقع أن يقال عن رسول الله ﷺ أنه كاد أن يفتري الله تعالى، ولكنه لم يفعل.فلا يكفي لهؤلاء المفسرين أن يقولوا: ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتكب هذا الخطأ فلا بأس في تسجيل الرواية المذكورة أعلاه.ذلك أن رسل الله تعالى لا يقتربون من أي معصية، وأما معصية الافتراء على الله سبحانه وتعالى فحتى المؤمن الضعيف أيضًا لا يقترب منها، بَلْه أن يقترفها فعلاً! فأرى أن هؤلاء المفسرين سواء الجدد أو القدامى، قد ارتكبوا هنا على يعني خطأ فادحا.وأرى أن الفتنة في قوله تعالى وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك العذاب، وأن (عن)) هنا تعليلية كما في قوله تعالى (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك (هود: ٥٤)؛ والمراد : لقد أوشك الكفار أن يُلقوك في العذاب بسبب ما أوحينا إليك لكي تفتري علينا غير ما آتيناك في القرآن من تعليمات.ولا جرم أن هذا المعنى خال من أي إساءة إلى الرسول ، إذ يخبر الله به رسوله الكريم أن الكفار كانوا يكنون ضدك نوايا خطيرة جدًّا، وأرادوا أن يلقوك في العذاب الشديد، ليكرهوك على أن تترك القرآن وتقول ما يُرضيهم، ولكنا أفشلناهم.وهذا المفهوم لا يعزو إلى النبي الله أي فعل سيئ أو نيّة فعل سيئ، وإنما يعزوه إلى الكفار ،وحدهم ويخبر أن الله تعالى قد أحبط مؤامرتهم هذه، فمنعهم من أن يحققوا حتى هدف تعذيب رسوله الكريم، ناهيك أن يصرفوه عن القرآن فعلاً.وقد أشار الله تعالى إلى نواياهم هذه في موضع آخر من القرآن الكريم حين قال وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر اللَّهُ والله خير الماكرين (الأنفال: (۳۱).وقوله ليُشتوك) أي يأسروك، وقوله والله الماكرين يعني أن كيد الله هو الغالب في آخر الأمر.
الجزء الرابع ۰۰۹ سورة الإسراء فهذه الآية أيضًا توضح أن الكفار كانوا ينوون - للضغط على النبي ﷺ - أَسْرَه أو قتله أو نفيه، ولكن الله تعالى أفشلهم في مراميهم الخبيثة كلها.وهذا ما تعنيه أيضا الآية التي نحن بصدد تفسيرها، حيث أخبرت أن الكفار خابوا وفشلوا في ما كانوا يهدفون إليه من تعذيب النبي الله.وقد يقال هنا: لا شك أنهم لم يفلحوا في أسره وقتله، ولكنهم نجحوا في نفيه من الوطن!.والجواب أنهم في الواقع قد فشلوا في هذا الهدف أيضًا، إذ لم يكونوا يريدون أن نفيه من البلد فحسب، لأن هذا لا يحقق هدفهم، وإنما كانت نيتهم يطردوه من بينهم ذليلا ،مهانًا، ليفضحوه أمام الدنيا.ولكنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعًا، لأن الله تعالى نبأ رسوله بمؤامرتهم قبل أن ينفذوها، فهاجر من بينهم؛ وكانت هجرته خلاف ما ينوون ولذلك تجد أنهم حين عرفوا أنه قد خرج من بينهم معافى معزَّزًا خرجوا على أثره يلاحقونه، ولما فشلوا في إلقاء القبض عليه بأنفسهم جعلوا لمن يأتيهم به أسيرًا جائزة قدرها مائة إبل (البخاري: كتاب المناقب، باب هجرة النبي.فلو كان هدفهم مجرد طرده من بينهم لفرحوا بهجرته، بدلاً من أن يطاردوه ويجعلوا جائزة لمن يأتيهم به أسيرًا.فثبت أن الكفار ما كانوا يريدون مجرد خروجه من بينهم، وإنما كانوا يريدون طرده من بينهم صاغرًا مُهانًا، لكي يتخلى – والعياذ بالله عما جاء به، أو يذهب حيثما يذهب بوصمة العار والهوان؛ ولكن الله تعالى خيبهم في نواياهم الشريرة كلها.وباختصار إن هذه الآية لا تعني أبدا ما ذهب إليه بعض المفسرين الرسول أوشك بالفعل أن يتخلى عن موقفه، أو كان هناك احتمال من هذا القبيل.ذلك أن هذه السورة نزلت قبيل هجرة النبي ﷺ حين عجز الكفار عن مقاومته تمامًا، فصمموا يائسين أن يحولوا دون تبليغه رسالة القرآن الكريم بإلقاء القبض عليه أو تهديده بالقتل أو طرده من بينهم ذليلا مهانًا، وإذا لم يتأثر من أن
الجزء الرابع سورة الإسراء تهديدهم يقضون على حياته المادية أو المعنوية والأخلاقية تحقيقا لهدفهم.ولكن الله تعالى خيب آمالهم كليةً.وأما قوله تعالى وإذًا لا تخذوك خليلاً فيعني أنهم لو نجحوا في ردّك عن الحق بالتعذيب لاعتبروك صديقا حميما لهم.هذه الجملة أيضًا تشير إلى الحالة الأخلاقية المتردية لدى الكفار، وليس إلى أي ضعف في موقف الرسول ﷺ.لقد طالبه الكفار مرارًا أن يتخذ من أجلهم موقفا لينًا في تعليمه – ولو قليلاً – ليجعلوه سيّدًا عليهم، حتى بعثوا ذات مرة وفدًا قال لعمه أبي طالب لا نطالب محمدًا الآن أن يُشرك آلهتنا مع الله تعالى، كل ما نريد منه هو ألا يذكر آلهتنا بسوء، ولو فعل ذلك من أجلنا لاتخذناه سيدا علينا (السيرة النبوية لابن هشام: باب مباداة رسول الله ﷺ قومه وما كان منه).وإلى هذا الأمر نفسه يشير قوله تعالى وإذًا لا تخذوك خليلا ، أي أنهم لما فشلوا في تحقيق مآربهم بإغرائك قرّروا أن يكرهوك على ما يريدونه بالظلم والعدوان، ولكننا أفشلناهم وسنفشلهم في المستقبل أيضًا.إن نواياهم هذه دليل على تردي أخلاقهم، وإن محاولاتهم هذه برهان على أنهم معترفون بعظمتك في قرارة نفوسهم، ولذلك يريدون أن يكسبوا تأييدك بأي طريق ممكن؛ ولكن لا يفرح بمثل هذا التأييد والرضا إلا أصحاب الرذائل.وَلَوْلَا أَن ثَبِّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً شرح الكلمات: Vo تبتناك : ثبت الأمر عند فلان: تحقق وتأكَّدَ.ثبت فلان على الأمر: داوَمَه وواظَبَه.ثبته وأثبته : جعله ثابتا في مكانه (الأقرب).:تركن ركن إليه: مالَ إليه (الأقرب).
الجزء الرابع سورة الإسراء التفسير : هذه الآية أيضًا تدعم موقفي الذي بيّنته من قبل.فقد أعلن الله تعالى هنا: لو لم نثبتك لكان هناك احتمال أن تميل إليهم إلى حد ما؛ دون أن تتفق آخر معهم كلية، بل كل ما سيحصل هو اتفاق بسيط بين أفكارك وأفكارهم.تعالوا نر الآن ما هو التثبيت في اصطلاح القرآن.يقول الله تعالى في موضع من القرآن الكريم: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة (إبراهيم: (٢٨)..أي بالوحي يوفق الله على المؤمنين للثبات على أعمال الدنيا والآخرة.وقال أيضا كذلك لنثبت به فُؤَادَك (الفرقان: ۳۳)..أي يعترض الكفار على عدم نزول القرآن دفعةً واحدةً، وجوابه: لقد أنزلناه بالتدريج لكي نقوي به قلب الرسول، ولنجعله يسري في كل ذرة من فؤاده.لقد تبين من ذلك أن الوحي هو سبب التثبيت، وعليه فالمراد من الآية: أننا لو لم نثبت قلبك على الإيمان بوحينا إليك كان هناك احتمال أن تميل إليهم قليلا.حتى لا يصعب على المرء بعد هذا الشرح أن يدرك أن هذه الآية لا تقصد أنه بعد نزول القرآن الكريم أيضًا كان ثمة احتمال أن يميل النبي ﷺ إلى الكفار، وإنما تؤكد استحالة قبوله له أي قول للكفار بعد نزول القرآن عليه، بل ولو لم ينزل عليه القرآن ولم يعرف المشيئة الإلهية فأيضًا كان محالاً عليه - لنقاء فطرته أن يشترك مع المشركين في أعمالهم الوثنية.نعم، كان من الممكن- في حالة عدم نزول نور الوحي - أن يسلك مسلكهم في بعض الأمور البسيطة.إذا فالآية تمثل مدحا عظيمًا للنبي الكريم إذ بينت أن الكفار ما كانوا ليتوقعوا منه أن يتفق معهم كلية ولو لم ينزل عليه القرآن الكريم، فكيف بعد نزوله؟
الجزء الرابع ٥٦٢ سورة الإسراء إذًا لَّا ذَقْنَكَ ضِعْفَ الْحَيَوَة وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) شرح الكلمات ضعف: ضعف الشيء: مثله في المقدار.وجائز في كلام العرب أن يكون الضّعفُ المثل الواحد وما زاد عليه من الأمثال، يقال: "لك ضعفه" أي مثلاه وثلاثة أمثاله، لأنه في الأصل زيادة غير محصورة.وفي الكليات: أقل الضعف محصور وهو المثل الواحد وأكثره غير محصور (الأقرب).التفسير: لقد صرّح الله تعالى هنا أنك لو لم تكن رسولاً، واشتركت مع قومك في بعض الأمور البسيطة، لما كنت سببا في نجاتهم، بل لجلبت على نفسك أيضا العذاب، فماذا ينفعهم عندئذ تأييدك لهم؟ وكأنه تعالى يقول: إن عظمة النبي تكمن في الوحي النازل عليه، ولكن الكفار لا يدركون هذا الأمر، ويظنون أنه صاحب كفاءات عالية، ولو أنه غيّر شيئًا من مبادئه وانضم إليهم فلربما حقق قومه رقيا مدهشا.ولكن الحق أن ظنهم هذا باطل، لأن عظمة النبي وكماله إنما يكمن في الوحى النازل عليه ولولا الوحي لصار كغيره من القوم؛ فلا جدوى من هذه التوقعات الباطلة.واعلم أن هناك محذوفًا بعد كلمة (ضعف في قوله تعالى ضِعْفَ الْحَيَوةِ وَضِعَفَ الْمَمَاتِ ، والتقدير : ضعْفَ عذاب الحياة وضعف عذاب الممات (إعراب القرآن للدرويش ص ٤٧٨.والضعف هنا يعني المثل، والمعنى: مثل عذاب الحياة ومثل عذاب الممات، أي أن النبي إذا لم يهتد بهدي الوحي النازل عليه ولم فهو الآخر يؤخذ بالعذاب كما يؤخذ باقي القوم.یکسب به رضی الله
الجزء الرابع ٥٦٣ سورة الإسراء صلے وَإِن كَادُوا لَيَسْةَ زُونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلاَكَ إِلَّا قَلِيلاً ت يعني التفسير : قال الله تعالى هنا أولاً وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفرُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، ثم قال بعد ذلك ليُخْرِجُوكَ مِنْهَا ، مع أن "استفزه من الأرض" أيضًا أخرجه منها؛ وهذا يدل على أن الإخراج من الأرض جاء هنا بمعنى آخر، وإلا فما الجدوى من هذا التكرار؟ ولكن إذا اعتبرنا ليخرجوك منها مجازا فلا يبقى هناك أي تكرار؛ وعليه فقد تعني هذه الآية أن هؤلاء كادوا أن يُخرجوك من البلد بحيث لا يكون لك دخل في شؤون حياتهم القومية، أي يطردوك صاغراً مهانًا حتى لا يبقى لك تأثير في حياة العرب، وتموت موتا معنويا.هذا المفهوم منسجم مع معنى الآية السابقة تمامًا، وأرى أن هذا هو المراد هنا، حيث أخبر الله تعالى رسوله أنهم لو نجحوا في خطتهم وطردوك من مكة ذليلا صاغرا لأخذهم العذاب بعدك فوراً، وقضي عليهم، ولكن الله أمرك بالهجرة، وهكذا حالت رحمة الله دون ارتكابهم جريمة طردك من بينهم ذليلاً مهانًا، حتى لا يتعرضوا للعذاب الشديد، وهكذا برهن الله وعمل على محبته لك وأعزّك بين القوم.صلے سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا ۷۸ تحويلاً ) التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا أن من سنتنا المستمرة منذ القدم أن أي قوم إذا طردوا نبيهم من بين ظهرانيهم ذليلاً صاغرًا أصبح باب التوبة شبه مغلق في وجههم، ونزل عليهم عذاب قومي شامل مدمر ومثاله قوم صالح ال، الذين عقروا الناقة وحالوا دون أسفاره التبليغية، أو مثاله اليهود الذين علقوا المسيح •
سورة الإسراء الجزء الرابع على الصليب حتى اضطر العليا للهجرة من ذلك البلد؛ فأحاط الدمار كلتا الأمتين، حيث دمر قوم صالح تدميرًا شاملاً ظاهرًا، بينما دُمّر اليهود دمارا معنويًا وسياسيًا.فبما أن الله تعالى قدر ألا يمحو العرب بمثل هذا الدمار الشامل فلم يدعهم ينجحون في خطتهم ضد النبي الله ، وهكذا تجاهم من عذاب مدمر.، أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الَّ إنَّ قُرْوَانَ الجُركَانَ مَشْهُودًا ) شرح الكلمات: ۷۹ دُلُوك: دلكت الشمس دُلوكًا غربت اصفرت؛ وقيل: مالت وزالت عن كبد السماء (الأقرب).غَسَق: غسَقتْ عينُه غُسوقًا: دمعت؛ وقيل: انصبت؛ وقيل: أظلمت.غسق الليلُ غَسَقا: اشتدّت ظُلمتُه الغَسَق: ظلمةُ أوّل الليل أو دخولُ أوّله حين يختلط الظلامُ (الأقرب).مشهودًا: اسم مفعول مِن شَهِدَ المجلس شهودًا: حضره واطلع عليه.وشَهِدَ اللَّهُ أي عَلمَ الله وقبل الله؛ وقيل: كتب الله (الأقرب).التفسير: لقد حذرت هذه الآية المسلمين من الأخطار التي تنتظرهم في - المستقبل، حيث كان عليهم - بعد الهجرة – أن يواجهوا أمما كانت تعبد الله في الظاهر، وكان من المحتمل أن تطعن هذه الأمم في المسلمين إذا ما تكاسلوا في العبادات؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان المسلمون سيحققون انتصارات وهي أيضا عامل كبير على غفلة الشعوب في العبادات، ولذلك كله نبه الله المسلمين من الخطرين كليهما، فقال حذار أن تتوانوا فتعرّضوا الإسلام لطعن سريعة الأغيار، وإياكم أن تتكاسلوا في العبادات فتُحرموا من أفضال الله الله
الجزء الرابع واعلم سورة الإسراء أن هذه الآية تبين مواقيت الصلوات الخمس.ذلك أن "الدلوك" لها ثلاثة مفاهيم، وكل مفهوم يدل على موعد إحدى الصلوات.فمن أول معاني "الدلوك" زوال الشمس من كبد السماء، وهذا موعد صلاة الظهر.ومعناها الثاني اصفرار الشمس، وهو موعد صلاة العصر.ومعناها الثالث غروب الشمس، وهو موعد صلاة المغرب.وأما "غَسَقُ الليل" فتعني ظلمة أوّل الليل، وهو موعد صلاة العشاء.وأما "قرآن الفجر" ففيه الأمر بصلاة الفجر، إذ ليس هناك تلاوة أخرى للقرآن هي فرض وقت الصبح.أما قوله تعالى: إن قرآن الفجر كان مشهودًا فقد روي عن النبي أن ملائكة النهار تجتمع في صلاة الفجر وتصعد ملائكة الليل، فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون، وتركناهم وهم يصلّون.* وفي رواية: "عن أبي هريرة عن النبي في قوله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار".(الترمذي: التفسير) والمراد من هذا أن صلاة الفجر تُعرض على الله عرضا خاصا، وتحظى بقبول حسن خاص، ذلك أن المرء يترك لأداء صلاة الفجر نومًا هادئًا لذيذا.والحق أن صلاة الفجر إنما هي بمثابة صلاة التهجد بالنسبة للمسلم العادي، فلو أداها بصدق وأمانة لسهل عليه أداء الصلوات الأخرى.* أقــــرب رواية بهذه المعنى هي: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ: قال تجتمع ملائكةُ الليل والنهار في صلاة الفجر وصلاة العصر.قال: فيجتمعون في صلاة الفجر.قال: فتصعد ملائكة الليل وتثبت ملائكة النهار.قال: ويجتمعون في صلاة العصر.قال : فيصعد ملائكة النهار وتثبت ملائكة الليل.قال: فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادي؟ قال فيقولون : أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون." (مسند أحمد ج ٢ ص ٣٩٦)
الجزء الرابع سورة الإسراء وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) شرح الكلمات: به تَهجَّدْ هَجَدَ الرجل يهجد هجودًا نامَ بالليل؛ سهَر (الأقرب).تهجد القومُ: استيقظوا للصلاة أو غيرها (اللسان).منه.نافلةً: نقل الرجلُ ينقُل نَفْلاً فلانًا : أعطاه نافلة من المعروف مما لا يريد ثوابه.نقل الإمامُ الجند: جعَل لهم ما غنموا النافلة: الغنيمة؛ العطية؛ ما تفعله مما لا يجب؛ ولد الولد (الأقرب).التفسير: اعلم أن ضمير الغائب في قوله تعالى فتهجد به عائد على القرآن الكريم، والمراد على الإنسان أن يهتم بقراءة القرآن الكريم في صلاة التهجد اهتماما خاصا.التهجد يعني الاستيقاظ من النوم.وهذا يعني أن النوم قبل صلاة التهجد ضروري.فالذين يرهقون أنفسهم ساهرين الليالي فإنهم لا يقومون بالعبادة، وإنما يبطلون ما يريده الشرع، ومثل هذه العبادة منافية لما يهدف إليه القرآن الكريم.كان النبي ينام دائما في أول الليل ويقوم آخره لصلاة التهجد (البخاري: التهجد).لقد أوضح الله تعالى هنا أن إتاحة فرصة العبادة منّة ربانية على العباد.فيا أسفا على الذين يؤدون الصلاة وكأنها غرامة عليهم.لقد قال النبي ﷺ إنما الصلاة زيارة العبد لربه؛ وزيارة الرب إنعام، إذ ليس هناك من عاقل يعتبر زيارة المحبوب غرامة.لقد عرف النبي الهلال و العبادة قائلا: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (مسلم: (الإيمان..أي إنما الصلاة الحقيقية أن تتمكن من رؤية الله، أو أن تكون على يقين – على الأقل – أنه يراك.إذن فمن الظلم العظيم أن يُعتبر
سورة الإسراء الجزء الرابع مثل هذا الإنعام العظيم غرامةً.والحق أن الصلاة من أعظم النعم الإلهية، بل أؤمن أن الذي يترك صلاة واحدة لا يمكن أن يُعَدّ من المصلين، لأننا مأمورون بإقامة الصلاة، وإن إقامة الصلاة تستلزم المواظبة عليها؛ ولكن إذا تركت صلاة واحدة لم يبق أي دوام ولا مواظبة.وقوله تعالى نافلة لك يمثل إعلانًا من الله تعالى أن إتاحة فرصة العبادة منّةٌ إلهية على العباد.أو من الممكن أن صلاة التهجد لم تكن واجبةً على الأنبياء السابقين، وعليه فيعني قوله تعالى لنبيه و نافلة لك أن فرصة هذه العبادة إنعام خاص لك.أما قوله تعالى عسى أن يبعثك ربُّك مقاما محمودا فيتضمن نبأ عظيمًا.ذلك أن لا أحد في الدنيا تعرض للسباب والشتائم بقدر ما تعرض لــه نبينا ، بل ربما لم يتعرض حتى أكبر اللصوص الصعاليك الفَسَقة الفَجَرة في التاريخ الإنساني إلى واحد بملايين الملايين من السباب الذي تعرض له الرسول الكريم إلى اليوم؛ وجزاء على ذلك قد آتاه الله تعالى هذا المقام المحمود.يقول عز من قائل: يا محمد، كما أن العدو لا يمل من سبّك، كذلك سوف أجعل المؤمنين يصلّون عليك على الدوام، بالإضافة إلى ثنائي عليك من العرش.فما قيمة سباب العدو إزاء هذه الصلوات والثناء."المقام المحمود" مقام الشفاعة أيضًا، إذ الثابت من الحديث أن كافة الأمم سوف ترجع إلى النبي الله يوم القيامة يائسة من أنبيائها، وتتوسل إليه، فيشفع (البخاري: التفسير، الإسراء، قوله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح.وكأن الله تعالى سيدفع هكذا سائر الأمم التي كانت تسب النبي إلى تعظميه..ولا شك أن هذا مقام ويعني سام جدا.وعندي أن "المقام المحمود" إشارة إلى ظهور الإمام المهدي أيضًا.ذلك أن من علامات زمن ظهور الإمام المهدي إعراض المسلمين عن تعاليم الإسلام وتمادي الكفار في كفرهم، وفي مثل ذلك الوقت سيبعث الله ذلك البطل الذي سيوقف
الجزء الرابع : سورة الإسراء مجرى تلك الشتائم والسباب ضد النبي ﷺ ويحوّلها إلى المدح والثناء، تحقيقا للوعد الإلهي لنبيه عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.وللإسهام في هذه الخدمة المباركة قد حدّدتُ يومًا في السنة للاحتفال بالسيرة النبوية، حيث يعبّر فيه الخطباء من شتى الديانات والملل عن انطباعاتهم القلبية حول سيرة الرسول الكريم.لقد ذكر الله تعالى هنا المقام المحمود بعد الصلوات الخمس والتهجد، وفي هذا أن إشارة إلى أن الذي يرى أن أعداءه قد كثروا وأن الأشرار قد ازدادوا فليعلم علاج ذلك ليس أن يشتبك معهم، وإنما عليه أن يدرك أن هذه الفتن لن تزول عنه إلا بالإنابة إلى الله تعالى والابتهال على العتبة الإلهية؛ بل الواقع أن الابتهال أمام الله تعالى إذا بلغ المنتهى حوّل اللوم مدحًا والسب دعاء.وهذا ما حدث في زمن النبي ، حيث أصبح الذين كانوا يسبونه محبّين له صادقين.وأروع مثال على ذلك من بين الرجال هو مثال عمرو بن العاص وخالد وعكرمة، ومن بين النساء هند، إذ لم يذعن هؤلاء للنبي و إلا نتيجة أدعيته وابتهالاته، إذ كان من المحال لأي إنسان أن يمحو من قلوب هؤلاء ما انطوت عليه من الحقد والبغضاء ضده.حفظ يقول بعض الجاهلين يبدو أن الناس كانوا يسبون النبي (ﷺ) لهذه الدرجة لوجود عيب فيه - والعياذ بالله ! وأقول كلا إنهم ما كانوا يسبونه لعيب فيه، وإنما لشمائله ومحاسنه.ذلك أنه لم يأت في الدنيا أي نبي جُعل أُسوةً حسنةً للناس أجمعين، ولذلك لم يتم وقائع حياة أي من الأنبياء حفظًا كاملاً.هناك شخص واحد فقط بين زعماء أديان العالم كلها لا تزال وقائع حياته محفوظة بكل تفاصيلها، وهو رسولنا الكريم كل حادث من حياته الشريفة من أكل وشرب، ومشي وجلوس، وكلام وحديث، وحركة وسكون..مسجل في التاريخ.وكما أن الناس يبالغون في البحث والتنقيب عن تفاصيل حياة أحد كذلك ضبط الله تعالى أفكار النبي ﷺ
الجزء الرابع سورة الإسراء وأعماله ضبطا دقيقا، وقدمها للعالم.أليس صموده أمام الأعداء وإحرازه التعظيم والاحترام في نظر العقلاء معجزة عظيمة؟ وإذا كانت هذه العزة التي حازها ولا بعد اختبار تام لا يمكن أن تسمَّى مقاما محمودا فليس في الدنيا أي عزة يمكن أن تسمّى مقاما محمودا! الحق أن ما سُجِّل في يوم واحد من حياته الشريفة من أحداث لم يُحفظ مثله من حياة سائر الأنبياء مجتمعين.فماذا عسى أن نجد من أحوال هذه الشخصيات وقد اكتنف حياتها الغموض والخفاء بمرور الزمن.إذا فليس من المعقول أن أحد من أتباع الملل الأخرى زاعمًا أن نبيه لم يتعرض للطعن بقدر ما يتباهى تعرض له نبي الإسلام! وعندي أن الله تعالى قد قدّر لنبيه مقامات محمودةً عديدة، وأن أول مقام محمود تبوأه النبي بعد نزول هذه الآية هو المدينة المنورة.ذلك أن استيطانه بالمدينة تسبب في ذيوع صيته وانتشار ثنائه في العالم والدعاء المذكور في الآية التالية أيضًا يشير إلى الأمر نفسه.وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لى مِن لَّدُنكَ سُلْطَنَنا نَصِيرًا (3) شرح الكلمات : مُدخل: المدخل: مصدرٌ ميمى يقال: دخل يدخل دخولاً ومُدخلاً، وأيضًا: أدخلته إدخالاً ومُدحَلاً.وهو أيضًا اسم مفعول، وظرف زمان ومكان (التاج).صدق: الصدق : نقيضُ الكذب الفضلُ الصلاح؛ الجد؛ الشدة والصلابة.فإذا أضفت إليه قلت: رجلُ صدق أي نعْمَ الرجلُ (الأقرب).ويعبر عن كل فعل فاضل ظاهرًا أو باطنا بصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به (المفردات).راجع للمزيد شرح الآية رقم ٤ من سورة يونس.
الجزء الرابع ٥٧٠ سورة الإسراء التفسير : يقول الله تعالى لنبيه الله مشيرًا إلى أول المقامات المحمودة التي سينالها نتيجة دعائه وإنابته: سوف نخرج بك الآن - وفقًا للنبأ المذكور في حادث الإسراء - من مكة إلى مكان آخر سيكون مقامًا محمودًا لك؛ فعليك أن تنهمك من الآن في الدعاء والابتهال لهذا الأمر، وقل يا ربِّ، أَدخلني في تلك المدينة بحيث يكون دخولي فيها مباركًا في الظاهر والباطن، كما أخرجني من هذا المكان الذي أنا مقيم فيه حاليا أي مكة بحيث يكون خروجي أيضًا مباركًا ظاهرًا وباطنًا..أي لا تدع الكفار ينجحون في نواياهم لأنهم يريدون طردي من الوطن ذليلاً مهانًا بحيث لا يبقى لي أي تأثير وكرامة بين القوم.وبالفعل استجاب الله هذين الدعاءين لنبيه ، إذ لم يتمكن الكفار من طرده على الوجه الذي أرادوه، وإنما هاجر هو بنفسه من مكة إلى المدينة في موعد مناسب بناء على توجيه إلهي.كما أن دخوله في "المقام المحمود" أيضًا كان دخولا مباركًا للغاية، حيث خلق الله تعالى هناك آلافا من الفراشات الروحانية التي ما برحت تطوف حول شمعة طلعته البهية، وتتطلع دائما إلى وجهه النوراني، والتي بلغ وَلَهُها به حدا لا نجد له نظيرا في العالمين.قد يعترض أحد على هذا المفهوم ويقول: كان خروج النبي النبي من مكة قبل دخوله في المدينة، فلماذا ذكر القرآن الدخول قبل الخروج؟ وجوابه: إن نبأ الخروج كان لا بد وأن يؤلمه ل ا لعدم علمه بمقامه الجديد بعد خروجه من مكة؟ فقدّم الله خبر الدخول على خبر الخروج رأفةً منه بنبيه الكريم، فزف له البشرى أولاً أنك ستصل إلى مقام مبارك عن قريب، ثم ذكر له الخبر المؤلم قائلاً: سوف تضطر للخروج من مكة.وهناك معنى آخر محتمل لهذه الجملة، وهو أن يكون الدخول إشارة إلى دخوله في مكة فاتحا، بينما يعني الخروج هجرته منها.وهنا أيضا يواجهنا نفس الاعتراض عن الترتيب لأن الهجرة كانت قبل الفتح لا بعدها؟ والجواب هو
الجزء الرابع سورة الإسراء الجواب نفسه أنه تعالى زَفَّ له بشرى الفتح أوّلاً ليخفف عنه وطأة صدمة الهجرة.وسيعني المقام المحمود- على ضوء هذا المعنى- أنه بعد الفتح ستزول كل مطاعن الأعداء، وسيتجلى صدقه على العرب.وهذا ما حدث بالضبط.وقوله تعالى واجْعَلْ لى لدنك سلطانا نصيراً..أي هَبْ لي من لدنك من غلبة تعينني على إنجاز ،مهماتي، ولا تعوقها.ذلك أن من الانتصارات ما يجلب على صاحبها الأضرار بدل المنافع؛ فعلم دعاء: يا رب، أعطني الغلبة التي تعينني على إنجاز مهماتي ولا تعوقها.هذا الدعاء يؤيد ما بينته من قبل من معنى الإسراء النبوي، ويوضح أن هذا الإسراء هجرة النبي إلى المدينة.من تعبير وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَطِلُ إِنَّ الْبَطِلَ كَانَ زَهُوقًا : ۸۲ شرح الكلمات: زهَق زهق الباطلُ : اضمحل زهق الشيءُ: بطل؛ هلك (الأقرب) التفسير : تضمنت هذه الآية الإشارة إلى أنه ببداية الفترة المدنية سيزداد النبي ﷺ قوة إلى قوة، والعدو ضعفًا إلى ضعف، وسيضمحل الباطل يوما بعد يوم حتى يهلك، وسيقضى على الوثنية في الجزيرة العربية بفتح مكة قضاء نهائيا؟ من مزايا القرآن الفريدة أنه في كل مناسبة يختار كلمات ذات مدلولات عميقة بعيدة المدى.فمثلاً اختار هنا فعل زَهَقَ، بدل (هلك) أو (بطل)، لأن الفعلين الأخيرين لا يدلان على دمار تدريجي للباطل كما يدل عليه زهق، إذ يدل الزُّهوق على تطرق الضعف والاضمحلال شيئًا فشيئًا، إلى أن يتم الهلاك.وهذا بالضبط ما حصل بأهل مكة، إذ لم يصبهم الدمار دفعة واحدة، بل دب فيهم الضعف بالتدريج، إلى أن هلكوا تمامًا.إذن فكلمة زهق تبين أسلوب هلاكهم.
سورة الإسراء الجزء الرابع لما كسر النبي الأصنام الموضوعة في الكعبة يوم الفتح قرأ هذه الآية نفسها.كان يوجه الضربات إلى الأصنام صنما بعد صنم ويردد: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا).(البخاري: كتاب المغازي، باب أين ركز النبي ﷺ الراية يوم الفتح) إنه لمن معجزة الفصاحة القرآنية أن الآية التى نزلت بصدد إزاحة الأصنام عن الكعبة المشرفة جاءت موزونة كالشعر، مما يتلاءم مع تلك المناسبة تماما، لأن الإنسان يميل بطبعه إلى الشعر في المناسبات السارة.مما لا شك فيه أن القرآن الكريم ليس بشعر، ولكن هناك أجزاء من آياته هي موزونة كالشعر.فهذه الآية نحن بصدد تفسيرها إذا حذفنا منها كلمة (قُلْ صارت شعرا موزونا التي كالآتي: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا فكلمة قل التي تكتمل بها الآية أخرجتها من صنف الشعر، ولكن لما حان وقت ترديدها كان على النبي أن يقرأها بدون قل لتنفع – بالإضافة إلى معانيها الرائعة - ككلام موزون يتلاءم تماما تصوروا مع مناسبة الفتح السارة.عة المشهد حين يكون الصحابة قد أخذوا يرددون هذه الآية في روعة نشوة روحانية عارمة وقد رأوا النبي يرددها، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم.لا جرم أنه لا يمكن أن يقدر ذلك إلا صاحب ذوق.وَنُنَزِلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِاءُ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا شرح الكلمات: ۸۳ خسارا: خسر الرجلُ في بيعه: ضدُّ ربح؛ وخسر الرجلُ: هلك (الأقرب).التفسير وهذا يعني أن الشيء الواحد يمكن أن يُرى بصور مختلفة من زوايا مختلفة، ويُرى بحسب فطرة الإنسان الناظر إليه ومهما بلغ كلام ما من السمو والرفعة فإن صاحب القلب النجس سوف يراه كلاماً نجساً.أصاب وإنني
الجزء الرابع ۵۷۳ سورة الإسراء بالدهشة حين أرى أن الباندت ديانند لا يجد في القرآن الكريم إلا العيوب ،، ولا يجد فيه أي مزايا ومحاسن ستهيارت بركاش (طبعة أردية) باب ١٤).وهذا ما يؤكده الله هنا بأن الظالمين يعيبون القرآن الكريم، فيزدادون إنما على والمثالب فقط، آثامهم السابقة.وهناك مفهوم آخر لهذه الآية في رأيي، وهو أن المراد من "القرآن" هنا ذلك الجزء الخاص منه الذي فيه أنباء عن نجاح المؤمنين وهلاك الكافرين.فالله تعالى يخبر هنا أنه قد آن الأوان لتحقيق هذه الأخبار، لتندمل جراحات المؤمنين وتُشفى قلوبهم الدامية، وتتيسر لهم أسباب الرقى وليزداد الكافرون خسارًا ودماراً.صلى وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَنِ أَعْرَضَ وَنَنَا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُكَانَ يَمُوسًا ت شرح الكلمات: ΛΕ نأى : بَعُدَ (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى نَأَى بجانبه أنه أبعد جانبه.يَؤُوسًا: اليؤوسُ : القنط (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى : هناك بون شاسع بين المؤمن والكافر.لقد تعرض المسلمون لأنواع المحن والشدائد ثلاث عشرة سنة على التوالي.لقد ضُربوا وعُذبوا، ومع ذلك لم يتأففوا.وأما الكافرون فلن يلبثوا أن يستسلموا وييأسوا حين يحيطهم العذاب وتتيسر للمؤمنين أسباب الغلبة والازدهار.ذلك أن الكافر لا يؤمن بالله تعالى فيستولي عليه الذعر لدى أدنى ضرر يصيبه، ولكن المؤمن يتحمل كل أذًى بشجاعة وبسالة ابتغاء مرضاة الله تعالى.
الجزء الرابع ٥٧٤ سورة الإسراء قُلْ كُلٍّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (3) شرح الكلمات: Λο شاكلته الشاكلة: الشكل الناحية النية؛ الطريقة؛ المذهب؛ الحاجة (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى هنا لنبيه : قل للمنكرين إن كل امرئ يعمل بأسلوبه وكفاءته ودينه ونيته ولما كانت نية المؤمن الفوز بالله تعالى فلا يحزن على ضياع دنياه، وإنما يصمد في وجه المحن والاختبارات بصبر وجلد.أما الكافر فلأنه عابد لدنياه، وعامل للمنفعة المادية فحسب، لذلك يصاب بالذعر والهلع وينهار حين يرى دنياه تنفلت من يده فالله تعالى ينبه هنا أن ربكم أدرى بمن هو عامل بما يؤدي إلى الهدى، بمعنى أنه لا يعامل الإنسان حسب نيته، فلسوف ينظر إلى العمل وكذلك إلى النية، ثم يجزيه بحسبهما.فمن ابتغى رضوان الله تعالى، وضحى في سبيل دينه لقي نصرا وتأييدا منه ول.لقد فسّرتُ الآيات السالفة على أن الخطاب فيها موجه إلى مشركي مكة، ولكن الواقع أنها تنطبق على المشركين واليهود في آن واحد.فاليهود أيضا ناصبوا النبي العداء وقاوموه بعد هجرته إلى المدينة فهلكوا في آخر المطاف، حتى صفت الجزيرة العربية أخيرًا من وجودهم بعد وقعة خيبر.لقد ادعوا ادعاءات واسعة بكل زهو وكبرياء، ولكن لما هب المسلمون للدفاع مضطرين ألقى اليهود السلاح في منتهى الجبن بحيث سيظل التاريخ يضرب المثل بالجبن اليهودي على مر الأجيال.(تاريخ الخميس الجزء الثاني ص ٥٢)
الجزء الرابع ٥٧٥ سورة الإسراء وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (ت) شرح الكلمات ٨٦ الروح: راجع شرح كلمات الآية رقم ٣٠ من سورة الحجر.التفسير : ما هي هذه الروح التي أثير حولها السؤال هنا؟ لقد قال المفسرون في شأنها أقوالاً شتى منها : المراد منها جبريل، أو القرآن الكريم، لأن الحديث قبل هذه الآية وبعدها يدور عن القرآن (البحر المحيط).وقال بعضهم أن المراد من الروح هنا الملك الذي وُكل إليه خلق الدنيا؛ أو أي ملك لأن كل ملك رُوح.وقال الآخرون أنه ملك خاص قد خلقه الله تعالى للتسبيح فقط، حتى نسب بعضهم هذه الرواية إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - وقالوا أن لهذا الملك مائة رأس، وفي كل رأس مائة فم، وفي كل فم مائة لسان، ويسبح كل لسان بمائة لغة.(الطبري).- – أكثر من وربما ظن من نقل هذه الرواية الأخيرة أن هذه هي الطريقة المثلى لأداء حق التسبيح! ولكن الحق أن أمة النبي ﷺ تقوم بتسبيح هذا.إن المسلمين موجودون في كل قطر من أقطار العالم، ويتكلمون آلافا من اللغات، ويقومون بالتسبيح في كل لغة! وكان أستاذي المحترم حضرة المولوي نور الدين لله يرى أن المراد من الروح هنا الوحي الإلهي تصديق البراهين الأحمدية ج ۲ ص ٣٣١-٣٣٢).وهذا المعنى أصح وأفضل بكثير من المعاني المذكورة أعلاه، لأن الحديث من قبل ومن بعد يدور حول القرآن الكريم.
الجزء الرابع أما مؤسس ٥٧٦ سورة الإسراء الأحمدية سيدنا المسيح الموعود الله فقد تناول هذه الآية بالبحث المستفيض، موضحًا أن الروح المذكورة هنا هي الروح الإنسانية، وقد ذكر بهذا الصدد معارف عظيمة جشمه معرفت – أي ينبوع المعرفة – الخزائن الروحانية، ج ٢٣، ١٥٩).وقد تضاربت الآراء عمن سأل النبي ﷺ عن الروح؟ فقال قوم: هم يهود المدينة (الترمذي: أبواب التفسير).فقيل ولكن هذه السورة مكية؟ فأجابوا: إن بعضا آياتها مدنية.من ولكن هذا غير صحيح كما بينت من قبل.وقال الآخرون: لقد وُجه هذا السؤال أولاً بمكة ثم بالمدينة (مسند أحمد ج ١ ص ٢٥٥).ففي رواية عبد الله ابن عباس أن النبي ﷺ سئل عن الروح في المدينة (الترمذي: التفسير).ولكن الغريب أن ابن عباس نفسه يقول إن هذه السورة مكية! (القرطبي).ولقد أجاب عليه العلماء أن السؤال قد أُعيد في المدينة أيضًا.فأما الذين يرون أن النبي الله و مسائل عن الروح في مكة فيزعمون أن بعض المكيين ذهبوا إلى المدينة، وقالوا لليهود: إن شخصا عندنا قد ادعى النبوة، أعطونا شيئًا نسأله عنه حتى ينكشف على الناس كذبه؟ فقالوا: سَلُوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين.فرجعوا، وسألوا النبي ، فنزلت الآية.(روح المعاني، ودلائل النبوة للبيهقي : باب ذكر أسولَتهم رسول الله ﷺ بمكة) سأله يهود وعندي أن السؤال تم بمكة أول الأمر، وأجيب عليه هناك.وربما المدينة أيضًا السؤال نفسه بل هذا هو الأغلب، لأنهم الذين حرّضوا المكيين على أن يسألوا النبي ﷺ هذا السؤال فلا بد أن يوجهوه إليه بأنفسهم.ولكني لا أرى أن هذه الآية نزلت مرة ثانية عند سؤال اليهود بالمدينة، بل يكون النبي ﷺ قد قرأ عليهم هذه الآية التي سبق نزولها بمكة ردًّا على سؤالهم.فربما الراوي الأول نقل هذا الحادث هكذا، ولكن أحدًا من الرواة اللاحقين ظن أن الآية نزلت بالمدينة ردًّا على اليهود.
سورة الإسراء الجزء الرابع بعد بيان حقيقة السؤال أتحدث الآن عما أجاب به القرآن.يقول المفسرون أن الله تعالى أسهب في الجواب عن أصحاب الكهف وذي القرنين، ولكنه تعالى أوجز في الإجابة عن الروح مكتفيا بقوله : إن الروح تكون من أمر الله تعالى، ولم تُؤتوا عن الروح إلا علمًا ،ناقصًا، فلا تستطيعون إدراك حقيقة الروح، ولذلك لا نجيب عليكم بالتفصيل؛ ولدى سماع هذا الجواب سُقط اليهود في أيديهم وصمتوا.(روح المعاني) فسر لقد أثار الكتاب الآريون الهندوس كثيرًا من الاعتراضات على جواب القرآن هذا، وقالوا: ليس في هذا الجواب ما يجعل اليهود يخجلون، إذ لم يكن جوابًا معقولا مفحمًا كليات آریا مسافر – تكذيب البراهين الأحمدية – ج ١ ص ٣٣١).لقد سبق أن ذكرتُ أن أستاذي المحترم حضرة المولوي نور الدين الروح هنا بالوحي الإلهي وقال: إن القرآن يعلن هنا أن الوحى ينزل بأمر الله تعالى، والداعي لنزول الوحي هو أنكم لم تُؤتوا من العلم إلا قليلا.فنقص العلم الإنساني استلزم أن يُكمل الله علم الإنسان في الروحانيات بإعلام من عنده، ولذلك أنزل الوحي.6 ولقد سبق أن ذكرت أن بعضًا من المفسرين القدامى قد فسروا الروح هنا بالقرآن (البحر المحيط)، وقولهم هذا مشابه لما ذكره أستاذي المولوي نور الدين، غير أن حضرته فسّر الروح بالوحي؛ وهذا المعنى أشمل وأوضح مما ذكره المفسرون الآخرون، كما أنه أكثر ملاءمة للسياق.لطالما رأيتُ أن هذا هو المراد من الروح هنا، إلى أن قرأت بعضا من أقوال مؤسس الأحمدية سيدنا المسيح الموعود اللة قراءة عميقة، فعدلت رأيي بعض الشيء، وأدركت أن هذه الآية تشير إلى الروح الإنسانية أيضًا.ونظرا إلى هذا المعنى تصبح مفاهيم هذه الآية واسعة ولطيفة للغاية.يقول سيدنا المسيح الموعود الله: إن خلق الله تعالى نوعان؛ أولهما: الخلق الابتدائي أي ما يخلقه الله من غير أية مادة وثانيهما الخلق الثاني أي الذي يتم
الجزء الرابع من مادة مخلوقة سلفا بید سورة الإسراء الله تعالى، حيث يسخر الأسباب المادية الموجودة قبل إيجاد ذلك الشيء.وهذا النوع الثاني يسمّى خلقا، وأما الأول الذي يتم من دون مادة فيسمى أمرًا، كما تشير إليه كلمة كن فيكون.والآية التي نحن بصددها تتضمن الجواب عن هذا الخلق الذي يتم بمجرد الأمر الإلهى.وأضاف حضرته الله : لو أن أحدًا من الآريا الهندوس اعترض على قولي هذا فسوف أؤلف ردًّا عليه كتيبا أدوّن فيه ما بينه القرآن الكريم من قوى وطاقات للروح الإنسانية (سرمة جشم آريا، الخزائن الروحانية ج ٢ ص ٢٣٣).وللأسف لم يتقدم أحد من الآريا لقبول هذا التحدي، وهكذا حُرمنا من هذا الكنز العظيم الذي كنا سنقتنيه مجانًا.ومع ذلك نجد في كتبه ال ما لا بأس به من المعلومات عن الروح.ولعل الله أجّل - لحكمة من لدنه - باقي المعلومات لزمن آخر.أقوم الآن بتفسير هذه الآية حسبما فهمت على ضوء المعنى الذي ذكره مؤسس الأحمدية، وكلي ثقة أن كل من يتدبر في هذه المفاهيم خاليا من التعصب سيدرك أن الله تعالى لم يترك سؤال اليهود بدون جواب، بل ردّ عليهم بجواب لطيف ومفحم تمامًا.كما سيتبين من ذلك أن الذين اعتبروا الروح هنا بمعنى الوحي الإلهي أو القرآن أيضًا لم يجانبوا الصواب، بل أصابوا كبد الحقيقة.الحق أن الآيات السابقة تبيّن فضل القرآن ،وضرورته بل ما زالت السورتان الماضيتان..أعني الحجر والنحل..تركزان على الموضوع نفسه، وتسوقان الأدلة كما برهنتُ - على ما في القرآن من محاسن وقدرات.وأما هذه السورة..الإسراء..فهي أيضًا تبين أن اليهود ازدهروا ما داموا عاملين بكلام الله تعالى، ولكنهم لما أعرضوا عن كلام الله تعالى حل بهم العذاب.كانوا يظنون أنهم إنما عُذبوا لانتهاكهم حرمة السبت، فلما سمعوا إعلان القرآن بأنهم ما عذبوا إلا لإعراضهم عن كلام" "الله استغربوا من ذلك، بل استاءوا منه ذلك، بل استاءوا منه جدا، لا سيما أن المسيحيين أيضًا كانوا يعلنون عن المسيح أنه "كلمة الله".
الجزء الرابع ۵۷۹ سورة الإسراء ثم إن اليهود كانوا مصابين بنقيصة أخرى تصاب بها الأمم اليائسة عموما وهي أنهم لما حُرموا من الوحي وانقطعت النبوة فيهم مالوا إلى التصوف الباطل، وانشغلوا بطقوس وتمرينات مختلفة، ظانين أنها ستزيد قواهم الروحانية.فمنهم من حاول صقل قواه الروحانية بترديد أذكار معينة ومنهم من سعى لذلك بمحاولة الاطلاع على "الاسم الأعظم".كانوا جميعًا يحسبون أنهم بذلك قد سدُّوا النقص الذي حصل فيهم نتيجة انقطاع الوحي عنهم.لقد دَهَمَهم هذا المرض في زمن داود ، وتفاقم في عصر المسيح العلة.كانوا يرون أنه بإمكان الإنسان أن يأتي بمعجزات عظيمة ويعلم الغيب إذا ما سيطر على الأرواح أو صقل روحه.هو.وكانوا يقسمون هذا العلم إلى قسمين: أولهما حلال، وأرجعوه إلى الاسم الأعظم، وثانيهما حرام، وعزوه إلى بعل (الموسوعة اليهودية ج ٢ ص ٦٢٩.ولما أعلن المسيح الا دعواه وأراهم المعجزات الله عزوا معجزاته إلى بعل هذا وقد سجّل الإنجيل هذا الأمر كما يلى: "وأما الكتبة الذين نزلوا من أورشليم فقالوا: إن معه بعْلَزَبُول، وإنه برئيس الشياطين يُخرج الشياطين.فدعاهم وقال لهم بأمثال: كيف يقدر شيطان أن يُخرج شيطانًا." (مرقس ۳ ۲۲ و ۲۳).: ونفس المعنى مذكور أيضًا في متى :٩ ، ۳٤ و ۱۰ ،۲۵، لوقا ١١: ١٥، يوحنا - ٢٠، و ٨: ٤٨ ٥٢ ، و ١٠: ٢٠.والحق أن بعل زبو أو بعل زبول أو بعل زبوب أسماء لإله كانت تعبده إحدى الأمم المجاورة لليهود، وكان الناس يعزون إليه بعض المعجزات؛ فلما مال اليهود إلى السحر ظنوا أن بعل هو رئيس العالم السفلي، وأن الناس إنما يأتون بالمعجزات مستعينين ببعل (انظر المراجع السابقة، وأيضًا الموسوعة التوراتية والموسوعة اليهودية كلمة.(Beelzebul or Beelzebub أما ما صقله اليهود – بزعمهم - من قواهم الروحانية فعزوه إلى "الاسم الأعظم"، واعتبروه سحرًا حلالاً.فقد ورد في الموسوعة اليهودية أن "الاسم
الجزء الرابع 01.سورة الإسراء الأعظم" كان رائجا في اليهود قبل المسيح بثلاث مائة سنة على الأقل- غير أن بحثي يؤكد أن هذه الفكرة تسربت إليهم زمن داود وبلغت ذروتها زمن سليمان- وكانوا يشيعون بين القوم أنه يستحيل النطق بـ "الاسم الأعظم".وكان سَحَرَة اليهود، الموجودون خاصة في مصر، يكتبون هذا الاسم برموز معينة.(الموسوعة اليهودية كلمة Names of God) كان اليهود يرون أن كلا من السحر الأبيض والسحر الأسود أمر حق، وأن السحر الأسود يتعلمه الإنسان بواسطة الشياطين، أما الأبيض منه فبواسطة الأسماء الإلهية؛ وأن الأسود حرام، والأبيض حلال.فقد ورد أن علماء اليهود عارضوا السحر الأسود، ولكنهم لم يروا بأسًا في اللجوء إلى السحر الأبيض لمحاربة السحر الأسود، واكتسبوا - في زعمهم - بالسحر الأبيض من المهارة والقوة بحيث أحرقوا العدو بنظرة واحدة وتركوه رمادًا، أو حولوه هيكلاً من العظام، كما كانوا يشفون به المرضى.وقد لقيت هذه الأمور رواجًا كبيرًا بينهم حتى سماهم اليونان والرومان سَحَرة (الموسوعة اليهودية كلمة MAGIC).كما اعتقد اليهود أنه بإمكان الإنسان أن يعرف علم الغيب بالاتصال بأرواح الموتى.وقد جاء النهي عن هذه الممارسة في التوراة في تثنية ١٨: ١١، وفي أماكن أخرى أيضًا.كما تحدثت التوراة عن أولئك الذين يعرفون الغيب بمناجاة الأرواح، ونهت عن الاختلاط بهم.يقول إشعياء: إذا قالوا لك أن تتصل بمثل هؤلاء فقل: أيسأل الموتى لأجل الأحياء؟" (إشعياء ٨: ١٩) وورد أن اليهود تعلموا هذا الفن من الفرس على الأغلب إذ كان له رواج كبير بينهم (الموسوعة اليهودية تحت Necromancy).وبالاختصار كان اليهود يعتقدون أن معرفة الغيب ممكن بالاتصال مع الأرواح، وكانوا يتعلمون هذا الفن بكثرة ويعملون به مع أنهم قد نُهوا عن ذلك.وقد لقي هذا العلم رواجًا واسع النطاق في عصرنا هذا أيضا، ويسمى أصحابه في الغرب بالأرواحيين (Spiritualists)، والجمعية الثيوصوفية تتأسست على هذا
الجزء الرابع ۵۸۱ سورة الإسراء العلم نفسه.وكانت السيدة أيني بسنت Mrs.Annie Besant) - التي مؤسسة الجمعية الثيوصوفية الحالية - أسست تدعي أنها تتعلم الكثير بمناجاة الأرواح، وتدلي بكثير من أنباء الغيب، فقد أنبأت بظهور مصلح كبير مستعينةً بهذا العلم- في زعمها - وأن الشاب "كرشنا مورتي" هو المصداق لهذا النبأ.علما أن ما يدعو إليه هذا الشاب في هذه الأيام يماثل الإلحاد إلى حد كبير.(Krishanamurti By Mary Lutyens P.I-10; The New Encyclopedia Britannica & The Encyclopedia of Religions, & The Encyclopedia Americana & Every Man's Encyclopedia, under: Krishanamurti & Theosophy) لقد شغف كثير من الناس في أوربا بهذا العلم نتيجة موت كثير من الجنود الشباب لعائلات كثيرة في الحرب العالمية الماضية، وقد أنفد الكاتب الشهير السير كينن دائل Sir CANAN DOYLE عمره في تعلم هذا الفن من أجل أحد أبنائه.وكان الكاتب والسياسي المعروف W.T.Studd يحمل الأفكار نفسها، ونشر كتابًا حول تجاربه الشخصية في هذا المجال.كما أن العالم الذائع الصيت السير أوليور لاج (Lodge) مال في آخر عمره إلى اعتقاد أن مناجاة الأرواح ممكن، ألف في هذا الشأن عدة كتب.1٥٠ -140.CANAN DOYLE P والموسوعة وقد البريطانية الجديدة كلمة Lodge) وهذا العلم متداول بين الهندوس باسم "اليوجا، وقد ورد بصدده بحث مستفيض في كتاب لهم باسم "شاستر اليوجا" لـ "بتنجلي"(موسوعة الأديان والأخلاق تحت Yoga).ولقد اتجه متصوفة المسلمين أيضًا إلى هذا العلم زمن انحطاطهم، وألفوا الكثير من رطب ويابس باسم علم الإشراق، وعلم الحاضرات" وغيرهما من وغيرهما من الأسماء، واستعانوا بهذا العلم.المزعوم التبيان في مسائل السلوك والإحسان المعروف بدلائل السلوك ص ١٥١ - ١٦٩ ، ومعارف الطريقة ص ٥٨- ٦٢) وبالاختصار إن مناجاة الأرواح علم ،قديم، وكان له رواج كبير بين اليهود، لا سيما حين ضعفت صلتهم بالدين وانغلق في وجههم باب الوحي، فمالوا إليه
الجزء الرابع سورة الإسراء ميلا عظيمًا.وكان إقبالهم عليه زمن المسيح الناصري ال على أشده، حيث وجدت في زمنه فرقة يهودية باسم الأسينيين، وقد أشير إليها في الإنجيل باسم الفريسيين، ويرى البعض أن المسيح كان ينتمي إلى هذه الفرقة.وقد تم العثور على نسخة قديمة لكتاب في ألمانيا ادعى فيه أحد الأسينيين أن المسيح فرقتهم.طاهرة، كان من لقد سجلت وقائع حياة المسيح في هذه النسخة بصورة غريبة، كما ورد فيها أنه ال نزل من الصليب حيًّا.راجع الكتاب The Crucifixion By An Eye ٣٦...Witness V، وهو موجود في مكتبتي أيضًا.لقد ورد في الموسوعة البريطانية عن هؤلاء أنهم كانوا يصومون، ويعيشون عيشةً و كانوا يُخبرون بالغيب ويأتون بالمعجزات.فقد كتب عنهم فيلو (Philo : يجب ألا نرتعب من سحرة الأمم الأخرى، إذ يوجد بيننا أيضًا أمثالهم، ثم يقدم الأسينيين كمثال على دعواه.ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي الشهير أنهم كانوا يتنبأون، ويُخبرون الغيب.وورد عنهم أنهم كانوا يقومون بتأملات طويلة خلال العبادة لكي يتم لأرواحهم الاتصال بالأب السماوي.وكان زعماؤهم يدعون بمعرفة "الاسم الأعظم"، الذي يحتوي على ٤٢ حرفًا في زعمهم، ويفضلون العيش بعيدا عن النساء، لكي ينزل عليهم الإلهام أكثر (الموسوعة البريطانية كلمة Essenes).ويبدو - هو عبد الله أن يهود المدينة كانوا ينتمون إلى هذه الفرقة نفسها فقد ورد في الحديث أن أحد اليهود صياد بن - كان يدعى معرفة الغيب ويدلي بالأنباء.فلما بلغ ذلك النبي الله وذهب لاختباره وقال له: "إني قد خبّاتُ لك خبيئا؟" قال ابن صياد: هو الدُّخُ.قال له رسول الله ﷺ: احْسَأَ، فلن تَعْدُوَ قدرك.فقال عمر بن الخطاب ذَرْنِي، يا رسول الله، أضرب عنقه؟ فقال له رسول الله ﷺ: إِنْ يَكُنه فلن تُسلّط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله" (مسلم، کتاب الفتن).
الجزء الرابع ۰۸۳ سورة الإسراء والمراد من قوله : "فلن تعدو قدرك" أن أساس علمك العقل، ولا تستطيع معرفة الأنباء الإلهية.وقد استأذن عمر النبي ﷺ لقتل ابن صياد لأن الصحابة يرون أنه الدجال، ولكنها نهاه عن ذلك قائلا: إن كان هو الدجال فلن تقدر على قتله، وإذا لم يكن هو الدجال فلا يجوز قتله.تؤكد هذه الرواية أيضًا أنه كان بين يهود المدينة قوم يدعون مناجاة الأرواح، وهذا يدل على أنهم كانوا من الفرقة الأسينية.بعد هذه المقدمة أقول : لما عجز الكفار إزاء ما جاء في القرآن من أنباء الغيب استعانوا باليهود، فقال لهم اليهود: لكي تفضحوا محمدًا سَلُوه عن الروح، أي عما أُودع في الروح من قوى وقدرات.وكان بنيتهم أنه لو أجاب بأن الروح تتمتع بقدرات خارقة تستطيع بها معرفة الغيب لقلنا له: فكيف نصدّق إذن أن معارف القرآن هي من عند الله تعالى؟ لماذا لا نقول: إنها نتاج تمارينك الروحانية.أما إذا أجاب بأن الروح عارية عن أية قدرات كهذه لسقنا البراهين على جهله بهذه الحقيقة فكأن القرآن ليس - في رأيهم – إلا حصيلة تمارين روحانية عقلية فحسب! وهناك في القرآن الكريم دليل على أن عقيدة مناجاة الأرواح كانت سائدة بين اليهود في زمن النبي.فقد تحدث القرآن الكريم في سورة الجن عن جماعة مؤمنة بموسى - وقد أثبتُ من قبل أنّ هؤلاء الجن كانوا بشرًا - ثم نَقَلَ قولهم: وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع الجن: (۱۰)..أي كنا نقعد لنصغي إلى السماء، بمعنى كنا نجلس جلسات تأملية لمعرفة الأخبار السماوية.والحق أنه كان من واجب القرآن أن يلقي الضوء على هذه القضية حتى ولو لم يسأل اليهود عنها، لأن هذه العقيدة تمثل في الواقع هجوما على سائر الأديان الحقة، إذ توهم بأن الإنسان يستطيع معرفة معالم الهداية بمساعدة الأرواح دونما حاجة إلى الإعلام الإلهي - مثلما يدعي بذلك الثياصوفيون - وأن أي واحد
الجزء الرابع ٥٨٤ سورة الإسراء قادر على معرفة الغيب من خلال التمارين الروحانية المزعومة.أقول: لو كان هذا صحيحًا لارتفع الأمان واليقين عن الدين أصلاً! ويرد القرآن الكريم على هذه المزاعم بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي..أي قُلْ لهم يا محمد إن الروح الكاملة أي التي يتيسر لها الوصال الحقيقي بالله تعالى، والتي تُطلع على بعض العلوم ،الغيبية، إنما تكون من أمر ربي..أي تأتمر بأمر الله تعالى، بمعنى أنه يستحيل أن تحرز أية روح الكمالَ من دون إذن ربها، وأنه باطل كل ما تصفونه لكمال الروح من تمارين وسحر ويوجا، لأن الروح إنما تحرز الكمال بأمر من عند الله تعالى فحسب.وكأن الروح هنا جاءت بمعنى الروح الكاملة التي تتحلى بالصفات الروحانية حقــا، مثلما جاءت كلمة الحمد في مستهل القرآن في قوله تعالى الحمد لله بمعنى أن الحمد الكامل المتصف بكل الصفات المستوجبة للحمد خاص بالله وحده.لقد أخبر الله هنا أنه خص نفسه وحده بعملية كمال الروح الإنسانية، ولا تقدر أية روح أن تحرز الكمال من دون إذن ربها مهما مارس صاحبها من تمارين "اليوجا" أو تحمل المشاق الأخرى.وخير مثال على ذلك في هذا العصر هو شخصية كرشنا مورتي.فقد ربّت السيدة "أيني بسنت" هذا الشاب وأخاه تربية خاصة وفق مبادئ "اليوجا " ، حيث ظلا تحت رعاية كبار الأساتذة لهذا الفن، لكي يوجهوهما إلى الجهة السليمة من خلال قوة "اليوجا".ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كـــان الأخ الأكبر يشكو دائما بأنهم قد ألقونا في السجن، ويمارسون علينا الجبر والإكراه بلا طائل.وأما الأخ الأصغر الذي اختير بعد تمرّد الأخ الأكبر - فيعارض أفكار السيدة أيني - فيعارض أفكار السيدة أيني بسنت علنًا! للتفاصيل راجع المصادر التالية: - (Krishanamurti By mary Lutyens P.I-10; The New Encyclopedia Britanica & The Encyclopedia of Religions, & The Encyclopedia Americana & Every Man's Encyclopedia, under: Krishanamurti & Theosophy)
الجزء الرابع ٥٨٥ سورة الإسراء ولو قيل: إن إعلان القرآن هذا ليس إلا دعوى فحسب، ولا يمكن اعتباره ردًّا شافيا، فجوابه: أن قول الله تعالى قل الروح من أمر ربي ليس إلا إعلانًا مبدئيا، لأن الرد الحقيقي يبدأ بقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا..حين أعلن الله تعالى أن التمارين التي اخترعها الناس لصقل قدرات الروح تزيد أرواحهم قوةً إلى حد ما بلا شك، ولكنها قوى حد ما بلا شك، ولكنها قوًى ناقصةٌ تماما وقليلة جدا بالمقارنة مع القوى الروحانية الحقيقية، وإن إنكار الوحي الإلهي – بناء على هذه القوى الناقصة - مخالف للعقل، لأن الناقص لا يمكن أن يقوم مقام الكامل في حال من الأحوال.والدليل الذي أسوقه دائما على كون هذا العلم ناقصا هو أن الأخبار التي يتلقاها أصحاب هذا العلم من مختلف الملل تكون متضاربةً جدا، مع أنه لو كان تلقي العلوم الحقيقية من أرواح الموتى من خلال التمارين الروحية ممكنا لما وُجد في أنبائهم هذا الاختلاف الشديد.إذ كيف يعقل أن تخبر روح عيسى ال أساتذة اليوجا الهندوس خلاف ما تخبر أحدًا من الأرواحيين اليهود أو من أحدا النصارى.فها هو السيد إتكنسون الأمريكي- وهو من كبار علماء هذا الفن وصاحب مؤلفات عديدة – يقول صراحةً بأنه يطلع على الأمور السيئة والمنذرة، ولكنه لا يتلقى الأخبار السارة.فقوله هذا يشكل اعترافًا وتصديقًا لقول الله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.في حين أن الله تعالى يعلن في القرآن الكريم عن الأنبياء وما ترسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين (الكهف: ٥٧)..أي أن أولى مهام الأنبياء أن يدلوا بالأنباء الغيبية التي فيها أخبار سارة، أما الأنباء المنذرة فتأتي في المقام الثاني.
الجزء الرابع ٥٨٦ سورة الإسراء وَلَيْن شِعْنَا لَتَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ۸۷ التفسير : الخطاب هنا موجه في الظاهر إلى رسول الله ، ولكنه لم يسأل و لم يعترض؛ فثبت أن الخطاب موجه في الواقع إلى غيره ممن سأل أو اعترض.وقد خوطب النبي لا الهلال في الظاهر تأكيدًا للموضوع فحسب.يقول عز من قائل: إن الروح بدون أمر ربها ناقصة لدرجة أنه لو اندرست المعارف النازلة من عند الله تعالى فلن يستطيع هؤلاء الأرواحيون أن يأتوا بها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فأَنَّى لهم - والحال هذه - أن يأتوا بمعارف روحانية أنفسهم.فمثلاً لو أخفينا معارف القرآن، فلن يقدر أحد منهم جديدة من عند أن يأتي بها.رب قائل يقول هنا: هذه دعوى فارغة فحسب؟ ولكن الحق أنه ليس ادعاء فارغا، وإنما هو دليل عظيم الشأن ذلك أن القرآن الكريم لن يندثر ولن يندرس من الدنيا، ولكن معارفه معدومة بالنسبة للذين عقولهم في معزل عن البركات القرآنية.ولو أراد هؤلاء أن يأتوا بتعليم كالقرآن الكريم فلن يقدروا على ذلك أبدًا.والآيات التالية أيضا تؤيد ما أقول.كما تتضمن هذه الآية الإشارة إلى أن القرآن الكريم سوف يُرفع من الدنيا في يوم من الأيام، ويؤكد ذلك الحديث الشريف أيضًا حيث روى ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عمر عن النبي عل الله أن القرآن سوف يُرفع من الدنيا، ولن يبقى
الجزء الرابع ۵۸۷ سورة الإسراء إلا "لا إله إلا الله".وفي رواية أخرى عن حذيفة * أن النبي ﷺ قال إن القرآن والإسلام سيُرفعان من الدنيا (ابن ماجة: كتاب الفتن، وشعب الإيمان للبيهقي: باب في نشر العلم) تؤكد هذه الروايات أن في هذه الآية نبأ أنه سيأتي على الناس زمان لن يبقى من القرآن الكريم إلا رسمه، وستختفي حقائقه، وأن المتصوفين الزائفين الذين يدعون مناجاة الأرواح لن يستطيعوا أن يأتوا بمعارف القرآن مرة أخرى.كنت ولا أزال أقول: ضَعُوا أمام هؤلاء المتصوفين الزائفين بعض الآيات القرآنية الصعبة ليخبرونا مستعينين بالأرواح التي يدعون الاتصال بها- ما فيها من معارف ومفاهيم؟ فلو توصلوا إلى دقائقها لكانوا صادقين وإلا فهم كاذبون.ولكن لم يتقدم حتى اليوم أحد لقبول هذا التحدي، ولن يتقدم في المستقبل أبدًا.で إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ, كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ) ۸۸ التفسير : يقول الله تعالى: حين يرتفع القرآن من الدنيا فلن يأتي به مرة أخرى إلا ربك، لأن فضله عليك كان كبيراً.والمراد من ذلك أنه عند اختفاء معارف القرآن من الدنيا لن يستطيع أحد - من دون المعونة الإلهية – حتى بيانها مرة أخرى، ناهيك عن أن يأتي أحد بمثل القرآن.قُل لَّينِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ۸۹ يقصدها المفسر رواية حذيفة التالية : "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : يَدْرُسُ الإِسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ التَّوْبِ حتى لا يُدْرَى ما صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا نُسُك ولا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَل فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى في الأرض مِنْهُ آية...." (سنن ابن ماجة: كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم)
الجزء الرابع شرح الكلمات : ۵۸۸ سورة الإسراء ظهيرًا : ظهر عليَّ أعانني ظهر فلان بفلان وعليه: غلبه.ظهر بزيد: أعلى ورفع مرتبته.الظهير: المعينُ (الأقرب).بینته التفسير : لقد اتضح بهذه الآية وضوح الشمس في رابعة النهار أن المعنى الذي من قبل هو الصحيح، لأن هذه الآية تكمّل نفس الدليل الذي أشرت إليه آنفًا.يقول الله تعالى: تدّعون بأن الإنسان يستطيع أن يصقل قواه الروحانية بتمارين خاصة ويتلقى العلوم الروحانية بمناجاة أرواح الموتى.فاجتمعوا أيها الناس، واستعينوا أيضًا بالأرواح الخفية التي تزعمون أنها تمدكم بعلوم السماء، ثم أجمعوا أمركم لكي تأتوا كتابًا مثل هذا القرآن إن كنتم صادقين.فإن أتيتم بمثله فلا شك في صدق دعواكم وإلا فأنتم كاذبون فما دمتم أنتم وهذه الكائنات الخفية التي تعينكم في زعمكم لا تستطيعون جميعًا أن تأتوا بمثل هذا القرآن فما أشد افتراءكم بأن محمدا قد اطلع على هذه المعارف من خلال بعض التمارين الروحانية.مع العلم أن المراد من الجن هنا تلك الأرواح التي كانوا يدعون معرفة العلوم الروحانية عبر مناجاتها.ولما كانت هذه الأرواح - على حد قولهم – خفية عن أعينهم لذلك سميت هنا بهذه التسمية.وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أكثرُ النَّاسِ إِلَّا كُورًا ) التفسير : يقول الله تعالى : من أين سيأتون بمثل القرآن؟ فعقولهم محدودة، ولن يأتوا إلا بكلام محصور في دائرة معارفهم، وسيفوتهم أشياء كثيرة تقع خارج نطاق ثقافتهم الضيقة.أما هذا القرآن فيتناول قضايا شتى من سياسة وعلم
الجزء الرابع ۵۸۹ سورة الإسراء وأخلاق ومدنية واقتصاد بالبحث المستفيض، كما أنه يفصل القضايا التي تختلف فيها الديانات المختلفة إنهم لا يقدرون حتى على استيعاب مضامين القرآن، فأنى أن يأتوا بمثله.إنهم يجيدون شيئا واحدًا ألا وهو الإصرار على الإنكار تعنتا وعنادًا، لذلك لا يزالون منكرين له بشتى الأعذار والاعتراضات، ولكنهم سوف يتحملون وبال ذلك في نهاية المطاف.لهم وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ أو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَهُ جَرَ الأَنْهَرَ خِلَلَهَا تَجِيرًا شرح الكلمات ۹۲ تفجر: فجر الماء: بحسه وفتح له طريقا فجَرَى.وفجر الماء: مثل فجره، شُدِّد للمبالغة (الأقرب).ينبوعًا: الينبوع: عين الماء؛ الجدولُ الكثيرُ الماءِ، جمعه الينابيع (الأقرب).التفسير: غير الكفار موقفهم لما تلقوا جوابًا مفحما على اعتراضهم الذي وجهوه إلى النبي ﷺ بتلقين من اليهود، فقالوا: حسنًا، إذا كان العلم كله في القرآن ففَجِّر لنا من الأرض الينابيع، وأنبت لنا البساتين التي تجري خلالها الأنهار.وكان هذا اعتراضا قويًّا بزعم الكفار، ولكنه في الواقع دليل على عقلهم الناقص.كان الدافع وراء هذا الاعتراض - كما أسلفتُ - هو ظنّ اليهود وغيرهم من الجاهلين أن الذين هم على صلة بالأرواح أو يملكون "الاسم الأعظم" يقدرون على فعل ما شاءوا بقوة السحر أو بمعرفة هذا الاسم.ولقد رأينا هذا الأمر يتكرر في هذا الزمن أيضًا.كان بعض المشايخ يرسلون أتباعهم إلى مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ال، ويقولون لهم: اسألوه المال
الجزء الرابع ۰۹۰ سورة الإسراء بمئات الآلاف، وإذا رفض قولوا له : لقد ورد عن المسيح الموعود أنه سيفيض المال، فكيف تكون المسيح الموعود وأنت لا تقدر على أن تعطي بضع مائة ألف! أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَتَيكَةِ قَبِيلاً ) شرح الكلمات: ۹۳ كسَفًا: الكسف جمعُ الكسفة وهي: القطعةُ من الشيء (الأقرب) قَبيلاً: القبيل: الجماعةُ من الثلاثة فصاعدًا.ورأيتُه قبيلاً" أي عيانًا مقابلةٌ (الأقرب).التفسير: أي إذا كنت لا تستطيع أن توزع علينا الجوائز فأت بالعذاب على الأقل.فأسقط علينا السماء، أو أتنا بالله علينا السماء، أو أتنا بالله مع الملائكة ليهلكنا.كان أستاذي المحترم الله سيدنا الخليفة الأول للمسيح الموعود الل يقول: لقد طالبوا بهذه الأشياء لأن الله تعالى قد وعد بها في القرآن الكريم.ولكني أرى أنهم كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل السخرية، لا على سبيل المطالبة.ذلك أن معظم هذه الوعود مذكورة في السور المدنية، ولكن هذه السورة مكية.فثبت أنهم قالوا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء.وكأنهم قالوا: ما دام القرآن الكريم يملك هذه القوة الخارقة ففَجِّر لنا بقوة القرآن العيون، وأثبت لنا البساتين، أو ائتنا بالعذاب على الأقل.ذلك أنه قد تَرخَ في أذهانهم أن الإنسان قادر على إنجاز هذه الأعمال بقوة السحر أو الاسم الأعظم.وكان اليهود يحملون نفس الأوهام، كما أسلفت.
الجزء الرابع ۰۹۱ سورة الإسراء وو أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن قل تُؤْمِنَ لِرُقِيكَ حَتَّى تُنَزَلَ عَلَيْنَا كِتَنَبًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولاً ) شرح الكلمات: ٩٤ زُخْرُف الزخرف : الذهَبُ ؛ كمالُ حُسن الشيء (الأقرب).ترقى: رَقِيَ يرقى رَقْيًا ورُقِيًّا: صعد.صعد.ورقاه يرقيه رقيًّا ورُقْيَةً: عوَّدَه ونفَتْ في عُوذته (الأقرب).التفسير: أي إذا كنت لا تريد أن تعمل هذه الأشياء من أجلنا، فاعملها لنفسك على الأقل.لقد قال فرعون عن موسى كاذب، أما هؤلاء فزادوا فقالوا أو يكون لك بيت من زُخْرُف.) أما قول الكفار أو تَرقى في السماء ولن نؤمنَ لرُقيّك حتى تنزل علينا كتابًا نقرؤه..فأرادوا به الطعن في حادث المعراج، حيث قالوا: لا تحك لنا حادث المعراج، فإننا لن نصدقك حتى تصعد إلى السماء فعلا ثم تبقى هنالك وترمي العلي: ليس عنده أَسْورةٌ من ذَهَب، لذا فهو یرد إلينا من السماء كتابًا، حتى تطمئن قلوبنا بأنك قد صعدت إلى السماء حقا.الله الله على ذلك بقوله قُلْ سُبحان ربّي هل كنتُ إِلا بَشَرًا رسولاً..أي أجبهم يا محمد أن ربي أسمى من مثل هذه الألاعيب الفارغة.لقد أنزل الله عليّ وحيه بنفس الأسلوب الذي أنزله على رسله من قبل، وسوف يعاملني أيضا بنفس ما عامل به الرسل السابقين ولكن ما تطالبون به مناف لعظمته الا الله كما أنه متعارض مع رسالتي وبشريتي.
الجزء الرابع ۰۹۲ سورة الإسراء والمعنى الآخر هو أن بعض مطالبكم الاعيب فارغة ولا تتفق مع عظمة الله تعالى.إنه وعمل أسمى منها وأجل، لأنه إنما يُنزل كلامه من أجل أن يترقى الإنسان روحانيا.وبعض مطالبكم، مثل الصعود إلى السماء وإلقاء الكتاب من هناك، منافية لمقام البشرية والرسالة السماوية.الغريب أنه بالرغم من وجود هذه الآية يؤمن كثير من المسلمين أن موجود في السماء، مع أنه كان بشرًا رسولاً، ولم يكن ملاكًا ! العلمية لا ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ) التفسير : لقد أمر الله تعالى نبيه الله من قبل أن يعلن أنه بشر رسول، ولا يدعي أكثر من ذلك، أما هنا فبيّن أن أكبر ما يثار ضد الأنبياء من اعتراضات هو أنهم من البشر !؟ والحق أنه ليس مجرد اعتراض بل ينطوي على مطاعن عديدة.ذلك أن من الناس من يقول إن الله أعظم من أن يتخذ البشر رسولاً.وهؤلاء القوم ينكرون نزول الوحي أصلاً.ومنهم من ينكرون كون البشر رسولاً لكبرهم وعنادهم، بمعنى أنهم يقولون: نحن أيضًا بشر مثله ، فلو أراد الله أن يُنزل كلامه لأنزله علينا أيضا، ولم يخصه وحده ،بالوحي فلا يمكن أن نصدقه.وهؤلاء لا يرون نزول الوحي مستحيلاً، لكنهم يكفرون رسولهم لزعمهم بأنه من المحال أن يرسل الله شخصاً وضيعا مهينا كهذا إلى قوم كبار أمثالهم.وهناك فئة ثالثة يكفرون بكون البشر ،رسولاً ، لأنهم يرون أن الإنسان في حد ذاته كامل، وهو في غنى عن الوحي، ويقدر بنفسه على أن يختار الطريق السليم بما جبل عليه من قدرات وكفاءات.
الجزء الرابع ۰۹۳ سورة الإسراء كما أن هناك فئة رابعة يعترضون على بعث الرسول من البشر، لأنهم يرون أن منصب الرسول يتطلب قدرات تفوق القدرات البشرية وإنك لو قدمت إلى هؤلاء أضعف كائن في الوجود، زاعمًا لهم أن هذا يتمتع بقوى تفوق قوى البشر لصدقوك على الفور، ولكنهم لن يُلقوا بالاً لإنسان يتمتع فعلا بالقوة القدسية ويكون مثلا أعلى للقوة العَمَلية، ويتجنب التفاخر الكاذب والادعاء الزائف.ذلك أن طبائع هذه الفئة من الكافرين تكون مأسورة بحب الخرافة.يؤمنون أحيانًا بالأنبياء السابقين، ولكن عند بعث نبي جديد ينكشف للعيان العيب الكامن فيهم، ويشكل برهانًا على أن إيمانهم بالنبي السابق أيضًا لم يكن إلا تقليدًا متوارثا فارغا فحسب.قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَتَبِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَبِئِينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً ) 97 التفسير: توضح هذه الآية أن المراد من الملائكة هنا أناس ذوو الشمائل الملائكية، والدليل على ذلك هو أن الملائكة بطبيعتها لا تحتاج إلى أن يُبعث أحد لهدايتها ولو مَلَكُ.وتردّ هذه الآية على أولئك المتكبرين الذين يزعمون أنهم أسمى من أن يُبعث إليهم رسول، ويريدون أن ينزل عليهم الوحي مباشرةً.يقول الله تعالى: إنما ينزل الملاك على من يتحلى بالخصال الملائكية، وليس على من يفتقدها.لو كانت فيكم الخصال الملائكية لنزلت عليكم الملائكة، ولكنكم أصبحتم شياطين، فكيف تنزل عليكم الملائكة.كما تمثل هذه الآية ردًّا على أولئك الذين يرون أن النبوة أسمى من أن ينالها البشر، لأنها تتطلب قوى تفوق القوى البشرية.لقد رد الله عليهم: إنما يُنقذ
الجزء الرابع ٥٩٤ سورة الإسراء جنس من الأجناس بواسطة فرد من أفراد الجنس نفسه.ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكون قدوة حسنة للآخرين إلا إذا كان من جنسهم.لذا فلا يمكن أن يُبعث إلى البشر رسول من غير جنسهم، لأنه لن يكون لهم قدوة.ونظرا إلى هذا المعنى، لا تُؤخذ كلمة رسولا هنا بمعنى مَن يتلقى الوح فحسب بل ستشمل كافة الشروط والمواصفات التي تنطبق على مَن يُبعث رسولا من البشر.قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ۹۷ الله التفسير: تردّ هذه الآية على جانب آخر من الاعتراض الذي سبق ذكره..أعني أنها ترد على أولئك الذين يرون أن الإنسان أحقر من أن يتلقى الوحي من تعالى، أو الذين يزعمون أن الإنسان كامل في حد ذاته ولا حاجة له إلى الوحى الإلهي.ويجيبهم الله تعالى على لسان نبيه أنه تعالى أعلم بعباده، وأدرى بما فيهم من عيوب أو كفاءات.فما دام قد بعثني رسولاً فمن حقكم أن تبحثوا في أمري لمعرفة صدقي من كذبي.وكدليل على صدقي أقدّم أمامكم شهادة الله الفعلية، يدعم قوله فكيف يحق لكم تكذيب دعواي.إذن فلا يمكن أن تثيروا هذين الاعتراضين إن كنتم تعقلون؛ لأنه إذا ثبت أني مرسل من الله فلا مناص لكم من الاعتراف بأن الإنسان ليس حقيرًا في نظر الله تعالى حتى لا يشرفه بمخاطبته، وفي ذات الوقت لم يبلغ الكمال حتى يستغني عن وحي فما دام فعله الله تعالى.
الجزء الرابع سورة الإسراء وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ هُمْ أَوْلِيَاءَ صلے مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمَّا مَأْوَنهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَهُمْ سَعِيرًا ) شرح الكلمات: ۹۸ وجوههم: الوجوه جمع الوجه وهو: ما يتوجه إليه الإنسان من عمل وغيره؛ القصد والنية (الأقرب).حبت : حَبت النارُ والحربُ والحدّةُ: سكنت وحمدت وطُفئت (الأقرب).سعيرا: السعير: النار ولَهَبُها (الأقرب).أولياء: جمعُ ولي وهو النصير.بهدي التفسير: كان الحوار المذكور في الآيات السابقة يدل على أن الكفار يجادلون بغير حق..لذلك قال الله له الا الله عزاء للمسلمين ألا يضيقوا بهذا ذرعًا، لأن القرار أحد أو ضلاله متروك في يده الله فمن استحق الهدى اهتدى في نهاية الأمر رغم كثرة العوائق، ومن لم يستحق الهدى بقي على ضلاله، أو ضل الطريق في آخر المطاف مهما كثرت فرص هدايته في بادئ الأمر.فلا ينبغي للمسلمين أن ييأسوا من ظاهر الأحوال، لأنه حتى أشدُّ المعادين المجادلين بغير حق في ظاهر الأمر يؤمنون في نهاية المطاف أحيانًا، ويضربون أروع أمثلة للإخلاص والفداء.فلينظر الإنسان إلى خواتيم الأمور، لأن الخطر إنما هو على من تكون عاقبته سيئة.أما قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم فقد جاء شرحه في موضع آخر من القرآن الكريم حيث قال يومَ يُسحبون في النار على وُجُوههم (القمر: ٤٩)..فالمراد أنهم سوف يُجَرُّون في النار مكبّين على وجوههم.
الجزء الرابع ٥٩٦ سورة الإسراء ورد في الحديث عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يُمشيهم على وجوههم." (مسند أحمد: باقي باقي مسند المكثرين، وروح المعاني).وفي رواية: "يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفٌ مُشاةٌ، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم." (المرجع السابق).وفي رواية: "تُجرّون على وجوهكم." (الترمذي: صفة القيامة، وروح المعاني) يبدو أن الركبان هنا هم الأنبياء، والمشاة هم المؤمنون، أما الذين يُجَرِّون على وجوههم فهم الكفار أهل النار.اعلم أن كل عمل في الدنيا سيكون له انعكاس وتمثل في الآخرة.فأعمال الكفار التي لم ينظروا لدى القيام بها إلى الله تعالى، بل عملوها بالنظر إلى الأغراض السفلية الدنيّة.سوف تتمثل لهم على هذا النحو حيث يمشون على وجوههم.ويقال: مرَّ القوم على وجوههم أي أسرعوا، وعليه فتعني هذه الجملة أننا سنحشرهم وهم يجرون مستعجلين.ويدعم هذا المعنى قوله تعالى: مهطعين مقنعي رؤوسهم (إبراهيم: (٤٤).والمقصود أنهم سيكونون في فزع كبير.ومن معاني الوجه: "ما يتوجّه إليه الإنسان من عمل وغيره؛ والقصد والنية"، وعليه فتعني هذه الجملة أننا سنحشرهم حسب نواياهم ومقاصدهم.فإذا كان قصدهم في الدنيا عداء الجماعة الربانية فسيكونون في الآخرة أيضًا مع أعداء الله، مبعدين عن المولى الله وكأنه تعالى يعلن هنا أن كل إنسان سيُجزى وفق نيته.وبما أن الكفار ليس لهم أي رغبة ولا هدف في الآخرة فأخبر الله تعالى أنهم سيُحشرون هنالك عُمْيًا وبُكْما وصُمَّا.أما قوله تعالى كلما حَبَتْ زدناهم سعيرًا فلا يعني أن تلك النار ستنطفئ ثم تشعل مرة أخرى، بل له معنى آخر.ذلك أن الإنسان إذا طالت محنته مات إحساسه بوطأتها، فالله تعالى يقول: حينما يضعف إحساسهم بألم العذاب
الجزء الرابع ۵۹۷ سورة الإسراء سترهف إحساسهم به ثانيةً وقد أكد هذا المعنى في مكان آخر بقوله كلما نضجت جلودهم بدلناهم جُلودًا غيرها ليذوقوا العذاب) (النساء: ٥٧).فحُبُو النار إشارة إلى ضعف إحساس الكفار بالعذاب، ولا يعني انطفاء النار أو زيادتها، كقولهم: النهر يجري، مع أن الذي يجري هو الماء، لا النهر.ذلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَرُواْ بِنَايَتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عظيمًا وَرُفَيئا أونًا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (2) ۹۹ التفسير: يقول الله تعالى : إن العذاب سيحل بهم بسبب إنكارهم لوحي الله تعالى، وأن هذا الإنكار إنما سببه عدم إيمانهم بالحياة بعد الموت.لقد ركز القرآن كثيرًا على هذا المعنى وقال إن السبب الحقيقي لإنكار الدين أو السخرية به هو إنكار الحياة بعد الموت.وإن في هذا لدرسا عظيما للواعظين والمعلمين والأئمة والمربين.عليهم أن يرسخوا في أذهان الأطفال منذ نعومة أظفارهم البراهين على البعث بعد الموت وإلا لن تتم تربيتهم أبدا على ما يرام.علما أن هذه الآيات تنطبق على اليهود أيضًا، لأن أكثرهم كانوا ينكرون البعث.أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرُ عَلَى أَن تَخلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّلِمُونَ إِلَّا كُورًا (ع) التفسير: لم يرد الله على سؤالهم نعم، إننا قادرون على أن نخلقكم مرة أخرى، لأن مثل هذا الرد سيكون ادعاءً غير مجد، بل وجّه إليهم سؤالاً: هل توقنون أننا
الجزء الرابع ۵۹۸ سورة الإسراء قادرون على أن نهلككم وننزع منكم عزكم وسلطانكم ونمنحه قومًا آخرين؟ ثم أجاب الله بنفسه على السؤال وقال : إن الكفار لن يوقنوا بذلك أبدا، بل سيرفضونه بشدة، ولكنا نقول لهم: إن القرآن الكريم الذي يخبركم أنكم تبعثون بعد الموت، يحذركم أيضًا، يا أعداء الإسلام أن الله تعالى سوف ينزع منكم الحكم وسيهبه للمسلمين؛ فإذا تحقق النبأ الثاني وذهب الله بسلطانكم وحكمكم، فكونوا على يقين بأن النبأ الأول..أي نبأ البعث بعد الموت..سيتحقق لا محالة، لأن كلا النبأَين من الله تعالى الذي يعلم الغيب ويملك القدرة.ما أروع ما تحقق به نبأ سلطان المسلمين إذ لم تستطع الجزيرة العربية ولا حكومات فارس والروم ومصر الصمود أمام زحف المسلمين، وخضعت لهم واحدةً تلو الأخرى خلال بضع سنوات؛ وصار هؤلاء الذين كانوا يعيشون كالعمال الكادحين في فقر وفاقة ملوكا للعالم.أليس الذي أحدث هذا الحشر بقادر على أن يأتي بالحشر الآخر؟ ألم يكن الذين يرون البعث بعد الموت محالاً يستغربون من نبأ حكم المسلمين أيضًا؟ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَيْن إِذًا لَّأَمْسَكُمْ خَشْيَةَ الإذاق وَكَانَ الإِنسَنُ فَتُورًا ) شرح الكلمات: أمسكتم : أمسك الشيء بيده : قبضه.أَمْسَكَ المتاع على نفسه: حبسه.عن الأمر : كفَّ عنه وامتنع (الأقرب).أَمْسَكَ قتورًا قتَر على عياله ضيَّق عليهم في النفقة قتَر الشيء: ضم بعضه إلى بعض.القتور كصَبور المضيّق على عياله في النفقة؛ البخيلُ (الأقرب).الإنفاق : أَنفَقَ الرجلُ: افتقر وفنِي زاده.أنفَقَ ماله: صرفه وأَنفَدَه (الأقرب).
الجزء الرابع ۵۹۹ سورة الإسراء التفسير: عاد الحديث هنا مرة أخرى إلى الروح، حيث أخبر الله تعالى أن الفرق بين من يتلقى الوحي الإلهي وبين أولئك الذين يسمون "الأرواحيين" هو أن أصحاب الوحى الإلهى يوزعون الكنوز السماوية بغير حساب، لأن الله تعالى يأمر كل واحد منهم أن "بلغ، بلغ"؛ ولكن "الأرواحيين" يعيشون في سرية وغموض ورموز، ويستحلفون تلاميذهم ألا يكشفوا هذه الأسرار لأحد؛ فكيف يمكن أن يصبح هؤلاء هداة العالم وقادته.لقد تفشى هذا المرض في المتصوفين أيضًا في هذه الأيام.ألقيت ذات مرة خطابًا حول "ذكر الله تعالى"، وبينت فيه كثيرًا من طرق الذكر وفوائده.فبعث أحد الحاضرين إلي - وأنا أخطب - وريقةً كتب فيها: ما هذا الذي تفعل! إن المتصوفين لا يُسرّون للمُريد حتى بواحد من هذه المعارف الربانية إلا بعد أن يخدمهم لعدة سنوات.فما لك، تبوح بهذه الأسرار في جلسة واحدة! والحق أن لا سريّة في الدين.إن الله تعالى يريد لعباده جميعا أن ينالوا أعلى الدرجات من قربه.ولا حاجة له أن يضع العوائق أمام رقيهم، لأنه تعالى غير محدود، ودرجات الوصول إليه أيضًا غير محدودة، فلا يبخل بعلمه مخافة أن ينفد في يوم من الأيام فلا يجد ما يقدّمه لتعليم العباد، فيصبح هو وعباده سواسية.أما " الأرواحيون" فعلمهم محدود، ومعظمه باطل، فلو باحوا بأسرارهم كلها لم يرغب فيهم أحد.وبالفعل نرى في كل يوم جديد أنه ما إن يختار أحد من هؤلاء المتصوفين الزائفين خليفةٌ له إلا وتركه على الفور ، لينهج لنفسه طريقا خاصا به ويمارس ما يمارسه معلمه مستقلاً.ولكن لا أحد من تلاميذ الواصلين بالله تعالى يخذلهم، لأنه يدرك جيدا أن العلم الذي يتلقاه هذا الشخص من عند الله تعالى لن ينفد أبدًا، وأنه لو انفصل عن أستاذه لتوقف رقيه العلمي.إذا فإذا وجدنا الأرواحيين لا يكشفون لمريديهم عن اسم أو نقش إلا بعد أن يخدمهم عشر...سنوات مثلاً..فليس سببه إلا خوفهم أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلاً وأنه سوف
الجزء الرابع سورة الإسراء ينفد بسرعة.ولكن المعارف التي يهبها الله تعالى لأحد لا تنفد في الحقيقة، لأنه تعالى يمنحه المزيد منها كلما توشك على النفاد فلذلك لا يمكن أبدًا أن تقوم هذه العلوم المكتسبة بالتمارين المختلفة مقام الوحي الإلهي بحال من الأحوال.وَلَقَدْ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ وَايَتٍ بَيِّنَتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَمُوسَىٰ مَسْحُورًا ) شرح الكلمات: مسحورًا: سحره: عمل له السحر وخدعه.سحره عن الأمر: صرفه.سحره بكلامه وألحاظه : استماله وسلب لبه (الأقرب).التفسير: وجاء تفصيل هذه الآيات التسع في مواضع أخرى من القرآن كالآتي: ۱ - العَصَى، في قوله تعالى فألقى عصاه فإذا هي تعبان مبين (الأعراف: ۱۰۸) ٢- اليد البيضاء، في قوله تعالى ونزَع يَدَه فإذا هي بيضاء للناظرين) (الأعراف: ۱۰۹) ٣- القحط، في قوله تعالى ولقد أَخَذْنا آلَ فرعون بالسنين) (الأعراف: ۱۳۱) ٤- موت الأبكار من الأولاد، في قوله تعالى...ونَقْصٍ مِن الثّمرات لعلهم يذكرون) (الأعراف: (۱۳۱) ، لأن الثمرات ) هنا تعني أيضًا ثمار القلوب والأفئدة وهي الأولاد.ه إلى ٩- الطوفان الجراد القُمّل الضفادع والدم.وكل هذه الأنواع من العذاب مذكورة في قوله تعالى فأَرسَلْنا عليهم الطوفانَ والجَراد والقُمَّل والضفادع والدَّمَ آيات مفصلات (الأعراف: ١٣٤).
الجزء الرابع ٦٠١ سورة الإسراء واعلم أن الدم هنا يعني الأمراض التي يفسد أو يضيع فيها دم الإنسان مثل الرعاف والبثور والدمامل التي تسيل فيها الدماء بكثرة.لقد ورد في التوراة تفصيل غريب لهذه الآيات التسع لا حاجة بنا لمعرفته ولا لتصديقه.إن ما يهمنا هو أن الله تعالى آتى موسى التسع آيات ظهرت على فترات، كما هو ظاهر من كلمة مفصلات.بذكر سيدنا موسى وآياته هنا قد نبه الله اليهود أنه سيُريهم آياته كما أراها فرعون، ولكن كما أن فرعون لم ينتفع بها لن ينتفع بها هؤلاء أيضا، وسيغرقون في آخر الأمر غرقًا روحانيا.أرى أن هذه الآية تتضمن أيضا الإشارة إلى أنه سينزل باليهود المعاصرين للرسول ﷺ العذاب أو الآيات من الصنوف التسعة المذكورة، بيد أنه لم تتح لي الفرصة لفحص التاريخ من هذه الزاوية.قَالَ لَقَدْ عَلَمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَابِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا رْعَوْنُ مَثْبُورًا (3) شرح الكلمات: ۱۰۳ بصائر: جمع بصيرة وهي: العقلُ؛ الفطنة؛ ما يُستدل به؛ الحجة؛ العبرة؛ الشاهد (الأقرب).مثبورا ثبره : خيَّبه؛ لعَنه؛ طرده.ثبَره عن الأمر : منعه وصرفه.ثـبر الله زيدًا: أهلكه إهلاكًا دائما لا ينتعش بعده (الأقرب).التفسير: قال موسى الفرعون: إنك تعلم يا فرعون في قرارة نفسك أن العلمية رب السماوات والأرض هو الذي قد أنزل هذه الآيات تبصيرا للناس، وإنني على يقين أنك هالك لا محالة.
الجزء الرابع ٦٠٢ سورة الإسراء أو أنه أراد بقوله إني لأظنك يا فرعون مثبورًا أنك تسميني مسحورا لكي تشهر بي وتضعف قوتي، ولكن الله تعالى لن يدعك تظفر ببغيتك، بل سيردّك خائبا خاسراً ؛ ذلك أن من معاني الثبور خيبة الأمل أيضًا.والمقصود من هذا تحذيرُ اليهود من المصير الذي ينتظرهم، حيث يقول الله تعالى لهم: ترون الآية تلو الآية ومع ذلك تسمون نبينا خداعًا مكارًا، وهكذا فعل فرعون بموسى قبلكم.ولكن هل تعرفون كيف كان مصيره؟ فَأَرَادَ أَن يَسْتَرِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا (1) ر ١٠٤ التفسير: أي كان فرعون يريد أن يطردهم من الأرض أذلاء صاغرين، ولكنه غرق بنفسه.إن أهل الكتاب أيضًا تآمروا مع الكفار ضد الرسول ﷺ حين جعلوه يخرج لمحاربة جيوش قيصر ولكن الله تعالى خيب كيدهم بفضله، حيث رجع النبي ﷺ من تبوك معافى معزّزاً تاريخ الخميس: الجزء الثاني، غزوة تبوك).وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَاءِيلَ أَسْكُنُواْ الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِفْنَا بِكُمْ لَا ) شرح الكلمات: 1.0 لفيفا: لَفّه: ضمَّه وجمعه.لفّ الشيء بالشيء: ضمه إليه ووصله به.لف الكتيبتين: خلط بينهما في الحرب.اللفيف: المجموع؛ ما اجتمع من الناس من قبائل شتّى (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٠٣ سورة الإسراء التفسير: اعلم أن "الأرض" في قوله تعالى اسكنوا الأرض لا تعني بلاد لأن مصر، بني إسرائيل لم يقيموا بعد ذلك في مصر، وإنما المراد منها الأرض المعهودة في ذهنهم..أي بلاد كنعان التي وعدوا بها.إن للنبي ﷺ فضلا على موسى الا من هذه الناحية أيضا، ذلك أن الأرض التي نالها موسى لم تكن ملك مصر نفسها، وإنما أرضًا بديلة عنها؛ ولكن الرسول ﷺ قد نال الأرض التي هي وطنه، إضافة إلى بلاد الأعداء.أما قوله تعالى فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا فيعني اذهبوا الآن إلى كنعان، ولكنكم ستضطرون للخروج منها بعد فترة من الزمن، ثم يعيدكم الله إليها بعد حين تارةً أخرى، ولكنكم ستعصون الله ثانيةً ليحل بكم العذاب تارة أخرى، وعندها ستبقون في المنفى إلى أن يحين زمن تحقق نبأ الدمار الثاني جعلت مثيلة للأمة اليهودية، وعندها ستُحشرون من شتى البلاد للأمة * التي هي إلى الأرض المقدسة.تؤكد هذه الآية أنه كما ورد في مستهل هذه السورة النبأ عن دمارين يحلان ببني إسرائيل، كذلك هناك نبأ مماثل يتعلق بالأمة المسلمة التي جعلت مثيلة للأمة الإسرائيلية، كمـا جُعل الرسول له مثيلا لموسى (المزمل: ١٦).والدليل على ذلك هو أن هذه السورة تحدثت في بدايتها عن وعدين لبني إسرائيل، وكلاهما العذاب، وقد تحقق أحدهما على يد الملك البابلي نبوخذنصر، وثانيهما على يد الملك الرومي تيطس Titus (راجع تفسير أوائل هذه السورة).وليس في هذين الوعدين أي ذكر عن جمع الإسرائيليين مرة أخرى، وإنما ينبثان عن تشريدهم.ولكن هذه الآية تنبئ أنه لدى تحقق الوعد الآخر سيؤتى بهم إلى الأرض المقدسة مرة أخرى مما يعني أن الوعد الآخر هذا هو غير الوعد المذكور من قبل والمسمى أيضا بـ (وَعْد الآخرة - وأن معه وعدًا آخر هو الوعد الأول.ولو عن * ' أي الأمة المحمدية (المترجم)
الجزء الرابع فريقا ٦٠٤ سورة الإسراء أمعنا النظر في القرآن الكريم لم نجد فيه هذين الوعدين إلا على النحو التالي: إن سيدنا محمدًا رسول الله له مثيل لموسى ال، وأن سورة الفاتحة تتضمن نباً أن من الأمة المسلمة سوف يتبعون سُنن أهل الكتاب؛ وبالربط بين هذين الأمرين نستنتج أن هناك وعدين لعذاب المسلمين أيضا مرتين كما كان ثمة وعــــدان لعذاب بني إسرائيل مرتين، وأن الوعد المشار إليه في قوله تعالى وعد الآخرة يعني العذاب الثاني للمسلمين، حيث أخبر الله تعالى اليهود أنه لما يحين موعد العذاب الثاني للمسلمين وتخرج الأرض المقدسة من أيديهم لفترة من الزمن سوف يأتي الله بكم إلى هذه البلاد مرة أخرى.وبالفعل هذا ما حدث فكما أن الأرض المقدسة خرجت من أيدي اليهود في زمن نبوخذ نصر لأول مرة، كذلك خرجت أيضًا من أيدي المسلمين إبان الحروب الصليبية (راجع تاريخ القدس لعارف باشا، باب: القدس وحملات الصليبيين).وكما تم نفي اليهود من الأرض المقدسة بعد ثلاثة عشر قرنًا من زمن موسى بعد حادث صلب المسيح الله الذي مات عندها في الظاهر بالنسبة العليا..أعني - لأهل هذه البلاد، كذلك تماما بعد انقضاء نفس الفترة الزمنية على وفاة النبي - قُضي في عصرنا هذا على حكم المسلمين في الأرض المقدسة مرة أخرى.وبحسب نبأ القرآن الكريم، فإن دمار المسلمين الثاني كان سببا في عودة اليهود إلى الأرض المقدسة تارةً أخرى.ورد في فتح البيان في تفسير هذه الآية: "وقيل: أراد بـ (وعد الآخرة نزول عيسى من السماء." (فتح) البيان، والقرطبي).وهذا القول أيضًا يؤيد رأيي.قلے وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (3) 1.7 التفسير: لما كان النبأ المتعلق بقوم موسى ال يتضمن نبأ أن أمة النبي أيضا العلية لا ستواجه وقتًا صعبًا مرتين، لذا جاءت هذه الآية تأييدا لهذا المعنى مؤكدةً أن هذا النبأ سيتحقق حتمًا.
الجزء الرابع ٦٠٥ سورة الإسراء واعلم أن هذه الآية تُبطل - ضمنيًّا - زَعْمَ الذين قالوا أن الشيطان كان يتدخل فيما نزل على النبي ﷺ من وحي الله تعالى ذلك أنه تعالى يعلن هنا أننا بالحق أنزلنا القرآن كما أنه بالحق نزل على محمد؛ فما دام القرآن قد وصل إلى الرسول بالحق فلا مجال لتدخل الشيطان فيه.وقال الله تعالى في المقطع الأخير : قد أرسلناك أيضًا بشيرا ونذيرا مثل موسى، فكما أن قومه حققوا الازدهار سيحقق قومك الازدهار، وكما أن أعداءه هلكوا سوف يهلك أعداؤك أيضًا.وَقُرْءَ أَنا فَرَقْتَهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْتَ وَنَزَّلْتَهُ تنزيلاً ۱۰۷ شرح الكلمات فرَقْناه: فرق بينهما: فصل أبعاضهما.فرق له عن الشيء: بينه (الأقرب).وقوله تعالى وقرانا فرقناه يعني بينا فيه الأحكام وفصلناه.وقيل: فرقناه أي أنزلناه مفرقًا (المفردات).مُكث : مكث يمكث مُكنَّا لَبِثَ؛ رَزَنَ (الأقرب).المكث: ثبات مع انتظار (المفردات).التفسير : قوله تعالى وقُرآنًا (فرقناه يعني أنزلناه أجزاء مفرقة.ذلك أن آيات من شتى سور القرآن كانت تنزل في فترة واحدة، كما أن بعض السور الأسبق نزولاً كانت تدوّن لاحقةً للسور المتأخرة نزولاً، والعكس أيضا
الجزء الرابع سورة الإسراء صحيح؛ وكان الاعتراض على نزول وتدوين القرآن الكريم بهذا الشكل أمرًا واردا، فدحضه الله تعالى بقوله لتقرأه على الناس على مكث..أي أنزلناه بهذا الشكل كيلا تصاب بالقلق والاضطراب عند القراءة.والحق أن هذا رد مفحم جدًّا ! ذلك أن خطاب الرسول ﷺ كان موجها إلى نوعين من الناس: النوع الأول هم أولئك الذين خوطبوا خطابًا مؤقتًا، وهم الكفار في زمنه ، والنوع الثاني هم أولئك الذين كان الخطاب موجها إليهم بشكل دائم، وهم المؤمنون والذين سيأتون فيما بعد.وكانت القضايا ذات الصفة الدائمة تتطلب ترتيبا للقرآن الكريم مغايرا للترتيب الذي تقتضيه الحاجات المؤقتة، ذلك أن السور التي كانت تستحق أن يتأخر نزولها بسبب الحاجات ذات الصبغة الدائمة، كانت الحاجات الطارئة – في الوقت نفسه – تتطلب نزول تلك السور فورا ؛ وكذلك كانت الظروف تتطلب بيان مضامين معينة لسورة واحدة قبل ذكر مضامينها الأخرى.فلو لم تُراع الحاجات المؤقتة ما استطاع المسلمون الرد على مطاعن الكفار لسنوات عديدة، كذلك لو لم تتم مراعاة القضايا الدائمة الصفة لما كان القرآن نافعًا في المستقبل.فالله تعالى يوضح هنا أنه أنزل القرآن على أجزاء مفرقة وفقًا للحاجات الطارئة، فأحيانًا عجّل نزول ما هو متأخر من حيث التدوين، كما فعل العكس أيضًا؛ ثم أمر بتدوينه بترتيب آخر سدا للحاجات التي هي ذات صبغة دائمة.وقد أشار الله إلى ذلك في موضع آخر أيضًا بقوله إن علينا جَمْعَه وقرآنه (القيامة: ۱۸)..أي لم يُرتب القرآن نهائيًا بعد، بل سنعيد ترتيبه على شكل بعد اكتمال نزول هذه الأجزاء المتفرقة من الوحي، ليقرأ عندئذ وفقا نهائی لذلك الترتيب.لقدرة الله الا الله بهذه الآية على من قد يعترض قائلا: كيف يمكن أن تتضمن سورة الإسراء الردّ على قضايا ذات صلة بالسور النازلة بعد سورة الإسراء؟
الجزء الرابع ٦٠٧ سورة الإسراء قُلْ عَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ تَحِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا شرح الكلمات ۱۰۸ الأذقان: جمعُ الدَّقن وهو مجتمع اللحيين من أسفلهما.وفي المثل: "مُثْقَل استعانَ بذقنه"، يُضرب لمن استعان بأذل منه (الأقرب).فقوله تعالى يخرّون على الأذقان)) إشارة إلى غاية تذللهم.التفسير: اعلم أن ليس المراد من الذين أُوتُوا العلم أهل الكتاب، لأن الكتابيين هم أول المخاطبين في هذه السورة وإنما المراد منه المسلمون الذين أدركوا الحقيقة من قبل، أي قبل نزول هذه الآية، وأيقنوا بصدق الإسلام، وعلموا أن رقي العالم منوط الآن باتباع القرآن الكريم.أما قوله تعالى يخرون للأذقان فاعلم أن الذقن يكون في أسفل الوجه، فالمراد منه الركوع أو السجود.لقد علمنا هنا الطريقة الإسلامية لإظهار الخشوع والخضوع أمام الله تعالى.بينما نجد بعض الأمم، كالنصارى وغيرهم يرفعون وجوههم إلى الأعلى حين ينحنون للسجود إلى الأسفل، فنجد في الصور المسيحية أنهم رسموا سيدنا عيسى و مريم عليهما السلام في حالة العبادة وقد رفعا وجهَهما إلى السماء.وَيَقُولُونَ سُبْحَنَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَ عُولاً ۱۰۹ التفسير : لقد دلت هذه الآية دلالةً واضحةً على أن الآيات السابقة تضمنت وعود رقي المؤمنين، وأن "الإسراء" لم يكن مجرد خبر عن حادث، بل كان وعدًا لغلبة النبي الله والمؤمنين، حيث قال الله تعالى في مستهل هذه السورة سبحان
الجزء الرابع ٦٠٨ سورة الإسراء الذي أسرى بعبده، وهنا أيضا قال سبحان ربنا ، تنبيها إلى أنه قد قطع هنا وعدًا برقي المسلمين ونجاحهم.كما تتضمن كلمة سبحان إشارة أخرى وهي التأكيد على انتصار المسلمين وهلاك الكفار لأن عدم انتصارهم يؤدي إلى الطعن في قدوسية الله وسبوحيته يا الله وَتَخِرُونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا 11.التفسير: لقد بين الله هنا حالة قلب المؤمن وقت السجود، حيث أخبر أنه يكون عند السجود في أسمى مقام الإنابة.إنه لا يسجد رياء، بل ما إن يخرّ ساجدًا حتى تسيل عيونه الدموع من تلقائها.كما أن من صفات المؤمن أن عبادته لا تجعله متكبرا ، بل يزيده سجوده خشوعًا وتواضعًا.قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ ج الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَ بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلاً ۱۱۱ شرح الكلمات: لا تَجهَرْ جَهَر الكلام وبالكلام أعلنه جهر الصوت أعلاه (الأقرب).لا تُخافت حَفَتَ بكلامه وخافَت به : أَسَرَّ مَنطقه حفت بصوته: حفضه وأخفاه و لم يرفعه (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٠٩ سورة الإسراء التفسير: كان الحديث في الآيات الماضية يدور حول السجود والعبادة التي يُتوقع من المؤمنين القيام بها زمن ،رقيهم، أما هنا فبيّن الله لهم أسلوب الدعاء في السجود، حيث قال لهم: أدعونا كما نعلمكم في سجودكم من أجل تحقيق هذه الوعود وإصلاحكم.أما تفصيل هذا الأمر الإلهي فهو كما يلي: لقد ذكر القرآن الكريم والحديث الشريف أدعية شتى مع مناسباتها، ولذلك قال تعالى هنا: فله الأسماء الحسنى..أي لكل مطلب اسم ملائم من أسماء الله تعالى، فادعوه بالاسم الملائم لمطلبكم.فحين تكون الحاجة لإثارة صفة الرحمانية فادعوه تعالى باسمه الرحمن ونفس الحال بالنسبة لصفاته الرحيم والرزاق والوهاب؛ لأن كل الأسماء الحسنى هي له الله، فادعوه بالاسم المناسب لحاجتكم.وقد جربتُ بنفسي أن الدعاء على هذا النحو يكون مؤثرًا جدًّا.وليس بمستبعد أن تكون هذه الآية ردًّا على ادعاء اليهود بمعرفة "الاسم الأعظم"..حيث نبه الله أن تحديد اسم معين من أسماء الله على أنه "الاسم الأعظم" خطأ.فعلى الإنسان أن ينادي الله تعالى باسم يناسب حاجته، وإذا لم يحضره ذلك الاسم المناسب وقت الدعاء فليعلم أن جميع أسمائه العظيمة، فليَدْعُه بأي منها، وسوف يستجيب الله له نظرا إلى حالته القلبية.أما قوله تعالى ولا تَجهَرْ بصلاتك ولا تُخافِتْ بها وابتغ بين ذلك سبيلا فاعلم أن الصلاة تعني العبادة والدعاء أيضًا، وما دام الحديث هنا يدور حول الدعاء.الدعاء فالصلاة هنا تعني ذلك روي أن النبي مرّ بأصحاب له كانوا يدعون بصوت عال، فنهاهم عن وقال: إنكم لا تدعون إلها أصمَّ! إنه يسمع حتى حسيس النمل.* * أقرب رواية وجدناها بهذا المعنى هي: "إنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا.إنكم تدعون سميعًا قريبا، وهو معكم" (البخاري: المغازي).
الجزء الرابع 71.سورة الإسراء لقد نهى القرآن الكريم عن الدعاء بصوت خافت جدا أيضًا، ذلك أن هذا الطريق لا يساعد على التركيز.إنما ينبغي للإنسان أن يدعو بحيث يشعر بخروج الكلمات من اللسان، وهذا سيساعده على التركيز أيضًا.فأما النهي عن الدعاء بصوت عال فقد جاء نظراً إلى عظمة شأنه ، وأما النهي عن الدعاء بصوت خافض جدًّا فذلك نظرًا إلى ضعف الإنسان.وَقُل أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكُ فِي صلے الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلَى مِنَ الذُّلِّ وَكَبَرْهُ تَكْبِيرًا ) 6 ۱۱۲ التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا أنه سينجز حتمًا وعده الذي قطعه في كشف "الإسراء"، وأنه لن تُنشد في الكون إلا أناشيد ذلك الإله الواحد الذي لا شريك له.لو كان لله ولد - كما زعم الذين ينتمون إلى أهل القدس - لما كان للمسلمين ولي ولا نصير ولو كان الله شريك - كما زعم المكيون - فمن الذي كان سيهب الملك للمسلمين وكأنه تعالى يقول: إن كلا من هاتين الأمتين المشركتين عدو للمسلمين، ولو كان الشرك حقًا لما أفلح المسلمون قط.ولكن ما دام الله تعالى قد جعلهم - رغم ضعفهم الشديد - غالبين على أعدائهم هؤلاء جميعًا فثبت أن الله واحد لا شريك له.ثم قال تعالى ولم يكن له ولي من الدل، لأن الأصدقاء نوعان: صديق يتخذه الإنسان رحمة به وإحسانًا إليه، والله تعالى يتخذ أصدقاءه على هذا المنوال، إذ لا يتنافى ذلك مع عظمته ؛ والنوع الآخر هو صديق يتخذه الإنسان عن عوز وحاجة ليكون له عونًا وسندًا وقت الحاجة، واتخاذ صديق كهذا ينافي عظمة الله تعالى.
الجزء الرابع ٦١١ سورة الإسراء واختتم السورة بقوله تعالى وكبره تكبيرًا، وكأنه تعالى أشار بذلك ثانيةً إلى انتصار المسلمين على أهل الكتاب، وأنه كما كان انتصار المسلمين على المكيين شهادةً على زيف أصنامهم، كذلك سيشكل انتصار المسلمين على الكتابيين برهانا على أن الذين قالوا المسيح ابن الله أو عُزَيرٌ ابنُ الله هم على الباطل؛ وأن غلبة المسلمين ستؤدي إلى انتشار توحيد الإله الواحد في البلاد كلها، وأن جميع أولئك الذين جعلوا الله ابنا أو اتخذوا مع الله شريكًا سيُؤتى بهم تحت سيادة محمد رسول الله، وأن هذا العبد الضعيف الحيلة والقوة سوف يعطى قوة وعزة وغلبة، ليكون هذا برهانًا على أنه تعالى أكبر وأعظم من كل القوى.هذا هو سبب انتهاء هذه السورة بقوله تعالى وكبّره تكبيرًا.تعالوا معي نمتثل لأمر الله هذا، ونعلن : الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر!
الجزء الرابع ٦١٣ سورة الكهف سورة الكهف مكية وهي مع البسملة مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعًا.روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم أن سورة الكهف كلها نزلت بمكة (الدر المنثور.ويبدو أن المفسرين قد أجمعوا على كونها مكية.وهناك رواية عن عبد الله ابن مسعود له تقول إن الكهف ليست بمكية فحسب، بل هي من أوائل الوحي، حيث قال عن بني إسرائيل والكهف ومريم: "إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي البخاري: التفسير، سورة بني إسرائيل).ويـــرى الآخرون أنها من السور التي نزلت دفعةً واحدةً، حيث ورد عن أنس عن النبي ﷺ: "نزلت سورة الكهف جملةً معها سبعون ألفا من الملائكة" (الــدر : المنثور، وفردوس الأخبار للديلمي الجزء الخامس ص ۲۷ رقم الحديث ٧٠٧٠) مع العلم أن هذا الحديث لا يعني أن حماية الملائكة لبعض السور أكثر من غيرها، لأن التسليم بهذا يؤدي إلى القول بأن بعض السور أقل حفظا من غيرها، وهذا غلط بالبداهة فنزول الملائكة لحماية سورة من السور لا يعني حمايتها وقت النزول، وإنما المراد به حمايتها فيما بعد ذلك أن كل سورة تتضمن موضوعًا معينا، وتتضمن أحيانًا بعض الأنباء التي يشكل تحققها برهانًا على صدق تلك السورة؛ وهذه الأنباء تخص التغيرات الطبيعية تارةً، كما تكون ذات علاقة بالأعمال الإنسانية تارةً أخرى.والنبوءات المتعلقة بالأعمال الإنسانية تكون ذاتَ أهمية قصوى، لأن الذين تحذرهم هذه النبوءات من العذاب يسعون جاهدين لدفع عن أنفسهم.وبما أن الأنباء يتم إعلانها في ظروف غير مواتية جدًّا على العذاب العموم لذلك يُعتبر تحققها ضربًا من المحال أو صعب الوقوع نظرا إلى الأسباب المادية، ولا يمكن أن تتحقق من أن دون يأتي الله بنصره من الغيب.فإذا نزلت سورة فيها أنباء قد تسعى القوى المعادية جاهدةً لإبطالها، أَمَرَ الله تعالى ملائكته
الجزء الرابع ٦١٤ سورة الكهف المدبرين لمختلف شؤون الدنيا أن يخلقوا الأسباب المؤاتية حتى تتحقق تلك الأنباء بدون أي عائق.والجلي أنه كلما كان النبأ ذا تأثير أوسع كان مكر العدو لإبطاله أكبر، وتعددت الوسائل التي يستخدمها لذلك، وبالتالي فإن الله سيسخر الأسباب تحقيقا لذلك النبأ بالقدر نفسه.فبما أن جميع أسباب العالم مفوضة إلى الملائكة، يدبــــرونها وفق القوانين التي وضعها الله تعالى، لذلك إذا تضمنت سورة نبأ إلهيًّا كهــذا يؤمــــر الملائكة – الذين سيتحقق النبأ من خلال الأسباب التي هي تدبيرهم - أن يحافظوا على مضمون تلك السورة..أي أن يهيئوا الأسباب الضرورية لتحقق النبأ الوارد فيها.إذا فالحماية لا تكون وقت نزول السورة من السماء إلى الأرض، وإنما تبدأ الحماية الحقيقية بعد نزولها، وتستمر إلى أن يتحقق ما في السورة من نبوءات.تحت أما فيما يتعلق بالتدخل الشيطاني أو التحريف الإنساني، فكل سورة بل كل آية ولفظ، وحتى كل حركة وسكون من القرآن الكريم، محفوظة على حد سواء وستظل محفوظة هكذا، ولا خصوصية لبعضها دون غيرها بهذا الشأن.وبما أن سورة الكهف تنطوي على نبأ هلاك الأمم الجبارة مثل يأجوج ومأجوج وكذلك على الفتنة المسيحية الأخيرة..فنزول سبعين ألف ملك مع هذه السورة يعني أنه تعالى قد سخر منذ نزولها آلافا من الملائكة لتحقيق هذا النبأ الوارد فيها.زمن نزولها يرى الكتاب المسيحيون أن سورة الكهف نزلت في حوالي السنة السادسة من البعثة النبوية (تفسير القرآن لـ "ويري"، ولكنها على الأرجح نزلت في السنة الرابعة أو الخامسة من البعثة النبوية كما تدل عليه رواية عبد التي سبق ذكرها آنفا.علاقة سورة الكهف بسورة الإسراء الله أما علاقتها بسورة الإسراء فقد ذكرها المفسرون على النحو الآتي: بن مسعود به
الجزء الرابع سورة الكهف لقد سأل اليهود النبي عن ثلاثة أشياء: الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فتأخر الرد عن الروح فوضع في سورة الإسراء، بينما جاء الرد على السؤالين الآخرين عاجلاً ودفعة واحدة فوضع في سورة الكهف (البحر المحيط، والدر المنثور).ولكن هذا الجواب ليس مقنعًا، لأن سورة الكهف تحتوي على مواضيع أخرى أيضا كتمثيل الجنتين وسَفَر موسى وغيرهما.والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، والذي لزم المفسرون الصمت تجاهه هو : لماذا ذكرت هذه المواضيع الأخرى في سورة الكهف؟ أما القسيس "ويرى" فيقول نظراً إلى الأحداث التي وردت في هذه السورة: يجب تسميتها سورة العجائب (تفسير القرآن لـ "ويرى" وأرى أن المفسرين المسلمين لم يأتوا بتفسير صحيح، كما أن القس "ويرى" أيضًا غير مصيب في حكمه، لأنهم جميعًا فشلوا في استيعاب موضوع السورة وغايتها.الحق أن أذهان المفسرين ظلت منشغلة ببعض الروايات الناقصة أو الضعيفة القائلة بأن اليهود سألوا النبي ﷺ عن ثلاث مسائل غريبة، وبما أن الجواب على هذه المسائل ورد في هذه السورة، فلم يحاولوا التدبر في هذه السورة من أي منظور آخر.مع أنه ليس من المقبول أبدا القول بأن حادثا من الأحداث يُذكر في القرآن الكريم فقط لأن اليهود أثاروا السؤال حوله.إن القرآن الكريم منهج متكامل، ولا علاقة له بسؤال أحد أو عدمه، وكان لا بد له أن يذكر كل ما يتعلق بالأخلاق والعبادة والروحانية والتقوى والمدنية والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك.فإذا كانت هذه المسائل الثلاث ذات صلة بالدين والأمانة فكان لا بد أن يبينها القرآن = في كل حال، ولولا ذلك لما ذكرها القرآن قط وإن سأل عنها اليهود مليون مرة.كما ليس من المقبول أيضًا أن يقال بأن هذه الأمور قد ذُكرت معا لأن اليهود أيضًا سألوا عنها في وقت واحد.ذلك أن المرء في بعض الأحيان يسأل عن عدة أمور، ولا بأس أن يجاب عليها بحسب ترتيبها في جلسة واحدة، ولكن لا يليق
الجزء الرابع سورة الكهف مطلقًا بكتاب سماوي عالمى أبدي لا يختص بقوم أو عصر معين أن يجيب في وقت واحد على أمور متفرقة دون النظر فيما إذا وجدت بينها صلة أم لا؟ لذلك كله أرى أن هذه الأفكار نشأت عن قلة التدبر، أو أن موعد حل تلك الإشكالات لم يكن قد حان آنذاك.ثم إنه لمما يخالف العقل تمامًا وينا في عظمة القرآن كلية القول بأن الجواب على المسألتين نزل عاجلا فوضع في سورة الكهف، بينما تأخر الجواب على المسألة الثالثة فوضع في سورة الإسراء.السؤال المعقول الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الداعي لتعجيل الجواب على المسألتين دون الثالثة؟ ومن المفسرين من أرجع ذلك إلى سبب آخر فقال: ذلك لأن القرآن أجاب على السؤالين، ولكنه اعتذر عن الرد على السؤال الثالث! وأقول: أولاً، إن هذا القول دليل على جهل صاحبه، لأن القرآن الكريم لم يعتذر ولم يتردد في الجواب أبدًا، بل أجاب على السؤال المتعلق بالروح إجابة مكتملة شافية.وثانيا، إن رأيه هذا أيضا مبني على الفكرة نفسها بأن الله تعالى كان بحاجة إلى أسئلة اليهود لبيان الأحكام في كتاب هو آخر الكتب وأكملها، أو أنه الله كان مضطراً أن لا يبينها إلا بعد أن يسأل اليهود عنها الحق أن القرآن يجيب على كل شبهة من شبهات اليهود والمشركين، ولكن ليس نتيجة سؤالهم، بل كلما تناول القرآن موضوعًا من المواضيع أجاب على كل ما يمكن أن يثار ضده من وساوس وشبهات، بغض النظر فيما إذا أثارها اليهود والمشركون أم لا، أو أثاروها في تلك المناسبة أو في غيرها.الحق أن القرآن الكريم لا يبالي بالدواعي العابرة أبدا، وإنما يركز على موضوعه الأساسي، لأنه لم ينزل لأهل زمنه فقط، وإنما للعصور كلها، لذلك فهو يركز على الرد على كافة الاعتراضات التي يمكن أن تثار حول الموضوع الذي هو بصدده، بغض النظر أن يثيرها أحد أو لا؟
الجزء الرابع ٦١٧ سورة الكهف وجدير بالانتباه أن الروايات التي بني عليها المفسرون آراءهم تبدو مجروحة عقلاً ونقلاً.فهناك رواية منسوبة إلى ابن عباس مفادها أن أهل مكة بعثوا وفدًا إلى يهود المدينة، وقالوا لهم: إن شخصا عندنا قد ادّعى النبوة، فأعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل حتى ينكشف على الناس كذبه؟ فقالوا: سلُوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول.فرجع الوفد، وسألوا النبي ﷺ ما يلي: من هم أصحاب الكهف؟ ما هو حديث ذي القرنين؟ ما هي الروح؟ فقال لهم النبي : أخبركم غدًا.ولكن الوحى توقف عنه لخمسة عشر يوما، فحزن حزنا شديدًا، وفرح الكفار.وأخيرًا نزل جبريل بالوحي، فقال له النبي ﷺ: لماذا تأخرت كل هذه الفترة؟ قال : عتابا من الله تعالى لأنك لم تستثن..أي لم تقل: إن شاء الله.ثم أخبر النبي بجواب الأسئلة الثلاثة.فورد جواب السؤالين في سورة الكهف، بينما جاء جواب الثالث في سورة الإسراء (الدر المنثور، سورة الكهف) وهناك رواية أخرى تُعزى أيضا إلى ابن عباس الله أن الكافرين بعثوا وفدًا إلى يهود المدينة يستشيرونهم في شأن رسول الله ﷺ فقالوا: "سَلُوه عن ثلاث خصال: أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح.فإن يخبركم بخصلتين، ولا يخبر بالثالثة، فإنه نبي، وأما إذا لم يستطع الإجابة على هذه المسائل أو أجاب عن الروح أيضًا فهو مفتر.* فإنا قد سألنا مسيلمة الكذاب عن هؤلاء الثلاث فلم يدر ما هي.وبعدها تقول هذه الرواية نفس ما ورد في الرواية السابقة، إلا أنها تضيف في الأخير فأخبرهم النبي علي الله عن حديث ذي القرنين وأصحاب الكهف، وقال عن الروح قل الروح من أمر ربي (انظر المرجع السابق).فأولاً : تُعزى هذه الروايات إلى ابن عباس الله الذي ولد بعد هذا الحادث بثلاث أو أربع سنوات.فلو كان هذا الحادث غير هام لقلنا إن غيره من الصحابة لم يــــرووه لأنهم لم يروا حاجة إلى ذكر هذا الحادث غير الهام.ولو كان حادئًا يخص * لم نستطع العثور على رواية فيها الكلمات التي تحتها الخط.(المترجم)
الجزء الرابع ٦١٨ سورة الكهف من أهل بيت الرسول ﷺ فقط لقلنا إن أهل بيته هم أدرى به.ولكن هذا الحادث يبلغ الأهمية بحيث إن أهل مكة يبعثون وفدًا إلى المدينة التي تبعد عن مكة ثلاث مائة ميل، ثم يرجع الوفد ويسأل النبي الله عن الأسئلة الثلاثة؛ ويتوقف الوحي، فيفرح الكفار ويحزن النبي و و و و و و ولكن الغريب أننا لا نجد من بين الصحابة الموجودين في تلك الفترة أحدا يروي حادثًا كهذا، والشخص الوحيد الذي يرويه لم يكن قد ولد بعد! والاعتراض الآخر هو أن الروايتين تُنسبان إلى ابن عباس، وكل واحدة منهما تعارض الأخرى، حيث تقول إحداهما بأن اليهود قالوا: إذا لم يستطع الإجابة على المسائل الثلاث فإنه متقول، بينما تقول الرواية الأخرى إنهم قالوا إنه سيخبركم بخصلتين، ولا يخبر بالثالثة وإن أخبر بالثالثة أيضًا فهو كاذب.فبأي الروايتين نأخذ؟ فلو أخذنا بالتي تقول إنه سيخبر عن الأمور الثلاثة إن كان صادقا فماذا يفعل الذين يقولون: لم لم يأت الجواب على الأمر الثالث؟ هل يكذبون الرواية الأخرى أم يكذبون – والعياذ بالله النبي ؟ أما إذا أخذنا بالرواية القائلة بأنه لو أجاب عن الروح أيضًا فهو كاذب فماذا يفعل من يرى أن في قوله تعالى قل الروح من أمر ربي) جوابًا شاملاً شافيًا؟ هل يكذب الرواية الأخرى أم يكذب والعياذ بالله - النبي ؟ - أما أنا فأرى أن ما ورد في الروايتين مخالف للعقل، لذلك كلتاهما باطلة، والرسول صادق لا محالة.أما الدليل على كونهما خلافًا للعقل فبيانه كالآتي: هل كان اليهود يعلمون جواب الأسئلة الثلاثة أم لا؟ فإذا كانوا يعلمون جوابها فمن الغباء الشديد أن يوجهوا إلى النبي لمعرفة صدقه الأسئلة التي يعرف جوابها آلاف اليهود.لنفترض أن متنبئاً كذابا سمع من اليهود جواب تلك الأسئلة وأجاب عليها جوابًا صحيحًا، فهل يُعتبر ذلك الكذاب نبيًّا صادقًا؟
الجزء الرابع ٦١٩ سورة الكهف ولو قيل: إن اليهود ما كانوا يعرفون جواب الأسئلة، فأقول: أفليس من الحمق الشديد أن يوجه اليهود إلى النبي ، المعرفة صدقه، أسئلة لم يكن لهم علم بأجوبتها الصحيحة؟ وما داموا لا يعرفون ما إذا كانت تلك الأجوبة صحيحة أم خاطئة فهل يصدّقونه بمجرد أن يجيب عليها بأي شيء؟ نفس الاعتراض يقع على السؤالين الواردين في الرواية الثانية أيضًا.وبما أن الإجابة الصحيحة المعقولة على هذا الاعتراض مستحيلة فلا شك أن الروايتين من اختلاق بعض الكاذبين.والاعتراض الثالث الذي يقع على الرواية الثانية هو : قيل فيها أن اليهود قالوا للوفد إنا قد سألنا مسيلمة الكذاب عن هؤلاء الثلاث فلم يدر ما هي.وهذا الجزء من الرواية يكفي لإبطالها.ذلك أنه مما لا شك فيه أن مسيلمة كان من كبار بني حنيفة، ولكن الثابت من التاريخ أنهم كانوا مسيحيين قبل أن يُسلموا على يد رسول الله الله بعد صلح الحديبية، وأن مسيلمة - الذي ارتد وادعى النبوة فيما بعد - أتى المدينة مع قومه ، وأسلم، وأن الرسول ﷺ أمر قومه أن يرجعوا إلى ديارهم ويتخذوا كنيستهم مسجدا، ويواظبوا على الصلوات.(الزرقاني: الجزء الرابع، الوفد الخامس؛ وطبقات ابن سعد: ذكرُ وفادات العرب على رسول الله ، وفد بني حنيفة؛ وحياة محمد للسير وليم موير) فثبت أن مسيلمة ادعى النبوة في أواخر الفترة المدنية من حياة نبينا.فكيف يمكن إذا أن يذهب إليه اليهود ويسألوه عن هذه الأمور الثلاثة مع أنها تتعلق بالفترة التي كان فيها الرسول مقيمًا بمكة، والتي لم يكن مسيلمة الكذاب قد ادعى فيها النبوة بعد؟ إذا فالراويتان خاطئتان وباطلتان تمامًا، ولا يمكن تفسير آيات القرآن بناء عليهما.أما وقد ثبت بطلان هاتين الروايتين فيجب ألا نعيرهما اهتمامًا، وإنما علينا أن نتدبر القرآن لندرك الحكمة في ترتيب مضامين هذه السورة.
الجزء الرابع ٦٢٠ سورة الكهف وأخبركم الآن بما فتح الله علي بهذا الصدد، مبينا لكم العلاقة بين سورة وعمل الكهف وسورة الإسراء من ناحية، وبين الأحداث الواردة في هذه السورة وبين ما ورد في سورة الإسراء من ناحية أخرى.فاعلموا أنني قد برهنت من قبل أن سورة النحل تضمنت نبأ عن صدام المسلمين باليهود والنصارى، وأن سورة الإسراء زادت هذا النبأ إيضاحا حيث بينت أن الله تعالى سوف يذهب برسوله لها إلى المكان الذي يكون له فيه احتكاك باليهود والنصارى، وأنهم أيضًا سيعارضونه ، فينهزمون.كما تضمنت سورة الإسراء كشفا فيه نبأ عن استيلاء النبي الهلال الهلال على المناطق الموعودة لليهود.كما ذکرت سورة الإسراء كذلك أنه كان من المقدر لليهود أن يتمردوا ويفسدوا في الأرض مرتين؛ وسيتم التمرد الأول في زمن داود الله، فيطردون من بلادهم بسبب ،تمردهم ثم يتوبون فيعود بهم الله إلى بلادهم مرة أخرى والتمرد الثاني سيكون في عهد المسيح، فتُهدَم معابدهم، ويُجلون من أرضهم الموعودة.كانت هذه النبوءات تتحدث عن الجزء الأول من الأمة الموسوية وهم اليهود، ولكن كان هناك سؤال لا بد من الرد عليه وهو أنه لا زال هناك الجزء الآخر من الأمة الموسوية أي ،النصارى وهم لم يشتركوا في العذاب الذي حل باليهود؛ فلم لا يُفهم من ذلك أن الأنباء الواردة عن رقي الأمة الموسوية ستتحقق بواسطة النصارى بعد هلاك اليهود؟ كما كان هناك سؤال آخر يتطلب الرد أيضًا وهو ماذا سيحدث في المستقبل بالمسلمين الذين حذرهم الله تعالى من اتباع خطوات اليهود حتى لا يتعرضوا للدمارين مثلهم؟ فجاءت سورة الكهف بالجواب على هذين السؤالين حيث تناولت حالات الجزء الأمة الموسوية أي النصارى؛ كما أخبرت كيف يعامل الله تعالى أولئك الثاني من المسلمين الذين سيتبعون خطوات اليهود.
الجزء الرابع ٦٢١ سورة الكهف هذا، وهناك سؤال آخر: ما هي العلاقة بين قصة أصحاب الكهف وتمثيل الجنتين وبين أحداث الإسراء الموسوي وذي القرنين ويأجوج ومأجوج؟ وجوابه أن هذه الأحداث تخبرنا عن بداية الأمة المسيحية ونهايتها كما تشير إلى المحن والمشاكل التي ستخلقها الأمة المسيحية للمسلمين جراء غفلتهم عن الدين.إن أصحاب الكهف هم المسيحيون الأوائل الذين تحملوا في سبيل الدين أشد العذاب، فجزاهم الله على تضحياتهم العظيمة هذه في آخر المطاف، وآتاهم ترقيات مادية وروحانية بفضل منه ورحمة.وكان هذا قبل ظهور النبي ، حيث كان النصارى الموجودون زمن بعثته قد ضلوا صراط الحق، وقد أشار الله تعالى بذكر أصحاب الكهف إلى أن اليهود لما أسخطوا ربهم اختار الله تعالى أصحاب الكهف، أو بتعبير آخر، المسيحيين الأوائل الذين تمسكوا بالحق والسداد، واختصهم بأفضاله وإنعاماته.بعد هذا البيان كان من الطبيعي أن يردّ القرآن على السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا حُرم إذا هؤلاء النصارى من أفضال الله تعالى؟ فأجاب على ذلك بذكر تمثيل الجنتين حيث بين الله تعالى أننا أعطينا الأمة الموسوية جنتين؛ وهما جنة رقي اليهودية وجنة رقي الأمة المسيحية.فأما جنتهم الأولى فجاء تفصيلها في سورة الأمة الله الإسراء، بينما بدأ الحديث عن جنتهم الثانية بذكر أصحاب الكهف.ثم بين تعالى أن هؤلاء القوم تنكروا فيما بعد لمالك الجنتين الحقيقي سبحانه وتعالى، ونسوه، واحتقروا إخوتهم أي بني إسماعيل، ظانين أن الله تعالى ينزل عليهم نعمه لكونها حقا لهم.فاستجاب الله الله الله التوسلات المظلومين المحتقرين، وأحرق جنتي المتكبرين، أعني أنه تعالى كسر شوكة الأمتين اليهودية والمسيحية، متفضلاً على نسل إسماعيل حيث وهب لهؤلاء المحتقرين جنات خيرًا من جنتي الذين احتقروهم.وإيضاحا لهذا الموضوع ذكر بعد تمثيل الجنتين حادث إسراء لموسى ال أُرِيَ فيه رقي أمته مثلما أُرِي النبي الله رقيَّ أمته في حادث إسرائه المذكور في سورة
الجزء الرابع ٦٢٢ سورة الكهف أمته، أمة محمد الإسراء.وقد كشف الله تعالى لموسى الل من خلال إسرائه طريق رقي وأين سيتوقف، لتنتقل البركات السماوية من أمته إلى بني إسماعيل.وبعد ذكر خبر انتقال هذه البركات أخبر الله تعالى أن العصاة من المصطفى الذين سيتغافلون عن الدين سيعذبهم الله على يد القسم الثاني والمنحرف من الأمة الموسوية، أي على يد يأجوج ومأجوج الذين سيكونون من أتباع النصرانية والذين سينتشرون ويستولون على العالم كله في يوم من الأيام.ولكي يخبر الله تعالى أن هؤلاء القوم الموجودون اليوم ، * ولكنه تعالى يمنعهم من الانتشار والازدهار بحكمته الكاملة، قد بين الأسباب الحائلة دون انتشارهم؛ وذكر أن شخصا باسم ذي القرنين كان سببًا في بقاء يأجوج ومأجوج معزولين عن باقي العالم في تلك الفترة كلها.وهكذا قد بين الله تعالى الأحداث التي مرّت على قسمي الأمة النصرانية؛ والقسم الأول منها هم أصحاب الكهف الذين هم النصارى الحقيقيون، والقسم الآخر منها أولئك القوم الذين دخلوا في النصرانية فقضوا على الروح التي تحلّى بها أصحاب الكهف، حيث آمنوا بالنصرانية في الظاهر فحسب، ولكنهم في الحقيقة تماما.كانوا غافلين عن روح دينهم وفي النهاية أخبر أن الله تعالى سيحطّم فتنة يأجوج ومأجوج بإنزال صنوف العذاب، وسينجي المسلمين عن طريق ذي القرنين الثاني.وخلاصة القول إن سورة الكهف تتحدث عن فترتين للأمة المسيحية؛ فترة خيرها وفترة شرها، وتخبر أن تأسيس الأمة المحمدية كان مقدراً بين هاتين الفترتين.وتخبر أيضا أنه الا الله قد جعل لعقاب عصاة المسلمين فئة نصرانية لادينية أي يأجوج ومأجوج، وأن هذه الفئة ستظهر في يوم من الأيام، وستكسر شوكة المسلمين؛ ولكن الله تعالى سوف يحمى الإسلام من فتنتهم في آخر المطاف رحمةً منه وفضلاً.* أي لدى نزول القرآن (المترجم)
الجزء الرابع ٦٢٣ سورة الكهف هذه هي خلاصة سورة الكهف، أما التفاصيل فنوردها لدى تفسير الآيات.لقد بينت ترتيب مواضيع سورة الكهف هذه نظراً إلى صلتها بما قبلها من السور.أما علاقة أوائل هذه السورة بأواخر سورة الإسراء فهي أيضا واضحة تماما، حيث قال الله تعالى في آخر الإسراء وقل الحمد لله الذي لم يتخذ وَلَدًا و لم يَكُنْ له شريك في الملك ولم يَكُن له ولي من الذُّل وكَبِّرْه تكبيرًا، بينما قال في مستهل سورة الكهف مبينا الغاية من نزول القرآن على محمد رسول الله: ويُنذر الذين قالوا اتخذ الله وَلَدًا.فختم تلك السورة بإعلانه أنه لا ولد الله تعالى، بينما بدأ هذه السورة بقوله إن محمدا رسول الله جاء ليعلن عن هلاك القوم الذين اتخذوا الله ولدا.والعلاقة الثانية تكمن في أن الله تعالى أعلن في أواخر السورة السابقة أن أهل العلم هم أولئك الذين يعبدون الله ويوقنون بوعوده، حيث قال قُلْ آمنوا به أو لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْله إذا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا)، بينما أعلن في بداية هذه الســــورة أن الذين يتخذون الله ولدًا لا يستحقون أن يُسَمَّوا أهل العلم، فقال وينذر الذين قالوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * ما لهم به مِن عِلْمٍ ولا لآبائهم كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إنْ يقولون إلا كَذِبًا؛ وكأنه تعالى بين في السورة الماضية تعريف العلم، أما في هذه السورة فبين تعريف الجهل.هي والعلاقة الثالثة أن الله تعالى أعلن في آخر سورة الإسراء: ولم يكن لـــه شريك في الملك، بينما قال في مستهل سورة الكهف أنه أنزل القرآن على محمد ليُنذِرَ بأَسًا شديدًا من لدنه..أي عذابًا شديدًا من عنده.كأنه تعالى قال النبيه : قُلْ لهؤلاء المغرورين تُملكهم، والظانين بسبب الأسباب المادية أن لا أحد يقدر على التصدي لهم وإهلاكهم، إن الدمار يحيط بالإنسان من حيث لا يحتسب، وبأسباب لم تخطر على بال أحد.فلا يظنوا أنفسهم في مأمن من عذاب الله الذي هو صاحب الملك في الحقيقة.
الجزء الرابع ٦٢٤ سورة الكهف والعلاقة الرابعة هي أن الله تعالى قال في آخر سورة الإسراء وكبره تكبيرا، بينما قال في بداية سورة الكهف عن الذين اتخذوا الله ولدًا كبرت كلمةً تخرج من أفواههم..بمعنى أن الكبرياء حق الله تعالى وحده، ولكن هؤلاء يعطون هذا الحق للمخلوق الضعيف ظلما وزوراً.وفيما يلي بعض الأحاديث الشريفة التي تؤكد أن الرسول الكريم أيضا قد اعتبر سورة الكهف وثيقة الصلة بالنصارى، وطبقها عليهم." عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال : من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال" (مسند أحمد مجلد ٦ ص ٤٤٩).* وروى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي الدرداء عن النبي له أنه قال: من قرأ عشر آيات من آخر الكهف عُصم من فتنة الدجال قال حجاج: العشر الأواخر من سورة الكهف" (المرجع السابق ص ٤٤٦).لقد تبين من ذلك أن النبي كان على علم بأن هذه السورة تتحدث عن الدجال.ولكن العجيب أنه لم يرد في هذه السورة اسم الدجال.نعم لقد تحدثت في أوائلها عن الذين قالوا اتخذ الله ولدًا، وهذه عقيدة يحملها المسيحيون؛ بينما تحدثت في أواخرها عن القوم الذين سيضل سعيهم في الترقيات المادية ليل نهار، والذين سينهمكون في اختراع الأشياء الجديدة بحيث يظنون أنهم على وشك اكتشاف سر الكون، لكنهم كلما تقدموا في اكتشافاتهم الجديدة أدركوا أن وراء سر من أسرار الكون أسرارًا أخرى، وأن لا حدَّ ولا نهاية لقدرة الله تعالى ولا لأسراره.وهذا الأمر أيضًا ينطبق على الأمة المسيحية.إذا فمن ناحية نجد أن الآيات الأوائل من سورة الكهف وأواخرها تتحدث عن الديانة المسيحية والترقيات المادية المسيحية ومن ناحية أخرى نجد الرسول ﷺ يقول إن من قرأ العشر الأوائل والعشر الأواخر من سورة الكهف عُصم من فتنة كل * هذا سهو، والصحيح "أبو داود" بدل "النسائي".(المترجم)
الجزء الرابع ٦٢٥ سورة الكهف الدجال؛ وإذا جمعنا بين الأمرين توصلنا إلى نتيجة مفادها أن النبي ﷺ إنما يعني بالدجال المسيحية المنحرفة نفسها.أما إذا لم نسلّم بهذا الاستنتاج عرَّضنا النبي ﷺ لاعتراض بأنه – والعياذ بالله - علّمنا للنجاة من فتنة الدجال آيات لا تمت إلى موضوع الدجال بصلة.وأي شكل لأنه هو أعظم وأسمى من ذلك.وتتلخص هذه السورة في أن الله تعالى قد أنزل هذا الكتاب ليُصلح الأخطاء التي تسربت في الكتب السماوية السابقة، ولينذر الذين اتخذوا الله ولدا.إن هؤلاء القوم سيُحرزون رقيًّا ماديًا كبيرًا، وسيضمرون للإسلام كراهية شديدة.ولكن لم تكن بداية هؤلاء القوم كنهايتهم هذه، إذ كانوا في أول أمرهم ضعيفي الحيلة تماما، وقد تعرضوا لصنوف التعذيب الشديد، ولكن الله رحمهم، وخلصهم من المحن والشدائد وهداهم إلى طريق الازدهار.ولكن القوم وقعوا في الشرك بعد أن نالوا الغلبة وازدهروا ومالوا عن الدين إلى الدنيا مشغوفين بها.فمن واجب المسلمين أن يأخذوا العبرة من أحوال هؤلاء فيأخذوا الحذر من مفاسد ثلاث: التكاسل في العبادة، والإفراط في حب المال والانغماس في الملذات.ثم أخبر الله تعالى أن مثل المسلمين وإخوانهم من أهل الكتاب كمثل أخوين أحدهما ثري والآخر فقير.ويتباهى الأخ الثري بثروته، بينما يتجه الأخ الفقير إلى الله تعالى فيُحطّم رأس الكبر في النهاية وتتهيأ الأسباب من الغيب وبدون تدخل الناس للقضاء على قوة الأخ الثري.برقي ثم بين الله تعالى تفاصيل هذه التغيرات المستقبلية التي سبق أن أخبر بها موسى ال خلال إسرائه، وهي أن الرقي الذي ستحققه أمته ضئيل جدا إذا ما قورن أمة النبي القادم ، وأن ذلك النبي القادم سيكمل الأمور التي ما كان موسى قادرًا على استكمالها.فوفقًا لتعبير الإسراء الموسوي هذا سينتصر الإسلام لدى انحطاط الأمة المسيحية.ثم تناول الأحداث التي ستلي الفتح الإسلامي، مبينًا أنه سيأتي على المسلمين زمان سينسون فيه أمر الدين، فيكتب الله له الا الله الغلبة للأمة المسيحية مرة أخرى عقابًا
الجزء الرابع ٦٢٦ سورة الكهف للمسلمين، وأن هذه الغلبة المسيحية ستتم على أيدي شعوب حيل بينهم وبين زحفهم على بلاد الشرق والجنوب قبل زمن قليل، وأنه سيحلّ بالدنيا دمار كبير، وستصبح الشعوب كلها تابعة لمعسكرين كبيرين أو لفكرتين أيديولوجيتين متعارضتين وسيكثر الظلم، وعندها سيهيئ الله له الا الله مرة أخرى الأسباب لسد هذا ع الا الطوفان الجارف.كما أشار الله تعالى إلى أن الشعب الذي كسر القوة السياسية ليأجوج ومأجوج مرةً في الماضي سيلعب دورا هاما في سد هذا الطوفان العظيم ثانيةً.إذا فسورة الكهف تتمة لسورة الإسراء، والأحداث الواردة فيها ليست عديمة الصلة فيما بينها كما زعم بعض المفسرين، بل هناك ترتيب رائع في مضامينها، كما أن هذه السورة وثيقة الصلة بالسورة السابقة لها.
الجزء الرابع ٦٢٧ سورة الكهف مِ اللهِ الرَّحمن الرّحيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ تَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ن قَيْمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّلِحَتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا شرح الكلمات: مَّكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا : عبْدَه: راجع شرح الكلمات للآية رقم ٢ من سورة الإسراء.ވ عِوَجًا: عوج يعوج عَوَجًا: ضدُّ استقامَ أي انحنى، والاسم العِوَجُ.وقيل: العوج بالفتح في الأجساد، والعوج بالكسر في المعاني الأقرب).وعَوَجُ الطريقِ وعِوَجه: زيغُه، وعِوَجُ الدين والخلق: فساده (تاج العروس).قَيِّمًا: قيمُ الأمر : مقيمه؛ وأمر قيم مستقيم، وحُلُقٌ قيمٌ: حَسَنُ؛ ودين قيم: مستقيم لا زيغ فيه؛ وكتب قيمة أي مستقيمةٌ تبيِّنُ الحق من الباطل.القيم: السيد وسائس الأمر (تاج العروس).وقوله تعالى دينا قيما أي مقوما لأمور معاشهم ومعادهم (المفردات ).ليُنذِرَ : أَنذَرَه بالأمر: أعلمه وحذره من عواقبه قبل حلوله؛ خوفه في إبلاغه، يقال: "أنذرتُ القوم سير العدو إليهم فنذروا" (الأقرب).بأسًا: البأس : العذاب؛ الشدة في الحرب.وقال ابن سيده: البأس الحرب ثم كثر حتى قيل: "لا بأس عليك" أي لا خوف.والبؤس الفقر (تاج العروس).والبأس: العذاب؛ الشدة في الحرب؛ القوة؛ الخوف (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٢٨ سورة الكهف يبشر : بشره: أخبره ففرح (الأقرب).ماكثين مكث بالمكان يمكث مكنا: لبث وأقام، فهو ماكت وجمع ماكثون (الأقرب).أَبَدًا الأبد الدهر ؛ الدائم؛ القديم الأزلي (الأقرب).والأبد: عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ (المفردات).ومعنى مدة" الزمان الممتد الذي لا يتجزأ" زمان غير محدد.التفسير : المراد من قوله تعالى قيما أن هذا الكتاب جاء مقوّما للكتب الماضية حيث يصلح الأخطاء الواردة فيها.كما يعني أن هذا الكتاب سيد على الناس وسائس لأمورهم، أي يقوم بتربية الموجودين منهم واللاحقين، حيث يبين لهم الأعمال التي يجب أن يعملوها؛ كما هو مهيمن على السابقين أي يفصل في إذا فكلمة (قيما ليست حالاً، بل وردت صفةً للكتاب لتشمل الماضى أمورهم.والمستقبل.أما قوله تعالى لينذر بأسًا شديدًا فالبأس هنا بمعنى العذاب والفزع.وأما قول الله تعالى ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنًا فاعلم أن أجرًا حسنًا لا يعني الجوائز العادية، لأن هذا المعنى متضمَّن في كلمة "الأجر" وحدها ؛ وقد وردت كلمة "الأجر" في القرآن الكريم مجردةً عن "الحسن" مــــرارا، كقوله تعالى في هذه السورة نفسها إنا لا نُضيع أجرَ مَن أحسن عملاً) (الآية: (۳۱).لا جَرَمَ أن الأجر في مثل هذه الأماكن يعني - نظرا إلى سياق الكلام - الجزاء الجيد على العموم؛ ولكن قوله تعالى أجرًا حسنًا من ذلك، وهو أن هذا الأجر سيأتي بالنتائج الحسنة، فلن يفسد المؤمنون نتيجة هذه النعم، بل سيحسنون استخدامها لينالوا مزيدًا من الثواب.يعني أكثر من وقوله تعالى ماكثين فيه أبدًا إذا كان خاصا بالنعم التي سوف ينالها المؤمنون في الدنيا، فليس المعنى أن هذا الأجر لن ينقطع أبدا، بل المراد أنهم سينالون أجرهم
الجزء الرابع ٦٢٩ سورة الكهف حتماً ما داموا مؤمنين.أما إذا كان خاصا بالنعم الأخروية فالمعنى أنهم سيتمتعون بنعم الآخرة باستمرار دون أن تنقطع عنهم أبدًا.هذه الجملة تنبيه رباني للمؤمنين أنهم إذا أرادوا أن تدوم أفضال الله عليهم فيجب أن لا يدعوا إيمانهم يضيع أبدا.وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا : ما هُم بِهِ مِنْ مَّا عِلْمٍ وَلَا لِأَبَابِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (3) شرح الكلمات وَلَدًا : الولد : كل ما ولده شيء، ويُطلق على الذكر والأنثى (الأقرب)، وقد ورد هنا بمعنى الولد الذكر.كلمة كل ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركبا (الأقرب).كذبًا: كذب الرجلُ كَذبًا وكذبًا : أخبر عن الشيء بخلاف ما هو مع العلم به، ضد صدق، وسواء فيه العمد والخطأ (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إن الغاية الثانية لهذا الكتاب هي أن يحذر أولئك الذين زعموا أن الله تعالى اتخذ ولدا.من المستغرب أنه تعالى قال من قبل إن من أهداف الكتاب الإنذار، ثم تبشير المؤمنين، ويقول الآن مرة أخرى إن من أهدافه الإنذار، وأن هذا الإنذار خاص بالذين اتخذوا الله ولدا.والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لم لم يجمع الله الإنذارين في المرة الأولى ليذكر بعدهما البشرى للمؤمنين؟ والجواب أن القرآن الكريم يقصد بهذا الترتيب الإشارة إلى أزمنة مختلفة.فالإنذار الأول كان خاصا بأهل مكة وبجميع تلك الشعوب التي كانت تناوئ الإسلام في
٦٣٠ سورة الكهف الجزء الرابع عهد الرسول الكريم ، وبالفعل هلكت تلك الأمم نتيجة ذلك الإنذار.ثم نال المؤمنون النعم بعد هلاك مناهضي الإسلام وفقًا للتبشير الذي ذكر بعد هذا الإنذار، وحكَم المسلمون العالم لقرون طويلة طبقًا لوعد الله تعالى ماكثين فيه أبدًا.ثم جاء الإنذار الثاني الخاص بالمسيحيين وحدهم، وكان فيه إشارة إلى أنه بعد الازدهار الإسلامي ستقوى المسيحية ثانية، وتستولي على العالم حتى يتراءى للناس أنه لم يبق في الدنيا أمة معادية للإسلام سوى المسيحية؛ وعندها سيصبح الإنذار القرآني موجها إلى المسيحية خاصةً.أما إذا لم يفصل القرآن بين الإنذارين بذكر بشارة للمؤمنين بينهما لم يمكن فهم هذه الإشارة اللطيفة التي تحدد موعد العذاب القادم والتي تخبر عن التغيرات السياسية في المستقبل.أما قوله تعالى كبرت كلمة فاعلم أن كلمة ( هنا تمييز، والتقدير : كبُرت كلمةً، والمعنى: أن قول هذا الشيء كبير، أو بتعبير آخر: التفوه بهذا الكلام أمر خطير جدا كما أنه مخالف للعقل.وقد أشار بذلك إلى أن هذه العقيدة كما هي تمثل إساءة كبيرة إلى الله تعالى كذلك هي مرفوضة من قبل العقل الإنساني، إذ كيف يمكن أن يُصلب إنسان ومع ذلك يُدعى ابنا الله تعالى.هي لقد وجه القرآن إلى المسيحية هنا - بالإضافة إلى الإنذار - ضربة قاضية حيث قال: إنهم يتخذون الله العظيم ابنا من دون أن يملكوا هم ولا آباؤهم على ذلك دليلاً، بمعنى أن آباء المسيحيين كانوا على علم أن المسيح وحوارييه وتلاميذهم كانوا موحدين، وأن الشرك قد جاء فيما بعد، ومع ذلك جعلوا المسيح ابنا الله الله ، فجاءهم القرآن الكريم بعقيدة التوحيد الأسمى، قاضيًا على الأفكار الوثنية بالبراهين الدامغة ولكن يا أسفاه لا الآباء انتفعوا بما رأوه بأم أعينهم، ولا الأولاد انتفعوا بالأدلة التي قدمها القرآن الكريم، بل ترك كلا الفريقين ربهم، واتخذوا الإنسان إلها دونما برهان أو دليل.وأخبر بقوله إن يقولون إلا كذبًا أن المسيح نفسه كان منكرًا لمثل هذه البنوة، إذ ليس في الأناجيل الموجودة ما يدل على أن المسيح ابن الله تعالى.لا شك أنه قد
الجزء الرابع ٦٣١ سورة الكهف وردت في الأناجيل كلمة "ابن" في حق المسيح الله، ولكن ليس للمسيح أية خصوصية في ذلك، إذ وردت هذه الكلمة في حق أناس آخرين أيضا، فجاء على سبيل المثال: "يقول الربُّ: إسرائيل ابني البكر" (خروج ٤: ٢٢).وو فَلَعَلَّكَ بَخِعُ أَسَكَ عَلَى ءَاثَرِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَمَات شرح الكلمات: لَعَلَّ: طَمَع وإشفاق....و"لعل" وإن كان طمعا فإن ذلك يقتضي في كلامهم تارةً طمع المخاطب، وتارةً طمع غيرهما.فقوله تعالى فيما ذكر عن قوم فرعون: * لعلنا نتبعُ السَّحَرة فذلك طمع منهم، وقوله في فرعون: لعله يتذكر أو يخشى فإطماع لموسى ال مع هارون ومعناه فقولا له قولاً لينا راجين أن يتذكر أو لا يخشى.وقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أي يظن بك الناسُ ذلك (المفردات).باخع جع نفسه قتلها من وجد أو غيظ (الأقرب).بجع نفسه: قتلها غما.وبجع بالحق بخوعًا: أقر به وخضع له.ويجع لــه نُصْحَه أي أخلصه وبالغ.وقوله تعالى فلعلك باخع نفسك أي مهلكها مبالغا فيها حرصا على إسلامهم (تاج العروس).آثار الأثر : ما بقي من رسم الشيء (الأقرب).أسفًا: أسف يأسف أَسَفًا حزن أشدَّ الحزن وتلهف (الأقرب).التفسير: يخبر الله و هنا أن قلب رسوله الله كما أصيب بصدمة كبيرة عند نبأ دمار اليهود (النحل: (۱۲۸)، كذلك حزن أشد الحزن لدى تلقي هلاك الأمة المسيحية أيضًا؛ فيواسي رسوله له حتى قبل حلول هذه الصدمة قائلاً
الجزء الرابع ٦٣٢ سورة الكهف له لدى سماع خبر هلاكهم ستصاب بصدمة شديدة تكاد تقضي عليك أسفًا عليهم، فعليك بالصبر لأن هذه هي مشيئة ربك.فق علما أن القرآن الكريم لا يتحدث هنا عن المشركين الآخرين، بل عن المسيحيين ط، وأن خبر العذاب الذي جعل النبي الله يحزن لهذه الدرجة لم يكن إلا عن المسيحيين.إذا أليس غريبا أن نجد النبي لا يكاد يُهلك نفسه حزنًا على سماع خبر العذاب الذي سيصيب الأمة المسيحية بعد ۱۳ ،قرنًا وعلى النقيض نجد بعض الكتاب المسيحيين لا يبرحون يسبّون محسنهم هذا ويشتمونه ليل نهار؟! وأشار بقوله تعالى إن لم يؤمنوا بهذا الحديث إلى أن القرآن يشكل بنفسه الدليل على صدقه، حيث يتضمن الحلول للمشاكل التي ستواجه الشعوب المسيحية في المستقبل، فمن الطبيعي أن تصاب يا محمد بالصدمة الشديدة حيث لن ينتفع هؤلاء – بالرغم من تقدمهم المدهش في الأمور المادية - بهذه الحلول القرآنية، بل سيرفضونها فيهلكون.إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عملا التفسير: يخبر الله تعالى هنا أنه جعل في الدنيا ملايين الأشياء كي يطلع عليها الإنسان وينتفع بها.ذلك أن في كلمة "زينة" إشارة إلى أنه ليس في الدنيا شيء بدون فائدة، بل كل شيء ذو منفعة حتمًا.أما لو قال الله تعالى: "بعضها زينة"، لكان هناك احتمال كون بعضها مفيدًا وبعضها من دون جدوى، ولكنه تعالى قد وصف كل الأشياء بالزينة، إذا فالنظرية الإسلامية عن الأشياء تعلن أن في كل شيء نوعًا من النفع والزينة أي أنه يزيد الدنيا نفعاً وجمالاً.
الجزء الرابع ٦٣٣ سورة الكهف الأسف أن المسلمين تغافلوا بمرور الأيام عن الانتفاع بهذه الحكمة القرآنية، ولم يهتموا بالبحث والاختراع كما يجب، بينما عمل الأوروبيون بهذه الحكمة القرآنية رغم رفضهم للقرآن، فتقدموا في مجال العلوم تقدمًا جعلهم غالبين على العالم كله.أما قولـــــــه تعالى النبلوهم أيهم أحسن عملاً فهو إشارة إلى أنه تعالى خلق الأشياء ليقوم الناس بالبحوث في شأنها، ويستفيدوا بها لإصلاح حال الإنسانية.الشعوب المسيحية قد قصّروا في هذا المجال حيث عملوا على التنقيب عن خواص الأشياء وأسرارها، ولكن لم يقدموا نموذجًا جيدًا في استغلالها من أجل إصلاح حال بني آدم ، بل وضعوا بهذا التقدم العلمي أساسا للظلم والفساد في الدنيا.وأرى أن هذه الآية تتضمن الإشارة إلى تصرفهم هذا أيضًا.وَإِنَّا لَجَيعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٤) شرح الكلمات: صعيدا : الصعيد التراب، وقيل: وجه الأرض ترابًا كان أم غيره؛ المرتفع الأرض، وقيل: هو ما لم يخالطه رملٌ ولا سبخة؛ الطريق؛ القبر (الأقرب).يقال: صارت الحديقة صعيداً : أي أرضًا مستويةً لا شجر فيها (المنجد).جُرُزًا: جرزه يجرز: قطعه.وجرز الزمانُ زيدا: اجتاحه.والجَرْزُ والجُرُزُ: الأرض لا تنبت، أو أكل نباتها، أو قطع (الأقرب).قال عل: صعيدًا جُرُزًا أي منقطع النبات (المفردات).ويقال للحديقة إذا خربت وذهب شجراؤه: قد صارت صعيدًا أي أرضًا مستوية لا شجر فيها (تاج العروس).التفسير : يبين الله تعالى هنا أن المتع الدنيوية ليست حقيقية، بل هي متع عابرة قد جعلها الله تعالى سببًا للتسابق بين الشعوب حتى يسخروا هذه الأشياء في خدمة البشرية وينالوا الثواب من الله تعالى.ولكن الشعوب المسيحية لن يحققوا هذا الغرض، لأنهـ سيقومون بالبحث عن خواص الأشياء، وبدلاً من أن يتخذوها
الجزء الرابع ٦٣٤ سورة الكهف من ذريعة للعمل الحسن سيسخّرونها لخلق النزاعات والحروب.ولما كان الهدف خلق الأشياء أن تكون زينة للدنيا، فإن بحوثهم ومخترعاتهم لن تعمل على تحقيق هذا الهدف، لذا سوف يدمّر الله أعمالهم تدميرًا.فهذه الآية إذا لا تتنبأ عن دمار الدنيا كلها بل تتنبأ عن دمار أعمال الذين اتخذوا الله ولدًا.هذا، وفي قولـــــه تعالى صعيدًا جُرُزًا إشارة لطيفة إلى تمثيل الجنتين الذي ستتحدث عنه هذه السورة بعد قليل في الآيات رقم ٣٣ إلى ٤٥.ذلك أن الصعيد الأرض التي قطع نباتها حيث يقال للحديقة إذا خربت وذهب شجرها: قد و تعني صارت صعيدًا أي أرضا مستوية لا شجر فيها؛ كما أن كلمة الجُرُز أيضًا الأرض المنقطع نباتها.وفي تمثيل الجنتين ينصح الأخ الناصح أصحاب الجنة المتكبرين ألا يتباهوا بجنتهم، حتى لا يحوّل العذاب النازل من السماء جنّتهم صعيدا زَلَقًا.فنجد أن كلمة صعيدًا قد وردت في الآيتين، بينما استبدلت كلمة زَلَقًا بكلمة جُرُزًا، ولكن معناهما واحد وهذا يدلّ على أن تمثيل الجنتين الآتي.ذكره بعد قليل يخص المسيحيين أيضا، وأن الله وعمل سيدمر جناتهم التي زرعوها.أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ ءَايَتِنَا عجبا ) شرح الكلمات: الكهف: كالبيت المنقور في الجبل، وجمعه كهوف، إلا أنه واسع، فإذا صغر فهو غار.الكهف أيضًا الوَزَرُ؛ الملجأُ (الأقرب).الرقيم رقم يرقُم رقمًا: كتب.ورقم الكتاب: أعجَمَه وبينه.ورقم الثوبَ: خططه وأعلمه.والرقيمُ الكتاب؛ والرقيم المرقومُ (الأقرب).فأصحاب الرقيم هم القوم الذين كانوا يكتبون ويرسمون.وقد قال بعض المفسرين هم الذين كانوا يحفرون في الحجر والحديد (الطبري، وأقرب الموارد)،
الجزء الرابع ٦٣٥ سورة الكهف وعليه فالمراد من أصحاب الرقيم قوم كانوا يكتبون على الأحجار والورق أو يرسمون عليها ويصورون وبما أن الرقيم يعني الشيء المرقوم أيضًا فيعني أصحاب الرقيم قوم كانت عندهم أشياء مرقومة أي الكتبُ واللوحات وما إلى ذلك مما يُكتب عليه.عجبا: العجب : إنكار ما يرد عليك؛ استطرافُ الشيء؛ روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء (الأقرب).التفسير: إنه لمن المضحك المبكي أن الله تعالى يصرح هنا أن أصحاب الكهف ليسوا من العجائب، بل كانوا آيةً كغيرها من آيات الله ، ولكن المسلمين يقدمونهم كأعجوبة من العجائب.إذْ أَوَى الْتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا وَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (3) شرح الكلمات: أَوَى: أوَى إلى منزله وأوَى منزله نزل به ليلاً أو نهارًا (الأقرب).و الفتية: جمع الفتى وهو الشاب الحَدَثُ؛ السخي الكريم (الأقرب).رحمة: الرحمة رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان والمغفرة (الأقرب).التفسير: اعلم أن الرشد هو الهداية، ولكن الرُّشد يقال في الأمور الدنيوية والأخروية، بينما الرَّشَد يقال في الأمور الأخروية لا غير (الأقرب)، وعليه يعني: اللهم افتح لنا طريق الخروج من محنتنا وباب الفلاح في أمرنا.فدعاؤهم هذا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا.شرح الكلمات : ۱۳
الجزء الرابع ٦٣٦ سورة الكهف فضَرَبْنا على آذانهم: ضرَب على أُذُنه: منَعه أن يسمَعَ (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى : منعناهم من سماع أخبار الناس بإبقائهم في الكهف لسنين، فلم يعرفوا حال أهل زمانهم.وسأذكر أحوال أصحاب الكهف مفصلة لدى تفسير الآيات القادمة.ثُمَّ بَعَثْنَهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) شرح الكلمات: بَعَثْناهم: بعثه بعثا: أرسَلَه أثاره وهيجه بعث الموتى: أحياهم.بعثه على الشيء: حمله على فعله (الأقرب).الحزبين مثنى الحزب وهو الطائفة؛ جماعة الناس؛ جند الرجل وأصحابه الذين على رأيه؛ النصيب؛ كل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضًا (الأقرب).أَمَدًا : الأمد الغاية والمدى الأمد والأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد...والأمد مدة لها حد مجهول...والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان (المفردات).التفسير: من هم أصحاب الكهف؟ وأين كانوا؟ وما هي أحوالهم؟ هذا سؤال بالغ الا الأهمية، وما زال مثار فضول المفسرين على مر القرون.وللإجابة عليه أسجل أولاً بعض ما ذكره المفسرون القدامى بهذا الصدد من روايات.الرواية الأولى: قال صاحب روح المعاني : نبؤهم حسبما ذكره المؤرخ الشهير ابن إسحاق وغيره أنه لما تفشى الشرك بين المسيحيين وعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت أزعج ذلك الموحدين منهم.وكان أحد ملوك المسيحيين – واسمه دقیانوس، وفي رواية دقيوس - يقتل النصارى الموحدين.فألقى الشرطة القبض
ضرب الله ٦٣٧ سورة الكهف الجزء الرابع على فتية من هؤلاء الموحدين الذين كانوا من عظماء مدينتهم التي اسمها أفسوس، وفي بعض الروايات طرسوس.ولما أحضروهم إلى الملك عنّفهم على عدم سجودهم للأصنام، ولكنهم تمسكوا بالتوحيد فأمهلهم الملك للمزيد من التفكير والتأمل، فاغتنموا الفرصة وفروا واختفوا في غار اسمه بنجلوس، واشتغلوا هنالك في العبادة، واختاروا أحدًا منهم، واسمه يمليخا، ليحضر لهم الطعام من المدينة.فكان يدخل المدينة متنكرًا ويأتي بالطعام.فعلم في يوم من الأيام أن الملك قد رجع إلى المدينة بعد أن خرج منها لبعض المهام، وأنه أمر بإحضار الفتية.فأسرع هذا إلى أصحابه باكيا وبلغهم الخبر.ففزعوا إلى الله تعالى وبكوا، ولما فرغوا من دعائهم على آذانهم وناموا، ونفقتهم ومتاعهم بجنبهم، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصــيد.فخرج الملك في طلبهم، ولكن لم يستطع أحد من رجاله أن يدخل الكهف.فقال أحد رجاله : أيها الملك، أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى.قال: ابن على باب الكهف جدارًا وتسدّه، ودَعْهم يموتوا جوعًا وعطشا.ففعل.ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى في الآيات التالية (انظر روح المعاني).الرواية الثانية: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: أن واحدًا من حوارتي المسيح ال كان في سفر، فجاء إلى مدينة كان ملكها يعبد الأصنام، وكان من أوامره أن لا يدخل المدينة أحد إلا بعد السجود لصنم منصوب على بابها.ولكن الحواري كره أن يدخلها، فأتى حماما خارج المدينة وأقام فيه، وأخذ يبشر؛ فصدقه عديد من الناس حتى جاء ابن الملك بامرأة فاحشة يدخل بها الحمام، فنصحه الحواري، فرجع في ذلك اليوم ولكنه عاد مرة أخرى، فنهره الحواري، فلم يلتفت إليه ودخل الحمام مع المرأة، فباتا في الحمام، ووجد في الصباح ميتًا.فقيل للملك: قتل ابنك صاحب الحمام.فبدأ الملك التحقيق، وفرَّ صاحب الحمام وأصحابه جميعًا مع فتية دخلوا في المسيحية، ومروا على صاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم، فأخذهم إلى غار حيث اختفوا فيه.ولما
الجزء الرابع ٦٣٨ سورة الكهف بلغ ذلك الملك خرج لإلقاء القبض عليهم.وبعدها تقول الرواية نفس ما ورد في الرواية السالفة (المرجع السابق).الرواية الثالثة: أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف.فبعث رجالاً فقال: اذهـــبـوا فـــــادخلوا الكهـف، فانظروا.فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحًا فأخرجتهم (الدر المنثور).وفي رواية أن ابن عباس قال إنه رأى عظام أصحاب الكهف، وكانت عمرها ثلاث مائة سنة (الدر المنثور) * وفيما يتعلق بمصيرهم فقد وردت في التفاسير الروايات التالية: سلّط الله الله على أصحاب الكهف النوم دهراً طويلاً، ثم بعثهم.فأرسلوا أحدًا منهم ليأتي لهم بالطعام.فذهب ودفع إلى صاحب المحل الدرهم، فلما رأى الدرهم تحير وأنكره لأنه درهم ،قديم ودفعه إلى جاره فتحيروا جميعا وظنوا أنها عملة بلد أجنبي.فوصل الخبر إلى الملك الذي اسمه يندوسيس ، فلما سمع حكايته ذهب معه إلى الكهف، فسلّم الملك على أصحاب الكهف وعانقهم، وتكلم معهم لبعض الوقت، ونصحوه.ثم عادوا إلى مضاجعهم وماتوا فورا (ابن كثير، وروح المعاني).وفي رواية أنه لما وصل الملك وأصحابه إلى باب الكهف مات أصحاب الكهف جميعًا، فلم يستطيعوا أن يروهم أحياء، وأن الذي ذهب ليأتي بالطعام أيضا مات بعد وصول وله هناك (الدر المنثور، وتفسير ابن أبي حاتم).والحادث الذي جاء فيه اسم "وقيس" في المصادر المسيحية أيضًا.يقول المؤرخ الإنجليزي الشهير "غبن" (Gibbon) إن قصة النائمين السبعة كتبها القس غريغوري (Gregory) من مدينة طورس، وأرى تسجيلها هنا ضروريًا.كانت هذه القصة * ونص الرواية: "غزا ابن عباس مع حبيب بن مَسْلَمة، فمروا بالكهف، فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف.فقال ابن عباس : ذهبت عظامهم أكثر من ثلاث مائة سنة.وفي رواية: بليت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مائة سنة" (الدر المنثور، وابن كثير).
الجزء الرابع ٦٣٩ سورة الكهف شهيرة بين المسيحيين السوريين، وقد أخذها غريغوري منهم.والقصة التي ذكرها "غين" تشبه لحد كبير الرواية التي ذكرها ابن إسحاق، حيث تقول: إن فتيانا مسيحيين من عظماء مدينة أفسيس تعرضوا لاضطهاد الملك "وقيس"، فاختفوا في الغار، فسد الملك باب الغار، فأنامهم الله لمدة ١٨٠ سنة.ثم إن غلمانًا لـ أيدوليس، وهو صاحب المنطقة التي فيها الغار ، أزالوا الأحجار عن باب الغار لبعض حاجاتهم، ولما دخلت فيه أشعة الشمس أحياهم الله تعالى.فلما انتبهوا ظنوا أنهم لم يناموا إلا ساعات فأحسوا بالجوع، وأرسلوا أحدًا منهم واسمه جيمبليكس إلى المدينة ليأتي لهم بالطعام.فوجد المدينة قد تغيرت معالمها، ووجد على بابها صليبًا، فأخذت منه الحيرة كل مأخذ.ولما قدّم الدراهم للخباز أنكر هيئته ودراهمه وتحير، وظن أن هذا قد عثر على كنز، فأخذه إلى القاضي.فلما سمعوا منه القصة ذهـــب الملك ثيودوسيس مع حاشيته إلى الكهف، فباركهم أصحابُ الكهف، وقصوا عليهم القصة ثم ماتوا ازدهار) حكومة روما وسقوطها المجلد الأول ص.(۱۹۷ ويقول العلامة أبو حيان يوجد بالقرب من قرية "لوشة" بالأندلس كهف فيه موتى، ومعهم كلب ، ويزعم الناس أنهم أصحاب الكهف.قال ابن عطية: دخلتُ إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمس مائة عام وهم بهذه الحالة (البحر المحيط).ويضيف قائلاً: وعلى مقربة من غرناطة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة "دقيوس"، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها (المرجع السابق).وقد ذكر المفسرون أسماء أصحاب الكهف مروية عن ابن عباس كالآتي: مكسلمينا ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش (ابن كثير).وهناك روايات شتى عن الرقيم أيضًا.فقال البعض: الرقيم لوح من رصاص أو ـت فيه أسماؤهم.بينما قال الآخرون: الرقيم هو شرعهم؛ هو مدينتهم؛ هو كلبهم؛ هو درهمهم؛ هو واديهم؛ هو الصخرة التي على الكهف (القرطبي).
الجزء الرابع ٦٤٠ سورة الكهف كما نقل المفسرون روايات كثيرة أخرى تتحدث عن أحوال كلبهم، حتى قيل: ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم.وبعد نقل مثل هـــذه الــــروايات يكتب صاحب "فتح البيان: "ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل" (فتح البيان).لقد ثبت من هذه الروايات الواردة في كتب المسلمين والمسيحيين أن قصصاً مماثلة لقصة أصحاب الكهف كانت شائعة بين الناس قبل بعث النبي ، ولكنها، كما يعلن القرآن الكريم، تختلف وتتضارب لدرجة لا يمكن معها الاعتماد عليها، إذ قد اختلط فيها الغث مع السمين.بعد نقل آراء المفسرين القدامى أسجل الآن البحث الذي قام به حضرة المولوي نور الدين الله الخليفة الأول لمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية ال.يرى حضرته أن أصحاب الكهف هم جماعة من النصارى الأوائل الموحدين.وقد سافر هؤلاء إلى بلد آخر فرارًا من الشرك المتفشي في وطنهم، وعاشوا هنالك خاملي الذكر لمدة طويلة حتى كتب الله لهم الازدهار ونشرهم في العالم.وهذا الحادث إشارة إلى السفر الذي قام به يوسف آرميتيا مع أصحابه إلى إنجلترا، حيث بني أول كنيسة مسيحية.حقائق الفرقان مجلد ۳ ص ٤٠٣) ويشير حضرته الله هنا بالتحديد إلى الرواية الشهيرة في إنجلترا منذ قرون والتي تقـول بـأن الحواري فيليب بعث يوسف آرميتيا مع أشخاص آخرين إلى إنجلترا لتبليغ دينهم.فبنوا هنالك كنسية في مكان اسمه Glastonbury، وبدؤوا بالتبشير بالمسيحية (الموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة كلمة Glastonbury).هذه القصة مسجلة في كتاب "تاريخ كنيسة Glastonbury" الذي ألفه عام ١١٢٥ الميلادي William القاطن في منطقة Malmesbury.ولكن القصة لا توجد في النسخة التي كتبها William بيده، بل كل ما قال فيه هو أنه يتضح من الروايات الموثوق بها أن البابا بعث في عام ١٦٦ الميلادي إلى إنجلترا بعض المبشرين
الجزء الرابع ٦٤١ سورة الكهف بناءً على طلب من الملك الإنجليزي Lucuis، وأن هؤلاء بنوا هذه الكنيسة.ويضيف William أن تاريخ هذه الكنيسة أقدم من ذلك بحسب إحدى الروايات، ولكني لا أستطيع تصديقها.مع وبعــــد وفــاة William لما أُعدت نسخة أخرى لكتابه هذا أُلحقت به القصة المذكورة من قبل.وهذا يعني أن القصة ملفقة أضيفت إلى الكتاب الأصلي فيما بعد من قبل شخص آخر من دون أن يذكر لها سندًا.أما الكهف فكان المراد منه في رأي حضرة المولوي نور الدين الله ذلك الرأس (Cape) الموجود على الساحل على مقربة من Glastonbury.ولكني لا أتفق رأي حضرته لأن هذه الكلمة الإنجليزية مأخوذة من الكلمة الفرنسية (Cap) واللاتينية (Caput)، التي تعني الرأس.ولكن كلمة الكهف العربية تعني الغار الواسع في الجبل أو الأرض الحجرية، ولا علاقة لها بـ (Cape) التي يذكرها الجغرافيون، والتي تعني الرأس، كالرأس الشهير بالهند باسم "رأس كماري".أما ما قاله الله إن أصحاب الكهف هم يوسف آرميتيا وأصحابه الذين سافروا إلى إنجلترا فلا أتفق أيضا، لأن قصة سفر يوسف آرميتيا ملفقة حيث اشتهرت في إنجلترا بعد الميلاد بأحد عشر قرنًا وربع قرن بعد أن ألحقت أول مرة بكتاب William بعد وفاته من قبل شخص مجهول.والسكوت في مثل هذه الأمور يبعث على الشك والريبة فما بالك عن هذه القصة التي لا نجد عنها أية رواية إلا بعد مرور أكثر من ألف عام.فلو أن شخصاً قام اليوم وعزا إلى النبي ﷺ – بناء على ما سمع من الناس – روايةً جديدةً لم ترد في أي مصدر من كتب الحديث أو التاريخ، فلن يصدّقه أحد ما لم يقدّم الشواهد التاريخية التي تضع هذه الرواية في سلسلة الوقائع الثابتة الأخرى بحيث لا ثم إن رواية كهذه يجب أن تكون مفخرة لأهل إنجلترا، وإن تصديق مثل هذه الروايات الملفقـة ينفعهم، ولكننا نجدهم اعتبروا هذا الأمر غلطا بعد التحري والبحث.فقد عثروا بعد وفاة وليم هذا على مستندات قديمة عن هذه الكنيسة معه يسع أحدًا إنكارها.
الجزء الرابع ٦٤٢ سورة الكهف توصلوا بقراءتها إلى أن الكنيسة بنيت قبل وليم بثلاث مائة وخمسين سنة على الأكثر أي في حدود القرن الثامن الميلادي على أسخى تقدير.ثم إن هذه المستندات أيضا لا تتضمن أية إشارة إلى تلك الرواية.ومن أجل ذلك قال المؤرخون الإنجليز عن مضمون هذه الرواية: إنه ليس حدثًا تاريخيا، بل هو ضرب من خيال الشعراء." (الموسوعة البريطانية الطبعة الرابعة عشرة كلمة Josef of Artmathia)
٦٤٣ سورة الكهف الجزء الرابع بعد الإشارة إلى هذه الاختلافات البسيطة المتعلقة بتحديد الأفراد والمكان لا أملك إلا أن أعترف أن التحقيق الذي قدمه حضرة مولانا نور الدين له حول الصلة بين أصحاب الكهف والأحداث التاريخية لأمر لا يقدر بثمن، وإنه نبراس للهداية، وبدون الضوء الذي سلّطه حضرته على هذا الموضوع يستحيل حل هذا الجزء من القرآن الكريم من الناحية التاريخية.جزاه الله أحسن الجزاء.والتفسير الذي سأقوم به مبني إلى حد ما، على التحقيق الذي قام به حضرته ما عدا بعض الاختلافات الجزئية المتعلقة بالمكان والزمان والشعب.غير أن هناك را لم يرد في بحثه له ، ولكنه وثيق الصلة بالهدف الأساسي لهذه الآيات، وقد لفت إليه انتباهنا سيدنا المسيح الموعود ال.هذا الأمر هو أن هذه الآيات تتضمن النبأ عن نزول المسيح الموعود حيث أخبر الله تعالى فيها أنه سيأتي على جماعة من المسلمين ما أتى على أصحاب الكهف (الملفوظات مجلد ٧ ص ٤٠٣).بعد هذه الأمور التمهيدية أسجل فيما يلي بحثي حول أصحاب الكهف.لما رأيت أن الحكاية عن سفر يوسف آرميتيا لا تخرج عن كونها قصة باطلة بدأت المزيد من البحث وأثناء بحثي هذا جاءني نسيبي المرحوم الدكتور خليفة رشيد الدين بكتاب وقال إن الأحداث المذكورة في هذا الكتاب تشبه أحوال أصحاب الكهف.واسم الكتاب هو "سراديب الموتى بروما" ( Catacombs of Rome).ولما قرأته رأيت أننا نستطيع أن نستفيد منه كثيرًا في بحثنا عن أصحاب الكهف.وفيما يلي ملخص محتوياته: لم يكن المسيحيون الأوائل مشركين، والدليل عليه تلك السراديب التي عثروا عليها بالقرب من روما حيث كان المسيحيون الأوائل يختفون فيها فارين من اضطهاد الحكومة الرومانية.لقد عثروا في هذه السراديب على كثير من اللوحات لتي دُوّنت فيها أحوال ذلك الزمن.ويتضح منها أن المسيحية في بدايتها كانت خالية من أي أثر من الشرك، وأن هؤلاء آمنوا بالمسيح اللي بصفته نبيا مخلصا
الجزء الرابع ٦٤٤ سورة الكهف فحسب.واستمر الاضطهاد الروماني، طبقًا لهذا الكتاب، لقرون، وكان هؤلاء يلوذون بهذه السراديب كلما تشتد وطأة الاضطهاد حيث كانوا يخزنون فيها المؤن خفية ويعيشون عليها، وفي بعض الأحيان ظلوا مختفين داخل تلك السراديب لسنوات عديدة.وفي الأخير وبعد مرور ثلاثة قرون لما اعتنق أحد الملوك الرومان المسيحية زالت هذه المظالم عن هؤلاء المسيحيين.ثم إن شعب "غاث" هاجموا مدينة روما ودمروا هذه السراديب بعد أن سلبوا ما فيها، فانمحى ذكر هذه السراديب شيئًا فشيئًا، ولكن بعض علماء الآثار عثروا عليها خلال بحثهم عن أنقاض مدينة روما؛ وهكذا حصل العالم على هذه المادة التاريخية الخفية مرة أخرى بعد ألف سنة.وبقراءة هذا الكتاب أدركت أن تفاسيرنا قد حوت دونما شك الكثير من الغث والسمين، ولكن نظرا إلى الأحداث المذكورة في هذا الكتاب لا يجوز لنا القول إن كل ما ورد في التفاسير لا يمت إلى الحادث الحقيقي بصلة.ولما أعدت النظر في ما ورد في التفاسير وجدت أن الروايات الثلاثة التي سجلتها آنفا - إحداها من ابن إسحاق والاثنتان من كتب الحديث – تنطوي على بذرة الصدق والحق.ولو أن القارئ أعاد قراءة هذه الروايات مرة لأدرك أنها تحوي الأمور التالية - أن هذا الحادث وقع بالأمة المسيحية.٢- أن هذه المظالم صبت - لما عليهم من قبل الرومان ٣ تقول إحدى هذه الروايات إن هذا الحادث وقع أحد الحواريين إلى عاصمة الملك الروماني.٤ - بينما تقول رواية أخرى أن وصل حادث أصحاب الكهف وقع في زمن الملك دقيوس الشهير عند العرب والهنود باسم دقيانوس والذي اسمه اللاتيني Decuis ؛ وأن بعض المسيحيين لاذوا بالغار خوفا من بطشه -٥ وكل الروايات متفقة على أن الأمة الظالمة كانت وثنية.٦- وتقول رواية لم أسجلها هنا- إن ملوك ذلك البلد أكرهوا الناس على السجود أمام أصنام لهم وعلى تقديم القرابين لها.- وورد في رواية عن ابن عباس إن هذا
٦٤٥ سورة الكهف الجزء الرابع الحادث حصل قبل زمنه بثلاث مائة عام.-۸- تقول رواية إن أصحاب الكهف خرجوا في زمن الملك الروماني يندوسيس، الذي اسمه اللاتيني Theodosis.والواقع أنه بعد مطالعة تاريخ هذه السراديب ندرك أن هذه الروايات الإسلامية تهدينا إلى صلب الحقيقة بدلاً من أن تشوش أفكارنا ذلك أننا نعرف من تاريخ الكنيسة وهذه السراديب أن الاضطهاد الفردي للمسيحيين كان بدأ بعد حادث الصليب مباشرة، ولكن الاضطهاد الجماعى بدأ في روما في زمن الملك نيرون.كان هذا الملك معاصرًا للحواريين حيث كان عهده ما بين ٥٤ إلى ٦٨ بعد الميلاد (الموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة كلمة Neru وكان النصارى القدامى يعتقدون أن بطرس صُلب في زمن هذا الملك.مما لا شك فيه أن نُقاد التاريخ المعاصرين- الذين يحاولون جاهدين التشكيك في كل حادث تاريخي- قد سعوا ليشككوا في هذا الأمر أيضًا، ولكنهم رغم جهودهم المضنية ما استطاعوا إبطال ذهاب بطرس إلى روما وموته هنالك (الموسوعة التوراتية مجلد ٤ كلمة ١ Peter).وثمة مستند في الكتابات المسيحية القديمة كتبه الأسقف Dionysius ويرجع إلى عام ۱۷۷ بعد حادث الصليب، ويخبرنا عن ذهاب بطرس إلى روما.وبما أن بطرس عمر بعد حادث الصليب لحوالي ٦٧ أو ٨٠ عاما لذا فإن هذا المستند تمت كتابته بعد وفاة بطرس بحوالي ۱۰۰ عام.ولا يمكن الاستهانة بمثل هذه الشهادة التي هي قريبة العهد من زمنهم، خصوصًا وأن كاتبها أسقف كبير من الكنيسة (الموسوعة التوراتية مجلد ٤ كلمة Simon Peter).كما جاء أنه من الثابت تاريخيا أن قبر بطرس في روما أصبح مزارًا للناس بعد حادث الصليب بقرنين، وأن عظامه نُقلت إلى سراديب الموتى عام ٢٥٨.أما السؤال : هل كان ذلك القبر وتلك العظام لبطرس فعلا، فترد عليه الموسوعة البريطانية: ليس بيدنا ما نستطيع به الجزم ذلك.(الموسوعة البريطانية طبعة ١٩٥١ كلمة.(Peter ۱
الجزء الرابع سورة الكهف وليس خفيا أن الشروط التي يجزمون بها على القضايا الأخرى متوفرة في هذه القضية أيضًا، حيث إن الرواة هم قريبو العهد من الحادث، كما أن هناك شهادة هي تاريخية من زمن لا يبعد عن وفاة بطرس بـ ١٢٥ عامًا، وهذه الشهادة كون قبره مزارًا للناس في روما.فسواء أكان الملك نيرون قتل بطرس أم لا فمن الثابت تاريخيا أن بطرس ذهب إلى روما، ومات هناك، وأن المسيحيين تعرضوا للاضطهاد حينذاك، وأنهم كانوا يفرون بحياتهم هنا وهناك.ثم إننا نعرف من التاريخ أن الاضطهاد الروماني للمسيحيين بلغ ذروته في زمن أو دقيانوس.كانوا يعذبونهم بسن القوانين، وكل من لم يسجد للأوثان كان يُعتبر مسيحيًا فيُسجن أو يُقتل.وكان حكم ديسيس من ٢٤٩ إلى ٢٥١ الميلادي، وفي عامي ٢٥٠ و ٢٥١ قام بسن قوانين غاشمة ضد المسيحيين.(الموسوعة البريطانية طبعة ۱۹۱۱ كلمة Decius، تاريخ الكنيسة).ويخبرنا التاريخ أن الملك غاليريوس Galerius ألغى قبل موته في ٣١١ الميلادي القوانين القاسية ضد النصارى.٤٣٩.The Historians History of the World v.1 p) ثم في عام ٣٣٧ اعتنق الملك قسطنطين المسيحية، وفي زمن الملك Theodosis انتشرت المسيحية على نطاق واسع، وتمتع النصارى بالأمان من قبل عامة الناس أيضًا (الموسوعة البريطانية طبع ١٩٥١ كلمة Constantine).لقد اتضح من هذه الشواهد التاريخية أن المسيحيين الأوائل تعرضوا للاضطهاد في فلسطين منذ زمن هيرودوتس وفي روما بدءا من عهد الملك نيرون حتى ٣١١ الميلادي، وأنهم كانوا يفرون ويختفون في الكهوف هنا وهناك أيام الاضطهاد.هم بالتدبر في هذه الأحداث من السهل أن ندرك أن أصحاب الكهف المسيحيون الأوائل الرومان، وأنهم تعرضوا للظلم الذي بدأ في عهد أحد حواربي المسيح مئات السنين.لقد بلغ اضطهادهم ذروته في زمن ديسيس، وعفي عنهم في عهد الملك Galerius؛ وتم إيقاف الاضطهاد بسن القانون في عهد قسطنطين؛ وحققوا ازدهارا واسعًا في عهد الملك Theodosis
٦٤٧ سورة الكهف الجزء الرابع وعلى ضوء هذه الأحداث لو تدبرنا الآن في روايات المفسرين – غاضين الطرف عن المبالغات التي أُضيفت إليها حتمًا من قبل الرواة المسيحيين واليهود – لوجدنا أن هذه الروايات تدلنا على أصحاب الكهف دلالة صحيحة.والحق أن هذه الروايات خالية من الاختلاف أيضًا.لقد رأى الناس في هذه الروايات اختلافا لأنهم ظنوا قصص الاضطهاد هذه من زمن واحد، وأن هذا هو تاريخ الاضطهاد كله، مع أن الاضطهاد وقع على فئات عديدة وفي أزمنة مختلفة.لقد حصل هذا في زمن الملك نيرون حين كان بطرس موجودًا في روما، وإلى ذلك يشير ما رواه ابن إسحاق.كما حصل الاضطهاد في عهد الملك ،ديسيس وإليه تشير رواية ابن المنذر على ما يبدو إن فترة هذا الاضطهاد امتدت إلى ثلاثة قرون، وكلما اشتدت وطأته عاش المسيحيون المضطهدون في الكهوف، فاشتهرت بين القوم قصص شتى عن تضحياتهم.فمنهم من سمع ما حدث ببطرس، فظن أن تاريخ أصحاب الكهف ينحصر فيما حصل ببطرس فحسب.ومنهم من سمع ما حصل في زمن الملك دیسیس، فظن أن هذه هي قصة الاضطهاد فقط.ولكن إذا اعتبرنا هذه القصص أحداثًا من عصور شتى، غاضين الطرف عما ورد فيها من المبالغات التي تجد طريقها إلى مثل هذه الأمور عمومًا ، فكل هذه الروايات تبدو صحيحة، وترسم لنا مشهدًا موجزًا للاضطهاد المريع الذي تعرض له المسيحيون الأوائل.وأوجز لكم الآن بعض الحقائق المتعلقة بالكهوف.وكما قلت من قبل إن المراد من الكهوف هنا سراديب الموتى، وهي مغارات تحت الأرض.كان من عادة الرومان واليهود أن يضعوا موتاهم في الغرف تحت الأرض.وكانت هناك خارج المدن الكبيرة في الإمبراطورية الرومانية أماكن مخصصة لهذا الغرض، وتسمى سراديب الموتى.لما تعرض المسيحيون للاضطهاد فروا بحياتهم ولاذوا بهذه المقابر.وقد فعلوا ذلك لسببين : الأول أن هذه السراديب كانت تساعدهم على الاختفاء والجلوس والمبيت والاحتماء من الطقس بكل سهولة.والثاني أن الناس يخافون القبور عمومًا ، فكان في اختفائهم فيها ضمان أن يظلوا بعيدين عن أعين الناس.
الجزء الرابع ٦٤٨ سورة الكهف وقد اكتشف العلماء هذه السراديب قريبًا من روما وصقلية ونابولي ومالطة وفي الأسكندرية بمصر (الموسوعة البريطانية طبعة ۱۹۷۲ كلمة Catacombs).يقول السيد Benjamin Scot في كتابه "سراديب روما" : "وعندي أنه حتى في ذلك الزمن البدائي - الذي ذهب فيه بولس إلى روما - كان المسيحيون يلجأون إلى هذه الغرف الأرضية فرارًاً بحياتهم من غيظ الناس واضطهاد اليهود والحكومة الرومانية." ثم يضيف: "لا جرم أنهم كانوا فعلاً مضطرين للاختفاء في هذه المغارات والكهوف الأرضية ( ١٦٤ - ٦٥.The Catacombs at Rome p).والجدير بالذكر أن المؤلف قد استخدم لهذه الغرف الأرضية كلمة (Cave)، صورة مشوهة للفظ العربي "كهف" ؛ وكأن هذا المؤلف الإنجليزي قد استخدم نفس الكلمة التي وردت في القرآن الكريم.ود وأما قوله إن المسيحيين كانوا مضطرين للاختفاء في هذه الكهوف فهو ثابت بشهادة المؤرخ الرومي تاقيطس Tacitus) حيث يقول: كان الملك نيرون يسُرُّ جماهيره بإحراق النصارى أحياء، وكان يلقيهم أمام الكلاب الضارية، ويصلبهم بطرق شتى؛ وقد خصص حديقته الملكية لتنفيذ هذه العقوبات.(Tacitus..The Annals and The Histories p.YO-YOA) فالقوم الذين تعرضوا للاضطهاد الشديد على هذا النطاق الواسع لم يكن أمامهم مناص إلا الاختفاء هنا وهناك فراراً بحياتهم.وأيام لجوئهم إلى هذه السراديب بدأ النصارى يبنون فيها غرفا أخرى ليزدادوا تحصنًا.كما كانوا يأتون بحثث شهدائهم إلى السراديب ويدفنونها فيها مخافة أن تتعرض للإساءة.وبما أن الاضطهاد استمر لثلاثة قرون فكثرت الغرف الإضافية داخل السراديب حتى امتدت تحت الأرض لحوالي ١٥ ميلا في رأي البعض.(The Catacombs at Rome p.70 To 17)
الجزء الرابع ٦٤٩ سورة الكهف وبما أن الظلم لا يكون عمومًا على منوال واحد في كل الأيام حيث كان بعض الملوك أقل قسوة، لذلك كان المسيحيون يرجعون إلى المدن حين تخف وطأة الظلم، ويرجعون إلى الكهوف ثانية حين تشتد وطأته، ويبدو أنهم كانوا يضطرون للعيش فيها لشهور وسنين حيث توجد داخل السراديب غرف للمدارس والكنائس أيضًا.لهذه السراديب ثلاثة طوابق، ولقد رأيتها بأم عيني أثناء مروري بروما حين سافرت إلى إنجلترا عام ١٩٢٤.يستطيع الإنسان زيارة غرف الطابق العلوي بدون صعوبة كبيرة، ولكنه يشعر بضيق التنفس أثناء زيارة غرف الطابق الثاني، أما غرف الطابق الأخير فزيارتها شبه مستحيلة لشدة الرطوبة والظلام.ولقد وجدت أن المسيحيين قد حولوا هذه الغرف إلى متاهات واتخذوا للتحصن التدابير التالية: أولاً، كانوا يربطون الكلاب على أبواب السراديب لتدلّهم بنباحها على قدوم شخص أجنبي.ثانيا، كانوا لا يبنون السلالم الطينية للنزول من سطح الأرض إلى الغرف الأرضية، بل كانوا يستخدمون لهذا الغرض السلالم الخشبية التي كانوا يزيلونها بعد استخدامها، كيلا يتمكن العدو الداهم من الوصول فورا إلى الغرف الأرضية التي كانوا يعيشون فيها.ثالنَّا، أما إذا وصل العدو إلى غرفة عيشهم بالقفز أو بالسلالم التي أتى بها معه، فكان الطريق لحماية أنفسهم منه أنهم جعلوا في كل غرفة أربعة أبواب كان الواحد منها فقط يؤدي إلى الغرفة التالية بينما كانت الأبواب الثلاثة الباقية تؤدي إلى أنفاق مسدودة.فكانوا يلوذون على الفور إلى الغرفة المجاورة لمعرفتهم بالباب الحقيقي، بينما كان العدو المطارد يدخل الباب الخاطئ ثم يرجع القهقرى حين يجد الطريق أمامه مسدودًا، وهكذا كان العدو يضيع في بحثه عن الباب الأصلي وقتًا كثيرًا، وبالتالي كان يتأخر كثيرًا عن النصارى الفارين من بطشه.وكانت هذه المطاردة المرهقة تتبّط من همم رجال الشرطة فكانوا يتركون ملاحقتهم.
٦٥٠ سورة الكهف الجزء الرابع رابعًا، أما إذا استمروا في الملاحقة فكان النصارى ينزلون إلى الطابق الثاني من الغرف الأرضية التي كانت أكثر ضيقا وظلامًا وتعقيدًا.خامسًا، ولو افترضنا أن الشرطة استمرت في ملاحقتهم هنا أيضًا فكان هناك غرف الطابق الثالث التي كان النصارى لا ينزلون إليها إلا لفترة قصيرة أثناء مطاردة الشرطة فقط على ما يبدو.ذلك أننا لم نقدر أثناء زيارتنا لها على المكوث فيها أكثر من ثلاث أو أربع دقائق، وإن كان أحد أسبابه أن الرطوبة فيها قد أصبحت الآن عالية جدا.إنها غرف موحشة تمامًا.وبما أن طول كل هذه الطرق داخل السراديب يبلغ عدة مئات من الأميال فلم يكن القبض على النصارى فيها بالأمر الهين.ولكن لا قبل للإنسان بالحكومات، فكانت الشرطة تنجح في القبض أحيانًا، وتقتلهم في مكانهم على الفور.ولقد شاهدت بنفسي هناك عددًا من قبور أولئك الشهداء.وقد قرأ علينا أحد القسيسين، بطلب منا، بعضا من عليهم لوحات تلك القبور، فوجدناها تحكي قصصا مؤلمة لاستشهاد أولئك الناس.ولقد اكتشفوا في الفترة الأخيرة المزيد من اللوحات والقبور التي بعضها لأولئك القوم الذين أقام بطرس عندهم، أو الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس.سوعة البريطانية الطبعة الرابعة عشرة كلمة Catacombs).في عهد سُن (الموس الملك ديسيس القانون لإجبار النصارى على السجود للأصنام، فصُبّت عليهم المصائب في زمنه صبا، فقضوا كل هذه الفترة تقريبًا في السراديب إلا الذين ارتدوا منهم في الظاهر عن دينهم.إذا فإن أصحاب الكهف قد ضربوا في تلك الفترة مثالاً رائعًا للتضحية والفداء في سبيل الله تعالى.ويتضح من اللوحات التي عُثر عليها في السراديب أنه لم يكن عند نصارى ذلك العصر أثر للشرك والوثنية، حيث لا توجد في هذه اللوحات كلمة واحدة تدل على الشرك.لم يقدم فيها المسيح كابن الله تعالى، بل على صورة راع فحسب.كما تدل هذه اللوحات على تعظيمه غير العادي لوالدته.إن معظم هذه اللوحات تركز على إبراز حادث النبي يونس وعلى إبراز الحــدث الأخير لدى حادث طوفان نوح حيث جاءت حمامة بخبر انکشاف وجه
الجزء الرابع سورة الكهف الأرض.مما يدل على أن هؤلاء لم يتركوا العمل بالعهد القديم، وكانوا يؤمنون بالمسيح كنبي وراع روحاني فحسب (انظر المرجع السابق، و The Catacombs at Rome by B.Scott وكتاب الدكتور Meat Land) فالخلاصة أن الله تعالى قد ذكر من خلال حادث أصحاب الكهف أحوال المسيحيين الأوائل، مشيرًا إلى بداية الأمة المسيحية حيث كانوا يحاربون الوثنية والشرك، وقدَّموا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة لقرون طويلة؛ أما اليوم فلا يوجد فيهم أي أثر لدينهم الأصلي.حنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةُ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَهُم هُدًى شرح الكلمات : نقُص: قصَّ أَثَرَه َيقُصِّ قَصَّا وقَصَصًا : تتبعه شيئًا بعد شيء، ومنه "فارتدا على آثارهما قَصَصا" أي رجعا في الطريق التي سلكاها يقُصان الأثر.وقص عليه الخبر والرؤيا: حدَّث بهما على وجههما، ومنه "نحن نقص عليك أحسنَ القَصَص" أي نبين لك أحسن البيان (الأقرب).نبأ: نبأه الخبر وبالخبر : خبره، ويقال : نباتُ زيدًا عَمْرًا منطلقا أي أعلمتُه.والنبأ بر.وقال في الكليات: النبأ والأنباء لم يَردَا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم (الأقرب).الحق حقه حقا غلبه على الحق.وحَقَّ الأمرَ: أثبته وأوجبه؛ كان على يقين منه.حَقَّ الخبرَ : وَقَفَ على حقيقته.والحق: ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ الملكُ؛ الموجود الثابت؛ اليقين بعد الشك؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٥٢ سورة الكهف أنه التفسير: يبين الله تعالى : نحن نروي لك أحداثهم كما وقعت.وهذا يعني كانت هناك قصص شائعة بين القوم عن أصحاب الكهف، وأن تلك القصص القديمة عارية عن الصحة.والآية السابقة أيضًا تدل على وجود قصص شائعة عن هؤلاء القوم.ذلك أن البيان القرآني عنهم إنما يبدأ من هذه الآية، أما ما سبقه من البيان فهو، كما يبدو، ملخص صحيح للروايات الشائعة عنهم في ذلك الوقت.ثم يقول الله تعالى إنهم فتية آمنوا بربهم أي جماعة من الشرفاء أو الأسخياء أو الشباب الذين آمنوا بربهم، ذلك أن الفتى يعني السخي الكريم أو الشاب (الأقرب).والحق أن الشباب أكثر إسهاما في الخدمات الدينية على العموم، حيث نجد أن كل من آمنوا بالرسول الله كانوا أصغر منه سنا إلا قليلاً منهم.وقد تكون كلمة "فتية" إشارة إلى فئة معينة من النصارى اللاجئين في هذه الكهوف كانت أكثرهم تضحية.وقد يكون مفهومها عامًا يشمل جميع النصارى الشرفاء الذين تمسكوا بدينهم وقدموا التضحيات طيلة هذه الفترة الممتدة إلى ثلاثة قرون.وأنا شخصيًّا أفضل المفهوم الأخير.أما قول الله تعالى "فزدناهم هدى فيعني أننا زدناهم إيمانا على إيمانهم بسبب تضحياتهم.وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَيْهَا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا : شرح الكلمات: ربطنا على قلوبهم: ربط الشيء يربط ويربط رَبْطَا: أَوثَقَه وشَدَّه.ربط جَأْشُه رباطةً: اشتد قلبه.وربط الله على قلبه: صبره (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٥٣ سورة الكهف شَطَطًا : شَطَ شَطَطًا: جارَ؛ أفرط.وشط في سَلعته شَطَطًا: جَاوَزَ القَدْرَ المحدودَ؛ تباعد عن الحق.وشطّ في السَّوم: غالى في الثمن.والشَّطَط: مجاوزة القدر والحد (الأقرب).التفسير : يبين الله تعالى بالرغم أن الملك والجماهير كلهم كانوا يعارضونهم إلا أنه تعالى قوّى قلوبهم وصبرهم، فقاموا وأعلنوا عن عقيدتهم غير خائفين.هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ وَالِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَنٍ بَيْنِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا شرح الكلمات سلطان السلطانُ : الحُجَّةُ التسلط؛ قدرة الملك (الأقرب).بين البين: الواضح الجلي (الأقرب).١٦ التفسير: يتضح من هذه الآية أن القوم الذين خرج من بينهم أصحاب الكهف كانوا يعبدون الأصنام حيث اتخذوا آلهة كثيرة من دون الله تعالى.وهكذا كانت حال الرومان حيث كانوا يعبدون أوثانًا كثيرة.كما يتضح من قول الله هذا أن هذه الفئة من عباد الله الموحدين لم تكن عبارة عن فتيان متشتتين متفرقين، بل كانوا متمسكين بدين واحد، يتزاورون فيما بينهم.ذلك أن مضمون هذه الآية يدل على أنهم كانوا يديرون هذه الحوارات فيما بينهم على انفراد.
الجزء الرابع سورة الكهف وَإِذ اَعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُنَا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ، وَيُهَى لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا شرح الكلمات: ۱۷ ينشر: نشر الثوب: بسَطه، خلافُ طَوَاه.نشرت أوراق الشجر: انبسطت وامتدت.نشر الخبر نشراً: أذاعه (الأقرب).مرفقًا: رفق به وعليه وله يرفق مرفقًا: لطف ولم يعنّف (الأقرب).التفسير: لقد عرفوا كلمة "الكهف" في قولهم: "فأْوُوا إلى الكهف"، وهذا يدل على أنهم عنوا به كهفا معينًا شهيرًا في منطقتهم، وكان كل واحد منهم يعرفه.ولو كان المراد به أي كهف لقالوا "فأوُوا إلى كهف".وقد اشتهر هذا الكهف من قبل لأن العبيد كانوا يفرون ويختفون فيه لدى تعرضهم للظلم الشديد على أيدي أسيادهم الرومان.مما لا شك فيه أنهم قاموا بتوسيع هذا الكهف كثيرًا، ولكنه كان واسعا من قبل أيضا.كما يتضح من هذه الآية أن أصحاب الكهف كانوا هدفا للاضطهاد منذ فترة طويلة قبل لجوئهم إلى كهفهم ذلك أن قولهم وإذ اعتزلتموهم يدل على أن قومهم قد قاموا بمقاطعتهم ،اجتماعيَّا، فكانوا يعيشون في مجموعة منفصلة عن باقي القوم.فقرروا بالتشاور أنهم سيفعلون ما فعل العبيد من قبل، وسيختفون في الكهف حين تشتد وطأة الظلم ويصبح العيش بين القوم ضارا بدينهم.وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهُ بِهِمْ ذَاتِ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تُقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ
الجزء الرابع سورة الكهف وَايَتِ اللهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ ۱۸ له ولياً مرشدًا ) شرح الكلمات: تَزاوَرُ: أصله تتزاورُ وقد حُذفت إحدى التاءين بحسب القواعد العربية.ومعنى "تَزاوَرَ عنه : عدل عنه وانحرف" (الأقرب).تقرضهم: قرض الشيء يقرض قرضا قطعه قرض الوادي: جازَه.قرض المكان : عدل عنه وتنكبه (الأقرب).فجوة: الفجوة: الفُرجة بين الشيئين؛ ما اتسع من الأرض؛ ساحة الدارِ (الأقرب).مرشدًا : أرشده: هداه الأقرب)..أي: ۱- دَلَّه على الطريق؛ ٢- أوضحه لــــه بينه له ؛ ٣ - أوصله إلى غايته؛ ٤ - هداه إلى الإيمان.التفسير: لقد بين الله الله هنا مكان هذا الكهف.يتضح من علامات الكهف المذكورة هنا أن هؤلاء كانوا يقيمون في أقصى المناطق الشمالية من الكرة الأرضية، لأننا إذا كنا في المناطق الشمالية من الأرض واتجهنا إلى الشرق تكون الشمس على يميننا، وإذا كنا في المناطق الجنوبية واتجهنا إلى الشرق تكون الشمس على يسارنا.كما يتضح لنا من هذا الوصف القرآني أن فوهة كهفهم كانت في الجهة الشمالية الغربية، لأن المبنى الذي وجهه إلى الشمال تمر الشمس من يمينه إلى شماله.وقولـــــــه تعــــالى وهم في فجوة منه يدل على وجود مساحة واسعة داخل الكهف.وهذا ما تؤكده تلك السراديب لأنها واسعة جدا من داخلها، وقد قدر البعض الطول الإجمالي لشوارعها وغرفها المبنية في الطوابق الثلاثة بحوالي ٨٧٠ ميلاً! كما كان ضوء الشمس لا يصل داخل تلك السراديب إلا قليلاً، ولولا ذلك
الجزء الرابع سورة الكهف لأُلقي القبض على أهلها.لقد حفرت السراديب حفرا يوصل إليها الهواء، من دون أن يدخل إليها الضوء الذي يدل على وجودهم.قال St.Jerome في القرن الرابع الميلادي: إن هذه الغرف مظلمة لدرجة مذهلة، ولا يمكن أن يصل إليها ضوء الشمس إلا إذا كان هناك تصدّعٌ أو تشقق في المبنى.(الموسوعة البريطانية طبعة ١١- ۱۹۱۰ كلمة Catacombs of Rome).والحق أنه ببيان موقعهم الجغرافي قد نبه الله تعالى المسلمين أن لهم عدوا في الشمال فليأخذوا منه حذرهم، ولكن المسلمين للأسف لم ينتبهوا لذلك.يقول الله تعالى بعد ذلك من يهد الله فهو المهتد..أي لقد أشرنا ولكن لن يفهم إشارتنا إلا المهتدون..بمعنى أن المسلمين الذين يوالون هذه الشعوب يهلكون، أما المسلمون الذين يكونون على اتفاق واتحاد فيما بينهم يفلحون.ولكن الأسف أن المسلمين تحاربوا فيما بينهم، بينما تصالحوا مع ملوك الروم، اللهم إلا المسلمين الأوائل.ورد في التاريخ أن ملك الروم لما سمع عن الحرب الدائرة بين سيدنا علي ومعاوية رضي الله عنهما أراد الهجوم على الدولة الإسلامية، فكتب معاوية إلى ملك الروم: حذار أن تغترّ بالنزاع بيننا.فوالله، لو هاجمت عليا لسوف أكون أول قائد يخرج لمحاربتك من قبله.ولكن لما انحرف المسلمون عن الإسلام تصالح ملوك بغداد مع الحكومة الرومانية الشرقية الشهيرة بالبيزنطية وذلك لضرب الدولة الإسلامية بأسبانيا.أما الملوك المسلمون بإسبانيا فأرسلوا الهدايا إلى بابا روما وتصالحوا معه، وذلك لضرب الدولة الإسلامية ببغداد إنا لله وإنا إليه راجعون.ونص الرواية كالآتي: "فلما رأى ملك الروم اشتغالَ معاوية بحرب علي تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه فكتب معاوية إليه : والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين، لأصطلحنّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأُضيقن عليك الأرض بما رحبت" (البداية والنهاية مجلد ٧ ص ١١٩).
الجزء الرابع سورة الكهف علما أن المقطعة القرآنية المر هي التي لفتت نظري إلى هذا الأمر أساسا، ونبهتني إلى هذا الخطأ الفادح والمؤلم الذي ارتكبه المسلمون.وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ صلے وو ج وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَو اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِقْتَ مِنْهُمْ رُعبًا شرح الكلمات : تحسبهم: حسبه: ظنّه (الأقرب).۱۹ أيقاظا يقظ الرجلُ : ضدُّ نامَ وتنبَّه للأمور وحذر وفطن، فهو يَقظُ ويَقُظْ ويَقْطَان، والجمع أيقاظ (الأقرب).رقود: رقد الرجلُ يرقد رَقْدًا ورُقادًا ورُقودًا : نامَ.رقد الحر: سكَن.رقد الثوب: أخلق.رقد عن الأمر: غفل.والراقد : النائم والجمع رُقودٌ ورُقَدٌ (الأقرب).نقلبهم قلبه حوله عن وجهه.قلب الشيء: حوّله وجعل أعلاه أسفله.وقلب للابتياع: تصفّحه فرأى داخله وباطنه.قلب الأمرَ ظَهْرًا لِبَطْنِ: اختبرَه.قلب الشيء القوم: صرفهم (الأقرب).الوصيد: الفناء؛ العتبة؛ بيت كالحظيرة يُتخذ من الحجارة للمال أي الغنم وغيرها في الجبال؛ الجبلُ؛ النباتُ المتقارب الأصول؛ الضيقُ والمطبَقُ (الأقرب).التفسير : أرى أن هذه الآية لا تتحدث عن الأيام الأوائل لأصحاب الكهف، بل تبين حالة هذه الشعوب زمن نزول القرآن يخبر الله تعالى: أنكم تظنون أن هذه الشعوب الشمالية أيقاظ كلا، بل هي نيام وستستيقظ في المستقبل.وكأنه تعالى يقول: يجب أن تعتبروهم نياما بالنظر إلى ما سيكونون عليه في المستقبل.
٦٥٨ سورة الكهف الجزء الرابع هي التي وكان هذا تنبيهًا إلهيًّا للمسلمين أنهم لو كسروا شوكة هؤلاء القوم الآن لصاروا في مأمن من شرهم في المستقبل.ولكن الأسف أن المسلمين بعد زمن سيدنا عثمان لا لا لا لا تهاونوا في التصدي لهؤلاء القوم، ولو أنهم استمروا في زحفهم على الحكومة البيزنطية وقضوا عليها لكانت خريطة العالم غير التي نراها اليوم.علما أنه كان للمسلمين كل الحق للهجوم على تلك الحكومة لأنها بدأت بالعدوان على المسلمين.أما قوله تعالى ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) فأخبر فيه أنه تعالى سينشرهم في العالم، وذلك الوقت هو بمثابة موعد استيقاظهم؛ فليأخذ المسلمون قبل حلوله التدابير اللازمة لحمايتهم.وأما قوله تعالى وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فهو إشارة إلى الحكومة البيزنطية التي تقوم بحماية أوروبا من جانبي بحر مَرْمَرة، حيث يبدو هذا البحر وكأنه كلب يقوم بالحراسة باسطا ذراعيه إلى اليمين والشمال.لا شك أن الأتراك قاموا بفتح هذه المنطقة، ولكنه كان بعد فوات الأوان، حيث قويت وقتئذ شوكة القوى الشمالية، ولم يعد الأتراك قادرين على مقاومتها.فلو أن الدولة البغدادية والدولة الإسبانية تحالفتا وبسطتا نفوذهما على بلاد الشمال لكانت فرصة ذهبية، إذ لو أن الإسلام انتشر في تلك البقاع في ذلك الوقت لما رأينا الآن هذه الأيام الحالكة.الله تعالى؟ وقد يكون قوله تعالى وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد نبأ عن اقتناء هذه ا الشعوب الكلاب بكثرة.وبالفعل ترون الأوروبيين يربّون الكلاب بكثرة من أجل الحراسة، وكل من يزور بيوتهم يخاف كلابهم أولاً وقبل كل شيء.قد يقال هنا: كيف كان رد هذا الخطر ممكنا مع أنه قدر مقدور من الحق أن أصحاب هذا الاعتراض لا يدركون حقيقة الأنباء الإلهية، لأن من سنن الله تعالى إلغاء الأنباء التحذيرية ولو أن المسلمين عملوا بحسب الإنذار الإلهي لما
الجزء الرابع سورة الكهف منهم فرارا فرارًا وملئت وملئت منهم رُعبًا فهو كان الإسلام في هذا الضعف والاضمحلال الذي هو فيه اليوم، بل لوجدنا في أوروبا أنصارا يتعاطفون معه ويخففون من شدة الحملة المسيحية على الإسلام.أما قوله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت أيضا نبأ يتعلق بزمن انتشار هذه الشعوب من مناطق الشمال إلى الجنوب.وبالفعل ترون كيف استولى رعب هذه القوى الشمالية على العالم كله؛ وكل دولة، أيا كانت، مرهونة برحمة هذه الشعوب.واعلم أن الخطاب في قوله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا..لا يمكن أن يكون موجها إلى النبي ﷺ ، بل هو موجه إلى الذين يعاصرون هذه الشعوب بعد أن يقلبهم الله تعالى ذات اليمين وذات الشمال.وبالفعل رأيتم كيف أن الدنيا كلها قد ملئت رعبًا من هذه الشعوب خاصة قبل فترة قليلة، ولكن الله تعالى قد خفّف رعبها عن الدنيا بخلق أسباب هلاكها، أما قبل ذلك فكان رعبها مستوليا على الناس لدرجة أن الناس كانوا يخافون حتى من السفر في عربات الدرجتين الأولى والثانية للقطار والثانية للقطار، * ويهابون الأوروبيين بمجرد رؤيتهم.صلے وَكَذَلِكَ بَعَثْنَهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَابِلٌ مِّنْهُمْ كمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (ج) * ذلك أن الأوروبيين كانوا يسافرون عمومًا في هاتين الدرجتين من القطار.(المترجم)
الجزء الرابع شرح الكلمات: ٦٦٠ سورة الكهف وَرَق : الوَرَق : الدراهم المضروبة (الأقرب).أزكى زكاه يزكي زَكًا ألف درهم: نقده إياه أو عجل له نَقْدَها.وزكا فلانًا حقه: قضاه إياه.وزكا الشيء يزكو زَكاءً وزَكوًا نما.وزكا الرجل : صلح وتنعَّمَ وكان في خصب (الأقرب).والزكاةُ: الطهارة والنماء والبركة (التاج).طعاما : الطعام : اسمٌ لما يؤكل، وقد غلب الطعام على البر، وربما أُطلق على الحبوب كلها (الأقرب).رزق: الرزق: ما يُنتفع به؛ ما يُخرج للجندي رأس كل شهر (الأقرب).وليَتلطَّف: تلطَّفَ الأمر وفي الأمر: ترفَّقَ فيه؛ تخشَعَ.وتلطَّف بفلان: احتال لــــه حتى اطلع على أسراره (الأقرب).لا يُشعرن : أشعر فلانا الأمر أو به: أعلمه (الأقرب).التفسير: لا تتحدث هذه الآية عن أولئك الذين كانوا يختفون في الكهوف في الزمن القديم، بل تتحدث عن الزمن الذي يقلب الله لها هذه الشعوب فيه ذات اليمين وذات الشمال.كما أن قوله تعالى بَعَثْناهم أيضا يشير إلى التقدم الذي ستحرزه في المستقبل شعوب الشمال التي تكون قد تنصرت حينذاك.علما أن من أساليب القرآن أن يستخدم صيغة الماضي بكثرة للإدلاء بالأنباء المستقبلية، لأن صيغة الماضي هي بمثابة التأكيد على وقوع تلك الأنباء حتمًا؛ ومثاله قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه) (النحل (۲) ولقد اتبع القرآن هذا الأسلوب هنا أيضًا فقال وكذلك بَعَثْناهم.فالله تعالى قد أخبر هنا أنه سيوقظ هذه الأمم التي هي كقوم نائمين حاليا، فيتساءلون فيما بينهم كم لبثنا في حالة النوم؟ بمعنى أنه يجب علينا أن نستيقظ الآن.وبالفعل أفاقت هذه الشعوب من سباتها زمن الحروب الصليبية، فتحالفت ضد الإسلام للهجوم على البلاد الإسلامية.
سورة الكهف الجزء الرابع أهم أما قولهم البثنا يوما أو بعض يوم فليس المراد به أنهم كانوا في شك فيما لو كانوا نائمين يوما أو بعض يوم، بل هذا أسلوب يعبر به عن فترة طويلة غير محددة؛ ومثاله في القرآن الكريم قول الله تعالى للكفار يوم القيامة كم لبشم في الأرض عـــــدد سنين، فيقولون البثنا يوما أو بعض يوم فَسْئَلِ العادين (المؤمنون: ١١٣-١١٤).والواضح من أسلوب هذا السؤال والجواب أن الكفار يعنون مكثوا فترة غير معينة.وهذا هو المراد من قول هذه الشعوب، إنهم ظلوا نياما لفترة غير محددة.وقد ذكر القرآن في موضع آخر أن فترة مكوث هذه الشعوب هي ألف سنة، حيث يقول الله تعالى يومَ يُنفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زُرْقًا يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عَشْرًا ) (طه: ١٠٣-١٠٤).أي حين يُنفخ في الصور فسوف نهيج ونبعث المجرمين الروم ذوي العيون الزرقاء، فيقولون فيما بينهم بصوت خافض : لم نمكث إلا عشراً أي عشرة قرون وهي ألف سنة.علما أني قد فسّرتُ كلمة "زُرْقًا" بمعنى ذوي العيون الزرقاء التي هي صفة الشعوب الأوروبية لبياض لونهم.ذلك أن العرب كانوا يطلقون هذه التسمية على الروم لوجود العداوة الشديدة بينهم.فقد ورد في القاموس كلمة "الأزرق": "وقيل: معناه الشديدُ العداوة لأن زُرِّقة العيون غالبةٌ في الروم والديلم وبينهم وبين العرب عداوة شديدة، ثم لما كثر ذكرهم إياهم بهذه الصفة وإن لم يكن أزرق العين" (الأقرب).سمي كل عدو بذلك إذا فليس المراد أنهم كانوا في شك أنهم ربما لبثوا في حالة الغفلة قليلاً، بل المعنى لبثوا في تلك الحالة لفترة طويلة غير محددة.وقد أخبرت سورة طه أن طول هذه الفترة ألف سنة، كما بيّنتُ وإذا جمعنا ألف سنة إلى السنة التي أعلن فيها النبي اول و دعواه كان المجموع ١٦١١ حيث كان مولده الشريف في عام ٥٧٠ الميلادي بحسب ما يراه السير وليم ميور حياة محمد ص (٥)؛ وقد أعلن دعواه وهو في سن الأربعين أي في عام ٦١١ الميلادي، وإذا جمعنا إليه ألف سنة كان المجموع ١٦١١ أو ١٦١٢ أي العام ١٦١١ الميلادي.وهو نفس العام الذي ثبت
الجزء الرابع ٦٦٢ سورة الكهف فيه الإنجليز أقدامهم في الهند حيث سمح لهم الملوك المغول بالهند بالعمل في خليج البنغال عام ١٦١١، ثم منحوا لهم الرخصة لإنشاء مصنع في "سورت" عام ١٦١٢ (The March Of Man, Comparative Time Chart Of Universal History From 1451 to 1675, Section 4, Under; "British Colonies And Dominions Overseas") وتعرف الدنيا كلها أن هذه الخطوة هي التي هيأت الأساس لرقي أهل أوروبا وانتشارهم في العالم كله حيث ازدهر الأوروبيون باتباع خطوات الإنجليز هذه والاعتماد عليهم.ذلك أن تقدم الإنجليز راجع إلى دخولهم في الهند، حيث لم يتمكنوا من الاستيلاء على الأقطار الأخرى من آسيا وأفريقيا إلا بعد أن ثبتوا أقدامهم في الهند.ثم إن استيلاء الإنجليز على زمام البلاد المختلفة ساعد على تقدم الشعوب الأوروبية الأخرى.ورب قائل يقول هنا: القرآن يتحدث هنا عن الروم، فما علاقة الإنجليز بهذا الموضوع؟ والجواب أن الحضارة الأوروبية إنما هي نتاج الحضارة الرومانية، والحق أن أوروبا كلها هي بمثابة تلميذ للرومان وتذكار للحضارة الرومانية؛ ثم إن المسيحية لم تنتشر في أوروبا إلا بواسطة الرومان.ومن أجل ذلك كله ذكر القرآن الأصل الذي خرجت منه هذه الفروع.أما قوله تعالى أيها أزكى طعامًا فيعنى أيُّ الأطعمة أصلَحُ وأطيب.والحق أن أكبر سبب لانتشار الشعوب الغربية في العالم هو أن بلادها لم تكن تنتج من الغلال ما فيه الكفاية، فكانوا يستوردون الغلال والتوابل ويشترونها من بواسطة العرب، ولكنهم لما اطلعوا على الطريق البحري المؤدي إلى الهند أخذوا تجارة هذه السلع بأيديهم مباشرة، ثم استولوا بالتدريج على تجارة الأشياء الأخرى.علما أن "طعاما" لا يعني هنا الطبيخ، لأنه يُطلق في اللغة العربية على كل ما يؤكل، وخاصة على القمح والواقع أنه ما زالت الهند تسدّ حاجة أوروبا إلى القمح لقرنين، إلى أن حاولت أمريكا زرع القمح محليًّا قبل زمن قريب.آسیا
الجزء الرابع ٦٦٣ سورة الكهف إذًا فقولهم فلينظُرْ أيها أزكى طعاما ) يعني أن أصحاب الكهف قالوا لزميلهم أن يبحث عن أفضل الغلال، لأن عليهم أن يدخروه لمدة طويلة.أما قولهم وليتلطَّف فاعلم أن هذه هي صفة الشعوب الغربية، حيث يأمرون المسؤولين الذين يبعثونهم إلى الخارج خاصة أن يتحدثوا دائما بلطف ورفق.كما يوحي أهم أن تجارهم أيضًا يتكلمون بأسلوب لين معسول حتى لا يثور الزبائن عليهم.وأما قولهم فابعثوا أحدكم...إلى قولهم ولا يُشعرن بكم أحدًا" فاعلم أنه بالرغم من قولهم أَحَدَكم وبالرغم من ورود ضمائر المفرد بعد ذلك، أرى أن هذا لا يعني بالضرورة أنهم بعثوا شخصًا واحدًا فقط للطعام.والدليل على ذلك أن القرآن الكريم ذكر في سياق قصة آدم العليا إبليس أحيانًا بضمير المفرد فقط مما وكأن كل الكلام موجه إلى إبليس وحده، مع أنه، في أماكن أخرى وفي سياق قصة آدم نفسها، ذكر مع إبليس جماعته أيضًا فقال بعضكم لبعض عدو ، كما ذكر مع إبليس ذريته أيضًا في أحيان أخرى.كذلك الأمر هنا، فمع قالوا هنا: فابعثوا أَحَدَكم إلا أن المراد أن أبعثوا بعضا منكم لشراء هذه الحاجيات.وعندي أن كلمة أحدكم قد استخدمت هنا إشارةً إلى النظام الواحد..أي فليذهب هؤلاء البعض جميعًا تحت نظام واحد بحيث يكون الشخص الواحد منهم مسؤولا عمن معه.أما قولهم ولا يُشعرن بكم أحدًا فيعني يجب أن تعملوا هنالك بحيث لا يحس ولا يدرك أحد أنكم تريدون بثّ نفوذكم في تلك البلاد، بل ينبغي أن تعاملوا أهلها بحيث يبقون غافلين عن أهدافكم الحقيقية.لقد استخدم القرآن لهؤلاء المشيرين والمشار عليهم صيغ الجمع، وعندي أن في ذلك إشارة إلى أن هذا الوفد التجاري سيُبعث من قبل شركة مؤلفة من أناس كثيرين لا من قبل ملك واحد.وبالفعل نجد أن الوفود التجارية الإنجليزية أو الفرنسية التي جاءت إلى الهند لهذا الغرض قد بعثتها الشركات التجارية، لا ملك من الملوك (كمبني كي حكومت (أي حكومة الشركة) ص ٥٥ - ٥٦).
الجزء الرابع سورة الكهف إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُ وكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَن تُ لِحُواْ إِذًا أَبَدًا (3) شرح الكلمات: إِنْ يَظهروا عليكم ظهر يظهر عليه غلبه ظهر فلان على السر: اطلع عليه (الأقرب).يرجموكم راجع شرح الكلمات للآية رقم ۱۸ من سورة الحجر.ملتهم: الملة: الشريعة أو الدِّينُ، وقيل: الملة والطريقة سواء، وهي اسم من أمليتُ الكتاب، ثم نُقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يُمليها النبي، وقد تُطلق على الباطل كـ "الكفر" ملة واحدة"، ولا تُضاف إلى الله ولا إلى آحاد الأمة (الأقرب).التفسير : قالوا: هذه الشعوب التي تبعثون إليها وفودكم لو اطلع أهلها على أسراركم أو نازعوكم وحاربوكم، قبل تثبيت أقدامكم في بلادهم، لطردوكم منها - علما أن من معاني الرجم الطرد أيضًا (الأقرب) – أو أكرهوكم على الدخول في دينهم إذا لم يطردوكم.وفي كلتا الحالتين سوف تكسر شوكتكم، ولن تزدهروا بعد ذلك أبدًا.وبالفعل ترون كيف أن الدول الأوروبية تساعد المسيحية أجل المصالح السياسية، وتتخذ كل نوع من التدابير للحيلولة دون انتشار أفكار الشعوب الأخرى بين الأوروبيين.من
الجزء الرابع سورة الكهف وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَتَزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ج ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَنًا رَّبِّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أمرهِمْ لَتَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا ) شرح الكلمات: أَعْثَرنا : أعثَرَ فلانًا على السر وغيره أطلعه.وأعثر به عند السلطان: قدَحَ فيه وطلب توريطه وأن يقع في عاثور.وأعثر فلانًا على أصحابه: دلّه عليهم (الأقرب).الساعة: راجع شرح الآية رقم ٦٢ من سورة النحل.ريب: رابه يريب ريبا: أوقعه في الريبة وأوصل إليه الريبة.والرَّيب: الضّنّةُ والتهمة؛ الشك؛ الحاجة (الأقرب).يتنازعون: تنازعوا : اختلفوا؛ وتنازعوا في الشيء: تخاصموا (الأقرب).بنيانًا: بناه يبنيه بنيانًا: نقيضُ هدَمه بنى الأرضَ : بنى فيها دارًا ونحوها (الأقرب).مسجدا : المسجد والمسجد : الموضع الذي يُسجد فيه؛ وكلّ موضع يُتعبد فيه فهو مسجد؛ وقيل إن المسجد بالكسر اسمٌ لموضع العبادة سُجد فيه أم لم يُسجد (الأقرب).التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن هذه الشعوب التي ظلت منعزلةً عن باقي العالم لزمن طويل اتصلت هكذا بالعالم الخارجي مرة أخرى، وبالتالي علمت الدنيا أن النبأ الذي أدلينا به عن غلبة الشعوب المسيحية في آخر الزمن كان نباً صادقًا تماما، وأن الساعة الموعودة التي خوّفناكم منها آتية دونما شك.أما قوله تعالى إذ يتنازعون بينهم..فعرج به مرة أخرى على الحالة الأولى لأصحاب الكهف، حيث ذكر إحدى علاماتهم وقال إن من عادتهم منذ البداية
الجزء الرابع سورة الكهف أنهم يبنون المساجد أي المعابد باسم موتاهم..بمعنى أنهم يبنون الكنائس تذكارًا لصلحائهم.وبالفعل تجدون الأمة المسيحية وحدها تبني الكنائس باسم صلحائها.لا يفعل ذلك المسلمون ولا اليهود، بينما يوجد عند النصارى آلاف الكنائس المبنية باسم صلحائهم، بل يدفنون فيها موتاهم فثمة في سراديب الموتى كنائس كثيرة بنيت تذكارًا لأصحاب الكهف الأوائل (الموسوعة البريطانية طبعة ١٩٥١ كلمة (Catacombs سَيَقُولُونَ ثَلَثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ صلے كَلْبُهُمْ رَبِّمَا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربِّي أَعْلَمُ بِعِدَّهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَهِرًا وَلَا تَسْتَتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا شرح الكلمات: قلے ۲۳ رجما بالغيب: الرجم: أن يتكلم بالظن، يقال "رجما بالغيب" أي لا يُوقف على حقيقته (الأقرب).لا ثمار: ماراه مماراةً ومِراءً : جادَلَه ونازَعَه ولاجه وطعن في قوله تزييفا للقول وتصغيرًا للقائل (الأقرب).لا تستفت: صيغة النهي من استفتى فلان العالم في مسألة استفتاء: سأله أن يُفتى فيها (الأقرب).التفسير : بهذه الآية بدأ بحث آخر عن أصحاب الكهف الأوائل حيث يعلن الله تعالى أن الناس مختلفون في عددهم، فمنهم من يقول إنهم ثلاثة، ومنهم من يقول إنهم أربعة، ومنهم من يقول إنهم خمسة ومنهم من يقول إنهم سبعة ثامنهم كلبهم؛ ولكنها أقوال ظنية فحسب.
الجزء الرابع سورة الكهف ومن المفسرين من استنتج بأسلوب القرآن هذا أن عددهم سبعة في الواقع، محتجين أن كلمة رجما بالغيب ما وردت بعد هذا العدد بينما وردت مع الأعداد السابقة.ولكن هذا الاستنتاج غير سليم، لأن الله تعالى لم يُسند عدد السبعة إلى نفسه، وإنما نسبه إلى الآخرين، ثم أردفه بقوله قُلْ ربي أعلَمُ بعدتهم.فلو كان هذا التقدير صحيحًا لما أمر الله نبيه الله هنا قُلْ ربي أعلَمُ بعدتهم، بل لقال إن أصحاب الرأي الأخير مصيبون فيما يقولون.فالحق أن الله قد أكد خطأ أصحاب هذا الرأى أيضًا، لأن أصحاب الكهف لم يكونوا خمسة أو سبعة، بل كانوا آلافا، واختفوا في الكهوف في عصور مختلفة.فالحق أن لا أحد يعرف عددهم إلا الله تعالى.أما قوله تعالى ما يعلمهم إلا قليل فليس معناه أن بعض الناس يعلمون عدد أصحاب الكهف، بل يمكن تفسير هذه الجملة بوجهين: الأول: أن لا أحد يعلم عددهم؛ ذلك أن لفظ "قليل" في العربية يعني النفي المطلق مثل كلمة Few في اللغة الإنجليزية، فيقال: قليل من الرجال يقول ذلك..أي لا يقول به أحد" (الأقرب).والوجه الثاني هو: لا يعلم حقيقة أصحاب الكهف إلا قليل؛ ذلك أن الله تعالى لم يقل هنا ما يعلم عددهم إلا قليل، بل قال ما يعلمهم إلا قليل، إذن فالمعنى أنه لا يعلم حقيقتهم إلا قليل من الناس الذين هم ملمون بالتاريخ الصحيح؛ فهم يعرفون أن أصحاب الكهف هم المسيحيون الأوائل الذين كانوا يختفون في السراديب؛ وأما غيرهم فانخدعوا بشتى القصص الشائعة عن هؤلاء القوم.وبالفعل فقد انكشفت حقيقة أصحاب الكهف في النهاية بفضل علم هؤلاء القلّة.ثم يقول الله سبحانه وتعالى فلا تُمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم أحدًا..أي لا تتحدث عنهم إلا حديثا مبدئيا دون الخوض في التفاصيل إذ منهم لا أحد في الدنيا يعلم جميع التفاصيل.وفي ذلك إشارة ربانية إلى أن هذا الجزء من التاريخ قد اندثر، فلا أحد يعرف تفاصيل هذا الحادث، لذلك لو حاولتم معرفة التفاصيل فستخطئون.والأسف أنه برغم هذا النصح القرآني خاض المسلمون في
الجزء الرابع سورة الكهف التفاصيل لدرجة أنهم حاولوا أن يسألوا اليهود والنصارى حتى عن لون كلب أصحاب الكهف وطوله، وبالتالي ملأوا التفاسير بروايات خاطئة يندب ويبكي الإنسان لدى قراءتها.وَلَا تَقُولَنَّ لِشَأَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (3) إِلَّا أَن ٢٤ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبِّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) شرح الكلمات: غدًا: الغد: اليوم الذي يأتي بعد يومك على أثر، ثم توسعوا فيه حتى أُطلق على البعيد المترقب (الأقرب).التفسير: لقد ساق الله تعالى هنا نباً آخر يتعلق بزمن غلبة هذه الشعوب فقال: لدى مواجهتهم لا تقل أبدًا إننا سنقضي عليهم غدًا إلا أن يخبرك الله و بوحيه أنه فاعل بهم كذا وكذا.لقد قال البعض بأن الخطاب هنا موجه إلى رسول الله ﷺ حيث يأمره الله تعالى أن لا يعد بفعل شيء من دون أن يقول إن شاء الله، وقد نقلوا بهذا الصدد شتى الروايات السخيفة التي تمثل إساءة صريحة إلى الرسول الكريم (ابن كثير، والقرطبي).وذلك بالرغم أنه ليس في كلمات الآية ما يدل على أنها تأمره بقول إن شاء الله، وإلا لكانت الآية كالآتي: "ولا" تقولَنَّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله" بدلاً من.....إلا أن يشاء الله.كلا، بل الرسالة التي تحملها هذه الآية للمسلمين هي أنهم لن يقدروا بقوتهم على مقاومة هذه الأمة، وإنما سيتمكن من ذلك من سيُقيمه الله بمشيئته لهذا الغرض.
الجزء الرابع سورة الكهف الحق أن هذه الآية إشارة إلى ما سيفعله المسلمون إبان غلبة هذه الشعوب، حيث تخبرنا أنه سيأخذهم الحماس لدى رؤية غلبة هذه الأمة، وسيحاولون مقاومتها بالقوة، ولكنهم لن يفلحوا في ذلك أبدًا.كما أن هذه الآية تكشف حالة المسلمين فى ذلك الزمن حيث إنهم سيعقدون الآمال على الغد بدلاً من العمل الجاد، وسيقولون دائما سنفعل ذلك غدا.سيُطلقون التهديدات بكثرة، ولكن لن تبقى فيهم قوة للعمل.سيرددون كلمة الغد دوما، ولكن هذا الغد لن يأتي أبدًا.وبالفعل ترون الشعوب الإسلامية تكشف بعملها في هذا الزمن صدق النبأ القرآني بكل جلاء، مما يبعث على الحيرة والأسف في وقت واحد.ونصح بقوله تعالى واذكر ربَّك إذا نسيت المسلمين أنه إذا دفعتهم الحمية للتفكير في مقاومة هذه الشعوب فعليهم أن يتذكروا الوعود الإلهية بهذا الصدد، لأن الله تعالى قد وعدهم أنه سيُنقذهم من هجمات هذه الأمم في يوم من الأيام، وسيهيئ من الغيب الأسباب لنجاتهم، لذا يجب عليهم أن ينفضوا من رؤوسهم فكرة اتخاذ التدابير الأخرى غير التدبير الإلهي.أما قوله تعالى وقُلْ عسى أن يَهدين ربي لأَقْرَبَ من هذا رَشَدًا فهو أيضًا إعلان رباني أنكم لن تستطيعوا بتدابيركم المادية التغلب على هذه الشعوب في مئات السنين، ولكن الله تعالى سيهيئ بفضله الخاص الأسبابَ المفاجئة لحمايتكم من هذه الفتن.من المؤسف أن المسلمين لم ينتفعوا بهذا النصح الإلهي، فأعلنوا الجهاد ضد الشعوب الأوروبية مرة بعد أخرى مما قلل من رعب الإسلام؛ بل لما نهاهم الناصحون عن مثل هذه التصرفات اعتبروهم أعداء للإسلام، ولم يفكروا أن من يدعوهم إلى العمل بتعليم القرآن لا يمكن أن يكون عدوا للإسلام، إنما أعداؤه الذين يتبعون الطريق الخاطئ رغم فهي القرآن عنه.
الجزء الرابع ٦٧٠ سورة الكهف وَلَبِثُوا فِي كَهُ هِمْ ثَلَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا ) ٢٦ التفسير: يخبرنا الله تعالى هنا عن طول فترة المصائب التي حلت بأصحاب الكهف والتي اضطروا خلالها للاختفاء في كهوفهم مرة بعد أخرى.لقد امتدت تلك الفترة لثلاث مائة وتسع سنين.وهذا ما يؤكده التاريخ أيضًا، حيث بدأت هذه المظالم لدى حادث تعليق المسيح اللي على الصليب، وانتهت تماما حين تنصر الملك قسطنطينُ - مؤسس مدينة القسطنطينية - عام ٣٣٧ الميلادي كما أسلفنا (انظر الموسوعة البريطانية طبعة ١٩٥١ كلمة Church History).وهذا التاريخ يبدو مخالفًا لما ذكره القرآن الكريم من طول فترة مصائب أصحاب الكهف، ولكنه ليس كذلك، لأننا إذا فحصنا تاريخ المسيحية وجدنا أن قسطنطين لم يتنصر في الحقيقة عام ۳۳۷ الميلادي، بل بعد ٣٠٩ عاما من حادث الصليب.والدليل على ذلك هو اعتراف الجغرافيين المسيحيين أنفسهم خطأ بوجود في التقويم الميلادي، حيث أثبت كل من المطران Ushers والدكتور Kitto في كتابه أن العام المذكور لحادث الصليب في التقويم الميلادي غلط، وأن هذا الخطأ حصل عامَ ٥٢٧ الميلادي (Daily Bible & Chronology Illustrations).إذ الواقع أن المسيح ولد قبل بداية التقويم الميلادي الحالي بأربعة أو ستة أعوام، وعُلِّق على الصليب وسنه ثلاثة وثلاثين عاما.وإذا طرحنا خمسة أعوام - وهي أوسط الأربعة وستة الأعوام الناقصة في التقويم الميلادي خطأ - من ٣٣ عاما التي هي عمر المسيح حين علق على الصليب صار عندنا ٢٨ عامًا،
الجزء الرابع ٦٧١ سورة الكهف وهي الفترة بين ولادة المسيح وحادث الصليب بحسب التقويم الميلادي الحالي وإذا طرحنا ٢٨ عامًا هذه من ۳۳۷ - وهي السنة التي تنصر فيها قسطنطين- كان عندنا ۳۰۹ أعوامًا بالضبط، وهي مدة اضطهاد المسيحيين عند القرآن تمامًا.علما أن هذا الحساب مبني على افتراض صحة الروايات المسيحية، ولكن بقطع النظر عن صدق هذه الشهادة، لا بد لنا من تصديق بيان القرآن الكريم في كل الأحوال، لأن ما يخبره القرآن الكريم عن الكتاب المقدس يتجلى صدقه دائما في نهاية المطاف.هذه الآية نصح إلهي لنا نحن المسلمين بأن لا نضيق ذرعا بطول فترة المصائب.لقد أُوذيت جماعة المسيحيين قبلنا لمدة ٣٠٩ سنين، ولكنهم صبروا، وفي آخر الأمر أكلوا الثمار الحلوة لصبرهم.فلا تتعجلوا، بل ثابروا على العمل وتحمل المشاق بهمة وثبات.صلى صل قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْبِهِ، وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِي وَلَا يُشْرِكُ في حُكْمِ أَحَدًا ت شرح الكلمات: غيب : الغيب : غابت الشمس وغيرُها تغيب غيبا : إذا استترت عن العين.واستعمل الغيب في كل غائب عن الحاسة، ويُضادُّه الشهادة (المفردات).أبصر به وأسمع كلاهما فعلُ تعجب، والمعنى ما أَشَدَّه بصيرةً وما أكثره سماعًا.التفسير : لقد أخبر بقوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا أن تواريخ المسيحيين ستتعارض مع بيان القرآن هذا – كما سبق ذكره – فلا تثقوا بقولهم، لأن الله تعالى يعلم أنهم على خطأ.وبالفعل أكدت البحوث فيما بعد خطأهم.
الجزء الرابع ٦٧٢ سورة الكهف ورب قائل يقول هنا: إن قوله تعالى قل الله أعلم بما لبثوا) يوهم أن البيان السابق خطأ؟ والجواب: لو كان البيان السابق مما قاله الكفار لكان هذا الاعتراض في محله ولكن الله تعالى لم ينسبه إلى الكفار، فثبت أن البيان السابق الله تعالى وأن الجملة التالية جاءت تأكيدًا لـــه، والمراد أن الناس سيختلفون في مدة مكوث أصحاب الكهف، ولكنهم سيكونون على خطأ والصحيح ما ذكرناه آنفًا.فومن أما قوله تعالى أبصر به وأَسْمِعْ فيعني أن الصحيح هو ما أخبر الله به، لا ما يقوله الناس.كما أن قوله تعالى أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ ما لهم من دونه من ولي ولا يُشرك في أن الله تعالى أعلم بأحوال الناس، فإنه ينصرهم ما تنــزهوا حكمه أحدا يعني عن رجس الشرك، أما إذا وقعوا في الشرك حُرموا من نصرته وعل.وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَتِهِ، وَلَن تَجِدَ دُونِهِ مُلْتَحَدًا شرح الكلمات من أثلُ: صيغة الأمر من تلا يتلو الكلام تلاوةً: قرأه (الأقرب).ملتحدًا : الملتحد: الملجأ (الأقرب).۲۸ التفسير : لقد صرّح الله تعالى هنا لرسوله أنه لا يروي له هذا الحادث كقصة فحسب، بل إن هذا ما سيأتي على أمته أيضًا، وأن ما ذكر يحتوي على أخبار صادقة من الماضي، كما ينطوي أيضا على أنباء غيبية ستقع في المستقبل.هذا المعنى يُفهم من قوله تعالى لا مبدل لكلماته، إذ لو لم يكن في ذلك أي نبأ عن المستقبل لما قال الله تعالى ولا مبدل لكلماته، حيث لا مجال لتبديل أحداث الماضي.فهذه الجملة إذا تؤكد ما ذهبت إليه في تفسيري هذا.مما يعني
الجزء الرابع ٦٧٣ سورة الكهف أن الذين اعتبروا الآيات السابقة قصةً من الماضي فحسب كانوا على خطأ، والحق أن بعضها تروي لنا أحداث الماضي، وبعضها تنطوي على أنباء مستقبلية تتعلق بالذين سيكونون أمثال أصحاب الكهف في المستقبل.وهناك دليل آخر على أن هذه الآيات تنطوي على أنباء المستقبل، وأن الغاية من ذكر هذه القصة هى التنبؤ بأن جماعة من المسلمين ستمر بأحوال مماثلة، بمعنى أيضا سيتعرضون للاضطهاد لإيمانهم بكلام الله تعالى.فقد ورد في رواية: رج ابن مردويه "عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ: "أصحاب الكهف أعوان المهدي" (الدر المنثور : سورة الكهف).وهذا لا ينفي وجود أصحاب الكهف في الماضي، لأنه سبق أن أخبرنا ابنُ عباس له نفسه في رواية سجلناها من قبل أنه رأى عظام أصحاب الكهف، إنما المراد من ذلك أنه سيأتي على أتباع المهدي ما أتى على أصحاب الكهف، وأنهم سيؤذون مثلهم لإيمانهم بكلام الله تعالى.وَاصْبِرْ نَسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْ َلنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَنهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) شرح الكلمات : واصبر الصبرُ : ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله، فإذا دعا الله العبد في كشف الضر عنه لا يُقدَح في صبره.وقال في الكليات: الصبر في المصيبة، أما في المحاربة فشجاعة.وصبّر الرجلُ على الأمر : نقيضُ جَزِعَ..أي جَرُقَ وشَحُعَ وتحلَّدَ.وصبر عن الشيء: أمسكَ.وصبر الدابةَ: حبسها بلا عَلَف.
الجزء الرابع ٦٧٤ سورة الكهف وصبَرتُ نفسي على كذا حبَسْتُها، وتقول صبَرتُ على ما أَكرَهُ، وصبَرتُ عما أُحبُّ (الأقرب).الغداة: البُكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، والجمعُ الغُدُوُّ (الأقرب).العَشيّ: آخر النهار وقيل من صلاة المغرب إلى العتمة (الأقرب).وَجْهَه الوجه نفس الشيء.والوجه من الدهر أوله.والوجه سيّد القوم؛ الجاه؛ الجهـة؛ ما يتوجه إليه الإنسان من عمل وغيره؛ القصد والنية؛ المرضاة (الأقرب).لا تَعْدُ: عدا يعدو فلانًا عن الأمر : صرفه وشغله.وعدا الأمر وعن الأمر: جاوزه وتركه (الأقرب).أَغْفَلْنا : غفل عنه: تركه وسها عنه.وأغفل الشيء: بمعنى غفل عنه (الأقرب).الهوى العشق يكون في الخير والشر؛ إرادة النفس؛ المَهْوِيُّ محمودا كان أو مذموما، ثم غلب على غير المحمود، يقال "فلان اتبع هواه" إذا أُريدَ ذمه (الأقرب).فُرُطًا : الفُرُط: الظلم والاعتداء؛ الأمرُ المجاوَزُ فيه عن الحد؛ الأمر المتروك؛ كان أمرُه فُرُطًا وقيل إسرافًا وتضييعا (الأقرب).التفسير: لقد زادت هذه الآية المعنى الذي بيّنته جلاء.ذلك أن الخطاب هنا ليس موجها إلى الرسول الله ، بل إلى كل قارئ للقرآن يدرك ذلك الزمن، وإلا فكيف يقال للرسول الله أن يكون مع الذين يصلون بالغداة والعشي مع أنه هو الذي كان يصلي بالناس ليلاً ونهارًا؟ فالحق أن الخطاب هنا موجه بالتأكيد إلى مسلمي ذلك العصر الذين سيرون أن الإسلام لن ينهض ثانيةً إلا بالأخذ بالأسباب المادية، فالله تعالى يأمرهم أن لا يقعوا في مثل هذا التفكير الخاطئ، بل عليهم أن ينضموا إلى جماعة تكون قائمة
الجزء الرابع ٦٧٥ سورة الكهف على الإسلام إبان غلبة الشعوب المسيحية، ويصلّي أفرادها لربهم بالغداة والعشي، يرجون فضله بالدعاء والابتهال ليجعلهم غالبين على الأعداء.ثم يقول ولا تَعْدُ عيناك عنهم أي لا تصرفوا أيها المسلمون، أنظاركم عن هذه الجماعة العابدة إلى غيرها.لا شك أنكم ستجدون فرص رقي الدنيا وزينتها خارج هذه الجماعة، لكن لن تظفروا برضوان الله تعالى إذا.فلا تحتقرن هذه الجماعة المتواضعة في الظاهر من أجل المطامع الدنيوية، ولا تتبعن خطوات الذين يكونون غافلين عن ذكر الله والتبليغ، ويريدون إصلاح الناس بالقوة، ويكونون مصابين بمرض الإفراط والتفريط وهوى السياسة.كما نبه الله تعالى هنا إلى أن المصائب ستحل بالمسلمين في ذلك العصر لأسباب ثلاثة : الأول غفلتهم عن العبادات ؛ والثاني الحبُّ المفرط لأموال الدنيا؛ والثالث الانغماس في الملذات.فعلى المؤمن في ذلك الوقت الانشغال بالعبادة، والرغبة عن المال، والإنفاق في سبيل نشر الدين بعد قضاء حاجاته الضرورية.وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُرٌّ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوَى الوُجُوةَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَقًا ٣٠ شرح الكلمات : سرادق السرادق : الفُسطاط الذي يُمَدِّ فوق صحن البيت؛ البيتُ ، الكُرْسُف؛ الغبار الساطع الدخان المرتفعُ المحيط بالشيء (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٧٦ سورة الكهف المهل: اسمٌ يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد ونحوهما؛ القطران الرقيق؛ ا يتحات من الخبز من الرماد؛ القَيحُ؛ صديدُ الميت خاصةً؛ ما ذابَ من صفر أو حديد؛ الزيت وقيلَ دُرْديه (الأقرب).يشوي: شوى اللحم: جعله شواء.وشوَى الماء: أسخنه (الأقرب).مرتَفَقًا ارتفق الرجلُ: طلب رفيقا استعان اتكأ على مرفق وقيل على مخدة.ارتفق الإناء: امتلاً.ارتفق القومُ : تَرافقوا في سفر.والمرتفق المتكأ (الأقرب).التفسير: قوله تعالى وقُل الحقُّ من ربكم يعني أن ما أخبرناكم عن رقي المسلمين ودمار هذه الشعوب واقع حتمًا.وهذا أيضًا يؤكد جليًّا أن هذا البيان القرآني نبأ يتعلق بالمستقبل.ثم يقول الله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..أي لا يجوز الإكراه في أمور الدين كل واحد حرّ في أن يختار ما شاء ليتحمل بنفسه مسؤولية عمله، ولكن لا يمكن إجباره على الإيمان.وفي هذا إشارة إلى أن ذلك الزمن لن يكون زمن الجهاد بالسيف، بل يكون زمن التبليغ.ومن واجب المسلمين عندها أن يعرضوا الحق على الناس، وهم مخيرون في أن يقبلوه أو يرفضوه، ولكن لا تجوز محاربتهم لهذا الغرض.ومن المحتمل أن يتساءل هنا :أحد كيف تزول حالة ضعف المسلمين بدون لحرب والقتال؟ فأجاب عليه بأن الله تعالى سيهيئ من عنده الأسباب لذلك، وسيحيط بالأمم الأوروبية عذابُ حرب دائمة وكأنها قد خيمت حول ديارهم؛ وكلما حاولوا وصرخوا من أجل السلام صُب على وجوههم الحديد والمهل المغليّين؛ أي أنهم سينادون بالسلام، ولكن لن تكون النتيجة إلا القنابل والقذائف، ولن تبقى بلادهم صالحة للإقامة، بل ستصبح مرتفقًا سيئًا.ومن معاني الارتفاق التعاون والترافق، وعليه فالمراد من الآية أن هذه الشعوب ستنشئ الصداقات مع الأمم الأخرى، ولكنها ستسفر عن الحرب لا السلام.
الجزء الرابع ٦٧٧ سورة الكهف إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ إِنَّا لَا تُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) التفسير: أي لن تكون لهؤلاء المؤمنين العاملين الصالحات نتيجة إيمانهم شوكة في الظاهر، إلا أن أعمالهم الصالحة هي التي ستهيئ السلام للعالم شيئًا فشيئًا.و أُولَتبِكَ هُمْ جَنَّتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحِهِمُ الْأَبَرُ حُلونَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَابِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَها شرح الكلمات: يُحَلُّون : حلَّى المرأةَ: أَلبَسَها حَلْيًا (الأقرب).ثيابا : الثياب جمع الثوب وهو اللباس من كتان أو قُطْن وصوف خَز أو فِراء (الأقرب).سُندُس : السُندُس : ضرب من نسيج البَرِّ أو من رقيق الديباج.وفي الكليات: هو نَمارِقُ من حرير (الأقرب).إستبرق: الإستبرق: غليظ الديباج معرَّب (الأقرب).الأرائك: جمع الأريكة وهو سرير منجد مزيَّن في قبة أو بيت (الأقرب).التفسير: رب معترض يقول هنا: لقد وعدوا بأسورة من ذهب مع أن لبسها حرام للرجال؟ والجواب أنه إذا كان الحديث هنا عن نعم هذه الدنيا فالمراد من لبسهم الأسورة الذهبية أنهم سيعطون الحكم والملك، لأن الملوك في القديم كانوا يلبسون الأسورة الذهبية.فالآية نبأ بأن الله تعالى سيجعل المسلمين ملوك العالم.أما إذا كان الحديث عن نعم الآخرة فبما أن كل نعمة فيها روحانية، فليس المراد أنهم سيلبسون هنالك أسْورةً من ذهب، وإنما هو إشارة إلى ما سيتمتعون به في الآخرة من تشريف وتكريم.
الجزء الرابع ٦٧٨ سورة الكهف أما قوله تعالى مِن سُندُس واستبرق فيعني أن الإنسان كما يشعر بالراحة واللذة بلبس الحرير في هذه الدنيا، كذلك سيُمنح هؤلاء في الآخرة لباسًا روحانيا يُشعرهم باللذة والراحة.وقد يكون المراد أن هذه الثياب الحريرية ستعطى لمن يلبسها؛ أي النساء، وذلك كما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ﷺ بعث إلى عمر بحلة حرير، فجاءه عمر يحملها وقال: يا رسول الله أعطيتنيها ولبس الحرير حرام على الرجال؟ فقال النبي : يمكن أن تكسوها امرأتك (مسلم: اللباس).أما قوله تعالى نعمَ الثوابُ فيعني أن النعم التي سينالها المؤمنون الصادقون بالقرآن الكريم لن تؤدي بهم إلى الهلاك، بل ستبعث على السلام والراحة.أما قوله تعالى وحسنت مرتفقا فهو إيماءة إلى أن الصداقات التي ستنشأ وفق تعليم القرآن الكريم لن تؤدي إلى الحروب بل إلى السلام؛ لأن أساسها النصح والإخلاص، لا المطامع الشخصية.وَاضْرِبْ هُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَبٍ وَحَ نَها بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا : كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ وَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَلَهُمَا بَرَا (3) شرح الكلمات: مثلاً: المَثَل : الشَّبه؛ النظيرُ ؛ الصفةُ الحُجّةُ، يقال: أقام له مثلاً أي حجة؛ الحديث؛ القولُ السائرُ؛ العبرة (الأقرب).وضرب لــه مثلاً: وصفه وقاله وبينه.جنتين: مثنى الجَنَّةِ.وأصلُ الجَنِّ سترُ الشيء.يقال: جَنَّه الليلُ: ستَره.والجنّةُ: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.وقد تسمى الأشجار الساترةُ جَنَّةً.وسُمّيت الجنّة إما تشبيها بالجنّة في الأرض وإنْ كان بينهما بون، وإما لستْره
الجزء الرابع ٦٧٩ سورة الكهف تعالى نعمها عنا المشار إليها بقوله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفي لهم مِن قُرّةِ أعين (المفردات).حَفَفْنا حَفَّه القومُ و به وحواليه أحدقوا به وأطافوا واستداروا (الأقرب).لم تظلم ظلم فلانًا حَقَّه: نقصه إياه، ومنه ولم تظلم منه شيئًا أي لم تنقص (الأقرب).التفسير : هناك فئة من المفسرين ترى أن هذه الآية تتحدث عن حادث معين، بينما ترى فئة أخرى منهم أنها تحتوي على مَثَلٍ فحسب.ومن الفئة الأولى من يقول إن الرجلين المذكورين في الآية كانا من اليهود، بينما يقول البعض منهم إنهما كانا من العرب القرطبي وفتح البيان.ولكن الحق أن الذي يملك بستانين من الأرض لا يبلغ من الأهمية بحيث يستحق الذكر في التاريخ، اللهم إلا إذا سلمنا بأحد الأمرين: الأول أنه لم يتفوه أحد قط أنه في تاريخ الإنسانية كله بكلمات الزهو والتفاخر إلا ذلك الشخص؛ والثاني یكن في الدنيا حينئذ أشجار إلا هذان البستانان اللذان كانا ملكًا لذلك الشخص؛ ولذلك حفظ لنا التاريخ هذه الحادثة! أن وعندي تفاصيل هذا المثل تؤكد لنا أنه يتضمن رسالة إلهية هامة لنا، وإلا لم يكن ثمة داع لذكره في القرآن الكريم.لم وعندي أننا إذا وجدنا في الكتب السماوية أحد الأمثلة الذي ليس غايته الفصاحة والبلاغة، بل يشير إلى موضوع عميق الغور، فمن الأفضل أن نستعين بعلم تعبير الرؤيا للوصول إلى حقيقته بدلاً من التفكير فيه بعقلية مادية؛ ذلك أن الرؤى هي أيضًا نوع من لغة الأمثال التي يستخدمها الله تعالى، ولا بد من التشابه بين مثلين منبعهما واحد وهو الله تعالى.مما لا شك فيه أنه يمكننا أن نأخذ البستان بمعنى المال والثروة نظرا إلى الدنيا، كما يمكن تفسير النخل بمعنى الحماية، لأن الشجر يُستخدم كسياج يحدد أرض
الجزء الرابع ٦٨٠ سورة الكهف الزراع على ما يرام لا جرم أنه يمكننا أن نقوم بهذا التأويل اعتمادًا على عقولنا، ولكن لم لا نستعين بعلم تعبير الرؤيا بهذا الصدد، ثم نتدبر في القرآن لنرى هل هو يؤيد المعنى الذي توصلنا إليه على ضوء علم التعبير أم لا؟ يقول علماء تعبير الرؤيا: "ربما دلّ البستان على الزوجة والولد والمال وطيب العيش وزوال الهموم، وربما دلّ على دار السلطان الجامعة للجيوش والجنود" (تعطير الأنام: كلمة البستان).أمــا العنــب فهو في المنام رزق حسن.والعنب رزق دائم واسع مدخر.ومَن أمسك عنقودًا نال مالاً مجموعا من امرأة (المرجع السابق، كلمة عنب).أما النخل فقد ورد فيه: "مَن مَلَكَ نخلاً كثيرًا فإنه يتولى على رجال بقدر ذلك، وإن كان تاجراً ازدادت تجارتُه" (المرجع السابق كلمة نخل).وأما الثمر فهو في المنام "كرامة جديدة طرية".(المرجع السابق كلمة ثمر).وأما الزرع فورد فيه: "مَن رأى أنه قد زرع في أرض...فهو للسلطان سَعَةٌ في مملكته...والزرعُ يدلّ على العمل" (المرجع السابق كلمة زرع).أما النهر فهو في المنام رجل جليل (المرجع السابق كلمة نهر).وكذلك ورد أنه إن رأى أن نهرًا يجري من بيته فإنه يأمر بالمعروف وينتفع الناس منه.إذا فالمراد من قوله تعالى (واضرب لهم مثلاً رجُلين جعلنا لأحدهما جنتين) أنه تعالى أعطى أحد الرجلين المال والأولادَ.وبما أن العنب رمز للخلود فكلمة من أعناب إشارة إلى أن مال وأولاد هذا الرجل سيزدهران طويلاً، وهذا المعنى يؤكده قولُ هذا الشخص بعد قليل أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نَفَراً، مع أنه لم يجر من قبل أي ذكر لتعداد ماله وأولاده.أما قوله تعالى وحففناهما بنخل فإن النخل، كما ذكرت آنفًا، يعني أتباع الرجل الذين يتولى عليهم؛ فالمراد من إحاطة البستانين من أعناب بنخل أنه كان يحمي ماله وأولاده وملكه برجاله وجنوده.
الجزء الرابع ٦٨١ سورة الكهف أما قوله تعالى وجعَلْنا بينهما زرعا فالزرع يعني العمل، فالمراد من وجود العمــل بــين البستانين أن هناك مملكةً محروسة بالجيوش على الجانب الواحد، ومملكةً أخرى على الجانب الآخر محروسة بالجنود أيضا، وبين المملكتين ضيعة غير محروسة ليست بذات شأن.ثم يقول الله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا ، وهذه الكلمات أيضًا تدل على أن البستان هنا تمثيلي، وليس البستان المعروف؛ ذلك أن الأمر الطبيعي عن البساتين هو أن ثمارها لا تكون كثيرة في كل مرة، بل تكثر ثمارها في عام وتنقص في عام غالبًا.وثمة أمر آخر جدير بالملاحظة هنا : إن الآية تتحدث عن بستانين، إلا أنه يمكن اعتبارهما بستانًا واحدًا من جهة، كما يمكن اعتبارهما بستانين من جهة أخرى.ذلك أن القرآن قد استخدم لهما ضمير المفرد حيث قال آتت أكلها بدل (آتنا أكلهما، ثم قال ولم تظلم) بدل (ولم تظلما).وهذا يعني أنه في الحقيقة بستان واحد، أو هناك جزءان لبستان ،واحد وإن كان في الظاهر بستانان.لا شك أن إيراد ضمير "كلتا" مفردَ اللفظ جائز ، ولكن لا بد من صيغة المثنى عند إيراد ضميره معنى، فقد كتب العلامة البيضاوي: "وفي الحاشية السعدية فإنه اسم مفرد اللفظ عند البصريين ومثنى المعنى ؛ ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين (تفسير البيضاوي).* وورد في القنوى على البيضاوي" أن الحريري قال في درة الغواص: "يقولون: كلا الرجلين خرجا، وكلتا المرأتين حضرتا." (درة الغوّاص وشرحها، تحقيق عبد الحفيظ فرغلي، دار الجيل بيروت الإخبار عن كلا وكلتا ص ٣٩٨) لم نجد هذه العبارة في نُسخ البيضاوي المتوفرة لدينا، غير أنه ورد في حاشية الشهاب: "لأنه د اللفظ مثنى المعنى على المشهور، وقد قيل إنه مثنى حقيقةً على ما فُصل في كتب النحو" (حاشية الشهاب المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي، الجزء السادس، المكتبة الإسلامية، مفرد ديار بكر، تركيا)
الجزء الرابع ٦٨٢ سورة الكهف إذا فالبغداديون من أيضًا يرجّح ذلك؛ مما يؤكد أن إيراد صيغة المثنى جائز يقينًا.فما أقوله هو أن إيراد صيغة المثنى هنا كان هو الأنسب أو الجائز على الأقل، ولكن القرآن الكريم فضل الطريق الآخر على هذا الطريق الأنسب لفظا، وهذا لا يخلو من حكمة نظراً إلى الأساليب القرآنية المسلم بها.والقرآن زاخر بمثل هذه الأمثلة التي تؤكد أنه يراعي بعض الحكم والأغراض المعنوية حتى لدى اختيار الكلمات والضمائر.أئمة اللغة يرون ضرورة إيراد صيغة المثنى (آتنا)، والحريري وَكَانَ لَهُ ثَمَرُ فَقَالَ لِصَحِبِهِ، وَهُوَ حَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ ۳۵ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ رات شرح الكلمات: ثمر الثمر : حملُ الشجر ؛ النسل والولد والواحدة ثمرة.والثمرة من اللسان: طَرفُه وعَذَبْتُه.وثمرةُ القلب: المودة؛ خلوص العهد (الأقرب).الأضداد، يحاورُ : حاوَرَه محاورةً : جاوَبَ وراجعه الكلام (الأقرب).أَعزُّ: اسم تفضيل مِن عَزَّه يَعُزُّ عِزَّا: قواه؛ غلبه.وعَزَّ يعِزُّ عزَّا: صار عزيزا؛ قَوِيَ أن هذه الكلمة ذلّة؛ ضَعُفَ؛ ضدُّ الأقرب).قوله: "ضد" يعني بعد فتعطي معنى إيجابيا في بعض الأحيان وسلبيا في أحيان أخرى.فَرَا النَفَرُ الناسُ كلهم؛ والنفر من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة، من الرجال (الأقرب).يعني من كانت جهود هذا الشخص تأتي التفسير قوله تعالى وكان له ثمر بنتائج مرضية مما حداه ليقول لصاحبه: أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ منك أعوانًا.أبين لكم الآن تأويل هذا المثل.في مستهل هذه السورة أخبر الله تعالى أن رسوله قد بلغ رسالات الله أهل مكة، وسيبلّغها اليهود أيضًا، كما سيوقظ
الجزء الرابع ٦٨٣ سورة الكهف بها النصارى.ثم تطرق له إلى بداية تاريخ الأمة المسيحية وأخبر أن هؤلاء تحملوا أشد الأذى والتعذيب في سبيل عقيدة التوحيد في أول أمرهم، ولكنهم صاروا فيما بعد مشركين وانشغلوا بالدنيا.أما الآن فأشار الله تعالى في هذا المثل إلى النزاع الذي قدّره بين المسلمين والنصارى فأصحاب البستان هم النصارى.وقد ذكر القرآن أنه بستان العنب، ذلك أن المسيح العلي نفسه قد شبه الأمة المسيحية بالكرم.كما أن هناك تشابها بين المثل القرآني وبين المثال الذي ذكره المسيح ال ال حيث ورد: "إنسان غرس كَرْمًا وأحاطه بسياج، وحفر حوض معصرة وبني برجا، وسلَّمه إلى كرامين.وسافر.ثم أرسل إلى الكرامين في الوقت بداً ليأخذ من الكرامين من ثمر الكرم؛ فأخذوه وجلدوه وأرسلوه فارغا.ثم أرسل إليهم أيضا عبدًا آخر ، فرجَموه وشجوه وأرسلوه مهانًا.ثم أرسل أيضًا آخر فقتلوه.ثم آخرين كثيرين، فجلدوا منهم بعضا وقتلوا بعضًا.فإذ كان له أيضا ابن واحدٌ حبيب إليه أرسله أيضًا إليهم أخيرًا قائلاً: إنهم يهابون ابني.ولكن أولئك الكرامين قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث، هلموا نقتله فيكون لنا الميراث.فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكَرْمِ.فماذا يفعل صاحبُ الكَرْمِ؟ يأتي ويُهلك الكرامين، ويعطي الكَرْمَ إلى آخرين.أما قرأتم هذا المكتوب: الحَجَرُ الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية" (مرقس ١٢: ١-١٠).في هذا التمثيل شبه المسيح الا الديانات المختلفة بالكرم، وأخبر أن مالك الكرم هو تعالى.والتفصيل الذي ذكره عن هذا البستان هو نفس التفصيل المذكور في القرآن أي أن في البستان الكَرْمَ وحوله السياج.والفرق الوحيد أن الله القرآن قد ذكر أمرًا إضافيًا أعني اسم الشجر الذي يحيط البستان كسياج.وباختصار قد شبه المسيح العليا في مثاله هذا أمم الأنبياء بالبستان، وشبه العلماء المسؤولين عن توعية أفرادها والملوك بالبستانيين، وهذا هو المعنى الذي ذكره القرآن.فالبستان هو المسيحية، وأما العنب فيرمز إلى ما يتمتع به أهلها من كثرة
الجزء الرابع ٦٨٤ سورة الكهف المال والثروة والأولاد، وأما النخل فإشارة إلى اعتماد المسيحية في زمن ازدهارها على الجيوش، واتخاذ تدابير محكمة لحمايتها.وأما السبب في ذكر البستان وكأنه بستان واحد من جهة وبستانان من جهة أخرى فهو أن للمسيحية خصوصية تميزها عن باقي الأمم، وهي أن ازدهارها تتم في فترتين مختلفتين؛ كانت أُولاهما قبل ظهور الإسلام، وثانيتهما بدأت بعد ظهور الإسلام بثلاثة قرون، واكتملت في سبعة قرون أي في القرن السابع عشر الميلادي.أما فيما بين هاتين الفترتين فكانت المسيحية تشبه زرعًا يهدّده خطر أن تدوسه الدواب أو تقتلعه.وبين هاتين الفترتين – اللتين تشبهان بستانين – فجر الله نهرا وهو نهر دين الإسلام الذي فصل بين هذين البستانين، وقد خلق الله تعالى بين هاتين الفترتين إنسانًا جليل الشأن له أقام حركة نشيطة للأمر بالمعروف.ثم أخبر الله تعالى أن صاحب البستانين - أي زعماء المسيحية – سيعيرون أهل الإسلام بضعفهم ويقولون : لا قبل لكم بنا، فنحن أصحاب الملك العظيم في الفترتين.ذلك أن رقيهم في الفترة الثانية سيكون رقيًّا غير عادي، فسيعتزون به خاصة لأنه في تلك الفترة سيقع الصدام بينهم وبين المسلمين.وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، وَهُوَ ظَالِمٌ لَّنَ سِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذهِ أَبَدًا (2) شرح الكلمات: تبيد: من باد يبيد بيودا: هلك (الأقرب).التفسير: يبين الله تعالى إنهم سيتباهون بملكهم وقوتهم كثيرًا، ظانين أن لا زوال لملكهم، كما ستبلغ فيهم اللادينية ذروتها.هذا هو معنى قوله تعالى (وهو ظالم لنفسه.وجدير بالملاحظة أن الله تعالى قد ذكر هنا جنة واحدة مع أنهما جنتان! ذلك أن الأمة المسيحية، وإن كانت تفتخر بالفترة الأولى من تاريخها، إلا أنها ستزهو
الجزء الرابع ٦٨٥ سورة الكهف يقة برقيها الذي حققته في الفترة الثانية وستعرضه أمام أهل الإسلام كدليل على صدقها؛ ومن أجل ذلك لم يذكر الله تعالى جنتين، بل ذكر جنة واحدة مستخدمًا صيغ المفرد.وقد يكون الغرض من ذكر الجنة بدل الجنتين الإشارة إلى أن الجنتين جنة واحدة في الحقيقة.ذلك أن هذا الرقي كله إنما هو رقي أمة واحدة وإن كان قد انقسم إلى جزأين نتيجة فاصل زمني.وهذا المعنى يؤيد موقفي الذي بينته من قبل بأن الله تعالى قد استخدم ضمير المفرد بعد "كلتا"، بالرغم من جواز استخدام ضمير المثنى، إشارةً إلى إمكانية اعتبار البستانين بستانًا واحدًا كذلك.وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَابِمَةً وَلَبِن زُدِدتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا شرح الكلمات: ۳۷ أَظُنُّ ظنَّ الشيء: علمه؛ استيقنه.وتأتي "ظنَّ" للدلالة على الرجحان (الأقرب).فقوله "ما أَظُنُّ" يعني: لا أوقن؛ لا أرى.الساعة: راجع شرح كلمات الآية رقم ٦٢ من سورة النحل.منقلَبًا: من انقلب أي انكب؛ رجع.المنقلب يكون مصدرا؛ ويكون مكانًا (الأقرب).التفسير : لقد أخبر الله تعالى هنا أن في هذه الأمة صنفين من الناس: صنف لن يؤمن بيوم القيامة، وإنما سيعتبر هذه الحياة الدنيا كل شيء؛ وصنف آخر سيؤمن بيوم القيامة، ولكنه يظن أن نعم الآخرة حكرٌ على المسيحيين فحسب.وبالفعل هذا هو حال المسيحيين، حيث ترى فئة أن لا حياة بعد الموت، وليست منهم الجنة إلا الرقي القومي، وقد حازه المسيحيون وسيحوزونه؛ بينما تؤمن فئة منهم
الجزء الرابع سورة الكهف بالبعث بعد الموت، ولكنها ترى أن المسيحيين سيدخلون الجنة لأن المسيح قد حمل خطاياهم؛ وليس للأمم الأخرى من يحمل عنهم خطاياهم، لذا فسيدخلون كلهم في الجحيم.و و قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ تَحَاوِرُهُ أَكَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نطق ثُمَّ سَوّنكَ رَجُلاً ت شرح الكلمات: ۳۸ نطفة: راجع شرح كلمات الآية رقم ٥ من سورة النحل.سواك: سوى الشيء: جعله سويًّا (الأقرب).فقوله تعالى سواك رجُلاً يعني جعلك إنسانًا مكتملاً.التفسير : لقد جاء الرد هنا على هؤلاء المتكبرين على لسان المسلمين باللغة التمثيلية، حيث قال هذا ناصحًا لصاحبه المتكبر هل تُنكر وجود الله تعالى الذي خلقك، ثم طوّرك من الحالة الأدنى إلى أن أوصلك إلى درجة التمام والكمال.وكأنه قال له : إن حالتك العملية تدل على أنك منكر لذات البارئ تعالى، لأن من الذي يؤمن بالله الا الله الحقيقة لا يمكن أن يحمل أفكارًا كأفكارك.الأساليب القرآنية العامة أنه حين ينهى عن الغرور والتباهي بما حققه من قي يلفت نظر الإنسان إلى حالته البدائية.فمن ناحية ينصح الله تعالى هنا المسلمين بعدم اليأس من الرقي بسبب ضعفهم، ويقول: ألم تكن الأمم المتقدمة اليوم متخلفة ضعيفة في الماضي؛ ومن ناحية أخرى ينصح و المسيحيين ألا ول يغتروا بضعف المسلمين.ألم يكن المسيحيون أنفسهم ضعفاء في أول أمرهم؟ ألم يكن خَلْقُ الإنسان نفسه من تراب أولاً ثم من نطفة؟
الجزء الرابع ٦٨٧ سورة الكهف هذا، وقوله تعالى وهو يحاوره يمثل الإشارة إلى المباحثات التي ستتم بين هاتين الأمتين، وأن المسيحية ستقدّم قوتها وضعف المسلمين دليلاً على صدقها.و ليكنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا التفسير : يقول هذا لا أعتمد على تدابيري و لا أطمئن إليها، بل أضع ثقتي بالله وحده، فهو الذي يعطيني ما يعطيني أنا خاوي الوفاض وأنا فخور بفقري، لأنه يتسبب في ظهور آيات الله المتجددة دائما.ومع ما أروع وألطف قوله ولا أشرك بربي أحدًا! يقول: لقد منحكم الله المال ذلك تشركون به ، ولكنه لم يعطني مال الدنيا ومع ذلك لا أشرك به أحدا! وكأنه يقول: كنتُ بسبب فقري أكثر عرضة للشك في وحدانية الله تعالى والوقوع في عقيدة الشرك، فأظن أنه ربما هناك إلهان؛ فإلهكم قد أحسن إليكم، ولكن إلهي لم يعطني ما أعطاكم؛ ومع ذلك لا أشرك بربي أحدا، بل أؤمن بإله واحد.وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا (ع) ٤٠ التفسير بالرغم من تباهيه فإن صاحبه المسلم يعطف عليه ويقول له: لماذا تغتر بقوتك؟ ليتك قلت حين دخلت البستان: إن الله وحده يملك القوة كلها! علماً أن "ما" الواردة في قوله تعالى ما شاء الله موصولة، وهناك مبتدأ محذوف قبلها وهو "الأمر"، وتقدير الجملة كاملةً كالآتي: لم لم تقل، إذ دخلت البستان الأمر ما شاء الله؟ أي لا يكون إلا ما يريده الله.
الجزء الرابع ٦٨٨ سورة الكهف فَعَسَى رَبّى أَن يُؤْتِين خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا شرح الكلمات : حسبانا: حسبه يحسب : عَدَّه.والحُسْبانُ : الحساب؛ العذاب البلاء والشر؛ العجاج؛ الجراد؛ النار (التاج).صعيدا : راجع شرح كلمات الآية رقم ٨.زَلَقًا الزلقُ: موضعُ الزَّلَق لا يثبت عليه قَدَمٌ.أَرضٌ زَلَقٌ أَي مَنْساءُ ليس بها شيء (الأقرب).التفسير: ترى أن الحديث هنا أيضا عن بستان واحد، حيث قال جنتك و لم يقـــل (جنتـــيك)، وقال عليها و لم يقل (عليهما)؛ ذلك أن أحد البستانين المسيحيين كان قد دُمّر قبل ظهور الإسلام.لا شك أنهم يفتخرون به كما يفتخر الناس ،بآبائهم، ولكن تفاخرهم الحقيقي إنما هو ببستانهم الثاني المتواجد في الزمن الراهن؛ ومن أجل ذلك قال له صاحبه المسلم: إن رأيتني أقل منك مالاً وولدا فلا تفتخر بذلك، إذ ليس بمستحيل على الله تعالى أن يؤتين خيرا من جنتك، بل ويرسل على جنتك عذابًا من السماء فيحرقها، فلن تتمكن من تحقيق ادعاءاتك الواسعة عن امتلاك السلطة على الدوام.وكلمة صعيدًا زَلَقًا تُشبه الكلمات التي وردت في مستهل هذه السورة عن الذين قالوا اتخذ الله ولدا، والتي هي: وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جُرُزًا)؛ مما يوضح بجلاء أن هذا المثال يتحدث عن القوم الذين قالوا اتخذ الله ولدا.أما قوله تعالى ويُرسل عليها حُسْبانًا من السماء فاعلم أن كلمة من السماء هنا إشارة ربانية إلى أن التصدي لهؤلاء القوم بالتدابير الأرضية أي المادية أمر مستحيل.وهذا ما أكده الحديث الشريف حيث ورد فيه عن يأجوج
الجزء الرابع ٦٨٩ سورة الكهف ومأجوج اللذين هما رمزان للتقدم المسيحي المادي: "لا يدان لأحد بقتالهم" (مسلم: كتاب الفتن، باب ذكر الدجال)..أي ليس بوسع أحد قتالهم بقوته، بل إن الله تعالى سينزل من السماء لقتالهم.أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) ٤٢ الكلمات شرح غورا غار الماء غوراً : ذهَب في الأرض وسَفَلَ فيها.الغَور: مصدر، والغَور: يعني الماء الغائر (الأقرب).التفسير: إن هذه الآية أيضا توضح أن النهر في قوله تعالى وفجرنا خلالهما الماء المادي الذي يروي البستان المادي، ذلك أن الله تعالى يقول أو يُصبح ماؤها غورًا ، مع أن مياه الأنهار لا تنبع من قعرها ولا تغيب فيها، بل تنصب فيها من الخارج؛ فثبت بذلك أن ماء تلك البساتين كان ماء خر، وكان موجودًا فيها، وقد نبأ الله تعالى في القرآن عن غيابها، والمراد أن قدرات هذه الشعوب سوف تُدمَّر وتباد، وأن ملكاتهم العقلية التي كانت سببًا هذه لعمران هذه البساتين ستنضب كالعيون التي يغور ماؤها، وبالتالي ستصبح البساتين خرابا يبابا.وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِبُ كَيْهِ عَلَى مَا أَدْقَ فِيهَا وَهِيَ حَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّيَ أَحَدًا (2) شرح الكلمات: أحيط بثمره: أحيط به دنا هلاكه والسنة المجدبة تحيط بالأموال أي تهلكها (التاج).فالمراد من قوله تعالى وأحيط بثمره) أي دمر ثمره.
الجزء الرابع ٦٩٠ سورة الكهف فأصبح يقلب كفَّيه: أي يتندم (الأقرب).خاوية: اسم فاعل للمؤنث مِن خَوَتِ الدار تخوي: أَقوَتْ وسقطتْ وهَدَّمت.وخويت الدار: خلَتْ من أهلها (الأقرب).عروش جمعُ عرش والعرش من البيت سقفه (الأقرب).فقوله تعالى وهي خاوية على عروشها يعني أنها متهدمة على سقوفها.التفسير قوله تعالى وأحيط بثمره يعني أن جهودهم لن تأتي بالنتائج المنشودة كسابق الأيام فسيقولون أسفًا وحسرةً لم تعد الأسباب التي جمعناها ببذل المال الكثير ذات جدوى.ذلك أن الشعوب التي تنفق الأموال من أجل الشوكة الدنيوية تستولي الحسرة الشديدة على قلوبهم عندما يحيط بهم الدمار، لأن المباني التي يزهون بها لا يقدرون حينئذ حتى على إصلاحها.ولكن الأمم التي تنفق أموالها للنهوض بأفرادها في المجالات العلمية والأخلاقية لا تتحسر على ما أنفقت أبدًا.علما أن في قوله تعالى وهي خاوية على عروشها إشارةً إلى هذه الشعوب التي ستصاب بعقدة نفسية لبناء المباني الشامخة؛ ذلك أن تعبير "وهي خاوية على عروشها" لا يستخدم عن البساتين.إذا فإنهم سيقولون متأسفين: يا ليتنا لم نقع في الشرك والوثنية، وليتنا نحونا من العذاب بقبول نصح الناصح.كما أن قولـــــــه تعالى وهي خاوية على عروشها تومئ أيضًا إلى أنهم سيتعرضون لعذاب يؤدي إلى دمار المدن وهدم المباني.وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (3) شرح الكلمات: فئة: الفئة: الجماعة؛ الطائفة (الأقرب).٤٤
الجزء الرابع ٦٩١ سورة الكهف منتصرا : اسم فاعل من انتصر منه: انتقم منه.وانتصر عليه استظهره (الأقرب).التفسير : أي أن هذه الأمة ستكون واثقة من أن المسيح سينصرهم، ولكنه أيضا لن يستطيع نصرهم يومئذ أبدًا.هُنَالِكَ الْوَلَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرُ عُقبا : ٤٥ التفسير: لقد كشفت هذه الآية جليًّا أن هذا البيان القرآني يتضمن نبأ عن المستقبل.ذلك أن الله تعالى يشير هنا إلى أن الملك يومئذ سيصبح الله الحقِّ، وأنه تعالى سيتفضّل على عباده الموحدين الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا.وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا.شرح الكلمات: اختلط به: أي امتزج (الأقرب).٤٦ هشيما الهشيم المهشوم؛ نبت يابس متكسر، أو يابس كلِّ كلأ وكلّ شجرِ (الأقرب).تَدْرُوه: ذَرَت الريحُ الترابَ: فَرَّقته وأطارته وأذهبته (الأقرب).مقتدرا: اقتدر عليه قوي عليه وتمكن منه (الأقرب).التفسير: بضرب مثل الحياة الدنيا هنا قد زاد الله تعالى المثال السابق وضوحًا وجلاء.يوضح هنا : إن الحياة المادية تبدو في أول أمرها جميلة جدا، ولكن مصيرها مريع تماما.أما الحياة الروحية فتبدو في بدايتها عارية من الجمال وقاسية،
الجزء الرابع ٦٩٢ سورة الكهف ولكن عاقبتها تكون جميلة جدا.فمع أن نزول الماء المادي من السماء يكثر النبات والخضرة لدرجة أن أغصان الأشجار تتشابك بعضها في بعض لكثرتها، لكن هذه الخضرة كلها تيبس حتى تصبح هشيما تطير في الرياح.بيد أن الزرع الذي يُسقى بالماء الروحاني لا يذبل ولا ييبس أبدًا.وقد يعترض على هذا المثال أحد فيقول: الزرع إنما يصلح للأكل بعد أن يبس ويتهشم؟ والجواب أن الله تعالى لا يضرب هنا مثل الأكل بل مثل الزرع، ليبين أن الشعوب إبان ازدهارها المادي تبدو كزرع نضر يهتز ويتمايل، ولكن لا أحد يلوي عليها زمن انحطاطها.وعلى النقيض فإن الأمم التي تهتم بالدين تنال عزةً أبدية في الدنيا، بالإضافة إلى ما لها في الآخرة من تكريم.خذوا على سبيل المثال قوم نوح، فلم تبق لهؤلاء الكافرين اليوم من باقية، ولكن نوحا اللي لا يزال يُذكر بعزة واحترام وكذلك كان إبراهيم والحال نفسه ينطبق على موسى إذ ما زال موضع احترام في العالم بالرغم من أن قومه اليهود قد ضُربت عليهم الذلة.إن الفتوحات المادية التى أحرزها المسلمون في القرون الأولى قد انمحى أثرها واختفى، ولكن لا زال لخدماتهم الدينية تأثير عميق بحيث تجدون حتى اليوم أناسا يريدون أن يضحوا بأرواحهم حفاظًا على كرامة حتى أقل هؤلاء المسلمين الأوائل درجةً.الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوة الدُّنْيَا وَالْبَقيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرُ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلاً شرح الكلمات : أَمَلاً: راجع شرح كلمات الآية رقم ٤ من سورة الحجر.٤٧ التفسير في المثال الأول ذكر الله تعالى الجنةَ، ثم ساق قول صاحبها للشخص الآخر: أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفرًا، وذلك لبيان المراد الحقيقي من تلك
٦٩٣ سورة الكهف الجزء الرابع الجنة.وبالمثل ذكر في هذا المثال نبات الأرض، ثم أردفه بقوله المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وذلك لبيان المقصود الحقيقي من "نبات الأرض" هنا.إن الله تعالى ينبهنا أنه بالرغم من أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، إلا أن الإنسان لو استخدمها بطريقة سليمة..أي أنفق ماله في سبيل إعلاء كلمة الدين وسخر أولاده في خدمة الدين..لكتب الله لأمواله وأولاده أيضًا الدوام.لا شك أن المال ينفد بالإنفاق، ولكن أثره الطيب يبقى؛ وبالمثل يفنى الأولاد، ولكن ذكرهم الحسن لا يفنى؛ وبالتالي يخلد الصيت الحسن لآبائهم.أما قوله تعالى والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابا وخيرٌ أملاً فاعلم أن الباقيات الصالحات تعني كل عمل صالح طيب.ولقوله تعالى خير عند ربك ثوابا وخيرٌ أملاً مفهومان: الأول أن العمل الطيـب يأتي بنتيجة طيبة في هذه الدنيا، كما تُعقد به الآمال الطيبة في الآخرة؛ وكأن كلمة "ثوابا" تشير إلى نتيجة العمل الصالح في الدنيا، بينما تومئ كلمة "أملاً" إلى نتيجته التي ستظهر في الآخرة.والمفهوم الثاني هو أن كلمة "ثوابًا" تختص بصاحب العمل الحسن، أما كلمة "أملاً" فتختص بأجياله القادمة..والمعنى أن أعمالكم الصالحة ستأتي بنتائج مرضية لكم ولأولادكم أيضًا، لأن من سنة الله تعالى أنه ينفع الأولاد أيضًا بسبب آبائهم الصالحين.وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْتَهُمْ فَلَمْ تُغَادِرٌ مِنْهُمْ أَحَدًا شرح الكلمات : ΕΛ بارزة: اسم فاعل للمؤنث من برز يبرز بروزا أي خرج (الأقرب).
الجزء الرابع ٦٩٤ سورة الكهف حَشَرْنا : حشر الناس يحشر حشرًا: جمعهم.ويومُ الحشر: يوم البعث والمعاد، وهو مأخوذ من حَشَرَ القومَ إذا جمعهم.والحاشر اسم من أسماء ء نبي (الأقرب).لم نغادر غادره تركه وأبقاه (الأقرب).المسلمين التفسير: اعلم أن من معاني الجبل سيد القوم، ومعنى التسيير المشي بأحد (الأقرب).والجبال هنا تعني كبار القوم، لأن الحديث هنا يدور عن الناس لا عن الجبال والأنهار.والمراد من الأرض هنا أهلها، لأن من أساليب اللغة العربية حذف المضاف أحيانًا، ومثاله قول الله تعالى: ﴿وَاسْتَل القرية التي كنا فيها والعير التي أقتلنا فيها (يوسف: ٨٣)..أي اسئل أهل القرية وأهل العير.يوضح الله هنا أن هذه الأنباء ستتحقق في الزمن الذي ينفر فيه كبار القوم، وترى الأرض، أي جميع أهلها قد خرجوا ووقفوا وجها لوجه لحرب طاحنة لن تغادر منهم أحدا.وفي الإنجيل أيضًا إشارة إلى هذا الأمر حيث يقول المسيح ال: "تقوم أمة على أمة ومملكة على مملكة" (متى ٢٤: ٧).وهناك مفهوم آخر: لهذه الجملة إذ قد تعني الأرض هنا الطبقة السفلى من أهلها، بينما تعني الجبال كبار الناس؛ والمراد أنه في ذلك الزمن سينقسم العالم إلى معسكرين متنازعين فيخرج كبار الناس أي الدكتاتوريون من جهة، ومن جهة أخرى يخرج أهل الأرض أي حماة الديمقراطية وممثلو الشعوب.وسوف تحدث حرب طاحنة بين هذين المعسكرين.
الجزء الرابع ٦٩٥ سورة الكهف أما قوله تعالى وحشَرْناهم فاعلم أن الحشر يعني جمع الناس وإيقافهم وجهًا لوجه، ومن معاني الحشر العسكر لأن الجنود أيضا يقفون وجهًا لوجه.* فالمراد أننا سنجعلهم يحارب بعضهم بعضا، وهكذا سنعاقبهم على سوء أعمالهم.وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن تُجعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا.٤٩ التفسير : المراد من عرضهم على ربهم صفا أن الله تعالى سيصدر فيهم حكمه، لأن المثول أمامه تعالى لا يكون بالصف الظاهر، بل بالصف المعنوي.وأي شك في أن صدور القرار الإلهي بهلاك قوم هو بمثابة حشرهم وقيامتهم.وقوله تعالى لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة أنكم وقعتم مرة أخرى تحت قبضتنا.وقوله تعالى بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدًا يعني أنكم ظننتم أننا لم نحدد لهلاككم موعدًا.لقد اتضح من هذه الآية أيضًا أن هذا المثال جاء شرحًا للمثال السابق، إذ ورد فيه أيضًا نفس المعنى الذي هو لقوله تعالى ما أظن أن تبيد هذه أبدًا.وَوُضِعَ الْكِتَبُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْرِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً * قال الإمام الراغب: "الحشرُ إخراجُ الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.وروي: "النساء لا يُحْشَرْنَ" أي لا يُخرجن للغزو ( المفردات).وورد في اللسان: "وفي الحديث وفد ثقيف اشترطوا ألا يُعشَروا ولا يُحشروا أي لا يُندَبون إلى المغازي ولا تُضرب عليهم أن البعوث." (المترجم)
الجزء الرابع سورة الكهف وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَنَهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا شرح الكلمات: (ج) مشفقين: أشفق عليه خاف وحاذر (الأقرب).أحصاها أحصى الشيء إحصاء: عَدَّه (الأقرب).التفسير: المراد من وضع الكتاب هنا العمل بما فيه من القرار والحكم، كما يقال "وضعنا فيهم السيف " * أي بدأ سيفنا يعمل فيهم عمله أي يقتلهم قتلاً.أما قوله تعالى فترى المجرمين مشفقين مما فيه فمعناه أن فكرة الحكم الدائم ستنمحي من رؤوس هذه الشعوب، وستمتلئ قلوبهم خوفا على الحضارة التي كانوا يزهون بها زهوًا كبيرًا، والتي أوشكت على الانهيار.والمراد من قولهم يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا أنهم سيعاقبون على كل خطأ ارتكبوه من قبل عقابًا يدركون به في قرارة نفوسهم أن الله ل هو الحاكم على الكون فعلاً، إذ لا يترك أي عمل من أعمال الإنسان بدون جزاء.وأخيرًا يخبر الله الله إن مصيرهم جد مرير، ولكنه ليس ظلمًا من الله تعالى، بل كان جزاء وفاقًا لأعمالهم.* ورد في "المنجد": وضع السلاح في العدو قائله (المترجم)
الجزء الرابع ٦٩٧ سورة الكهف وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَبِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ قے الجِن فَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن ۖ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّلِمِينَ بَدَلاً شرح الكلمات لآدم اللام هنا بمعنى "مع".راجع للمزيد شرح كلمات الآية رقم ٦٢ من ســــورة الإسراء.اسجدوا : راجع شرح كلمات الآية رقم ٣٠ من سورة الحجر.إبليس : راجع شرح كلمات الآية رقم ٣٠ من سورة الحجر.الجن: راجع شرح كلمات الآية رقم ٢٨ من سورة الحجر.فسَق: فسَق الرجلُ فسقًا وفسوقا : ترَك أمر الله ؛ عصى وجارَ عن قصد السبيـ خرج عن طريق الحق.وفسقت الرُّطَبةُ عن قشرها: خرجت (الأقرب).بَدَلاً : البَدَل : العوَضُ؛ الخَلَفُ (الأقرب).التفسير: اعلم أن القرآن الكريم كلما تحدَّثَ عن دمار قوم جراء إنكارهم لمأمور من الله تعالى أردفه بقصة آدم وذلك تنبيهًا للناس أن يأخذوا العبرة من هذه القصة، ولا يكونوا أولياء الشيطان.وبهذه الآية حذر الله المسلمين وغيرهم من الأمم من الشيطان وقال: لقد حاول الشيطان إغواء آدم من قبل، فاتبعه؛ فخُذوا حذركم، يا أبناء آدم، من الشيطان ولا تلبوا نداءه.ما أَشْهَدتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِينَ عَضُدًا (ع)
الجزء الرابع شرح الكلمات : ٦٩٨ سورة الكهف عضدًا : العُضُد ما بين المرفق إلى الكتف ؛ ويُستعار العضد للمعين (المفردات).التفسير: اعلم أن ضمير (هم) في قوله ما أشهدتهم راجع إلى الشيطان وذريته.ومعنى الآية: أيها الناس هل تتخذون الشيطان وليا لكي تتقدموا و تزدهروا، مع أنه لم يكن له أي علاقة في خلقكم ولا في خلق السماوات والأرض.لقد خلق الله قوى الإنسان كلها من أجل الخير، وما كان الله ليتخذ المضلين الأشرار أنصارًا ولا أعوانًا.فلو أن أمة محرومة من قرب الله تعالى أحرزت التقدم المادي فلا تظنُّنَّ أن الله تعالى سيفوض إليها الآن ملكه.كلا، بل إن الله تعالى لم ولن يجعل مقاليد الكون إلا في يده.إن إنجازات هؤلاء القوم تكون مؤقتة عابرة، ولا يلبث الله أن يأتي بالإنسان إلى الخير مرة أخرى.بالتدبر البسيط يدرك المرء أن هذه الآية تتضمن موضوعًا جليل الشأن، وإليكم بيانه.لقد أكدت الآيات السابقة أن الشيطان أو ذريته ليس لهم أدنى علاقة بخلق السماوات والأرض بله أن يكون لهم دخل فيها؛ مما يكشف جليا أنه في الزمن الذي تتحدث عنه هذه الآية سيدعي بعض أعداء آدم أو أعداء الدين بأنهم سينشئون بقوتهم عالماً جديدًا ويقيمون نظامًا جديدًا.والله تعالى يردّ عليهم ويقول: هل حدث في الماضي أن استعان الله بالشيطان وذريته في خلق عالم جديـــد وتوطيد نظام جديد؟ فما دام هذا لم يحصل في الماضي فكيف يمكن أن يحصل في المستقبل.إن الله تعالى هو الذي خلق منذ القدم عالما جديدا ونظامًا جديدًا بواسطة آدم ،والملائكة وهكذا سيكون الآن ،أيضًا، وسيُخلق العالم الجديد والنظام الجديد عن طريق آدم إن عملية خلق الإنسان من جديد – أي عملية إزالة العيوب والمساوئ المتسربة إلى البشر وعملية إصلاح الناس من جديد - لن تتم بالتدابير الدنيوية، وإنما ستتم وفقًا لسنة الله المستمرة منذ القدم.
الجزء الرابع ٦٩٩ سورة الكهف لتي New ا أعظم معجرة القرآن الكريم! فقد استخدم قبل ۱۳ قرنًا تلك المصطلحات كانت ستستخدم في زمننا هذا الزمن الأخير، مثل New World و Order.ثم ما أروع ما ردّ به على الذين يدعون ذلك يعلن القرآن الكريم أن الله تعالى لم يستخدم أعداء آدم في إنشاء العالم الجديد ولا النظام الجديد قط، بل عهد هذه المهمة إلى آدم والملائكة دائمًا، وهكذا سيفعل الآن أيضًا.وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِى الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا هُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مؤيقًا ) شرح الكلمات: ۵۳ موبقا: وَبقَ يَوبَقُ مَوبقا هلك.والموبق: مصدرٌ ؛ الموبق: الموعد؛ المحبس؛ كلُّ شيء حال بين شيئين؛ وقيل مسافة تملك فيها الأسواط لبعدها (الأقرب).التفسير : يخبر الله تعالى أن المسيحيين سيَدْعُون حينئذ آلهتهم الباطلة..أي سيتوسلون تارة إلى قديسيهم الذين يزعمون أنهم سيشفعون لهم، وتارة أخرى سيدعون المسيح، وتارة ثالثة ينادون أُمَّه عليهما السلام، ولكن لن يستجيب لدعائهم أحد من هؤلاء.وأما قوله تعالى وجعَلْنا بينهم (موبقا فاعلم أن الموبق هو حجاب يحول بين شيئين ويفصلهما، كما يعني الهلاك.ونظراً إلى معنى الحجاب فتعني هذه الجملة أن هؤلاء سيفرض بعضهم على بعض مقاطعة تامة من جراء الحروب.ونظرًا إلى معنى الهلاك فالمراد أنه سيُهلك بعضُهم بعضًا.أما إذا كان الضمير في "بينهم" عائدًا إلى الآلهة الباطلة وإلى من يعبدها فالجملة تكون تأكيدا، والمراد أنه سيقع بينهم وبين آلهتهم الباطلة حجاب يحول دون
الجزء الرابع V..سورة الكهف وصول صراخهم إليها؛ أو المعنى أن أرواح آلهتهم ستبدأ في الدعاء على من عبدوها.وَرَعَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ تَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا ٥٤ شرح الكلمات: مواقعوها: وقع الشيء وقوعًا: سقط.ووقع في الشرك: حصل فيه.(الأقرب).والمواقع اسم فاعل من واقع؛ وقوله تعالى هم مُواقعوها أي هم ساقطون فيها.التفس فا: المصرف اسم مكان من صرفه أي رده عن وجهه (الأقرب).يقرر الله تعالى أنهم لن يروا حينذاك إلا هلاكهم.علما أن النار تعني الحرب أيضا، كما في قوله تعالى كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله (المائدة: (٦٥)..أي أن اليهود كلما أشعلوا نار الحرب أطفأها الله تعالى؛ إذن فقوله تعالى ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفًا أن خطر الحرب لن يزال يهدد هذه الشعوب المسيحية حتى توقن أن لا مناص من الحرب فستسعى لتفاديها السعي كله ، ولكنها لن تنجح في مسعاها.وأما قوله تعالى فظنوا فالظن هنا جاء بمعنى اليقين لا الشك، إذ الظن من يعني الأضداد ويعني الشك واليقين كذلك (الأقرب).وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلِ وَكَانَ الإِنسَنُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ) شرح الكلمات :
الجزء الرابع ۷۰۱ سورة الكهف جَدَلاً : الجَدَلُ : شدة الخصومة (الأقرب).التفسير: لقوله تعالى وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً مفهومان: الأول أن منه الإنسان أكثر شيء يتأتى الجدلُ، أي مهما حاولت شرح الأمر لـــه فإنه يجد فيه طريقا للخصومة، ولا يريد أن يطمئن والمفهوم الثاني هو: جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل روح المعاني)..أي أن الله تعالى وهب لـه العقل لكي يحرز الرقي الروحاني وينال معرفته ، ولكنه يتخذ من هذه القوة – التي تميزه عن سائر الحيوانات - سببًا للمفخرة، ويصبح أحط درجة من الحيوانات بدلاً من أن يكون بعمله أشرف المخلوقات.علمًا أن كلمة "الناس" في هذه الآية تعنى أبناء آدم كلهم، بينما تعني كلمة "الإنسان" النوع الخاص منهم الذي مرّ ذكره، والمراد أن الله تعالى قد بين في القرآن الكريم جميع المسائل أيما بيان وبأساليب شتى حتى ينتفع بها البشر، ولكن ذلك النوع الخاص من البشر الذي مر ذكره يتخذ من هذا البيان ذريعة للجدال والنقاش، ويطعن في هذه الأساليب البيانية القرآنية.وإن في ذلك إيماءة إلى أن المسيحيين سيعتبرون تفاصيل الشرع هذه لعنة وذلك تنصلاً من العمل بالشرع، مع أنها إنما تستهدف إنقاذ البشر من الهلاك.وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْ رُواْ رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيهِمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أوْ يَأْتِهِمُ العَذَابُ قبلات شرح الكلمات: سنة: راجع شرح كلمات الآية رقم ١٤ من سورة الحجر.قبلاً : القُبُلُ : نقيضُ الدبر (الأقرب).التفسير: أي أن القرآن مليء بدواعي الهدى بحيث يزيل كل عائق في سبيل الهداية.فكان الأجدر بهؤلاء أن يتوبوا من عقائدهم الخاطئة ويهتدوا بهدي
الجزء الرابع ۷۰۲ سورة الكهف القرآن ولكنهم لا ينتفعون ،به وكأنهم قد آلوا إلا أن يروا العذاب.علما أن قوله تعالى سنة الأولين يعني الدمار الشامل النهائي، بينما قوله تعالى أو يأتيهم العذاب قبلاً يعني أنواع العذاب الذي سيحلّ بهم قبل ذلك الدمار النهائي.فالله تعالى يعلن أن هؤلاء يريدون بعملهم العذاب بنوعيه.وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَدِلُ الَّذِينَ كَرُوا بِالْبَنطِل لِيُدْخِضُوا بِهِ الحَقِّ وَاتَّخَذُوا وَايْنِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًات شرح الكلمات : الباطل راجع شرح كلمات الآية رقم ٧٣ من سورة النحل.ليد حضوا أدحض القدم: أزلها.أدحض الحجة: أبطلها وأزالها ودفعها (الأقرب).التفسير قوله تعالى ليد حضوا به الحق يعني أن الكافرين يخاصمون : ويمارون بالباطل كي يمحقوا به الحق ويزيلوه من العالم.والمراد من قوله تعالى واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا) أننا نُري الآيات فعلاً ولكنهم يستهزئون بها.وهذا هو دأب الأوروبيين في العصر الحاضر، حيث لا يولون للآيات الإلهية أدنى اهتمام، بل يعدونها ضربًا من أوهام الحمقى.يهتمون بالتدابير العقلية، أما آيات الله فيحتقرونها احتقاراً.
الجزء الرابع ۷۰۳ سورة الكهف وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِرَ بِقَايَتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن صلے يَقَهُوهُ وَفِي عَاذَانِهِمْ وَقَرَا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن هْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ۵۸ التفسير : أي من أظلم ممن إذا قُرئت عليه آيات الله تعالى احتقرها معرضا عنها، و لم يفكّر أن أعماله - التي قام بها معتمداً على عقله – قد أسفرت عن المزيد من الفساد والفتن والحروب.وبالرغم من أنه قد جرب أنه قد فشل في توطيد السلام بناء على عقله فشلاً ذريعا، إلا إنه لا يلتفت إلى المعونة الإلهية والهداية السماوية؛ وهذا يدل على أنه يرفض ما جربه بنفسه.فكم هي شنيعة جريمة وغفلة تلك الأمة التي تدّعي أنها تؤسس أعمالها على التجارب، إذ تولي اهتماما شديدًا للتجارب الجزئية، ولكنها لا تنتفع من نتائج الخبرة التي هي خبرة القوم كلهم.إذا فليس مآل ذلك إلا أن يحرمهم الله من الفهم السليم إذ قد رفضوا عمليا أن يستعينوا بالفهم السليم، وأن يتركهم وشأنهم لأنهم لن ينتفعوا من نصح ناصح مهما قدّم لهم مِن نُصح.وَرَبُّكَ الْغَ ُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن تَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْبِلًا ۵۹
الجزء الرابع ٧٠٤ سورة الكهف التفسير: يعلن الله تعالى إنه لو عاقبهم على جرائمهم لأهلكهم من زمان ولكنه تعالى لا يهلك قوما بدون إنذار، لذلك سوف يحذرهم أولاً، وسيؤاخذهم بعد إقامة الحجة عليهم بواسطة المأمور الذي يرسله في ذلك الوقت.وقوله تعالى بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً يعني أنه تعالى قد حدد لهم موعدًا، ولن يجدوا للنجاة منه ملاذا سوی الله تعالى.وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكُهِم مَّوْعِدًا ) التفسير: أي قد خلت قبلهم كثير من الأمم التي لما ظلمت، أي لم تصحح موقفها رغم الإنذار السماوي، دمرها الله تعالى حسبما أنبأ عن هلاكهم سلفًا.إذا فينبغي لهؤلاء أيضًا أن يفكروا أنهم مهما أحرزوا من رقي وتقدم فإنهم بشر على كل حال، فأنى لهم أن ينجوا من الهلاك جراء إعراضهم عن هلك البشر قبلهم للسبب ذاته.الله تعالى وقد واليوم أيضا تعالى ينبئ هنا أنه ظن خاطئ يدل على جهل أصحابه.فمن ذا الذي كان يتصور أن الإمبراطوريات السابقة ستدمر في يوم من الأيام.ومن ذا الذي كان يتصور أن إمبراطوريات المسلمين أو الرومان أو الفرس ستزول في يوم من الأيام؟ ولكنها كلها هلكت وبادت فاستغراب الناس من زوال ملك هؤلاء القوم ينافي العقل.يرى ٩٩ % من الناس أن أوروبا لن تُدمَّر بعد الآن.ولكن الله وَإِذْ قَالَ مُوسَى اِتَنهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَنا مَجْمَعَ أَبْلُ الْبَحْرَيْن أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (3)
الجزء الرابع شرح الكلمات : ٧٠٥ سورة الكهف لا أبرَحُ ما برح فلان كريمًا أي بقي على كرمه (الأقرب).أمضي: مضى الشيء يمضي ومضا يمضو: ذهب وخلا (الأقرب).حقبا: الحقب جمع الدهر؛ السنة، وقيل: السنون (الأقرب).التفسير: لقد تحدّثَ الله تعالى في الآيات السابقة عن موضوع الصراع بين المسيحية والإسلام بلغة تمثيلية، حيث بين أنه صراع بين القوي والضعيف فيما يبدو، ولكن التدبر البسيط يكشف أن القوي من يتجه إلى الله تعالى، وليس من شغلته أمور الدنيا.كما أشار الله أيضًا أنه من المقدر للمسيحية أن تزدهر أول مرة حتى مبعث النبي ال ، ثم سيُحرز الإسلام الرقي لفترة من الزمن، لتزدهر المسيحية ثانيةً.أما الآن فقد تناول الله تعالى الموضوع نفسه على أساس ما ورد في الكتب السماوية من أنباء بهذا الصدد.الحقب وهي ثمانون سنة، ويقال: أكثر من ذلك.والحقب: وليكن معلوما أن معارضي الإسلام - كما بينت من قبل- يطعنون في هذه السورة بأنها قد جمعت أحداثًا مختلفة من دون أي رابط بينها؛ بل إن اجتماع هذه الأحداث فيها كان باعث حيرة حتى للمسلمين أنفسهم، الذين اقتنعوا بقولهم إن اليهود سألوا النبي الله عن بعض الأمور فجمع جوابها في هذه السورة.ولكن الأمر ليس كذلك كما هو ظاهر ، لأن النبي الله إذا كان قد سئل بالفعل من أصحاب الكهف وذي القرنين فلماذا أقحم الله تعالى بين ذكر أصحاب الكهف وذي القرنين كل هذه التمثيلات المذكورة آنفا وكذلك حادث مع فتاه الذي يبدأ بهذه الآية؟ لم لم يذكر الإجابة عن أصحاب الكهف وذي القرنين على الأقل في مكان واحد؟ الحق أن هذه المواضيع كلها قد وردت هنا بترتيب محكم، وقد جيء بكل حادث ومثال في محله وبمقتضى الضرورة.لقد سبق أن بينت الحكمة من ورود العليم موسی
الجزء الرابع ٧٠٦ سورة الكهف هذه الأمثال خلال قصة أصحاب الكهف، وأبين الآن الحكمة من ورود قصة موسی العلمية لا في هذا المكان.لقد سبق أن بيّنتُ أن ثمة في الحياة القومية للمسيحيين أمرا لم أجد له نظيرا في حياة أية أمة أخرى ذلك أن الأمة المسيحية نالت الرقى بعد عيسى اللي لمدة من الزمان، ثم توقف رقيها لفترة بعثة نبي آخر وهو نبينا حيث حققت أمته الرقي لفترة من الزمان، لتستأنف بعدها الأمةُ المسيحية رقيها ثانية؛ وقد أُشير إلى هذا الأمر من قبل بكلمة نَهَرًا في المثال السابق حيث قال تعالى وفجرنا خلالهما نهرا.أما الآن فقام بتوضيح نفس الأمر بذكر قصة موسى ال هنا.العلية لا ذلك أن موسى العلي مثيل لنبينا بحسب النبوءة التوراتية التالية: "أُقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعلُ كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به " (تثنية ۱۸ (۱۸).كما أشار القرآن الكريم أيضًا إلى هذه النبوءة في قوله تعالى إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً (المزمل: ١٦).إذا فقد ذكر القرآن واقعة موسى لهذه بين عصري رقي المسيحيين للدلالة على أن ظهور هذا النبي المثيل لموسى بين هذين العصرين كان ضروريا؛ وهكذا دفع الشبهة القائلة بأنه لو كان هذا الذي ادعى النبوة بعد الرقي المسيحي الأول نبيا صادقًا فلماذا لم ينته الرقي المسيحي بعد ظهوره كلية؟ أليس استئناف الرقي المسيحي بعد ظهوره بفترة من الزمن وبقوة أكبر يشكل دليلاً على أن هذا المدعي لم يكن نبيًّا صادقا، وإلا لأوقف مد الرقي المسيحي؟ لم أذكر هذا الأمر بناء على ذوقي، بل يدعمه أيضًا حادث موسى الله الذي العليا سأقوم بشرحه لاحقا.ولقد اكتفيت هنا بالإشارة إلى أن ظهور محمد ﷺ لما كان مقدرا بين عصري الرقي المسيحي فذكر حادث موسى ال – الذي كان محمد مثيلا له - للفصل بين هذين العصرين، لتسرد هذه الأحداث بحسب وقوعها المقدر.
الجزء الرابع ۷۰۷ سورة الكهف لقد اختلف المفسرون في الواقعة المذكورة هنا فقال أكثرهم – كما ورد في بعض روايات الحديث أيضًا – أن هذه الآيات تتحدث عن أخبار سفر قام به العليا للقاء رجل اسمه الخضر.وتعالى العليا ثم اختلفوا في بيان دواعي هذا السفر، فقال بعضهم إن موسى الله قال الله يوما: هل يوجد رجل أعلم منه ؟ قال الله: نعم، يوجد الرجل الفلاني.فذهب العليا لملاقاته.وفي رواية أن سُئل مرة: هل يوجد رجل أعلم موسی منك؟ فقال لا أعلم.فأوحى الله إليه وأخبره عن مكان الرجل الذي كان أعلم مود منه، فذهب لزيارته الكشاف) والقرطبي والطبري، والبخاري: كتاب التفسير سورة الكهف).الحق أن الناس قد أخطأوا في فهم هذا الحادث.ذلك أن سورة بني إسرائيل أنبأت عن هجرة النبي ﷺ ونتائجها على شكل إسراء، حيث أخبرت عما سيحققه المسلمون من الرقي والازدهار وعما سيحيق بهم خلال هذه الترقيات الأخطار المتمثلة في المعارضة الشديدة من قبل اليهود والنصارى.وكان من أكبر هذه الأخطار الخطر الآتي من إحدى طائفتي الأمة الموسوية وهي طائفة النصارى - علما أن النصارى ،هم عند الله تعالى من أمة موسى وإن كانوا لا يعدّون أنفسهم منها.فأخبر الله تعالى أن هؤلاء سيُلحقون بالمسلمين في آخر الزمان ضررًا كبيرًا جدًّا.وقد ذَكَرَ الله تعالى إسراء موسى ال عقب إسراء محمد الا الله وليؤكد أن العاقبة لمحمد له الا الله ، ولأمته، وأن هذه الطائفة الثانية من أمة موسى، أي المسيحيين، لن يبقوا غالبين.كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين الله يرى أن هذه الواقعة كانت كشفا من كشوف موسى ، وأنها لم تقع بالجسم المادي (حقائق الفرقان ج ٣ العلني، قوله تعالى : وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين.وبعد التدبر في الأمر توصلت إلى أنه كان مصيبا في رأيه هذا.وإليكم الأدلة على ذلك: الأول: أنه لا يوجد في التوراة أي ذكر لهذا السفر، مما يدل على أن هذا الحادث لم يقع في العالم المادي.كان من الممكن أن يختلف العهد القديم والقرآن
الجزء الرابع ۷۰۸ سورة الكهف الكريم لحد ما في بيان تفاصيل هذا السفر ، أما أن يخلو العهد القديم عن ذكره أصلاً فهو أمر جد غريب.نعم إن الروايات الإسرائيلية تتحدث عن معراج لموسى ال (الموسوعة اليهودية كلمة Ascension).أن وقد بلغني الموجودة في مكتبة المتحف البريطاني بلندن روايات يهودية تشير إلى معراج موسى، وأنه كان معراجًا بالجسد المادي.ولكن قولهم هذا ليس حجة علينا، إذ يوجد بيننا نحن المسلمين أيضًا من يزعم أن إسراء سيدنا محمد كان بالجسد المادي (تفسير ابن كثير، وتفسير معارف القرآن: سورة الإسراء).الثاني: لم يثبت لموسى قبل بعثته إلى بني إسرائيل إلا سفر واحد، وهو سفره إلى مدين، وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من موضع.وقد أجمع القرآن والعهد القديم على أنه لم يكن مع موسى في ذلك السفر أحد (سورة القصص: ٢٢- ٢٤، وسفر الخروج ٢: ١٥، ١٦).بينما نجد في السفر المشار إليه هنا رفيقا لموسى تابعـا لـه على ما يبدو، لأن لفظ "فتى" إذا ورد مضافا إلى أحد فيعني ابنه أو خادمه.إذا فكلمات هذه الآية لا تنطبق على السفر الذي قام به موسى إلى مدين.وبما أنه لم يثبت لموسى ال سفر غيره فثبت أن السفر المشار إليه لم يكن عزيزي المولوي جلال الدين شمس قد استخرج من المصادر إلا كشفا.= الثالث : لم يثبت لموسى ال حتى بعد بعثته سفر فارق لأجله قومه.ولقد سجل العهد القديم أحداث حياة موسى من الأول إلى الآخر بترتيبها الواقعي، ولكن لا نجد فيها أيضا ذكرًا لهذا السفر، وهذا يدل على أن هذا السفر لم يكن حادثا ماديًا.الرابع: لما ذهب موسى ال لسماع كلام الله إلى الجبل الذي كان يقع على بعد بضعة أميال فقط من قومه، وبقي هناك أربعين ليلة، اتخذ بنو إسرائيل في غيابه العجل إلها (الأعراف: ١٤٣ - ١٤٩).فإذا كانت غيبته لمجرد أربعين يوما أدّت
الجزء الرابع ۷۰۹ سورة الكهف إلى مثل هذا الفساد في قومه، فماذا عسی أن يقع فيهم أثناء غيابه الطويل عنهم بسبب هذا السفر الطويل؟ ولكننا نعرف أنه لم يقع أي فساد بين بني إسرائيل نتيجة هذا السفر، إذ لا تشير التوراة إلى أي فساد آخر غير الذي حصل باتخاذهم العجل إلها.كما أنه لم يكن من الحكمة أن يذهب موسى في مثل هذا السفر الطويل بعد ما شاهد من فساد قومه ما شاهد.الخامس: عندما ذهب موسى إلى الجبل لميقات ربه أربعين ليلة استخلف أخاه هارون على قومه، ولكن لم يثبت أن موسى ال استخلف أحدًا – هارون أو غيره - خلال هذا السفر.إذا كانت التوراة قد سكتت عن ذكر أحداث هذا السفر لسبب ما، فكان من واجبها أن تذكر – على الأقل – استخلاف موسى لأحد عند هذا السفر، إذ ليس من المعقول أن يذهب موسى العلة لهذا السفر الطويل من دون أن يستخلف على قومه أحدا.فعدم ذكره في الكتاب المقدس يدل على أن هذا السفر لم يكن بالجسد المادي.يبعثهم.ذلك.لا فارق طائفةٌ السادس: أنه مما يتعارض مع سنة الأنبياء أن يفارقوا قومهم لأمد طويل بعد أن الله تعالى، حيث لا نجد بين الأنبياء الذين يذكرهم التاريخ نبيا واحدا فعل ريب أن المسيح الفارق قومه حسب عقيدتنا، ولكنه في الحقيقة من قومه إلى طائفة أخرى منهم؛ وهناك أمثلة كثيرة حيث قام الأنبياء برحلات تبليغية بين قومهم، لكن سفر موسى الله هذا لم يكن من أجل التبليغ، كما لم يسافر في منطقة قومه، وإنما فارق قومه لمجرد أن يتعرف على الرجل الذي كان أعلم منه.السابع: قال ابن عباس الله في تفسير الكنز المذكور في هذا الحادث: "ما كان الكنز إلا علما ابن كثير، قوله تعالى: ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا).والجلى أن ما قاله ابن عباس ،تعبير والتعبير لا يكون إلا للكشوف والرؤى.ولما كان الكنز علما فثبت أن الجدار الذي أقامه موسى ورفيقه لم يكن جدارًا ماديا كذلك، كما أن الطعام الذي طلباه من أهل القرية لم يكن طعامًا ماديا.فإذا
الجزء الرابع ۷۱۰ كان هذا الجزء من الواقعة كشفًا فلا شك في كون الواقعة كلها الكشوف.سورة الكهف كشفا من حادثا الثامن: أن الشهادة النابعة من الحادث نفسه أيضا تؤكد أنه لم يكن ماديًا.خُذ مثلاً حادثة خرق السفينة، حيث قيل إنما خرقها صاحب موسى كيلا يأخذها الملكُ غصبًا.ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تعطلت السفينة من ذلك الخرق أم لا؟ وإذا كانت لم تتعطل فلم لم يغصبها الملك؟.وإذا كانت تعطلت بالمرة فلم لم تغرق من الخرق الحاصل فيها؟ إذ من المستحيل في العالم المادي أن تسلم من الغرق السفينة التي يُنزع لوح من ألواحها.ولكن رؤية مثل هذا المنظر في الكشف ممكن تماما، ولا يخالف العقل بتانا.كذلك لا يمكن أن تؤخذ حادثة "قتل نفس بغير نفس" من حيث الظاهر، لأن العبد الذي تبعه موسى ال ليتعلم منه إما أن يكون نبيًّا أو وليا مقربا لدى الله تعالى.ولا يمكن أن يجترئ على قتل نفس بغير نفس حتى المؤمنُ العادي، فهل يرتكبه ولي مقرّب أو نبي عظيم الشأن.يقول البعض لإثبات جواز قتل الغلام أنه لو عاش لكان قتالاً وسفاكًا.ولكنا نقول: إنه من الظلم العظيم ومما ينافي الشرع تماما أن يعاقب شخص على جناية لم يرتكبها بحجة أن الله تعالى كان يعلم أنه سيرتكبها في المستقبل؟ لو كان مثل هذا العقاب جائزا فلماذا لا يعاقب الله تعالى عباده قبل ارتكابهم الجرائم لمجرد علمه أنهم سيرتكبونها؟ إن القانون الأساسي في الشرع هو أن لا يعاقب أحدٌ على إثم قبل ارتكابه، وإن جميع الشرائع على اختلافها متفقة على هذا الأصل.وقد قال البعض إن ذلك الغلام كان يقتل بالفعل خفية ولكن لم يظهر على أمره أحد (زاد المسير لابن الجوزي).ولكنه قول سخيف، إذ لو كان الأمر كذلك لذكره القرآن المجيد ليعلم الناس ويطمئنوا بأن قتل الغلام لم يكن بلا سبب.والحادث الأخير في هذا السفر هو إقامة الجدار، وهو أيضا لا يمكن أن يؤخذ على ظاهره، إذ لا يُعقل أن نبيًّا جليلاً كريما كموسى ال يلوم رفيقه على إقامة
الجزء الرابع ۷۱۱ سورة الكهف جدار اليتيمين لأن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما، وبخاصة أنه لم يكن لليتيمين البريئين دخل في هذا، بل كان الذنب ذنب أهل القرية.ثم إنه بعيد عن مروءة ونبل موسى الله أن يعترض على رفيقه لعدم اتخاذه أجرًا على إقامة جدار اليتيمين.إذا فأحداث هذا السفر تشهد بنفسها على أنه لم يكن سفرا بالجسد المادي، بل كان كشفًا من الكشوف.التاسع: إن هذه الواقعة بمجملها تؤكد أنها كانت كشفًا، لأن الأمور الثلاثة - الصادرة من عبد الله هذا الذي اتبعه موسى العليا إذا حملت على ظاهرها فهي ليست من الأهمية بحيث يسافر من أجل تعلمها مؤمن عادي بَلْه أن يُرسل الله تعالى موسى ليتعلمها.هل راح موسى ال ليتعلم كيف تخرق السفن، ويُقتل الناس، وتقام الجدران المتهدّمة، وهل يؤخذ الأجر على إقامة الجدار أم لا؟ كلا، لن يسافر لتعلم مثل هذه الأمور حتى بدوي جاهل.إذا فليس في هذه الأمور ما يجيز العقل اعتباره أمرًا ماديا هاما حتى يسافر من أجله نبي جليل الشأن كموسى الذي كان من أولي العزم من الرسل عليهم السلام.العاشر: روى الماوردي أن الذي ذهب موسى للقائه كان مَلَكًا ابن كثير).وهذا يعني أنه لا بد من اعتبار هذه الواقعة كشفًا، إذ لا يُعقل أن يتكبد موسى ال عناء السفر المادي لزيارة ملاك قادر على أن يأتي إلى موسى في لمح البصر.الحادي عشر: ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: "وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبر هما " (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه).فإذا حملت هذه الأمور على ظاهرها فلا أجد أنا في نفسي أدنى رغبة في معرفة هذه التوافه كما لا أتصور أن أي عاقل سيتمنى ذلك؛ فكيف برسول الله ﷺ الذي شأنه أسمى من إدراك البشر؟ فثبت أن هذه الأمور كانت أنباء تتعلق بزمن نبينا وتجلت على موسى ال على صورة كشف.وبما أنها تشتمل على الغيب وتنبئ عن أحوال الأمة المحمدية لذلك تمنى رسول الله ﷺ أن يظل موسى
الجزء الرابع صامتًا حتى كان كشفا ۷۱۲ سورة الكهف تنكشف أمور أخرى أيضًا.فثبت من كل هذه الأدلة أن هذا الحادث من الكشوف.مما لا شك فيه أن هذا الحادث غير مذكور في العهد القديم، بيد أن كتب الروايات اليهودية تشير إليه.كما يتضح من المصادر الإسلامية أن مثل هذه = الروايات كانت شائعة بين اليهود في أوائل الإسلام، وإلا من أين أخذها المسلمون؟ غير أن الروايات اليهودية لا يمكن أن تؤثر على بحثنا ولسنا مكلفين بقبولها ما لم يصدقها القرآن والعقل والمشاهدة، بل إن قبولها من دون هذه الشروط لا يخلو من المزالق.وملخص القول إن العقل والنقل كلاهما يقرران كون هذه الواقعة مشهدًا من الكشوف الروحانية.العليا في وهناك سؤال: من هو ذلك العبد من عباد الله الذي ذهب موس إسرائه ليتعلم منه؟ كان أستاذي المكرّم حضرة المولوي نور الدين ه يرى أن رسول الله ﷺ هو الذي تمثل لموسى.وقد تبين لي صواب رأيه بعد التدبر في الأمر، وأيقنت أن سيدنا محمد الله وهو الذي تمثل لموسى ال، ومن أجل ذلك تمنى النبي قائلا: ليت موسى سكت حتى نزداد علما بالأمور التي تتعلق بمستقبلنا.وأرى - ورأبي هذا لا يتأسس على فهمي فحسب – أن موسى لما تلقى النبأ عن ظهور محمد ﷺ عند جبل سيناء (تثنية ۱۸ (۱۸)، وعلم أن نبيًّا عظيما سيظهر بعده، تمنى أن يشاهد ذلك التجلي العظيم الذي يظهر به الله على ذلك النبي، فلم يتمالك نفسه وقال: ﴿رَبِّ أَرني أنظُرْ إليك ؟ فأجابه الله تعالى: لن تراني، لأن كلّ واحد يرى التجلي الإلهي اللائق به.ومما يؤيد رأيي هذا أن موسی العلا كان سبق أن شاهد التجلي الإلهي قبل هذا السؤال حيث قال الله تعالى له إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد
الجزء الرابع ۷۱۳ سورة الكهف المقدَّس طُوًى (طه: ۱۳).فرغم مشاهدته التجلي الإلهي من قبل لم قال موسى مرة أخرى: (رَبِّ أَرني أَنظُرْ إِليك؟ الله وقد يقال هنا: التجلي الذي شاهده من قبل كان روحانيا، فأراد هذه المرة رؤية الله تعالى في صورته الأصلية.ولكن هذا القول تسفيه لنبي ونعوذ بالله من ذلك، لأن طلب رؤية الله تعالى جهرةً في جسد هو غاية السفاهة موسى، والجهالة، ولا يجوز عزوها لموسى ال فثبت أن طلبه هذا لم يكن إلا للرؤية الروحانية.وبما أن التجلي الإلهي كان حصل لموسى ال من قبل، فلا بد أن يكون طلبه هذه المرة لرؤية تجل من نوع آخر؛ وبما أنه الله سأل التجلي الإلهي هذه المرة بعد تلقي بشارة ظهور محمد ﷺ مباشرة، لذا أستنتج من ذلك أنه سأل هذه المرة رؤية التجلّي الإلهي الذي سينكشف على محمد.فرد الله عليه الن تراني..أي ليس بوسعك أن تراني بالصورة التي يراني بها محمد ، لأن رؤية ذلك التجلي تتطلب من الرائي أن يكون حائزا على المرتبة المحمدية التي لم تَحُزْها أنت.وبالفعل لما تجلّى الله للجبل خرّ موسى صعقًا، وعرف أنه لم يكن بوسعه تحمل ذلك التجلّي العظيم.فأرى أن الله تعالى أراد بهذا الكشف أن يُري موسى ال سمو مكانة النبي إذ لم يكن الخضرُ في الكشف إلا حبيبي محمد ﷺ الذي لم يكن قادرًا على السير معه.اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلّم إنك حميد مجيد.العلية لا موسی أما قوله تعالى وإذ قال موسى لفتاه فقد ورد في الروايات أن ذلك الفتى هو يوشع بن نون الكشاف).ولا غرابة في أن يكون موسى قد رأى معه في يوشع، ولكني أرى أن هذا الفتى هو في الحقيقة عيسى الله الذي كان من المقدر أن يُبعث في آخر الأمة الموسوية لهداية بني إسرائيل؛ وكأن سفر موسى الكشف هذا ما كان ليبلغ نهايته إلا مع عيسى عليهما السلام.
الجزء الرابع ٧١٤ سورة الكهف والحق أن هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها أيضا تدعم رأيي بأن هذا الفتى هو أخذ معه فتاه حين خروجه من البيت، بل العليلا، ، إذ لم تذكر أن لیسی موسی ، موسى وجد إنها لا تشير حتى إلى بداية سفره هذا كل ما ورد فيها هو أن مو العلية لا نفسه في حالة السفر مع فتى، فقال لفتاه : سأظل أمشي حتى أبلغ مجمع البحرين وهو أو أمضى حُقُبًا.وإن اللفظ الذي استعمل لبيان مدة هذا السفر هو حُقُب الحقب الذي معناه ثمانون سنة أو أكثر منها.والحق أن هذا اللفظ في اللغة جمع نفسه، العربية يقوم مقام القرن أي مائة سنة، وقد يُستعمل بمعنى سنة أو عدة سنين أيضًا.وإذا أخذنا المعنى الأخير فقوله أو أمضي حُقُبا يعني أو أمشي سنين أو عشرات السنين.والظاهر أن مفارقة نبي لقومه لسنوات يتنافى مع العقل، بل يؤدي إلى التشكيك في ضرورة النبوة نفسها.إن رسول الله ﷺ لما وجد نفسه مضطرًا للهجرة إلى المدينة أمر أصحابه بالهجرة إليها قبل أن يهاجر هو كما كان في المدينة نفسها جماعة من المؤمنين المخلصين تنتظرهم.إذا فلو كان العلمية لا يعني بقوله : أو أمضي حُقُبًا أنه سيظل يمشي لسنوات فهذا أيضا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا.أما إذا أراد به أنه سيظل يمشي لقرون – وهو الأصح عندي - فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الله تعالى قد أجرى هذه الكلمات على لسان موسى للدلالة على أن سفره الروحاني – أي زمن أمته - سيمتد إلى قرون طويلة.موسی وعندي أن في ورود هذه الجملة في هذا المقام حكمةً أخرى، وهي أنه كان من المقدر – لدى تلك المرحلة من السفر الموسوي التي سيُرافقه فيها فتاه – أن تعتقد بانتهاء سفره وبداية سفر فتاه عيسى؛ بمعنى أنها ستظن أمة خطاً طائفة من موسی أن زمن الشريعة الموسوية قد انقضى، وأن عيسى قد جاء بدين جديد؛ لذلك دحض الله وعمل هذه الشبهة بهذه الجملة على لسان موسى وبين أن سفر موسى لم ينته بلقاء فتاه بل سينتهي عند مجمع البحرين أي لدى بعثة محمد.وكأنه تعالى يقرر هنا أن عيسى لن يأتي بدين جديد، بل يكون تابعا ومؤيدا لدين
الجزء الرابع ٧١٥ سورة الكهف موسى ولن يُنهي سفر موسى بل سيكمله كنائب عنه.وهذا الأمر قد أكده عيسى ال نفسه حين قال: "لا تظنوا أني جئتُ لأنقُضَ الناموس والأنبياء.ما جئت لأنقض بل لأكمل" (متى ١٥: ١٦).يظهر من هذا الكشف أن موسى إما بدأ سفره هكذا بأن وجد نفسه وكأنه على سفر فتاه، وأنه متحيّر لعدم الوصول إلى غايته المنشودة؛ وإما أن هذا مع الكشف كان طويلاً، فلم ير القرآن المجيد حاجة إلى ذكر بدايته التي اشتملت على أحداث لا علاقة لها بالموضوع.ذلك أنه لا يقول أحد: لا أبرح حتى أبلُغَ مجمع البحرين أو أمضي حُقُبًا إلا إذا كان قد ضلّ الطريق لفترة طويلة، فتأخذه الحيرة فيقول: أين غايتي المنشودة؟ وعندي أن هذا أيضًا دليل على أن الفتى الذي لقي موسى قبيل انتهاء سفره، وصار رفيقه في هذا السير الروحاني هو عيسى عليهما السلام.واعلم أن لفظ مجمع البحرين أيضا يؤكد كون هذه الواقعة كشفًا، إذ ليس ثمة مقام معروف بمجمع البحرين.هناك ثلاثة أماكن هي أقرب المواضع إلى المقام الذي سكن فيه موسى الا بعد الهجرة يلتقي فيها بحران، وهي: ۱ - مضيق باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر والمحيط الهندي.٢ - مضيق الدردنيل حيث يلتقي بحر الروم وبحر مرمرة.- ٣ – مضيق البحرين حيث يلتقي الخليج الفارسي والمحيط الهندي.كل من هذه الأماكن الثلاثة يبعد عن وطن موسى ال نحو ألف ميل، ونظرًا العلي الحالات ذلك الزمان كان السفر إليه يستغرق سنة تقريبًا.وكما هو بين من الكشف أن موسى سافر ماشيًا على ساحل البحر، وفي حال اعتباره سفرا ماديا فليس مجمع البحرين هذا إلا مضيق الدردنيل لأنه هو المكان الوحيد من بين هذه الأماكن الثلاثة الذي يمكن أن يصل إليه المرء من مسكن موسى العلة عبر ساحل البحر.ولكن هذا الطريق يمر بأرض كنعان التي لم يستطع موسى العليا أن
الجزء الرابع ٧١٦ سورة الكهف يدخلها أبدًا في حياته، كما يشهد عليه العهد القديم (تثنية ٣٤: ٥).وهذا دليل آخر على كون هذه الواقعة كشفًا.فالحقيقة أن مجمع البحرين ليس اسم مقام مادي خاص، بل هو اسم يتطلب تعبيرا، حيث ورد عن البحر: "يدل في المنام على ملك قوي هائل مهاب عادل شفيق يحتاج إليه الخلائق." ثم يقول: "وربما دلّ البحر على التسبيح والتهليل" (تعطير الأنام: كلمة البحر).وكأن هذا التعبير القرآني الأخير يومئ إلى قول الله تعالى في مستهل سورة الإسراء: سبحان الذي أسرى بعبده.فالمراد من مجمع البحرين الزمن الذي انتهى فيه عهد موسى العليا وابتدأ عهد محمد..أي أن الساعة التي تلقى فيها سيدنا محمد رسول الله له أول وحي النبوة كانت مجمع البحرين، حيث انتهت الحدود الزمنية لملك العمل الذي كان حاكمًا روحانيا عادلاً شفيقًا لا غنى موسی للخلق عنه، وابتدأت الحدود الزمنية لملك محمد رسول الله الذي كان أكبر البحار أي الملوك الروحانيين.فكأن الله تعالى أراد بإراءة موسى المجمع البحرين أن يدله على زمن ينتهي فيه عهد أمته ليبدأ من هناك بحر آخر أي زمنُ نبي جديد، وأنه لن ينال بعد ذلك أحدٌ أسباب الحياة الروحانية إلا الذي يغوص في هذا البحر الجديد.هذا، وتتضمن هذه الرؤيا أيضًا الإشارة إلى أن السلسلة الموسوية كانت إرهاصا للسلسلة المحمدية، وأن البحر الموسوي سيلتقي في نهاية المطاف بالبحر المحمدي؛ والدليل على ذلك هو مجيء جبريل ال بنفسه إلى رسول الله ﷺ في الإسراء، بينما نجد موسى ال في كشفه يخرج بنفسه مع فتاه إلى مجمع البحرين الا حيث انتهى سفره الدر المنثور، ودلائل النبوة للبيهقي: باب الإسراء).
الجزء الرابع ۷۱۷ سورة الكهف فَلَمَّا بَلَغَا يَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ٦٢ ) شرح الكلمات: حوت: الحوت السمك، وقد غلب في الكبير منه (الأقرب).سَرَبًا : السَّرَبُ جُحْرُ الوحشي؛ الحفيرُ تحت الأرض؛ القناة يخرج منها الماء.والسَّرَب أيضًا مصدرُ سرب يسرب يقال سربت المزادةُ سَرَبًا: سالت وجرَتْ (الأقرب).التفسير: اعلم أنه قد ورد في كتب علم التعبير عن الحوت: "ربما دلّت رؤيته على معبد الصالحين ومسجد المتعبدين" (تعطير الأنام: كلمة الحوت).يتضح من هذه الآية والآيتين التاليتين أن علامة مجمع البحرين التي أُوتيها موسى العلم هي غياب الحوت عند وصوله إلى المجمع.فالمراد من قوله تعالى نسيا حوتهما أن المقام الذي تخرج عنده معابد الصالحين ومساجد العابدين من أيدي هؤلاء هو مجمع البحرين..أي المقام الذي تنتهي إليه السلسلة الموسوية وتبتدئ منه السلسلة المحمدية.28 كم هو واضح وجلي هذا المعنى، أعني عند ظهور نبي جديد ينزع الصلاح والعبادة الحقيقية من الأمة القديمة، وينتقلان إلى قوم النبي الجديد.وإلى هذا يشير هذا الكشف، حيث أخبر الله تعالى أنه بعد ظهور محمد رسول الله ﷺ إنما تُقبل الأمة المحمدية وحدها ولن تحظى عباداتُ بني إسرائيل أمة موس بالقبول عند الله تعالى، وستندثر آثار العبادة الحقيقية والصلاح والورع في أفراد العبادات من الأمة الموسوية.فقوله تعالى نسيا حوتهما يعني أن الأمة الإسرائيلية الخالصة - أي قوم موسى – ستخلو من العبادة الحقيقية والتقوى الحقيقية قبل مجيء مجمع البحرين
الجزء الرابع ۷۱۸ سورة الكهف بزمن طويل، ولن تبقى العبادة والصلاح إلا في أمة يمكن أن تدعى قوما لموسى ولفتاه معًا، أو بتعبير آخر: عند ظهور المسيح ال ستوجد العبادة الحقيقية في المسيحيين فحسب، بينما سيُحرم منها باقي بني إسرائيل.ولكن بما أن عيسى هو أحد أنبياء السلسلة الموسوية، فحُوته بالتالي هو حوت موسى، لذا فقوله تعالى نسيا حوتهما تتضمن أيضا الإشارة إلى أنه حتى النصارى وهم الذين ينتمون إلى هذين النبيين معا - سينسون حوتهم عند مجمع البحرين..أي سيُحرمون هم الآخرون من العبادة الحقيقية والتقوى عند ذلك المقام.هذه الآية أيضا تؤكد كون هذا السفر كشفًا، لأن مجمع البحرين المادي ليس من الصعب معرفته عند المرور به ولا يمكن أن يتجاوزه المار دون أن ينتبه له، كما أن معرفته لا تحتاج إلى علامة من حوت أو غيره.فلا شك إذن أن مجمع البحرين هذا روحاني يُعرف بالآثار والعلامات إذ لا يوجد له علامة مادية يُعرف بها، بل وإن الناس في ذلك الوقت يكونون معارضين ومكذبين، ولا يقبلون أن مجمع البحرين قد أتى..أي لا يقبلون أن عهد النبي السابق قد انتهى وعهد النبي الجديد قد ابتدأ.إن العلامة التي يُعرف بها هذا الأمر هي فقدان العبادة والصلاح في قوم النبي السابق.عندما يرى أولو الألباب هذا الفرق البين أعني حين يرون أن الله تعالى لا يقيم لعبادات القوم الأول وزنًا، ويقبل عبادات القوم الثاني ويستجيب أدعيتهم، يدركون أن مجمع البحرين قد جاء.وقد أشير إلى هذا الموضوع بألفاظ واضحة في موضع آخر من القرآن المجيد حيث قال الله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم رُكعًا سُجَّدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وُجُوههم مِن أثر السجود ذلك مثلُهم في التوراة) (الفتح: ٣٠).لقد صرح الله تعالى هنا جليًّا أنه كان أخبر بواسطة موسى ال أن من آيات صدق محمد الله وجماعته أن آثار وجوههم ستدل على أن سجودهم وعباداتهم
الجزء الرابع ۷۱۹ سورة الكهف مقبولة لدى الله تعالى ولكن عبادة خصومهم مرفوضة، ولا تبدو آثار فضله كما يتضح أيضًا تعالى في وجوههم.وبناء على هذه الآية أرى أن هذا السفر الروحاني لموسى ال كان مذكورًا في التوراة، ولكن اليهود كدأبهم محوا أثره لكونه ضربة قاضية عليهم.ولكن بقي ذكره في روايتهم السماعية، فنجده مسجّلاً في كتبهم الأخرى بصورة مشوهة.الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن السلسلة الموسوية كانت بمثابة حلقة للسلسلة المحمدية، لأن فقدان علامة مجمع البحرين في العالم الظاهري يدل على أن هذين البحرين كانا سيلتقيان بحيث لا يبدو للرائي أنهما بحران، بل يبدو البحر الثاني جزءا من البحر الأول، وكأن ماء البحر الأول دخل في البحر الثاني بشكل لم يعودا معه بحرين متقابلين حتى يُعرَف مجمع بينهما بعلامة معينة.من فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِتَنهُ وَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَرِنَا هَذَا نَصَبا) شرح الكلمات غداءنا: الغداء طعامُ الغُدوة (الأقرب).نَصَبا: النصب التعَبُ (المفردات).راجع للمزيد شرح كلمات الآية رقم ٤٩ من سورة الحجر.التفسير : اعلم أنه ليس من الضروري أن نؤول كل جزء من أجزاء الكشف، إذ قد يرى الإنسان في الكشف أمورًا تكمل مشاهده ولكنها ليست بحاجة لتأويل وتعبير.مثلا إذا رأى المرء في الرؤيا منظر الموت، ورأى معه مكانًا ما، فلا يحتاج ذلك المكان إلى تعبير إنما المنظر الذي يُستدل منه على موت أحد يقتضي التعبير.ذلك فإن تعبير مثل هذه الأماكن قد يساعد على فهم الموضوع، لذلك أريد أن أفسر الغداء المذكور هنا أيضا حسب علم التعبير.ومع
الجزء الرابع ۷۲۰ سورة الكهف – إن طلب الغداء في الرؤيا يدل على التعب والنصب حيث ورد: "مَن رأى أنه يطلب غداءً فإنه يتعب" (تعطير الأنام: الغداء).فتعني الآية أنه لما يأتي مجمع البحرين أي يأتي زمنُ رسول الله..فلا تنتفع منه أمة موسى وعيسى عليهما السلام - علما أن موسى وعيسى في هذا الكشف إنما يمثلان أمتهما، إذ لم يجدا زمن محمد - بل ستستمر في كفرها ولا تبرح ،مسافرة، دون أن تقبل أن زمن دينها قد انتهى؛ ثم بعد سفر طويل تشعر بتعب شديد، وتقول في حيرة بالغة: لم لم يظهر النبي الكامل الذي وعدنا بظهوره؟ ثم بعد عنائها الطويل تقول في نفسها: ألسنا على خطأ؟ فلعل ذلك النبي يكون قد ظهر، ولكنا حُرمنا الإيمان به!؟ قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ で وَمَا أَنسَنِيهُ إِلَّا الشَّيْطَنُ أن أذكرَهُ وَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا شرح الكلمات: ٦٤ أننا الصخرة: الحجرُ العظيمُ الصُّلْبُ (الأقرب).وفي علم التعبير الصخرة "تدلّ على القبح من الفجور" (تعطير الأنام كلمة الصخرة)..أي أنه إذا رأى أحد الصخرة في المنام فالمراد أن الرائي يُبتلى بأقبح الفسق والفجور.التفسير : ونظرا إلى تأويل الصخرة فإن قوله إذ أوينا إلى الصخرة لما ابتلينا بالفسق والفجور..والمراد أن الذين ينتسبون لكلا النبيين موسى وعيسى عليهما السلام - وهم النصارى - حين يقعون في هوة الفسق والفجور، فذاك هو زمان مجمع البحرين.أي الزمن الذي سيظهر فيه محمد رسول الله ، لأن الأنبياء لا يرسلون إلا عند تفشي الفسق والفجور بين الناس.سيعني
الجزء الرابع ۷۲۱ سورة الكهف فتأويل المنظر المذكور أنه بالرغم من أن الزمن الذي سيعم فيه الفساد والفجور بين الأمة المسيحية هو زمن ظهور محمد رسول الله ، إلا أن النصارى لن يدركوا ذلك إلا بعد زمن طويل، وبعد نَصَبهم في السفر المضني، وإخفاقهم في جهودهم؛ فيتأسفون على فوات الأوان.ويزداد هذا المفهوم جلاء بقوله تعالى وما أنسانيه إلا الشيطان..أي سيقول المسيحيون في أنفسهم: ما حَرَمَنا من معرفة محمد إلا وساوس الشيطان وهواجسه، إذ ما دمنا قد رأينا أن عباداتنا لم تعد تؤتي ثمارها، وأننا قد انغمسنا في الفسق والفجور، فلمَ لم ندرك حينها أن مقام مجمع البحرين قد جاء، وأن الله تعالى قد خذلنا، وأن عهد النبي الموعود قد بدأ؟ ذلك أن قوله واتَّخذ سبيله في البحر عَجَبًا إشارة إلى عجبهم من خطئهم، وأنه كيف خرج الحوت من أيديهم ودخل في البحر الثاني، أي كيف انتقلت ثمرات العبادة إلى المسلمين، وبقينا محرومين منها.هذا المنظر أيضًا يدل على كون هذه الواقعة كشفًا، وإلا لم تكن هناك حاجة لجعل الحوت الحقيقي علامة لمعرفة مجمع البحرين الظاهري.وإن قلنا أنهما كانا يمشيان ناظرين إلى الحوت الظاهري، فلم يكن لنسيانهما إياه مجال.هل رأيتم في الدنيا مثلاً أن رجلاً يسافر في سيارة، ثم بعد قطع مسافة طويلة ينسى أنه يركب سيارة، ويبدأ السفر على الأقدام دون أن يدري، ثم يتذكر بعد برهة من الزمان أنه كان يسافر في سيارة؟! إذا فما داما يمشيان ناظرين إلى الحوت فلم يكن لهما أن يخطُوا خطوة واحدة من دون النظر إليه، وبالتالي يستحيل أن ينسياه.ج قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْ فَارْتَدًا عَلَىٰ وَاثَارِهِمَا قَصَصَا شرح الكلمات: تبغ أصله تبغي من بغاه إذا طلبه (الأقرب).
الجزء الرابع ۷۲۲ سورة الكهف التفسير: أي أنهم سيدركون في تلك المرحلة أنهم قد أخطأوا إذ ما برحوا في سفرهم منفردين، مع أنهم قد تركوا مجمع البحرين وراءهم.فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا وَآتَيْنَهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَهُ لک مِن لَّدُنَّا عِلْمًا عِلْمات التفسير : اعلم أن عبد الله هذا المشار إليه هنا هو سيدنا محمد ﷺ، إذ قد وصف في القرآن المجيد بهذا اللقب في قول الله تعالى وأنه لما قام عبد الله كادوا يكونون عليه لبَدًا (الجن: (۲۰)..أي أنه حين يقوم للصلاة يزدحم الناس حوله.بل يقول الصوفية إن مقام العبد هو أعلى المقامات وأرفعها، وأنه لم يبلغ درجة العبد الكامل إلا النبي الكريم.كما أن النبي هو المقصود أيضًا في قوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا حيث يخاطبه الله تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين (الأنبياء: ۱۰۸).وهو المقصود أيضا في قوله تعالى علمناه من لدنا علما ، بدليل قوله تعالى للرسول في موضع آخر وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا )) (النساء (١١٤) ، وهو المقصود أيضًا في قوله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم (الأنعام (۹۲)..أي قد أوتيتم أيها المسلمون بواسطة هذا النبي علمًا لم يؤتَه الأولون - والبديهي أن موسى وعيسى عليهما السلام مشمولان في هؤلاء الأولين – وأيضا في قوله تعالى للنبي وإنك لتلَقَّى القرآنَ من لَدُنْ حكيم عليم (النمل: (٧).ثم علم الله تعالى نبيه و الدعاء لطلب زيادة العلم فقال وقُل رَبِّ زِدْني علمًا.
الجزء الرابع ۷۲۳ سورة الكهف قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا شرح الكلمات: رُشدًا : الرُّشْدُ الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه (الأقرب).التفسير : تعقد هذه الآية مقارنة لطيفة بين المقام الموسوي والمقام المحمدي حيث بينت أن المقام الموسوي تابع للمقام المحمدي، وأن المعارف المحمدية كشفت حقيقة أمور لم تقدر المعارف الموسوية بيانها.وقد جاءت هذه المقارنة اللطيفة على شكل هذا الحوار والمصاحبة بين موسى وعبد الله هذا.قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبَّرًا صَبرات التفسير : أرى أن مضمون هذه الآية يشير إلى قوله تعالى لموسى العليا: لن تراني حيث بين أنه من المستحيل أن تبلغ الكمالات الموسوية سمو الكمالات المحمدية، وأن أمة محمد أشد صبرًا وجلدًا من قوم موسى الذين عجزوا عن تحمل المحن والشدائد في سبيل الدين كما تحملها المسلمون.كما تشير هذه الآية إلى أن المسيحيين وإن كانوا تحملوا المصاعب البدنية دهراً
الجزء الرابع ٧٢٤ سورة الكهف العام الأخير إلا أنهم عجزوا أمام الاختبارات العلمية، حتى شكا المسيح نفسه من بلادتهم الفكرية قائلاً : لا أحد أدرك مقامه الروحي حق الإدراك.نقرأ في الإنجيل أنه في ثير من سني حياته الفلسطينية قبيل حادثة الصليب سأل المسيح أقرب تلاميذه إليه بطرُسَ: ماذا تقول الناس عني؟ فلما أجاب أما أنا فأعتقد أنك أنت هو المسيح، فرح من جوابه (متى ١٦: ١٣-١٩).هذا يكشف أن الحواريين أنفسهم ما كانوا مستعدين ليصدّقوا أنه هو المسيح المزمع قدومه، بل كانوا جدا يعدونه كواحد من الأنبياء، لذلك فرح المسيح الا من إيمان بطرس.العلية كما تكشف لنا هذه الآية البون الشاسع بين طبيعة محمد وطبيعة موسى عليهما السلام.ففى حين نجد موسى ال يستعجل في السؤال، نجد رسول الله يلزم ﷺ الصمت التام حتى يكشف الله عليه كل أمر من عنده.إلى الله وهذا الفرق عينه يوجد بين أمتي النبيين.نقرأ في التوراة أن بني إسرائيل وجهوا موسی العليا السؤال إثر السؤال.أما قوم النبي الله فنجدهم على النقيض من ذلك تماما، حيث يقول الصحابة رضي عنهم: كنا ننتظر بفارغ الصبر أن يأتي أعرابي فيسأل رسول الله له سؤالاً ، فنسمع أيضًا جوابه (البخاري: العلم).وكأنهم كانوا يتحلون بالوقار والصبر وضبط النفس لدرجة تمنعهم من توجيه السؤال إليه.وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئل موسى من قبل (البقرة : (۱۰۹)..أي هل يريد بعض منكم أن يكونوا كثيري السؤال إلى نبيهم مثل قوم موسى الذين كانوا يدفعونه إلى أن يسأل الله عمال عند كل صغيرة وكبيرة.ولكن الصحابة تحلوا بالأدب دائما امتثالاً لأمر الله.وأما النبي الله فكان في كل أمر يسمع لما يوحي الله إليه، وإذا لم ينزل الوحي لم يسأل عن شيء بل تمسك بأهداب الصبر، عملاً بالتوجيه الرباني لــه ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضَى إليك وحيه وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا )) (طه: ١١٥)..أي دَعْ وحي القرآن ينزل إليك في حينه، ولا تسأل قبل أن يوحى إليك، وادعُ ربك أن يزيدك علمًا.
الجزء الرابع ٧٢٥ سورة الكهف وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبرات شرح الكلمات: جدا 79 لم تُحط به خُبْرًا: يقال أحاط به علمًا أي أحدق علمه به من جميع جهاته وعرفه (الأقرب )..فالمعنى: لم تَعلَمْ ذلك الشيء من جميع جهاته.التفسير : هذه الآية إشارة إلى أن إدراك العلوم المحمدية يكون صعبًا في الحقيقة على أتباع السلسلة الموسوية، لأن هذا الدين سيأتي بكثير من القضايا الجديدة، والحق أن قبول كل أمر جديد يصعب أنه على من يزعم من أهل العلم، ولذلك نجد الكفار، الذين كانت قلوبهم بمثابة لوح خال من الكتابة، آمنوا به بسرعة، ولكن اليهود والنصارى، الذين كان عندهم الكتاب، حُرموا من الإيمان؛ لأن كل أمر خالف فيه الإسلامُ شرعَهم تسبب في نفاد صبرهم، فكانوا يقعون في الابتلاء.ولهذا السبب نفسه حُرمت اليهود من الهدى في عهد المسيح العلا أيضًا، بينما دخلت الأقوام الأخرى في دينه تباعًا.قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) موسی التفسير: يظهر من هذه الآية أيضًا أن هذه الواقعة كشف، لأن ني مستقل، فما كان له أن يقول لشخص - أيا كان – إنه سيطيعه في الأمور الروحانية.من وفي هذه الآية إشارة إلى أن كل من أدرك عهد النبي ﷺ الأمة الموسوية وجبت عليه طاعته.وإلى هذا يشير الحديث الشريف: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا أتباعي" (تفسير ابن كثير، سورة آل عمران قوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين).
الجزء الرابع ٧٢٦ سورة الكهف قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْتَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) ۷۱ شرح الكلمات: أحدث: أَحْدَثَه: ابتدأَه (الأقرب).التفسير : أي أن ذلك العبد سمح لموسى الا بمرافقته في السفر بشرط أن لا يبدأه بالسؤال عن شيء حتى يبينه هو بنفسه.الغريب أن أخذ منه العهد بعدم السؤال لم ينفك يوجه موسی العلمية الذي سؤالاً تلو سؤال، ولكن محمدا رسول الله ﷺ الذي لم يأخذ منه جبريل العلي عهدا كهذا، لما تتمثل لـه الشيطان والدنيا خلال الإسراء، ونهاه جبريل عن السؤال أطاعه طاعة كاملة ولم يسأله عن شيء (ابن جرير: سورة الإسراء).وهذا أيضًا يكشف لنا البون الشاسع بين مكانة النبيين عليهما السلام.صلى فَأَنطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّرِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا - شرح الكلمات: فانطلقا انطلق ذهَب (الأقرب).۷۲ خرقها: خرق الثوبَ: مزَّقه (الأقرب).والخَرْقُ قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر (المفردات).إمرا: الإمرُ : العجيب والمنكَرُ (الأقرب).التفسير من هنا تبدأ واقعة إسراء موسى ال، حيث عُقدت المقارنة بين أحوال الأمة المحمدية وأحوال الأمة الموسوية.كان أستاذي المكرم حضرة المولوي
۷۲۷ سورة الكهف الجزء الرابع نور الدين الله يقول : إن الفرق بين إسراء رسول الله وبين إسراء موسى عليهما السلام يتمثل في أن نبينا اجتناب السؤال، ولكن موسى الا لم يستطع الصبر و لم يمسك عن السؤال ؛ وكان هذا إشارة إلى أن أمة محمد ستتمسك بالدين صابرةً، ولكن أمة موسى ستتخلى عن الدين لقلة صبرها.ولا شك أن هذه إشارة لطيفة، وقد أكدتها الأحداث.وكان حضرته يقول أيضًا: لقد رأى رسول الله ﷺ في الإسراء ثلاثة أمور، كذلك رأى موسى أيضًا في الإسراء ثلاث واقعات.، وأقول: ومما فتح الله عليّ من علمه هو أن هذين الإسراءين لا يتشابهان في عدد الواقعات الحاصلة فيهما فقط، بل أيضًا في تفسير هذه الواقعات.ورغم اختلافهما من حيث اللغة التمثيلية، فإن الحقيقة واحدة وكان هذا ضروريًا، لأن إسراء موسى ل كان يتضمن النبأ عن ظهور محمد هلال الاول فكان لزاما أن تتم فيه الإشارة إلى واقعات الإسراء المحمدي.أما "السفينة" فلا أتذكر الآن تفسير أستاذي المكرم لها، ولكنني أفسرها بمعنى المال، لأن السفينة لها معاني كثيرة في علم تعبير الرؤيا، ومنها المال أيضًا (تعطير الأنام: كلمة السفينة، وأرى أن هذا هو المراد في هذا الكشف، لأن القرآن أيضا يؤكد ذلك حيث يقول ربكم الذي يُزجي لكم الفُلْكَ في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما ) الإسراء (٦٧.والمراد من "الفضل" هنا المال والثروة وركوبهما السفينة يعنى أنه سيأتي على الأمتين الموسوية والمحمدية زمان تُرزقان فيه الثروة المادية رغدًا.بعدها تقول القصة إنهما لما ركبا السفينة خرقها صاحب موسى السلام..أي أخرج ألواحها وجعلها قطعًا، حيث يقال خرق الثوب أي مزقه وجعله قطعًا.فاعترض عليه موسى - وبتعبير آخر اعترض قومه - وقال: أتريد بذلك أن تغرق أهل السفينة؟ لقد جئت أمرًا منكرًا.عليهما
الجزء الرابع ۷۲۸ سورة الكهف امته وخرق السفينة عندي يعني أن محمدا قام بخرق في دنيا من خلال كثرة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمال.فمثلاً أمرهم أولاً بأداء الزكاة التي تتسبب في نقصان المال في الظاهر.ثم أمرهم بالصدقات ثم أصاب في أموالهم إذ منعهم من أخذ الربا، ثم قام بتوزيع أموالهم بأحكام الإرث، وهكذا حال دون تكدس الأموال.وكأنه دمر حياتهم الدنيوية في نظر أهل الدنيا، أما في نظر أهل الصلاح والتقوى فإنه الله صان قومه من التأثير السيئ لحب الدنيا ووقاهم من عبودية أهل الثراء.إن هذا التعليم يصعب جدا قبوله على أتباع السلسلة الموسوية، اليهود والنصارى.مما لا شك فيه أن النصارى يقولون بأفواههم إن "مرور جَمَلٍ مِن ثقب إبرة أيسر أن من يدخل غني في ملكوت السماوات" (مرقس ١٠: ٢٥)، ولكنهم يعملون خلاف ذلك.إن جميع القوانين في بلادهم تساعد على تراكم ثروة الأغنياء ليس عندهم أي أمر بوجوب أداء الزكاة كما أن لهم حرية تامة للتعامل الربوي.ولعب الميسر غير محرم عندهم.ولا يوجد في بلادهم قانون ينص على تقسيم تركة الميت بين الورثة الكثيرين؛ بل يمنح معظم أغنيائهم ثروتهم أكبر أبنائهم لتزداد العشيرة الواحدة ثراء.وكذلك لم يحفظ شرعُهم حقوق العمال، في حين إن الإسلام قد سنّ قوانين عديدة لحماية حقوقهم كيلا يحتكر من الأثرياء الأموال ويستعبدوا الفقراء.هذه هي الأحكام الإسلامية التي بسببها يخاف اليهود والنصارى من الدخول في دين الإسلام ظانين أنها بمثابة غرق القوم ودمارهم.حفنة هذا هو الدرس الأول الذي تلقاه موسى ال في إسرائه.وهكذا حصل تماما مع النبي ا ل ل ليلة الإسراء حيث رأى في أول الأمر امرأة عجوزا، ثم عُرضت عليه كأس الماء.وقد عبر جبريل الله العجوز بالدنيا والماء بالمال، وقال للنبي : لو شربت الماء لغرقت أنت وأمتك، أي لشغلت أمور الدنيا أُمتك، وضعفت علاقتها بالله تعالى.
الجزء الرابع ۷۲۹ سورة الكهف لاحظ البون الشاسع بين أفكار قوم موسى وقوم نبينا الكريم عليهما السلام! فجبريل ال يقول للرسول ﷺ: لو شربت الماء لغرقت أمتك، وكأنه يعتبر السفينة الصالحة – أي الانشغال بالحياة المادية – غرقا، ولكن موسى ال أي قومه يعدُّ السفينة المخروقة - أي تطبيق أحكام الزكاة وغيرها التي تحول دون احتكار الأموال الدنيوية في أيدي البعض – غرقًا.فكيف يمكن إذا أن يتعاون الفريقان في العمل مع هذا الاختلاف الشديد في الآراء، وإلى متى يمكن أن يتحمل أحدهما الآخر كرفيق؟ كما يتضح من القرآن الكريم أيضًا أنه كما اعترض موسى ال على عبد الله هذا لما خرق السفينة كذلك اعترضت أمته على رسولنا الكريم أنه يُهلك قومه بأخذ التضحيات المالية منهم.وقد سجل القرآن الكريم اعتراض اليهود هذا كالآتي: وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ (المائدة (٦٥)..أي تقول اليهود – نظرا إلى مطالبة النبي المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله لماذا حمل محمد قومه هذا العبء الثقيل عبثا؟ هل حصل نقص في خزائن الله حتى يطلب منا أن ننفق من أموالنا المحدودة؟ إنه تعالى قادر على أن يعطي بنفسه من يريد من عباده.لماذا نطالب بالإنفاق على الفقراء والمعوزين؟ وكأنهم قالوا للنبي ﷺ: أتخرق السفينة لتغرق أهلها؟ - كذلك ذكر القرآن المجيد اعتراض الكفار عامة - بمن فيهم اليهود والنصارى أيضًا - بقوله وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أَطْعَمَهُ إِنْ أنتم إلا في ضلال مبين) (يس: ٤٨)..أي يقول لهم رسول الله ﷺ: إن هذا المال الذي أعطاهم الله إياه ليس لهم فحسب، إن بل هو للعالم كله، فلينفقوا كله، فلينفقوا منه على عباد الله الفقراء فيرد الكفار على المسلمين: أنطعم مَن لو يشاء الله أطعمه؟ أي إذا لم يُطعمهم الله من خزائنه الواسعة التي ما لها من نفاد فكيف يمكن لنا أن نرزقهم من أموالنا المحدودة؟ إنكم أيها المسلمون في ضلال مبين حيث تضيعون أموالكم بهذا الأسلوب!!
الجزء الرابع ۷۳۰ سورة الكهف إن مثل هذه الاعتراضات كانت ولا تزال تثار بكثرة من قبل اليهود وغيرهم من الكفار إلى يومنا هذا.ولكن الذي يحبُّ الله تعالى حبا صادقًا يختار لسفره في هذه الدنيا سفينة مخروقة بدلاً من سفينة سليمة تُلهي قلبه عن ذكر الله تعالى.وهذا الأمر الرباني يمثل أكبر ابتلاء للنصارى لأنهم أكثر الناس أموالاً.واعلم أن هذه الآية أيضا تؤكد كون هذه الواقعة كشفًا، وإلا لغرقت السفينة حين خرقها العبد.قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (3) ۷۳ التفسير : أي لقد قلت لك منذ البداية إن ما بين تعليمي وتعليمك ما بين السماء والأرض، ولا يمكن أن ترافقني في سفري إلا إذا قتلت أهواء نفسك تمامًا.قَالَ لَا تُؤَاخِذْنى بمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقنى مِنْ أمرى عُسْرًا ) الكلمات شرح ٧٤ لا ترهقني من أمري عُسرًا: أي لا تُعسرني من أرهَقَه عُسرا: كلَّفه إياه (الأقرب).التفسير : طلب موسى ال من ذلك العبد أن يعفو عنه هذه المرة، وأنه لن لا يعود لمثل هذا أبدًا.ولقد أشار الله تعالى هنا إلى أن اليهود والنصاری سیصالحون محمدا ويسالمونه بادئ الأمر، ولكنهم سيبدأون في الاعتراض عليه فيما بعد، فتنقطع الصلات بينه وبينهم في نهاية المطاف.وهذا ما حصل بالضبط، فلما قدم الرسول المدينةَ صَالَحَهُ اليهود ولحقوا بحزبه أول الأمر، ثم خاصموه تهربا من تقديم التضحيات الواجبة عليهم كونهم حلفاءه.فمثلا غرم المسلمون بدية ذات مرة وكان لزاماً على اليهود أداء جزء منها بموجب المعاهدة القائمة بين الطرفين،
الجزء الرابع وعندما طلب غزوة بني النضير).۷۳۱ سورة الكهف من بني قينقاع * بأداء ما عليهم خاصموا النبي (السيرة الحلبية: وهكذا كان حال ،النصارى فإن صلاتهم بالمسلمين كانت على ما يرام في بادئ الأمر، حتى إن رسول الله ﷺ لما بعث الرسائل إلى الملوك مدحه قيصر الروم (البخاري: بدء الوحي)، ولكنه لما رأى أن سياسة الدولة الإسلامية تتعارض مع سياسة الدولة المسيحية بدأ في محاربة الإسلام، فذاق وبال أمره في زمن أبي بكر وعمر رضي عنهما بحيث لم تندثر آثار ذلك الوبال القرون طويلة.الله فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ ذَسَا زَكِيَّةٌ بِغَيْرِ نَس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا شرح الكلمات نُكْرًا : النُّكْرُ ؛ المنكَرُ ؛ الأمرُ الشديد؛ القبيح (الأقرب).زكية: فعيل من زكا الشيء يزكو: نما.وزكا الرجلُ: صلح وتنعم وكان في خصب.وفسر البيضاوي قوله تعالى "غلامًا "زكيًّا" أي طاهرا من الذنوب ناميًا على الخير (الأقرب).التفسير: كان أستاذي المكرم المولوي نور الدين الله يلفت النظر في هذا المقام إلى لفظ "انطلقا" ويقول : كان جبريل ال يقول لرسول الله ﷺ في إسرائه مرة بعد أخرى: "انطلق انطلق" الخصائص الكبرى مجلد ١ ص ١٥٤-١٥٥)، كذلك نجد أن كلمة "انطلقا" قد تكررت هنا كثيرًا، مما يدل على أن إسراء موسی العلة كان روحانيا.* هذا سهو، والصحيح بنو النضير.(المترجم)
الجزء الرابع ۷۳۲ من أمة موسى ضد سورة الكهف أما قوله تعالى حتى إذا لقيا غلامًا فقتله قال أَقتلت نفسا زكيةً بغير نفس لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا فكان أستاذي المكرم يقول إن منظر قتل الغلام هذا يمثل إشارةً وردا على الاعتراضات التي كان المقدر أن تثيرها رسول الله حين أمر بقتل كعب بن الأشرف.وعندي أن قتل الغلام هنا يناظر المنظر الثاني الذي رآه رسول الله ﷺ في إسرائه شكلاً ومضمونًا.لقد رأى رسول الله ﷺ في إسرائه أن رجلاً يناديه من ورائه ولكنه لم يجبه؛ ثم عُرض عليه كأس الخمر، ولكنه أبى أن يشربها.وقد عبر جبريل الرجل بالشيطان، وعبّر كأس الخمر بالغواية التي هي من عمل الشيطان.وكان المنظر الثاني في إسراء موسى لأنه رأى غلامًا قتله العبد الصالح أي الجمالُ المحمدي.وإذا رجعنا إلى كتب تعبير الرؤيا وجدناها تقول إن رؤية الشاب في المنام تدل - فيما تدل - على الحركة والقوة وغلبة الجهل (تعطير الأنام.والحق أن هذه الأمور الثلاثة - أي القوة والرغبة في اللهو والجهل الشديد بالعلم الروحاني - إذا اجتمعت في شخص اتبع خطوات الشيطان.وكان في منظر قتل الغلام واعتراض موسى على قتله إشارة إلى التعليم الإسلامي الثاني الذي يحرم الخمر وينهى عن اللغو واللهو، والذي يعترض عليه أتباع السلسلة الموسوية، وخاصة النصارى منهم – وقد ذكرت سابقا أن فتى موسى هو المسيح، وأن أمة موسى الموجودة عند مجمع البحرين هي أتباع المسيح، وإن كان اليهود يندرجون فيها ولكن بدرجة أقل – لقد أخبر الله تعالى بذلك أن هؤلاء سيعترضون على الإسلام بأنه يقتل الشباب أي يحرم الإنسان من التمتع بملذات الحياة، ويرون أن هذا ظلم عظيم، معتبرين أن الله تعالى قد منحه هذه القوى لكي يتلذذ بها، لا أن يهدرها ويهلكها.وبالفعل تجدون المسيحيين يكرهون الإسلام عمومًا لأنه منعهم عن الإتيان بمثل هذه الأعمال الشيطانية ويظنون أن الإسلام قد قتل الشباب جراء هذا التعليم.
الجزء الرابع ۷۳۳ سورة الكهف قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبَّرًا (3) التفسير : هذه الآية أيضاً تدل على أن هذه الواقعة كانت كشفًا لأن قتل أحد في حالة اليقظة من دون حرام قطعاً.صلى قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِي عُدْرًا ) التفسير : أي لا تؤاخذني هذه المرة أيضًا، ولا تقطع صلتك معي، ولا تصاحبني إن سألتك عن شيء بعدها.وكان فيه أيضًا رسالة إلى أن اليهود والنصارى سينقضون المعاهدات التي ستتم بينهم وبين المسلمين مرة بعد أخرى، وتغلب عليهم عداوة الإسلام التي تمكنت من قلوبهم.فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ أَسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَةٍ وهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُريدُ أَن يَنقَضَ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا خير ۷۸ صلى التفسير: اعلم أن أهل القرية يعني القوم، لأن الأقوام تُرى في المنام على صورة القرى.وأما الضيافة فتأويلها التعاون حيث ورد أن الضيافة في المنام اجتماع على (تعطير الأنام: كلمة الضيافة).فتأويل قوله تعالى استطعما أهلها هو أنهما التمسا من ذلك القوم أن يعاونوهما، ولكنهم رفضوا طلبهما.أما قوله تعالى فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض فقد ورد عن الجدار: "من رأى حيطان بناء قائمة محتاجةً إلى مرمة فإنه رجل عالم أو إمام ذهبت
الجزء الرابع ٧٣٤ سورة الكهف دولته.فإن رأى أقوامًا يرممونها فالمراد أن أموره سيتم إصلاحها" (تعطير الأنام: كلمة الحائط، الهامش).وإذا رأى أنه لم يُرمَّمْ فمعناه دمار عمله.وورد في كتاب التعبير للإمام ابن سيرين أن إصلاح الفساد في حصة من الجدار تأويله تعيين وال جديد مكان الوالي الأول.فيعني هذا المنظر كله - نظراً لهذه التأويلات - أن موسى وعبدا من عباد الله الذي صاحبه في السفر سيلتمسان التعاون من قوم، ولكنهم سيأبون التعاون معهما.ثم سيشاهدان أنَّ عمل رجل صالح كاد أن يفسد، فيسكت موسى ولكن صاحبه - عليهما السلام - سيُصلح ما فسد من عمل ذلك الرجل الصالح.فيقول موسى لذلك العبد كان الأولى بك أن تتخذ عليه أجرًا، فيغضب صاحبه من قوله هذا ويفارقه.أو المراد أنه سيُستخدَم على ذلك القوم وال آخر.كان أستاذي المكرم حضرة المولوي نور الدين الا الله يقول في تفسير هذا المقام: لعل الغلامين اليتيمين هنا قبيلتا الأوس والخزرج المحرومتان من التقدم والازدهار منذ زمن بعيد، فذهب الله تعالى برسوله إلى المدينة، وفتح لهاتين القبيلتين سبل التقدم أو المراد منهما أولاد إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، حيث كان أمرهما مهددًا بالفساد، فقام موسى بحماية حق الواحد منهما، بينما حفظ رسول الله ﷺ حق الآخر.وعندي أن الجزء الأول من هذا المنظر يدل على أن المراد من القرية هنا عالم اليهودية والنصرانية، حيث رفض التعاون حين دُعي إليه.أما الجدار فالمراد منه قديسو اليهود والنصارى والمراد من قرب انقضاض هذا الجدار زوالُ أثر هؤلاء القديسين.والمراد من إصلاح الجدار تمكين تعليمهم مرة أخرى وتعيين وال أو حاكم جديد بينهم.وأما قول موسى العلم لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، ففيه إشارة إلى أن قومه سيزداد طمعهم التجاري، فلا يأتون بعمل إلا من منظور المنفعة المادية وسيصعب عليهم جدا القيام بعمل خالصا لوج الله.جه وهذا ما نشاهده اليوم بأم
الجزء الرابع أعيننا حيث إن المسيحيين - ۷۳۵ سورة الكهف الذين هم آخر حلقة للسلسلة الموسوية – لا يخلو تعليمهم من الأغراض المادية ولا تكون مواساتهم إلا للمكاسب الدنيوية، حتى إن تبشيرهم أيضًا لا يخلو من الأهداف السياسية والمكاسب المادية.ويكاد ينعدم فيهم العمل الخالص لوجه الله تعالى، الذي لا تشوبه فكرة الكسب المادي.وأما رفض أهل الكتاب التعاون فمثاله في حياة موسى ال أنه من مصر واعداً إياهم بأن الله تعالى سيؤتيهم ملك كنعان، وبعد أن حاربوا و هزموا عديدا من الأقوام الصغيرة، أمرهم بالهجوم على أهل كنعان، ولكنهم لم يستجيبوا لـه.يسجل القرآن الكريم هذا الأمر ويخبر أنهم قالوا يا موسى إنا خرج بقومه لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون (المائدة: (٢٥)..أي حين قال موسى لقومه: إنه قد آن الأوان أن تهاجموا عدوكم، فتنزعوا منهم الأرض الموعودة لكم، رَدّ عليه قومه وقالوا: هذا الوعد منك أو من ربك؟ لماذا نزهق نحن أرواحنا عبثا في سبيل تحقيقه؟ فاذهب أنت وربك فقاتلا، أما نحن فلن نحرك ساكنا ولن ندخل الأرض إلا بعد أن تقوما بفتحها! يتضح من هذا جليًّا أنه في الوقت الذي كاد أن يوفيهم الله وعده أبى قوم العليا التعاون معه بعذر باطل ناسين أن من سنته تعالى أنه يوفي بعض موسی وعوده بواسطة عباده ومن واجب العباد أن يتعاونوا مع أنبيائهم لتحقيق مثل هذه الوعود الإلهية.أما عدم تعاونهم مع رسول الله الله فمثاله ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى قُلْ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تَولَّوا فَقُولُوا اشْهَدوا بأنا مسلمون (آل عمران (٦٥)..أي يا محمد قُلْ لأهل الكتاب، سواء كانوا هودًا أو نصارى، أن يتركوا العناد ويتعاونوا مع المسلمين في أمر واحد ألا وهو نشر التوحيد، فلا يعبدوا إلا الله، ولا يشركوا به من حيث العقيدة شيئًا، ولا ينحازوا
الجزء الرابع ٧٣٦ سورة الكهف إلى أحد ظلما، بل يعملوا في العالم بالعدل والإنصاف كما يريد الله تعالى.وكأنه أمر هنا أن يلتمس منهم التعاون من أجل توطيد التصالح مع العباد وكذلك مع الله تعالى.ثم ينصح الله تعالى المسلمين قولوا لليهود والنصارى، إن رفضوا هذا الالتماس العادل، ولم يرضوا بالتعاون في هذا العمل المشترك، إذا كنتم لا تلبون دعوة التعاون هذه فشأنكم، أما نحن فنتعاون معه الا امتثالا لأمر الله تعالى.والحق أننا إذا أمعنا النظر وجدنا أن قوم المسيح لم يتعاونوا أيضًا معه ال حيث فروا جميعًا وخذلوه لدى واقعة الصليب.ج العلمية الا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأْنَبَتُكَ بِتَأْوِيل مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ت التفسير: لما رأى هذا العبد الصالح أن صاحبه لا يمتنع عن الاعتراض قال لــــه: الآن لا بد لنا من الفراق.وكان هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب حين يرفضون دعوة الاتحاد على التوحيد ولا يمتنعون عن الإشراك بالله، سيقطع محمد رسول الله ﷺ علاقته عنهم، لتبدأ المواجهة بينه وبينهم.أمّا السَّرِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُ أَنْ أَعِيَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَرِينَةٍ غَصْبًا (3) A.التفسير: تحتوي هذه الآية على التأويل الذي فسر به العبد الصالح الأحداث السالفة الذكر.واعلموا أن الرائي قد يعبر في الرؤيا نفسها الأحداث التي يراها فيها، وقد يكون ذلك التعبير واضحًا تماما، وقد ينكشف تأويلها جزئيا بحيث تحتاج إلى
الجزء الرابع ۷۳۷ سورة الكهف تعبير آخر في اليقظة كما هو الحال في هذا المقام.مما لا شك فيه أن التأويل الذي ذكره العبد الصالح للأحداث يكشف الحقيقة لحد ما، ولكنه ليس بتأويل واضح، بل لا تزال الأحداث بحاجة إلى تأويل آخر طبقًا لمبادئ عالم اليقظة.قبل كل شيء قام العبد الصالح بتأويل حادث السفينة فقال أما السفينة فكانت المساكين يعملون في البحر فأردتُ أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا.أما الملك لقد سبق أن ذكرتُ تأويل جميع الأحداث ما عدا المساكين والملك.فاعلم أن المراد من المساكين هنا أناس منكسرة متواضعة قلوبهم، لا تمنعهم أموالهم ولا منجزاتهم المادية عن مواساة الفقراء والعطف عليهم والتعايش معهم.فتأويله حب الدنيا، لأن الملوك الماديين مظهر من مظاهر الدنيا.وبما أن الآية تذكر هنا أن الملك كان يأخذ السفينة غصبًا فالمعنى أن الأغنياء الذين ليس لديهم حب الدين ولا ينفقون جزءاً كافيًا من أموالهم على الفقراء والأعمال الخيرية الأخرى، تستولي عليهم محبة الدنيا وتصير أموالهم تحت تصرف الشيطان.لذلك أوصى النبي أمته، بأمر الله تعالى أن يخرقوا ،سفينتهم، أي أن ينفقوا أموالهم في سبيل الدين وخدمة الإنسانية، كيلا يطغى حب الدنيا على قلوبهم، ولكيلا تصير أموالهم للدنيا الدنية، بدل أن تكون الله تعالى وحده.وجدير بالذكر هنا أن الدنيا ظهرت الرسول الله في الإسراء على شكل عجوز، بينما ظهرت لموسى ال في إسرائه على صورة ملك غاشم.وهذا، في رأيي إشارة إلى أن هجوم الدنيا على الأمة المحمدية يكون ضعيفًا جدا حيث كانت صولتها على المسلمين بقوة امرأة عجوز ، ولكن صولتها على أمة موسى تكون على أشدها حيث رآها على صورة ملك غاصب.
الجزء الرابع ۷۳۸ سورة الكهف وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْن فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ۸۱ طُغْيَنًا وَكُ رَا التفسير : لقد ذكرت سابقا أن رؤية الغلام في المنام تأويلها الحركة والقوة وغلبة الجهل، والتفسير الذي بينه هذا العبد الصالح في هذا المقام يوافق هذا التعبير تماما؛ حيث قال عن قتل الغلام كان أبواه مؤمنين فخشينا أن يُرهقهما طغيانًا وكفرًا..أي قتلته مخافة أن يتسبب في طغيانهما وكفرهما.ولقد بينت من قبل أن قتل الأولاد غير المنقادين الذين لم يرتكبوا جناية حرام من دون شك.فلا أن هذا المنظر أيضًا بحاجة إلى التعبير.وما دام الغلام ريب يؤول بالحركة والقوة وغلبة الجهل - وهي أشياء معنوية غير مادية – فلا بد أن يُعتبر أبواه أيضًا من الأشياء المعنوية.ومعلوم أن منشأ الحركة والقوة والجهل هو الروح والجسد، حيث أودع الله تعالى الروح والجسد – وهما بمنزلة الزوجين أن اجتماعهما يولّد في الإنسان الحركة والقوة وكذلك الجهالة ميزة خاصة وهي التي معناها العمل دون مبالاة بالعواقب غير أن هذه الأشياء الثلاثة، التي لا بد للإنسان منها لفلاحه ونجاحه يجب ضبطها حتى لا تتعدى حدودها اللازمة، لأنها إذا أُطلق لها العنان دفعت بروح الإنسان وجسده إلى هوة الكفر والطغيان.علما أن كسر حدة الشيء يعبر بالقتل في اللغة العربية، يقال: قتل الشراب: مرجه بالماء، وقتل الجوع والبرد ونحو ذلك: كسر شدّته.وقتل غليله: سقاه فزالَ غليله بالري (الأقرب).إذا فلفظ القتل لا يُستعمل بمعنى القضاء على حياة الحيوان فحسب، بل يعني أيضًا كسر شدة العواطف والأحاسيس.فالمراد من التأويل الذي ذكره هذا العبد الصالح أن والدي الحركة والقوة والجهالة – أي الجسد والروح - مؤمنان..بمعنى أنهما قد أُودعا خاصية الإيمان بأوامر الله تعالى، ومنحا الكفاءة العالية للقيام بأحسن الأعمال وأفضلها؛ ولاستخدام هذه =
الجزء الرابع ۷۳۹ سورة الكهف الكفاءات زوّدهما بخواص ثلاث: الحركة والقوة والجهالة..بمعنى (أولاً) أن في روح الإنسان ودماغه نزوعًا شديدًا للتحرك إلى الأمام أي للتقدم، و(ثانيا) أن فيهما كفاءة عالية للقيام بأعظم الأعمال، و(ثالئًا) أنهما مزوَّدان بقوة الصمود أمام أشد الخطوب والأخطار.وباستخدام هذه القوى أو الخواص الثلاث المتولدة من تفاعل البدن والروح يمكن للإنسان أن يحقق الغاية من حياته.ولكنه إذا لم يكبح جماح هذه القوى وأطلق لها العنان دفعت بروحه وجسده إلى هوة العصيان والكفر والطغيان فيهلك.فلم يشأ الله تعالى أن يترك الروح والجسد - الشيئين النافعين جدًّا - ليقعا في الكفر والطغيان.فقتَل كل حدة هذه القوى الثلاث بواسطة الجلوة المحمدية، أي كبح جماح هذه القوى بواسطة الشريعة التي أنزلها على محمد الله وجعلها على حد الاعتدال حتى لا تعمل إلا في حدود الخير.هذين فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَوةَ وَأَقْرَبَ رُحما : ۸۲ التفسير: أي جاء الإسلام بهذه التشريعات والقيود كي يُخضع الإنسان رغباته كليةً لمقتضى الأخلاق الفاضلة بدلاً من أن تعمل رغباته من دون رقابة سليمة، وكأنه أريد بقتل الرغبات المطلقة أن يُمنحا - أي روح الإنسان وجسده – ولدًا صالحا يطيع الإنسان، ويجعله موردًا لرحمة الله تعالى بدل أن يتسبب في سقوطه في هوة الكفر والطغيان.وقوله تعالى خيرًا منه زكاةً وأقرب رُحما فاعلم أن الزكاة تعني الطهارة والنماء، وأن الرحم هو الرّقة والتلطف (الأقرب).فالآية تعني أن الولد الجديد سيكون برا بهما ومطيعا لهما وسببًا لرقيهما وطهارتهما.بمعنى أن القوى الإنسانية غير المكبوحة إذا قُتلت بحسام الشرع وكبلت حُرِّيتُها الهمجية بقيود الأحكام الإلهية، استجابت لأوامر الجسم والروح وساعدت على تطورهما وطهارتهما.
الجزء الرابع ٧٤٠ سورة الكهف ولكن الأمة الموسوية – كما ذكرتُ من قبل - لم تستوعب هذا الأمر، بل - انغمست في اللهو والملذات والخلاعة والمجون، ولأجل ذلك نشاهد في أعمالهم سرعة، وفي قواهم حدّةً، و في سلوكهم تجاسرًا؛ ومن جانب آخر تزيدهم هذه القوى طغيانًا وكفرًا، وتنحرف بهم عن الخير والتقوى، ولا تميل طبائعهم إلى قبول ما يمليه الدين والعقل اللذان يمثلان الروح والجسد.وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِعُلَمَيْن يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَيْرٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَلِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَتَزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ) شرح الكلمات: كنز الكنز : المالُ المدفون في الأرض؛ وقيل: اسم للمال إذا أُخْرِزَ في وعاء؛ الذهب؛ الفضة (الأقرب).تأويل: التأويل: الظن بالمراد ؛ بيانُ أحد محتملات اللفظ؛ العاقبة.وأوّل الشيء: رجعه.وأوَّلَ الكلامَ: دبَّره وقدَّره وفسَّره.وأَوَّلَ الرؤيا: عَبَّرها (الأقرب).التفسير: قال هذا العبد الصالح لموسى: بَقِيَ الآن أن أجيب على أمر اختلفنا فيه.أنت لا تفهم لماذا أصلحت الجدار الذي كان يريد أن ينقض من دون أن آخذ عليه أجرًا؟ فاعلم أنني أصلحت الجدار لأنه كان يحفظ تحته كنزا لغلامين يتيمين في المدينة كان أبوهما صالحًا.لقد ذكرت سابقا أن الجدار معناه هنا الصالحون من أجداد اليهود والنصارى، والمراد منهم في هذا المقام موسى وعيسى وأبوهما سيدنا إبراهيم الذي قال الله تعالى عنه في القرآن المجيد: وإنه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: ١٢٣).أما
٧٤١ سورة الكهف الجزء الرابع الكنز فهو الكنز العلمي الروحاني الذي حفظه تعليم موسى وعيسى، ولكن نفوذهما الروحاني الذي كان يحمي ذلك الكنز بعد موتهما كان قد ضعف ووهن جراء تغافل اليهود والنصارى عن الدين وابتعادهم عنه.فجاء محمد ﷺ وأصلح ذلك الجدار من جديد، أي حفظ من خلال شريعته الجديدة تلك الحقائق التي كانت توجد في شرع موسى وعيسى.ولا سيما تلك الأنباء الغيبية كانت تخبر عن ظهور الإسلام وبعثة محمد رسول الله قد حفظت بين دفتي القرآن الكريم كي يمكن لليهود والنصارى - عندما يعودون إلى صوابهم – أن يهتدوا للإيمان بمحمد رسول الله الله ويصلحوا حالهم بالاطلاع على نبوءات التي صلحائهم.قوله تعالى رحمةً من ربك..أي قد تم هذا بمحض رحمة الله تعالى الذي لم يُرد أن يخذل اليهود والنصارى رغم كثرة طغيانهم، فجمع في القرآن الكريم كل ما كان يليق بالحفظ من هذه الكنوز العلمية الروحانية كي ينتفع منها اليهود والنصارى عند توجههم إليها.هي وأما قوله وما فعلته عن أمري فهو إشارة إلى أن الجدار الجديد هو الجدار القرآني، حيث جُمع ذلك الكنز في القرآن الكريم، الذي هو أمر الله الخالص، ولا دَخلَ فيه لمحمد الله، كما قال الله تعالى وما ينطق عن الهوى) (النجم: ٤).ثم قال العبد الصالح ذلك تأويلُ ما لم تسطع عليه صبرا..أي يا موسى هذه الحقيقة التي لم تستطع عليها صبرًا.اعلم أن هذا الجزء الأخير من كشف موسى يشبه الجزء الأخير من إسراء نبينا عليهما السلام كان الجزء الأخير من إسراء النبي ﷺ أن إبراهيم وموسى وعيسى أن أهدوا له السلام - عليهم الصلاة والسلام جميعًا.وهذا يعني أنه لما انكشفت على هؤلاء الأنبياء حقيقة المساعدة التي قدّمها رسول الله ﷺ لأولاد إبراهيم موسى وعيسى عليهم السلام - والتي أشير إليها في الجزء الأخير من کشف موسى – تقدموا إلى النبي ﷺ يشكرونه لما شرف بقدومه بيت المقدس.وأتباع
الجزء الرابع ٧٤٢ سورة الكهف لا جَرَمَ أن موسى الا لم يستوعب حقيقة هذا الأمر تماما أثناء إسرائه وبدأ يعترض عليه، ولكن الله تعالى لما كشف عليه الحقيقة فلم يتقدم موسى وحده للقاء محمد ، بل جاءه أيضًا إبراهيم وعيسى عليهم السلام جميعا معربين لـه عن امتنانهم وشكرهم.أما إبراهيم فلأن النبي الله سعى لنجاة أولاد ابنيه إسماعيل وإسحاق عليهم السلام أجمعين، حيث هاجر بنفسه إلى المدينة لنجاة نسل أحد الابنين، بينما تقدم قومه له إلى بيت المقدس فعلا لنجاة نسل الابن الآخر.وأما موسى فلما علم أن الجدار الذي اعترض على إقامته لم يكن يعني إلا نفسه هو، وأن الكنز الموجود تحت الجدار لم يكن إلا تعليمه الذي صانه الرسول ﷺ الضياع..جاء لاستقباله كفّارةً عن اعتراضه، آخذا معه فتاه الذي لم يكن أقل منه امتنانا لمحمد ﷺ وكأنهما أرادا بذلك أن يقولا للنبي ﷺ: لقد حملنا خدمتك على محمل غير حسن، ولكن الله قد كشف علينا الحقيقة الآن.من عیسی فالسلام عليك يا محمد ﷺ تعال وبارك لنا بيوتنا، واعمل على نجاة أممنا.انظروا كم هو رائع وهام هذا المفهوم الذي يدل عليه علم تعبير الرؤيا، مما جعل رسول الله يتمنى: ليت موسى سكت حتى علمنا من إسرائه مزيدًا من التفصيل عن أعمالي وأعمال أمتي (البخاري: التفسير، قوله تعالى: وإذ قال موسى لفتاه.....ولكن من من العقلاء يمكنه أن يتصور أن الرسول ﷺ إنما تمنى في هذا المقام أن يطول هذا الفيلم السينمائي أكثر لكي يرى مناظر أخرى من خرق السفن وقتل الشبان وإقامة الجدران وغيرها؟ نعوذ بالله من ذلك.والحمد لله الذي وهب لي من لدنه علمًا.رَبِّ زِدْني علمًا وإسلامًا.آمين.ملخص إسراء موسى العلية : بعد الاطلاع على هذه الأحداث وشرحها الذي سجلته أعلاه لن يصعب على المرء أن يدرك أن إسراء موسى ال قد ذكر في هذا المقام من القرآن الكريم للدلالة على الأمور التالية:
الجزء الرابع ٧٤٣ سورة الكهف ۱ – أن ظهور محمد رسول الله ﷺ كان مقدرا بعد فساد قوم المسيح الناصري ال الذين كانوا الجزء الأخير من الأمة الموسوية.۲ – بعد انقضاء دور التوحيد إثر تطرُّق الفساد إلى المسيحيين كان ظهور محمد ضروريا.٣ – أن شرع الإسلام يحتوي على قوانين ومبادئ يخالفها التعليم الموسوي في بعض المقامات اختلافًا شديدًا، ولذلك من الصعب على الأمتين الموسوية والمسيحية التعاون مع الإسلام، ولكن لا نجاة لهم من دون العمل بشرع الإسلام.- أن اليهود والنصارى لن يؤمنوا بمحمد رسول الله ﷺ وقت ظهوره، بل سيقبلون دعوته كقوم بعد زمن طويل يستمرون خلاله في سفرهم الروحاني على حدة.0 - وأنهم سيشعرون بالتعب والملل في نهاية المطاف بعد أن ظلوا مسافرين لأمد مديد وسيستولي عليهم اليأس من الحصول على الأمن والاطمئنان بمساعيهم المنفردة؛ وعندها سيفكرون فيما آلوا إليه ليدركوا أنهم ما زالوا مسافرين دونما غاية، لأن زمن سفرهم الانفرادي كان قد انتهى قبل ذلك بكثير.أن الأنباء الغيبية التي وردت في كتبهم المقدسة عن ظهور محمد ﷺ V ― وشرعه والتي حفظها القرآن بين دفتيه ستكون سببًا لهدايتهم حينذاك.- وأنهم سيستعدون حينئذ لقبول تلك الشرائع والحدود التي ما كانوا ليقبلوها من قبل، وعندها سيتحلون بالرغبات الطيّعة الخالصة لله تعالى قاضين على ميولهم الهمجية الوحشية.فتتداركهم رحمة الله، فيدخلون في بحر من رحمته = تعالى لا شاطئ لــــه، ولا بحر بعده إلا الذي يتفرع منه ويكون جزءا منه.
الجزء الرابع ٧٤٤ سورة الكهف وَيَسْتَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا Λε الكلمات شرح القرنين: هو مثنى القرن وهو الرَّوقُ من الحيوان.والقرن مائة سنة.والقرنان كناية عن مشرق الأرض ومغربها (الأقرب).مَلكُ اتسع ملكه الله تعالى التفسير: إن قصة ذي القرنين هي أيضًا من القضايا التي قد منح أستاذي المكرّمَ حضرة المولوي نور الدين له شرفًا لحلها.مما لا شك فيه أن بعض الكتاب المعاصرين قد ألقى الضوء على هذا الموضوع ورفض الرأي القائل بأن الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين.كما قال البعض الآخر إن ذا القرنين في البلاد الشرقية والغربية.وفوق ذلك فإن المستشرق الألماني الدكتور هر بيلات مؤلف Bibelia Oriental" كاد يصيب كبد الحقيقة حين قال إن ذا القرنين ملك من ملوك الفرس الأوائل (تفسير القرآن للقسيس "ويري").وكان أستاذي المكرّم الله الله يتبنى بحثه على ما ورد في الكتاب المقدس ويقول: لقد ورد في الكتاب المقدس رؤيا لدانيال النبي حيث قال: رأيت في المنام كبشا ذا قرنين واقفًا عند النهر.رأيت الكبش ينطح غربا وشمالاً وجنوبًا، فلم يقف حيوان قدامه، ولا مُنقذ من يده، وفعل كما شاء (دانيال ٨: ٣ و ٤).ثم يقول دانيال : لقد أخبرني الله تعالى بتأويلها وقال أما الكبش الذي رأيته ذا القرنين فالمراد منه ملوك ميديا وفارس (دانیال ۸ (۲۰) ٢٠).
الجزء الرابع ٧٤٥ سورة الكهف وبناءً على هذه الرؤيا كان أستاذي المحترم يقول إن ذا القرنين هذا هو ملك من ملوك ميديا ،وفارس وأن ذلك الملك هو كيقباد * فصل الخطاب لمقدمة أهل الكتاب ص (۲۰۸ - ۲۰۷ الحكمة في ذكر قصة ذي القرنين: بعد ذكر رأي أستاذي المكرّم الله أسجل بحثي بهذا الصدد، ولكن قبل بيانه أود ضي أن أبين هنا الحكمة من ورود قصة ذي القرنين في القرآن وفي سورة الكهف بالتحديد عقب إسراء موسى العلية.لقد سبق أن قلتُ إن سورة الكهف تتحدث عن الصراع بين الإسلام والمسيحية، ولاسيما ذلك الصراع الذي هو شبه ديني..بمعنى أنه وإن كان صراعًا دينيا فإنه ذو صلة بسياسة الديانتين.فقد حكت لنا هذه السورة أوّلاً قصة أصحاب الكهف لتبين لنا كيف بدأت المسيحية، وكيف دبّ في أهلها الفساد.ثم بعدها تناولت إسراء موسى البيان أن قومه سيحرمون من الرقي الروحاني بعد الوصول إلى حد معين، فيظهر عندها نبي آخر من عند الله تعالى.كما أوضح إسراؤه أن المراد من قوم موسى في هذا المقام هو القسم الأخير منهم أي الأمة المسيحية، لأن القسم الأول منهم - أي اليهود – كانوا قد ماتوا ميتة روحانية قبل ذلك بزمان.وبالفعل أكدت الأحداث صدق النبأ القرآني بكل قوة وجلاء، حيث انتهى الدور الأول لرقى المسيحية بظهور محمد ، مما زاد المؤمنين إيمانًا على إيمانهم.ذلك أن التنبؤ خلال الفترة المكية الحرجة بغلبة المسلمين على المسيحيين لنبأ عظيم منقطع النظير.ثم بعد ذكر إسراء موسى الذكرت سورة الكهف قصة ذي القرنين إشارةً إلى الدور الثاني لنهضة الأمة المسيحية.* علما أن حضرة المولوي نور الدين الله قد قال في كتاب لــه آخر إن اسم هذا الملك هو "كورش" و "خورس" تصديق البراهين الأحمدية ص (٦٦).
الجزء الرابع ٧٤٦ سورة الكهف ولو قيل: ما الداعي لاختيار هذا الأسلوب غير العادي؟ لماذا لم يشر القرآن ببساطة إلى الرقي المسيحي بأجمعه مرة واحدة؟ فالجواب أنه مما لا شك فيه أن هذا الأسلوب القرآني يبدو طفيفا في نظر أهل الدنيا، ولكن الذي يدرك أهمية الدين لا بد أن يعده صحيحًا بل ضروريًا.ذلك أن الأمم – من حيث الدين - أربع وفقا للسنة الإلهية الجارية منذ بدء الزمان، وهذه الأقسام هي: ۱ـ الأمم التي تؤمن بني زمانها، وتحرز الرقي الديني والمادي متمسكين بالإيمان.الله الأمم التي تؤمن بنبيها، ولكنها تقع فيما بعد في المعاصي والشرور، فتبوء بغضب من الله تعالى؛ ورغم ذلك يمكنها أن تُصلح حالها وتستنزل فضل انتمائها إلى دينها ومن دون أن تبدل هيئتها القومية.كل ما مع ورحمته ثانية عليها أن تصلح أعمالها، لأنها تؤمن بنبي ،زمانها، ولكن أعمالها لا تتفق مع إيمانها.الأقوام التي تجترح السيئات بعد نبيها وتفسد، وحين يظهر نبي آخر زمن فسادها تُحرم الإيمان به.ومهما سعى هؤلاء القوم لإصلاح حالهم، فإن الله تعالى لا يرضى عنهم حتى يبدلوا هيئتهم القومية ويؤمنوا بالنبي الجديد.الأقوام التي لا تؤمن بأي نبي، ويكون رقيها كله ماديا محضا.ولكي تتوطد بينهم وبين الله تعالى علاقة روحانية لا بد لهؤلاء من أن يؤمنوا بنبي الوقت ويعملوا بوصاياه.بعد استيعاب أقسام الأمم هذه لا يصعب على المرء أن يدرك أن الأمة المسيحية أثناء الفترة الأخيرة من زمن رقيها الأول كانت تندرج في القسم الثاني من هذه الأقسام، إذ كانوا قد ابتعدوا عن الدين بلا شك، ولكن كان بإمكانهم أن يصالحوا الله تعالى من دون أن يبدلوا هيئتهم القومية أي من دون أن يدخلوا في دین آخر، إذ كانوا مؤمنين بني زمانهم المسيح ال.ولكن بعد ظهور محمد رسول الله ، وفقا للنبأ الوارد في الإسراء الموسوي، خرج القوم المسيحي من القسم الثاني ودخل في القسم الثالث، لأنهم نسوا مجمع البحرين وتجاوزوه
الجزء الرابع ٧٤٧ سورة الكهف تاركين إياه وراءهم، بمعنى أنهم لم يفسدوا عقيدةً وسلوكاً فحسب، بل كان من الواجب عليهم، لعقد الصلح مع الله ونيل رضاه أن يؤمنوا بمحمد رسول الله ﷺ ويتخلوا عن سياستهم ونظامهم كليًّا، مؤثرين النظام الإسلامي والسياسة الإسلامية.من وظاهر أن البون بين هذين القسمين - ولا سيما من منظور التأثيرات شبه السياسية - شاسع بحيث لا يمكن غض النظر عنه، وبالتالي كان لا بد للقرآن الكريم من اختيار هذا الأسلوب لبيان هذا الأمر، خصوصا أن فيه فائدة عظيمة أخرى ألا وهي تذكير العالم المسيحي بظهور محمد رسول الله ﷺ.إذًا فالترتيب الذي اتبعه القرآن الكريم لبيان فترتي الرقي المسيحي لم يكن ضروريًا فحسب، بل يشكل دليلاً على إعجاز القرآن أيضًا.وأوجز الكلام مرة أخرى فأقول: لقد ذكر الله تعالى أولاً قصة أصحاب الكهف الذين جاءوا في فترة كان المسيحيون فيها ،صالحين، أو كانوا فاسدين ولكنهم كانوا مؤمنين بني زمانهم، ومن ثم لم يكن لزاما عليهم أجل الصلح مع الله تعالى - التخلي عن قوميتهم وسياستهم.ثم ذكر الله إسراء موسى الذي نبأ فيه عن ظهور محمد الله هو عن تغير حالة الأمة المسيحية بعد ظهوره ، حيث بين أنهم سيحققون بعدها أيضًا النهضة والازدهار المادي، ولكن سيستحيل عليهم معه أن يكونوا على صلح مع الله تعالى، لأنهم سيتجاوزون نبي زمانهم دون الإيمان به ؛ وأن رقيهم سيظل ماديًا محضا من دون أن يكون فيه أي نصيب للآخرة حتى يرجعوا على آثارهم قصصًا وينضموا إلى موكب نبي ذلك الزمان.فبما أن الأمة المسيحية في الفترة الثانية تكون مختلفةً عما كان عليه المسيحيون الأوائل دينا وسياسةً، لذا ذكر القرآن الكريم حالتها في الفترة الثانية منفصلة عن الفترة الأولى.وبقي هنا أمر آخر يحتاج الشرح وهو: كان ذو القرنين قبل رسول الله ﷺ فلماذا ذكر القرآن قصته بين قصة أصحاب الكهف وبين إسراء موسى العلي؟
الجزء الرابع ٧٤٨ سورة الكهف فجوابه أن الكتب السماوية قد أطلقت على فترتَى الرقي المسيحي اسمين مختلفين، حيث تسمّى الفترة الأولى بدور أصحاب الكهف..أي حين كان المسيحيون متحلّين حقا بصفات أصحاب الكهف، أو ما كانوا صالحين بالفعل ولكن كانت عندهم الكفاءة لأن يكونوا صالحين مثل أصحاب الكهف.أما الفترة الثانية من الرقي المسيحي فتسمى في الكتب السماوية بدور يأجوج ومأجوج..أي حين لن تبقى فيهم كفاءة الصلاح أصلاً، ولن يستطيعوا – بسبب ظهور نبي جديد الوصال إلى الله تعالى إلا بعد التخلي عن هيئتهم القومية.وهذا الدور الثاني من الرقي المسيحي ذو صلة بذي القرنين لأن بعض أعماله تسببت في ظهور هذا الدور.وفيما يلي بيان ذلك.إن يأجوج ومأجوج اسمان للشعوب التي كانت تقطن في شمال آسيا وشرق أوروبا، وكانت تُغير على البلاد الآسيوية الخصبة (الموسوعة اليهودية كلمة.(Magog - Gog ولو أنها نجحت في غاراتها لانتشرت في هذه البلاد وانصهرت في الشعوب الآسيوية الأخرى، واعتنقت الأديان المختلقة الموجودة في هذه البلاد، ولم تجتمع على دين واحد كما هي حالها الآن بل لكان شأنها شأن الشعب الآري الذي هاجر إلى الهند، وانصهر في الأقوام القديمة القاطنة فيها فاقدًا كيانه الخاص.ولكن شاءت الأقدار أن ذا القرنين – وسيأتي ذكره مفصلاً بعد قليل صد بكل شدة وقوة حملات هذه الشعوب الشمالية الغربية، حتى انحصرت في شمال وغرب آسيا وفي شرق أوروبا؛ وذلك بعد أن وضع ذو القرنين سدا حال بين هذه الشعوب وبين دخولها آسيا، حتى أصبحوا وكأن آسيا كلها قد فرضت عليهم مقاطعة كاملة.وكانت النتيجة أن أخذت هذه الشعوب تنتشر في أوروبا.ولما كانت الوثنية سائدة في أوروبا ولم يوجد فيها من الديانات المعروفة إلا المسيحية، دخلت هذه الشعوب كلها في الديانة المسيحية تدريجيًّا، مما شكل كتلة دينية هائلة تواجه العالم كله؛ وهكذا زرعت بذرة العداوة الدينية.
الجزء الرابع ٧٤٩ سورة الكهف هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن آسيا - التى كانت حينذاك تحت نفوذ ذي القرنين وعاملةً بحسب إستراتيجيته السياسية – قامت بطرد هذه الشعوب إلى المناطق الشمالية التي كانت أرداً بقاع الأرض في ذلك الزمان؛ مما ولد في قلوب هؤلاء رغبةً عارمة للدخول في آسيا والبلاد الشرقية، وهذه الرغبة الجامحة قد توارثها أولادهم جيلاً عن جيل؛ وهكذا بذرت بذرة العداوة السياسية.- إذا فإن ذا القرنين كان – على هذا النحو على هذا النحو - سببًا في ظهور فتنة يأجوج ومأجوج، أو بتعبير آخر فتنة الدجال، ولذلك أورد الله تعالى هنا قبل ذكر الدور الثاني للرقي المسيحي قصة ذي القرنين وخاصة إنجازه الذي هيأ الأساس لأن تكون ليأجوج ومأجوج قوميتهما المستقلة وسياستهما الخاصة.وهناك حكمة أخرى في ذكر ذي القرنين هنا : بما أن ذا القرنين كان يحكم بلاد ميديا وفارس، فعليه يمكن القول إن رجلاً فارسي الأصل هو الذي تسبب في وجود يأجوج ومأجوج.ومن سنة الله المستمرة في عباده الصالحين أنه إذا أدى عمل صالح لأحد منهم إلى نتيجة ثانوية سيئة ولو بغير قصد منه فإنه تعالى يزيل ذلك السوء بواسطة أحد من أولاده أو أبناء وطنه أو مثيل من أمثاله، كيلا يُعزى إلى هذا العبد الصالح عيب ما ولو من بعيد.وقد جيء بذكر ذي القرنين في هذا المقام للغرض نفسه..أي للتنبؤ عن ظهور ذي القرنين الآخر، الذي يكون أيضًا فارسي الأصل، وسيصمد في وجه يأجوج ومأجوج ويكسر قوتهم؛ وهكذا يدفع عن ذي القرنين الأول ما نُسب إليه من العيب.وسيمنح هذا الشخص الموعود لقب "ذي القرنين" لسببين: الأول لأن الله تعالى سيجعله وارئًا للقوتين القوة المهدوية والقوة المسيحية؛ فيسمى مهديًّا لكونه وارثًا لعلوم محمد المصطفى ، وسيسمَّى مسيحا لكونه متحليًّا بصفات المسيح ابن مريم عليهما السلام كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: "لا المهدي إلا عيسى ابن ماجة كتاب الفتن، باب شدة الزمان)."
الجزء الرابع vo.سورة الكهف والسبب الثاني هو أنه يرى قرنين من القرون كما ورد في بعض النبوءات، أنه يتلقى الوحي من الله تعالى عند نهاية ،قرن ويُتوفى في أوائل القرن الآخر بعد تكميل المهمة التي عُهدت إليه.بمعنى وفي بعض الروايات الأخرى أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم - سأل رسول الله ﷺ عن قول الله تعالى في القرآن الكريم وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قائلاً: يا رسول الله من هم هؤلاء الآخرون الذين ستبعث فيهم وتعلّمهم القرآن؟ أي كيف تقوم بعملية تعليمهم وقد تُوفِّيت؟ فوضع رسول الله ﷺ يده على منكب سلمان الفارسي وقال: "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لناله رجال أو رجلٌ من "هؤلاء البخاري: التفسير، سورة الجمعة).وروى ابن مردويه عن سعد بن عبادة بلفظ "رجال" من فارس".والنظرة الشاملة في هذه الروايات تكشف لنا أن النبي أنياً عن ظهور موعود خاص من أبناء فارس يعود بالإيمان بعد أن يكون قد ارتفع إلى السماء في آخر الزمان، وأن رجالاً آخرين ذوي أصول فارسية سيؤيدونه في مهمته.أما السؤال: ما علاقة هذا الموعود بزمن يأجوج ومأجوج؟ فجوابه أن القرآن الكريم والحديث الشريف يؤكدان أن الإسلام سيؤول إلى هذه الحالة في آخر الزمان عند ظهور يأجوج ومأجوج وظهور الدجال؛ وأنهما أهل دين واحد، حيث إن يأجوج ومأجوج لقب يرمز إلى فتنهم السياسية، بينما الدجال لقب يشير إلى فتنهم الدينية.إذا فالربط بين هذه الروايات بنوعيها يكشف لنا أن إشاعة الكفر التي ستتم في زمن يأجوج ومأجوج سيقاومها رجل فارسي الأصل، وأن رجالاً آخرين من بني فارس سيساعدونه في ذلك؛ وهكذا بذكر أحوال ذي القرنين بالتفصيل رد الله تعالى الاعتراض الذي كان يرد على فعل ذي القرنين الأول الفارسي الأصل.كما أنبا الا الله بتسجيل قصته في القرآن أنه سيظهر في آخر الزمان ذو القرنين
الجزء الرابع ٧٥١ سورة الكهف الآخر الذي سيدفع هجمات يأجوج ومأجوج الدينية ضد الإسلام، مثلما صدَّ ذو القرنين الأول غاراتهم المادية في الماضي.والجدير بالذكر هنا أنه كما قيل عن ذي القرنين الثاني بأنه ليس فارسي الأصل في الحقيقة حيث نزح آباؤه إلى الأراضي الفارسية من إحدى الولايات الصينية، كذلك ورد في التاريخ أن ذا القرنين الأول كان في الأصل من منطقة ميديا، وإنما سمي فارسيا لعلاقاته المؤقتة بفارس.هذا، وأود في هذا المقام دفع شبهة أخرى.يحاول بعض البهائيين عبثًا تطبيق هذه الأنباء على زعيمهم "بهاء "الله" لكونه فارسى الأصل؛ ولكنها محاولة باطلة.ذلك أن الأحاديث النبوية تصرح بأن الموعود المذكور هنا سيعلم القرآن الكر وسيكون نائبا وخليفة لمحمد رسول الله ، ذلك أن ما قاله رسول الله ﷺ في تفسير آية من سورة الجمعة يؤكد بكل جلاء أن محمدا كما يعلم الأميين أي العرب القرآن، كذلك سيعلمه مرة أخرى قومًا آخرين لم يأتوا بعد.إذا فإن هذا النبأ لا يمكن أن ينطبق على أحد إلا الذي: ١- يكون فارسي الأصل ٢- ويعلن أنه تلميذ لمحمد رسول الله ، ولا يعلم إلا القرآن - أنه يكون ذا القرنين أي يرى قرنين من السنين، علما أن هذا الأمر مستنبط بالجمع بين آيات القرآن المختلفة الواردة في هذا الموضوع ٤- وأنه سيقضى على فتنة يأجوج ومأجوج التي أعظم أُسسها عزو صفات الله إلى العباد وتأليههم.والواضح الجلي أنه لم يتوافر في "بهاء الله" من هذه الشروط إلا كونه من فارس.فلم يكن تلميذا لمحمد رسول الله ﷺ كما لم يَدْعُ الناس إلى القرآن الكريم؛ ولم يجد زمن قرنين من القرون؛ ولم يقض على فتنة يأجوج ومأجوج؛ بل على النقيض شب نارها وأفحل شرَّها بقوله عن نفسه أنه إله.
الجزء الرابع ٧٥٢ سورة الكهف بعد ذكر هذه الأمور التمهيدية وبيان الترتيب الموجود في الواقعات المذكورة في 6 هذه السورة، أذكر بحثي الخاص بصدد ذي القرنين.لقد ذكرتُ من قبل أنني أرى مع بعض المفسرين السابقين والباحثين الأوروبيين، وكما بيّن أستاذي المكرم المولوي نور الدين الخليفة الأول لسيدنا المسيح الموعود الله، أن ذا القرنين لقب لأحد ملوك الفرس، وكان أستاذي المكرم يرى أن اسم هذا الملك كيقباد.وقال البعض الآخر إنه كان داريوس الأول.بيان) القرآن مجلد ٢ ص ٨٤٢) وعندي أن علينا أن ننظر قبل كل شيء في صفات ذي القرنين التي ذكرها القرآن الكريم، وهي كالآتي: 1 - أنه كان يتلقى الإلهام أو يرى رؤى صادقة من ٢- أنه خرج من بلاده يفتح الممالك متجها إلى الغرب حتى وجد الشمس تغرب في عين حمئة.ثم توجه إلى الشرق وفتح الممالك الشرقية.الله تعالى.٤- ثم ذهب إلى منطقة متوسطة حيث كان يأجوج ومأجوج يُغيرون ويهاجمون، فجعل هناك سدا.لا بد لنا أن نرى هل توجد هذه الأمور الأربعة في الرجل الذي نظنه ذا القرنين، ولا سيما فيما إذا كان ملهما من الله تعالى ومقبولاً عنده أم لا؟ مما لا نقاش فيه أن ذا القرنين هذا ملك من ملوك ميديا وفارس، لأن رؤيا دانيال النبي تدل جليًّا على أنه واحد منهم.إنما بقي علينا أن ننظر أيا من هؤلاء الملوك كان يتحلى بهذه الصفات.لا جَرَمَ أن صفة الإلهام هي أهم هذه الصفات وحين نتصفح التاريخ من هذا المنظور نجد بين ملوك فارس ملكًا كان ملهما من الله تعالى، وقد أثنى عليه الأنبياء الآخرون أيضا لبره وتقواه؛ وذلك الملك هو "كورش" كورش" ويسمى بالإنجليزية "Cyrus." يقول إشعياء النبي عنه ما نصه: "هكذا يقول الرب لمسيحه لكُورش
الجزء الرابع ٧٥٣ سورة الكهف الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا وأحقاء ملوك، لأفتح أمامه المصراعين والأبواب لا تُغلَق.أنا أسيرُ قُدّامَك والهضاب أُمهدُ.أَكسر مصراعي النُّحاسِ، ومغاليق الحديد أقصف، وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابي، لكي تعرف أني أنا الربُّ الذي يدعوك باسمك إله إسرائيل.لأجل عبدي يعقوب وإسرائيل أيضًا من مختاري دعوتك باسمك.لقبتُك وأنت لست تعرفني" (إشعياء ٤٥: ١-٥).يظهر من إلهام إشعياء هذا أن كورش ملك ميديا وفارس قد بورك من قبل الله تعالى حيث سماه الله على المسيح - مع الملاحظة أنه كما لقب كورش، الذي هو ذو القرنين، بالمسيح، كذلك سُمِّيَ المسيح الموعود ذا القرنين.ويتضح هذا الإلهام أن الله تعالى قد منح كورش الحكم بفضل خاص منه.وهذا ما يقوله القرآن أيضًا عن ذي القرنين حيث ورد فيه إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا.كما نقرأ في كلام إشعياء: "أنا أسير قدامك، والهضاب أُمهد." وفيه إشارة إلى كثرة أسفاره كما قال القرآن الكريم.ونقرأ في إلهام إشعياء: "أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك، إله إسرائيل." ويماثله قوله تعالى في القرآن: قلنا يا ذا القرنين..أعني أن الله تعالى دعاه بذكر اسمه "ذي القرنين".ثم ورد في إلهام إشعياء: "دعوتُك باسمك، لقبتُك وأنت لست تعرفني." وفيه إشارة إلى أنه ما كان يعبد الله تعالى بأسمائه المذكورة في التوراة بل بأسماء أخرى.والثابت من التاريخ أن كورش كان من أتباع زردشت النبي.والكتب التاريخية كلها تذكر كُورش ذكرًا حسنًا، حتى ورد فيها أن أعداءه أيضا كانوا يحبونه، وأنه كلما هاجم بلدًا فتح أهله لـــه الأبواب والتحقوا به ضد ملكهم، وذلك لما سمعوه من بره وعدله.وهذا ما يؤكده أيضًا إلهام إشعياء النبي حيث ورد فيه: "القائل عن كُورش راعيَّ، فكُلَّ مَسرّتي يُتمم" (إشعياء ٤٤: ٢٨).
الجزء الرابع ٧٥٤ سورة الكهف فمما سجّله المؤرخون القدامى عن حسن أخلاقه ما قاله دنيوفين المؤرخ الشهير وتعريبه ذات مرة تدبرتُ في الفطرة الإنسانية فتوصلت إلى أن من السهل على الإنسان بفطرته أن يحكم على الحيوانات الأخرى، ولكن من الصعب جدا أن يحكم على بني جلدته.فكم من سيد يوجد في بيته قليل أو كثير من الخدم، ولكن ليس بوسعه أن يجعلهم يطيعون طاعة صادقة.فاستنتجت من ذلك أنه لا يوجد في الدنيا رجل واحد قادر على أن يحكم على الإنسان، وإن كان كثير منهم يحكمون على الحيوانات الأخرى.وبينا أنا هائم في تفكيري هذا إذ تذكرتُ كُورش الملك، الذي جعلني أعدل رأبي هذا، فقلت: نعم، ليس صعبا أن يحكم أحد الناس، إذ وجدتُ الناس قد قبلوا حكم كورش عليهم عن طواعية، أن بعضهم كانوا يسكنون على مسيرة شهرين منه، وبعضهم مسيرة أربعة أشهر؛ وبعضهم لم يروه قط، وبعضهم ما كانوا ليتوقعوا حتى رؤيته.ثم يستطرد قائلاً: لقد ولّد كورشُ في قلوب الناس رغبةً شديدة في أن يُرضوه، وأن يدوم حكمه عليهم.لقد حكم شعوبا كثيرة يصعب إحصاؤها حيث كان ملكه ممتدا من الشرق إلى الغرب.مع (Historian's History Of The World: The History of Persia Vol.p.097-09v) ثم لخص هذا الكتاب آراء المؤرخين المعاصرين بما تعريبه: إذا كانت العظمة تعني القتال دفاعًا عن العدل وكونَ الإنسان مستعدا لفداء النفس في هذا السبيل فلا شك أن كورش كان ملكًا عظيمًا.ثم يقول: لم يعمل كورش شيئًا خالصا لنفسه لما تحالفت حكومات ميديا وبابل ومصر ضده وهاجمته، لم يرفع سيفه خلافهم إلا من أجل الدفاع.وفوق كل شيء إنه كان رحمةً متجسدة.لم تقع على تُرسه قطرة دم سفكها حراما، ولم يصبغ يديه بالانتقام المخيف والاعتساف الغاشم.ولم يحرق البلاد كما فعل ملك مقدونيا.ولم يكسر أيدي الملوك المنهزمين وأرجلهم كما فعل الملوك الفاتحون
الجزء الرابع ٧٥٥ سورة الكهف الآخرون، ولم يسحبهم على الحيطان كما فعل ملوك اليهود، ولم يشنقهم كما فعلت الروم؛ و لم يسفك الدماء كالإسكندر إله اليونان المجنون.بالرغم من أنه كان آسيويا لكنه كان من أولئك الرجال الذين يظهرون قبل أوانهم بكثير.كان أكثر الناس حلمًا.سبق قومه خارجًا على تقاليدهم وعاداتهم؛ وبلغ قمة الرقي الإنساني قبل أن يبلغها أحد بأمد بعيد.كانت مملكته القوية تتأسس على مبدأ رفع مستوى الممالك المفتوحة ومنح أهلها الحقوق على قدم المساواة.لم تستسلم مدينة "تائر" لنبوخذ نصر ولا للإسكندر إلا بعد مقاومة شديدة وحصار طويل، ولكنها فتحت أبوابها لكورش عن طيب نفس...وفوق كل شيء إن الشعب الصغير الذي يسمّى اليهود استقبلوه على نهر بابل بحماس لم يستقبلوا به أحدا من الغابرين...لم يخلقه الزمان بل إنه خلق الزمان وكان أباه كان، ولا ريب، ملكًا فريدًا لا مثيل له في التاريخ الإنساني.(Historian's History Of The World: The History of Persia Vol.p.09v-7..) من الله تعالى.والآن أثبت لكم أن كورش كان يدعي تلقي الرؤى الصادقة نجد في المرجع المذكور أعلاه أنه خرج ذات مرة في مهمة عسكرية، فرأى في المنام أن "داريوس" - الذي كان ابن أخيه – لـه جناحان أحدهما منبسط على أوروبا والآخر على آسيا.وفي الصباح أرسل كورش إلى أبي داريوس الذي كان رافقه في السفر، وقال له يبدو أن ابنك يدبر المؤامرة ضدي.والدليل على ذلك أني رأيت البارحة في المنام كذا وكذا.ومن سنة الله أنه تعالى، لشدة معي حبه إياي، يخبرني سلفا عن كل حادث له تأثير عميق في ذاتي (المرجع السابق ص ٥٩٤-٥٩٥).لا شك أن رؤياه كانت صادقة، وإن كان قد أخطأ في تفسيرها حيث فهم منها أن داريوس يكيد له كيدا، بينما كان لها في الحقيقة تفسير آخر ظهر في موعده
الجزء الرابع سورة الكهف الملك.بكل جلاء.ذلك أنه لما مات كورش اعتلى ابنه العرش، فقتله بعض الناس.فأخذ داریوس معه بعض رجال العائلة الملكية وقتل الشخص الذي اغتصب فاتفقوا على اختيار داريوس ملكًا عليهم فقام داريوس بغزو قسم كبير من أوروبا وآسيا، وهكذا وسّع رقعة المملكة الفارسية كثيرًا (المرجع السابق ص ٦٠٠-٦٠٩).كما يتضح من الكتاب المقدس أيضًا أن كورش كان يتلقى الإلهام الإلهي حيث يقول عزرا النبي ما نصه: "وفي السنة الأولى لكُورش ملك فارس عند تمام كلام الرب بفم إرميا نَبَّهَ الربُّ روحَ كورش ملك فارس، فأطلق نداءً في كل مملكته وبالكتابة أيضًا قائلاً: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا.من منكم من كل شعبه ليَكُنْ إلهه معه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبني بيت الرب إله إسرائيل" (عزرا ۱: ۱ -۳).وهذا يعني أن الله تعالى اصطفاه وآتاه الحكم ،والبلاد ثم أمره بإلهام منه ببناء البيت المقدس في أورشليم وإطلاق سراح اليهود من بلاد السبي.مُلكًا والعلامة الثانية التي ذكرها القرآن الكريم لذي القرنين هي أن فتوحاته بدأت أولاً إلى المغرب حيث ما برح يفتح بعد ملك ويمضي قدمًا حتى وصل حيث وجد الشمس تغرب في عين حمئة..أي كان لون مائها أسود، والمراد منها البحر الأسود الذي اسمه بالإنجليزية (Black sea).وهذا ما حصل بالضبط مع كورش.فلما مكنه الله تعالى في الأرض تحالف ضده ملوك البلاد الغربية وحملوا على ملكه وكانت هذه بداية فتوحاته خارج ملكه إلى الجانب الغربي حتى فتح بابل ونينوى والمستعمرات اليونانية الواقعة في شمال آسيا الصغرى حتى بحر مرمرة، وهكذا وصل كورش إلى العين التي كانت في الجانب الغربي من ملكه، والتي كان ماؤها أسود اللون.والثابت تاريخيا أنه فتح هذه المناطق كلها.(Historian's History Of The World: The History of Persia Vol.1.٦٠٩-٦٠٧
الجزء الرابع ٧٥٧ سورة الكهف والموسوعة اليهودية مجلد ٤ ص ٤٠٣ كلمة Cyrus) والعلامة الثالثة التي يبينها القرآن الكريم هي أن ذا القرنين توجه إلى الشرق بعد فتح ممالك الغرب.ويؤكد التاريخ أيضًا أن كورش بعد فتح البلاد الغربية قام بغزو البلاد الشرقية حتى وصلت حدود دولته إلى أفغانستان وبخارى وسمرقند.(Historian's History Of The World: The History of Persia Vol.۲.۰۹۳) والعلامة الرابعة المذكورة في القرآن هي أن ذا القرنين توجه بعد ذلك إلى بعض مملكته المناطق المتوسطة، وبني هناك سدًّا للحيلولة دون حملات يأجوج ومأجوج.والثابت من التاريخ أن كورش حارب يأجوج ومأجوج، ليحمي بعض ولايات من حملاتهم.ولاستيعاب هذا الأمر لا بد أن نعرف أولاً: ما هي القبائل التي أطلق عليها اسم يأجوج ومأجوج؟ إن التوراة تساعدنا في معرفة هذه القبائل حيث ورد فيها وحي الله تعالى إلى حزقيال النبي: "يا ابن آدم اجعَل وجهك على حُوجٍ أَرضِ ماجوج رئيس رُوشٍ ماشك وتُوبال، وتنبأ عليه" (حزقيال ٣٨: ٢).يوضح أن التوراة - وهي أول مصدر عَرَّفَنا عن يأجوج ومأجوج- تطلق على سكان مناطق الشمال اسم يأجوج ومأجوج، وتخبر أن مسكنهم روش هذا (روسيا) وماشك (موسكو) وتوبال (توباسك)؛ وهي كلها مناطق شمالية.كما يتضح من كتاب حزقيال النبي أن ملكًا أن ملكًا من فارس سيقاوم شعوب يأجوج الذين يكون معهم فارس وكورش وفوط حزقيال ٣٨: ٥).وهذا يعني أن يأجوج كانوا مسيطرين على بعض المناطق الفارسية حين الإدلاء بهذا النبأ؟ تعالوا الآن لنرى ماذا تقول الكتب التاريخية في يأجوج ومأجوج؟ يقول يوسيفوس، وهو من المؤرخين القدامى، إن يأجوج ومأجوج اسم لقبائل سيدين.“Scythians ونجد التوراة تصدق ما قاله يوسيفوس حيث ذكرت بين أسماء بني يافث اسم جومر وماجوج ومادي (تكوين ١٠: ٢).
٧٥٨ سورة الكهف الجزء الرابع علما أن جومر اسم يطلق على الكيمريين (Cimmerian) الذين كانوا يسكنون في الجانب الشرقي لآسيا الصغرى، وأما مادي فهو اسم لأهل ميديا.ويقول جيروم إن مسكن مأجوج هو بجبل قوقاز وراء البحر الأخضر (بحر قزوين).وهذه البقعة أيضًا واقعة في الشمال التي يسكن فيها سيدين.(الموسوعة اليهودية مجلد ٦ ص ١٩) لقد علمنا من قبل من الكتاب المقدس أن يأجوج ومأجوج استولوا على فارس.فإذا كانوا هم شعب سيدين فتعالوا ننظر هل يؤكد التاريخ أن سيدين استولوا على فارس؟ والجواب: نعم، حيث نقرأ في التاريخ ما تعريبه وكما قلنا من قبل فإن فارس وقعت في أيدي سيدين، أو بلفظ آخر استولى عليها ملك ميديا – لأن سيدين كانوا حينذاك حكامًا على ميديا - وهو الملك الذي كانت عاصمته أكباتانا (Ecbatana) التي خلصها من يديه كورس الأعظم.(Historian's History Of The World vol.p.0^9) لقد ثبت من هذا أن يأجوج ومأجوج استولوا على فارس، كما ثبت أيضًا أن أن كورش الملك هو الذي حرّر فارس من قبضتهم وكذلك يؤكد التاريخ يأجوج ومأجوج كانوا يؤذون الشعوب الجنوبية بغاراتهم المتكررة، حيث كتب هيرودوتس بأن سيدين كانوا يشنون الغارات على بلاد الجنوب من مناطق الشمال من بين جبل قوقاز وبحر قزوين عن طريق دربند.(المرجع السابق) والشق الثاني للعلامة الرابعة الواردة في القرآن الكريم أن ذا القرنين بنى جدارا يصد حملات يأجوج ومأجوج.تعالوا نبحث الآن هل وجد في هذه البقعة من الأرض جدار؟ والجواب أنه في نفس المكان الذي يخبر عنه هيرودوتس المؤرخ أنه كان طريقًا لحملات سيدين وُجد جدارٌ يُعرَف بين الناس بجدار دربند.وعندي أنه سمي في
الجزء الرابع ٧٥٩ سورة الكهف * الأغلب باسم دربند لأن سيدين كانوا مُنعوا من الغارات بذلك الجدار.ونقرأ في دائرة المعارف البريطانية عن دربند أنه كان فيها جدار بلغ ارتفاعه عند بنائه ۲۹ ذراعًا وعرضه ١٠ أذرع، أذرع، وكانت فيه أبواب حديدية وأبراج للرصد والحراسة.كان يمتد من بحر قزوين إلى جبال قوقاز على طول خمسين ميلا.بناه الإسكندر ، ورمّمه قباد الملك الساساني.(الموسوعة البريطانية مجلد ٨ ص ٦٤ كلمة Derbend) ولقد تبين من هذه الشهادات أنه كان في هذا المقام جدار، ولكني لم أعثر بعد على شهادة تاريخية تدل على أن كورش الملك هو الذي بني هذا الجدار.بيد أني أرى من غير المعقول أن يكون الإسكندر هو باني هذا الجدار.ذلك أن الإسكندر، كما يظهر من التاريخ، هزَم داريوس آخر مرة في صيف سنة ٣٣٠ قبل الميلاد حيث وقع داريوس صريعًا (الموسوعة البريطانية مجلد ١ ٥٦٨-٥٦٩ كلمة Alexander The Great)، ومع ذلك لم يتمكن الإسكندر من الاستيلاء على بلاد فارس كلها، إذ كانت جيوش الولايات الفارسية العديدة جاهزة لمقاومته، لذلك كان عليه أن يتقدم إلى الأمام من دون توقف وفي أثناء تقدمه حصلت الثورة فيما ترك وراءه من الممالك، فاضطر للعودة.وبعد أن أحمد نار الثورة تقدّم ص أنه الإسكندر إلى كابول حيث بدأت جنوده تتمرد عليه.وفي رأي المؤرخين تقدم إلى الهند في شتاء سنة ۳۲۹ قبل الميلاد.ولقد قام بهذا السفر بسرعة جعلت المؤرخين يشكون حتى في سفره هذا.وعلى كل حال إنه لمن الثابت المحقق أن الإسكندر لم يتوقف في طريقه، بل لم يزل يحارب ويتقدم إلى أن توجه إلى الهند، ورجع منها بطريق البحر في السفن، ووصل إلى إيران في سنة ٣٢٤ قبل الميلاد.ومكث هناك مدة قليلة اضطر فيها مرة أخرى لإخماد نار التمرد في جيوشه، ثم توجه عائدًا إلى وطنه، وتُوفِّي وهو في الطريق في ١٣ يونيو عام ٣٢٣ قبل الميلاد.(الموسوعة البريطانية مجلد ١ ص ٥٤٩ كلمة Alexander The Great) * علما أن "دربند" يعني حرفيا باب مغلق (المترجم)
الجزء الرابع ٧٦٠ سورة الكهف تؤكد هذه الأحداث بكل جلاء أنه ما كان بوسع الإسكندر، والحال هذه، أن يجد وقتا كافيًا لبناء مثل هذا الجدار الطويل.ويبدو أن قول بعض المفسرين المسلمين أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني (الكشاف، والقرطبي) جعل الكتاب المسيحيين ينخدعون، فظنوا أن الإسكندر هو الذي بنى هذا الجدار.ولكن مجرد الإثبات بأن الإسكندر لم يبن هذا السد ليس بكاف، بل يحتاج الأمر إلى شهادة تؤكد - ولو على الأغلب لا على سبيل اليقين – أن كورش الملك هو الذي بنى هذا الجدار.وبما أنني لم أجد بعد شهادة من التاريخ تثبت على وجه اليقين أن كورش بنى هذا السد فلذلك لم يبق أمامنا طريق آخر غير القياس.فاستنتجت قياسًا ببعض رأى ) الوقائع التاريخية بأن كورش كان باني الجدار.وفيما يلي أدلتي: ۱ - يظهر من التاريخ أن داريوس – الذي اعتلى العرش بعد ابن كورش والذي عنه كورش في الرؤيا أن حكومته ستكون في المشرق والمغرب – كان قد ذهب إلى أوروبا مرورًا باليونان ليهاجم سيدين ( Historian's History Of The ٦١٠....World vol).ومن غير المعقول تماما أن يذهب داريوس إلى أوروبا عن طريق اليونان للهجوم على سيدين مع أنهم كانوا قاطنين في جواره في الشمال! هناك تفسير واحد - كما يقضي القياس - لذهابه إلى أوروبا لهذا الغرض، وهو.أن طريق دربند كان مسدودًا لأن كورش كان قد أقام هناك الجدار، والهجوم على سيدين بجيش كبير من خلال أبواب الجدار الضيقة لم يكن خاليا من الخطر، الجدار فكان أكثر خطورة، لذلك لم يجد داريوس بدا لكسر قوة سيدين إلا الهجوم عليهم من قبل أوروبا حيث كان الجدار يقف سدا منيعا أمام سيدين من جهة، بينما كان يزحف داريوس عليهم بجحافله من جهة أخرى.- إذا لم يكن الجدار موجودًا في دربند قبل داريوس فمن المستحيل أن نتصور عن مَلِكِ عاقل مثله أن يدور لمسافة ألف ميل تقريبا للهجوم على سيدين تاركًا ملكه مكشوفا للأعداء، إذ كان في هذه الخطوة خطر أن يخرج سيدين من جواره
الجزء الرابع ٧٦١ سورة الكهف مساعدة ويشنّوا الغارة على بلده بحيث ما كان بوسعه أن يحمي ملكه، أو يتلقى أية من أهله عند الضرورة.فذهابه إلى أوروبا للهجوم على سيدين مطمئنا يدل دلالة واضحة على وجود السد في دربند قبل حملته، مما جعل باله مطمئنًا بأنه لا يمكن لسيدين أن يحملوا على ملكه من تلك الجهة لكون السد يقف ملكه.حائلاً منيعا بينهم وبين وبعد، فأرى أنني قد أثبت على وجه اليقين توافر الأمور الأربعة المذكورة في القرآن عن ذي القرنين بحق كورش الملك، اللهم إلا أمر بناء الجدار الذي قلتُ عنه قياسًا بوقائع ذلك الزمان - التي لم يصلنا منها إلا القليل – أن كورش الملك هو باني ذلك الجدار بالقرب من دربند، ولا سيما حين نرى أن التاريخ يشهد أن يأجوج ومأجوج كانوا حاكمين على ملكه قبل اعتلائه العرش، وكانوا يشنون غاراتهم من حين لآخر على فارس وعلى مملكته الواسعة وأن حملات سيدين من جهة دربند كانت انتهت بعد زمن كورش.(Historian's History Of The World vol.۲ p.۰۸۹) والموسوعة البريطانية مجلد ١ ص ٥٤٩ كلمة Alexander The Great) فالخلاصة أنه يبدو أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم ما هو إلا كورش الملك.وبعد إثبات هذا الأمر أقوم بتفسير الآيات القرآنية كلا على حدة.إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) شرح الكلمات: Λο مَكنا: صيغة جمع المتكلم من مكنه من الشيء: جعل لـه عليه سلطانًا وقدرةً (الأقرب).سببًا : ما يُتوصل به إلى غيره (الأقرب).التفسير : يعلن الله تعالى : لقد كنا وهبنا لذي القرنين في الدنيا قوة كبيرة، وهيّأنا له من كل الأسباب.
الجزء الرابع ٧٦٢ سورة الكهف لقد أثبتنا فيما مضى بشواهد من الكتاب المقدس وأقوال كورش نفسه أن الله تعالى كان قد وهب له قوة كبيرة بفضله الخاص.فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّىٰ إِذَا بَدَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا قلے تَغْرُبُ فِي عَيْن حَمِيَّةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَنذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِما أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (3) شرح الكلمات: حمئة: أي ذات الحَمَأَة.(الأقرب).والحمأة: الطين الأسود.۸۷ أنه بلغ التفسير: اعلم أن قوله تعالى حتى إذا بلغ مغرب الشمس لا يعني الحد الغربي النهائي من الأرض، بل المراد منه الحد الغربي لممالكه المفتوحة أي الحد الغربي الشمالي لآسيا الصغرى.ولفظ العين حمئة يعني الماء الممزوج بالطين الأسود حيث يبدو لونه مائلاً إلى السواد بسبب الطين والمراد منه هنا البحر الأسود؛ وقد سمي بذلك لأن لون مائه مائل إلى السواد بسبب عمقه؛ كما أن معنى الحمئة - أي الماء المخلوط بالطين - أيضا ينطبق على هذا البحر حرفيا، إذ يمتاز عن سائر البحار بكون مائه أقل ملوحة.ذلك أن معظم مياهه تأتي من الأنهار والفيضانات المنحدرة إليه من أراضي روسيا وأرمينيا * وبلغاريا؛ مما يجعل ماءه أكثر طينًا وأقل ملوحة بالمقارنة بالبحار الأخرى.(الموسوعة البريطانية مجلد ٢ ص ٢٥٨ كلمة : Black sea) وفي قوله تعالى: وجدها تغرب في عين حمئة لا يراد بالعين عين ماء عادية، بل بحر واسع جدا بحيث لو قام أحد على شاطئه يبدو له كأن الشمس تغرب * هذا سهو، والصحيح "رومانيا" كما هو مذكور في المرجع المشار إليه في آخر الفقرة (المترجم)
الجزء الرابع ٧٦٣ سورة الكهف فيه.وقد سمى البحر عينًا للدلالة على بُعد عُمقه، وعلى أن الماء يتفجر من تحت أديم الأرض ويختلط بمائه.والمراد من القوم في قوله تعالى وجد عندها قومًا الدولة الحاكمة على الساحل الشرقي لآسيا الصغرى والتي تحالفت مع الحكومات الأخرى للهجوم على كورش دونما سبب بعد فتح بابل.ثم يبين الله تعالى: قلنا لذي القرنين عن هذه الشعوب: إما أن تعذبهم على شرورهم، وإما أن تحسن إليهم لاستمالتهم.وہ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ, ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ، فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نكرات التفسير: هذا جواب كورش الملك على هذا الإلهام حيث قال: إنما أريد العفو عنهم هذه المرة، وسأعذبهم إن عادوا إلى شرورهم.وفي قوله ثم يُرَدُّ إلى ربه دليل على أن كورش كان يعتنق دينا يحث على الإيمان بالبعث بعد الموت.ويشهد التاريخ أنه كان من أنه كان من أتباع الديانة الزرادشتية المخلصين، وهي الديانة التي تمتاز - بعد الإسلام - بالتأكيد على البعث بعد الموت من بين جميع الديانات (الموسوعة اليهودية مجلد ٤ ص ٤٠٤ صلے وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا فَلَهُ، جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أمرنَا يُسرا ) : ۸۹ التفسير بهذه الآية يبدأ كلام ذي القرنين، ولا شك أنه دليل على حسن أخلاقه.وقد سبق أن ذكرنا أن كورش كان رحيما، وكان يعامل الشعوب التي فتح بلدانها بمنتهى المحبة والرحمة.
الجزء الرابع ٧٦٤ سورة الكهف ولو قيل هنا: لماذا خيره الله تعالى بين التعذيب والإحسان وقال: إما أن تعذبهم وإما أن تتخذ فيهم حُسنًا فالجواب أن هذا أسلوب رباني لطيف لترغيبه في الرفق والرحمة.لقد قدّم الله تعالى ذكر العذاب لبيان أنه يحق لك أن تعذبهم لأنهم ارتكبوا الشر، ثم أعقبه بقوله وإما أن تتخذ فيهم حُسنًا أي هناك خيار آخر أمامك وهو أن تترفق بهم؛ وهكذا بأسلوب لطيف أتاح لذي القرنين الفرصة لاكتساب حسنة خالصة.لأنه لو رحمهم بأمر من الله تعالى لم تكن هناك فرصة لإظهار فطرته الحسنة ولقيامه بالخير بطبعه وعن طواعية، ولكن هذا الأسلوب أدى هذا الغرض، فاستحق ذو القرنين ثوابًا أكثر.ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (3) حَتَّى إِذَا بَلَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ تَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتَّرا (3) ۹۱ التفسير : تتحدث هذه الآية عن سفر ذي القرنين إلى الجانب الشرقي أي أفغانستان.وقد يكون المراد من قوله تعالى لم نجعل لهم من دونها سترا أن ذلك القوم لم يكونوا متحضرين، وكانت البيوت والمباني عندهم قليلة، فكانوا يسكنون في الأكواخ أو الخيام.وهكذا كانت حالة القبائل الأفغانية في ذلك الزمان، فلم يكونوا متحضرين بما يكفي.ولكني أرى أن التدبر في ألفاظ القرآن الكريم يؤدي بنا إلى الاعتقاد أن المنطقة المشار إليها هي بلوجستان، لأن الآية تقول: وجدها تطلع على قوم لم نجعَلْ لهم من دونها سترا..أي أن أشعة الشمس كانت تقع عليهم رأسًا ولم يكن بينها وبينهم حاجز ؛ أي أن الأراضي كانت سهولاً جرداء ليس بها أشجار عالية ولا جبال شامخة.علمًا أن عامة المؤرخين كانوا يونانيين فذكروا على العموم
سورة الكهف الجزء الرابع تلك الانتصارات التي حققها ذو القرنين في منطقتهم، أما انتصاراته التي حصلت في بلاد الشرق فلم يتناولوها بالتفصيل، وإنما قالوا بإيجاز شديد إن كورش زحف على أفغانستان تجاه الشرق وفتح تلك البلاد.وبما أن منطقة سيستان كانت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية لذلك أرى أن هذه الآية تشير إلى ولاية بلوجستان ذات الصحراء الرملية والتلال.أما إذا اكتفينا ببيان التاريخ فيبدو أنها تشير إلى القوم القاطنين في أرض ذات صحراء وسهول ممتدة لمئات الأميال في الجانب الغربي لهرات وسيستان وفي الجهة الشمالية من دُزداب إلى مشهد من البلاد الفارسية.كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبَّرًا ۹۲ التفسير: أي أن الواقع كما ذكرنا، ففتحه لهذه البلاد والممالك أمر مؤكد لا ريب فيه.أما قوله تعالى وقد أَحَطنا بما لديه حُبْرًا فيعني أننا قمنا بحمايته وحراسته في أسفاره، ذلك أن الإحاطة بكل ما لديه خبرًا لا يعني سوى مراقبة أحواله جميع ورعايته.ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ۹۳ التفسير : هذه الآية تشير إلى الرحلة الثالثة لكورش التي قام بها ناحية الشمال من إيران إلى الولاية الواقعة بين بحر قزوين وجبال قوقاز.(الموسوعة البريطانية مجلد ۵ ص ٤١٠ كلمة Cyrus)
الجزء الرابع سورة الكهف حَتَّىٰ إِذَا بَلَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَقَهُونَ قَوْلاً (3) ٩٤ شرح الكلمات: السَّدين: صيغة المثنى للسد ومعناه: الجبل؛ الحاجز بين الشيئين (الأقرب).التفسير: لقد سبق أن ذكرنا أن لفظ (كاد) يفيد الإيجاب إذا كان مسبوقاً بحرف النفي، ويفيد النفي إذا كان مسبوقاً بحرف الإثبات؛ فتعني الآية أنهم كانوا يفقهون كلام ذي القرنين وقومه ولكن بصعوبة.ويُستنبط من ذلك أن القوم كانوا جيرانًا للفرس يختلطون بهم بكثرة.كانت لغتهم غير لغة كورش ورجاله، ولكنهم كانوا يفقهون كلام أهالي ميديا وفارس لحد ما نتيجة التجاور والتزاور.وإذا نظرنا إلى الموقع الجغرافي لمنطقة دربند حيث بني السد أو الجدار وجدنا الوصف القرآني ينطبق عليها تماماً ، لأن أرضها متصلة بأرض ميديا وفارس بل صارت فيما بعد جزءاً من ،فارس، وإن كانت روسيا أدخلتها الآن في مملكتها.أما المراد من بين السدين فهو المقام الواقع بين بحر قزوين وجبال قوقاز.وهذان أي بحر قزوين من جانب وجبال قوقاز من جانب آخر كسدين، وكان المعبر الواقع بينهما يهدد أمن هؤلاء القوم.- كانا قَالُوا يَنذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) شرح الكلمات: خرجًا: الخَرْجُ الْخَرَاج (الأقرب).۹۵
الجزء الرابع ٧٦٧ سورة الكهف التفسير: وبما أن هؤلاء كانوا ساكنين في جوار يأجوج ومأجوج وكانوا هدفًا لغاراتهم بكثرة، فاستدعوا كورش أن يجعل لهم على نفقتهم سدا هجمات يأجوج ومأجوج.يحميهم من قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا شرح الكلمات: 97 رَدْمًا: الردم ما يسقُط من الجدار المتهدم (الأقرب).التفسير : قال ذو القرنين: لقد أعطاني الله تعالى علم هذه الأمور، وأستطيع القيام بها على أحسن وجه.سأضع الخطة، وأما أنتم فأعينوني بقوة..أي أنكم أهل المنطقة وبإمكانكم مساعدتي بالعمال والمهنيين، فأتوني بهم أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج جدارًا.وَاتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ أن حُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ وَاتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) صلے شرح الكلمات: ۹۷ زُبَر : الزُّبَر جمعُ الزُّبْرَة هي القطعة الضخمة (الأقرب).فالمراد من زبر الحديد قطعه.ساوى: ساوَى الشيئين وساوى بينهما أي سوّى (الأقرب).الصَّدَفَين: تثنية الصَّدَف، والصدفُ كلّ شيء مرتفع عظيم كالهدف والحائط والجبل.و"ساوى بين "الصدفين" أي بين رأسي الجبل المتقابلين (الأقرب).
الجزء الرابع ٧٦٨ سورة الكهف أُفْرِغْ مِن أفرغ الماء: صبَّه.وأفرغ الدماء: أراقها.وأفرغ الذهب والفضة: صبها في قالب (الأقرب).قطرا: القطر النحاس الذائب (الأقرب).فالمراد من قوله: أتوني أُفرغ عليه قطرا: آنوني بالنحاس الذائب أصبه على الجدار.أن التفسير: إلى جانب مطلبه بتوفير العمال والمهنيين طلب ذو القرنين منهم يأتوه بالحديد والنحاس.ذلك أن إقامة السد كان ضروريا لحمايتهم من هجمات العدو، كما كان لا بد لهم من الأبواب في الجدار كيلا تتضرر تجارتهم وليبقى سبيل القوافل التجارية مفتوحًا.وكان لا بد من الحديد لكي تكون الأبواب صلبة قوية، وكان النحاس ضروريا كيلا تصاب الأبواب بالصدأ.فَمَا اسْطَعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَعُواْ لَهُ نَقبا ۹۸ التفسير: أي بعد اكتمال بناء السد انتهت غارات يأجوج ومأجوج.كان السد عاليًا فصعب عليهم عبوره، كما كان ضخمًا فما استطاعوا خرقه.ولكن ليس المراد أن هذا السد أو الجدار كان من نوع يستحيل الصعود عليه أو نقبه، بل المراد أن الحرس المقيمين في أبراجه وحصونه كانوا يقومون بحراسته على الدوام مما جعل من المستحيل على يأجوج ومأجوج أن يظهروه أو ينقبوه، لأن أحدًا لا يقدر على القتال وهو يصعد على الجدار، ولكن الحراس القاعدين في المراصد فوق الجدار يستطيعون منعه بدون صعوبة.
الجزء الرابع ٧٦٩ سورة الكهف صلے قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ۹۹ التفسير: إن قول كورش هذا يدل على عظمة إيمانه بالله تعالى، حيث يؤكد أن المؤمن لا يصاب بالكبر والزهو مهما أتى بأعمال عظيمة، بل ينسب إنجازاته كلها إلى الله تعالى دائما.أما قول كورش فإذا جاء وعد ربي جعَله دكاء فيدل على أن الله تعالى أخبره بالإلهام أن هذه الشعوب ستتقدم إلى الجنوب والشرق في يوم من الأيام مرة أخرى وعندها سيصبح هذا السد بلا جدوى؛ هذا هو المراد من قوله تعالى جعله دكاء.وفي سورة الأنبياء آيات تنبئ صراحة أن هذه الشعوب ستنتشر في العالم كله عن طريق البحر.وقد يعني تهدم الجدار انهيار حكم المسلمين.وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَبِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضِ وَنُخَ فِي الصُّورِ جَمَعْنَهُمْ جَمْعًا جمعان التفسير: إلى هنا انتهى كلام ذي القرنين، حيث يخبر الله تعالى الآن أنه عندما يحين الميعاد الإلهي الذي أشار إليه ذو القرنين هنا سيبعث الله هؤلاء الأقوام ويمكنهم في الأرض مرة أخرى، وستتحارب الأمم، وتختلط شعوب الشمال والغرب بشعوب الجنوب والشرق، وهكذا سيجمع الله تعالى العالم كله..بمعنى أن السفر في ذلك الزمان سيصبح سهلاً بحيث ستكون الدنيا كلها كبلد واحد.والحق أن هذه العلامات تنطبق تمامًا على عصرنا هذا.
الجزء الرابع ۷۷۰ أن سورة الكهف لقد أخبر القرآن الكريم في مقام آخر عن انتشار يأجوج ومأجوج بالكلمات التالية: حتى إذا فُتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقتربَ الوعد الحقُّ فإذا هي شاخصة أبصارُ الذين كفروا يا وَيَلَنا قد كُنا في غفلة من هذا بل كُنا ظالمين (الأنبياء: ۹۷-۹۸).أي عندما تزيل العائق من أمام يأجوج ومأجوج ليقطعوا المسافات الطويلة على متون أمواج البحر، وينتشروا في الدنيا كلها مسرعين، عندها سيتحقق وعدنا بهلاكهم؛ وسيأخذهم العذاب وهم يقولون في حيرة واستغراب: استمررنا في ظلم العالم ولم نتوقع العذاب سيدركنا، فدمارنا اليوم مؤكد.كما تنبئ هذه الآية أن يأجوج ومأجوج لن يخرجوا من خلال خرق في جدار من الجدران، بل سيأتون عبر البحار.وتنبئ أيضًا أنهم سيستولون على البحار وستمخر سفنهم في بحار العالم كلها، لأن الآية تقول وهم من كل حدب ينسلون..أي أنهم سيأتون راكبين أمواج البحار.كذلك تخبرنا هذه الآية أن أسفارهم ستُطوى بسرعة كبيرة، وفي هذا إشارة إلى اختراع المراكب البحرية التي تجري بطاقة البخار.ترون كيف تحقق هذا النبأ القرآني حرفيًّا ! لقد انتشرت هذه الشعوب في الشرق عبر البحار، والسفر في البحار في زمنهم يتم بسرعة لا نظير لها في الأزمنة الغابرة.وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَبِذٍ لِلكَ رِينَ عَرْضًا ) ۱۰۱ التفسير: يخبر هنا الله تعالى: ستكون تلك الأيام كمثل جهنم، حيث يكثر التشاحن والعداء بين الناس، وتتناحر الدول والبلاد لتستولي بعضها على بعض.والمعنى الثاني هو أن هذه الشعوب ستصبح لادينية، غافلة عن الله تعالى تماما، وستأتي أعمالاً تدخل صاحبها في نار جهنم.
الجزء الرابع ۷۷۱ سورة الكهف الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُهُمْ فِي غِطَاءِ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ۱۰۲ القوم الذين التفسير : يخبر الله تعالى هنا أن العبادة ستتلاشى من بينهم كلية.إن هؤلاء تجشموا المشاق الجسام من أجل الله تعالى في بداية رقيهم، سينسون الله تعالى كلية في الزمن الأخير، وسينسبون كل إنجاز من إنجازاتهم إلى كفاءتهم الذاتية.يعني أن الرين والصدأ الروحاني وقوله تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا سيغشى قلوبهم بحيث تخلو تماما من أية قوة أو رغبة لسماع كلام الله تعالى.وهذه هي بالضبط حال الشعوب الغربية اليوم.فبدلاً من أن يستمعوا لوحي الله الجديد الذي أنزله بعد كتابهم جعلوا كتابهم، الذي يؤمنون به في الظاهر، هدفًا لأقذع الطعن وأشنعه.يؤلفون في كل يوم جديد الكتب ليثبتوا فيها أن المسيح المذكور في العهد الجديد لم يكن إلا شخصية وهمية، ومرة أخرى أن الكتاب المقدس لم يكن من وحي الله تعالى، بل كان من افتراء البشر.نظرة إجمالية على البيان السابق: لقد تحدثت الآيات السابقة عن ازدهار الشعوب المسيحية وانتشارها في الدنيا في الزمن الأخير، وإهمالها الدين، وتغافلها عن ذكر الله تعالى.وكذلك أخبر الله تعالى أنه سيهيئ من الأسباب الغيبية ما يبدل به رقيها بالانتكاس والانحطاط، فيأخذها القنوط واليأس، فتتوجه أخيراً إلى الدين كما يشير إليه الكشف الذي رآه موسى ال، فتدرك أنها كانت على خطأ، فترجع إلى مجمع البحرين وتميل إلى الإسلام.وأرى من المناسب أن أذكر في هذا المقام الأنباء المذكورة في التوراة عن مصير يأجوج ومأجوج ورد في رؤيا يوحنا اللاهوتي: "ثم متى تمت الألفُ السَّنة يُحرَّر الشيطان من سجنه، ويخرج ليُضِلَّ الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج، ليجمعهم للحرب" (رؤيا يوحنا اللاهوتي ٢٠: ٧ و ٨).
الجزء الرابع ۷۷۲ سورة الكهف علما أن المراد من الألف "السنة" هنا ألف سنة من العام الهجري، أي أن الشيطان سيتحرر من سجنه بعد ألف سنة من ظهور سيدنا محمد.وهكذا وقع، فإن الشعوب الغربية ثبتت أقدامها في الهند سنة ١٦١١ الميلادية، وكانت هذه بداية عهد ازدهار يأجوج.(الموسوعة البريطانية مجلد ١١ كلمة India) وإذا قرأنا معًا ما ورد في رؤيا يوحنا اللاهوتي هذه وما ورد في رؤيا حزقيال الواردة في حزقيال ۳۸ و ۳۹ تبين لنا أن رقيهم كان سيبدأ في القرن السادس عشر؛ وأما غلبتهم على العالم كله واستيلاؤهم على جميع البلاد فيكون في الزمن الأخير.ولقد سبق أن أشرتُ إلى أنه كان من المقدر أن يظهر في آخر الزمان مثيل لذي القرنين في ظروف مشابهة لظروفه، لأن القرآن الكريم قد ذكر هذه الواقعة كنبأ أيضًا سيتحقق في المستقبل.ومن أراد التفصيل فعليه مراجعة كتاب مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية المسمى بـ "البراهين الأحمدية" الجزء الخامس ص ۹۰ – ۹۲ الطبعة الأولى.غيبي أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَا ِرِينَ نُزُلاً شرح الكلمات: وس نُزُلاً : النُزُلُ ما هُيِّئ للضيف (الأقرب).۱۰۳ دُونِيَ التفسير : تتحدث هذه الآيات عن أولئك الذين يزعمون أن المسيح مخلص وابنُ الله، والذين جاء ذكرهم في مستهل هذه السورة.إذا فقد تبين من هذه الآية جليا أن المذكورين في الآيات السابقة هم المسيحيون ليس إلا.قُلْ هَلْ تُنَبِّئُكُم بِالأَحْسَرِينَ أَعْملاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعَهُمْ فِي ١٠٤
الجزء الرابع ۷۷۳ سورة الكهف و الحيوة الدُّنْيَا وَهُمْ تَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ صُنعا ) شرح الكلمات 1.0 صنعًا: الصُّنْعُ : العمل؛ الإحسان إيجاد شيء مسبوق بالعَدَم (الأقرب).التفسير : أي أنهم جعلوا غاية حياتهم القصوى اختراع الأشياء التي تنفع الإنسان في دنياه فقط، ولا يلتفتون إلى الدين وإنما يعدّونه لغوا لا جدوى منه.أُوْلَبِكَ الَّذِينَ كَرُواْ بِنَايَتِ رَبِّهِمْ وَلِقَابِهِ ، حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ در فَلَا نُقِيمُ هُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنا 1.7 التفسير : أي لن نبقي لمخترعاتهم أثرًا، ولن نقيم لهم يوم القيامة بسببها وزنًا، لأن كافة أعمالهم كانت من أجل الدنيا لا للآخرة.ذَالِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَرُواْ وَاتَّخَذُوا وَايَتِي وَرُسُلِي هرُوا ۱۰۷ التفسير: أي أن عدم إقامة الوزن لأعمالهم يوم القيامة ليس كعقاب، بل هو الجزاء الوفاق لأعمالهم، لأنهم ما داموا لم يفعلوا الله أي شيء فكيف يمكن أن يرجوا من الله تعالى أي ثواب أُخروي على ما فعلوا.ولفظ "جهنم" عطف بيان لـ "جزاؤهم"، والمعنى أن مرادنا من الجزاء جهنم، وذلك لكفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هُزُوًا..أي أن هذه الشعوب لن تَكنَّ أي احترام تجاه كلام الله تعالى ورسله الكرام.سيؤلهون إنسانًا ليتخذوا جميع الأنبياء سخريةً وهُزُوًا.وهذه هي بالضبط حال المسيحيين كما تشاهدون اتخذوا المسيح العلي ابنا الله تعالى، ويسيئون إلى سائر الأنبياء إساءة بالغة، ويعدونهم لغواً لا جدوى منهم،
الجزء الرابع ٧٧٤ سورة الكهف كما يعتبرون الشريعة لعنة.إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّتُ ال رَدَوسِ نُزُلاً : خَلِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً شرح الكلمات : الفردوس: ۱.۹ الجنَّةُ التي تُنبت ضُروبا من النبات؛ البستان يجمع كل ما يكون في البساتين (الأقرب).حوَلاً : الحوَلُ: الزوالُ والانتقال (الأقرب).التفسير : يخبر الله تعالى هنا عندما يحل العذاب على هؤلاء القوم سيبتدئ زمن رقي المؤمنين لينالوا الجزاء على صبرهم، وسيجدون في تقديم التضحيات الله ودينه متعة عظيمة حتى إنهم لن يريدوا الخروج من هذا الوضع رغم ما يبذلون من تضحيات بالأموال والأرواح ؛ وإنما سيشعرون باللذة كلها في هذا السفر راكبين تلك "السفينة المخروقة" ولن يريدوا مغادرتها.قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَتِ رَبِّي لَنَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَندَ كَلِمَتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ، مَدَدًا شرح الكلمات: مدادًا : المداد : النفس (الأقرب) أي الحبر.11.التفسير: أي أن هؤلاء يُطلقون دعاوي عريضة بأنهم اخترعوا كذا وكذا من المصنوعات، واكتشفوا كيت وكيت من العلوم، وأنهم على وشك أن يدركوا الكون كله، لكن قل لهم يا محمد ، وبكلمات أخرى قولوا يا أتباع محمد الموجودين في ذلك الزمان: إن محاولاتكم لمعرفة سر الكون ستبقى دائمًا كيومها سر
الجزء الرابع VVO سورة الكهف الأول، وستجدون أنفسكم رغم كل المحاولات والجهود واقفين على الدوام حيث بدأتم رحلتكم هذه، ولن تكتشفوا من أسرار الكون وخواص الأشياء التي أودعها الله تعالى خَلْقه ما يساوى قطرةً إزاء بحر.كما تتضمن هذه الآية الإشارة إلى كون ذلك العصر عصر نشر الكتب، وأن هذه الشعوب ستهتم كثيرًا بإخراج مؤلفات علمية.قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ صل فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا التفسير : بعد ذكر هذه الأنباء والعلوم الغيبية يأمر الله تعالى رسوله أن قل لهم يا محمد: لقد بينت لكم هذا القدر من العلوم السماوية، ومع ذلك لا أقول لكم إني ابن الله أو أني متصف بالصفات الإلهية؛ إنما أنا بشر مثلكم، ولا يميزني عنكم شيء سوى كوني موردًا لوحي الله تعالى فإن كنتم راغبين في اقتناء هذه النعم فكونوا موحدين مثلي، واعملوا بوصايا الله تعالى، وامتنعوا عن الإشراك به؛ ثم انظروا كيف يتفضل الله عليكم، ويفتح لكم خزائن الغيب.وقال رسول الله : "من قرأ عشر آيات من آخر الكهف عُصم من فتنة الدجال" (مسند أحمد: مسند القبائل رقم الحديث ٢٦٢٤٤).وقوله هذا أيضًا برهان قوي على أن المراد من الدجال ويأجوج ومأجوج ليس إلا الفتنة المسيحية، لأن هذه الآيات إنما تتحدث عن هؤلاء القوم كما لا يخفى ذلك على من يقرأها بتدبر وإمعان.