Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 3)

Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 3)

جلد ۳

Author: Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad

Language: ARABIC

ARABIC
Holy Quran

Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)


Book Content

Page 1

مقدمة الحمد لله الذي وفقنا بعونه لإخراج المجلد الثالث من هذا التفسير القيم بلغة حبيبه محمد المصطفى.ولقد كان شرف نقله إلى العربية من نصيب الأستاذ عبد المؤمن طاهر ، حيث راجعه معه الأستاذ موسى أسعد عودة.تقبل الله سعيهما، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهما على إخراج الأجزاء المتبقية من هذا التفسير.ثمة أمور ينبغي توضيحها عن هذه الترجمة: أولا: إن تفسير السور من "آل عمران" إلى "التوبة" لم يتم تدوينه في هذا الكتاب لأنه غير موجود في النص الأصلي باللغة الأردية، لذلك يجد القارئ أن هذا المجلد يبدأ من تفسير سورة يونس، بدلاً من تفسير سورة آل عمران.ثانيا: لم تُذكر في النص معظم الإقتباسات من الحديث النبوي الشريف والسيرة وغيرهما من المراجــع بنصوصها، وإنما ذكرها المفسير بألفاظه وأسلوبه..غير أننا رأينا عند الترجمة أن ننقلها بنصها، وهـذا مــا فعلناه غالبًا، سوى بعض الأماكن التي تعذر علينا فيها الأمر، لأن مضمونها مقتبس من أكثر من مصدر ،واحد، فترجمنا المضمون مع الإشارة إلى مراجعه ومصادره.هناك مواضع في الأصل أشير فيها إلى بعض الأحداث إشارةً لا تعتبر كافيةً لبعض القراء، فقام المتـــرجـم بتوضيحها في الهامش صرفا لأي التباس.ثالثا: نؤكد بهذا على أن ترقيم الآيات في التفسير يبدأ بالبسملة من كل سورة وهذا بخلاف ما هو متعارف عليه عند غيرنا.وأخيرًا فإننا نتقدم بخالص الشكر لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وخصوصا الأستاذ سيد مـــير محمود أحمد ناصر، عميد الجامعة الإسلامية الاحمدية (معهد تأهيل الدعاة بربوة، باكستان، لتفضله بالإشراف على مجموعات الطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهذا التفسير، وكذلك للإخوة والأخوات في الكبابير ولا سيما خدام الاحمدية، الذين قاموا تحت إشراف الأخ محمد شريف عودة، بكتابة وتصحيح هذا المجلد على الحاسب الآلي في فترة وجيزة جدا.ونخص بالشكر والدعاء الشابَ عوده ، والاخ الكريم عبد الرحمن الصومالي.فجزاهم الله جميعا خيرا في الدارين.الطيب أمين موسى أسعد

Page 2

كما أننا ننتهز هذه الفرصة لنلتمس من القراء الكرام دعاء خاصا لحضرة الأستاذ محمد حلمي الشافعي رحمه الله تعالى..الذي كان له الفضل الأكبر في إخراج الجزأين الأول والثاني، وكانت أمنيتــــه الوحيدة أن يسهم في ترجمة هذا التفسير الجليل كله، ويقر عينًا برؤية أجزائه العشرة كلها في قالب عربي، قبل أن يغادر هذه الدنيا..ولكن لم يسعفه القدر، فلقي ربه قبل أن تتحقق أمنيته الغالية.إنا لله وإنا إليـــه راجعون! كما ندعو الله العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببًا لشفاء غليل الكثيرين من عباده علميا وعمليـا وروحيًّا، وذريعة لفهم كلامه – سبحانه وتعالى.آمين! جمادى الثانية ١٤١٨ هـ أكتوبر ۱۹۹۷ م الناشر

Page 3

الجزء الثالث مقدمة المفسر مقدمة المفسر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.نحمده ونصلي على رسوله الكريم.بفضل الله ورحمته - هو الناصر كلمة عن التفسير الكبير فيما يلي ملاحظاتي على تفسير سور القرآن الكريم من سورة يونس إلى سورة إبراهيم وهي في طريقها إلى النشر.لقد بذلتُ فيها قصارى جهدي لأقدم مفهوما سليمًا صحيحًا للقرآن الكريم، وإنني على يقين أن معظم ما جاء في هذا التفسير من مفاهيم ليست من بنات أفكاري، وإنما هي من عطاء الله الرحمن، ومع ذلك فبما أن عقلي أيضا قد ساهم في هذه العملية فمن الممكن أن يوجد في هذا التفسير ما لا يفي بالمراد القرآني كما ينبغي.لذا فإنني أبتهل إلى الله الله أن ينفع عباده بما يشتمل عليه كلامه من الخير والبركة وأن يحفظهم من ضرر الأخطاء البشرية..ولقد رأيت لدى تحرير هذه الملاحظات أن أرسّخ في الأذهان ترتيب الآيات والسور بصورة جيدة، وأرى أنه سوف تنكشف الآن على القارئ سلسلة من المعاني القرآنية في نظم كامل ومحكم.إن موضوع الترتيب القرآني هو من المواضيع التي كشفها الله على كشفا خاصا.ولا يحيط أحد بشيء من علم الله إلا بما شاء، وسع كرسيه السماوات والأرض.يقول الرسول الكريم لا الله وإن للقرآن سبعة بطون، وإن كل بطن يتضمن عدة معان.فبهذا التصريح النبوي الشريف يصبح من المستحيل أن يكتب أحد تفسيرا للقرآن

Page 4

الجزء الثالث مقدمة المفسر الكريم يحتوي على كل ما فيه من معان ومفاهيم.ومن ادعى ذلك فإنه لا يعدو أن يكون جاهلاً أو مجنونا.ومَنْ عزا إلى ملاحظاتي شيئا من هذا القبيل فإنني بريء منه كل البراء.وإنه ليكفي ملاحظاتي هذه شرفًا أن كشف الله علي فيها برحمته وفضله- أمورًا كثيرةً وفق متطلبات هذا العصر.ذلك أنَّ لكل عصر حاجات تختلف عن حاجات العصور الأخرى والقرآن زاخر بعلوم تخص حاجات عصر دون آخر يكشفها الله تعالى في موعدها وأوانها.ولقد أسدى المفسرون القدامى خدمة جليلة للقرآن لا يمكن إنكارها أبدا وفق مقتضيات عصرهم.ولو أنهم تجنبوا خطأين لاتسمت تفاسيرهم بمحاسن خالدة.وأول هذين الخطأين أنهم أفسحوا في تفاسيرهم المجال لما أشاعه المنافقون من أباطيل بعد أن اندسوا في صفوف المسلمين، فسبب بعض محتوياتها إساءة للإسلام وللنبي ﷺ وثانيهما أنهم اعتمدوا لدرجة كبيرة على كتب اليهود والأدهى من ذلك أنهم لم يعتمدوا على أمور من التوراة مصدقة من قبل ،القرآن وإنما على روايات يهودية، فأتاحوا بذلك للمعارضين مجالا للطعن في الإسلام ولو أنهم أخذوا في الاعتبار قول النبي ﷺ عن اليهود: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم"، لما واجهوا هذه المشكلة.أما ما عدا هذين الخطأين، فالله بنفسه جزاؤهم على ما بذلوا من جهود جبارة وخدمات عظيمة للقرآن الكريم.كما أن هناك خطأين آخرين ارتكبهما هؤلاء المفسرون غير أنني أرى أنهم وقعوا فيهما بتأثير تيار زمانهم وأول هذين الخطأين اعتبارهم آيات من القرآن منسوخة.والخطأ الثاني : أنهم لم يولوا موضوع الترتيب فيما ورد في القرآن من مطالب ومفاهيم العناية الكافية.ذلك أرى أنهم قد بذلوا جهودًا مفيدة بهذا الصدد على عكس ومع تیار زمانهم، وسعى الباحثون منهم أن يبطلوا زعم البعض أن كذا وكذا من آيات القرآن الكريم منسوخة، بيد أن سعيهم هذا لم يكن نابعا عن إيمان منهم بأن لا نسخ في القرآن بتاتا.وكان للبعض الآخر مساع لا بأس بها فيما يتعلق بترتيب المواضيع

Page 5

الجزء الثالث القرآنية.مقدمة المفسر وعندي أن العلامة ابن كثير، والعلامة أبا حيان صاحب البحر المحيط، والعلامة الزمخشري صاحب الكشاف الجديرون بالذكر الخاص من بين هؤلاء المفسرين الباحثين، وإن كان الأخير موصوما بالاعتزال.أما الطبري فقد قام بعمل بارز بصدد جمع الروايات المتعلقة بالتفسير، بينما أحسن العلامة أبو البقاء صنعا في مجال بيان إعراب القرآن بكتابه "إملاء" ما من به الرحمن".ولا ريب أن تفسير "روح المعاني" يعلو على كل الجهود التفسيرية التي بُذلت في القرن الماضي بصفته كتابا جامعا للعلوم النقلية.إن صاحبه يذكر الروايات بكلماته هو عمومًا كما جربنا، ولكن تفسيره يتضمن ملخصا لكثير من التفاسير دون شك.والآن نأتي على ذكر المراجع التي اعتمدت عليها في هذا التفسير.فأولاً وقبل كل شيء أقدم شكري العميق لذلك المرجع الأزلي الأبدي للعلوم، الذي هو منبع كل علم، ولا علم دونه سبحانه وتعالى.إن ذلك العليم النور الذي يهب كل علم، وهو الذي وهب لي -بفضله ورحم حمته - فهما للقرآن الكريم، فكان ولا يزال يكشف لي الكثير من المعارف القرآنية وما سُجِّل في هذه الملاحظات ليس إلا جزءا من تلك المطالب.فسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.هو أما المرجع الثاني فهو سيدنا محمد المصطفى ، الذي عليه نزل القرآن، فطبقه على نفسه بكل حركاته وسكناته وأحاسيسه وعواطفه وأفكاره وإراداته، حتى لكأن القرآن قد تجسد بشخصه الكريم.لم يكن بريق عينيه إلا من نور القرآن، ولم تكن كلماته سوى أزهار من بستان القرآن.لقد سألناه فأعطانا، وإنّ هاماتنا لتنحني أمام مننه وأياديه.اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلّم إنك حميد مجيد.وأما مرجع العلوم القرآنية في هذا العصر فهو سيدنا مرزا غلام أحمد الإمام المهدي والمسيح المسعود عليه الصلاة والسلام، الذي قد طهّر دوحة القرآن الباسقة من كل ما

Page 6

الجزء الثالث الله د مقدمة المفسر التصق بها من النباتات الطفيليّة من روايات باطلة، وروّاها - شجرة الجنة هذه- بحول وقوته، ومكنها من أن تستعيد نموّها ونضارتها من جديد.فالحمد لله الذي قدر لنا أن نرى نضارتها وبهاءها مرة أخرى، وأن نأكل من ثمارها، ونجلس في ظلالها.فمبارك الذي عُهد إليه بستان القرآن..ومبارك الذي أعاد إليه الحياة من جديد، وجلّى محاسنه.ومبارك الذي أتى من الله وعاد إلى الله.اسمه خالد وسيظل خالدا للأبد.وهبني الله الله الكثير من معارف القرآن والحق أنه لا فضل لي في ذلك، وإنما لقد هي محض أفضال الله علي.وما كنت لأنالها لولا جهود أستاذي المكرم سيدنا المولوي نور الدين له الخليفة الأول لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله الذي كان له في ذلك دور كبير.فعندما كنت صغيرًا كان المرض يلازمني دائما.فكان حضرته يجلسني إلى جانبه قائلا لي في معظم الأحيان: حبيبي، القراءة سوف ترهقك، أنا أقرأ وأنت تسمع.وكان في أحيان كثيرة يقرأ لي القرآن ويفسره.فهو الذي قد جعلني مولعًا بمعارف القرآن.أما الذي جعلني مشغوفًا بحب هذا الكتاب الخالد فهو سيدنا الإمام المهدي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية العلي.لقد كان أستاذى عاشقا للقرآن، وكان يتمنى لو أن جميع الخلق يقرءونه.فعلمني ترجمة معانيه أولاً ثم ترجمة صحيح البخاري، ولما فرغ من ذلك خاطبني قائلا: يا ها قد تعلمت كلّ علوم حبيبي الدنيا.فكل ما عداهما ليس إلا زيادات أو شروحًا لهما.ولقد كان قول أستاذي هذا عين الصواب، وما لم يتمتع الإنسان بهذا اليقين تجاه القرآن والحديث فلا حظ له من معارف القرآن أبدًا.وأخيرًا وليس آخراً، أدعو الله تعالى أن يشمل بفضله كــل أولئك الذين ساهموا في إخراج ونشر هذه الملاحظات التفسيرية.لقد اجتهدوا ليل نهار وأتموا هذا العمل في مدة وجيزة.جزاهم من عنده على جهودهم وتضحيتهم جميعًا.آمين.الله أيها القراء الكرام أقول لكم : إن القرآن الكريم هو للتعلم والتعليم والعمل به.فإذا

Page 7

مقدمة المفسر الجزء الثالث وجدتم في هذه الملاحظات شيئًا حسنًا فاقرءوها، وعلّموها وانشروها، واعملوا بها، وادعوا الآخرين وحُـلُّوهم على الاقتداء بكم.فهذا هو السبيل الوحيد لإحياء الإسلام من جديد يا من تُحبون أولادكم ،الفانين وتسألون الله لهم طول العمر، ألا تسهمون في مساع تبذل لإحياء هذه الذكرى الربانية والمنة الإلهية.ألا فأحيوها يَهَبْ لكم الله ولأجيالكم حياة خالدة الهضوا فلا يزال هناك وقت، وسارعوا إلى باب رحمة الله الذي لا يزال مفتوحًا.رحمكم الله وإياي فإنني عديم الحيلة، فاقد القوة، مهيض الجناح تماما.لو وققت للعمل لنصرة دينه بدون أن أُعَدَّ محرمًا فسوف يكون هذا إحسانًا عظيما منه جلّ وعلا يا ستار يا غفار ارحمني..يا أرحم الراحمين برحمتك أستغيث.۲۰ ذو القعدة ١٣٥٩ مرزا محمود أحمد ۲۰ فتـ ۱۳۱۹ هش ۲۰ ديسمبر ١٩٤٠ م

Page 8

الجزء الثالث أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سورة يونس بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم سورة يونس مكية، وهي مع البسملة مائة وعشر آيات وأحد عشر ركوعا * لقد أمرنا في القرآن الكريم بالاستعاذة قبل أن نبدأ بقراءته.يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ) (النحل: ٩٩)..أي: استعن بالله قبل قراءة القرآن واسأله ملاذه لمواجهة الشرور بجميع أنواعها.والملاذ نوعان؛ أحدهما: أن لا يصيبنا شر، والثاني: أن لا يضيع ما بأيدينا من خير.والملاذ المطلوب هنا يشمل النوعين: أي..حَذَارِ أن يفلت ويضيع من أيديكم هذا التعليم القرآني الأسمى من جراء مرض في القلب، أو صحبة شريرة، أو عقاب على إثم، وإياكم أن تتقاصر أفهامكم عن استيعاب سليم صحيح لهذا التعليم، فيصيبكم شرّ وضرر.ولكي نقوم بهذه الاستعاذة بصورة عملية علّمنا الله كل دعاء: "أعوذ بالله الشيطان الرجيم".من لقد قال البعض بأن هذه الآية تأمرنا بالاستعاذة بالله بعد الانتهاء من قراءة القرآن سورة الفلق وسورة الناس- في آخر وليس قبلها، ومن أجل ذلك جاءت المعوذتان القرآن الكريم.- ومما لا شك فيه أنه لو استعاذ الإنسان بالله بعد الانتهاء من قراءة القرآن الكريم بالإضافة إلى تقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب وأرباع فإنه ينقسم أيضًا إلى ركوعات..وهي أقسام صغيرة تناسب القراءة في ركعات الصلاة، وهي مألوفة في المصاحف المطبوعة خارج الجزيرة العربية..وخاصة في القارة الهندية وإيران وأفغانستان وإندونيسيا وبعض بلاد المغرب الع (المترجم) ربي.

Page 9

سورة يونس الجزء الثالث أيضا فإنه حسن ومقبول، ولكن الثابت من سُنّة الرسول أنه كان يستعيذ بالله قبل قراءة شيء من القرآن وبناء على ذلك فالآية تأمرنا أن نستعيذ قبل البدء في قراءة القرآن.لقد ورد في الحديث: "عن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي ﷺ لما دخل في الله الصلاة كبر، قال: الله أكبر كبيرًا، قالها ثلاثا الحمد لله كثيرًا، قالها ثلاثًا.وسبحان بكرة وأصيلاً، قالها ثلاثًا.ثم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".(السنن الكبرى للبيهقي والمصنف لابن أبي شيبة كتاب الصلاة.كما ورد في أبي داود برواية أبي سعيد الخدري له أن النبي ﷺ كان يقرأ دعاء الاستعاذة في بداية الصلاة بعد التكبير والتسبيح والتحميد أبو داود، كتاب الصلاة).وكذلك ورد في الحديث أن النبي ﷺ استعاذ بالله قبل قراءة الآيات النازلة في حادث الإفك".(أبو داود، الصلاة، والدر المنثور، تحت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ.ثم إن نص الآية لا يتعارض مع ما ذهبتُ إليه، لأن كلمة "قرأ" تتضمن المعنيين: بَداً القراءة، وانتهى من القراءة أيضا.فوائد أ هذه السورة مكية.والبعض يقولون إن فيها آيات مدنية، لكن الواقع أن رأيهم هذا لا يستند إلى حقائق ،واقعية، وإنما ادعوا ذلك قياسًا على مضامينها.ومثل هذا الرأي لا يُعتبر رأيًا يقينيًا.اسمها يونس، ولا ترجع تسميتها إلى ورود اسم يونس فيها كما يزعم البعض وإنما لأن موضوعها مبني على حادثة يونس ال.واعلموا أن تسمية أي سورة قرآنية بأسماء بعض الأنبياء أو الأشياء ليس أمرًا اعتباطيا وكأنه لا سبب له ولا حكمة فيه، وإنما الهدف منه التدليل على أن موضوع تلك السورة أو السور يدور حول الحادث المذكور لذلك النبي أو حول صفات وأحوال ذلك الشيء.ج- هذا ولا يُخدعن أحد بما ذكر من عدد الآيات أو الركوعات في مستهل سور القرآن، فيظن أن رسول الله ﷺ هو الذي اختار بنفسه الركوعات وبين عدد الآيات على هذا النحو كلا، وإنما وُضعت هذه الركوعات بعده بزمن طويل.كما

Page 10

الجزء الثالث سورة يونس اختلف العلماء أيضا في عدد آيات السور.وهذا الاختلاف يرجع إلى القواعد النحوية.فبعضهم ظنّ أن الجملة قد انتهت لدى الكلمة الفلانية، فعدوها آية، بينما مال غيرهم إلى غير ذلك.وهكذا حصل الاختلاف لديهم حول عدد الآيات.وهذه الاختلافات على أنواع ثلاثة أولها أنهم اتفقوا على عدد الآيات في سورة ما، ولكنهم اختلفوا في تحديد طول الآيات، بمعنى أن أحد الفريقين قال إن هذه العبارة تُعَدُّ آيةً واحدة، في حين اعتبرها الآخر آيتين.وثانيها: أن بعضهم اعتقد أن عدد آيات سورة ما أقل من عددها المتعارف عليه.وثالثها: أن البعض قد ذكر عدد الآيات فوق العدد المتعارف عليه.وهكذا اختلف هؤلاء العلماء في تحديد عدد آيات القرآن كله.وقد استغل هذا الاختلاف كثير من الكتاب المسيحيين وغيرهم من أعداء الإسلام - إما جهلاً منهم أو خداعًا للآخرين- وقدموه كدليل على زعمهم أن القرآن الكريم غير مصون ولا محفوظ فقالوا وهم يشيرون إلى الفريق الذي ذكر عددًا أكثر من الآيات القرآنية: انظروا، لقد كان عدد الآيات أولاً كذا وكذا، ولكن الموجود منها في المصحف اليوم أقل من ذلك، وهذا أن هناك آيات ناقصة في المصحف.وهكذا قالوا بالنسبة لمن ذكروا عددًا أقل من عدد الآيات المعروف أن المصحف الحالي فيه كذا من الآيات، ولكنّ القدامى ذكروا أن عددها كان كذا وكذا، وهذا يعني أن هناك آيات أضيفت إلى المصحف فيما بعد.إن هذا الزعم خداعٌ مكشوف وكذب صريح ذلك أن الذين ذكروا من بين المسلمين عددًا أكبر من عدد الآيات المعروف فإنهم لم يدعوا قط أن المصحف كان من قبل أكثر محتوى ومضمونًا، بل إن كل ما قالوه هو : لا تعتبروا هذه العبارة القرآنية آية واحدة، وإنما هي آيتان.أما الذين ادعوا بعدد أقل اعتبروا تلك العبارة نفسها آية واحدة، ولم يقولوا قط بأن محتوى القرآن كان أقل مما هو عليه الآن أو أن عبارات أُضيفت إليه فيما بعد.كلا ثم كلا.يعني فلو أخذنا على سبيل المثال- سورة الفاتحة نجد أن بعضهم قد قال بأنها ثماني آيات، بينما قال غيرهم: إنها سبع آيات ومن قال بثماني آيات لا يضيف إلى الفاتحة الحالية عبارة أخرى وإنما موقفهم أن البسملة آية مستقلة، وبعدها سبع آيات والمجموع

Page 11

٤ سورة يونس الجزء الثالث ثماني آيات ولكن أصحاب الرأي الآخر لا يعتبرون البسملة آية مستقلة، وإنما يقولون هي: جزء من آية "الحمد لله رب العالمين"، وبعدها ست آيات، فالمجموع عندهم سبع آیات.إذن فبرغم اختلاف المسلمين في عدد آيات القرآن إلا أنه لا خلاف بينهم حول حجم القرآن والاختلاف في عدد الآيات ليس في الواقع اختلافًا حقيقيا، وإنما هو مسألة أذواق مختلفة فقط.فإذا استغله أعداء الإسلام للطعن فإنما يشكلون بذلك دليلا على غبائهم هم ليس إلا.علاقة سورة يونس بالسور الأخرى وقبل الخوض في بيان المطالب الأخرى لسورة يونس أود التحدث عن الترابط القائم بين هذه السورة والسور التي تلتها أو سبقتها.ومن تدبري في القرآن أرى أن كل آية من آياته مرتبطة بالأخرى من حيث المعنى.وليس هذا فحسب، بل كل سورة منه متصلة بموضوع السور التي قبلها أو بعدها.وهناك أكثر من ذلك، حيث توجد علاقة وثيقة بين مجموعة سور وبين مجموعة أخرى.وهكذا نجد في القرآن نظاما سور وارتباطا واتصالاً قويًا من "باء" البسملة في سورة الفاتحة وحتى "السين" في آخر حرف من سورة الناس.= يدعي أعداء الإسلام أن القرآن لا ترابط فيه ولا ترتيب.ولكن الواقع أن هناك ترتيبا رائعا وترابطًا كاملاً في جميع المواضيع القرآنية بل إن هناك عدة روابط تربط السور بعضها ببعض وبالاطلاع على هذا الترتيب القرآني لا يبقى لدى الإنسان أدنى شك في كون القرآن كلامًا إلهيًا معجزا.واعلموا أن لسورة يونس ثلاث روابط بموضوع سورة التوبة التي تقع قبلها في المصحف الشريف، وهي: الرابطة الأولى: تجانُسُ واتحاد السورتين في الموضوع.فقد ذكر الله تعالى في آخر التوبة أمرين وهما: قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزَلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُون ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)

Page 12

الجزء الثالث سورة يونس وهذان الآيتان: ۱۲۷ و ۱۲۸).فبيّن هنا (أولا) نزول الكتاب وتكذيب المنافقين له، و (ثانيا) لفت الأنظار إلى مقدم الرسول الكريم لله وإلى ضرورة الانتفاع الموضوعان نفسهما ذكرهما على هذه الصورة تماما في بداية سورة يونس أيضا، موجهًا الأنظار إلى أهمية الكتاب فقال: تِلْكَ آيَاتُ الْكتَاب الْحَكيم ثم تحدث عن بعثة الرسول ﷺ فقال: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ (الآيتان ٢ -.(۳ الرابطة الثانية: هي أن سورة يونس تكملة لموضوع سورة التوبة.ذلك أن الله تعالى قد أشار في التوبة التي ليست في الواقع سورة مستقلة وإنما هي جزء من سورة الأنفال إلى أنه قد حان الآن ازدهار الإسلام وقد شرعت الوعود الإلهية تتحقق كثيرًا وبكل قوة، فعلى الناس أن يطهروا قلوبهم ويخضعوا أمام الله تعالى، لكي تقبل توبتهم.ولما كان البعض يشكون لكثرة ذنوبهم في قبول توبتهم، لذا بين الله تعالى في سورة يونس موضوع رحمته، وقال إن رحمتي واسعة غالبة، وأرحم عبدي كيفما كانت حالته شريطة أن يتوب توبة صادقة كاملة.الرابطة الثالثة: السور.هي تلك التي توجد بين سورة يونس وبين جميع ما قبلها من فالسور القرآنية من البقرة إلى التوبة عددها ثمانية أو سبعة وفق تحقيقنا، لأن التوبة كما ذكرنا آنفا ليست سورة منفصلة وإنما هي جزء من الأنفال، وجاءت منفصلة إشارة إلى عظمة معانيها.وموضوع هذه السور كلّها واحد.ثم يبدأ من سورة يونس موضوع جديد ويستمر حتى سورة الكهف.والواقع أن كلا الموضوعين مرتبط بعضهما ببعض، ففي السور الثماني الأول قدّم الله للناس شخصية الرسول ﷺ وإنجازاته العظيمة إثباتًا لصدق الإسلام.كما دعاهم لاعتناقه ببيان عقائده السامية، وتعاليمه الجميلة، وعرفانه الواسع وأوامره الحكيمة وتأثيراته القوية الطيبة.أما مجموعة السور الأخرى يونس وما بعدها- فقد نبه فيها على ضرورة النبوة وأهمية الدين، وبعثة النبي والأهداف المنوطة بمبعثه، فساق على ذلك الأدلة العقلية، مشيرًا إلى منهاج النبوة الذي جاء الأنبياء السابقون وفقًا له، مبينًا دعاويهم وأحوالهم ومصيرهم.

Page 13

الجزء الثالث ។ سورة يونس فالموضوع واحد في المجموعتين، مع فرق واحد فقط.ففي الأولى أشار إلى الأنباء التي أنبأ بها الله في زمن النبي أو زمن الأنبياء السابقين عليهم السلام والتي تحققت في أوانها.بينما بين في المجموعة الثانية صدق الإسلام بصورة مبدئية، مشيرًا إلى منهاج النبوة.ولنتذكر أن المجموعة الأولى من السور تحتوي على سور مدنية، ما عدا الأنعام والأعراف، فهما مكيتان، وإن تم نزولهما قبل الهجرة النبوية بزمن قصير جدا.لذلك يمكن اعتبارهما كالسور المدنية.أما المجموعة الثانية فكلها مكية، نزل بعضها في منتصف الفترة المكية وبعضها قبل الهجرة بقليل.وهنا ينشأ سؤال: لماذا دونت السور المدنية في المصحف قبل المكية؟ إذا كان من الأفضل والأنسب أن تقرأ السور الأولى من القرآن نظرًا لمحتواها ومضمونها قبل السور الأخرى فلماذا لم ينزلها الله أولا؟ والجواب هو أن كل فعل لربنا الحكيم لا يخلو من حكمة! فبما أن حاجات المخاطبين الأوائل لأي نبي من أنبياء الله تعالى تختلف عن حاجات الذين يأتون بعدهم، لذلك دون القرآن الكريم على عكس ترتیب نزوله كان ترتيب نزوله بالنظر إلى أول المخاطبين به، وأما ترتيب تدوينه فكان بالنظر إلى من يأتون فيما بعد.ذلك لأنه من البديهي أن أي نبي ذي شرع جديد عندما يُعلن دعواه فلا يدور عندئذ النقاش بينه وبين الناس حول نوعية التعاليم التي جاء بها أو تحقق الأنباء التي كان قد تنبأ بها، لأن تعاليمه عندئذ لا تكون قد ظهرت بشكلها الكامل كما أن موعد تحقق أنبائه لا يكون قد حان بعد، وإنما يسألونه من هو ذلك الإله الذي جئت من عنده؟ ما صفاته وما هي قدراته؟ هل الوحي أمر حق؟ هل الإنسان بحاجة إلى الوحي الإلهي؟ ومن أجل ذلك يشتمل الوحي النازل عليه في بداية الأمر، على مثل هذه الأمور التي يهتم بها الناس ويثيرونها حينذاك.كما يحتوي على أنباء سوف تتحقق في المستقبل تصديقًا لدعواه، ويتضمن شيئًا من المسائل البدائية في الشريعة.هي ثم يأتي زمن يدرك فيه الناس حقيقة دعواه، وينبرون لمعارضته، ويعتبرون بعثته عبئًا، ويرفضون ما يعرضه عليهم من عقائد تتعلق بذات الله وصفاته، أو أفكار حول النظام الديني.كما سيكون حينئذ أيضًا من يصدقونه من سعداء النفوس.حينئذ ستمس

Page 14

الجزء الثالث V سورة يونس الحاجة إلى نزول وحي يبين الغاية من مجيئه، ويؤكد بتقديم شهادة التاريخ الماضي - على توافق دعواه مع السنة الإلهية المستمرة ويسوق الأدلة العقلية على صدقه ، منبها الناس إلى ضرورة الاعتبار بأحوال الأنبياء ومصير أعدائهم.كما أن الوحي سيحتوي عندئذ على شيء من تفاصيل الأحكام الشرعية، موجها أنظار المؤمنين إلى واجبات ومبادئ لا بدّ لهم من إتباعها في كفاحهم ونضالهم لضمان النجاح.بعدها يأتي زمن ينزل فيه الوحي الذي يكمّل الشريعة ويقدّمها حجة على المكفّرين، مشيرًا إلى الأنباء التي قد تحققت في الفترة الأخيرة، سعيًا لإقناع المعارضين.فيقدم الوحي إنجازات النبي لكي يعرفوا بها حقيقة صدقه، فإنجازاته نفسها تصبح شهادة على أن فلاح العالم منوط الآن بتصديقه وإتباعه.أما القوم الذين سيأتون بعد ذلك فلا يكونون جاهلين ماهية هذا الدين، بل إنهم سيجدون جماعة من أتباع النبي، وسيكونون مطلعين إلى حد ما على دعواه، وأول ما يتساءلون عنه هو : لماذا نصدقه فيما يدعي؟ وبماذا يمتاز تعليمه على التعاليم السابقة؟ ما هي الإنجازات التي حققها؟ وحينما يجدون أجوبة شافية عن وحينما يجدون أجوبة شافية عن أسئلتهم هذه ويدركون حقانية الدين الجديد وصدقه فسيدخلون في مرحلة جديدة، يحتاجون عندها إلى زيادة معرفتهم، وسوف يتم لهم ذلك عندما يدركون صدقه بشكل مبدئي وموضوعي إذا ما قيس بمقياس منهاج النبوة، وبعدها يتجهون إلى فهم أمور أخرى.ونظرا لهذا المقتضى الطبيعي نزل القرآن الكريم بترتيب معاكس لما تم تدوينه عليه.فقد كان ترتيب نزوله بحسب حاجات المخاطبين الأولين، وأما ترتيب تدوينه فكان وفقا لحاجات المتأخرين.وهذا الأمر في حد ذاته يشكل ميزة عظيمة للقرآن تكفي لفتح عيون المتبصرين.

Page 15

الجزء الثالث بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الله) سورة يونس ربه هذه الآية التي تَردُ في مستهل كل سورة تذكرنا بنبوءة ذكرها موسى ال العلية ، ووردت في التوراة في سفر التثنية (۱۸:۱۸)، وجاءت تفاصيلها في سفر الخروج ( ۱۹ و ۲۰)، وهي: قال الله تعالى لموسى أن يطهر ،شعبه ويأتي بهم ليقفوا في أسفل جبل سيناء، لكي يسمعوا كيف يكلم الله عبده موسى.هؤلاء يقفون في البداية بقرب الجبل، وعند اشتداد صوت البوق يقتربون.فصعد موسى إلى الجبل، فلما كلّمه حصل برق ورعد ودخان، فخاف بنو إسرائيل ووقفوا بعيدين.ولما رجع موسى قالوا: تكلم أنت معنا فنسمع ، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت.فقال موسى للشعب: لا تخافوا لأن الله إنما جاء لكي يمتحنكم، ولكي تكون مخافته أمام وجوهكم حتى لا تخطئوا.ولكن ما برح الشعب واقفين من بعيد.وأما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله الإصحاح ۲۰:۱۹ - (۲۱) فقال موسى للرب: إن قومي لا يريدون الاقتراب منك.فأوحى الله إلى موسى "قد أحسنوا فيما تكلموا.أُقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به.ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به " (19 باسمي أنا أطالبه".(التثنية ١٨: ١٧- تذكر هذه النبوءة أن نبيًّا مثيلاً لموسى سوف يبعث بعده، وأنه حينما سيقرأ كلام الله على الناس سوف يقول : أقرأ كلام الله هذا باسمه سبحانه وتعالى.وهذا هو معنى بسم الله".فالبسملة في القرآن إذا تحذير لكل يهودي ومسيحي أنه إذا رفض هذا الكتاب فسوف يؤاخذ بموجب نبوءة موسى هذه.لقد كانت نبوءة صريحة الكلمات، ومع ذلك لم يفهمها اليهود ولا النصارى حتى النبي إلى أن نزلت البسملة في القرآن الكريم، فانكشف مغزاها.إن نبوءة موسى ال "ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا زمن

Page 16

الجزء الثالث سورة يونس أطالبه"، تصرح الذي يتلقاه ذلك النبي المثيل لموسى عليهما السلام فورود البسملة في بداية كل سورة قرآنية كان مصداقًا لهذه النبوءة.فلا يليق إذا بأحد أن يطعن في ورودها وتكرارها في القرآن، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى موسى ال.تماما أن البسملة سوف ترد في مستهل كل كلام جديد من الوحي يعترض المسيحيون بأن البسملة مأخوذة من كتب سابقة.يقول المستشرق رودول (Rodwell) بأن هذه الكلمة يهودية الأصل (ترجمة رودول للقرآن ج ١ ص ٢٨٦).ويرى المستشرق ويري (Wherry) أنه لمن شبه المؤكد أن محمدا قد استعارها من اليهود والصابئين إذ كان من عادة الصابئين دائما أن يكتبوا في صدر كتاباتهم العبارة التالية "باسم الإله المعطي الكريم تفسير ويري للقرآن ج ١ ص ۲۸۹).وأما القسيس سانت كلير تسدل" فيرى أن الجملة زرادشتية الأصل حيث كتب: قد وردت في كتاب "الدساتير "الزرادشتية" قبل صحيفة كل نبي من أنبيائهم العبارة الآتية: "باسم الإله المعطي الرءوف الكريم" (ينابيع الإسلام، الطبعة الأردية ص (۱۲۷) والعجيب أن هؤلاء الكتاب المسيحيين الثلاثة يذكرون ثلاثة مصادر متغايرة، تدليلاً على كون البسملة كلمة مسروقة.فهي عند أحدهم يهودية، وعند الآخر زرادشتية، وعند الثالث صابئية.والحق أن هذه الجهود المضنية التي بذلوها عبئًا للتدليل على كون البسملة مسروقة تشكل بنفسها دليلاً على اعترافهم بعظمة البسملة دون شك، وإلا لاكتفوا بالقول بأنه ليس فيها معنى يستحق الذكر.ثم إنَّ هناك سؤالاً هاما يطرح نفسه: أي من هذه المصادر الثلاثة هو المصدر الحقيقي للبسملة؟ من الذي سرقها، وممن؟ هل اليهود سرقوها من الزرادشتيين أو الصابئين أم أن العكس هو الصحيح؟ ومما يدعو إلى الاستغراب أكثر أنهم لم يشيروا حتى إلى اسم المصدر اليهودي، كما لم يذكروا نص العبارة اليهودية المستعملة بهذا المعنى، مع أن ديانتهم المسيحية فرع من اليهودية، والكتب اليهودية تُعتبر كتبًا للمسيحيين أيضًا كل ما فعلوه هو أنهم ذكروا عبارات منسوبة إلى كتب زرادشتية أو صابئية.ولكنها أيضًا موضع شك كبير، لأن

Page 17

الجزء الثالث سورة يونس الزرادشتيين أنفسهم يعتبرون هذه الكتب موضوعة ومحرفة، فليس بمستبعد أن تكون كلها أو جزء منها قد وضعت بعد ظهور الإسلام.ولو سلمنا جدلاً بصحة موقفهم، فإن ذلك أيضًا لا يمس بعظمة القرآن الكريم أبدا، لأن القرآن لا يدّعي بتانا أن البسملة نزلت لأول مرة في القرآن الكريم، بل إنه يعترف بوجودها من قبل، حيث يؤكد الله تعالى في سورة النمل أن الرسالة التي بعث بها سليمان ال إلى ملكة سبأ كانت مشتملة على "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ".إذن لو ثبت وجود البسملة من قبلُ في كتب اليهود أو الزرادشتيين أو الصابئين أو غيرهم فلا يضر القرآن شيئًا، لأن القرآن بنفسه يُقرُّ بأنها كانت مألوفة لدى سليمان العل.فمن الممكن أن تكون معروفة أيضًا لدى غيره من الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم.كل ما في الأمر أنها نزلت في القرآن باللغة العربية، بينما نزلت للشعوب الأخرى بلغاتهم.ومع ذلك لا يمكن أن يُعَدّ وجودها في القرآن نقلاً أو سرقة؛ ذلك لأنها جاءت في القرآن تحقيقا لنبأ من أنباء الأنبياء السابقين.والكلام الذي يتكرر من لدن الحق تعالى لغاية جديدة ولهدف معين لا يمكن أن يُعد نقلاً أو سرقة على الإطلاق.لقد أنبا موسى العلي بقوله هذا : (۱) إن نبيًّا من إخوة بني إسرائيل أي (بني إسماعيل) سوف يُبعث.موسی.(۲) وأنه سوف يُعطى شرعًا جديدا كما أعطى (۳) وأنه كلما قرأ على مسامع الناس أمرًا إلهيا جديدًا قال: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.(٤) وإذا حاول أحد تطبيق هذه النبوءة على نفسه كذبًا فسوف يهلك لا محالة.(٥) ومن رفض النبي الذي جاء مصداقا لها فسيهلك أيضًا.أخبرونا الآن، من هو المصداق لهذه النبوءة، اللهم إلا محمدا رسول الله ﷺ والقرآن الكريم، إذ وردت البسملة في بداية كل سورة قرآنية تحقيقا لنبأ موسى ال.فهل يمكن إثبات هذه الأمور في الدساتير الزرادشتية؟ هل كان مؤلفوها من بني إسماعيل؟ وهل جاءوا بشرع كالذي أتى به موسى؟ أم هل كان الوحي النازل عليهم يستهل بالبسملة إن "الدساتير" كتاب تاريخي فقط يشتمل على حالات الأنبياء،

Page 18

الجزء الثالث ۱۱ سورة يونس ولكن النبوءة الموسوية تشترط وجود البسملة في مستهل كل وحي مستقل ينــزل على ذلك النبي.إذا فبالرغم من تداول البسملة في أمم الأنبياء السابقين فإن ورودها في القرآن الكريم لن يُعدَّ تكرارًا عبئًا أو سرقةً علمية، لأن القرآن بنفسه يسلّم بوجودها قبل نزوله، كما أن ظهورها فيه كان تحقيقا لنبوءة موسى العلمية، ولولا ذلك لبطلت نبوءته هذه.شرح الكلمات : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ تلك: اسم إشارة للبعيد.ال: حرف للتعريف، ومن معانيها أنها إذا دخلت على اسم دلت وجود بين جنسه.على أنه أكمل آيات: مفردها آية.والآية: العلامة والدليل، ويقال لكل كلام من القرآن منفصل بفصل لفظي آية (تاج العروس وأرى أن الجمل القرآنية سميت آيات للحكمة نفسها، أي أن يدرك الناس أن مضامين القرآن مرتبة ترتيبًا كاملا، وأن كل جملة منه دليل على صدق ما ورد في الجملة السابقة من معان وأنه بدون مراعاة هذا الترتيب لن يدرك أحد المعارف القرآنية بشكل جيد.وقد سُميت بالآيات كذلك لأن كل جملة قرآنية آية من آيات الله تعالى.يزعم المسيحيون أن القرآن لا يدعى أنه معجزة.والحق أنه قد سمى كل جملة منه آية (أي معجزة)، مشيرًا إلى أنه يحتوي على معجزات كثيرة، بل إنه بنفسه معجزة عظمی الكتاب : مصدرُ كَتَبَ يكتب.يقال : كَتَبَ الكتيبة (وهي الجيش): جمعها.وكتب السقاء: خرزه بسيرين (تاج العروس)..أي سد فمه بخيطين من جلد.وبهذا المعنى

Page 19

الجزء الثالث يسمى ۱۲ سورة يونس الكتاب كتابًا لأنه تُجمع فيه مسائل مختلفة، ولأنه يُصنع بتجميع الأوراق بخيط وغيره.والكتاب: "ما يُكتب فيه من مجموعة أوراق فارغة؛ ما كُتب؛ الفرضُ؛ الحكم؛ القدر؛ والرسالة المكتوبة" (أقرب الموارد).الحكيم: هو العالم؛ صاحب الحكمة؛ المتقنُ للأمور.(الأقرب).والمحكم القوي.والحكمة العدل؛ العلم؛ النبوة؛ ما يمنع من الجهالة؛ كل كلام موافق للحق؛ وضع الشيء في موضعه؛ صوابُ الأمر وسَداده (الأقرب).وحَكَمَ: أَصلُه مَنَعَ منعًا للإصلاح، ومنه سُمّيت اللجام حَكَمة الدابة؛ قال الشاعر: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم (المفردات)..أي امنعوهم من الفساد.التفسير: (الر: إن المقطعات القرآنية مثل (الر) تتضمن أسرارا عديدة، منها ما يتعلق بأشخاص لهم علاقة قوية بالقرآن الكريم بحيث لا بد من ذكرهم فيه.كما تعمل المقطعات عمل القفل لمعاني القرآن فلا يمكن لأحد أن يدركها إلا بفتحها، وبقدر ما تنفتح له هذه الأقفال يتمكن من الاطلاع على معانيها.لیک وإن بحثي بهذا الصدد يؤكد أن معاني القرآن تتجدد بتغير هذه الحروف.فإذا ابتدأت سورة بحروف منها فالسور التي تليها - من غير أن تبتدئ بأي مقطع من هذه المقطعات - تكون تابعةً للسور السابقة في الموضوع، وأن السور المتماثلة في المقطعات تكون متفقة في الموضوع منخرطة في سلك واحد.وقد سبق أن بينت أن هناك موضوعًا واحدا يستمر من سورة البقرة إلى سورة التوبة، وهذه السور مرتبطة بمقطع (الم) الذي تبتدئ به سورة البقرة.ثم تأتي سورة آل عمران فتبدأ بالحروف نفسها أما سور النساء والمائدة والأنعام فإنها خالية من المقطعات فكأنها جميعًا تابعة لما قبلها بعد ذلك تبدأ الأعراف بـ (المص)، محتوية على (الم) ، زيد في آخرها (ص).بعد ذلك الأنفال وبراءة خاليتان من المقطعات، فيستمر الموضوع نفسه المتعلق بـ الم) إلى براءة.أما الصاد الذي زيد في آخر مقطعة "الأعراف" فيشير إلى موضوع التصديق.إن الأعراف والأنفال والتوبة كلها تبحث في نجاح النبي ﷺ وازدهار الإسلام، لكن الأعراف تشير إلى موضوع التصديق بصورة مبدئية مختصرة، والأنفال والتوبة تذكر انه مفصلاً ، ولذلك قد زيد حرف الصاد

Page 20

الجزء الثالث في الأعراف.۱۳ سورة يونس تلك ثم سورة يونس تبدأ بـ (الر) بدلاً من الم، فبقيت "ال" على حالها لكن الراء حلت محل الميم.وهنا يتغير الموضوع، لأن البحث من سورة البقرة إلى التوبة كان من وجهة نظر علمية، ولذلك قال في البقرة (الم) أي أنا الله أعلم، ولكن البحث من يونس إلى الكهف يحمل طابع الحوادث التاريخية ويقتصر على الاستنتاج من الحوادث، لأجل ذلك قال الله في سورة يونس الر)، أي: أنا الله أرى، وأعرضُ عليكم هذا الكلام معتمدًا على رؤيتي لتاريخ جميع أمم الأرض.فهذه السور كلها تبحث في صفة "الرؤية"، أما السور التي قبلها فتختص بصفة العلم.أرى من المناسب أن أذكر هنا بإيجاز ما يزعمه بعض المفسرين من أن المقطعات لا معنى لها وأنها وُضعت قبل السور بدون جدوى.الحق أن المقطعات نفسها تبطل زعمهم، لأننا إذا أَجَلْنَا النظر في القرآن وجدنا المقطعات مرتبة ترتيبا وثيقًا.البقرة تبدأ بـ (الم) ، ثم آل عمران تبدأ بـ (الم) ، ثم النساء والمائدة والأنعام بلا مقطعات.ثم تبدأ الأعراف بـ (المص)، ثم الأنفال والبراءة خاليتان منها.ثم سورة يونس وهود ويوسف تبدأ بـ (الر) ، ثم زيد إليها (م) في الرعد وجعلها المر، لكن الزيادة هنا 6 تختلف عما مضى، إذ جاء حرف الصاد في الأعراف بعد المقطع السابق الكامل، وأما هنا فكسر المقطع (الر) ووضع الميم قبل الراء.فلو كانت الزيادة عن غير قصد لوضع الميم بعد الراء، لكن توسط الميم بين اللام والراء يدل على أن هذه الحروف تؤدي معنى خاصا.عندما نجد أن السور المبتدئة بــالم متقدمة وتليها السور المبتدئة بـ (الر) يتضح لنا تماما أن الميم متقدمة على الراء من ناحية المعنى.وحينما اجتمعت هنا في سورة الرعد الميم والراء، وقدّمت الميم على الراء تأكد بأن هذه الحروف جميعها وضعت لمعان خاصة، وكذلك نجد أن المتقدمة منها معنى متقدمة في الترتيب أيضا.ثم استهلت سورة إبراهيم وسورة الحجر بـ (الر ، لكن النحل والإسراء والكهف لم تستهل بالمقطعات فكأنها تابعة في الموضوع لما قبلها.ثم سورة مريم تفتتح كهيعص ، وطه بـ طه، ثم الأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان كلها

Page 21

الجزء الثالث ١٤ سورة يونس خالية من المقطعات، وكأنها تابعة لـ"طه".ثم الشعراء تبدأ ب طسم، فبقيت الطاء من (طه) على حالها وزيدت عليها السين والميم مكان الهاء.بعد ذلك سورة النمل التي تبدأ بـ طس حيث حذفت منها الميم وبقيت طس.ثم عادت سورة القصص مبتدئة بـ(طسم، وكأن موضوع حرف الميم أضيف من جديد إلى موضوع السورة.بحث علم الله بعد ذلك تبدأ العنكبوت بـالم، فتكرر فيها من ناحية أخرى، ومن أجل غاية جديدة.إنني وإن لم أكن هنا بصدد بحث موضوع الترتيب، ولكني لو سئلت عن تكرار الم هنا لقلت: إن خطاب الم في السور الأولى كان للكفار، أما في العنكبوت فموجه للمؤمنين.تابعة إِنْ ثم الروم ولقمان والسجدة تبدأ بـ الم.ثم الأحزاب وسبأ وفاطر بلا مقطعات وكأنها تابعة لما قبلها.بعد ذلك سورة "يس" تبدأ بالياء والسين، ثم الصافات بلا مقطعات.ثم سورة ص تبدأ بالصاد، وسورة الزمر خالية من المقطعات، وهي لما قبلها.ثم سور "غافر" و"فصلت" والشورى تبدأ بـ (حم)، لكن زيدت في الأخيرة (عشق).وبعدها الزخرف تبدأ أيضًا بـ (حم) ثم الدخان والجاثية والأحقاف كلها تبدأ بالحروف نفسها.ثم سورة محمد الله والفتح والحجرات بلا مقطعات، وهي تابعة لما قبلها.ثم سورة (ق) تبدأ بالقاف.ثم يستمر موضوع واحد إلى آخر القرآن.فتكرار الحروف المتجانسة، ثم حذف البعض منها وتعويض البعض الآخر...دل على شيء فإنما يدل على أن الذي وضعها على هذه الصورة إنما فعل ذلك لغاية ما، سواء فهمناها نحن أم لا.ولو كانت قد وضعت بدون سبب لما كانت ثمة حاجة إلى استبدال بعضها ببعض أو حذف بعضها وإضافة بعضها أحيانًا.وعلاوة على ذلك، فإنه يُستنبط من قول لمعارضي الإسلام أن المقطعات تحمل بعض المعاني.يقول هؤلاء المعارضون بأن ترتيب السور في المصحف إنما هو بحسب طولها أو قصرها.ولو سلمنا بهذا جدلاً أفلا يكون غريبا أن السور ذات المقطعات المتجانسة قد جاءت في المصحف مجتمعة، رغم ورود السور فيه بحسب طولها على حد زعمهم.فجاءت السور المبتدئة بــ الم معا، وكذلك التي تحمل (الر) جاءت

Page 22

١٥ سورة يونس الجزء الثالث معا، وسورة طه وما يجانسها في حروف مقطعاتها وردت أيضا مجتمعة، والسور التي تفتتح بــحم جاءت معا.فلو كان المصحف مرتبا بحسب طول السور أفلا يعد عجيبًا أن المقطعات أيضًا تشير إلى طولها أو قصرها.فكل هذا يؤكد أن للمقطعات هدفا ومغزى وإن ظننا أنه مقتصر في إشارتها إلى طول أو قصر السور.ولكن الواقع أن اجتماع السور ذات المقطعات المتماثلة يدل على اشتراكها في موضوع واحد وأن المقطعات هي بمثابة المفاتيح لمعانيها.ولتحديد معاني المقطعات أرى من الأفضل أن نرجع إلى القرآن نفسه.فقد جاءت في البقرة بعد (الم) آيةً ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ).ثم في آل عمران وبعد (الم) جاء اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بالْحَقِّ.ومما يجب ملاحظته هنا أن لا رَيْبَ والْحَقِّ هما بمعنى واحد، فقد ذكر بعد الم في سورة البقرة قوله كتاب لا ريب فيه، وفي آل عمران أيضا قال بعد المقطع عن هذا الكتاب بأنه نزل بالحق.ثم تبتدئ سورة الأعراف بـ «المص.ثم وردت بعدها آية ﴿كتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لتُنذِرَ به وَذَكَرَى الْمُؤمنين.وهنا أيضًا ذكر الكتاب الذي صفته أن لا رَيْبَ فِيهِ، لأن قوله فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ يدل أيضًا على الميزة نفسها.ثم تبتدئ سورة العنكبوت بعد عدة سور بمقطع الم أيضا، ويليها قول الله : أَحَسبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).هذه الآيات أيضا تذكر كتابا يقينيًا حقا، لأن الاختبار لا يكون إلا لدفع الشك وإبطال الريب.فهنا أيضا نجد البحث نفسه الذي تشير إليه سورة البقرة باختلاف بسيط هو أن الخطاب في سورة البقرة عام، وهنا الخطاب خاص بالمؤمنين، وقد قيل لهم بـــــأنه كيف يمكن أن يستحقوا معاملة المقربين إذا كان الشك لا يزال يُساور قلوبهم؟ وفي سورة الروم البحث نفسه وإن كان قد أصبح غاية في الدقة.يقول الله :

Page 23

الجزء الثالث ١٦ سورة يونس الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، أَي أَنَّ كلام الله قد نزل في الروم وسيتحقق بلا شك.وكأن الله و أشار هنا إلى جزء من الكتاب واستغنى عن الكل، وأكد تحققه بحرفي التأكيد «من» و«س» فقال: «من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ريب فيه.ثم تبتدئ سورة لقمان أيضا بـ (الم)، ويليها قول الله : تلْكَ آيَاتُ الْكتاب الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).وصفة الحكيم هنا أيضًا تدل على أمر يقيني، فكأنه تكرار لموضوع سورة البقرة.بعد ذلك سورة السجدة تبدأ بـ (الم) أيضًا، ويليها قول الله ولا تَنْزِيلُ الْكتاب لا ريب فيه من رَّبِّ الْعَالَمينَ.هنا أيضا ذكر الكتاب الذي لا فهذه الآيات كلها توضح جليا أنه كلما ذكر الم تبعها موضوع خاص يؤدي إلى علم يقيني لا يساوره ريب.فكيف يمكن مع هذه الحقيقة الناصعة بأن نتوهم ونقول بأن هذه الحروف مهملة لا تهدف إلى شيء.فالحق أن (الم) ترمز إلى إزالة الشك وتمكين اليقين.والشيء الذي يبطل الشك ويهب اليقين هو العلم الكامل الذي يدل عليه معنى الم أي "أنا الله أعلم"..والمقصود أنه من أراد استئصال الشك وإحراز اليقين فليتوجه إلى كلامي وليدرس كتابي.أما الآن فأتناول (الر).والحق أننا إذا أمعنا النظر في السور المبتدئة بهذه الحروف وجدناها تبتدئ يبحث.واحد.فقد استهلت سورة يونس بقوله : (الر تلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صدَّق عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ثم ورد في سورة هود قول الله تعالى: الر الله تعالى: ( الر كِتَابٌ أَحْكَمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلا تَعْبُدُوا إلا اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضَلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ.كبير.ثم في سورة يوسف يقول الله : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ

Page 24

الجزء الثالث ۱۷ سورة يونس قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).ثم في سورة الرعد جاء: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ربك من الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَات لَعَلَّكُم بلقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ).هنا اجتمع مضمون الميم والراء.ثم ورد في سورة إبراهيم: الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيد.ثم في سورة الحجر قال : الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُوا مُسْلِمينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهُمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَا أَهْلَكْنَا من قرية إلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ.إذا أمعنا النظر في هذه المواضع معا، تبيّن لنا أن البحث فيها يدور حول موضوعين اثنين؛ الأول : التاريخ القديم وبخاصة عقاب المجرمين والثاني: خلق الكون والاستفهام الإنكاري في سورة يونس أَكَانَ للنَّاسِ عَجَبًا...يدل على أن الأنبياء بين بشير ونذير لم تنقطع بعثتهم قط.وفي سورة هود يبين الله تعالى أن كل قوم في تطور دائم، وأنه لا بد أن يتطور في مدى معين.وقد وضح عند ذكره خلق الكون أن تقدم العالم خاضع لقانون الارتقاء.وفي سورة يوسف تحدّث الله بصورة واضحة عن تاريخ العالم.وجمع في سورة الرعد حين زاد الميم- بين موضوعي (الم) و(الر) وهما: إشارة إلى كلام يقيني، ولفت النظر إلى خلق الكون.ثم كرر ضرورة التوجه إلى التفكير في قوانين القدرة في سورة إبراهيم وقال: انظروا إلى العالم تجدوا فيه آثار يد الخالق الواعي.وفي سورة الحجر دعانا إلى التفكير في القانون القديم.ومن البيّن أن الكون وحوادثه المختلفة مرتبطة بالرؤية، وإنما يستطيع التحري عن الحقيقة من تحدثُ أمام عينه ظواهر الكون

Page 25

الجزء الثالث ۱۸ سورة يونس أو تنكشف قوانينه أمامه فعلاقة هذه المجموعة من السور بالرؤية واضحة كما تشهد بها كلمة (الر) التى قيل فيها : أنا الله أرى فلا التاريخ القديم غائب عني، ولا خلق.الكون وقوانينه خافية علي.فهدايتي فقط هي التي يمكن أن تغنيكم عن كل شي آخر في إدراك الحقائق المتعلقة بالرؤية.ومما يجدر ذكرُهُ أيضًا أن المقطعات، وإن كانت معانيها تتغير بتغير الحروف، لكنها كلها متفقة في أمر واحد، هو أن السور التي تفتتح بالمقطعات يستهل موضوعها بذكر الوحي، ومعظم هذه السور تصرح بكلمة الكتاب والقرآن، وبعضها تشير إلى سفر قديم مثلما جاء في سورة مريم، أو إلى كلام خاص مثلما جاء في سورة الروم.والآن نتناول تفسير بقية الآية: هذه الآية مصداق تماما للمثل القائل: خير الكلام ما قل ودل.فإنها على قلة كلماتها، تتضمن معاني واسعة لدرجة أنها ترسم لنا صورة جميلة لمحاسن القرآن وكمالاته.تدبروا في معاني مفرداتها المذكورة أعلاه، لتدركوا مدى سعة مفاهيمها.لقد بين الله تعالى فيها أن هذه آيات كتاب يزخر بالعلوم، يعلّم العدل، يمنع من الجهل، يستوعب الحقائق كلها، يأمر بما يتلاءم مع المقام والحال يعلّم صلاح الناس، ويحتوي على أمور محكمة.لاحظوا بلاغة اللغة العربية وانظروا كيف أعلن القرآن بكلمة واحدة عن دعاويه العديدة وأهدافه السامية، وقال الآن يجب عليكم النظر في القرآن لتروا ما إذا كان متحليا في الحقيقة بهذه المزايا والمحاسن أم لا ؟ فإن كان بالفعل متسمًا بها فأي شك في أن رفضكم إياه يتنافى مع العقل والمنطق.ومن منكم يقدر على أن يثبت أن القرآن لا يتصف بهذه المزايا؟ لقد قيل عن كلمة "تلك" إنها اسم إشارة للبعيد، فكيف جاز استخدامها للإشارة إلى آيات الكتاب، مع أنها ق قريبة وليست ببعيدة؟ وقد أجاب بعضهم عن هذا بقولهم: إن "تلك" هنا إشارة إلى الآيات الواردة في التوراة وغيرها من الكتب السابقة التي تبشر بنزول هذا الكلام المبارك، فقال إن تلك الآيات المبشر بها قد أصبحت الآن جزءا من هذا الكتاب.بمعنى أن تلك

Page 26

الجزء الثالث ۱۹ المبشرات قد تحققت بنزول آيات القرآن.سورة يونس ويرى الآخرون أن الله تعالى كتابًا كاملا يُنزل منه آيات في أوقات مختلفة، وأن "تلك" هنا تشير إلى آيات ذلك الكتاب الكامل الموجود لدى الله سبحانه وتعالى.وقال غيرهم بأن "تلك" كما تشير إلى شيء بعيد بعدا مكانيًا فإنها تُستخدم أيضًا للإشارة إلى ما هو بعيد في الدرجة ،والمكانة وقد وردت هنا للغرض نفسه، أي تعظيمًا وإكبارًا للآيات القرآنية.هذه المعاني كلها صحيحة ولا بأس بها، غير أني أرى أن هناك معنى آخر أيضًا يشبه المعنى الأخير من بين المعاني المذكورة آنفا، ويختلف عنها أيضا من بعض النواحي، وهو كما يلي: يقول الله تعالى في الآية التالية: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ..يعتبره هل يعدون هذا الأمر غريبًا أو مستحيلاً؟ والأمر العجيب أو المستحيل هو ما الإنسان مستبعدًا بقياساته.إذن فكأن الله تعالى يذكر أن الكفار يستبعدون المضامين القرآنية ويعدونها مستحيلة فيقول معرضًا بظنونهم ومزاعمهم: إن تلك الأمور المستبعدة والمستحيلة بزعمكم هي آيات من كتاب محكم..أي أنها ليست عجيبة ولا مستحيلة، بل لا شيء أشدّ يقينًا وتأكيدًا منها فكلمة "تلك" تشير إلى استبعادهم لتلك الأمور.وقد ذكر الله هذا المعنى أيضًا في موضع آخر من القرآن الكريم بقوله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا) (المعارج : ۷-۸).فالإنسان إذا اعتبر الشيء عجيبًا ومستحيلا فكأنه يعتبره بعيدا، لذلك قال الله هنا - نظرا لظنونهم ومزاعمهم- إن ما تستبعدونه بعقولكم هو ليس كذلك، بل قد صار آيات من هذا الكتاب الحكيم، وسوف تتحقق لا محالة.أَكَانَ للنَّاس عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذر النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا

Page 27

الجزء الثالث لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ شرح الكلمات : ۲۰ سورة يونس عَجَبًا: العجب: إنكارُ ما يَردُ عليك استطرافُ الشيء؛ روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء.والعجب من الله الرضا.(الأقرب) رجلا الرجل : خلاف المرأة؛ الكامل في الرجولة.(الأقرب).أوحينا أصل الوحي: الإشارة السريعة (المفردات) وكلمة "الوحي" تطلق على كل الوسائل والطرق التى بها يخبر الله عباده بمشيئته سبحانه وتعالى.وأرى أن الله تعالى قد اختار كلمة الوحي اسما لكلامه لنعلم أن الأمور الروحانية لا يمكن بيانها بصورة كاملة بالكلمات، وإنما يمكن فقط الإشارة إليها.إذن فكلمة "الوحي" في حد ذاتها ترمز إلى رفعة الكلام الإلهي.أنذر : يقال: أنذره بالأمر نَذرًا ونُذرًا ونُذُرًا ونذيرًا: أعلمه وحذره من عواقبه قبل حلوله وأنذره خوفه في إبلاغه، يقال أنذرت القوم سير العدو إليهم فنذروا (الأقرب).قدم: القدم: الرجل؛ السابقة في الأمر خيرا كان أم شرا.يقال: لفلان في كذا قدم صدق أو قدم سوء.والقدمُ: الرجلُ له مرتبةٌ في الخير؛ الشجاع.ووَضَعَ القَدَمَ في عمله أخذ فيه (الأقرب).صدق يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرًا أو باطنا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله تعالى (في مَقْعَد صدق أو أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صدق و وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صدق في الآخرين أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخرج صدق) (المفردات).وقوله تعالى: (وَاجْعَل لِّي لَسَانَ صدق) أن أكسب الثناء ظاهرا وباطنا، أي لا يذكرني الناس بالخير في الظاهر فحسب، بل تبقى أعمالي الحسنة خالدة، فلا يكون مدحهم إياي مدحا كاذبًا أي لا يغالون في حبي فيقعوا في الإشراك بالله.ويعني قوله تعالى: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صدق..أي اجعل دخولي في البلد وخروجي خير

Page 28

الجزء الثالث ۲۱ سورة يونس منه حسنًا في ظاهرهما وباطنهما، بمعنى لا تشوبهما شائبة الجبن أو ضعف الإيمان، وأن تكون عواقبهما طيبة جدا.ساحر السحر كل ما لطف مأخذه ودق الفساد؛ وقيل: السحر، إخراجه في صورة الحق.وإطلاق كلمة السحر على ما يفعله من الحيل حقيقة لغوية، ومنه: إن من البيان لسحراً.(الأقرب) شأن النزول: لقد ذكر المفسرون في شأن نزول هذه الآية أن الكفار قالوا مستهزئين: ألم يجد الله رسولا إلا يتيم أبي طالب؟ فردّ عليهم بهذه الآية وقال: لا غرابة في ذلك.(الكشاف) إن تحديد أسباب النزول أمر يتوقف على الأذواق دون شك، وإلا فإن الآيات القرآنية كانت ستنزل على كل حال.غير أننا ندرك من هذا الحادث التاريخي بأية نظرة كان الكفار ينظرون إلى رسول الله ، وكيف أنهم كانوا يختلقون أفكارًا تافهة مريضة بغية تحقير وازدراء النبي الله لقد كان أبو طالب عما للرسول ، وكفّله بعد وفاة جده عبد المطلب.وما كان دافع الكفار من نسبتهم النبي إلى عمه بدلا من أبيه إلا الازدراء الشنيع، فقالوا: كيف يمكن لشخص فقير رباه غير أبيه أن يُبعث إلينا نبيا من عند الله تعالى؟ أو لم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أبا طالب لم يكن شخصا أجنبيًا بل كان عما للرسول الله ، و إن الأخلاق والمثل العليا لا تحرم أن يتربى الولد في بيت عمه في حالة وفاة أبيه وذلك أن الحياة العائلية إنما قوامها ذلك الميثاق القديم بأن الواحد منا لا بد أن ينوب عن أخيه وقت الشدائد والمحن.أفلا يرون أن النبي ﷺ بنفسه كفل ابن عمه عليا الله.ولو أن أبا طالب مات قبل أخيه عبد الله، تاركا وراءه ولدا، لرباه الأخير في بيته.لقد كان عبد الله والد النبي فقيراً، ولو أن الكفار قصدوا الطعن في فقر النبي ﷺ فقط لحققوا هدفهم هذا بأن ينسبوه إلى والده الفقير ولكنهم كانوا يرمون إلى أكثر من ذلك بقولهم " يتيم أبى طالب".كانوا يريدون القول: أهذا الذي عاش على لفاظات موائد الآخرين جاءنا اليوم ليعدنا بالحكم والملك!؟ التفسير: يستغرب الكفار هنا من نزول الوحي على أحد منهم.وهذا

Page 29

الجزء الثالث ۲۲ سورة يونس الإحساس بالدونية يلازم الشعوب المنهارة والمنحطة المتردية فيرون من المستحيل أن يولد بين ظهرانيهم إنسان ذو شأن عظيم.فكان الكفار قد قنطوا، لترديهم وانهيارهم، لدرجة أنهم ما كانوا ليوقنوا أن الدواء الشافي موجود بين ظهرانيهم.وقد ظنوا أنه يجب أن يأتي أحد من الخارج يداويهم من الأمراض ويحقق لهم الرقي والازدهار.السماء وهذا بالضبط هو حال المسلمين اليوم.يقولون سينزل عيسى الله من لينتزعنا من حضيض المذلة والتخلف، ولكن ليس من الممكن أن يولد بيننا من يقدر على علاجنا من الأمراض فما أشبَهَهم بالأمم السالفة من هذه الناحية! القنوط ذاته والعلاج نفسه!! كان العرب شعبا لا طموح فيهم للرقى القومى، وظنوا أن لا دواء لدائهم اللهم إلا أن يأتيهم غريب لنجدتهم.لذا فقد أخذوا بالدهشة الشديدة عندما أعلن أخ لهم من بينهم أنني أنا الذي سوف أعالجكم من دائكم، وأنا الذي سوف أرتقي بكم، وقالوا: كيف يدعي عمل المستحيل؟ والأمر الثاني الذي حيّرهم هو ادعاء هذا الرسول بأنه مأمور بتحذيرهم أن ينتهوا عما هم فيه من فاسد الأعمال ويتبعوا الشرع الجديد والقوم الذين تكون حالهم هذه يستغربون دائما عندما يقول لهم الرسول: اقضوا على نظامكم الحالي واستبدلوا به هذا النظام الجديد.والحق أن هناك تناقضاً صارخا بين هذين الأمرين اللذين كانا وراء دهشة الكفار.فمن ناحية كان اليأس والقنوط قد بلغ منهم مبلغًا جعلهم يظنون أنه لن يُبعث من بينهم من يشفيهم من الأمراض، ومن ناحية أخرى كانوا يجادلون الرسول ﷺ عندما يحاول تغيير نظامهم الفاسد هكذا تكون حالة الأمم المنهارة لا يريدون أن يضحوا بشيء في سبيل نجاتهم، ولا يحركون ساكنا بأنفسهم، بل ينتظرون أحدا من الغرباء يأتي ليحقق لهم الازدهار والرقي دون أن يغير من نظام حياتهم القائم شيئا.إنهم لا يريدون أن يقاسوا في سبيل التعلم مشقةً وعناء، ولا أن يبذلوا من أجل الرقي جهودًا وتضحيات، ولا أن يتخلوا عن العيوب والمساوئ التي تغمرهم، إنما يقولون: فليأت آت من الخارج ويهلك عدونا لنملك كل شيء.أو لا يفهم هؤلاء أنه لو كان

Page 30

الجزء الثالث من ۲۳ سورة يونس نظامهم الحالي نظامًا صالحا لا عيب فيه، لما وُجدوا في قعر المذلة والهوان.فلا بد إذن القضاء على نظامهم الفاسد هذا قضاءً تاما لتسير الأمور على ما يرام.والأمر الثالث الذي كان يثير استغرابهم هو قول الله تعالى لرسوله: ﴿وَبَشِّرِ آمَنُوا أَنْ لَهُمْ قَدَمَ صدق عندَ رَبِّهِمْ.أي أعلن بين الناس أن الذين سوف يتركون الَّذِينَ أن هذا النظام الفاسد ويتبعون تعاليمي هم الذين سوف يحققون الرقي والازدهار.مع أتباعه (أولاً) : ما كانوا في نظر الكفار أكثر منهم ذكاء وفطنة، وإنما كانوا يعتبرونهم من أراذل القوم، و(ثانيا): كانوا يواجهون معارضة شديدة من قبل القوم الكافرين، وثالثًا) كانوا يدعون عمل المستحيل في رأي الكفار، إذ لا يمكن لقوم أن يحققوا الرقي إلا بثلاث (۱) أن يكون العاملون بينهم ذوي فطنة عالية، (۲) وأن يكونوا متحدين (۳) وأن تكون أهدافهم قابلة للتحقق ولكنَّ الكفار كانوا يعتبرون المسلمين محرومين من هذه المزايا، لذلك كان التعجب يتملكهم فيقولون: كيف سيفوز هؤلاء الضعفاء في مراميهم؟ أنى لهم أن يقضوا على نظامنا القائم، ويأتوا مكانه ظاهرا وباطنا، فيصبحوا ملوكًا وحاكمين، ومـقـربيــــن لدى منه بما هو أفضل الله.وقوله تعالى عندَ رَبِّهم يؤكد ضرورة تحقيق الازدهار بنوعيه: الروحاني والمادي، كما أشار الله به إلى فوزهم الكامل حيث نسبه إلى الله الذي بيده الفوز بكل أنواعه.وقوله إن هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبينٌ).أي قال الكفار عند سماع ذلك: إن صاحبنا يُجيد الكلام أيضًا، حتى يُظهر الباطل في صورة الحق، ويستغل بكل مهارة ضعف الفطرة الإنسانية، فيزرع الخوف في قلوب الضعفاء، ويغري أصحاب الجشع والحرص، لينضموا إليه.هذا الاعتراض نفسه يثيره الكتاب المسيحيون في هذه الأيام؛ فيقولون: إن محمدًا ضم إليه العرب السذج بالتخويف والإغراء.ولكن قول الكفار العرب: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ يكشف زيف اعتراض هؤلاء المسيحيين ويبين أن العرب مع سذاجتهم المزعومة كانوا واعين ومدركين لمثل هذه الأمور، فكيف إذن انطلي عليهم خداع محمد ؟ والحق أن قلوب هؤلاء الطاعنين في رسالة محمد قد شابهت قلوب الكفار

Page 31

الجزء الثالث ٢٤ سورة يونس الأولين، وإلا فأين هو ذلك الدين الذي يعلن من صدق تعاليمي فله الجحيم، ومن كفر بها فله جنات النعيم.الواقع أنه إذا اعتبر الحديث عن الجزاء لمن يقبلون الحق إغراء فلن نجد أية حقيقة ليس فيها إغراء.وماذا عسى أن يقول هؤلاء المسيحيون عن سيدنا المسيح الا الذي وعد تلميذه بطرس بمفاتيح ملكوت السماوات، وأعلن أن كل من لا يتبع تعاليمه سوف يُحرم من دخول ملكوت السماء، وقطع للمؤمنين به وعودًا وبشارات بأنواع الجزاء والإنعام إنجيل متى الإصحاحات ١٤و١٨و ١٩).إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (4) شرح الكلمات : الرب: رب كل شيء: مالكه؛ مستحقه أو صاحبه.رب الشيء: جمعه؛ ملكه؛ رَبَّ القومَ: ساسهم وكان فوقهم.رَبَّ النعمة زادها.ربَّ الأمرَ: أصلحه وأتمه.ربَّ الدهن: طيبه وأجاده.رَبَّ الصبيَّ: ربّاه حتى أدرك.(الأقرب) الله: اسم بارئ الوجود (الأقرب) خَلَقَ : خَلَقَ الأديم: قدَّره قبل أن يقطعه.خلق الشيء: أوجده وأبدعه على غير مثال سبق.خلق الإفك: افتراه.خلق الكلام وغيره: صنعه.خلق الشيء: ملسه ولينه.خلق العود: سواه.(الأقرب) السماوات السماءُ: كلُّ ما علاك فأظلك؛ سقف كل شيء وكل بيت؛ رواقُ البيت؛ ظهر الفرس السحابُ المطرُ ؛ المطرةُ الجيدة؛ العشب.(الأقرب) الأرض: الكرة الأرضية؛ كلُّ ما سفل(الأقرب) أيام اليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ؛ الوقت مطلقًا.(الأقرب) استوى اعتدل؛ واستوى الطعام: نضج.استوى العود من اعوجاج: استقام.

Page 32

الجزء الثالث ۲۵ سورة يونس استوى الرجل: انتهى شبابه وبلغ أَشُدَّه أو أربعين سنة واستقام أمره.استوى على ظهر دابة: استقر.استوى عليه استولى وظهر استوى له وإليه : قصده (الأقرب) عرش: عَرَضَ عرشا: بَنَى بناء من خشب.عرش البيت: بناه.وعَرَضَ الكرم: رفع دواليه على الخشب.العرش سرير الملك؛ العز؛ قوامُ الأمر؛ ركن الشيء؛ وعرش البيت: سقفه الخيمةُ؛ البيتُ الذي يُستظل به؛ شبه بيت من جريد يُجعل فوقه التّمام.(الأقرب) يدبر : دبر الأمر: نظر في عاقبته وتفكر ؛ اعتنى به رتبه ونظمه.دبر الوالي أقطاعه: أحسن سياستها دبَّر الحديث نقله عن غيره.دبَّر على هلاكه: احتال عليه وسعى فيه (الأقرب) الأمر : أَمَرَه طَلَبَ منه إنشاء شيء أو فعله.الأمرُ: طلب إحداث شيء (الأقرب) : إذن: أذِنَ بالشيء: عَلِمَ به.وأذن له في الشيء: أباحه له.(الأقرب) اعبدوا عَبَدَ له عبادةً وعبودية : تألّهَ له.عَبَدَ الله : طاع له وخضع وذل وخدم شرائع دينه ووحده (الأقرب) تذكرون: تذكر الشيء: فطن به بعد ما نسيه (الأقرب) وتذكَّرَ: قَبلَ النصح (التاج) التفسير: من أساليب القرآن أنه إذا نشأ سؤال حول معنى آية ما فإنه يتناول الرد عليه في الآية أو في الآيات التالية، وفي كثير من الأحيان يكون هذا الرد بدون الإشارة إلى السؤال، وهكذا ينشئ القرآن نوعًا من الترابط ما بين أفكار القارئ والمعاني القرآنية، فيشعر القارئ أن القرآن يرد تلقائيًا على كل ما ينشأ في ذهنه من تساؤلات أولاً بأول.والذين يجهلون هذا الأسلوب القرآني يسارعون في مثل هذه المواقف إلى الطعن فيه قائلين بأنه لا ترابط بين آياته ولا ترتيب فيه مع أن الخلل في الحقيقة واقع في تفكيرهم.هم.وهذه الآية أيضًا تتضمن الرد على تساؤل ينشأ من مضمون الآية السابقة.لقد حملت الآية السابقة بشارة للمسلمين أنهم سينعمون بالفوز والغلبة، وذلك في وقت كانوا مهددين فيه بأمنهم وأمانهم في عقر دارهم، وهم صامدون حيال أهل مكة

Page 33

الجزء الثالث ٢٦ سورة يونس جميعًا.فكان بديهيا أن ينشأ التساؤل كيف يمكن أن يزدهروا في مثل هذه الظروف غير المواتية؟ فلا ريب أن جميع هذه الوعود والبشارات بالنصر والازدهار خداع باطل.وقد ثار هذا التساؤل فعلاً في أذهان الكفار، ولهذا ستموا النبي ﷺ ساحرا: أي الذي يأتي بكلام معسول خداعًا للناس.فردّ الله تعالى في هذه الآية على تساؤلهم وقال: ليس ضروريًا أن تكون أسباب النجاح دائما بادية للعيان منذ أول يوم.إن العالم الروحاني مماثل للعالم المادي، ومما لاشك فيه ولا ريب أن خلق السماوات والأرض تم بيد الله.فلو كان ضروريًا لمعرفة صدق الدعوة الإلهية أن تظهر أسباب تحققها فوراً وبصورة كاملة للزم أن يكون خلق السماوات والأرض قد تم في الحال.ولكن الأمر ليس كذلك، وإنما قد خلقها الله على ست مراحل، وكل مرحلة منها كانت تساوي ملايين السنين، كما يكشف لنا ذلك علم طبقات الأرض The) Heavens ص ٤٩.فكما أن اكتمال خلقها بذرات دقيقة غير مرئية وعلى فترة طويلة جدًا لا يمكن أن يُعَدَّ دليلاً على أن الله ليس بخالقها، كذلك هو الأمر بالنسبة للإسلام، فإن أسباب انتصار الإسلام إذا لم تبد جلية منذ البداية فلا أن انتصاره الكامل أمر مشكوك فيه، أو أنه ليس من عند الله.فإن الخلق الإلهي يتم دائما بأسباب تبقى خافية عن أعين الناس.وكلمة يدبر الأمر أيضًا تكشف أن قول الله تعالى كُن فيكون لا يكمل مشاريعه فوراً وفي لمح البصر دون أن يستغرق اكتمالها مدة زمنية.كلا، بل إن أعماله تتم أيضا بالتدبير..بمعنى أنه يأتي بالنتائج المرجوة بتدبير دقيق خفي لأن الله يعني يعني ذلك أنه "التدبير" يعني إحداث تغيير في الأسباب بحيث تأتي النتائج الطبيعية على ما يرام.وأشار بقوله (ما من شفيع إلا بإذنه إلى أن الشخص الواصل بالله تعالى لا يقوم ولا ينبعث بنفسه لإصلاح الناس، ولا يمكن لأحد أن يحوز على هذه الدرجة بنفسه، هو الذي يبعث الأنبياء عند الحاجة.فكيف يمكن إذن ألا يبعث الله الله أحدًا لهداية الناس في هذا العصر المظلم، ويترك عباده في متاهات لا يهتدون؟ هناك أمور في هذه الآية تحتاج إلى مزيد من الشرح، وإليكم تفصيلها: أولاً : قوله تعالى فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).لا يعني "اليوم" هنا اليوم الشمسي المعروف.بل

Page 34

الجزء الثالث ۲۷ سورة يونس فيرى مجاهد وابن حنبل وابن عباس وزيد بن الأرقم أن هذا اليوم يساوي ألف يوم عادي (ابن كثير وروح المعاني، سورة الأعراف فإنهم يرون أن خلقها تم في ستة آلاف سنة.واستدلالهم هذا مبني على قول الله وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفَ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ) (الحج: ٤٨).وكما سبق أن بينت أن "اليوم" يعني الوقت مطلقًا، وهذا هو المعنى المراد به هنا.ذلك أن ظاهرة الليل والنهار إنما تحدث بدوران الأرض حول الشمس، بينما هذه الآية تتحدث عن زمن خلقهما، فما كان الليل والنهار موجودين عندئذ أصلاً، لذلك ليس المراد من "اليوم" هنا إلا الوقت لا اليوم المعروف المتكون من ليل ونهار.فاستدلال هؤلاء العلماء صحيح في حدّ ذاته، ولكن تحديدهم كلمة "اليوم" في مدة ألف سنة ليس بصحيح.ذلك أن القرآن الكريم يخبرنا أيضا: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي كَانَ مقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةِ (المعارج: ٥) أي أن اليوم عند الله يساوي خمسين ألف سنة أيضًا.وهكذا تصبح فترة خلق الكون ٣۰۰ ألف سنة.إنه لا يتحتم على الله أن يحدد لنا طول كل نوع من أيامه، فقد يكون بعض أيامه مساويًا لملايين السنين كما قد يساوي بعضها ألفا أو خمسين ألف سنة.والعلم الحديث يخبرنا أيضا أن خلق السماوات والأرض استغرق ملايين السنين.وهذا ما يؤكده أيضا کشف راه حضرة محيى الدين بن العربي رحمه الله الفتوحات المكية، باب رقم يومٍ.(۳۹۰ فالحق أننا لا نقدر حتى الآن على تحديد هذه الفترة تماماً، وكل ما نستطيع قوله هو إن بعض التطورات الكونية استغرق ألف سنة، وبعضها استغرق خمسين ألف سنة، وبعضها استغرق فترة أطول من هذه أيضًا.الثلاثاء، وأرى لزاما هنا ذكر حديث نبوي فيه بعض التفصيل عن عملية خلق الكون."عن أبي هريرة الله قال : أخذ رسول الله ﷺ بيدي، فقال: خَلَقَ الله وعمل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم الا بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة، فيما بين العصر

Page 35

الجزء الثالث ۲۸ سورة يونس إلى الليل" (مسلم صفات المنافقين ، ومسند أحمد بن حنبل ج ۳ ص ۳۲۷).لقد ورد هذا الحديث في النسائي أيضًا، ولكن برواية رواة آخرين (كتاب الجمعة).ولكن البخاري وبعض المحققين الآخرين يرون أنه ليس مرفوعًا، وإنما رواه أبو هريرة عن كعب الأحبار (ابن كثير).وقد صدق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال ووثق أمر ولادة آدم بعد العصر من يوم الجمعة، وقام بناء على ذلك باستدلال هام الخطبة الإلهامية، الخزائن الروحانية ج ١٦ ص ٢٤٧.وقد ذكرت التوراة خلق العالم كالآتي: كانت روح الله ترف وتمتز على وجه المياه، وقال الله ليكن نور فكان نور ثم فصل الله بين النور والظلمة، فكان هذا يوما واحدًا.ثم خلق الله الفضاء فوق ما بين المياه وسماه سماء، وهذا كان يوما ثانيًا.ثم تجمعت المياه وظهرت اليابسة فصارت أرضًا، وصارت المياه المتجمعة بحارا، ثم أنبت الله عشبا ،وبقلاً، وهذا كان يومًا ثالثًا ثم خلق الشمس والقمر والنجوم، وهذا كان يوما ،رابعا، ثم خلق الزواحف والطيور، وهذا كان يوما خامسًا.ثم خلق البهائم والدواب والحشرات والوحوش، وفي الأخير خلق الله الإنسان على صورته وكان هذا يوما سادسًا (التكوين: ١).وقد شـــــــــــرح الله ل الـ (ستة أيام بقوله : ( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْن وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لا وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى وهي دُحَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اثْتَيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ( فُصِّلَتْ ١٠-١٣).والمراد من قوله تعالى (سَوَاء للسائلينَ) هو أن ردّنا هذا بسيط سهل بحيث يمكن السَّمَاء أن يفهمه أي شخص عادي كما ويطمئن إليه علماء طبقات الأرض.والمراد من قوله تعالى (وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا أنه تعالى أودع كل سماء طاقات وأسبابًا تحقق الغاية من خلقها.

Page 36

الجزء الثالث ۲۹ سورة يونس وكلمة (ثم) الواردة في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُحَانٌ لم تأت لبيان ترتيب الأحداث، وإنما هي بمعنى (واو) البيانية جاءت شرحًا لما ذكر من قبل.ذلك أن المذكور بعدها، وهو السماء، كانت قد خُلقت قبل جعل الرواسي وتقدير الأقوات في الأرض.لقد اعترض البعض قائلين بأن هذه الآية من سورة (فصلت) تذكر أن خلق السماوات والأرض استغرق ثمانية أيام لا ستة خلق الأرض في يومين، وجعل الرواسي والكنوز والأغذية فيها في أربعة أيام، وخلق السماوات السبع في يومين، والمجموع ثمانية.(تفسير الرازي).هي وقد رد عليهم المفسرون بقولهم بأن أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ليست أياما إضافية أخرى، وإنما أربعة بما فيها يومان تم فيهما خلق الأرض، والمراد إن خلق الأرض كان في يومين وجعل الرواسي والأقوات فيها في يومين ومجموعها أربعة أيام (الرازي).هذا الرد من قبل المفسرين وإن كان صحيحًا بالنظر إلى قواعد اللغة العربية، ولكنه لا يستقيم وفقًا لمعاني الآية كما ذكرت آنفًا، فإنها لا تتحدث عن خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وإنما تتحدث عن ست من مدارج الخلق ومراحله حيث ذكرت أن الأرض خُلقت في يومين أي مرحلتين ثم في أربعة أيام أي في مراحل أربع زوّدت بالكفاءات والقدرات اللازمة لحياة الإنسان وبقائه ورقيه فيها.وإن الآية لا تنفي أبدا خلق أي شيء آخر بجانب خلق الأرض وكفاءاتها في هذه الفترة الزمنية الطويلة.أنها خلقت في وقت ما بعد المراحل الست الأولى، بل يعني فخلق السماء في يومين لا أن خلقها على صورة كاملة استغرق مرحلتين ولكنهما لم تكونا كله هو = ذلك المراد من منفصلتين عن المراحل الست وإنما خُلقت في نفس الفترة التي خُلقت فيها الأرض.فالمجموع إذن ست فترات لا ثمان.وإن علم طبقات الأرض أيضا يؤكد على أن خلق تم في فترة واحدة The Heavens.فكانت الأرض والأجرام السماوية كلها تقطع معًا مراحل استكمالها في فترة واحدة، ولا يصح القول إن الأرض خُلقت أولاً ثم جاء دور خلق الأجرام الفلكية أو أنه قد حدث العكس.كلا، بل إن الأمر هو على نحو ما يؤكده القرآن الكريم.إذ إنّه لم يذكر أي فترة منفصلة الكون

Page 37

الجزء الثالث سورة يونس زُوِّدت فيها الأجرام السماوية بقدراتها وكفاءاتها.أما السؤال : كم طالت هذه "الأيام" فأقول في هذا الصدد: إن الله تعالى لم يحدد طولها، لذلك لا نحدده نحن، بل إن كل ما نستطيع أن نفعله هو التخمين بناء على ما ذكره علماء طبقات الأرض من معلومات إن كانت ذات طابع يقيني، أو أن يُري الله عباده كشفا من الكشوف فيأتي بقول سديد بناء على كشف الله سبحانه، وإلا فلا بد لنا من التسليم بأن خلق السماوات والأرض تم في مرحلتين عظيمتين وأن أمر طولهما في علم الله تعالى.أحدا من والحقيقة أن علماء طبقات الأرض والأفلاك يعبّرون عن كل تطور عظيم الشأن مصطلح Period أي "الفترة" (قاموس أوكسفورد الحديث، كلمة Period)، وما يراد "بالفترة" عندهم هو نفس ما أراده القرآن بكلمة "يوم".يتبين من هذه الآية وغيرها أنه قد جرت السُّنَّة الإلهية في خلق الكون أن كل شيء فيه يكتمل بالمرحلة السابعة.يتم خلقه في ست مراحل ويكتمل في المرحلة السابعة.لقد قال الله ل هنا مشيرًا إلى دعوة النبي - إن هذا العالم الروحاني أيضا سيكتمل في سبع مراحل وهذا بالضبط ما قد حدث.ففي المرحلة الأولى من إعلان نبوته كانت حالته أشبه بدخان ليس حوله إلا ظلام وضباب، وبدا وكأن بعثته سوف تضر بالعالم بدلاً من أن تنفعه وسوف تزيده فرقة وحروبا، وكل دعاويه كانت كالدخان حيث لم يبد فيها الثبات.ثم جاءت المرحلة الثانية حينما بدأ هذا الدخان يتقلص وينكمش، وآمن به البعض، وأدرك الناس حقيقة وعظمة دعوته.ثم جاءت المرحلة الثالثة وأخذت التغيرات تعصف في المجتمع، فكما أن الزلازل تحصل في باطن الأرض كذلك كانت الحال في مجتمعه هيجان وفوران.واستمرت هذه الزلازل والمحن طويلا.ثم تلتها فترة رابعة ظهرت فيها جبال الإسلام الرواسي..أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين.فهذه الزلازل هي التي أظهرت هؤلاء الجبال الإسلاميين، ولولاها لما ظهرت مواهبهم وما حازوا تلك الدرجات العلى.

Page 38

۳۱ سورة يونس الجزء الثالث ثم كانت الفترة الخامسة.وكما أن الأرض اكتسبت قابلية لإنبات الخضرة والنبات في مرحلة من مراحل التطور، كذلك اكتسبت التعاليم المحمدية في هذه الفترة خضرة ونضارة، وأحس الناس برونقها وبهائها، وبدأت تنتشر في شتى بقاع الأرض.ثم جاءت الفترة السادسة وكما أن الأرض صارت فيما بعد صالحة لولادة ذوات الحياة عليها، كذلك اكتسب الإسلام في هذه الفترة حيوية وقوة، وتمكن المسلمون من الدفاع عن أنفسهم وردّ هجمات الأعداء.وفي الأخير جاءت الفترة السابعة : أي مرحلة التكميل.فكما أن الإنسان خُلق في آخر مراحل الخلق على الأرض وبدأ يتحكم في العالم كله، كذلك منح الله للإسلام في هذه الفترة الأخيرة قوة وغلبة وأخذت شريعته تطبق وحكمه يستتب.وأشار بقوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ إلى مماثلة أخرى؛ فكما أن الله تعالى استقر على العرش بعد خلق الكون كذلك رجع الله إلى مقام تنزيهي بعد إقامة الإسلام..بمعنى أنه تعالى قد أناط الرُّقي الروحاني بكل أنواعه بإتباع الإسلام وحده، تماما كما بدأت الأمور بعد ما خلق الله الكون تتم آليا بحسب السنن الطبيعية دون أن يُحدث الله فيها أي تغيير مباشر إلا في ظروف غير عادية.وثانيا: قوله تعالى (مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنه وكلمة الشفيع مشتقة من الشفع.يقال : شَفَعَ يشفع شفعًا العددَ والصلاة : صيَّره شَفعًا..أي أضاف إلى الواحد ثانيًا، وأضاف إلى الركعة أخرى، يقال: كان وترا فشفعه بآخر..أي قرنه به.وناقة شافع: في بطنها ولد آخر يتبعها.(الأقرب) = مثلاً أن فلا يجوز يضم فالشفع إذن لا يعني ضم الشيء إلى شيء آخر وإن كان مخالفًا ومغايرا له، وإنما يعني ضم الشيء إلى مثله ومن جنسه.أحد الفرس إلى الناقة فيقول: شفعتُ الناقةَ بالفرس.فإذا أخذنا هذا المعنى بعين الاعتبار تنحل مسألة الشفاعة، ويتأكد خطأ الذين يطعنون فيها قائلين بأن الاعتقاد بشفاعة الرسول ﷺ لأمته يشجع الناس على ارتكاب الإثم وعلى التهاون في عمل الصالحات.كلا، فإن الشافع أو الشفيع إنما يعني الذي يضم إلى نفسه من هو مثله ومن جنسه.فلا تعني الشفاعة أبدًا ضم الآثمين إلى الصالحين، بل إنها تعني أن من ينصبه الله شفيعا سوف

Page 39

الجزء الثالث يجعل من ۳۲ سورة يونس الآثمين صالحين ثم يضمهم إلى جماعات الصلحاء السابقين الكاملين.هذا المعنى ينطبق في هذا العالم.أما المعنى الثاني فهو متعلق بعالم الآخرة.ففي يوم الحكم الإلهي النهائي عند الآخرة سيكون أناس من الأمة صلحاء إلى حد كبير ولكنهم موصومون بتقصيرات بسيطة تحول دون التحاقهم بالصلحاء الكاملين، ولكن رحمة الله سوف تقرر التغاضي عن تقصيراتهم هذه وإلحاقهم بزمرة الصلحاء الكُمَّل لما بذلوه من جهود صادقة مخلصة لاكتمال روحانيتهم، وعندها يتقدم نبي الأمة بإذن الله ، ليشفع لهم عند الله بأن يتفضل عليهم ويتغاضى عن تقصيراتهم البسيطة ويدخلهم في عداد الصلحاء.ولنتذكر جيدا أن الشفاعة مشروطة بإذن إلهي، كما أنه لن يحظى بنعمة هذا الإذن الإلهي إلا من كان مع الصلحاء بقلبه، ومن سعى جاهدًا ليكون منهم، ولكن رغم ذلك لم تنفك بعض العيوب عالقة بــه.فمثل هذا الإنسان لا يمكن أن تشجعه مثل هذه الشفاعة على ارتكاب الذنوب، بل ستحثه أكثر في أن ينال درجة الصلاح الكامل.فلا يجوز إذن – والحال هذه - أن يطعن أحد في مثل هذه الشفاعة.ثالثًا: قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.لقد اختلفوا في العرش الإلهي، فيرى عرش مادي مخلوق، ويقول البعض : لا علم لنا بحقيقته، وكفانا الإيمان به بعضهم أنه فحسب.(روح المعاني) ولقد كتب سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود بحثا مستفيضا لطيفا حول العرش، وقال إنه في الحقيقة اسم للصفات الإلهية التنزيهية (أي التي ينفرد بها الله وحده)، التي هي صفات أزلية أبدية لا تتبدل، وتنكشف من خلال الصفات الإلهية التشبيهية (أي) التي لها شبه وانعكاس في أخلاق الإنسان إلى حد ما، وهذه الأخيرة هي التي تسمى حاملة للعرش، بدليل قوله تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (الحاقة:١٨)..أي سوف يحمل العرش الإلهي يوم القيامة ثمانية أركان.أي أن الصفات الإلهية التنزيهية سوف تتجلى عندئذ عن طريق صفات تشبيهية ثمان كما تتجلى الآن في الدنيا بأربع، وهذه الأربع هي: ربّ العالمين، الرحمن، الرحيم ومالك يوم الدين.(ينبوع المعرفة الخزائن الروحانية ج ٢٣ص٩٨ إلى ٢٧٧)

Page 40

الجزء الثالث ۳۳ سورة يونس وبما أن الصفات الإلهية تنكشف لنا بواسطة الملائكة فلذلك استخدم الضمير (هم) بدلاً من (ها) فقال (فوقهم.وكما أن الملوك يعبرون عن جلالتهم وعظمتهم بالجلوس على العرش، فكذلك تجلت عظمته الحقيقية في كونه صاحب العرش، أي باتصافه بصفات تنزيهيّة لا يشاركه ولا يشابهه فيها الخلق أدنى مشاركة أو مشابهة أبدا.يظن البعض أن العرش شيء مخلوق مادي، وذلك لفهمهم الخاطئ لآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (غافر) (۸) ، ودليلهم أن العرش مادام محمولاً فلا بدَّ أن يكون شيئًا مخلوقا ماديًا.والحق أن استدلالهم غير سليم، لأن "الحمل" لا يراد به دائما حمل الشيء المادي، بل يُستخدم أيضًا لبيان حقيقة الشيء، كقول الله لا إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا) (الأحزاب : ۷۳).والمراد بالأمانة هنا الشريعة، ويعني قوله تعالى ظَلُومًا جَهُولًا أنه كثير الظلم لنفسه وغير مبال بالعواقب وحمله الأمانة إنما يعني أن يعمل بالشريعة، ليظهر بذلك محاسنها للناس.وهكذا فإن حمل العرش يعني هنا بيان حقيقة العرش.ذلك لأنه ليس بوسع الإنسان إدراك الصفات الإلهية التنزيهية اللهم إلا بواسطة الصفات التشبيهية.وهكذا تصبح هذه الأخيرة حاملةً للأولى وتساعد على إدراكها.فنحن نعلم مثلاً أن الله الله جامع لكل المحاسن، ولكن لم يحصل لنا هذا العلم والإدراك إلا من خلال صفاته التي لها علاقة بالإنسان..ككونه ربا، ورحمانًا، ورحيما ومالك يوم الدين، فكلها صفات إلهية، ولكنها صفات متشابهة، إذ يتصف الإنسان أيضا بأخلاق مشابهة لها وإن كان ذلك في نطاق محدود جدًا، كما أن تجليات هذه الصفات الإلهية المتشابهة تكون مؤقتة، لأنها صفات يتجلى بها الله على المخلوق الفاني.ومع ذلك فلولاها لما تيسر لنا في الحقيقة أي إدراك ولو ضئيل بكون الله الجامعا للصفات الحسنة وكامل المحاسن.وهناك آية أخرى يقدمها البعض دليلاً على زعمهم أن العرش مخلوق مادي، وهي

Page 41

الجزء ثالث الله ٣٤ سورة يونس قوله ( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ (المؤمنون: ۸۸).يقولون: رب العرش يعنى خالقه، فالعرش إذا مخلوق مادي.ولنعلم أن ربَّ الشيء لا يعني خالقه فحسب بل يعني صاحبه أيضًا، كما يقولون: رب المال أي صاحبه.فرب العرش يعني صاحبه.فكلمة وَرَبُّ الْعَرْشِ تعني أن الله له صفات تنزيهية كما أن له صفات تشبيهية، وقد أشار إلى التشبيهية منها بذكر خلق السماوات والأرض، كما أشار إلى التنزيهية منها باستوائه على العرش.أما لماذا استخدم "رب" "العرش" بدلاً من "ذو العرش" أو صاحبه؟ فلنعلم أن في ذلك حكمةً أيضًا.إذ يظن بعض الجهال من الفلاسفة أن الله الله علة للعلل فقط، وأن صفاته إنما تصدر بصورة اضطرارية تلقائية، دون أية إرادة منه.فرد الله الله على هؤلاء بإضافة صفاته (أي عرشه إلى صفته "الرب" الدالة على التصرف والسلطان، ليبين أن صفاته لا تصدر أبدًا صدورًا اضطراريًا، وإنما تتجلى كيفما تريد لها إرادته المطلقة ومشيئته الحكيمة.فالحق إن هذا الأسلوب القرآني قد جاء دحضًا لاعتراض خطير، وبيانًا للنظرية الإسلامية في هذا الصدد.والآية الثالثة التي يستدلون بها على كون العرش مخلوقا ماديًا، قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (هود: ٨) يقولون : بما أن العرش على الماء المادي فلا بد أن يكون عرضًا ماديًا مخلوقا.والحق أن الماء هنا ليس ماديا، إذ لم يكن له وجود قبل خلــــق السماوات والأرض، وإنما كان جزءا منها وقد خُلق بعدها ولو أنهم قالوا بأن العرش وضع بشكل مادي على الماء المادي بعد خلق السماوات والأرض، فهذا أيضا لن لأننا لا نرى أي عرش موضوع على الماء بل لا نجد آثارا أو علامات لذلك.إن الله حكيم وقول الحكيم لا يخلو من حكمة فأي جدوى وحكمة من ذكر شيء لا يمت إلينا ،بصلة ولا علاقة لنا به فمثل هذا العرش المزعوم لا يكشف لنا العظمة الإلهية لأن الله الله جعلنا في معزل عن إدراك حقيقته.فلا الماء هنا مادي إذا يستقيم،

Page 42

الجزء الثالث ٣٥ سورة يونس ولا العرش مادي وإنما الحق أنه في لغة الوحي والدين - يعبر بالماء عن كلام الله.فالآية تعني أن العرش الإلهي موضوع على الكلام الإلهي بمعنى أن العظمة الإلهية أكبر وأسمى من أن يُدركها العقل الإنساني، إلا أنه يستطيع إدراكها إلى حد ما عندما تأخذ صفات الله التنزيهية – من خلال كلامه ووحيه – طابع المماثلة والتشابه.ومن أجل ذلك أردف ذلك بقوله: (ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ.والعلاقة بين الوحي والصفات الإلهية التشبيهيّة وبين أعمال الإنسان لواضحة بينة، ولكن من ذا الذي بإمكانه أن أن يزعم عرشا ماديا غير مرئي موضوعا على الماء المادي يلعب أي دور في كون أعمالنا حسنة أو سيئة، أو يزعم أن مثل هذا البيان يعود علينا بأي نفع.ثم إنه لزعم يرفضه العقل والمنطق السليم أيضا، إذ إنه لمما يتعارض مع العقل تماما أن الله تعالى بعد أن خلق السماوات والأرض احتاج إلى عرش مادي! كلا، بل إن الإله الذي قدر منذ الأزل على أن يحكم الكون دون أي عرش مادي كان بإمكانه أن يحكمه أيضا في المستقبل دون أي احتياج للعرش المادي.ولو أنهم قالوا بأنه تعالى يتبوأ هذا العرش المادي إظهارا لجلاله وجبروته وعظمته هذا الغرض إذا كان هناك شيء يستطيع الإنسان رؤيته، وما دام العرش لقلنا: إنما يتم المزعوم غير مرئي، ولا يُرى له أثر ولا معالم، فكيف يتحقق الهدف المنشود إذا؟ ومما يدل على أن العرش هنا يعني الصفات الإلهية التنزيهية قولُ الله تعالى ﴿لا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون: (۱۱۷) إذ يتبين من الآية أن للعرش الكريم علاقة خاصة بما يُثبت توحيد البارئ تعالى وبديهي أن الدليل الحقيقي الحيوي على توحيد البارئ إنما يتمثل في صفاته التنزيهية، ذلك أن صفات الله التشبيهيه يشاركه ويشابهه فيها أيضا المخلوق ولو إلى حد ما، ولذلك نجد ذوي العقول الساذجة يعانون معاناة شديدةً في فهم قضية توحيده سبحانه وتعالى.إِلَيْه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ الله حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ

Page 43

الجزء الثالث ٣٦ سورة يونس شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ شرح الكلمات : :مرجع رجع الرجل يرجع رجوعا ومرجعا انصرف (الأقرب ) يبدأ : بَدَأَ بالشيء: افتتحه.بدأ بفلان قدّمه.بدأ الشيء: أخذ فيه؛ أو قدمه في بدأ الشيء: أنشأه واخترعه بدأ الله تعالى الخلق خلقهم.بدأ من أرضه خرج الفعل.منها وتغرب الأقرب).الخلق الفطرة الناس.(الأقرب).والخلق المخلوق (المفردات).يعيد: أعاده إلى مكانه أرجعه أعاد الكلام كرره.يقال: فلان لا يعيد ولا يُبدئ إذا لم تكن له حيلة (الأقرب) الصالحات: منْ صَلَحَ الشيءُ يَصلُح : : ضد فسد؛ أو زال عنه الفساد.(الأقرب) القسط: القسط بالكسر : العَدلُ، وهو من المصادر التي يوصف بها كالعدل، يقال:رجل قسط.يستوي فيه الواحد والجميع.والعدل: الحصة والنصيب؛ مكيال يسع نصف صاع (الأقرب ) شراب: كل ما يُشرب من المائعات أي الذي لا يتأتى فيه المضغ، حلالا كان أو حراما.( الأقرب ) حميم الحميم: القريب الذي تهتم بأمره؛ الصديق، والجمع أحماء.والحميم: الماء البارد عكس الماء الحار، والجمع حمائم.والحميمُ أيضا: القيظ؛ المطر الذي يأتي بعد اشتداد الحر؛ العرق.( الأقرب).التفسير: وقوله تعالى: وَعْدَ الله تقديره : وعدكم الله وعدًا حقا.ينبه الله تعالى في الآية على ألا يغتر الإنسان بالحرية التي يتمتع بها في الظاهر، إذ لا مناص له من الامتثال أمام الله ، في آخر المطاف.كما بين فيها أن أنبياء الله سيفوزون في آخر الأمر، ذلك أن الله قد خلق الإنسان ليحظى بقربه جل شأنه كما صرح بذلك قائلاً: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا ليَعْبُدُون (الذاريات : (٥٧)..أي ليصبحوا عبادا لي أنا وحدي.وإلى هذه الحقيقة

Page 44

الجزء الثالث ۳۷ سورة يونس يشير بقوله هنا وَعْدًا عَلَيْه حَقًّا، ويعلن أن كل هؤلاء الأناس المؤمنين سيتمتعون في النهاية بقربي ووصالي، وهكذا سوف تتحقق الغاية الحقيقية من بعث الأنبياء.ولقوله تعالى (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ مفهومان أيضا: مفهوم دنيوي ومفهوم أخروي.والمفهوم الأول هو أنه تعالى سوف يعيد الإنسان بعد الموت إلى الحياة مرة أخرى.والمفهوم الثاني هو أنه تعالى لا ينفك يخلق أناسًا جددًا يحفظون جهود الصلحاء الأوائل من الضياع.ذلك أن أحدًا لو قام بعمل خير دون أن يخلفه أحد فمن ذا الذي سينتفع من عمله هذا.لذلك أكد الله على أنه لا يزال يخلق خلقا جديدا، وهكذا ينتفع اللاحقون بما فعله السابقون.وقوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يحتوي على سر عظيم للازدهار الفردي والقومي على سواء.لقد فسروا عموماً "العمل الصالح" بمعنى "العمل الحسن" ولكن ليس هذا هو الواقع، بل معناه العمل الحسن الملائم للموقف".فليس مثلاً من الصلاح أن في شيء يصوم أحد حين خروجه لقتال العدو إن الصيام عمل حسن لا شك في ذلك، ولكنّه لا يكون عملاً صالحاً في موقف يتطلب الخروج لملاقاة العدو، ولذلك قال النبي في إحدى الغزوات: ذهب" المفطرون اليوم بالأجر" (البخاري-كتاب الجهاد)، ذلك لأن الذين صاموا لم يعملوا شيئا وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب ونصبوا الخيام.والحق أن الازدهار، سواء الفردي أو القومي، لا يتحقق أبدا بالعمل الحسن وحده، وإنما بالعمل الصالح.ولكنّ المسلمين المتأخرين نَسَوا هذا السر، فكانت النتيجة أنه لما كان الإسلام بأمس الحاجة إلى جهاد عقلي كبير من قبل أتباعه رأى زعماؤهم الدينيون الكفاية في جلوسهم على السجاجيد، قابعين في البيوت، محركين حبات المسابح، متغافلين عن القيام بما لابد منه لتحقيق الرقي القومي.لقد كان من واجبهم عندئذ أن يسعوا لخلق القوة العملية في المسلمين، وإصلاح أخلاقهم، وحثهم على تحصيل العلوم الجديدة، وعلى توحيد خط عملهم.ولكنهم لم يؤدُّوا واجبهم هذا، فلم تغن صلواتهم ولا صيامهم عن الإسلام شيئًا، كما ولم تنج المسلمين من الهلاك والدمار.ذلك أن الله أناط وعد الفوز بالأعمال الصالحة، ولكن أعمال هؤلاء

Page 45

الجزء الثالث ۳۸ سورة يونس الزعماء، وإن كانت ضمن ما يأمر به الدين، إلا أنها ما كانت ملائمة للظروف والأحوال.فبما أنهم خالفوا بذلك القانون الإلهي تضرروا هم بأنفسهم كما وأساءوا إلى باقي المسلمين.هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات: ضياء: الضوء أشد من النور في اللغة العربية، فقد جاء: الضوء لما هو بالذات كالشمس والنار، والنور لما هو بالعرض والاكتساب من الغير والضياء: مصدر ضاء؛ وقيل: الضياء جمع ضوء كسوط وسياط.(الأقرب) نورا علاوة على ما ذكر أعلاه من معان للنور فهناك معان أخرى له، فقد ورد: النور: الضوء أيا كان وهو خلاف الظلمة؛ أو شعاعُه (أي شعاع الضوء)؛ المنوِّرُ كقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ ؛ الذي يُبيِّن الأشياء؛ لقب النبي ﷺ الوسم، يقال: ما به نورٌ..أي وسمٌ (وبهاء) (الأقرب) وفي بلادنا أيضا يقولون في المعنى الأخير: فلان في وجهه نور..أي آثار بركة وشرف.فقوله تعالى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا يعني جعلها ذات ضياء، وجعله ذا نور.قدر: قدّر هنا بمعنى قدّر له أي قدر للشمس والقمر منازل (روح المعاني).وقدر: صيّر وجعل، فالمعنى: جعل كلاً من الشمس والقمر ذا منازل، لأن الضمير (هـ) في (قدره) يرجع إلى الشمس وإلى القمر أيضًا.والواقع أن الشمس أيضًا في حركة مستمرة، وإن لم تكن تتحرك حول الأرض كما كان القدماء يعتقدون.فقد أكدت البحوث العلمية أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، مع تأكيد العلماء على أن الشمس أيضًا في حركة مستمرة مع كواكبها ضمن إطار مقدر محسوب، وأن الجزم

Page 46

الجزء الثالث ۳۹ سورة يونس في تحديد طول هذه الحركة الشمسية أمر غيرُ يسير، فقد يكون مسار هذه الحركة طويلاً جدًا بحيث لن يقدروا تخمين مدتها ولا حتى في ملايين السنين.يفصل: فَصَّلَ الشيء: جعله فصولاً متمايزةً فصل الكلام: بينه.وفصل: ضِدُّ أَجَمَلَ (الأقرب).أن ،، وهو اللطف، ނ عة حر التفسير : لقد ذكر الله في قوله لتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسَابَ أمرًا غاية في ركة شيء ما تُعرف فقط بقانون النسبة بين الشيء المتحرك وما حوله من الأشياء وعلى سبيل المثال، إذا كنا مسافرين في قطار سريع تكون الأشياء حولنا في العربة متحركة أيضًا معنا بالسرعة نفسها في حين أننا لا نشعر بحركتها، ويُخيل إلينا وكأننا واقفون في نفس المكان.وهذا يعني أن كيفية الحركة وسرعتها إنما تُعرف بالنسبة ولولا هذا الفارق النسبي لما عرفنا كيفية الحركة.وهذا ما يعلمنا الله الله بقوله هذا، إننا إنما حددنا للشمس والقمر منازل ليتيسر لكم العلم بعدد السنين والحساب..بمعنى أن تدركوا وتشعروا برؤية حركة هذه الأجرام خارج الكرة الأرضية أنه قد مضى عليكم ،زمان ولستم حيث كنتم من قبل.فلولا هذا الفارق، أي لولا وجود جرم فلكي متحرك آخر خارج الأرض نراه مرةً في موضع وتارةً في موضع آخر، لما تولد فينا إحساس بما يسمى بالزمن أو الوقت.ثم لولا حركة تلك الكرة بحسب قانون طبيعي معين، أو لولا دوران أجرام أخرى حولها طبقا لنواميس محددة لاستحال علينا تقسيم هذا الإحساس بالوقت بمقادير معينة.فعلم التاريخ والحساب إذن منوط كله بهذين الكوكبين الشمس والقمر.أحدهما يدور بنفسه، والآخر يدور حوله أجرام أخرى القمر يدور حول الكرة الأرضية فيمكننا بحركته من تقدير الأسابيع والشهور، وأما الشمس فتدور الأرض حولها محاذية لها، فنقدر بذلك الأيام والسنين.كما أن علم الحساب أيضا ذو علاقة وثيقة جدا بحركة الأجرام السماوية.وبذكر "السنين والحساب" نبهنا الله تعالى إلى أمر روحاني لطيف ذلك أن السنين تساعد على معرفة مقدار الجهود المبذولة، وأما الحساب فيساعد على معرفة النتائج.فكل عمل يُعرف نجاحه وفشله بطريقتين : كم بذل فيه من جهود، وما هي النتيجة،

Page 47

الجزء الثالث ٤٠ سورة يونس وبدون هذين الأمرين لا يمكن معرفة نجاح أو فشل الناس في أعمالهم.فهناك مثلاً شخص ينسج ثوبًا في سنة، بينما ينسجه غيره في ساعتين فقط.ذلك أن الأول ومعنى لا يمكن أن يبلغ شأو الثاني.فثبت أن نجاح أحد أو فشله في العمل إنما يُعرف بالنظر إلى ما يوجد جد بين الجهود والنتائج من نسبة.وكلّ من الأمرين ذو علاقة وثيقة بالشمس والقمر كما مرّ آنفًا.وكما أن هذين الجرمين الماديين يساعدان على علم السنين والحساب في العالم المادي، فكذلك هناك شموس وأقمار تمكننا من معرفة السنوات والحسابات الروحانية بمعنى أنه عن طريق هؤلاء يتولد لدى الناس شعور بالجهود والنتائج ويدركون قيمة الوقت فيما يتعلق بالأمور الروحانية.والحق أنه بدون الأنبياء عليهم السلام لا يمكن أبدا أن يتولد شعور حقيقي بالعالم الديني، بل يبقى الناس في غفلة عن الروحانية ومقاييسها تماما، كما هو الوضع في العالم المادي حيث يستحيل على أهله الشعور بقيمة الوقت ومعرفة مقاديره دون الشمس والقمر.انظروا إلى حال منظفي المراحيض أو غيرهم من الطبقات الدنيا كيف انمحى في نفوسهم الإحساس بغاية الخلق الإنساني كلية يعيشون هكذا أراذل منذ آلاف السنين.ليس أي إحساس بالرقي المادي، ناهيك عن الإحساس بالرقي الروحاني.فإذا قيل لهم: لماذا تعيشون؟ قالوا: هذا هو قدرنا وكأنهم يعيشون تحت تأثير ليلة مظلمة لا نهاية لها غافلين نائمين.لديهم فالحق أن الأنبياء هم بمثابة الشموس والأقمار للدنيا يكشفون لأهلها عما يكمن في الفطرة الإنسانية من قدرات وكفاءات هائلة للرقي والتطور.وعلى أيديهم يتلقى الناس علوم العالم الروحاني ويقفون على درجات الرقي الروحاني، فيبذلون الجهود لنيلها ويجنون الثمار.أما بدونهم فلا يقدر أهل الدنيا على تحقيق أي رقي روحاني أبدا.وقوله تعالى إلا بالحق أنه لم يخلق السماوات والأرض عبثا دون غاية.فلم يعني • في القارة الهندية هناك طبقة من الناس لا عمل لهم منذ آلاف السنين إلا تنظيف مراحيض الناس.(الناشر)

Page 48

الجزء الثالث ٤١ سورة يونس يدفعه فضول لخلق جرم تلو جرم دون جدوى أو غاية، وإنما خلق كل هذا لهدف عظيم.فلزم إذن وجود شمس روحانية كما أن هناك شمسا مادية.والمراد من قوله تعالى (يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أنه يبين ويشرح آياته، ولكن لا يمكن أن ينتفع بها إلا الذين يعلمون هذا النظام ويعرفون منازل الشمس والقمر، لأن الذي يجهل هذه التغيرات والاختلافات كيف يتأتى له العلم بعدد السنين والحساب؟ فالقاعدة أن الإنسان لا يستطيع الانتفاع بشيء يجهله.كذلك لا يستفيد في العالم الروحاني أيضًا إلا الذي يحصل العلوم الروحانية ويتدبر في حقيقتها.إن في اختِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ) شرح الكلمات : اختلاف اختلف القومُ: ضدُّ اتفقوا؛ اختلف زيد عمراً: كان خليفته.(الأقرب) فاختلاف الليل والنهار يعني حدوث كل واحد منهما بعد الآخر.التفسير : قال في الآية السابقة يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفي هذه قال تعالى لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)، وهذا الفرق في اختيار الكلمات يرجع إلى أن إدراك منازل الشمس والقمر يتطلب علمًا خاصا ولا ينتفع به إلا علماء هذا المجال، ولذلك قال يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).أما اختلاف الليل والنهار فظاهرة يعرفها كل واحد حتى منظفو المراحيض هؤلاء أيضا، ولكن الانتفاع بما يتوقف على التقوى، وإنما المتقي هو الذي ينتفع من ذلك.ولهذا قال: لآيات لقَوْم يَتَّقُونَ إذ بين بذلك أن كلاً الليل والنهار نافع مفيد، وأن اختلافهما مستمر على الدوام، وأن هذه هي الحال بالنسبة للأمم والشعوب أيضًا.فتارةً يأتي عليهم زمان مظلم كالليل الدامس،.وطوراً يلجون زمانًا مشرقا كالنهار والأمة التي يخيم عليها الليل دائما لا يمكن لها أن تتقدم وتزدهر، كما أنه ليس من سنة الله أن تتمتع أمة ما بالنهار دوما، ذلك أن

Page 49

الجزء الثالث ٤٢ سورة يونس أعمال الناس لا تكون دائمًا على مستوى ،واحد بل كلما مرّ عليهم الزمن واتسعت الثقة الزمنية بينهم وبين نبيهم أسدلت عليهم الظلمات ،ستارها، تماما كما يخيم عليهم الليل كلما ابتعدوا عن الشمس المادية، مع أنها موجودة لم تزل من مكانها.ألا فينبغي تغتر أمة بظاهرة الليل والنهار فتظن أن كليهما قادم لا محالة.إن الرقي والانحطاط ظاهرة لا مناص منها للأمم في العالم الروحاني ومع ذلك يتحتم عليهم أن يبذلوا المساعي ليتخلصوا من الانحطاط ويحققوا الرقي.فمن الخطأ أن يترك الإنسان الكفاح والنضال لاستعادة الحياة لشعبه ظنًا منه أن الليل أمر طبيعي وسيزول تلقائيا لا محالة.كلا، بل إن المتقين إذا رأوا الليل جدّوا في الكفاح حتى تطلع الشمس على شعوبهم.والنبي أيضًا عندما يُبعث، يرفع النداء قائلاً: افتحوا أبوابكم ودَعُوا الشمس تشرق عليكم، ولا تكتفوا بالقول بأن الانحطاط أمر يلازم الأمم دائما.وكأن الله يقول هنا: الكسب والسعي يختصان بالنهار كما صرح بذلك في قوله تعالى ﴿وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) (الأنعام: (٦١).أي لاشك أن الليل أمر طبيعي وذو نفع للناس، ولكن لا يمكن الانتفاع بما خلق الله في السماوات والأرض بدون النهار.ثم إن معظم أعمال الإنسان ومكاسبه من زراعة وتجارة وغيرهما تتم بالنهار أيضًا.وهذا النهار يتولد من الشمس.فيا من يخاطبهم هذا الرسولُ عليكم بإنشاء صلة بهذه الشمس الروحانية المتمثلة بشخص محمد ﷺ کي يبزغ على شعبكم النهار ويزول عنهم الليل، أما بدون الاتصال بهذه الشمس فلن يتحقق لكم ذلك أبدا.دو إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) شرح الكلمات:

Page 50

الجزء الثالث ٤٣ سورة يونس يرجون: رجا الشيء: أمل به؛ خافه.(الأقرب) لقاء: لَقِيَ يلقى ولاقى يلاقي لقاء: استقبله؛ رآه.ولاقى يلاقي لقاء: قابله.وفي كتاب "المغرب" : قد غلب اللقاء في الحرب.(الأقرب) اطمأنوا اطمأن إلى كذا سكن وأمن له.(الأقرب) مأوى: المأوى مصدر أوى يأوي أوى إلى كذا انضم إليه؛ اسم للمكان الذي يأوي إليه (المفردات) يكسبون: كسب الشيء: جمعه.كسب الإثم: تحمّله.وكسب مالاً وعلما: طلبه وربحه.(الأقرب) التفسير: إنه لمن مزايا وكمالات القرآن الكريم أنه يستخدم كلمات وجيزة ذات معان واسعة جدًا.وبما أن اللغة العربية تُسهم كثيرًا في تحقيق هذا الغرض فمن أجل ذلك شرفها الله لتكون لغة القرآن الكريم.انظروا إلى هذه الآية التي نحن بصددها فإنها توجز أسباب وقوع الكافرين في العذاب إذ يقول تعالى لا يَرْجُونَ لقَاءنَا.وقد سبق في شرح الكلمات أن "الرجاء" له معنيان: الأمل والخوف.وكذلك للقاء مفهومان: استقبال الشخص شوقًا وحفاوة؛ أو مقابلة الشخص قتالاً وحربًا.والذي يمعن النظر في الفطرة الإنسانية يجد أن الرقي الإنساني بكل صنوفه منوط إما بالخوف أو الرجاء، وأن العمل الكامل الخالص إنما يحصل إما خوفًا أو رجاء.فبعضهم يعملون آملين في مقابل وجزاء، وبعضهم يعملون خائفين من أذىً وعقاب.وقد خاطب القرآن الكريم بجملة وجيزة الفطرة الإنسانية بنوعيها.فقال للفطرة الراجية الآملة: يا من تعملين رجاء في مقابل تتقاضينه، لماذا لا تجدين الأمل والشوق للقائنا، فتعملين بما يتطلبه هذا الأمر.إذا فقدت الأمل فسوف تقعين في هوة سحيقة من التأخر والتخلف، بدلاً التقدم والازدهار.وبالكلمات نفسها وفي الوقت نفسه يخاطب الفطرة الخائفة قائلا: يا من تعملين خوفًا من أذى تتوقعينه، لماذا لا تجدين في العمل الطيب خشية عقابي لكي تفوزي بالنجاة؛ فأنت أمام محن وبلايا تفوق تحملك.وهذه عظمة القرآن فباستخدام كلمة وجيزة شفي غليل الفطرة الراجية والفطرة الخائفة هي معا.

Page 51

الجزء الثالث ٤٤ سورة يونس وبقوله تعالى (رَضُواْ بالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُواْ بها يوضح وجهة النظر الإسلامية حول الرقي المادي.فالإسلام لا ينهى عن الرقي المادي، وإنما يُحذر من: (أولاً): أن يرى الإنسان الكفاية في المكاسب الدنيوية فقط، ويخلو قلبه من حب الله.(ثانيا): أن يكف عن التفكير في أي رقي روحاني بعد أن نال الرقي المادي، ويسكن للدنيا ويتوقف عندها.وقد سبق أن شرحنا أن الاطمئنان الوارد في الآية يعني السكون وترك الحركة.فالمطمئن من ظن أنه قد نال بغيته المطلوبة ووصل إلى غايته المنشودة، فيتوقف عن التقدم إلى الأمام، ويتقاعس عن السعي لمزيد من الرقي راضيا بما ناله.الواقع أن الرضا صنفان أولهما أن يرضى الإنسان بما نال، مع طموحه وسعيه إلى كسب المزيد، والثاني أن يرضى بما كسب دون التفكير في السعي للمزيد.وهذا النوع من الرضا هو الذي شجبه الله له هنا بقوله: ﴿رَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُواْ بها ، فقال : إن الذي يطمئن ويرضى بما كسب من متع الدنيا، متغافلاً عنا، متناسيا الرقي الروحاني الذي ينفعه في الآخرة فهو الملام والمجرم عندنا، ولا بأس بمن يحقق الرقي المادي دون أن يصاب بهذه العيوب.ذلك أن الترقيات المادية من نعم أيضا، فهو الذي علمنا بنفسه الدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةٌ وَقنَا عَذَابَ النَّار، فالرقي المادي الذي يساعد المؤمن على الرقي الروحاني هو من النعم الإلهية، والدعاء لإحرازه من واجبات الإنسان.وقد زاد الموضوع إيضاحاً في الجملة التالية حيث قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)، إذ بيَّن أن هؤلاء الذين يجلبون عليهم سخطنا هم ممن ينهمكون في الدنيا بحيث يبدءون في ازدراء كلام الله واحتقار رسله وشرائعه، ويتعامون عنها، وهكذا يغلقون في وجوههم أبواب الهداية.ذلك أن صدأ قلوبهم إنما يزول بالهداية الإلهية، ولكنهم يزعمون أنهم أسمى من أن يتبعوها وبالتالي لا يبقى أي أمل في اهتدائهم في المستقبل أيضا.الله الله وهناك أمر آخر جدير بالذكر هنا وهو أن الله تعالى قد ألقى هنا الضوء بأسلوب رائع لطيف على حقيقة الإثم وعقابه، حيث بين أن الإثم الحقيقي الذي يعاقب عليه الإنسان هو "ما يكسبه".وكما سبق في شرح الكلمات فإن "الكسب" يعني إتيان

Page 52

الجزء الثالث ٤٥ سورة يونس الأمر عمدا وقصدًا، وجمع الشيء أيضا.فأشار باستخدام كلمة يكسبون إلى أمرين: الأول: أن الآثم من يتهافت على قذارة المعصية عمدًا وقصدًا، أما إذا صدرت عن الإنسان سيئة ما خطأ أو نسيانا فلن تُعد إنما في الحقيقة، ولن يُعتبر مرتكبها آثما حقيقيًا في مصطلح الشرع الإسلامي.والثاني: يلزم لاعتبار الشخص أنما حقيقيًا أن يجمع الإثم أي أن يرتكبه على التوالي والتواتر، أما إذا لم يرتكبه بشكل متتال ومتواتر وإنما صدرت منه المعصية-ولو عمدا ولكنه بادر إلى إبداء الندامة والتوبة عنها وتركها فلن يكون هو أيضا من الآثمين.ذلك أن "الكسب" يتضمن معنى الجمع والتواتر، وبناء على ذلك فإنما الآثم المستوجب للعقوبة في الشرع الإسلامي هو من ارتكب الجريمة عمدًا وأصر على ارتكابها غير تائب عنها.وقد شرح الله الله هذا الأمر في آية أخرى أيضا إذ قال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْم وَالْفَوَاحِشَ إِلا المَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسْعُ الْمَغْفِرَة) (النجم: ٣٣) أي سوف يصفح الذين يجتنبون المعاصى الكبيرة والعيوب الواضحة الفاضحة، اللهم إلا أن يقعوا فيها آنها - هو المكان مرة ثم يقلعوا عنها نهائيا، فان ربك لذو مغفرة واسعة.وأما العقوبة فقال عنها: مَأْوَاهُمُ النَّارُ، والمأوى - كما الذي يلوذ به الإنسان.ويتعجب المرء كيف أن الله تعالى يسمي النار هنا مكانًا يلوذ به هؤلاء العصاة، ولكنه يُدرك بقليل من التدبر أن الله تعالى قد وضح بهذه التسمية حقيقة العقوبة الإلهية.فإن عقاب الله لا يهدف في الواقع إلى إيذاء العاصي وإنما إلى علاجه وشفائه.وكما أن الإنسان يكره في بداية الأمر الأذى الذي يصيبه عند العلاج ولكنه يرغم نفسه على تحمله وقبوله حينما يدرك أن هذا خير له في عاقبة أمره، كذلك حقيقة العذاب الإلهي عندما تنكشف على العصاة تماما فسوف يعتبرون النار التي يُلقون فيها مأوى لهم: أي ملاذا ومنجى من العذاب الحقيقي الذي هو سخط الله والحرمان من قربه سبحانه وتعالى.فباستخدام "المأوى" صرّح أن العقاب الإلهي ليس للإيذاء وإنما هو وسيلة للتطهير، وهو الوسيلة الوحيدة لتطهير العصاة ونجاتهم.

Page 53

الجزء الثالث سورة يونس وقد أطلق على عذاب الآخرة اسم النار أيضا لأن العالم مجموعة لنوعين من الظواهر نوري وناري فالتعلق بالله تعالى يهدي الإنسان إلى النور الذي يجلب له الفرحة وقرة العين، وأما التهافت على الدنيا فيدفعه إلى النار.وبما أن السيئة تؤدي إلى النار لذلك أُعد لمرتكبها مكان مشابة لها.° دوه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (3) شرح الكلمات 6 تحت: "تحت" مقابل لفَوْق.و "تحت" يُستعمل في المنفصل، و"أسفل" في المتصل، يقال : المال ،تحته وأسفله أغلظ من أعلاه (المفردات) وقد يُستعمل "تحت" بمعنى أسفل.والتحوتُ: أراذل الناس والأتباع والخدم.وفي الحديث: "لا تقوم الساعة حتى يظهر التحوت" (كنز العمال القيامة.أي لن تقوم القيامة حتى يتقوى الفقراء والعمال ويستولوا على الحكومات.وزمن اقتراب القيامة هو زمن المسيح الموعود العلي فالحديث يشير إلى الحركة البولشوفيكية، ومعناه أنه لن يظهر المسيح الموعود إلا عندما يتغلب العمال وأصحاب الحرف على الرأسماليين ويستولون على الحكم ويصبحون ملوكًا وحكامًا.ونظراً إلى هذا المعنى فإن قوله تعالى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يعني أن تلك الأنهار سوف تكون ملكا لهم وتحت تصرفهم، لأن أعمالهم كانت أيضا من عندهم.فلن يضايقهم فيها أحد كما يحدث في هذه الدنيا حيث يسلب موظفو مصلحة الري أصحاب الأراضي مثلاً، أو يحبون منهم الضرائب للحكومة.كلا، بل ستكون هذه الأنهار ملگا لهم.النَّعيم: يقولون عموما عن كلمة النعيم بأنها جمع نعمة، وهذا خطأ، وإنما معناها: العطية؛ (الأقرب) والنعيم أيضًا: النعمة الكثيرة (المفردات).

Page 54

الجزء الثالث ٤٧ سورة يونس التفسير : لقد بين الله هنا أن الهداية الحقيقية إنما تُكتسب بالإيمان، وأن العمل وحده لا يجدي فتيلا إذا لم يصلح القلب معه.فلو كان أحد عازما على السرقة مثلاً دون أن يتمكن منها فإنه لن يُعد أمينا.كذلك لو خاف أحد في الحق غير الله فإنه وإن لم يسجد لهذا المخوف سجودًا ظاهريًا فلن يُعَدَّ من الموحدين الصادقين.هناك بعض الجهلة الذين يزعمون أن الإسلام لا يؤيد ولا يحض على الأعمال الصالحة، وإنما يرى الكفاية في التركيز على الإيمان هذا ليس صحيحا أبدا.إن ما يؤكد عليه الإسلام هو أنه يجب على المرء- إلى جانب العمل- تزكية القلب وتطهيره أيضا.إذا لم يكن المرء ذا قلب طاهر ولا يتفق باطنه مع عمله الظاهر فلن يجديه الإيمان وأي عاقل هذا الذي يرفض الحقيقة الناصعة أن الطهارة الحقيقية إنما هي طهارة القلوب والأفكار.إذا تطهر القلب وصفا فمن المحال ألا تتبعه الأعمال.يمكن أن يأتي المرء بأعمال تتعارض مع ما في قلبه من عقيدة خوفا من الناس ولكن لا يمكن أبدا أن يغير ما في قلبه من أفكار وعقائد خشية منهم، إذ لا قدرة ولا سلطان لأحد على ما في قلوب الآخرين، بل إن القلوب أسمى وأعتى من أن يسخرها أحد وإن كان من الجبابرة الطغاة.ومن أجل ذلك أناط الله سبحانه وتعالى نجاة الإنسان بالشيء الذي تحت تصرفه وسلطانه هو وحده ولا أحد يمكن أن يتدخل فيه.وأشار بقوله بإيمانهم أيضا إلى أن الجزاء يكون بحسب الإيمان بمعنى أنه من الممكن أن يتساوى اثنان في العمل الظاهر، ولكنهما يتفاوتان في نيل الجزاء نظرا لما في القلوب من إخلاص وحب للعمل.وهذه حكمة عظيمة.وقد قال النبي لأصحابه عن أبي بكر الله إنه يفضل عليكم لما في قلبه.كما نجد في الدنيا أيضا أن البعض يكون أكثر صوما وصلاة من غيره، ولكن هذا الأخير يكون أوسع منه موردا للأفضال الإلهية.وإن مرجع ذلك إلى ما في القلب.فالذي يكون أكثر طهارة وأصدق إخلاصا ينال أجرًا أكبر على عمل أقل في الظاهر.ذلك أن أعماله كلها تصبح في الواقع عبادةً الله تعالى، لأن أعماله الدنيوية في الظاهر تكون أيضا من أجل الله تعالى، ولأن الشفقة على خلق الله تكون هي الدافع وراء كل حركة وعمل منه.

Page 55

الجزء الثالث ΕΛ سورة يونس دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ شرح الكلمات : دعوى: الدعوى تأتي بمعنى النداء يقال: دعاه دعاء و دعوى: ناداه (الأقرب).تحية: التحية السلام يقال حياه تحية سلّم عليه بقوله: سلام عليك؛ البقاء؛ والسلامة من الآفات الملك، وذلك أنهم في الجاهلية كانوا إذا تقلد أحدهم الإمارة والملك قالوا: نال فلان التحية أي التحية المختصة بالملوك وهي قولهم: أبيت اللعن (أي وقاك الله مما يعرضك للطعن والهزيمة).والتحية من الله الإكرام والإحسان (الأقرب) سلام السلام اسمٌ من التسليم؛ الاستسلام للانقياد والطاعة.والسلام اسم من أسماء الله لسلامته من النقص والعيب والفناء.(الأقرب ) التفسير : تذكر الآية (أولاً) أن المؤمنين عندما ينالون النعم في الآخرة سيسبحون بصورة عفوية (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، بمعنى ربنا أنت منزه من كل عيب وبريء من كل نقص.وثانيا) أنهم سوف يتبادلون تحية السلام عليكم ، أو يتلقون من الله تعالى تحية السلام.وثالثا ) أنه سوف يكون آخر كلامهم: الحمد لله رب العالمين.وأما نداؤهم سُبْحَانَكَ اللهُمَّ بمجرد وصولهم الجنة فذلك إنّما يكون لأن حقائق الأشياء ستنكشف عليهم عندئذ مما لا شك فيه أن المؤمن يسبح ربه هنا في الدنيا أيضا، ولكن هذا التسبيح يكون عن اعتقاد لا عن تجربة.إذ إنه يسبح ربه مثلاً عندما يرى قشر فاكهة مع أنه قد يساوره الظن أن لا فائدة من هذا القشر، أو حينما يجد حشرة قد وصلت إلى فراشه دون أن يدرك الحكمة من وراء وجودها هناك، أو حين يرى في البرية أعشابا ذات أشواك وبدون أشواك دون أن يعرف الحكمة في ذلك.فبما أن القياس يؤدي بنا في هذه الدنيا إلى الاعتقاد بأننا ما دمنا نجد حكمًا إلهيّةً في

Page 56

الجزء الثالث ٤٩ سورة يونس بعض الأشياء فلا بد من وجودها في أشياء أخرى وإن لم ندركها، كما أنّ كلام الله الحق يؤكد لنا براءة الله من كل عيب ونقص..فلذلك كله نحن نؤمن بوجود حكم في آلاف الأشياء التي لم نطلع على الحكم الموجودة فيها، و نردد التسبيح عند رؤيتها.ولكن التسبيح الذي سوف نردده في الآخرة سيتم عن بصيرة وخبرة.هنالك سوف يتبين لنا تماما أن كل شيء في الدنيا مهما حقر، وكل حادث مهما ضَؤُلَ كان وراءه وهدف، وكان له وقع وتأثير فيما كان يحصل لأهل الدنيا من رقي أو انحطاط وما كان يلحق بهم من نفع أو ضرر.ولما كانت أعمالنا التي نقوم بها في الدنيا سوف تتجسد لنا في الآخرة فلا بد أن تنكشف عندئذ لكل واحد منا حقيقة كل أمر خفي العالم المادي وسوف نقر، بناء على علم وبصيرة أن كل شيء بل كل حركة من هذا في الدنيا كانت لهدف وغاية، فلن يلبث أن يندفع هاتفًا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ.ثم إن كلّ ما يصيب الإنسان من أذىً وضرر في الدنيا إنما سببه هو عدم اطلاعه على حقائق الأشياء.فإن الزرنيخ مثلاً سُمٌ فيه شفاء من الأمراض، ولكن الذين لا إلمام لهم بعلم الطب قد يتعرضون للأذى إثر تناولهم كمية منه دون علم ودراية.أو خذوا النار مثلاً فإنها تنفع في إعداد الطعام، ولكن الصبي الجاهل بمواصفاتها قد يعبث بها ويضر نفسه.وباختصار فإن أنواع الأمراض مرجعها الجهل بحكمة الأشياء وحقائقها.أما في الجنة فكل الحقائق سوف تنكشف وكل الحكم سوف تتجلى، ولذلك سينعمون فيها بسلامة حقيقية، لأنهم بمعرفة حكم الأشياء سوف يتفادون أضرارها، ويتخلصون من المصائب ،والآفات وعليه فإنهم بعد انطلاقهم التلقائي بالتسبيح عن علم وبصيرة لدى انكشاف حقائق الأشياء عليهم في الآخرة لن يلبثوا أن يقولوا: هذا المكان سلام في سلام.ذلك أنهم بسبب إدراكهم حقائق الأشياء إدراكا كاملا سوف يتجنبون استخدامها الخاطئ وسينتفعون بها بطريق سليم.وبما أن السلام والأمان سيسودان في الجنة فسيبادرون إلى حمد الله أيضًا قائلين : الحمد لله الذي شَرَّفنا بهذه الدرجة حيث أحرزنا المحاسن والكمالات جميعًا فلا

Page 57

الجزء الثالث 0 + سورة يونس تأتي أعمالنا إلا بنتائج طيبة فحسب.ولو سُئلت: لماذا قال هنا (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ) ولم يكتف بقول (الْحَمْدُ لله فإنه يفي بالغرض أيضا، فالجواب: إن زيادة رَبِّ الْعَالَمِينَ كانت لأسباب مختلفة منها أن الاطلاع على حكم جميع الأشياء وإفادة الآخرين بها إنما هو ما يخص الله تعالى وحده العالم بضرورات كل عالم من العوالم.فلو عانى أحد مثلاً من الحرارة العالية في بلد حار واشتكى من أذاها فإنما يشتكي لأنه لا يعلم أن تلك الحرارة ذات نفع كبير لآلاف من الأشياء الأخرى.ولكن الذي يدرك ذلك هو رب العالمين، الذي له علاقة وثيقة بكل شيء، والذي يسد حاجات كل الموجودات.فالمؤمنون عندما يطلعون في الآخرة على حقائق كل الأشياء وحكمها يعلنون الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي لا جرم أنه ما كان لنا أن نعرف حقائق الدنيا بعلمنا المحدود وإنما رب العالمين الذي لا يغيب عنه مثقال ذرة، هو وحده قادر على أن يحيط بعلمه حقيقة كل شيء.فالحمد لله رب العالمين.وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ شرح الكلمات : استعجال استعجله حتّه ؛ أَمَرَه لأن يعجل؛ طَلَبَ عجلته ولم يصبر إلى وقته.ومنه: "مر فلان يستعجل" أي يكلف نفسه العجلة؛ واستعجل فلانا: سبقه وتقدمه.(الأقرب) الخير : هو وجدان الشيء على كمالاته اللائقة المال مطلقا ؛ الخيل؛ الكثيرُ الخيـ

Page 58

الجزء الثالث (الأقرب) ۵۱ سورة يونس قُضِيَ : قَضَى إليه الأمر : أنهاه وأبلغه (الأقرب) قضى إليه الحديث: أسمعه إياه، وقضى إليه الشيء: أوصله إليه.فالمراد من ( قُضِيَ إليهم أجلهم) أُوصل إليهم أجلهم أي موتهم.أجل: الأجلُ: مدةُ الشيء ووقته الذي يحل فيه، يقال: ضربت له أجلاً (الأقرب).طغيان: طغي يطغى وطغى ويطغي طُغيانا وطغيانًا وطغى: جاوز القدر والحد.طغى الكافر: غلا في الكفر.طغى فلان: أسرف في المعاصي والظلم.طغى الماء: ارتفع.(الأقرب) يعمهون عَمة الرجل: تردد في الضلال وتحير في منازعة أو طريق.وقيل: العَمَهُ أن لا يعرف الطريق فهو عامة وجمعه عُمّةٌ ، وعَمة للمبالغة وجمعه عمهون، يقال: عَمهَ في طغيانه وتعامه وعن الزمخشري: العَمَهُ كالعمى غير أن العمى عام في البصر والبصيرة والعمه خاص بالبصيرة، فلا يقال: أَعْمَه العين.(الأقرب).فمعنى قوله في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) هو أهم مترددون في طغيانهم وغيهم وسوف يبقون هكذا وأنهم متحيرون في أمرهم على الدوام.التفسير: لقد اختلف المفسرون كثيرا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فقال بعضهم معناه: لو عجل لهم الشر كما هم يطلبون الشر لقضي عليهم وهلكوا (الكشاف).ولكن هذا المعنى لا يستقيم مع العقل والمنطق، إذ لو كانت كلمة (الخير) هنا بمعنى (الشر) كما يفسرونها، لاستخدَمَ الله هنا كلمة الشر لا الخير.إن الصعوبة التي تواجه المفسرين تكمن في أنهم يقولون ما دام الناس يطلبون من الله الخير فكيف يمكن أن يقابلهم بالشر، وإنما لا بد من أن يقابلهم بالخير والإنعام طالما يريدون هم خيرا.الواقع أنهم قد وقعوا في هذه المشكلة لأنهم لم يتدبروا كما ينبغي في كلمتي الخير

Page 59

الجزء الثالث ۵۲ سورة يونس = والاستعجال، فلو أنهم أخذوا (الخير) بمعنى المال مطلقًا لحلت المشكلة، لأن الآية ستعني عندئذ : أن هؤلاء الذين يجمعون الأموال الدنيوية في عجلة وانهماك متناسين ربهم، ولو تعجل ربهم أيضا في عقابهم على جريمتهم هذه لقضى عليهم فوراً، ولكنه تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى صوابهم ويتوبوا ويصلحوا ما بهم إذا أرادوا وهذا المعنى مستقيم لا اعتراض عليه.فمن كان جمعُ الأموال هو جل اهتمامه في هذه الدنيا فإنما يثير الله عليه، دون أدنى شك.كما يمكن أن تفسر الجملة بمعنى آخر وهو: أن الله يستعجل الناس بالخير ويسبقهم في المعاملة بالخير والحسنى، ولو أنه سارع مثلهم بالشر والعذاب لقُضي عليهم وانتهى أمرهم، ولكنه يستعجلهم في أمر الخير فقط بينما يعاملهم على مهل في أمر العذاب.غضب وفي هذه الصورة سيُعتبر الضمير (هم) في (اسْتعْجَالَهُم في حالة المفعولية، وأما اختيار المعنى الأول فسيعتبر الضمير في حالة الفاعلية وكلا الاعتبارين جائز وصحيح بحسب قواعد اللغة العربية.ولو أخذنا بالمعنى الأول فسيعني قوله تعالى (اسْتعْجَالَهُم بالخير أن هؤلاء لا يجدون الفرصة للتوجه إلى الله تعالى لشدة انهماكهم في جمع متع الدنيا في عجلة وسرعة.فالذي يكون على عجلة من أمره لا يبالي بأحد مطلقا، ولو حاول غيره لفت نظره إلى شيء آخر لما اكترث بقوله.هذه الآية جاءت في الواقع ردًا على تساؤل نشأ في خلد الكفار بأن محمدا إذا كان نبيا صادقًا فلماذا إذن لا يعذبنا الله ويقضي علينا؟ فقال الله تعالى: نعم، سيأتي العذاب حتمًا، ولكنّا نمهلكم عسى أن يقبل الحق من كان من نصيبه قبوله.ولقد ذكرتُ من قبل أن من أساليب القرآن أنه يحذف السؤال في معظم الأحيان مكتفيا بالإشارة إليه في الجواب وهذه الآية خير مثال لذلك فهي صريحة الدلالة على أن قول الله إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لآيات وما يليه من الآيات ردُّ على تساؤل الكفار : لماذا لا يقضي الله أمرنا بعجلة؟ وبقوله (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وضح بأننا لو عجلنا

Page 60

الجزء الثالث ٥٣ سورة يونس في صبّ العذاب عليهم للبثوا في طغيان وعَمَه بسبب هلاكهم على الضلال.ولكن ليس هذا هو دأبنا، إنما نريد هدايتهم، فلا نؤاخذهم على الفور لننقذ من يمكن إنــــقـــــاذه.وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرِّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا یک كَانُوا يَعْمَلُونَ شرح الكلمات : المسرفين: أسرف ماله: بذره؛ وأسرف في كذا جاوز الحد فيه وأفرط؛ أخطأ؛ جهل؛ غفل (الأقرب).التفسير هذه الآية تتحدث عما يطرأ على الإنسان من أحوال مختلفة عند الصدمة.فقوله تعالى (لجنبه) إشارة إلى الخرور والسجود جزعًا وهلعا لأن الإنسان إذا أُصيب بصدمة شديدة تخاذلت رجلاه و لم يَقوَ على الوقوف فيسقط.كذلك قوله تعالى أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا إشارة إلى الفزع والقلق البالغين، لأن الفاجعة تقيمه مرة وتقعده أخرى.فلا يهدأ له بال في أي حال، ولا يقر له قرار وليس ضروريا جلوسه أو قعوده بالمعنى الحرفي.لقد بين الله هنا أن هؤلاء يلجون من ناحية في قولهم: لماذا يعذبنا الله على تكذيبنا لهذا الرسول إذا كان عنده من حقا، ومن ناحية أخرى تراهم لو العذاب رفعوا عقيرتهم فزعًا وهلعا ونفد ما عندهم من صبر وجلد.مسهم شيء من وفي قوله تعالى: مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ذَكَرَ عادة للكفار ليعلمنا

Page 61

الجزء الثالث ٥٤ سورة يونس أخلاقا إسلامية حيث ينصحنا أننا حين نستعين بأحد فيجب ألا ننصرف عنه إلا بعد لأنه من اللؤم البالغ أن يستنجد الإنسان الاستئذان منه وبعد أن نشكره على صنيعه، بأحد ثم ينصرف عنه دون أن يشكره على معروفه.وقوله تعالى: كَذَلكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يتضمن عدة دروس في الأخلاق الأول: أن لا يطعن الإنسان في نية أحد.فهنا يصرح الله تعالى أنهم يفعلون ما يفعلون لأن أعمالهم تبدو لهم جميلة وحسنة، فإنه عمل عدهم من المسرفين ومع ذلك لا يطعن في نياتهم بل يقول: لقد فسدت رؤيتهم واختلت عقولهم، فتتراءى لهم أعمالهم حسنة أوليس غريبا وعجيبًا رغم هذا التعليم القرآني –أن نجد بين المسلمين من إذا اختلفوا مع إخوانهم في الرأي اختلافا ضئيلا بسطوا فيهم ألسنتهم وهاجموا نياتهم؟! وقد يتساءل هنا أحد: ما دامت عقولهم مختلة فلماذا يعاقبون إذن؟ والجواب أن سبب عقابهم مذكور في الآية نفسها.إنه تعالى لا يقول إن كل إنسان تُزيَّن له أعماله فيراها حسنة جميلة، بل يقول إن المسرفين أنفسهم قد أتوا بأعمال مسرفة غير معتدلة فكانوا هم المسئولين عن عواقب هذا الإسراف رضوا به أم لا، ولذلك لن ينجوا من العقاب.والدرس الثاني هو أن عذر النية الطيبة ليس مقبولا في كل حال، بل يعاقب المرء أحيانا على جريمته وإن لم يقصد الشر لأحد كما تذكر الآية، فإنها تعلن عقابهم مع فمثلاً التسليم بصحة نيتهم ويحدث هذا عندما تكون أعمال الإنسان نفسها قائمة على فساد نيته أو يكون الإنسان قادرا على تغيير مساره السيئ ولا يغيره.عدم العلم بالشيء عذر مقبول، ولكن إذا كان عدم العلم هذا بسبب تكاسل المرء فيصبح عذرا غير مقبول ويعاقب صاحبه حيث يقال له: لماذا تكاسلت ولم تجتهد لتحصيل العلم.وفيما يتعلق بالنواميس الطبيعية فلا اعتبار فيها للنية أصلاً، فإذا تناول أحد السم - - أيا كانت نيته مات لا محالة.أما القوانين والأحكام الشرعية فإنها تأخذ النية في

Page 62

الجزء الثالث الاعتبار إلى حد كبير.00 سورة يونس وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) شرح الكلمات : ١٤ القرون واحدة ،قرن ولها عدة معان منها كلُّ أمة هلكت فلم يبق منها أحد؛ الوقت من الزمان؛ أهلُ زمان واحد؛ أمةٌ بعد أمة.وقرن الشيطان وقرناؤه: أمته المتبعون لرأيه، أو قوته وانتشاره أو تسلطه.(الأقرب) التفسير : منذ بدء الخليقة لا تزال تهلك أمة بعد أمة ويموت شعب بعد شعب، ولا ذلك ينحصر في مثال أو مثالين حتى ينساها الناس، ومع ذلك فما أشدَّ غباء وحمق تلك الأمم التي تتباهى برقيها وتزهو بثرائها، متناسية وقت دمارها، رغم توفر هذه العبر وتكرارها.هناك بعض القوانين الإلهية التي تتضح من الآية ومنها: الأول: إن العذاب الإلهي إنما ينزل بالظالم، وإنه لا ينزل ما لم يُمارس الظالم ظلما، لأنه تعالى يصرح هنا أنه لم يدمر أي أمة إلا بعد أن أصبحت ظالمة...أي أنها أهملت إما النواميس الطبيعية أو الشرائع الإلهية.والثاني: أن الأمة الظالمة أيضا لا تعذَّب ولا تُهلك ما لم يُبعث إليها رسول يحذرها من عاقبة أخطائها ومعاصيها، لأنه تعالى يقول إننا إنما أهلكنا القرون الأولى بعد أن صاروا ظالمين، وبعد أن أرسلنا إليهم ،رسلهم ولكنهم لم ينصاعوا لإنذارهم.وقوله تعالى: كَذَلكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أيضا تأكيد لما سبق بيانه من أن

Page 63

الجزء الثالث سورة يونس الله تعالى يريد أن يرحم عباده ولا يريد أن يعذبهم، إذ يصرح أننا عندما نرى شعبًا ما واقعا في المعاصي نبعث إليهم رسولا من عندنا رحمة بهم وشفقة عليهم لكي يتفادوا بإتباع نبيهم عواقب سيئاتهم، ويرثوا نعمنا وأفضالنا، ولكنهم يرتكبون الجريمة النكراء وهي معارضة نبيهم وبالتالي يجلبون عليهم العذاب.والعجيب أن الناس في عصرنا هذا يعترفون بألسنتهم بنزول العذاب في الأرض أنواعا ومع ذلك لا يقرون بمجيء نبي من والعذاب نوعان طبيعي وشرعي.والعذاب الشرعي مشروط بأمرين: أن الناس ظالمين فاسدين، وأن يُبعث نبي.وأما العذاب الطبيعي فهو خال من هذين الشرطين، فكلما أصاب الضعف أمةً من الناحية المادية وتغافلت عن الأخذ بأسباب الرقي المادي هلكت وبادت.فسبب هلاكهم إذن هو الضعف المادي لا فقدان الحب الإلهى.الله تعالى.يصبح ويمكن معرفة العذاب الشرعي بعلامات غير عادية أن ينزل العذاب مصحوبًا بأشراط ومعالم لا تتوفّر أبدا في العذاب الطبيعي كأن يكون الناس قد أخبروا به قبل وقوعه عن طريق نبوءات وإنذارات أو يحدث انقلاب هائل غير عادي في السنن الطبيعية البادية لنا.فمثلاً تبدأ فجأةً سلسلة من الزلازل المتكررة، أو تجتمع في زمن واحد شتى المصائب والآفات من أمراض وأوبئة وقحط ومجاعة، وإذا حصل ذلك فلا مناص عندئذ من الاعتراف بأن هذه التغيرات الهائلة عذاب إلهي ولا بد من أن نبيًّا قد بعث للدنيا.أما العذاب الطبيعي فيقع في العالم عموما، ولذلك يجب أن لا يقع أحد في فخ بعض المشككين الذين يقولون : إن الأمة الفلانية جاءت في عصر كذا، وذهب مُلكُها، فأي نبي كان بعث عندئذ؟ لأننا يمكن أن ندحض موقفهم هذا بقولنا: تعالوا وأثبتوا لنا أن العذاب النازل عليهم كان غير طبيعي، وأنه لم يبعث حينئذ نبي، فلن يستطيعوا إثبات ذلك أبدًا.

Page 64

الجزء الثالث OV سورة يونس ولنعلم أن من شروط العذاب الشرعي أن ينزل على قرن أي على أمة كاملة، لا على بعض أفراد منها، لأن نزول العذاب على أفراد أو مجموعة من الأفراد ظاهرة تتكرر في كل زمن، فإنه يمكن أن ينزل حتى في عصر نبي وعلى أفراد من جماعته.ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِتَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خلائف: جمع خليفة، وهو: من يخلف غيره ويقوم مقامه؛ السلطان الأعظم الذي ليس فوقه إمام.(الأقرب) التفسير : هناك سؤال يطرح نفسه: لماذا قال الله لهؤلاء الخلفاء النَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ في حين أن أعمال شعب ما تؤخذ بالاعتبار حين يجعله الله خليفة لشعب هالك، وأن أية أمة لا يمكن أن تكون خليفة لأمة أخرى ما لم تكن أحسن منها عملاً، لأن هذا هو الداعي لإهلاك الأولين واختيار الآخرين؟ نعم يمكن أن تكون الأمة الهالكة أعلى كعبا في بعض المجالات الهامشية، فقد تكون مثلا أكثر حذقا ومهارة من هؤلاء في فن البناء والعمارة، ولكن من المحال أن يتخلف هؤلاء عن الأوائل في المجال الذي صاروا خلفاءهم فيه.إذن فكيف يصح قول الله لمن جعلهم خلفاء: سوف ننظر أعمالهم؟ والجواب: أن الأعمال تنقسم إلى قسمين: أعمال يستحق بها الإنسان الفوز بنعمة ما، وأعمال أخرى لا بد من القيام بها حفاظًا تلك النعمة في يده.فمثلا نجد أن كثيرا من الطلاب المتفوقين في الدراسة، يفشلون على عند مواجهة مشاكل الحياة العملية.هذه هي حال الأمم والشعوب أيضا.فهناك أمم يُضرب بها المثل في العمل والتضحية قبل أن تحقق العز والجاه، ولكنها سرعان ما تستسلم للكسل والهوان بعد نيل الحكم والملك.والسبب الثاني لما ورد في قوله تعالى لتَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ هو أن الأعمال

Page 65

۵۸ سورة يونس الجزء الثالث الإنسانية نوعان العمل الصالح والعمل المحافظ على العمل الصالح.فالمراد من هذه الفقرة القرآنية إننا جعلناكم خلفاء في الأرض لما فيكم من محاسن ذاتية وأعمال صالحة، والآن سوف نرى كيف تقومون بأعمال تضمن دوام هذه الحسنات والصالحات فيكم.والحق أن القيام بأعمال تحافظ على الأعمال الصالحة أصعب بكثير من القيام بالأعمال الصالحة نفسها.وما هلكت الأمم الغابرة إلا لأنها كانت تكافح وتناضل من أجل الرقي ولكنها لم تسعَ كما ينبغي لاستمرار ذلك الرقي وبقائه.يحافظون على تقواهم هم، ولكن لا يولون اهتماما كافيًا لإصلاح أخلاق الأجيال فيهبط مستوى الحسنات فيهم حتى لا يبقى في أيديهم إلا الكلمات دون المعاني والقشور دون اللباب.وبما أن هذا التغير يحدث في بطء تدريجي من جيل إلى جيل، فلا يفطن له أحد، فتنهار الأمة كلها في هوة الظلام الدامس والخراب المدمر.فالله تعالى يلفت الأنظار إلى هذه الحقيقة ويقول : سنرى إلى متى ستحافظون على خلافتكم.ولو أن المسلمين أولوا هذه النصيحة الحكيمة العظيمة الانتباه لما لاقوا هذا المصير المحزن.لقد أتى عليهم زمن أهملوا فيه واجب توعية أجيالهم وتربيتهم تربية صالحة، فغلبت عليهم محبة أولادهم بشكل خاطئ؛ أو أنهم لم يأخذوا الحيطة والحذر في أمر الزواج، فتزوجوا بنسوة غير مؤهلات لتربية ذريتهم تربية إسلامية، وكانت النتيجة أن ذلك الصرح العظيم الذي رفعه النبي وأصحابه بأيديهم المباركة خرّ على قواعده وخوى على عروشه.فإنا لله وإنا إليه راجعون! هذا وإني أبشر هؤلاء القوم الذين اصطفاهم الله اليوم لإظهار الإسلام وازدهاره أنهم إذا ما راعوا في المستقبل هذا التوجيه الرباني وأولوه العناية الكافية فإن فرصة إحداث انقلاب عظيم لصالح الإسلام في العالم قائمة، إن شاء الله تعالى.ولقد نبه النبي الكريم ﷺ إلى هذا بقوله : "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" (البخاري، الأحكام).أي أن كل إنسان ليس بمسؤول عن نفسه فحسب، بل إنه مسؤول عمن هو في كفالته أيضًا، كما أن الله تعالى لن يؤاخذه على ما اقترفه من

Page 66

الجزء الثالث أعمال ۵۹ سورة يونس هو فقط، بل إنه سيسأله أيضًا عن كيفية قيامه بتربية وتوعية من كانوا في رعايته وكفالته.فلن تُغني عن الإنسان طهارة نفسه هو فقط، ما لم يكن جادا في تطهير الآخرين من حوله.وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا انت بقرآن غَيْر هَذَا أَوْ يَتْلُهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَبَدِّلَهُ مِن تَلْقَاء نَفْسِي إِنَّ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ١٦ شرح الكلمات : تتلى تلا الكلام تلاوة: قرأه (الأقرب).لا يرجون لقاءنا : ( راجع شرح الكلمات للآية ٨ ).ما يكون لي: أي لا يمكنني.تلقاء: اسم من اللقاء ويتوسع فيه فيُستعمل ظرفًا لمكان اللقاء والمقابلة فينصب على الظرفية ويقال: توجَّهَ تلقاء النار وجلس تلقاء فلان أي حذاءه (الأقرب) وعندما تضاف إلى النفس فتعني معنى (عند).فالمراد من تلقاء نفسي) أي من عند نفسي.التفسير: لقد وردت كلمة (بينات) هنا حالاً لـ (آياتنا)، مع العلم أن القرآن الكريم قد استخدم كلمة (بينات) صفةً لما يقدمه الله من آيات ومعجزات أو كلام بواسطة أنبيائه عليهم السلام ذلك أن الآيات نوعان : نوع يسمى آيات فقط، ونوع آخر هو آيات بينات.فكل ذرة من الكون هي في الحقيقة آية إلهية، لأنها تقف دليلاً عقليا على وجود خالقها، ولكن هذا الدليل نستنتجه بقياسنا نحن ولا تخبرنا الذرة

Page 67

الجزء الثالث ٦٠ سورة يونس بنفسها أنها خلقت لتحقيق هذا الغرض.أما ما يظهر بواسطة الأنبياء من آيات فيعلن الله عنها قبل ظهورها أنها تستهدف الدلالة على الأمور الغيبية وأن غايتها الحقيقية إنما هي التدليل على وجود البارئ وإظهار صدق الأنبياء وتبيان حقيقة الصفات الإلهية، والتأكيد على البعث بعد الموت.فبما أن الله تعالى يصرح عند ظهورها أنها شاهدة على الأمور الإيمانية الغيبية لذا سماها آيات بينات بعكس الآيات الطبيعية الموجودة في الكون.وعلى سبيل المثال، فإن ظاهرة تفشي الأوبئة هي آية أيضا، ولكنّ الوباء الذي ينبئ به النبي قبل تفشيه مذكرًا القومَ أن ظهوره سيكون تصديقا له، فهو ليس بآية فحسب وإنما هو آية بينة، لأنها تبين وتحقق غاية ظهورها بطريق أفضل وأوضح مما يبينه الوباء الطبيعي العادي.عندما يرى ويسمع المنكرون هذه الآيات البينات من القرآن الكريم لا ينتفعون بها وإنما يشرعون في المطالبة بأمرين: الأول: أن يا محمد، انت بقرآن بدلاً هذا، من والثاني: أو غيّر على الأقل بعض ما ورد فيه من أمور يقول الله تعالى: إن مطالبهم هذه ترجع إلى ما أصاب قلوبهم من تحجر وما علاها من صدأ.فإنهم على رؤية الآيات لم ينتفعوا بها، وبهذا ثبت أنهم لا يقدمون مطالبهم بقصد الانتفاع بها وإنما خلت قلوبهم من حب الإيمان فلا يقصدون إلا الاستهزاء والسخرية والشر، ليمحوا بذلك ما تركته هذه الآيات البينات من وقع في قلوب العامة من الناس.ذلك أنه يتضح جليا من قوله تعالى الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا أن قلوب بعض الناس كانت قد لانت ومالت إلى الإيمان برؤية هذه الآيات مما أثار قلق أئمة الكفر، فلجئوا إلى إثارة مشاعر القوم من جديد ضد النبي، وأخيرًا تنكروا لهم بزيّ المصالحين المسالمين.والحق أن الفطرة الإنسانية تحب السلم والصلح، وإذا ما دعيت إلى التصالح غضت الطرف في أحيان كثيرة عن أهمية المبادئ المتنازع عليها مركزةً على فكرة أن الصلح خير ولو على حساب بعض المبادئ.إن معارضي الأنبياء ينتهزون ضعف الفطرة الإنسانية هذا، داعين النبي إلى طريق وسط.فيطالبونه أن أنتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا بمعنى أنك شخص

Page 68

الجزء الثالث ༥ ད سورة يونس مرجو تصلح لأمور عظام، ولكن لا تُقدّم أمام القوم منهجك الجديد، بل عليك أن تقودهم عاملاً بنظرياتهم وآخذا بأفكارهم هم ولو فعلت ذلك سرنا وراءك، وبهذا الأسلوب لن تحدث فتنة في الأرض ولا فساد، ولن تحصل فرقة بين الأخ وأخيه.أما إذا لم يعجبك هذا فهناك اقتراح آخر: أن احذف من تعاليمك ما يجرح مشاعر الشعب كمكافحة الشرك ومحاربة الطقوس الشعبية.وأئمة الكفر هؤلاء يدركون حق الإدراك عند طرح هذه الاقتراحات أن النبي لن يرضى بها في أي حال، الأمر الذي سيلهب مشاعر الشعب ضده مرة أخرى، فيقولون: ما أضيق هذا الشخص صدرًا وما أشده تطرفا إذ لا يتخلى عن بعض من أفكاره توحيدًا للشعب وجمعًا للشمل والكلمة هؤلاء ينسون تماما أنه مما لا شك فيه أن الشعب شيء عزيز والبلد أيضا شيء عزيز، ولكن الحقائق أعزّ منهما، ولا يعون أبدا أنّ ما أصابهم من نكسة وزوال كان سببه رفضُهم لهذه الحقائق.فما الجدوى من صلح يدفع الإنسان إلى إخفاء الحقائق التي هي في الحقيقة قوام رقي الأمم وملاك ازدهارها، وما الفائدة من سلم ينحرف بالأمة بعيدا عن سبيل الفلاح؟! آه! إن هذه الفكرة الفاسدة ترسخ دائما في أذهان الأمم المندفعة إلى هوة الزوال والانحطاط يريدون إحراز الرقي والتقدم دون أي تغيير في نظامهم القائم.إنما دأبهم دومًا ضد المصلحين والأنبياء أن يُولُوا الأولوية للصلح القومي على أي شيء آخر، مع أنه لا شيء أشدّ زيفًا واستحالةً من أن ينعقد صلح حقيقي في أمة منهارة متردية.لقد صرّح القرآن بهذا الأمر بقوله : قُلُوبُهُمْ شَتَّى)، ومع ذلك لا ينفكون يلقون باللائمة كلها على الأنبياء قائلين: إن هؤلاء هم السبب في كل هذه الفرقة والفتنة والفساد.يبغون باسم الصلح القومي إخفاء الحقائق، الأمر الذي لا يرضى به الصدق والسداد، وهذا يتيح لأعداء الحق فرصة لإثارة عواطف القوم ضد النبي.أحد من أهل هذا ما يحدث بالضبط بين المسلمين اليوم، والأسف كل الأسف على أنهم رغم هذا التصريح القرآني لا يشعرون بما يفعلون وبما صاروا إليه.رحمهم الله !

Page 69

الجزء الثالث ٦٢ سورة يونس يأمر الله تعالى هنا رسوله أن يرد على اقتراحات أئمة الكفر ويقول لهم: كيف أغير هذا التعليم الإلهي من تلقاء نفسي وأنتم تعلمون أنني لم أدع أبدًا أن هذا التعليم من بنات أفكاري ونتاج عقلي.لو كانت المسألة خاصة بفكري لحقَّ لكم أن تطالبوا بإخضاع عقل فرد واحد لعقول الشعب كله ولكن الحق أن هذه الوصفة وصفة إلهية ولا يمكن تغييرها أبدًا بخطأ موهوم فيها.نعم، هناك طريق وحيد لإحداث تغيير فيها ألا وهو أن تغيروا ما بأنفسكم.وقوله تعالى (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يتضمن إشارة لطيفة إلى أن التعليم الإلهي ينزل بحسب حالات البشر، وأنه هو الوصفة المثلى لأمراضهم، لذلك يقول النبي: لو غيرتها بنفسي لحصلت خسارة فادحة، لأن هذا هو التعليم الوحيد القادر على إصلاح أنفسكم، فتغييره لن يجدي نفعا بل إنه ضار أيما ضرر.وتعني هذه الفقرة أيضا أن ما تجدونه في الوحي من أنباء هلاككم ودماركم، تكرهونها وتقترحون حذفها وتغييرها، فإنها سوف تُلغى وتزول تلقائيا حينما تغيرون ما بأنفسكم وتصلحون حالتكم، عندها ستصبحون الوارثين لأنباء تبشر بالرقي والازدهار وتعد بالغلبة والفلاح.وهكذا فكأَنَّما يقول لهم : لا سبيل لتغيير هذه الأنباء المنكرة عندكم إلا أن تتغير حالتكم هذه، أما أنا فلا أملك خيار تغييرها من تلقاء نفسي.كما تعني هذه الجملة أنني لا أستطيع تغييرها بنفسي ما لم يغيرها الله تعالى، لأنني إنما أتبع ما يوحى إلي من لدنه.وهنا ينشأ سؤال: هل يقوم النبي بأي عمل دون إشارة الوحي الإلهي؟ والجواب: إنه يعمل بالوحي وبدون الوحي أيضًا.وعندما نقول إنّه لا يقوم بأي عمل إلا على ضوء الوحي فإنما نعني بذلك أنه يذوب في حب الله ويتفاني في طاعته لدرجة أنه لن يقوم بأي عمل دون وحي ربّاني.بيد أن الله نفسه يأمره بأن يقوم ببعض الأعمال

Page 70

الجزء الثالث ٦٣ سورة يونس مستخدما عقله الموهوب من لدنه تعالى.فبما أن الله بنفسه يحضه في وحيه على أن يستمر في استنباط بعض المسائل باسترشاد العقل والفراسة، لذلك فإنه يستخدم فراسة عقله أيضًا في بعض الأمور.وبناء على ذلك يمكن القول إنه لا يعتمد على استنباط المسائل بعقله وإنما يتبع الوحي الإلهي فقط.ولكنه يقوم بالاستنباط بعقله فعلاً - ولو بأمر من الله - فلذا يمكن القول أيضا إنه يعمل على ضوء ما يمليه عليه عقله.ولكن لا يستقيم أبدًا الظنّ أن كل ما يفعله أو يقوله النبي إنما مصدره الوحي الإلهي فقط، وإلا فكيف نفسر ما يصدر عن الأنبياء من أخطاء اجتهادية في بعض الأحيان ؟ سوف نضطر عندئذ للاعتقاد الباطل بأنه يخالف والعياذ بالله، الوحي الإلهي أحيانا.إذ كيف تفسر مثلاً، مع هذا الاعتقاد الخاطئ، قول الله تعالى لرسوله الكريم عندما أذن لمن جاءوه ليستأذنوه بأن يتخلفوا عن الخروج معه لغزوة تبوك عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ﴾ (التوبة: ٤٣).فهل موسوم ایلیا نقول بأن الرسول أذن لهم بالقعود في البيوت مخالفا الوحي الرباني؟ وقد يكون للجملة معنى آخر أيضا وهو أن الكفّار قد طالبوا الرسول ﷺ هنا بتغيير القرآن نفسه وكانت جملة إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ أيضا في صدد الوحي القرآني فقط، والمراد أن كل ما أقوله مما يخص القرآن الكريم إنما أقوله بناء على الوحي الإلهي، ولا دخل لي فيه أبدًا، فلا أستطيع تغييره ولو تغييرا بسيطًا.كما أن هذه الجملة تمثل أيضا ردًّا مفحما للذين يزعمون أن كتابة البسملة في مستهل السور القرآنية أو تدوين القرآن بالترتيب الحالي، أو تسمية سوره بهذه الأسماء، كل ذلك كان بأمر من الرسول وليس من الله تعالى.فالله تعالى يعلن هنا أنّ كل ما يفعله الرسول فيما يخص القرآن إنما يفعله بناء على وحينا.= يتبع الأوامر الإلهية بخصوص وقد زعم البعض الآخر : لا شك بأن الرسول ﷺ كان القرآن، ولكن صحابته قاموا من تلقاء أنفسهم بتعديلات وتغييرات فيه.ولكن العقل السليم يرفض هذا الزعم كليةً، لأنه ما دام الرسول ﷺ لم

Page 71

الجزء الثالث ។ سورة يونس حق التبديل في القرآن فكيف سيشرع ذلك للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.إنهم ما كانوا ليتجاسروا على فعل ذلك ما لم يصبحوا مرتدين ضالين، والعياذ بالله.وقد قال بعض الكتاب المسيحيين الذين يطعنون في القرآن بأن محمدا قد حاول بقوله (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ التهرب من مواجهة الأسئلة التي انهالت عليه من قبل الكفار عندما نُسخت آيات من القرآن، حيث اكتفى بقوله لهم: لست أنا المسئول عن النسخ ، بل كل ما يأتي في القرآن إنما يأتي بأمر إلهي (تفسير ويري للقرآن).والحق أن هذه الفكرة فكرة فاسدة زائفة تماما، وهذه الجملة لا تثبت وجود النسخ في القرآن كما زعموا، بل على النقيض من ذلك فهي تصرح أنه لم يكن هناك أي نسخ في القرآن قط.ذلك أن الكفار ما كانوا ينوون تصديق القرآن إذا ما تم فيه تغيير أو تعديل، كلا، وإنما كانوا يهدفون بذلك الكيد برسول الله ﷺ.فلو رضخ لمطالبهم لقالوا : انظروا هذا القرآن إنّه ليس كلامًا من لدنه تعالى كما يزعم محمد، وإنما هو من اختراعه وافترائه، ولذلك تجدونه يتلاعب به كيفما يشاء.ولكنه حين عارضهم ولم يذعن لمطالبهم و لم يغير فيه شيئا أثاروا العامة ضده قائلين: انظروا إلى هذا الشخص المتعنت، إنه لا يريد التعايش مع القوم في صلح واتحاد.فلو كان القرآن عرضةً للنسخ والتغيير كما يزعمون لما كان الكفار بحاجة إلى مثل هذا الاحتيال والمكر، وإنما كان يكفيهم أن يعترضوا على ما حصل فيه من نسخ وتغيير.فالحق أن هذه الفقرة ليست دليلا على وجود النسخ في القرآن، بل على العكس فإنها تنفي زعم النسخ فيه في أي وقت كان.ومن غرائب القدر أن واضعي هذه الروايات قد اختلقوا روايات أخرى تقول: كانت في القرآن آية كذا أو سورة كذا وفقدت فيما بعد، ولكنهم لم يهتدوا لوضع روايات تقول: كانت في القرآن آية كذا فنُسخت ونزلت مكانها آية كذا!!

Page 72

الجزء الثالث ٦٥ سورة يونس عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظيم أنه لولا وليس المقصود من جملة (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ : خوفي من أن م يصيبني عذاب عظيم لغيرت في القرآن الكريم.كلا، لأن كلمات الآية لا تقول: أخاف أن يصيبني العذاب بفعل ذلك، وإنما تقول: لو فعلت ذلك فسيأتي (عذاب يوم عظيم وعذاب اليوم العظيم" يعني عذابًا قوميًا يحل بالشعب كله، إذ يكون عظيمًا واسع النطاق وذا آثار باقية في هذا العالم.فالآية إذن إشارة إلى أن التعليم النازل من عند الله تعالى يكون ذا نفع عظيم للناس، وبه يُناط رقيهم وتقدمهم، ولو أن أحدًا أحدث فيه تغييرا أو تعديلا لأَخَّر الشعب والبلد عن موكب التقدم وقرب إليهم دمارهم.فلا خير في تغييره وتعديله بل الخير في تطبيقه وتنفيذه.ومثال ذلك أن يصف الطبيب وصفة لمريض فيقول له المريض: لن أتناول هذه الوصفة العلاجية إلا إذا غيّرت الدواء الفُلاني فيها، فيرد الطبيب عليه قائلاً: إنني أخاف أني لو غيرته لسبب لك ضررًا، ولا يعني الطبيب بقوله هذا: لولا خوفي أنا من الأذى لغيرته، بل كل ما يعنيه هو أنه لن ينفعك إلا هذه الوصفة كما هي.قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه أَفَلا تَعْقِلُونَ ۱۷ شرح الكلمات: لا أدراكم دَرَى الأمر يدري دَريَّا ودراية علمه أدرى به إدراء: أعلمه.(الأقرب) فقد لبثت: لبثت بالمكان يلبث لَبثَّا ولُبيًّا ولبانًا مكث وأقام (الأقرب).و"قد" إذا دخلت على الماضي صيرته ماضيا قريبا.فالمعنى أنني قد أقمت بينكم باستمرار إلى ما

Page 73

الجزء الثالث ٦٦ سورة يونس قبل نبوّتي و لم أغب عنكم في هذه الفترة.التفسير: قوله تعالى قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم به.أي يا من تطالبونني بتغيير القرآن أخبروني شيئًا لو كان في تغيير القرآن نفع، وكان استبداله كعلاج روحاني لكم بعلاج آخر مفيدًا، أما كان حريًا بالله تعالى أن يصف لكم منذ البداية العلاج الناجع؟ وما الداعي لإعطائكم هذا العلاج عديم الجدوى؟ هذه الجملة تمثل ضربة قاضية على نظرية النسخ في القرآن.ذلك أن النسخ إنما يكون في الأحكام والتعاليم لسبب واحد ألا وهو أن بعض التعاليم تنفع في ظروف معينة ولا تنفع في ظروف أخرى، فتمس الحاجة إلى غيرها، أما إذا بقيت الظروف على ما هي عليه ونسخ مع ذلك حكم وتعليم لأدّى هذا إلى الاعتقاد بأن ذلك التعليم لم يكن مفيدًا في حدّ ذاته، وكان عرضه على الناس خطأ.وإلى هذه الحقيقة نفسها قد أشار الله هنا وأمر رسوله أن يقول لهم: ألا ترون أنه لو كان هذا التعليم عديم الجدوى بالنسبة لكم، بينما يوجد هناك تعليم آخر قادر على إصلاحكم، لما عرضت عليكم هذا التعليم بأمر إلهي ولما أنزله الله لكم، بل لأتى لكم بغيره.وقوله تعالى (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) يقدم معيارًا رائعًا لمعرفة صدق أي مدع بالنبوة، بل إنه يمكننا من معرفة أي إنسان على حقيقته شريطة ألا يطبق هذا المعيار على نحو خاطئ.لقد نبه الله رسوله هنا إلى أن يعرض على الكفار صورة حياته التي عاشها بينهم قبل دعوى النبوة أو نزول القرآن كشهادة على صدقه، فيقول لهم: لقد عشتُ تلك الفترة بينكم مثالا فريدا للطهر والصدق وليس بين حياتي السابقة وبين دعواي أي فاصل زمني غبتُ فيه عن أنظاركم لتظنوا أننى عن أنظاركم لتظنوا أنني قد فسدت في فترة الغياب تلك.وما تسلّمون وتعترفون بأنني عشت طوال عمري بينكم كإنسان صادق بار حتى سميتموني الصدوق "الأمين" فكان ينبغي أن أنال نعمة وفضلا كجزاء على صالح أعمالي، بدلاً من أن أصير فجأةً مفتريًا ماكرًا.إذ كيف يمكن لمن كان بالأمس أصدق دمتم

Page 74

الجزء الثالث ٦٧ سورة يونس إنسان بين القوم أن يصبح في ليلة وضحاها أكذب مخلوق على وجه الأرض، لأنه لا أحد يكون أكذَبَ ممن افترى على الله كذبًا، وكيف يمكن لمن لا يكذب على الناس أن يتجاسر على الافتراء على الله عل؟ الآية تصرح الواقع أن الفطرة الإنسانية لا يحدث فيها على العموم أي تغيير مفاجئ، سواء إلى الخير أو إلى الشر، وإنما يحدث ذلك تدريجيًا وعلى فترة طويلة من الزمن.وكلمات بأن النبي ﷺ ما غاب عن قومه في أية فترة قبل دعواه، بل كانت حياته كلها كتابا مفتوحا أمام شعبه فالله تعالى يخاطب هنا أعداء رسوله ويقول: إنكم تعزون إلى رسولي أشنع نوع من الكذب..وهو الافتراء على الله، ولكنكم لا تشيرون إلى أي فترة من حياته كان قد تعوَّدَ فيها على الكذب، بل على النقيض من تعترفون أنه عاش قبل دعواه بين ظهرانيكم دون أن يغيب عنكم، وكنتم تسمونه صدوقا أمينًا طوال تلك المدة، فكيف تسيغ لكم أحلامكم أن تقولوا عما أتاكم به من تعاليم أنه نتاج افترائه واختراعه.ذلك، وصرّح سبحانه بقوله من قبله بأن لا قيمة لما يثار ضده من اعتراضات بعد دعوى النبوة، لأن مخالفة الرأي تُؤدي دومًا إلى العداوة والاعتراض.ولنعم ما أدرك الإمبراطور الرومي هرقل هذه الحقيقة، فإنه لما أمر أبا سفيان أن يدلي بشهادته عن سلوك النبي سأله كيف كان هذا عندكم قبل ادعائه النبوة؟ "هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول"؟ (البخاري، بدء الوحي) وبيّن بقوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أن كل ذي عقل سليم لن يقبل الزعم أن الإنسان يمكن أن يتخلى فجأة عمّا تطبع عليه به منذ زمان.كما ويُثبت علم النفس أنه من المحال أن يحدث تغيير مفاجئ غير عادي في شخص إلا لأحد السببين: الأول: أن يتعرض لحادث إصابة في المخ فتعطل إثره ذاكرته، فتفسد أخلاقه أو تصلح، والثاني: أن يتغير الإنسان كلية بشكل مفاجئ بتأثير انقلاب روحاني عظيم؛ كأن يصاب بصدمة شديدة في الحياة تدفعه إلى اليأس والقنوط، فيميل إلى الشر كلية؛ أو أن

Page 75

الجزء الثالث ٦٨ سورة يونس تنكشف عليه حقيقة من الحقائق السامية الروحانية فيرغب في الخير كليةً.أما بدون هذين السببين فلا يمكن أن يتغير الإنسان تغييراً مفاجئًا غير عادي، وإنما يتغير تدريجيا بصورة عادية ولكن الثابت من التاريخ أن النبي ة ا ل لم يتعرض قبل دعواه لأي حادث من هذا القبيل قط، سواء من الناحية البدنية أو الروحانية فكان متعوّدًا حتى قبل النبوة بفترة طويلة، على العبادة منفردًا منقطعا عن الدنيا، وما كان قائطًا من أهله أو وطنه، وإنما كان مواسيًا لهم حريصا عليهم جاهدا في سبيل فلاحهم ورقيهم.فمن المستحيل إذا أن يقال إن هذا الذي كان بالأمس نموذجا مثاليا للطهر والصدق قد أصبح اليوم أكذَبَ شخص على وجه الأرض.ولقد استدل بهذه الآية من أقامه الله في هذا العصر إماما مهديًا ومسيحا موعودًا ال على صدق دعواه، ولكن المؤسف أن يلجأ معارضوه إلى نفس المعاذير الركيكة الواهية التي قدّمها أعداء النبي ﷺ ستارة قيصرية، الخزائن، ج ١٥، ص ۲۸۳).ليت هؤلاء القوم فكّروا أن هذا الرجل الذي كان قبل دعواه أكبر ناصر للإسلام ورمزًا للصلاح والصدق، وذلك بشهادة من أصبحوا فيما بعد ألد أعدائه؛ ليتهم فكروا كيف يمكنه أن يفسد فجأة ويبدأ بالافتراء على الله كذبا؟! وإليكم بعض الشواهد التاريخية على ما يسوقه القرآن هنا كدليل على صدق النبي ۱) جاء في الحديث عن علي أن أبا جهل قال للنبي : إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به الترمذي، كتاب التفسير سورة الأنعام) هذا أنه ويتضح من حتى بعد إعلانه دعواه لم يجرؤ معارضوه على أن يطعنوا في سيرته قبل الدعوى، وإنما كانوا في بداية دعواه يرتدعون عن نسبته إلى الكذب.٢) وهناك شهادة من النضر بن الحارث وهو أحد التسعة المتآمرين على قتل النبي - كانت قريش تتشاور مرة قبل موسم الحج وتقول: سوف تحضر القبائل للحج من خارج مكة، فماذا نقول لهم عن محمد ؟ فأشار عليهم أحدهم سنقول: إنه كذاب

Page 76

الجزء الثالث ٦٩ سورة يونس ساحر.فوقف النضر في حماس وقال: لقد كان محمد فيكم غلاما حدنا، أَرْضاكم فيكم، وأصدَقَكم حديثا، وأعظَمَكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به، قلتم ساحر.والله ما هو بساحر.(الشفاء ص٥١) هذه الرواية تتحلى بعدة مزايا ولطائف منها: (أولاً) إنها تتناول الحديث عن حياة النبي ما قبل دعواه أي من الشباب إلى الكهولة دون الحديث عن صغره، إذ لا أحد من العقلاء يعترض على أفعال أحد في الصغر.(ثانيا) إنها تذكر بالتفصيل أخلاق النبي وخصوصياته.(ثالثًا) إنها شهادة شخص تآمر فيما بعد على قتل النبي ﷺ ومات على كفره.(رابعًا ( إنها تكشف لنا مدى ما كان لأخلاق النبي من تأثير عظيم في قلوب القوم، حيث يتفوه أحدهم – وهو جالس في بيته – بكلام حلو لا يخرج في الحقيقة إلا من فم شخص كأبي بكر ه..أعني قوله : "لا والله ما هو بساحر".يبدو أن الأخلاق النبوية الفاضلة كانت آخذة بمجامع قلبه عندئذ بحيث خفف ذلك من عداوته فاضطر للاعتراف بالحقيقة على الملأ ) وجاءت شهادة السيدة خديجة رضي الله عنها تقول: "كلا، والله ما يخزيك الله أبدا.إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" (البخاري ، بدء الوحي) وهذه الشهادة على طهارة أخلاقه الا الله هي من زوجته المطهرة، والزوجة هي شاهد على أخلاق زوجها.أفضل النبي (٤) وهناك رواية عن أبي سفيان له أن هرقل الرومي جاءته رسالة من يدعوه فيها إلى الإسلام.فبعث رجاله بحثا عن أحد العرب ليخبره عن أحوال هذا المدعي.فأرسل إلى أبي سفيان في ركب من قريش كانوا تجاررًا بالشام، ودعاهم إلى مجلسه.فأدنى أبا سفيان منه وجعل أصحابه وراءه وقال لهم إنني سائل هذا الرجل عن هذا المدعي، فإن كَذَبَني في شيء فكذبوه فوراً.فسأله هرقل فيما سأل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما يقول؟ فقال : لا".(البخاري، بدء الوحي).

Page 77

الجزء الثالث ۷۰ وفي رواية أن أبا سفيان قال: لقد حاولت أن أدس في شهادتي شيئا ولكني خفت أصحابي أن يكذبوني (البخاري، بدء الوحي).سورة يونس من الكذب ه) ومنها أن الله تعالى لما أمر نبيه بقوله وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ صعد النبي جبلاً اسمه "أبو قبيس" ونادى القوم.فلما اجتمعوا حوله قال: أرأيتم، لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا.(البخاري، التفسير، الشعراء) ويعرف المطلعون على معالم مكة وأحوالها أن سؤال النبي هذا كان سؤالا عجيبا ومحرجا لهم، لأن الوادي الذي سألهم عنه واد ترعى فيه مواشي القوم، وكان من المحال أن يختفي فيه جيش من الفرسان، ومع ذلك أجابوه بنعم، سوف نصدقك في هذا المستحيل أيضا.وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أنهم ما كانوا يرونه صادقًا فحسب بل وكأن نسبة الكذب إليه محال عندهم.٦) وهناك شهادة أخرى من عدو لدود آخر، هو أمية بن خلف الذي قال: "والله ما يكذب محمد إذا حدث".(البخاري، المناقب).لقد بسط بعض من الكتاب المسيحيين ألسنتهم بالطعن في هذه الآية، ومنهم القسيس "ويري" وهو صاحب تفسير للقرآن الكريم.فقد اقتبس مما قاله المستشرق الإنجليزي"سيل" في ترجمته للقرآن الكريم تحت هذه الآية ما يلي: لقد عشتُ كلّ هذه السنين بين ظهرانيكم، لم أتعلم فيها على يد أحد، و لم أجالس عالما، لم أقرض شعرا، و لم أُلقِ خطبةً، فكيف تزعمون إذن بعد أن بلغت المشيب، أن هذه العبارات القرآنية مما كتبته يداي هاتان".وبعد إيراد هذه العبارة من ترجمة "سيل" للآية يعلق عليها ويري معترضا: أولاً : أليس مما يثير استغراب المرء أن يتربى ويترعرع محمد وعلي معا في واحد، ومع ذلك يتعلم على ويبقى محمد أميا؟ ثانيا: كيف يمكن أن نسلّم بأن محمدًا لم يعرف القراءة والكتابة رغم ممارسته عملاً

Page 78

الجزء الثالث ۷۱ سورة يونس هاما كالتجارة لسنوات طويلة؟ ثالثا: مما لا شك فيه أن محمدا كان يعرف هذا الفن في الأيام الأخيرة من حياته إذ جاء في الحديث أنه قد أمر معاوية وهو أحد كتاب وحيه أن اكتب "الباء" سوية، وأبرز أسنان السين! رابعا : لقد أمر محمد قبل وفاته بإحضار القلم والدواة، مما يدل على أنه كان يبغي كتابة شيء، وهنا ينشأ سؤال: من أين تعلم فن الكتابة؟ يقول المفسرون: إن الله علمه القراءة والكتابة بالوحي، ودليلهم على ذلك الآيةُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.فالمفسرون أنفسهم يعترفون بكون محمد عارفا بهذا الفن.غير أني أرى أن الآية لا تدل على تلقيه هذا الفن عن طريق الوحي الإلهي كمعجزة، كما لا تدل على أنه كان جاهلا به قبل نزول هذه الآية.خامسا : ويستمر القسيس ويقول: ولو استدل أحد على كون محمد جاهلا فنّ الكتابة بوجود كتبة عنده، فهذا أيضًا ليس بدليل مقنع، لأن الاستعانة بالكتبة كان عادة شائعة بين كبار علماء زمانه.ثم يثير ويري سؤالا: إذن فمن أين أتت الفكرة بأن محمدا كان يجهل القراءة والكتابة؟ فيرد هو على سؤاله بنفسه قائلا: الواقع أن ذلك هو أن القرآن وصف محمدا بكلمة (النبي الأُمّي)، فاغتر المسلمون بها وظنوه أميًا بالمعنى الشائع في هذه أن القرآن إنما أطلق هذه التسمية عليه، لأن اليهود كانوا يسمون العرب سبب الأيام، مع أميين.فالنبي الأمي" معناه إذن نبي غير إسرائيلي أو غير يهودي، لا غير متعلم.ثم يستطرد ويري ويقول : " إن شيوع هذا الفهم الخاطئ لكلمة (النبي الأمي) ساعد كثيرًا على انتشار دين محمد، لأن الناس اعتبروه دليلا على كون القرآن كلاما إلهيًا أن إلقاء نظرة شاملة على حياته الأولى تؤكّد على أنه كان ملما بفنّ معجزا، مع القراءة والكتابة منذ صغره.(تفسير ويري، تحت الآية).هذا ملخص ما أثاره ويري من اعتراضات وشكوك، وفيما يلي الرد عليها:

Page 79

الجزء الثالث ۷۲ سورة يونس لقد سبق أن ذكرت أن الآية لا تتحدث عن كون النبي ﷺ عارفا القراءة والكتابة أم لا، بل تلفت الأنظار إلى حياته الطاهرة قبل دعواه، كما هو ظاهر من السياق.فما كانت مطالبة الكفار منه أن يغير الكتابة الظاهرة للقرآن، وإنما أن يغير تعاليمه ومبادئه.وإن الله تعالى لم يردّ على مطالبهم هذه بقوله: إن رسولي لا يعرف فن القراءة والكتابة، وإنما قال: لو شاء الله لما عرض عليكم محمد هذه التعاليم، بل لم ننزلها أصلاً.فالآية لا تتحدث عن قدرته على الكتابة أو عدمها، كما أن الكفار لم يعترضوا بأنه يكتب هذه التعاليم بيده حتى ينفي الله عن رسوله تهمة كتابة القرآن بيده، وإنما كانوا يطالبونه بتغيير التعاليم القرآنية، حتى إذا غيرها بنفسه ثبت كذبه وظهر افتراؤه، وأما إذا لم يحرفها حرّضوا عليه شعبه قائلين: انظروا إلى هذا المدعي، إنه لا يريد أن يضحي لأجل القوم بأمر بسيط.فما دامت الآية لا ترمي إلى ما ذهب إليه القسيس فقد بطل الاعتراض تلقائيا.ولو سلمنا جَدَلاً أنها تعني ما يزعمه القسيس من أمر القراءة والكتابة فمع ذلك تبقى اعتراضاته واهية وأدلته زائفة كما سنبين فيما يلي: أولاً : لا قيمة ولا وزن لدليله الأول : أليس غريبا أن يتربى ويترعرع محمد وعلي معا في بيت واحد، ومع ذلك يتعلم علي بينما يبقى محمد أميًا"؟ الواقع أن قوله هذا يدل على جهله الفاحش بالتاريخ إذ يعرف كل من له إلمام بسيط بالتاريخ الإسلامي أن الفرق بين سن سيدنا محمد وعلي يبلغ ٢٩ سنة.فالزعم أنهما تربيا معًا في بيت واحد لزعم يرفضه العقل والتاريخ، ولا يرضى به إلا القسيس ومن كان على شاكلته ممن يجهلون التاريخ الإسلامي.لقد ولد علي بن أبي طالب حينما كان سيدنا محمد متزوجا بالسيدة خديجة الله عنها.كان قد انتقل من بيت عمه أبي طالب إلى بيتها، وكانت قد وضعت كل ما تملك من أموال وثروات في يده الكريمة ، فكان يُعدُّ من أثرياء القوم.فادعاء رضي

Page 80

الجزء الثالث ۷۳ سورة يونس القسيس مرفوض عقليا وتاريخيا بل الأغرب أن التاريخ يشهد على عكس ادعائه، إذ الثابت تاريخيا أنه ليس سيدنا محمد الذي تربى وترعرع مع علي في بيت أبيه أبي طالب، وإنما هو علي الذي تربّى في بيت الرسول.فالنبي عندما رأى فقر عمه أخذ عليا إلى بيته هو فشبّ عنده.(حلي الأيام في خلفاء الإسلام ج ١ ص ١٩٦ ).له.فإذا كان علي قد تعلم هذا الفن منذ الصغر فإنما ذلك بسبب تربية النبي ولا يمكن لعاقل أن يقول : ما دام محمد قد ساعد عليا على تعلم هذا الفن فكيف يمكن ألا يعلم أبو طالب ابن أخيه محمدا الكتابة والقراءة؟ والواقع أن تعليم الصغار يتوقف على الظروف السائدة في كل زمان ومكان، ويتوقف على ميول المربي وأفكاره.ومحمد وعلي يختلفان اختلافًا كبيرًا من ناحية الظروف والمربين.فقد كان النبي ﷺ يحب العلم ونشره فقام بتعليم علي.ولكن جدّ النبي وعمه لم يرغبا في تعليم الصغار بسبب ظروف وعادات عصرهما، فلم يحاولا تعليم النبي.وقد بلغ ولوع النبي بالعلم والتعليم درجة أنه حثّ عديدا من الصحابة على تحصيل العلم في سنّ متقدمة جدا، حتى إن عمر الله تعلّم العبرانية في المدينة وقد بلغ سنًا متقدمةً.ثانيا: قال ويري كيف مارس محمد عملاً هامًا كالتجارة إذا هو لم يكن يعرف القراءة والكتابة؟ هذا الاعتراض نابع أيضا عن قياسه حالات الزمن النبوي بالحالات الراهنة في أوروبا، مع أنه يوجد هناك حتى في زمننا هذا في البلاد الآسيوية أمثلة كثيرة لأناس غير متعلمين يمارسون أعمالاً تجارية ضخمة والثابت تاريخيا أن أهل مكة ما كانوا يجيدون كثيرا القراءة والكتابة وما كان فيها إلا بضعة أشخاص ملمين بهذه المهارة (تاريخ الأدب الجاهلي، الفصل الرابع) بيد أنه كان فيها مئات التجار وأرباب القوافل التي تخرج قافلة تلو الأخرى.فالقول بأن كل من خرج منهم تاجرا كان عارفا بالقراءة والكتابة قول باطل وخاطئ وقياس مع الفارق.ومما يدحض زعم القسيس أيضا رواية تخبرنا أن السيدة خديجة له كانت ترسل

Page 81

الجزء الثالث ٧٤ سورة يونس النبي ﷺ في أسفاره التجارية عبدا لها اسمه ميسرة وقد كان رجلا متعلما.ثالثا: قال القسيس إنه ورد في الحديث أن محمدًا أمر كاتب وحيه معاوية أن يتقن كتابة الباء والسين مما يؤكد أنه كان يعرف الكتابة.وجوابنا الأول : إن هذه الرواية ليست فيما يبدو من الروايات الموثوق بها، ذلك أن العباسيين كانوا يعادون الأمويين، فوضعوا في زمن ملكهم روايات عديدة ليوهموا فيها الناس بأن الأمويين ما كانوا يرغبون في العلم والثقافة كما أنَّهُم لم يكونوا ذوي فطنة وذكاء.سيوجه وأما إذا اعتبرنا الرواية حديثًا صحيحًا فإنها مع ذلك لا تحقق غرض القسيس.ذلك أن الإنسان الذي ما كان له في الحياة لفترة طويلة أي عمل إلا هداية الناس ونصحهم وإملاء القرآن على الكتبة لا يمكن أن يصعب عليه التمييز بين الباء والسين، وبالتالي كاتبه لإتقانهما، ولا يشترط لذلك أن يكون ملمًا بهذا الفن.فمن الممكن أن يكون أحد الصحابة قد تباطأ أمام النبي مرة في قراءة ما كتبه معاوية من الوحي، فسأله عن سبب التأخير، فأجاب: لا أستطيع قراءة المكتوب أمامي لأن الباء هنا ليست طويلة بما يكفي، أو أن أسنان السين ليست بارزة واضحة.فأدرك بذلك النبي أن الباء يجب أن تكون منبسطة طويلة وأن السين يجب أن تكون بارزة الأسنان، وبناء على ذلك أمر النبي ﷺ كاتبه معاوية بإتقان الحرفين كي لا يشتبه الأمر على القارئ.ففي بلادنا مثلاً يقول الرجل أحيانًا لزوجته وهي تخبز: اجعلي الرغيف مستديرا فإنه ليس مستديرا.فهل يستنتج أحد من قوله هذا أنه خباز ماهر إذ يرشد زوجته في هذا الفن كلا فلا دليل إذن في الرواية على ما يزعمه القسيس.رابعا: يقول القسيس: إن محمدا كان قد أمر بإحضار القلم والدواة قبل وفاته، مما يدل على أنه كان يريد كتابة شيء ما، وبهذا فهو كان يعرف فن الكتابة.إن استدلاله هذا باطل أيضًا، لأن النبي ﷺ في حياته النبوية كان يأمر دائمًا صحابته بإحضار القلم والدَّواة، عندما أراد إملاء الوحي ،القرآني فكيف يثبت من ذلك أنه

Page 82

الجزء الثالث Vo سورة يونس كان ملما بهذا الفن ؟ خامسا: إن آية (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لا تدعم زعم القسيس.ذلك أن دائما كلمة القراءة لا تعني قراءة عبارة مكتوبة فحسب، بل تعني أيضا ترديد ما يقول الغير.فمثلاً إذا كان هناك أحد يجيد قراءة القرآن وإن كان كفيفا فيقولون أيضا: إنه يُحسن القراءة.فاستدلالهم من قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ لا يستقيم بأي شكل أبدا.والثابت من حديث صحيح أن جبريل لما قال للنبي عند بدء الوحي: (اقْرَأْ ما وضع أمامه أية عبارة مكتوبة، وما كان جبريل يقصد بقوله هذا: اقرأ العبارة الموضوعة أمامك، وإنما يعني: ردد ورائي ما أقرأ عليك.سادسا: أما قول القسيس: إن الناس انخدعوا بقول "النبي الأمي" الأمي" فهو أيضًا قول عجيب.أليس من المحير والمدهش الزعم أن الناس لم يدركوا رغم عيش النبي بينهم دون انقطاع، ما إذا كان مُلما بالقراءة أم لا، ولكنهم علموا بورود كلمة النبي علم اليقين أنه جاهل بفن القراءة والكتابة.مع النبي الأمي إننا نسأل القسيس: من ذا الذي انخدع بكلمة الأمي؟ هل هم أولئك الذين عاشوا أم الذين جاءوا بعدهم؟ فلو قيل: من عاش معه، قلنا: كيف انخدعوا بهذا الوصف مع أنهم رأوه بأم أعينهم يقرأ ويكتب كما يزعم القسيس؟ ولو قيل: لقد انخدع الذين جاءوا بعدهم قلنا: إنما دليلكم على أن وصف "النبي الأمي" هو الذي أدى بالناس إلى الاعتقاد الخاطئ أنه يجهل فن القراءة والكتابة، ومع ذلك أتى بمثل هذا هذا الاعتقاد الخاطىء معجزة.في حين أن - بسبب الكتاب العظيم، فاعتبروه المعجزة القرآنية عُرضت أول ما عرضت في زمن الصحابة، وسؤالنا: إذا كانت كلمة "النبي الأمى" الخدعة التي جعلت الناس يعتبرون القرآن معجزة محمد، فكيف يمكن هي للصحابة أن يعتبروه معجزة محمدية مع علمهم أن الرسول ملم بهذا الفن؟ وسؤالنا الثاني هو: إن العرب قد أسلموا والنبي ﷺ حي يرزق، وهم الذين كانوا في الحقيقة قادرين على إدراك الإعجاز القرآني من ناحية اللغة العربية الراقية، فما

Page 83

الجزء الثالث ٧٦ سورة يونس كانوا لينخدعوا بخدعة "النبي الأمي" وحدها إذا كان القرآن خاليا من الإعجاز اللغوي.وأما الذين جاءوا من بعدهم من العجم فما كانوا في الحقيقة قادرين على إدراك محاسن اللغة العربية إلا ما شذ وندر.فكون القرآن معجزة في لغة الضاد أو عدمه كان سواء عندهم وما كانوا لتنطلي عليهم خدعة "النبي الأمى" كما يزعم القسيس.فأين إذا أولئك الذين انخدعوا بها وأساءوا فهمها، فظنوا خطأ أن القرآن معجزة مع أنه في الحقيقة ليس كذلك؟ لاشك أن كلمة "أمي" باللغة العربية تعني أصلاً من لا يعرف الكتابة والقراءة، نسبة إلى الأم، لأن الكتابة والقراءة مكتسبة، فهو على ما ولدته أمه من الجهل بالكتابة (الأقرب).غير أني أرى أن هذه التسمية ترجع إلى ما في الطفل من براءة وطهارة، إذ إنه يولد طاهرا بريئًا من المساوئ، وبهذا المعنى أُطلقت الكلمة أيضًا على النبي.أما اليهود فكانوا يطلقونها على العرب على سبيل الاحتقار معيرين إياهم بالجهل والغباء.فهل يقبل أي عاقل أن القرآن لم يستخدم الكلمة بمعناها الأصلي وإنما بالمعنى الذي كان الأعداء يطلقونها على العرب احتقارًا لهم وازدراء بهم.ولنفترض أن القرآن كلام محمد وليس بكلام الله تعالى، ومع ذلك فهل يُعقل أن يطلق النبي ﷺ على قومه وعلى نفسه هذه التسمية التي كان أعداؤهم يطلقونها عليهم تحقيرًا وتشنيعا ؟! سابعا: قال القسيس : لو قال أحد كان محمد لا يعرف الكتابة ولذلك كان عنده كتبة يكتبون وحيه، فهذا أيضا ليس بدليل مقنع، لأن الاستعانة بالكتبة كانت عادة شائعة بين كبار علماء زمانه.إن هذا خطأ تاريخي فاضح من القسيس.يبدو أنه قرأ حادثــا نتاج كهذا من العصر العباسي وقاس به الحالة السائدة في زمن النبي وأتى بهذا الاستنتا الخاطئ.الحق أنه لم يكن بين العرب في زمن النبي ﷺ علماء كهؤلاء، كما لم يكن عندهم أي كتبة.وما يزعمه القسيس أمر لم يستطع المؤرخون المسيحيون إلى الآن أن يبرهنوه ولو بمثال واحد من التاريخ و لم يقدروا على أن يثبتوا أنه كان عادة شائعة في

Page 84

الجزء الثالث VV سورة يونس ذلك العصر.كان في مكة عندئذ عالم واحد فقط هو ورقة بن نوفل، كما يذكر التاريخ، ولكنه كان يكتب بنفسه، و لم يستخدم أي كاتب (البخاري: بدأ الوحي).فالأسف كل الأسف على أن التعصب دفع هؤلاء الكتاب المسيحيين لاختلاق أمور زائفة من عند أنفسهم ليعرضوها على أنها حقائق تاريخية !! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ) ۱۸ شرح الكلمات: افتری فرى الشيء فَرَيًا : قطعه وشقه.افترى عليه بالكذب: اختلقه (الأقرب).لا يفلح: أفلح الرجل: فاز وظفر بما طلب.أفلح بالشيء: عاش به.أفلح زيد: نجح في سعيه وأصاب في عمله (الأقرب).مجرمون أجرم: أذنب؛ عَظُمَ جرمه.وأجرم عليهم الجريمة: جنى.(الأقرب) التفسير: لقد بين الله تعالى هنا حقيقتين هامتين أولاهما أنه لا يمكن أن ينجو من العذاب بحسب القانون الإلهي اثنان الأول من اختلق الكلام من عند نفسه وعرضه على الناس على أنه كلام إلهي والثاني: من ناصب العداء لمن يأتي بكلام من الله.والحقيقة الثانية هي أن المفترين على الله كذبا لا يفلحون أبدا في مرامهم، بمعنى أن الهدف الذي يذكرونه لبعثتهم لا يتحقق وأن التعليم الذي يعرضونه للعالم لا يُكتب له الانتشار.إن القرآن الكريم في معظم الأحيان قد ذكر الافتراء الذي يعاقب صاحبه مقرونا بكلمة الكذب، مع أن الافتراء وحده جريمة نكراء وأرى أن الحكمة من وراء

Page 85

الجزء الثالث ۷۸ سورة يونس استخدام هذا الأسلوب القرآني هي أنه لو افترى أحد على الله تعالى بأمر صحيح حق فلربما لا يعاقب بالجريمة المذكورة هنا، وإن عُدّ من المجرمين وعوقب بعقوبة أخرى لا محالة.فعلى سبيل المثال قد يدعى شخص أن الله تعالى أخبره بالرؤيا أن محمدا رسول صادق.فلو أنه لم يرَ أي رؤيا في الحقيقة فسيعدُّ مفتريا، وإن لم یکن افتراؤه ،كذبًا، بل هو حق، ولا ضرر في افترائه على الناس، وإنما كَذَبَ كذبةً تخص ذاته، وجاء بعمل دمّر به تقواه هو، فلذلك لا يعاقب بالعقوبة المذكورة في الآية بل يلقى من العقوبة ما يلقاه أي كاذب عادي آخر.ولنتذكر أيضًا أن الله قد قال هنا: إن المفتري لا يفلح في هدفه، ولم يقل: إن المفتري لا يمكن أن يجمع حوله فريقا من الناس أو أنه لن يزدهر ازدهارا ماديًا.كلا، بل من الممكن تماما أن يجمع حوله طائفة من الناس أو أن يحقق ثراءً ماديا.ذلك أن لا أحد من المدعين يقوم لمجرد جمع زمرة من الناس حوله، وإنما يذكر كل واحد منهم روحانيا من نشر شرع جديد أو تجديد شرع قديم، فما لم ينجح في نيل هدفه هدفًا الحقيقي هذا فلن يعدّ مفلحا.وهذا مقياس عظيم لمعرفة صدق المدعين أو كذبهم، ولا يمكن أن يستغله أي كذاب كما أنه يبرئ الصادقين منهم مما يثار ضدهم من طعن واعتراض.فمثلاً قتل النبي يحيى ، ولكن هذا لم يخل بهدفه شيئًا، ولم يقدح في كونه مفلحا، لأن غاية بعثته كانت تتمثل في أن يعرف الناس بالمسيح ويمهد السبيل لتصديقه.وقد نال غايته هذه رغم قتله حيث كان حضرته بمثابة عالم برزخي بالنسبة للأمة اليهودية، وقد بعث إليهم ليهيئ النفوس لقبول المسيح القل، وقد حقق غاية بعثته هذه حيث بدأ اليهود فعلاً بانتظار ظهور المسيح بينهم، وقام كل أتباع يحيى بتصديق المسيح حتى لم تعد له جماعة مستقلة، بل كلهم انضموا إلى جماعة المسيح عليهما السلام.6 وكما ذكرت آنفًا فإن هذا المقياس يكشف زيف وكذب المتنبئين الكذابين، ومثال ذلك زعيم البهائيين "بهاء الله".فلنفترض أنه كان في الحقيقة قد ادعى النبوة، وليس

Page 86

الجزء الثالث ۷۹ سورة يونس الألوهية، وأن عدد أتباعه وصل إلى مئات الآلاف، فإنه مع ذلك لن يُعَدَّ صادقًا بهذا الدليل.ذلك أن غاية بعثته كما بيّن هو بنفسه هي أن يبرهن على أن الشريعة الإسلامية ناقصة ومنسوخة، وأنه قد جاء مكانها بشرع جديد؛ الشرع البهائي.ولكن لم تتحقق له هذه الغاية في أي بيت ولا في أي يوم، بل على العكس من ذلك فقد ازداد إقبال الناس على القرآن الكريم، حتى بدأ كثير من الأوروبيين يصدقون القرآن الكريم اليوم وقد كانوا بالأمس القريب يكذبونه ويكفرون به فالشريعة الإسلامية التي جاء البهاء لإلغائها ونسخها على حد زعمهم تنال كل يوم رضا وقبولاً لدى الناس، ولكن شريعته هو قد طويت بيد النسيان.ولو أن أميركا كلها اعتنقت البهائية فلن يُعتبر البهاء أيضًا مفلحا ما لم تنتشر شريعته وتتوطد في العالم كله.وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ شرح الكلمات : دون: نقيضُ فوق ؛ أسفل ؛ أمام وراء؛ فوق ؛ غير ؛ الشريف؛ الخسيس (الأقرب).تنبئون : النبأ: الخبر.وفي الكليات: النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم (الأقرب).سبحانه: سبحان الله : أي أبرئ الله من السوء براءة (الأقرب).يشركون: أشرك بالله: جعل له شريكا (الأقرب).التفسير: الواقع أن الباعث الحقيقي على الإشراك بالله إنما هو الجهل بغاية خلق

Page 87

الجزء الثالث سورة يونس الإنسان، وأن المشرك يسيء الظن بالله وبنفسه هو.ذلك أن أساس الشرك إنما هو الزعم الخاطئ أننا لا نستطيع الوصول إلى الله دون وسيط، كما أنه هو سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يصل إلينا إلا بوسيط والإسلام يعارض هذا الزعم بكل شدة.إنه لا يسمح للإنسان أن الظن بخالقه، كما لا يسمح له بالقنوط من القدرات الكامنة يسيء في النفس البشرية.لقد خلق الله العباد ليصلوا إليه ولا يرضى أبدا أن يحول دونه ودون العباد أحد كائنا من كان.وقوله تعالى أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ يحتوي على دحض لطيف لعقيدة الشرك حيث ذكر أنه لو كان هناك في السماوات أو الأرض شفيع معين من قبل الله يتوسط بينه وبين العباد لجاء الإعلان عن تعيينه من قبل الله لا الله من جانبكم أنتم كما تنشر الحكومات اليوم أسماء موظفيها الكبار في دورياتها الرسمية.ولكن العجيب أنه بدلا من أن يخبر الله بتعيين وسيط من عنده تهبون أنتم لتعلنوا للناس أن فلانا قد صار شريكا وسيطا الله تعالى، في حين أن كافة الأنبياء -ولا يتعدى منصبهم منصب حامل خبر من واحد إلى آخر- يتم تعيينهم دائما من قبل تعالى وبإعلان منه فما بال هؤلاء الذين ترونهم شركاء الله في ملكوته تنصبونهم بأيديكم، دون أن ينهض على وجودهم أي دليل من الوحي والإلهام؟ وكأنكم أول من يعرف تعيين هؤلاء الشركاء، فتقومون بدوركم وتخبرون الله بذلك! تأخذون حجرا وتنصبونه في مكان وتسمونه ،إلها، أو تختارون إنسانًا، هذا الكائن الحقير الضعيف، وتعزون إليه قدرات وصفات تخص الله تعالى وحده في الحقيقة!! وقد ذكر هنا كلاً من السماء والأرض لأنهم زعموا أن هناك آلهة في السماء وأخرى في الأرض.ووضح بقوله تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ أنه لا يليق بالإله الكامل الصفات والمحاسن أن يخلق الإنسان لغاية معينة، ثم يعرقل سبيله إلى تحقيق غايته بشتى العقبات التي لا يجد لتذليلها هديا سماويا، وكأنه تعالى بنفسه يبطل عمله ويفسد

Page 88

الجزء الثالث ۸۱ خطته.إن الله بريء من مثل هذه العيوب وأسمى من هذه النقائص.سورة يونس وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ شرح الكلمات : ۲۰ أمة: الأمة: الجماعةُ، الجيلُ من كل حي، الطريقة، الدين، الحين، القامة (الأقرب) اختلفوا: اختلف ضد اتفق اختلف زيد عمرا كان خليفته، جَعَله خلفه؛ أخذه من خلفه واختلف إلى الخلاء: تردد إليه.(الأقرب) كلمة: الكلمة: اللفظ كلُّ ما ينطق به الإنسان (الأقرب) قُضي: قضى بين الخصمين: حكم وفصل (الأقرب) التفسير للآية عدة معان منها: الأول: لقد هدينا الناس في بداية الأمر إلى طريق سليم واحد، ولكنهم انحرفوا عنه فيما بعد وفسدوا..أي أننا خلقنا الإنسان مجبولاً على الرشد والهداية وأخبرناه بالصراط السوي، ولكنه انحرف عنه واتجه إلى الضلال.و نتوصل بهذا المعنى إلى الحقيقة بأن الله تعالى إنما خلق الإنسان من أجل الهداية، ولذلك دلّه على سبيل الرشد ،والهدى ولو أن الله تعالى خلقه لإلقائه في جهنم للأبد كما يظن البعض لسوء فهمهم الآيات القرآنية (تفسير ابن جرير)- لوجهه منذ البداية إلى طريق جهنمي، فإذا انحرف عنه أدخله الجنة! الثاني: إن توحيد الناس إنما يتم دائما بواسطة الأنبياء.إننا نرسل إليهم نبيا فيهديهم إلى الصراط السوي، ولكنهم يختلفون فيما بينهم بعد فترة، ولولا قضاؤنا منذ البداية

Page 89

۸۲ سورة يونس الجزء الثالث أن لا نعذب قوما إلا بعد الإنذار والتحذير لقضينا على هؤلاء المختلفين.ولكنا نرسل إليهم بحسب هذا الوعد نبيا ،آخر فيتحدون مرة أخرى، ثم يشرعون بعد فترة في الاختلاف من جديد، وهكذا.ولنتذكر ، نظرًا إلى هذا المعنى، أن الذي يشتّت هذه الوحدة الحاصلة بواسطة الأنبياء إنما يدفع الدنيا إلى هوة الهلاك، ولذلك فإنه يستحق أشد العذاب.الثالث : إن الناس دومًا يسلكون سبيلاً واحدًا هو معارضة أنبيائهم.فكما أن الناس في الماضي عارضوا رسلهم وصدوا عنهم ، هكذا نرى دأبهم أيضًا.ولولا قضائي ما خلقت الناس إلا لنيل الهداية وأن رحمتي فاقت غضبي لقضينا أمرهم وقطعنا أنني دابر هم منذ زمن بعيد.وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (1) شرح الكلمات : ۲۱.الغيب : كل ما غاب عنك؛ ما غاب عن العيون (الأقرب) التفسير : في قوله تعالى (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ) وردت كلمة (من ربه) وصفا للآية والمراد: لولا أنزلت عليه آية ،بينة لأن الآية النازلة من عند الله تكون آية بينة..أي أنها تشير بنفسها إلى غاية نزولها وكأنها آية تتكلم بنفسها.لقد دأب معارضو الأنبياء منذ القدم على ترديد كلمة واحدة: ما نزلت عليهم أية آية.ومما يثير الدهشة أنه رغم استهلال هذه السورة بقوله تلْكَ آيَاتُ الْكِتَاب الْحَكِيمِ) كان ولا يزال أعداء الرسول ﷺ يقولون: ما نزلت على محمد أية آية!

Page 90

الجزء الثالث ۸۳ سورة يونس وهذا يؤكد أن رؤية الآيات ليس بوسع كل إنسان، وإنما تتطلب رؤيتها عيونا ترى بخشية ربها، وإلا فكيف ساغ لهؤلاء القوم حتى بعد نزول الآيات أن يظلُّوا مُصرّين على مطالبتهم :قائلين يا ليت نزلت معه آية وفي زمننا أيضا كان ولا يزال المشائخ المعارضون لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله يرددون الكلام نفسه أمام الناس: هل تظنوننا مجانين حتى نرفضه رغم نزول الآيات معه؟ ويتناسى هؤلاء أن أعداء النبي ﷺ أيضا ما كانوا فاقدي العقول إذ لم يصدقوه، بل إن العائق نفسه كان حائلاً دون تصديقهم إيَّاهُ..أي خُلو القلوب من خشية الله، فعميت أعينهم فلم يبصروا الآيات النازلة عليه.وليكن معلومًا أن الآية تكون بمعنى العذاب إذا طالب بها الكفار، إلا أن يصرحوا بمرادهم من الآية، فيعني قولهم هذا لماذا لا ينزل الله علينا العذاب إذا كان محمد نبيا صادقًا.ويتضح من قول الله تعالى (إِنَّمَا الْغَيْبُ لله أنه ليس ضروريا لمعرفة صدق الأنباء الإلهية أن يحدد بالضبط موعد تحققها، وإلا لما قال الله لنبيه أن قل لهم: إن العلم بموعد نزول العذاب هو عند ان الله وحده، بل أخبرهم بموعده عند سؤالهم عنه.ولكنه اكتفى بقوله : العلم بموعده عند الله، وعندما يحين نزوله تتجلى عليكم الحقيقة تلقائيا.فعليهم فالآية تتضمن درسًا للذين يعتقدون أن الأنباء الغيبية يجب أن يحدد موعد تحققها، أن يصححوا تفكيرهم وموقفهم من الأنباء.عندما يقع أمر عظيم غير عادي بناءً على النبأ الإلهي بحيث لا يمكن أن يسمَّى صدفة فيجب ألا ينكر تحققه كل إنسان ذي فطرة سليمة، بحجة أنه كان المفروض أن يتحقق النبأ في وقت كذا أو كذا، لأن مثل هذا التصرف لا يدل إلا على تعنته وعناده.وقوله تعالى (إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) يشتمل على ردّ لطيف على مطالبة الكفار بالعذاب، حيث يقول الرسول: إني أنا الذي يجب أن يضيق ذَرعًا على تأخر العذاب،

Page 91

الجزء الثالث ΛΕ سورة يونس مني.لا أنتم، إذ تجعلوننى أنا المسكين عُرضة لعذابكم وعدوانكم كل يوم.فلماذا تتعجلونه، أنتم قابعون في بيوتكم مطمئنين، بينما أتعرض أنا للتعذيب والإهانة، ولا يُسمح لي بالخروج من عتبة بيتي، ورغم هذا كله فأنا مطمئن متمسك بأهداب الصبر، وأما أنتم فإنَّكم قلقون بسبب تأخر العذاب.أيها الحمقى، طالما أنا المضطهد أنتظره صابرا فلماذا يصعب عليكم انتظاره؟! وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُل اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنْ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) ) شرح الكلمات : أذقنا : ذاق المكروه نزل به فقاساه أذاقه : صيّره يذوق.والذوق يكون فيما يُكره ويُحمد (الأقرب).ضراء: الضرّاء: الشدة، النقصُ في الأموال والأنفس، الزمانة (أي العاهة)، وهي اسم مؤنث من غير تذكير (الأقرب) مكرا: المكر: الخداع، جزاء المكر، سُمّي به كما سمي جزاء السيئة سيئة مجــــــازا ـلـــى سبيل مقابلة اللفظ باللفظ، مَكَرَ الله فلانا: جازاه على المكر.وقيل: المكر صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان: محمود يُقصد فيه الخير ومذموم يقصد فيه الشر (الأقرب) التفسير : قال الله من قبل (في الآية رقم (۲۰) لقد سبق قضاؤنا أننا خلقنا الناس لأجل رحمتنا، وأننا عملاً بقرارنا هذا نعاملهم دائما بالرحمة.وفي الآية التالية لها قال: إن الناس يطالبون رسلنا بالعذاب، ولكنا لا نتعجل في إنزاله عليهم بل ننزله على

Page 92

الجزء الثالث ٨٥ سورة يونس مهل، لكي يهتدي منهم من كان له نصيب من الهدى وقال في هذه الآية: لا ننزل ثم العذاب على مهل فحسب، بل لا ننزله دفعة واحدة وإنما نصيبهم بقسط منه نرفعه لكي يدركوا أن تكذيب الرسل يعرّض الإنسان للعذاب، وأن العذاب قادم لا محالة عليهم وبالتالي يرتدعون عن سلوكهم المشين ويكفون عن الظلم والعدوان.ولكن أصحاب الطبائع الشريرة لا يبالون بهذا النصح والإنذار، وإنما دأبهم أن يرتدعوا قليلاً عند نزول العذاب وما أن نخففه عنهم حتى يستأنفوا التنكر لآياتنا ورسلنا من جديد.والحق أننا أشد منهم عذابًا وأسرع منهم مكرًا، ولكنا نؤجله عمدا، فلا أعمالهم خافية علينا حتى نعجل بالانتقام منهم خوفًا من نسياننا إياها، كما أنه لم يضق بنا الوقت لإنزال العذاب عليهم بحيث نخاف أننا إذا لم نعاقبهم في وقت معين فلن نقدر على عذابهم في موعد لاحق.كلا بل إننا لقادرون على ضربهم في أي وقت نشاء، كما لا تخفى علينا منهم خافية وإن أخفوها.كما تبين الآية أيضا أن من فطرة الإنسان أنه إذا أنعم الله عليه برحمة من لدنه ظن أنه سيعيش على الدوام دائما في راحة ورخاء، مع أنه لو فكر وهو في هذا اليسر والرخاء في ساعة العسر والبلاء ودبّر لها لنال راحة أطول ورخاء أكثر.ومن المؤسف أن المسلمين لم يعوا هذا الدرس القرآني أيضا، فكان مآلهم هذا الذل والهوان، بل إنهم لا يعملون به اليوم، إذ لا يحافظون على أموالهم وثرواتهم بحكمة وتعقل، بل يبذرونها تبذيرا، أو يبخلون بها وقت الإنفاق، والنتيجة في الحالتين واحدة: الهلاك والدمار.إن الآية تحمل أيضًا ردًا على تساؤل الكفار السابق: إذا كان محمد صادقا في دعواه فلماذا لا يأتينا بالآية أي بالعذاب؟ فأجاب الله فيها : لقد أنزلنا صنوفا من العذاب، ولكننا نردفه برحمة منا عملاً بسنتنا المستمرة، ولكنكم سرعان ما تنسون العذاب لشقاوة قلوبكم وتأخذون في المطالبة به من جديد.وإنه لمما يبعث على الأسف أن المسلمين اليوم مصابون بهذا الداء أيضا.تحل بهم

Page 93

الجزء الثالث ٨٦ سورة يونس آفة بعد آفة وتنتابهم كارثة تلو كارثة، ولكن ما أن يكرمهم الله تعالى بين محنة وأخرى بساعات من الرحمة وفق سنته مع جميع المخلوقات إلا ويعودون إلى غفلتهم السابقة دون التفكير في سبيل النجاة مستقبلاً.وبين بقوله (قل اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا أن مكائدهم لن تأتي بالنتائج المنشودة، لأن كيدنا أسرع نتيجة من كيدهم، فكل ما يكيدون به نرتب عليه عواقبه أولاً بأول، وكلما دبّروا مكيدة قابلناها بما يحبطها ويفشلها.أما إذا كدنا نحن بهم كيدًا فسوف تظهر نتائجه قبل أن ينتبهوا إليها.هناك من يعترض: لماذا يطحن الأبرياء في رحى العذاب عندما يحل بالظالمين؟ الواقع أن هؤلاء المعترضين لا يرون الوجه الآخر من الصورة، كيف أن الله تعالى من أجل هداية زمرة من الناس - يمنح الأمان لآلاف من الأشرار.أما وقوع بعض الأبرياء في الأذى مع الظالمين فذلك لأن الناس ذوو طباع مدنية يفضّلون العيش معا فيتأثر بعضهم من بعض ولا بد أن يتقاسموا إلى حد ما أفراحهم وأتراحهم.ولذلك فعندما يحل العذاب بالظالمين يصاب جيرا انهم الأبرياء أيضا ببعض الأذى.لقد نسب الله هنا الرحمة إلى نفسه دون الضراء.ذلك أن النعمة تنزل بمحض رحمة الله تعالى، وأما الأذى فيترتب على أعمال الإنسان نفسه.وبقوله تعالى إذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آياتنا أشار أيضا إلى أننا ننزل عليهم ونصنع بهم الجميل، ولكن هؤلاء يتنكرون لصنيعنا ويحاربوننا بنعمنا.نمدهم بالأموال وغيرها فيستخدمونها لمحاربة رسلنا ومخالفة تعاليمنا.النعم هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ

Page 94

الجزء الثالث ۸۷ سورة يونس الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ شرح الكلمات : ۲۳ يسير: سار: ذهب في الأرض.سيّره: جعله سائرا (الأقرب).الفُلك: السفينة يذكر ويؤنث (الأقرب) عاصف: عَصَفَ الزرع: جَزَّه قبل أن يدرك عصفت الريح عصفًا وعصوفًا: اشتدت العاصف: المائلُ من كل شيء.(الأقرب) ظنوا الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويُستعمل في اليقين والشك.(الأقرب) أحيط : أحاط بالأمر: أحدق به من جوانبه وأحيط به: دنا هلاكه.(الأقرب) الدين: هو الجزاء والمكافأة؛ الطاعة؛ الذل؛ الحساب؛ القهر والغلبة والاستعلاء؛ السلطان والملك والحكم؛ التدبير؛ اسم الجميع ما يُعبد به الله؛ المله؛ الورع؛ القضاء (الأقرب) وهناك معان أخرى للكلمة تركناها لعدم انطباقها هنا.التفسير: لقد صرّح في الآية أنه تعالى يواصل بدوره إنزال فضله أو عقابه، ومن ناحية أخرى يستمر الكفار بدورهم في شرورهم وقت الرخاء والراحة أو في توبتهم الناقصة عند الضيق والعقاب ولكنهم لا يفكرون -للأسف- أنه كما تتحول الريح الهادئة الطيبة إلى إعصار مدمّر، كذلك فمن الممكن تماما أن ينقلب الفضل الإلهي عليهم إلى عذاب مهلك.فنبههم إلى ما يمرون به من ظروف وطوارئ في البر والبحر، ولبيان ذلك ضرب لهم مَثَل سفرهم على مياه البحر، لكون الماء ذا علاقة بالوحي الإلهي، وقال: فكما أن الريح الطيبة في البحار تأخذ شكل الطوفان المدمّر أحيانا، كذلك يمكن أن يحدث مع الكفار، فلذا يجب ألا يغتر أعداء الأنبياء هؤلاء عندما

Page 95

الجزء الثالث ۸۸ سورة يونس يمهلهم الله تعالى برفع العذاب عنهم، فلا يظنوا خطأ أنه قد رفع وزال عنهم إلى الأبد، بل عليهم أن يخشوا أن يكون وراء هذا الهدوء المؤقت عاصفة هوجاء.كما بين الله و أنه عندما يصيبكم العذاب تلين قلوبكم وتستكين مستيقنةً أن لا قبل لكم بمكر الله وكيده، وتعدون الله وعودًا عريضة بالتوبة والإصلاح، ولكن هل تبقون بعدئذ على هذه الاستكانة والخشوع؟ هذا ما يرد عليه الله في الآية التالية.لقد استخدم في بداية الآية ضمائر الخطاب واستبدل بها ضمائر الغائب فيما بعد.لماذا؟ الواقع أن في ذلك إشارةً إلى أمر لطيف للغاية وهو أن ضمائر الخطاب في البداية كانت تشمل المؤمنين والكفار معًا، لأن الله تعالى قد خلق أسباب الرحلات البرية والبحرية للناس كافة، سواء المؤمن فيها أو الكافر، ولكن فريقا منهم يتجه بعد ذلك إلى الكفران بهذه النعمة، فلذا بدل الضمائر فيما بعد مشيرًا فقط إلى الفريق الكافر بالنعمة، وقال: عندما تجري بهم السفن على مياه البحار يأتون بهذه الأعمال المتضاربة، حيث يتوبون إلى الله وقت الشدة متضرعين، ثم بعد الفوز بالنجاة يولّون عنه مدبرين.فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بعيكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) شرح الكلمات : ٢٤ يبغون بغاه يبغي بغيا وبُغاء وبُغية وبغية طلبه.بَغَت الأمةُ: زنت.وبغى فلان: عدا عن الحق واستطال عليه وظلمه (الأقرب) متاع المتاع: كلُّ ما يُنتفع ما يُنتفع به من الحوائج كالطعام والبز وأثـــــــات

Page 96

الجزء الثالث ۸۹ سورة يونس البيت والأدوات والسلع؛ وقيل: المتاع في اللغة كلُّ ما يُنتفع به من عروض الدنيا كثيرها وقليلها سوى الفضة والذهب، وعُرفًا كلُّ ما يلبسه الناس ويبسطونه.وقال في الكليات: المتاع والمتعة: ما يُنتفع به انتفاعا قليلا غير باق، بل ينقضي عن قريب.وأصل المتاع ما يُتبلغ به من الزاد (الأقرب) التفسير: لقد بين هنا أنكم ترجعون إلينا عند حلول الشدائد، وتسلكون سبيل البغي والفساد مرة أخرى عندما نرفعها عنكم دون التفكير أن وبال غيّكم وتمردكم سيكون عليكم.ذلك ليبين أن أحكام الشرع ليست بضريبة حتى يظن الإنسان أن تهربه منها يخلصه من المصيبة وإنما يأمره الله بها لينجو بالعمل بها من الهلاك، فتهربه منها لن يضر إلا نفسه.والحق أنه عندما يكون فرحًا فخورًا على تمكنه من الهروب منها فإن مستقلبه يبكى عليه لما ينتظره من مصير تعيس.فكلمة (إِنَّمَا بَعْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم تشير إلى أن الإسلام لا يعتبر الشرع لعنة، بل رحمة ربانية، وأن الله تعالى إنما يأمر الناس بما ينفعهم، ففرارهم من إتباع الأوامر الإلهية لن يؤدي إلا إلى هلاكهم هم، شأنهم في ذلك شأن المريض الذي يخالف أوامر ،الطبيب فهل تؤدي مخالفته له إلا إلى زيادة مرضه وتفاقم آلامه؟.وبقوله تعالى مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ردّ على سؤال هام: لماذا نرى أحيانا أناسا يخالفون الشرع ويعارضون الأنبياء ومع ذلك يحققون رقيا ماديا ويجنون متع الدنيا؟ فقال: هناك أعمال وممارسات يجد الإنسان متعة عند القيام بها، ولكن عندما تظهر عواقبها بعد حين يجدها وخيمة مهلكة فمثلا يتناول المريض في بعض الأحيان طعامًا ذلك يجد في أكله متعةً ولذةً، ولو أنه ضارا بصحته ومع تضرر فور أكله لامتنع ولكنه يدرك بفداحة خطئه فيما بعد عند اشتداد مرضه وآلامه.عنه، كما أشار الله جل - بتسمية الأموال الدنيوية متاعا إلى أن أموال الدنيا وأسبابها إنما هي بمثابة الزاد، وكما أن المسافر إذا أضاع زاده تضرر وهلك كذلك فمن بذر أمواله فيما لا يحقق غاية خلقها ووجودها تضرر وبقي محروما من تحقيق غاية خلقه،

Page 97

الجزء الثالث ألا وهي اللقاء بالله والوصال به جل شأنه.۹۰ سورة يونس إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ شرح الكلمات : : مثل : المَثَل : الشّبه والنظير ؛ الصفةُ؛ الحجةُ ؛ الحديث؛ القولُ السائر.(الأقرب) اختلط : اختلط امتزج واختلط الجمل: سمن؛ واختلط الظلام اعتكر (أي واشتد).(الأقرب) الأنعام: واحدها: نَعم؛ وهي: الإبل والشاة؛ وقيل: خاص بالإبل.قال أبو عبيدة: النعم الجمال فقط، ويؤنث ويذكر.وقيل: الأنعام: ذوات الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم.وقيل: يُطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمْ، وإن انفردت الغنم والبقر لم تُسَمَّ نَعَما.(الأقرب) زُخرف: الزخرف: الذهب؛ كمالُ حُسن الشيء.والزخرف من الأرض: ألوان نباتها.(الأقرب) حصيدا: حَصَدَ الزرع: قطعه بالمنجل.الحصيد: المقطوع بالمنجل؛ المستأصلُ.لم تغن غني بالمكان أقام به وغني فلان: عاش (الأقرب).

Page 98

الجزء الثالث ۹۱ سورة يونس التفسير: في هذه الآية تمثيل؛ يقول الله تعالى إن مثل الحياة الدنيا ومتعها كمثل الماء، فكما أن الماء ينزل من السماء، وبه تنبت الأرض الخضرة أصنافا وألوانا، منها ما يأكله الناس ومنها ما تأكله الحيوانات الأخرى.وبرؤية هذه النباتات الخضرة النضرة يظن الإنسان أن كل هذا حدث بجهوده ومهارته، وبدلاً من أن يقول: هذا من فضل ربي، يظن أنه هو القادر على إحياء هذه الأرض..عندها يأتيهم أمر الله أي نحيطها بالعذاب الذي يدمرها تدميرا كاملاً، فلا يستطيع هذا الذي يزعم أنه قادر على إحيائها بجهوده ومهارته أن يحميها من العذاب كذلك حال الأمم، فإذا أصابهما داء الكبر والتباهي تراها قد آذنت بالهلاك والدمار.لقد شبه الله هنا كلامه بالماء.ذلك لأنه عند نزول الكلام الإلهي تقع في العالم انقلابات عظيمة، وتخترع العلوم والمعارف صنوفًا وأنواعا، كما حدث لدى نزول القرآن الكريم، حيث نبغ من بين المسلمين علماء أفذاذ في جميع المجالات من أولياء ومحدثين وفلاسفة وغيرهم، حتى أتى على المسلمين زمان ظنوا أنهم قادرون على العلوم كلها وأنهم قد حصلوها بمهاراتهم فقط عندها أمسى هؤلاء العباقرة الأفذاذ أذلة مهانين في العالم.الحق أن هذه التغيرات الهائلة إنما تقع بسبب العامل نفسه الذي عند الله ل ، ولكن عند اختفائه عن الأنظار يشرع الناس في الظن أن هذا يُبعث من كله إنما حدث بفضل جهودهم ومهارتهم.وأما قوله تعالى (كَذَلكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فاعلموا أن الفكر معناه حفظ ما يوجد بين أحداث الماضي من ترابط وتعلق.فالمعنى: إنما ينتفع من الهدي الإلهي مَن هُم واعون دومًا لأحداث الماضي ويعتبرون بها.وأما الذين ينسونها فلا ينتفعون من الهداية السماوية.كما وتتضمن الآية إشارة إلى أن كل أُمة - مهما كانت قريبة العهد بنبيها – لا يزال فيها الأشرار يعيشون مع الأبرار، ولكنها لا تملك ما دام أبناؤها يخشون الله تعالى ويتوكلون عليه، وأما إذا أخذ داء الكبر والغرور يتفشى فيها هلكت وبادت.فلا

Page 99

الجزء الثالث ۹۲ سورة يونس تقاوموا نبيكم، لأن معارضته دليل على الغرور والمغرور هالك لا محالة.وتذكر الآية أيضا أنه ما من كلام ينزله الله تعالى إلا ويختلف فيه الناس.فمنهم من يراه خيرًا ومنهم من لا يرى فيه أي خير.ولكن الواقع أن الله تعالى لا يريد بإنزاله إلا أن يظفر عباده بأتباعه بالدار التي ينعمون فيها بالراحة الحقيقية والسلام الحقيقي.وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ شرح الكلمات : ٢٦ السلام: (قد سبق شرح معانيها تحت الآية (۱۱) والسلام أيضا من أسماء الجنة (الأقرب).التفسير : يكون المتوكل على الله والمطيع الكامل له في حال ثابت دائم، لأن كل شيء في الكون يبغي سلامته، وكل الناس يدعون لبقائه، لأنه مصدر نفع عظيم للعالم.والسلام معناه الطاعة أيضًا، فمعنى الآية أن الله تعالى سوف يبوئ عبده هذا مقام الطاعة والانقياد..أي يأخذه من حال الطاعة إلى مقام الطاعة حيث يبقى دائمًا مطيعا منقادًا له وعل.والسلام يعني الجنة أيضا، فالمعنى أنه تعالى يجعله وارثا لجنته.والسلام اسم من أسماء الله الحسنى، فالمعنى أنه تعالى يأخذه إلى داره..أي يشرفه بلقائه ووصاله.وقوله تعالى (وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ يعني أن الله تعالى يحقق لعبده هذا فوزًا سريعًا، ذلك أن الصراط المستقيم يكون أقصر الطرق وأسرعها إلى الغاية

Page 100

الجزء الثالث ۹۳ سورة يونس المنشودة.وهذا يُسمّى موهبةً وهو مقام الأنبياء والأولياء.يدعو البعض ليأتوا إليه، ويذهب بنفسه إلى البعض الآخر، ويأخذهم إليه.لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) شرح الكلمات : الحسنى: ضدُّ السوءى؛ العاقبةُ الحَسَنة؛ النظر إلى الله؛ الظفر؛ الشهادة (الأقرب) يَرهَقُ : رَهِقَ الرجل رَهَقًا: سَفهَ؛ رَكب الشر والظلم؛ غشي المحارم؛ كذب؛ عجل.ورَهَقَ فلانًا : غَشيه ولحقه يقال : رهقت الكلابُ الصيد؛ وقيل: دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه (الأقرب) قتر: القترُ: الغَبرة (الأقرب) والقترُ : الدخانُ الساطع من الشواء والعود ونحوهما (المفردات) ذلة : ذَلَّ البعيرُ يذلّ ذلاً: ضدُّ صعب، يقال: ذَلّت له القوافي: سهلت (الأقرب) ويسمّى الشخص ذليلاً لأن الناس يجدون الظلم به أمراً سهلاً.التفسير قوله تعالى (للَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) يعني أن المؤمنين سوف يلقون مصيرا حسنًا، ويحققون الفلاح أنواعًا، لأن الله تعالى سوف يشحذ قواهم ويبارك في سعيهم.: يعني وقوله تعالى (وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ فَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أنه تعالى سوف يشرفهم بوصاله ويحفظهم من أي ذل وهوان ولن يرتعبوا من الآخرين..أي أنهم لن يقلدوهم كالعبيد المهانين الأذلين، بل سوف يهب لهم الله من المزايا ما يجعل الناس يقتدون بهم هم.

Page 101

الجزء الثالث ٩٤ سورة يونس وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَة بمثْلَهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظلمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ شرح الكلمات : ۲۸ عاصم: عصم الشيء ء: منعه؛ حفظه (الأقرب) قطعًا: جمع قطعة، وهي الحصة من الشيء (الأقرب) :خالدون: خلد بالمكان وإلى المكان أقام به الأقرب) التفسير : لقد صرّح الله تعالى هنا بعدة أمور: الأول: أنه يجزي على الحسنة جزاء مضاعفا، ولكنه يعاقب على السيئة بمثلها دائما، ولا يزيد عليها.والثاني: أن الذين يخالفون التعاليم الإلهية يُحرمون من الهمم العالية، ويبقون مقلّدين لغيرهم، فاقدي الجرأة على الإقدام والقدرة على الاختراع، ويرون أن الرقي كله في تقليد الغير.لا يفكرون ولا يأملون أبدا أن بوسعهم قيادة الآخرين وجَعلَهم تابعين لهم.والثالث: أن مثل هذه الشعوب المنهارة المتردية لا تستطيع بنفسها الخروج من الحضيض، بل هي بحاجة إلى مساعدة خارجية، ولكن حيث إنها قد أغضبت ربها فتحرم من المساعدة الخارجية أيضًا.والرابع: أنه لا بد من انكشاف السيئة وافتضاح الظالم في آخر المطاف.وقد أخبر تعالى بذلك أن العالم أيضا سيطلع على مساوئ هذه الشعوب، فإذا كانوا لا يرتدعون عن ارتكاب المعاصي والمظالم إرضاءً لخالقهم، فيجب أن يفكروا على الأقل أنهم يعرضون أنفسهم للفضيحة أمام الدنيا.

Page 102

الجزء الثالث سورة يونس وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (2) شرح الكلمات : ۲۹ مكانكم مكانك : اسم فعل أمرٍ بمعنى اثبت (معجم النحو للدقر)، فالمعنى: الزموا مكانكم واثبتوا فيه.زيلنا زيله فرقه (الأقرب) ، التفسير: إن الله تعالى يتحدث هنا عن ذلك الاجتماع العظيم الشأن الذي سيكون وسيلة لانكشاف الحقائق كلها في آخر المطاف، وإن كان إدراكها سهلاً على الإنسان إذا استخدم العقل الموهوب من الله تعالى.ولنعلم أن الآية تتحدث هنا عن أولئك "الشركاء" الذين اتخذهم الناس شركاء لله سبحانه تعالى دون أي علم منهم بذلك مثل الملائكة، كرشنا، رام شندرا، عيسى والإمامين الحسن والحسين، وسيد عبد القادر الجيلاني وغيرهم عليهم السلام.فالآية تصرح أن هؤلاء الشركاء سوف يُشهدون الله على جهلهم بما اقترفه الناس باسمهم من الأعمال الوثنية البغيضة، ويقولون للمشركين فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ.وقوله تعالى (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ يبين أيضًا أنه سوف يتضح يوم القيامة بأن هؤلاء القوم الصلحاء بريئون تماماً مما فعله المشركون بهم ،وبسيرتهم وأن الطوائف الوثنية التي اتخذتهم آلهة كانت طوائف كاذبة في دعاواها.ما أروع المشهد الذي يصوره الله تعالى هنا.حيثُ يقول: سيأتي يوم يُحشر فيه الناس جميعًا، ثم يُقالُ للشركاء والمشركين: لا تبرحوا أماكنكم بل اثبتوا حيث أنتم واقفين.سوف يُؤمرون أولاً بالوقوف في أماكنهم، ثم يتم الفصل بينهم، ذلك ليتيح

Page 103

الجزء الثالث ٩٦ سورة يونس الله لهم الفرصة لإثبات دعواهم، وعند انكشاف الباطل الذي اقترفوه سوف يبرّئ الله الله ساحة أولئك الصلحاء الذين أشركوهم كآلهة مع وهم لا يعلمون، فيفصلهم عن المشركين، فيعلنون بفرح وسرور براءتهم من الذين أشركوهم بالله سبحانه وتعالى.ولو قيل: إذا كان المراد من الشركاء هنا فقط من أشركهم الناس بالله ظلما دون علم منهم، فلماذا لم يذكر هنا الشركاء الذين ينشرون الأفكار الوثنية؟ والجواب: إن ذكرهم مندرج في كلمة المشركين نفسها، لأنهم أيضا مشركون، وإنما ترمي الآية بهذا الأسلوب إلى إبطال دعوى معارضي الرسول و بأن أنبياء الله وأولياءه السابقين كانوا مؤيدين لعقيدتهم الوثنية، فردّ الله عليهم : ما هو دليلكم على دعواكم هذه؟.هؤلاء ما كانوا مؤيدين للشرك، وإنما هو قولكم بأفواهكم الذي لا أساس له.فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ التفسير : هذه الآية هي أحد الأدلة على وفاة سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، إذ نعرف منها أن حضرته سوف يبقى إلى يوم القيامة جاهلاً بما اقترفه أتباعه من أعمال وثنية، إذ يتخذونه شريكًا لله سبحانه وتعالى.فكيف يمكن للمسيح ال – إن كان لا يزال حيًّا وسيرجع إلى الدنيا مرة أخرى وسوف يرى أعمال أتباعه النصارى - أن يقول الله: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).(المائدة: (۱۱۸)

Page 104

الجزء الثالث ۹۷ سورة يونس هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ۳۱ شرح الكلمات : تبلو: بلاه يبلو بلاءً وبَلوا: جربه واختبره (الأقرب) مولى المولى: المالك المعتق؛ الصاحب القريب؛ الحليف؛ الولي؛ الرب؛ المنعم؛ المحب (الأقرب) الحق: ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ الملك الموجود الثابت، اليقين بعد الشك؛ الموتُ (الأقرب) ضل: ضَلَّ يَضِلَّ: ضِدُّ اهتدى ضلّ فلان عن الطريق: لم يهتد إليه.وضل الرجل في الدين ضلالاً وضلالةً ضدُّ اهتدى ضلَّ الفرس: ذهب عنه.وذهب عني ضاع.وضل الماء في اللبن: خفي وغاب وضلّ فلان فلانًا : نَسيَه.ضلّ الناسي: غاب حفظ الشيء.ضل عمله: عمل عملاً لم يعد عليه نفعه.(الأقرب) عنه كذا: التفسير: لقد وضح المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية أن حقيقة كل شيء بكل تفاصيلها لا تنكشف في هذه الدنيا، وإنما ستتجلى حقيقة الأشياء كلها بصورة كاملة واضحة في الآخرة فقط، ولهذا سيصدر هنالك القضاء الأصلي من قبل المالك الحقيقي، وبسبب انكشاف كل أمر على الجميع هناك لن يلجأ الناس إلى الكذب أبدًا، لأنهم لن يستطيعوا خداع أحد بالكذب، لأن كل واحد يكون مطلعًا على الأمر الواقع.وبقوله تعالى (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أشار إلى معظم ما ذكرناه آنفا من معان لهذه الكلمة.كما نبه العباد قائلا: إلى أين ستتجهون معرضين عن هذا الإله العادل، القائم بذاته المنعم عليكم، وأنى لكم أن تَفرُّوا من عذاب هذا القدير القائم الثابت منذ

Page 105

الجزء الثالث الأزل.۹۸ سورة يونس أما قوله تعالى (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَلَه معنيان، الأول: أنهم سوف ينسون أعمالهم، لأن الإنسان إذا أدرك خطأه حاول نسيانه.والثاني أنهم لن تغني عنهم أعمالهم شيئًا.قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ لْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ التفسير : هناك آيات معدودة جدا من القرآن الكريم التي أشاد بها المفسرون المسيحيون، وهذه الآية واحدة منها يكتب القسيس "ويري" فيقول: إن هذه الآية تحتوي على أدلة قوية على عقيدة التوحيد، ومثل هذا التعليم القرآني كان سببًا كبيرًا في نجاح الإسلام وانتشاره (تفسير ويري للقرآن).والعجب كلّ العجب أن هؤلاء القسيسين الأفاضل يُدلون بهذا الاعتراف الواضح بفضل الإسلام من ناحية ومن ناحية أخرى وفي الوقت نفسه يعزون رقي الإسلام إلى السيف والإغراء حينًا، وإلى التعاليم الأخلاقية المنحطة - على حد زعمهم حينا آخر.لقد نبه المولى العباد هنا إلى أن رزقهم إنما يأتي من السماء والأرض كلتيهما، بمعنى أن الرزق الآتي من مصدر واحد فقط لا يكفيهم.فمثلا لو نزل المطر غزيراً متواليا، ولكن حُرمت الأرض القدرة على الإنبات فلن يجدي المطر شيئًا، أو لو أن المطر انقطع لمدة طويلة فلن تغني الأرض الخصبة شيئًا.كذلك هو الطبع البشري، فإن الإنسان لن يكفيه العقل وحده لضمان هدايته الروحانية وإنما مثل العقل الإنساني

Page 106

الجزء الثالث ۹۹ سورة يونس كمثل الأرض العطشى، فما لم يَرتو العقل بماء الوحي الإلهي فإنه لن يقدر على إخراج النبات الروحاني الذي يغذي الروح.فكيف يمكنهم إذا أن يدعوا القدرة على الوصال بالله تعالى بعقولهم وحدها دون إتباع وحيه الذي أنزله على رسوله الكريم.إن للعقل نفعه دون شك، ولكن شأنه شأن العين فكما أن العين وحدها لا تقدر على الرؤية بدون الضوء من مصدر خارجي كالشمس، كذلك فإن العقل وحده لا يستطيع التوصل إلى النتيجة الصائبة بدون نور الوحي السماوي.ثم سأل أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ..أي أنَّه لو كان السمع والبصر مِلْكًا حد بينما كانت هداية الناس مسؤولية كائن آخر لَحقَّ لكم أن تحتجوا بقولكم: إن هذا المسئول لم يبال بأداء واجبه إذ لم يهيئ للسمع والبصر الروحانيين ما ينفعان به.أما إذا كان الذي وهب لكم السمع والبصر هو نفسه المسئول عن هدايتكم أفليس من الحماقة والغباء أن يُظن أنه خلق لكم هاتين الحاستين، ولكنه تركهما عاطلتين ولم يهيئ وسيلة تساعدكم على الانتفاع بهما.لأحد ثم يقول: (وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ)..أي من ذا الذي يُخرج الأبرار من صلب الأشرار والأشرار من ذرية الأبرار، ويُخرج الأحياء من الأموات ويأتي بالعكس أيضا.تُلقون في الأرض البراز كسماد وهو شيء لا حياة فيه، ولكن يخرج به زرع خضر، كما ترون الزرع الخضر يموت ويصبح هشيما، أو يصير برازا عندما يأكله الناس والحيوانات وما دمتم ترون عملية خروج الأحياء من الأموات، والأموات من الأحياء، فكيف تتوقعون من الله تعالى أن يتعجل عقاب الناس بكفرهم دون أن يمنح لهم فرصةً للتوبة والصلاح فإذا كان الشيء الميت في الظاهر تعود فيه آثار الحياة فلماذا تستبعدون أن تتفجر من قلب ميت عينُ الحياة الروحانية في وقت من الأوقات.وما دام هذا الاحتمال واردا فلماذا لا يمنحهم الله مهلةً لكي يُحبيَ منهم من كان له في الحياة الروحانية نصيب.ثم يتساءل الله تعالى ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ..أي من ذا الذي يشرف على إدارة النظام

Page 107

الجزء الثالث سورة يونس الكوني؟ فَسَيَقُولُونَ اللهُ).قل: أوليس عجيبا أن يقوم هذا المشرف على تدبير الكون بتدميره وتخريبه بيده، كما تزعمون؟ هل المشرف على شيء يصنعه أو ماكينة يديرها..ترونه مهتمًا بسلامة هذه الأشياء أم يدمرها ؟ كلا، لا أحد من العقلاء يُقدم على تدمير ما يملكه وإنما يسعى للانتفاع به ما استطاع إليه سبيلاً.فلماذا يعجل الله إذا بتدمير صنعته الكونية هذه التي تتجلى بها قدرته وعظمته، وإنما ينبغي أن لإنقاذها من الدمار بدلاً من تدميرها بيديه.يسعى وهذا ردّ على اعتراض الكفار أنه ما دام الله قد أنذرنا بالهلاك فلماذا لا يحقق إنذاره هذا على الفور.الاتقاء معناه: اتخاذ الشيء سترًا وجُنَّةً احتماءً من الأذى.وبناءً عليه فالمراد من قوله تعالى (أَفَلا تَتَّقُونَ هو لماذا لا تدخلون في الحماية الإلهية رغم مشاهدة هذه السنن الربانية مع أهل الصدق والحق.وما دمتم ترون في السنن الإلهية كلها أن كفة الرحمة والتَّمهل راجحة على كفة الغضب والعقاب أفلا ينبغي لكم أن تنتفعوا برحمته الواسعة وتسعوا للتصالح معه ، بدلاً من أن تلحوا في مطالبة إنزال العذاب عليكم.تدبروا هذه الآية، وانظروا ما أروعَ ترتيبها.ففي أولها ذَكَرَ الله الرزق الذي هو سبب استمرار الحياة.ثم تحدث عن السمع والبصر وهما مدار العقل والفهم.ثم ذكر الموت والحياة وهما رمز للقوة العملية التي تلي العقل أهميَّةً.وأخيرا ذكر التدبير الذي تمس إليه الحاجة بعد البدء في العمل، لأن التدبير معناه : إقامة نظام سليم لتنسيق شتّى الأعمال.وباختصار فقد ذكر الله هنا الوسائل الأربع التي لا بد منها لتحقيق غاية الخلق الإنساني، وذكرها بحسب درجاتها الطبيعية.ثم قال مستفهما : أليس من الغباء الظنُّ أن يهب الله تعالى للإنسان حياة، ثم يخلق فيه شعوراً، ثم يزوده بقوة للعمل، ثم يخلق فيه نظامًا لتنسيق الأعمال، ثم بعد كل هذا الخلق المدهش يتخلى عنه دون أن يهديه ويعلمه كيفية استغلال هذه الأسباب والقوى

Page 108

الجزء الثالث 1+1 سورة يونس لتحقيق هدف سام نافع؟ إنَّ مثل هذا العبث لا يمكن أن يجيزه كلُّ ذي عقل سليم.فالذي خلق هذه القوى الأربع لا بد أن يحدد لها غاية سامية، وعليه فإنه لا يعقل أبدًا أن الله الخالق يترك عباده بدون هداية ولا يُشرفهم بوحيه وإلهامه، أو أن يهلكهم قبل أن يتيح لهم الفرصة للهداية.لو كان الله يريد هلاكهم بالعذاب على عجل دون أن يمهلهم فلماذا خلق هذا النظام المتناهي في الدقة واللطافة والروعة؟ إن هذه الآية تحتوي على دحض للشرك أيضا، حيث تقول: ما دمتم تسلّمون بكون الله تعالى رازقًا للإنسان، خالقًا لما فيه من القوى، مالكًا للحياة والموت، ومدبرا للنظام الكوني ،أجمعه فما هو برهانكم على قولكم بأن كذا وكذا من الأمور هو من عمل شركاء الله.إذا كان الله سبحانه وتعالى لا يزال يقوم بهذه الأعمال كافة منذ الأزل، فكيف تُعزى بعض هذه الأعمال إلى كائنات أخرى؟ وإذا كان الله هو مخرج الأحياء من الأموات، فكيف تقولون بأن مولودًا كذا هو هبة من شريك آخر الله تعالى؟ ولماذا لا يقال: إن الذي يهب الأولاد عموما هو الذي وهبنا هذا المولود أيضا؟ مع العلم أن إخراج الحي من الميت لا يعني أن الحياة يمكن أن تتولد في الواقع من شيء ميت حقا، وإنما يدور الحديث هنا عن خروج الحياة من أشياء تبدو ميتة أول وهلة.فَذَلَكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) شرح الكلمات : ۳۳ الضلال: الهلاك؛ الفضيحة الباطل؛ ضدُّ الهدى (الأقرب) التفسير : هنا قال رَبُّكُمُ الْحَقُّ ، ومن قبل (في الآية (۳۱) قال (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ).ذلك أن الحديث هناك كان عن الجزاء والعقاب وأما هنا فعن تكميل مدارج الخلق الإنساني، فكانت الصفة الإلهية الملائمة هنا هي صفة الرب"، لأن معناها: الذي يخلق

Page 109

الجزء الثالث ۱۰۲ سورة يونس الشيء ويوصله إلى درجة كماله.فالآية تكملة للآية السابقة إذ تقول: إن هذا الإله الذي يربّي الإنسان طورًا فطورًاً حتى يصل إلى كماله إذا أعرض عنه الإنسان واتجه إلى إله غيره فلا شك في أنه أحمق وغبي.وقد جاء بكلمة (الحق) وصفا لـ (ربكم) ليبيّن أن الأرباب نوعان: رب يقوم بالتربية ولكنه رب فان وتربيته ناقصة، ورب آخر حقيقي قائم بذاته وهو أسمى من أن تصل إليه يد الفناء، وتربيته هي التربية الحقيقية الكاملة.فالله تعالى ليس ربًّا فحسب، بل هو رَبِّ أزلي أبدي، ولا يمكن أن يكون أحد أكثر منه كمالاً ولا أحسن منه تربية.فهل يعني التوجه إلى ربِّ غيره إلا الهلاك والدمار.كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) شرح الكلمات : ٣٤ الكلمة: اللفظ؛ كلُّ ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركبا.(الأقرب) فسقوا : فَسَقَ الرجل فسقًا وفسوقًا: تَرَكَ أمر الله ؛ عصى وجار عن قصد السبيل؛ خَرَجَ عن طريق الحق.وفَسَقَت الرطبة عن قشرها: خرجت.(الأقرب) التفسير: يقول: كما أنه من الثابت والمؤكد أن ليس دون الحق إلا الضلال والهلاك، كذلك قد جرت السُّنة الإلهية عن الفاسقين أي المارقين من الدين أنهم لا يؤمنون.أن إن الآية لا تعني أبدا بأن الله يحرم البعض من الإيمان، وإنما تنص صراحةً على القانون الإلهي يقضي بأن من سار على طريق الخطأ ازداد ضلالاً، ومن سار على طريق الصواب ازداد صلاحًا.والحق أنه لا بد من هذا القانون إذا كان للخلق الإنساني غاية وإلا لَعَمَّت الفوضى العالم ونال الظالمون درجات عليا في الحياة

Page 110

الجزء الثالث ۱۰۳ سورة يونس الروحانية، وأصبح الصالحون في عداد الضالين.الذي يُعرض عليه الدليل تلو الدليل، ثم لا ينفك سادرًا في رفضه وغيه..كيف يُستساغ أن يهديه الله قسرا؟ كلا؛ إنه لا أحدا قسرًا، ولا يُضلّ أحدًا جبرًا.نعم، إذا غيّر الإنسان ما في قلبه تغيرت يهدي المعاملة الإلهية معه تلقائيا.فانظروا كيف أن كلام الله القرآنَ يفيض محبةً وحنانا.إنه أولاً يعرض على الإنسان البراهين العقلية على صحة تعاليمه، ثم يذكره بنبرة ملؤها الحب والرقة بإصلاح حاله.قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ۳۵ التفسير : لقد ساق القرآن هنا برهانًا عظيمًا على بطلان عقيدة الشرك بالله، ولكن الناس عموماً لم ينتبهوا إليه.يقول الله تعالى : إن القدرة على خلق الأشياء تثبت من القدرة على إعادة خلقها من جديد، وإلا لادَّعى كل شخص أنه هو خالق الأشياء.فمثلا لو ادَّعى أحد اليوم وقال أنا الذي خلقت الكون لفندنا ادعاءه بقولنا: حسنًا، تعال فاخلقه أمامنا مرة أخرى.يقول الله تعالى : إننا لا نقدّم الخلق الأول كدليل على قدرتنا على الخلق والإيجاد فحسب، وذلك كيلا يزعم أحد أن عيسى أو غيره كان أيضًا شريكا لنا في عملية الخلق، وإنما دليلنا هو أننا قادرون على إعادة هذا الخلق من جديد.والمطالبة بإعادة الخلق تحقق هدفين: الأول: أنه يتم بذلك اختبار المدعي الكاذب فورا؛ والثاني: أنه يؤكد على أزلية الخلق الإلهي.فنعلم مثلاً أن الغلال لا تزال تنبت من الغلال منذ القدم، فلو ادعى أحد اليوم بأنه هو الخالق لها قلنا له: هذه الغلال لا

Page 111

الجزء الثالث 1.2 سورة يونس تزال تنبت من الغلال منذ القدم، وأما أنت فقد ولدت البارحة فكيف نعتبرك خالقًا لها.إنَّ الآلهة الباطلة محدود زمنها، وأما النواميس الإلهية فأزلية قديمة، فكيف يمكن أن تكون الآلهة الباطلة المحدودة الزمن خالقة لهذه الظواهر القائمة منذ الأزل بحسب قوانين طبيعية محددة.ولذلك سألهم أحد من الذي يتولى عملية الخلق وإعادته؟ فإن قالوا: الله، فسيكون سؤالنا: ما دام الله قد قدّر لعملية الخلق سننا محددة منذ الأزل ولا تزال الموجودات تتكون وفق هذه السنن، فكيف يثبت تدخُلُ شركاء الله من آلهة باطلة في عملية الخلق، بل وما الداعي لذلك يا ترى؟ كما تشير الآية إلى أن الملك الأزلي الذي خلق هذه السلسلة غير المتناهية من الكائنات كيف يمكن أن يفوّض أمر هدايتها إلى غيره أو يقوم بهداية قوم معينين ويحرم الآخرين منها؟ لو كان صاحب الخلق الأول هو غير من يعيد الخلق باستمرار لأمكنكم القول بأن الخالق الأول قام بهداية ،الأولين، ولكن المشرف على إعادة الخلق بالتناسل لم يحفل بهداية الآخرين.ولكن ما دام الذي خلق أولاً ثم الذي أشرف على استمرار الخلق وإعادته ربًا واحدًا فكيف يمكن أن يهدي الأولين ويحرم المتأخرين من الهدى.قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) شرح الكلمات :

Page 112

الجزء الثالث 1.0 سورة يونس يَهدي: فعل مضارع من باب الافتعال من (الهدى)، أصله يهتدي اهتدى يهتدي اهتداء.مُطاوعُ هَدَى.(الأقرب) التفسير : يقول الله تعالى: إذا كان الله لا يهدي الناس فهل شركاؤكم هم الذين يهدونهم لو كانوا هم الهادين لحق لكم القول بأن الله قد فوّض إليهم أمر الهداية، ولكن هل يمكن أن تأتوا بمثال واحد على نـزول شرع أو تعليم من قبل صنم أو إله من آلهتكم الباطلة؟ إنه لعجيب حقا أنه رغم الانتشار المتزايد للعقائد الوثنية في العالم، إلا أنه لا يوجد ولا كتاب واحد يدعي أنه هداية للناس وأنه نزل بوحي من أحد هذه الآلهة أو الأصنام.لقد اخترع الوثنيون الأكاذيب أنواعًا وألوانا، ولكن لم يدع أحد منهم بوجود مثل هذا الكتاب ولو ادعاء كاذبًا.فكيف يرفض المشركون – والحال هذه – نزول الهدي من عند الله تعالى؟ إن الذي خلق العباد لا بد أن يدبر أمر هدايتهم.كما وفند هنا الوثنية مرة أخرى إذ قال: أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهدِّيَ إلا أَن يُهْدَى.والهداية هنا تعني التوجيه إلى الأمور الروحانية، كما تعني أخذ الشيء من مكان إلى آخر وهذا المعنى الأخير ينطبق تماما على أصنام المشركين حيث ينقلونهم من مكان إلى آخر.وأما قوله تعالى (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فأرى أن المراد به أنبياء الله عليهم السلام الذين يُبعثون لهداية الناس إلى الحق.فالمعنى هل أنبياء الله أخرى وأحق بأن يتبعهم الناس ويطيعوهم، أم أصنامكم، أو العاكفون عليها ممن هم بأنفسهم بحاجة إلى هدي الآخرين، ولا يستطيعون تقديم أي تعليم أنزلته آلهتهم إزاء تعاليم الأنبياء.6 وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنَّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُعْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ

Page 113

الجزء الثالث عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ۳۷ 1.7 سورة يونس شرح الكلمات : الظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويُستعمل في اليقين والشك، ويكون اسما ومصدراً.(الأقرب) لا يغني أغنى عنه غناءَ فلان: ناب عنه وأَجزَاه.ما أغنى فلان شيئًا: أي لم ينفع في مهم ولم يكف مئونة.(الأقرب) التفسير: للظن ثلاثة معان كما ذكر آنفًا: الأول: الاعتقاد الراجح الغالب، والثاني: الشك، والثالث: اليقين، وقد جاء هنا بمعنى الشك.ذلك أن الحق والاعتقاد الراجح الغالب لا يتعارضان، لأن الاعتقاد الغالب المبني على البراهين إنما يحصل طالما يكون الحق خافيًا على الأعين، وأما إذا تبين الحق وحَصْحَصَ فلا يبقى هناك أي اعتقاد غالب عند أحد، بل يتحول إلى يقين، فلا تتصدى للحق عندئذ إلا الأوهام الفاسدة التي لا تستند إلى أي برهان وإنما أساسها العناد أو ضعف النفس.فالله تعالى يقول هنا: إن أكثرهم واقعون في وحل العقائد الوثنية بسبب الأوهام فقط، إذ لم يأتهم أي هدي أو رسالة من آلهتهم الباطلة.وأما قوله تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنَّا فليس المراد به أن أكثرهم يتمسكون بعقائد وثنية بناءً على الظن، بيد أن بعضهم يتمسكون بها بناءً على الأدلة والبراهين.كلا، وإنما المراد به أن بعضهم يشركون إما طمعًا أو عنادًا وتعصبا، وإن كانوا في قرارة نفوسهم يدركون بطلان الشرك، ولكن معظمهم يأتون أعمالاً وثنية وهم موقنون بصحتها، إلا أن يقينهم هذا لا يكون يقينًا حقيقيًا مبنيا على البراهين والخبرة، وإنما أساسه مجرد أوهام لو فكروا فيها تفكيراً موضوعيًا لتخلصوا منها.ومرة أخرى يعلن القرآن هنا عن المبدأ الحق بأن لا يرمي الإنسان معارضيه بسوء النية والكذب.وذلك لأن أكثر الناس يوقنون أن دينهم حق في الواقع، وإن كان

Page 114

الجزء الثالث ۱۰۷ سورة يونس يقينهم هذا مبنيا على ضعف في نفوسهم، لأنهم لا يسعون لمعرفة الحق كما ينبغي، وإنما يتهاونون في ذلك ويتكاسلون.وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي ۳۸ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (7) شرح الكلمات : ، أن حرف يجيء على أربعة أوجه أحدها أن تكون حرفًا مصدريًا ناصباً للمضارع، فتكون مع صلتها على حسب ما يطلبها العامل (الأقرب) تصديق: التصديق : نسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل.صدقه: ضد كذبه.(الأقرب) التفسير : قبل هذه الآية كان الحديث عن ضرورة نزول الهدي الإلهي، وأنه ليس بمقدرة أحد دون الله تعالى إنسانًا كان أو أحدًا من الآلهة الباطلة، أن يعرض من عنده منهجًا روحانيًا للناس، وأن الأمر الواقع أيضا يؤكد هذا إذ إن الناس لم يتلقوا أبدا أي منهج روحاني من آلهتهم الباطلة ومن هذا البيان المبدئي الأساسي انتقل إلى القضية الأصلية التي يدور حولها النقاش وقال مستفهما هل يمكن أن يكون هذا القرآن من تأليف إنسان؟ وردّ عليه بنفسه قائلاً: كلا، ثم كلا.والحق أن الآية تحتوي على بحث لطيف للغاية حول كون هذا القرآن الكريم من وحده، ولكن المفسرين للأسف، لم يُعيروا ما في هذه الآية من معارف ومزايا العناية الكافية ولم يلقوا عليها من الضوء إلا قليلاً.عند الله تتضمن الآية خمسة براهين ساطعة على كون القرآن الكريم من عند الله تبارك

Page 115

الجزء الثالث ۱۰۸ سورة يونس وتعالى، وإليكم بيانها : البرهان الأول: إن هذا الكتاب يحتوي على معارف ومفاهيم لا يقدر الإنسان على معرفتها بنفسه، وإنما هو الله وحده الذي يُطلع عليها من يشاء، إذ يقول: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ فأعلن بذلك أن فيه معارف وأمورًا لا هي يعلمها إلا الله وحده.ونعلم من دراسة القرآن أن الأمور التي لا يعلمها إلا الله.الأمور الغيبية والأنباء المتعلقة بالمستقبل.ففي هذه السورة التي نحن بصدد تفسيرها يقول الله تعالى: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ الله (الآية: (۲۱.فالكلام الذي يشتمل على أنباء غيبية لا يقدر على بيانها إلا الله، فكيف يمكن أن ينشأ الظن أنها من عند إله غير الله سبحانه وتعالى.ومما يدعو للعجب، أن القسيس "ويري" قد بسط لسانه بالطعن في الجزء الأول من هذه الآية وقال بأن هذا ادعاء من القرآن لا دليل عليه إذ اكتفى القرآن بقوله: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى من دون الله، ولم يأت ببرهان على ادعائه، ولم يبين كيف ولماذا !؟ (تفسير ويري للقرآن).إنه لمن المؤسف حقاً أن أقول إن "ويري" يجهل تماما المحاسن الدقيقة اللطيفة التي لا يمكن بدونها أن تُسمَّى أي من اللغات لغةً، ولا سيما محاسنَ اللغة العربية التي تمتاز وتنفرد عن غيرها في أداء المعاني الواسعة بكلمات موجزة جدا.الواقع أن كلمة (هذا) في قوله تعالى (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ..هي الدليل الذي ساقه القرآن على صحة هذا التحدي القرآني، إذ لم يقل الله (وما كان القرآن..) وإنما قال وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ).فلماذا أضاف كلمة (هذا) يا تُرى، أن كلمة مع (القرآن) تطلق على كتاب واحد فقط في العالم، وليس على كتابين أو أكثر حتى تمس الحاجة إلى زيادة كلمة (هذا)؟! الحق أن الله تبارك وتعالى قد أضاف كلمة (هذا) تأكيدا على أن هذا الكتاب يحتوي على معارف عالية ومفاهيم سامية بحيث يستحيل على الإنسان أن يأتي بمثلها.

Page 116

الجزء الثالث ۱۰۹ سورة يونس فالجملة القرآنية ليست دعوى بلا دليل، وإنما فيها الدليل أيضا، إذ تعلن أن في هذا القرآن أمورًا لا يقدر أحد على الإتيان بها إلا الله وحده، ويمكن معرفتها بكل سهولة في مواضيع القرآن الكريم، وإلى هذه الأمور الفريدة النادرة تشير كلمة (هذا).وهناك في كلّ لغة أساليب وجمل كهذه تؤدي هذا المعنى.فمثلاً في لغتنا الأردية يقولون على سبيل الاستفهام الإنكاري هل هذا الشخص يكون كاذبًا، أو هل هذا ولا أحد من العقلاء يمكن أن يقول إنها دعاوى بلا دليل، لأنها تعني: الأمر يعتبر كيف يمكن لهذا الشخص..المعروف بين القوم بصفاته الطيبة التي لا حاجة لذكرها...أن يُعتبر من الكاذبين.فكلمة (هذا) تؤدي كل هذه المعاني، كما هي الحال في الآية أيضًا.ولكن الأسف على أن هؤلاء القساوسة الجاهلين تمامًا بمحاسن اللغة العربية ودقائقها، يأخذون الأقلام ويجلسون لكتابة تفسير كلام الله القرآن الكريم فيرتكبون أخطاء فادحة، كما يوقعون فيها غيرهم ممن يثقون بهم على جهلهم.فيا ليتهم كانوا قد رجعوا واستشاروا بعضا من إخوانهم المستشرقين غير المتعصبين.والبرهان الثاني الذي ساقه القرآن على كونه منهجًا روحانيا كاملاً، هو (ولكن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي أنه كما يؤكد بنفسه على كونه كلامًا من عند الله وليس افتراء أحد، وذلك باشتماله على أنباء غيبيّة، فإن صدقه يتأكد من كلام الأنبياء السابقين أيضًا، إذ يحتوي كلامهم على أنباء عديدة عن نزول كلام كهذا وقد تحققت في شكل.القرآن فأيها الكفار ! إنكم إن لم تصدقوا القرآن فسوف تُعتبرون مكذبين للأنبياء الأولين، إذ كذبتم ما أدلوا به من أنباء في شأن نزول هذا الكتاب.ولنعلم أن من أساليب القرآن أنه بدلاً من أن يقول إن الأنبياء الأولين مصدقون لمن بعدهم يتحدث عن تصديق المتأخرين منهم للأولين، وقد اتبع هذا الأسلوب عند الحديث عن عيسى ويجى وغيرهما من أنبياء الله عليهم السلام ذلك أن الأولين يُدلون بأنباء عن الآخرين ولا ريب، ولكن الذين يأتون فيما بعد يختمون بدورهم على صدق

Page 117

الجزء الثالث 11.سورة يونس الأولين بتحقيق ما أنبئوا به من قبل فكان الطريق الأمثل لبيان هذه الحقيقة ما اختاره القرآن، لأن القول بأن هذا النبي أو هذا الوحي يصدّقه الأنبياء الأولون، لا يحمل من النبي الوقع والتأثير ما يوجد في قولنا: إن هذا النبي أو الكلام هو الذي يتم به تصديق السابق، وإلا للزم تكذيبه إذ إنّ هذا الأسلوب يفحم ويخضع في الحال أتباع النبيين السابقين.لقد أتى القسوس باستنتاج غريب من هذه الجملة وأمثالها إذ يقولون: إنها تبرئ ساحة التوراة والإنجيل من تهمة التحريف بأيدي الناس! (تفسير ويري) والحق أن كل ما يعنيه القرآن بكونه مُصدِّقًا لما بين يديه من الكتب السماوية هو أن مجرد الإعلان عن تلك الكتب أنها كانت من مصدر إلهي.أما قولهم بأن هذا يعني الوحي السابق لا يزال محفوظا من التحريف فإنهم بذلك يحملون الكلمات القرآنية ما لا تحتمل ويستنتجون ما لا يصح أبدا إن القرآن حافل بالأدلة على وجود التحريف في التوراة والإنجيل، كما أن سنة الرسول الكريم ل لشاهد قوي على ذلك.فلو كانت الكلمات القرآنية تعني في الحقيقة ما ذهب إليه هؤلاء القسيسون لما تردد اليهود والنصارى في الاعتراض على الرسول ﷺ، ولكن التاريخ لا يذكر أي اعتراض من جانبهم، بل الثابت أنه لفت نظر المسلمين لما في كتبهم قائلاً: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" (البخاري، الشهادات).فلو كانت كتبهم خالية من التحريف تماما لما منع الرسول ﷺ المسلمين من تصديق ما فيها.وإن قيل: فلماذا يستشهد القرآن بالتوراة والإنجيل في معرض الحديث عن بعض القضايا، إذا كان يرى أن فيهما تحريفا؟ فالجواب هو أنّ هذا لا يدل أبدا على خلوّهما من التحريف، إذ إنّ العالم كله يستشهد بالكتب التاريخية، ومع ذلك ليس هناك عاقل واحد يعتبر أيا منها صحيحًا تمام الصحة.إنما يعني هذا الاستشهاد تصديق حادث معين مذكور في كتاب ما وليس كل الكتاب.والبرهان الثالث : هو وَتَفْصيلَ الْكتاب أي أنّ في القرآن شرحًا وتفصيلاً

Page 118

الجزء الثالث ۱۱۱ سورة يونس الله عل للكتب السابقة.وهذا أيضا برهان عظيم على صدق القرآن وعلى كونه من إذ يستحيل فهم أي كتاب سماوي سابق بدون الاستعانة بما ورد في القرآن من مواضيع ومفاهيم.فمثلاً، لا شك أن التوراة والإنجيل والفيدا والزند وأفستا كلها تتحدث عن توحيد البارئ ،تعالى وصفاته ،وتجلياته والوحى، والنبوة، والبعث بعد الموت وغيرها من الأمور الروحانية والأخلاقية ولكن ليس بينها كتاب واحد يذكر هذه القضايا ببيان واضح، وإنما نضطر للاستعانة بالقرآن لحل ألغازها ومعضلاتها.التوحيد هذه القضية الكبرى في الروحانيات فكل من هذه الكتب خذوا مثلاً يتحدث عن التوحيد، ولكن بحديث مجمل موجز يكتنفه الغموض.واقرءوا ما كتبه أتباع هذه الكتب قبل نزول القرآن من مقالات وشروح حول التوحيد، فستجدونها تحمل معلومات ناقصة للغاية، ولكن الأمر معاكس تمامًا لما كتبوه بعد نزول القرآن، مما يؤكد أنه بانتشار المعارف القرآنية انكشفت الحقيقية لهم، فشرحوا على ضوئها عقائدهم الدينية الغامضة من قبل.وتليها أهميةً قضية النبوة، التي نرى معالجتها في التوراة والإنجيل وغيرهما غامضة تماما ، ذلك لأن أهل هذه الكتب ما استطاعوا بعد أن يقفوا على حقيقة مفهوم "نبي" في أسفارهم المقدسة.أما القرآن فقد وضح هذا الموضوع وجلده، وهذه هي الحال نفسها بالنسبة للقضايا الهامة الأخرى.فالآية تعلن أن هذا الكتاب يشرح ويوضح ما ورد في الكتب السابقة من مواضيع غامضة ومعان مبهمة فإذا رفضتموه فلن يكون لكم بد من الاعتراف بأن الله لم يستطع أن يبين في كتبكم الضخمة والعديدة أمورًا قد ذكرها هذا الشخص في كتاب موجز.فلا مفر لكم من أحد الأمرين: إما أن تصدقوا القرآن، أو تكذبوا كتبكم السابقة أيضًا.كلمة والبرهان الرابع على صدق القرآن هو أنه لا رَيْبَ فيه ) ولا مجال للشك فيه...أي أن هذا الكتاب بنفسه يسوق الأدلة على صدقه ولا يحتاج إلى الآخرين لبيانه.فقد

Page 119

الجزء الثالث ۱۱۲ سورة يونس وضح مطالبه ومفاهيمه بحيث إن الذي يتدبر فيه كما ينبغي يجد فيه البراهين والأدلة على حقانيته.أما الشك الذي يتولد عند أحد فليس سببه هذا الكتاب المصحوب بالأدلة على صدقه، وإنما منشأه غفلة القارئ وتهاونه في محاولة الفهم الصحيح.وهذا الأمر أيضا يشكل دليلاً على كون هذا الكتاب من عند الله تبارك وتعالى، إذ ليس بوسع إنسان أن يُثبت الأمور الغيبية بشكل مقنع كامل لأن العديد منها لا يُثبت أبدا بالأدلة العقلية ،وحدها وإنما يتطلب الأمر دليلاً من المعاينة والخبرة الشخصية، والإنسان الضعيف لا يستطيع أن يهيئ الأسباب التي تساعد الناس على مشاهدة الأمور الغيبية واختبارها وإنما الله وحده هو القادر على أن يهيئ لهم أدلة الاطلاع على الغيب.خذوا مثلا الوحي والإلهام.إنه أمر غيبي، ويستطيع الإنسان أن هي بمثابة يسوق على وجود ظاهرة الوحي الإلهي أدلة عقلية، ولكن ليس بوسعه أن يفتح على أحد باب الوحى أو يَعدَه بنزوله عليه.ولكن الكتاب الرباني قادر على كل ذلك، فبإمكانه أن يعلن أن الذين يصدقونني سيفتح الله عليهم باب الوحي، كما أن تصديق إعلانه ممكن يفعل إلهي إذ ينزل الله بالفعل وحيه عليهم.فالكتاب الذي يعلن - كدليل على نزول الوحي الإلهي حقا أن هذا ليس عجبا، بل إن وحي الله ينـــزل الآن وسوف يستمر في النزول مستقبلاً أيضًا، وأن مئات البشر سوف يسمعون كلام الله تعالى..أقول: إذا أعلن كتاب ما ذلك فلا شك ولا شبهة في كونه وحيا إلهيًا حقا.إذ ليس بوسع الإنسان أن يأتي بمثل هذه البراهين المقنعة على وجود الوحي الإلهي، وأن يستأصل الشكوك بهذا الشكل.والبرهان الخامس على صدق القرآن هو كونه من رَّبِّ الْعَالَمِينَ..بمعنى أن تعاليمه تُجلّي الصفة الإلهية (رب العالمين)، فشرائعه لا تخص قوما دون قوم أو زمنا دون زمن كما كانت الكتب السابقة، وإنما هي ذات صبغة عالمية؛ إنها للأمم بأسرها، وللعصور كلها، وقد روعي فيها حاجات كل قوم وقضايا كل زمن.وهذا الأمر أيضا ليس في مقدرة أي إنسان، إذ ليس بوسع أحد أن يراعي حاجات

Page 120

الجزء الثالث ۱۱۳ سورة يونس كل قوم ومتطلبات كل عصر لأن الإنسان إنما يتأثر بما حوله فقط، ولا يراعي حتى من حاجات نفسه هو إلا ما كان ظاهرا باديًا لعينيه.وإنما الله وحده القادر على إنزال تعليم نافع لكل شعب وصالح لكل عصر، لا يفقد صلاحيته بتغير الزمن، يراعى.نرحم مراعيا كلّ ما في فطرة الإنسان من حاجات ومشاعر والقرآن متسم بهذه المزايا إذ تماما الطبيعة البشرية بكل أنواعها.فإنه لا يأمر مثلاً أن دائما دون انتقام أبدًا، أو أن ننتقم دوما دون عفو أبدا، بل يعلّمنا أن نرحم في محل الرحمة، ونعاقب إذا كان العقاب ملائما.وهذا هو شأنه في جميع تعاليمه، فميزتها أنها تراعي الطبائع البشرية جمعاء وتنظر إلى الظروف كافة، وتأخذ في الاعتبار العالم والجاهل معا.وهذا برهان عظيم على أنه كلام من رب العالمين.فتبارك الله أحسن الخالقين." أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ شرح ا الكلمات : سورة: السورة: المنزلة الرفعةُ الفضلُ الشرف؛ ما طال من البناء إلى جهة السماء وحسن العلامة (أي الدليل)؛ القطعة المستقلة (الأقرب) التفسير: يقول الرب تبارك وتعالى : إن الكافرين - رغم تحلّي القرآن بهذه الصفات والمزايا- تراهم يقولون : إن محمدًا قد افتراه من عنده.تُرى، إذا كان الناس قادرين على افتراء مثل هذا الكلام المتسم بهذه المزايا فليؤلّفوا مثله كدليل على صدق دعواهم.لقد وجه القرآن هنا تحديًا لم يقدر المفسرون على استيعاب حقيقته بشكل كامل

Page 121

الجزء الثالث ١١٤ سورة يونس واضح، حتى ألقى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله الضوء على هذا الأمر، حين صرّح أن تحدّي القرآن ليس قائمًا على الإعجاز اللغوي فحسب، بل يتعداه إلى الإتيان بكلام متسم بجميع المحاسن القرآنية المعجزة بما فيها اللغة الإعجازية (البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج ١ ص ٢٧٠).وقد ظن بعضهم أن هذا التحدي يعني أن كُل من ألف كلاما يبارز به القرآن فسوف يموت.والواقع، كما أسلفتُ أن المفسرين لم يدركوا حقيقة هذا التحدي على الوجه الأكمل.ولما كان هذا الموضوع مذكورًا في عدة أماكن من القرآن وبكلمات مختلفة فقد ظَنَّ بعضهم خطأ أن القرآن غير مستقر في التحدي، إذ ينقص من مطالبته هذه مع مرور الوقت.فمرةً طالبهم بأن يأتوا بكتاب مثل القرآن حجمًا وضخامة، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله، وأخيرًا دعاهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط.ولكني أرى أن هذا ليس بصحيح، وإنما الحقيقة أن القرآن قد ذكر في كل من هذه الأماكن المختلفة موضوعًا مختلفًا مستقلاً.فمثلاً قال في هذه الآية: فَأْتُواْ بِسُورَة مِّثْله ، وليس المراد من (مثله) كل القرآن، وإنما المراد منه مثل الآية السابقة الذكر، إذ ليست كلمة السورة هنا بمعناها العادي المشهور وإنما معناها هنا العلامة أي الدليل كما جاء هذا المعنى في شرح هذه الكلمة، والمراد: إذا كان ما ذكرناه في الآية السالفة من أدلة كلام بشر فأتوا بكلام من لدنكم يتضمن دليلاً واحدًا كالذي احتوته الآية، وليس خمسة أدلة.هذا وإن كل عاقل يدرك جيدا أنه يستحيل على بشر أن يأتي حتى ولو بدليل واحد كالذي ذكر من قبل.ولذلك لم يقدر أحد على ردّ هذا التحدي القرآني ولن يقدر عليه إلى يوم القيامة.هذا ولا يزال التحدي قائما إلى اليوم.ولو أن أحدا في هذا الزمن أتى بكلام يحمل ولو مَزيَّةً واحدة من هذه المزايا الخمس لاعترفنا ببطلان التحدي القرآني ولكن قد تزول السماوات والأرض، ولكن لا يمكن أن يقدر أحد

Page 122

سورة يونس الجزء الثالث على الإتيان بمثله أبدا، لأن هذه المزايا إنما هى من خصوصية الكلام الإلهى فقط، ولا يستطيع البشر ذلك أبدًا.أما إذا أخذنا كلمة (سورة) بمعناها المعروف فالمراد من الآية: فليأتونا بسورة من تأليف بشر تصل إلى مستوى كلامنا الذي ذكرناه آنفًا ولكن هذا المعنى ليس بقوي كالمعنى الأول، لأن المراد في هذه الحالة هو : فليأتوا بسورة شاملة لكل هذه المزايا الخمس، بينما المعنى الأول هو : فليأتوا بكلام يشمل ولو واحدة من هذه المزايا.أما الآيات الأخرى التي تذكر هذا التحدي بكلمات أخرى فسوف نتناولها بالشرح لدى تفسير سورة هود، إن شاء الله تعالى.وقوله تعالى: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ (الله زاد به التحدي قوة وشدة..والمراد: لا تبذلوا أنتم وحدكم الجهود في مجاراة القرآن بل ادْعُوا زعماءكم واستعينوا بآلهتكم، ثم انظروا كيف أنكم ستفشلون فشلاً ذريعاً، لينكشف للعالم كله أن الكتاب الذي عزوتموه إلى افتراءات محمد لم تقدروا على تأليف كتاب مثله، لا أنتم ولا زعماؤكم ولا الهتكم الباطلة جميعًا.بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) شرح الكلمات : تأويل: التأويل؛ الظن بالمراد؛ بيانُ أحد محتملات اللفظ؛ العاقبة.أوَّلَ الشيءَ: رجعه.أوّل الكلام دبّره وقدّره وفسّره أوّل الرؤيا عبرها (الأقرب) التفسير: تقول الآية: لا تتعجب من ترديد المعارضين تهمة الافتراء ضدك، لأن

Page 123

الجزء الثالث ١١٦ سورة يونس الإنسان حينما لا يقدر على استيعاب أمر فإنه يظنه خطأ، وهؤلاء أيضًا حين استعصى = عليهم فهم القرآن ووجدوا آياته مخالفة لما عندهم من علوم ومبادئ وعادات ما لبثوا أن رفضوها وأنكروها.وقال العلامة الزمخشري في تفسير الآية: "بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره".وقال ابن عطية في معنى قوله تعالى (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ : هذا اللفظ يحتمل معنيين أحدهما: أنهم بدءوا يثيرون الضجة قبل أن يتحقق وعيده بالعذاب.وإثارة الصحب والضجّة ليس بدءًا من هؤلاء، بل ما زال هذا دأب الكفار تجاه أنبيائهم، والحق أن هذا هو دَيْدَنُ أعداء الحق في كل زمان.لا ينتظرون انكشاف الحقيقة، وإنما يسارعون إلى رفضها فوراً.ولو قيل: إذا كان لا بد من الانتظار حتى تنكشف حقيقة بعض ما يقوله الأنبياء فلا يصح إذن الإيمان بهم في بداية دعواهم؟ فالجواب : إن الآية لا تقول إنهم لا يأتون في بداية دعواهم بأدلة وبراهين تساعد الناس على تصديقهم عندئذ، وإنما تعني: أن الذين لا ينتفعون بما تيسر لهم من أدلة على صدقهم، وإنما يولون الأهمية لأمور معينة أخرى يجب عليهم ألا يسارعوا إلى التكذيب على الأقل.إذا كانوا لا يريدون قبول الحقائق الثابتة فلا يحق لهم أيضًا أن يبادروا إلى الطعن فورًا فيما يشكون فيه من أمور دون أن يتأنوا وينتظروا حتى تتجلى حقيقتها.وأما قوله تعالى (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فيعني أن هذا كان دأب الأولين تجاه أنبيائهم دائما بأن يثيروا الضجيج عبثا.لقد نقل القسيس ويري في تفسيره اعتراضا عن المستشرق بروكلمان يقول فيه: ما دام مشركو مكة لم يدركوا تمامًا حقيقة دعوى محمد وأثاروا الضجة ضده، فأي ذنب في ذلك؟ (تفسير ويري) ولكن ويري لم يفكر بأن هناك بونا شاسعًا بين عدم الإدراك الكامل وبين عدم

Page 124

الجزء الثالث ۱۱۷ سورة يونس إمكانية ذلك الإدراك.إن القرآن لا يقول أبدًا بأنهم كانوا معدومي الإدراك، وإنما قال: إنهم لم يسعوا بخلوص النية لإدراك حقيقة أمره.فما داموا لم يتدبروا جيدًا فيما عُرض عليهم من أمور وبراهين بل رفضوها متعجلين قائلين: لا يمكن أن لبشر مثلنا، فكيف يُعتبرون بريئين من المسؤولية؟ يوحي الله وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (4) التفسير: يقول الله تبارك وتعالى: إن هؤلاء رغم حالتهم المتردية لن يُحرموا جميعًا من الهدى، بل سوف يُخرج الله من بينهم من سيهتمون بإصلاح حالتهم فيؤمنون، ولن يُحرم من الإيمان إلا أولئك الأشقياء الذين لا يبرحون مصرين على الفتنة والفساد حتى النهاية.وكأنه تعالى يقول: هناك داع واضح وقوي لما نُملي لهم ونعطيهم من مهلة.إذ من الممكن عقليًا أن يؤمن مشركو مكة هؤلاء منتهزين مهلتنا هذه، وليس هذا فحسب، بل نعرف بناء على علم ويقين - أنه سوف يؤمن بعضهم يقينا، ولذلك لا تعذبهم على الفور، بل نمهلهم إلى حين.ما أعظَمَ هذه النبوءة القرآنية التي تحققت في موعدها تماما.ولو أن أهل مكة أهلكوا فور معارضتهم للنبي ﷺ لما خرج منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وعكرمة وغيرهم من أبطال الإسلام العظام، رضي الله عنهم أجمعين.وإن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيكُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وأنا بريءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) ٤٢

Page 125

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۱۱۸ سورة يونس بريء : برئ منه بَرَاءةً: تخلّص وسَلَمَ.بَرئَ من المرض برءا، وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءا : نقهت وتعافيت وشفيت (الأقرب) التفسير: يأمر الله تعالى رسوله أن قُلْ للذين يكذبونك: إذا كنتم تريدون اللجاج في إنكاري وتكذيبي فهذا شأنكم، لأن بيني وبينكم اختلافا كبيرا، وشتان بين ما تعملون وما أعمل ولكل واحد منا الحق في أن يفند موقف خصمه، ولكن يجب ألا يتحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف وعداء، ويبدأ كل فريق بفرض رأيه على الآخر جبرًا وإكراها.فما دمت لا أكرهكم على موقفي فلماذا تسعون لإكراهي على موقفكم.في هذه الآية شرح لقول الله في ما سبق وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ حيث يقول: ما دامت جماعتكم غير جماعتي وأعمالكم غير أعمالنا، وكل العالم يدرك ذلك جيدا، فما الداعي للجوء إلى الفساد والإكراه.إن الإنسان إنما يلجأ إلى استخدام القوة ضد الآخر إذا كان هذا الآخر يسبب له ضررًا وحرجًا ، ولكن ما دامت أعمالنا لا تسبب لكم ضررًا ولا ،فضيحةً كما أن نشاطاتكم لا تلحق بنا ضررًا أو خسارة فما الداعي إلى الفتنة والفساد.ويمكن استنتاج مسألة دينية أخرى من ذلك، وهي أنه يحق للإنسان إلى حدود معينة أن يمارس الضغط والجبر على فرد من أفراد قومه ،وجماعته، إذا جلب هذا الأخير اللوم والعار على الجميع.واستنادًا إلى هذه القاعدة نفسها نفرض أحيانا على أفراد من جماعتنا غرامة أو عقوبة على بعض أخطائهم، فيثير الجهال والحمقى ضجة ويقولون بأن هذا بمثابة عبادة الكبار والأولياء.مع أن الآية تؤكد على أنه يجوز للمرء الجبر والضغط على أفراد جماعته وعشيرته.فلو كان هناك مثلاً فرد من جماعتنا يقوم بقطع الطرق والسلب والنهب، أو يتهاون في أداء الصلاة، مما يسبب إساءة إلى الجماعة ككل، فمن حقنا الضغط عليه ليصلح حاله، اللهم إلا أن يكذب بالدعوة الأحمدية، أو

Page 126

الجزء الثالث ۱۱۹ سورة يونس ينشق عن جماعتنا ويكون له فرقة جديدة، عندئذ لا يحق لنا الضغط عليه أبدًا.وهناك معنى آخر للآية وهو: أنَّ هناك تباينا واضحًا بين أعمالنا وأعمالكم، ولا يوجد بيننا وبينكم أي وجه شبه، فانتظروا حتى تظهر نتائج الأعمال فنرى أيّ الفريقين أحسن عملاً وأحظى قبولاً عند الله تعالى.لو كانت أعمالنا وأعمالكم مماثلة متشابهة يمكن الجزم أي الفريقين هو مصدر للخراب وأيهما مصدر للخير؟ ولكن ما دام لا تشابه بيننا وبينكم فسوف يسهل الجزم من من القوم كان سببا لهذه المفاسد والأمراض.٤٣ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ) شرح الكلمات : الصمّ: صَمَّ الرجل صما وصممًا: انسدت أذنه وثقل سمعه فهو أصم، والجمع صُمّ.والأصم أيضا الرجل الذي لا يُطمع فيه ولا يُردّ عن هواه.(الأقرب) التفسير : هذه الآية والتي تليها بيان لحقيقة كُفْر أعداء الإسلام، حيث تبين أن إنكارهم لا يستند إلى دليل مقنع أو أمر معقول، وإنما مرجعه العناد فقط.إنهم يستمعون لحديثك في الظاهر وجُلُّ اهتمامهم إثارة الطعن والاعتراض.كما تبين الآية أن الشخص الأصم الذكي من الممكن أن يشرح له الإنسان أمراً ولو بالإشارة باليد، ولكن ماذا يفعل الإنسان بهؤلاء الذين يتشبهون بالشخص الأصم الغبي الذي لا يفهم حتى بالإشارات؟

Page 127

الجزء الثالث ۱۲۰ سورة يونس وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ ) شرح الكلمات : ٤٤ العمي: جمع أعمى.عَمِي فلان: ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما؛ ذهب بصر قلبه وجهل؛ غَوَى (الأقرب) التفسير: لقد فسروا كلمة (لا) يُبْصِرُونَ) بأنهم لا يرون، ولكن هذا الرأي ليس صائبا.ذلك أنه ما دام الله قد وصفهم من قبل بالعمى فكيف يعيد كلمة (لا يُبْصِرُونَ) بالمعنى السالف نفسه دونما.ضرورة الواقع أنه تعالى كما نفى عنهم من قبل العقل والفهم بوصفه إياهم صمَّا، كذلك نفى عنهم هنا البصيرة لا البصارة والرؤية الظاهرة بتسميتهم عُميًا، لأنهم كانوا يستطيعون أن يهتدوا - وإن كانوا عُميًا في الظاهر - لو كانوا يملكون شيئًا من البصيرة والفطنة.كما علّمنا الله تعالى هنا ألا نحكم على أحد برؤية ظاهره فقط، لأن الرائي إلى مظهر الناس فقط، لا يلبث أن يرميهم بالكفر أحيانًا ويقول: لماذا لا يعذب الله هؤلاء أنه الكفرة الفجرة، مع يوجد بين أعداء الحق الظاهرين أيضًا من يتمتعون بالتعقل والفطنة بحيث يرجى إيمانهم وترجى هدايتهم.وعلى النقيض من ذلك قد يكون هناك أناس مؤمنون في الظاهر، ولكنهم في الحقيقة لا يعون شيئا وهم مستمعون، ولا يبصرون أبدًا وهم ناظرون، وإنما تبحث أنظارهم دائما عما يمكن أن يثيروا عليه اعتراضًا.لا فهم فيهم ولا بصيرة عندهم أبدا.ومن أجل ذلك احتفظ الله بأمر العذاب في يده هو سبحانه وتعالى، لأن غيره يمكن أن ينخدع بمظهر أحد فيصب عليه العذاب خطاً وظلما.وبالنظر إلى هذا المعنى، تكون هاتان الآيتان تفسيرًا لقوله تعالى من قبل ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ..أي أن الإنسان معرَّض للخطأ دائمًا في رأيه عن شخص ما إذ ينخدع بظاهره، ولكن الله وحده عالم بجميع الناس على حقيقتهم.

Page 128

الجزء الثالث ۱۲۱ سورة يونس إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ : ذلك التفسير ما أروع المعنى الذي جاءت به الآية.والحق أن للآية تأثيرا في القلب كتأثير البيت المتكرر في القصيد..يقول الله تعالى: نحن الذين بعثنا النبي ومع نمهل الكفار ولا نريد إهلاكهم فوراً، ولكنهم يتعجلون العذاب.نحن لا نريد ظلمهم ولذلك لا نصيبهم بالعذاب دون إتاحة الفرصة لهدايتهم ، ولكنهم يطالبوننا قولاً وفعلاً أن نهلكهم بالعذاب فوراً.هذه الآية تفسير لكافة الآيات القرآنية التي يستنتج منها الناس استنتاجات مغلوطة فيقولون بأن الله بنفسه يطبع على قلوب الكفار ويمنعهم من الإيمان، أو أن قدر الله وقضاءه هو الذي جعل الناس لصوصا وصعاليك.ولكن الحق أن كل هذه الأعمال المنكرة ظلمٌ وتُبعد الناس عن الهدى والله سبحانه وتعالى يعلن هنا صراحة أنه لا يظلم أبدا، بل يتيح كل الفرص الممكنة لهداية الناس.وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاء اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) شرح الكلمات : ٤٦ ساعة الساعة: ستون دقيقة؛ الوقت الحاضر؛ جزء قليل من النهار أو الليل (الأقرب) يتعارفون: تعارف القوم: عرف بعضهم بعضا (الأقرب) التفسير: لقد وقع المفسرون في خطأ كبير في بيان معنى قوله تعالى سَاعَةً مِّنَ

Page 129

الجزء الثالث ۱۲۲ سورة يونس النَّهَار، ففسروا الساعة بمعنى الساعة المتعارف عليها من النهار ، ثم ذهبوا مذاهب شتى في تحديدها وضخامتها، ثم عانوا كثيرًا في تطبيقها.الحق أن القرآن الكريم قد وصف في أماكن عديدة منه - حياة الكفار في الدنيا بأنها ساعة من النهار، ولكنه لا يقصد بهذا تحديد فترة مكوثهم هنا، وإنما يقصد بهذا بيان كيفية حياتهم بأنهم عاشوا طوال هذه المدة في غفلة وسبات.ذلك لأن النهار مخصوص بالعمل ورمز للسعي والاجتهاد، وحيث إن الكفار يقضون معظم أوقاتهم في كسب الدنيا ومتاعها، متغافلين كليةً عما يُكسبهم رضوان الله ، فيصح تماما القولُ بأنهم ما لبثوا في الدنيا إلا سويعات من النهار، وإن عاشوا في الظاهر آلاف السنين.ذلك أنهم لم ينتفعوا من مكوثهم في الدنيا انتفاعا حقيقيا، و لم يستغلوا أوقاتهم في تحقيق الغاية من خلقهم، وهكذا أصبح نهارُهم ليلاً، وكأنهم لم يلبثوا هنا إلا ساعة من النهار.عنهم فالآية لا تقصد نفي مكوثهم في الدنيا لفترة طويلة، وإنما تعني أن فترة عملهم النافع كانت قصيرة جدًا.ولو كان المراد منها بيان مقدار إقامتهم الظاهرة لما اختار الله كلمة النَّهَار ، إذ لا خصوصية للنهار دون الليل في بيان مقدار الوقت.وباختصار، لقد بين الله هنا أن أعينهم ما أبصرت حالتهم المتردية وهم في الدنيا، وسوف يتضح لهم في الآخرة بكل جلاء ووضوح أنهم عاشوا فيها نائمين في غفلة، عاطلين عن أي عمل نافع في الحقيقة.وقوله تعالى (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعني أنهم سيتعرف بعضهم إلى بعض.إن الناس - رغم خلافاتهم الشديدة يتحدون في عداوة الأنبياء، ويشاركون في معارضتهم بكل حماس، ولكن سوف تنكشف الحقيقة على الجميع يوم القيامة، فسيعلمون علم اليقين أنهم ما كانوا متحدين في الواقع، وإنما كان اتحادهم خداعًا، وسيشعرون عندئذ بعار الشقاق وفضيحة الخلاف.لقد فسر المفسرون هذه الجملة بأن بعضهم سوف يعرف البعض معرفة ظاهرة.

Page 130

الجزء الثالث ۱۲۳ سورة يونس فمثلاً سيعرف الأب ابنه والابنُ أباه الرازي، تحت (الآية).ولكني أرى أن القرآن لا يذكر هذا ولا داعي لذلك.الواقع أن المفسرين لم يتدبروا الآية كما ينبغي.فإن المعرفة لا تعني فقط المعرفة الظاهرية برؤية الملامح ، بل معناها أيضا: وقوف الشخص على حقيقة صاحبه وهذا هو المراد هنا.وفي بلادنا أيضا يقولون: الآن عرفتك..أي عرفت حقيقتك.فكذلك عند صدور الحكم الإلهى يوم القيامة سيدرك الظالمون كم كان أنبياء الله مصدر خير وبركة وذوي مكانة سامية، وكم كان هؤلاء وزملاؤهم أراذل لا قيمة لهم ولا منزلة.وقوله تعالى (كَذَّبُوا بلقاء الله يعني أن كل الخسران الذي هم فيه إنما هو نتيجة لتكذيبهم بلقاء الله تعالى.ذلك أنهم لو كانوا ممن يطيع خوفًا لآمنوا رهبةً من المثول أمام الله ، ولو كانوا ممن يطيع حبًا لازدادوا أيضا حبًا له وشوقا إليه وطاعة له بسبب الإيمان بلقاء الله.لقد نسي المسلمون اليوم هذه الموعظة القرآنية حيث بدءوا يظنون أنه لا يمكن الآن أن يكلم الله عباده، فيتردون يوماً فيوما.ولو أن الإنسان أيقن بأن الاتصال بالله حق وممكن لحد في العمل الصالح خوفا من لقائه إذا كان من الناس الذين يخافون العقاب، وأما إذا كان من ذوي القلوب العاملة حبًّا لخالقها لرقص طربًا، وجد في العمل شوقًا للقاء بارئه سبحانه وتعالى.فهذا اليقين قوة دافعة وحافز قوي على العمل.أما إذا حرم الإنسان هذا اليقين فلا نتيجة له سوى الغفلة والدمار.وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) ٤٧

Page 131

الجزء الثالث شرح الكلمات : ١٢٤ سورة يونس إما أصله إن وما.ما زائدة للتوكيد.نتوفَّينك: من الوفاة وهي الموت، توفّى الله زيدا: قبض روحه.توفي فلان مجهولاً: قبضت روحه ومات، فالله المتوفّي والعبد المتوفَّى.(الأقرب) التفسير : الذين ليس لديهم إلمام كاف بقواعد اللغة العربية يخطئون عموما في بيان معنى هذه الآية.الواقع أنها تحتوي على جملتين منفصلتين.وتقدير الجملة الأولى هو: وإما نُرينك بعض الذي نعدهم فتراها، والمراد: لو حققنا في حياتك بعض ما نعدهم من أنباء غيبية فسوف تراها.والأنباء الغيبية هنا هي الوعيد بأنواع العذاب كما هو ظاهر من كلمات الآية، لأن الله تعالى لا يعد من يكفر برسله بالإنعام والفضل مع أن لكلمة "الوعد" مدلولين: الوعد بالخير والإنعام أو بالعذاب والعقاب.وأما كلمة "الوعيد" فهي خاصة بالعذاب فقط.والجملة الثانية تقديرها: أو نتوفّينك فنُريك إياها في الآخرة، والمراد: أما إذا توفّيناك العلم و لم تُرك أنباء الوعيد تتحقق في حياتك فسوف نكشف عليك حقيقتها في الآخرة.هو ومثل هذا الحذف جائز تمامًا بحسب قواعد العربية.أما وكيف عُرف أن هذا المحذوف في الجملتين، فالجواب أن الجملة التالية تؤكده حيث قال الله تعالى: إن هذا لن يغير من الأمر شيئا، لأنهم عائدون إلينا في الآخرة لا محالة، وهناك سوف نكشف عليهم حقيقة ما يفعلون.لقد نبه الله في هذه الآية الكفار بأنهم يستعجلون وقوع العذاب، ولكن سنة الله لا تستوجب تأجيله فحسب، بل إنها أحيانًا تُلغي الوعيد بالعذاب نهائيًا.هذه الآية برهان أساسي وقاطع على أن الله تعالى يلغي أنباء الوعيد أحيانًا، وكان سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود اللة يقدم ذكر هذا البرهان على أي برهان آخر في إثبات هذه السنة الإلهية إزالة ،أوهام الخزائن ج۳ ص ٢٧٤).الآية تؤكد أمرين: الأول: أن بعض الأنباء تكون مشروطة بشروط، لأن الله قد

Page 132

الجزء الثالث ۱۲۵ سورة يونس استخدم هنا أدوات الشرط (إما) و (أو).والثاني: أن من الأنباء ما يُلغى أصلاً لأنه تعالى يقول: إما تُريَنك بعضها فتراها وكلمة "بعض" تفيد أن الحديث هنا إنما يدور عن الأنباء التي وعد سبحانه بتحقيقها في حياة النبي ، لأن الأنباء الموعود بها فقط - أن تتحقق بعده ما كانت لتتحقق في حياته، وهكذا أشار إلى احتمال شيء آخر - مجرد احتمال- وهو ألا يحقق أي وعيد بالعذاب في حياة النبي، إذ قد يؤمن الناس جميعًا ولا يبقى هناك حاجة للعذاب.غير أن هذا أسلوب لبيان القدرة الإلهية العظيمة، وإلا فالناس لا يؤمنون جميعًا.كما أنه يتأكد من الآية أن تعيين موعد خاص لتحقق نبأ من الأنباء ليس شرطًا أساسيًا لصحة النبأ، لأن الله تعالى قد ضرب هنا موعدًا واسعا جدا يمتد إلى ما بعد وفاة الرسول.الله ولنتذكر أن الآية تصرّح أيضًا أن الله إنما يلغى الأنباء الجزئية فقط.أما الأنباء الأساسية فلا تلغى أبدا.فمثلا لا يمكن إلغاء النبأ القرآني كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (المجادلة: ۲۲) ذلك أن القرآن قد صرّح أن ما يلغى من الأنباء يكون مما (نعدهم..أي نبأ الوعيد الذي يخص قوم نبي، وليس ما به رسله جميعا.والنبأ لَأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلي) لا يختص بنبي معين، وإنما يخص الأنبياء كافة.وباختصار يمكن أن يلغي الله نبا جزئيًا بالوعيد، ولكنه لا يلغي وعده أو وعيده الرئيسي الحيوي.كما وتبين الآية زيف دعاوى المدعين الجدد في زمننا الذين يتنبئون بغلبتهم، ثم عند حرمانهم منها يقولون: إن هذا مما قد أُلغي.وعد وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ٤٨

Page 133

الجزء الثالث شرح الكلمات : ١٢٦ سورة يونس أمة: الأمة: الجماعةُ الجيلُ من كل حى ؛ الطريقة الدين؛ القامة؛ الحين، كقوله: وَلَئِنْ أَخَرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة مَّعْدُودَة)..أي إلى حين (الأقرب).التفسير: لقد فسر بعض أهل البدعة في هذا العصر قول الله هذا بمعنى عجيب، إذ قالوا بأن معناه: أن لكل أمة رسولاً واحدًا فقط، فلذا لا يمكن أن يأتي رسول ثان إلى الأمة المحمدية.ولكنّ هذا المعنى باطل بالبداهة، لأن الآية إنما تؤكد على وجود رسول لكل أمة وليس على عدد الرسل المبعوثين إليها، والمراد: لا يمكن أن تتكون أمة ما بدون رسول، وليس أنه لا يُبعث إلى أمة واحدة إلا رسول واحد.إن هذا الزعم يتنافى والواقع، إذ بعث هارون مع موسى عليهما السلام إلى أمة واحدة وفي وقت واحد.إن المعنى الصريح للآية هو أن بداية كل جماعة روحانية تكون برسول.وأرى أنه لما كانت الآية تتحدث عن بداية أمة، فالمراد بالرسول هنا رسول صاحب شرع جديد، لأن الأمة الجديدة إنما تتأسس على يد رسول ذي شرع جديد.والمراد من قوله تعالى (فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بالقسط أن من يكون صالحا للدخول في جماعة الأنبياء ندخله فيها، ومن لا يصلح لذلك تكون عاقبته الهلاك.إن الآية تعلن للكفار أنه لا يمكن لأي شعب أن يكون وارثا للأفضال الإلهية والبركات الربانية ما لم يرتبط أبناؤه برسولهم فلا تأملوا في الرقي والازدهار هكذا.إذا أردتم الازدهار فأقيموا مع نبيكم علاقة طاعة صادقة، وإلا فمصيركم الهلاك.ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ٤٩ التفسير : قاتل الله العناد والتعنت.لقد ذكر الله في الآية السابقة عرضا أن

Page 134

الجزء الثالث ۱۲۷ سورة يونس رفض النبي مهلكة للأمم، وعند سماع هذا التحذير الضمني ما لبث الكافرون أن سألوا من فورهم حسنًا، متى يأتي هذا العذاب إذن، متناسين كل ما ذكر الله من قبل من شروط العذاب وأسباب تأخره ذكرًا مفصلاً.وكأنهم لن يُشفي غليلهم إلا بآية العذاب.ومما يؤسف له أن مسلمى اليوم قد سلكوا المسلك نفسه إزاء سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال ، حيث كانوا يطالبونه دائما بالعذاب كآية على صدقه.قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاء اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ التفسير : هذه الآية تشتمل على رد لطيف آخر على ما طالبوا به النبي حيث يقول الله تعالى لنبيه أن قُلْ لهم أما أنا فلا أملك النفع ولا الضر حتى لنفسي، فكيف أحقق مطلبكم.هذه الآية وما على شاكلتها من آيات عديدة توضح بكل صراحة وجلاء أن من كان هدف القرآن إنما هو توطيد وحدانية الله عل.إنه لا يقدم أحدا - كائنًا حتى ولو كان خاتم النبيين محمدًا رسول الله ﷺ - كند ومماثل لذات الله سبحانه وتعالى.إن الأمة المذكورة في قوله تعالى لكُلِّ أُمَّة أَجَلٌ هي جماعة معارضي الأنبياء، وليست الأمة المذكورة في قوله من قبل (وَلكُلِّ أُمَّة رَّسُولٌ، والمراد من الجملة: لا مناص من أن يأتي على كل شعب كافر زمان يُطوى فيه صفهم ببعث نبي إليهم ليأخذ مكانهم شعب آخر.وكأن الرسول ﷺ يقول هنا: إنني لا أملك أي خيار في أمر العذاب، ولكني

Page 135

الجزء الثالث ۱۲۸ سورة يونس أستطيع أن أؤكد لكم أن من سنة الله التي لا تبديل فيها، أن كل أمة تزدهر إلى حد معين ولفترة محدّدة، وحينما تتعرى من المحاسن تؤول إلى الهلاك والدمار.لذلك إنني أعلم بالتأكيد أنكم لن تعيشوا بهذه الحالة طويلاً، بل ستهلكون حتما، ليبدأ دور جديد من أهل الحق والصدق.قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ) شرح الكلمات : أرأيتم كلمة مركبة من "أ" الاستفهامية ورأيتم" ، ومعناها: أخبروني.(الأقرب) 28 بيانا: اسم من بيت العدو كالكلام من كلّم.وبيت الأمرَ: عَمله أو دَبَّره ليلاً.وبيت القومَ والعدو أوقع بهم ليلاً من دون أن يعلموا (الأقرب) التفسير: تذكر هذه الآية أمرًا رائعًا للغاية، حيث يقول الله تعالى لرسوله الكريم أن جرم قل لهم: لا ينبغي لكم أن تسألوا متى يأتي العذاب غدًا أو بعد غد، بل يجب أن تنظروا ما إذا كنتم تستوجبون العذاب أم لا.فإذا كنتم تستوجبونه فلا أنه سيفاجئكم غدًا إن لم يصبكم اليوم.فعليكم -والحال هذه بإصلاح أعمالكم لتنجوا من العذاب.أما إذا كنتم ترون أنكم لا تستحقونه فعليكم بدلاً من السؤال عن - موعده أن تبرهنوا على صحة أعمالكم وسلامة حالكم ولا مجال لنزول العذاب عليكم أبدًا.وبقوله تعالى بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا أشار إشارةً لطيفة إلى هلاك مشركي مكة، إذ كان مقدراً لهم أن يعذبوا ليلاً ونهارًا.فقد عُذبوا وقت النهار في معركة بدر إذ كانت هي

Page 136

الجزء الثالث ۱۲۹ سورة يونس المعركة الحقيقية الأولى بين الطرفين، كما أهلكوا وقت الليل في معركة الأحزاب وكانت هي المعركة الأخيرة في الواقع.وقد ذكر عذاب الليل قبل عذاب النهار، لأن العذاب الذي حل بهم بالليل كان أشد وطأةً إذ كان يمثل الضربة القاضية عليهم.وضمير الغائب في (منه) في قوله تعالى (ماذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) يمكن إرجاعه إما إلى الله سبحانه وتعالى، أو إلى العذاب.أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ به تَسْتَعْجِلُونَ ۵۲ التفسير أي إن غاية ظهور الآية الإلهية أن ينتفع أحد برؤيتها ويؤمن، فما هي : نيتكم أيها المطالبون بآية العذاب؟ هل ستؤمنون عند رؤيتها؟ كلا.لا ينفع نفسا إيمانها عند رؤية العذاب، وإنما يقال لها عندئذ: لا جدوى من الإيمان الآن، بل تذوقي الآن العذاب الذي كنت تطالبين بنزوله عاجلاً.ما أعظَمَه دليلاً وأقواه برهانًا لإفحام الذين يطالبون بالعذاب.إذ يقول إنما جعلت الآيات لينتفع بها الناس، ولكن آية العذاب لا تنفع طالبها شيئًا، وإنما تنفع غيره.والذي يهلك بالعذاب ويبقى محروما من قرب الله تعالى لا يستفيد من إيمان الآخرين، إضافة إلى أن إيمانهم أيضا ليس بالأمر المضمون.ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ 090

Page 137

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۱۳۰ سورة يونس الخلد البقاء والدوام.خَلَدَ يخلد خلودا دام وبقي.خلد الرجل خلدًا وخلودا: المشيب وقد أسن.وخلد بالمكان وإلى المكان أقام به.خلد إلى الأرض: أبطأ عنه لصق بها واطمأن إليها.(الأقرب) التفسير: المراد من قوله تعالى (ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْد أنه سيصيبكم عذاب مقيم فيكم لاصق بكم.ولكن ذلك لا يعني أنه عذاب غير زائل أبدا، وإنما هذا أسلوب لبيان شدة العذاب، والمراد أنه إذا أصابكم فلن تستطيعوا ردّه عنكم.مثلما إذا جاء صاحب البيت فلا يمكن لمن هو فيه أن يردّه عن الدخول فيه قائلا: اذهب، لا مكان لك هنا، كذلك العذاب إذا حل بكم فلن تقدروا على رده ومنعه.وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقُّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) شرح الكلمات: إي: حرف جواب بمعنى نَعم، ولا تقع إلا قبل القسم.(الأقرب) 02 التفسير: إن الشرير الذي لا يملك جوابًا يلجأ إلى الاستهزاء والسخرية.يقول الله تعالى لرسوله الكريم : إن هؤلاء الأشرار لعجزهم عن دحض هذه البراهين- سوف يأخذون بالاستهزاء بك وسوف يسألونك بوجوه تعلوها الجدية في الظاهر: هل نبأ العذاب هذا حق فعلاً؟ فلا تكترث بسخريتهم ورُدَّ عليهم: نعم، أُقسم بربي إنه لحق وإنه لاحق بكم لا محالة.والمراد من نبأ العذاب هنا عذاب قومي، كما ذكر ذلك في موضع آخر من القرآن: عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَا الْعَظِيمِ) (النبأ: ٢-٣) و باستخدام لفظة (ربي) عرض الله حالة النبي في ذلك الوقت كدليل على صدق

Page 138

الجزء الثالث ۱۳۱ سورة يونس دعواه، ونبه الكفار قائلا: انظروا كيف أن الله تعالى بعث رسولاً، ثم لم يزل يدرّجه في منازل الرقي شيئا فشيئا، ويزيده قوة على قوته؛ ومن جهة أخرى ما زال يكسر شوكتكم، ويضعف قوتكم بالتدريج.وبإمكانكم أن تدركوا من ذلك بكل سهولة أن الوقت قادم حينما يكون الانتصار الشامل حليفه وتكون الهزيمة القاضية نصيبكم.فاستهزاؤكم بهذا النبأ إن دَلَّ على شيء فإنما يدل على غبائكم، وإلا لما شككتم في صحة موقفه أبدا إن كنتم عاقلين.وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَاقْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) شرح الكلمات: أسروا : أسرّ السرَّ: كتمه؛ أظْهَرَه.(الأقرب) ٥٥ التفسير: من طبيعة الفطرة البشرية أنها تُبدي نوعين من رد الفعل عند حلول العقاب.فالبعض يتمردون وينبرون للمقاومة؛ والبعض الآخر ينهارون تماما.ويقول الله تعالى هنا : إن لعذابنا تأثيرًا غير مشكوك فيه وإن له وقعًا كبيرًا ويقينيًا في نفس البشر، يعجز عن احتماله كائنًا من كان، فلا يُبقي في نفسه من الغطرسة والكبرياء شيئًا.ذلك لأن ما يُنزل الناس بغيرهم من عقوبة لا يعدو تأثيرها الأجسام حتى يقهر القلوب، اللهم إلا الجبناء الذين يصيبهم الهلع والرعب لضعف فطري فيهم.ولكن الله يملك سلطانًا كاملاً على القلوب، فيكون تأثير عذابه على الأجسام والقلوب معا، وهكذا يتم تطهير القلوب مما فيها من رجس.فقال: عندما تنزل عقابنا بأحد يمتلئ قلبه هلعا وخوفا، فيستعد لتضحية كل غال ورخيص ليفوز بالنجاة.

Page 139

الجزء الثالث ۱۳۲ سورة يونس وهناك أيضا سبب ظاهري لامتلاء القلوب خوفا من العذاب الإلهي.ذلك أن عذابه يأتي دائما في محله وفي موعد ملائم تماما، ولذا تضطر القلوب للاعتراف بصحته وعدالته، وتبدي ندما على ما أسلَفَتْ.وعندما تتولد الندامة في الإنسان يحاول أن يتدارك خطأه.وأما عقوبات البشر فقد يخطئون فيها، ولذلك تصمد لها النفوس وتتمرد عليها إذا رأت فيها ظلما وتعسفا.كما تعني الآية أن عذاب الله إنما ينزل بالظالمين الذين يهبّون لمحاربة تعاليمه الحقة.والذي يعارض الحق لا يكون له في الواقع أي هدف سام يسعى إليه أو مثل عليا يضحي من أجلها، وإنما هي أهواؤه الدنية التي تدفعه لمعارضة رسل الله تعالى.والقاعدة أن الذي لا يَتَطَلَّع إلى غاية سامية لا يستطيع بذل تضحية كبيرة، وإنما يكون قلبه مصابًا بالخسة واللؤم، لذلك عندما يصيبهم الله بالعقاب لا يستطيعون عليه صبرًا، لكونهم فريسة للأهواء الدنية والرغبات الخسيسة، وإنما يحاولون النجاة بنفوسهم ببذل أي شيء ولو كان غاليًا عزيزا مما يحميه الإنسان الشريف من كرامة قومية أو غيرها ولو على حساب حياته.وهذا دليل على خطأ ،موقفهم لأنهم لو كانوا على حق لما أقدموا على هذه الخطة الخسيسة.أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) 07 التفسير : أي أن كل شيء في السماوات والأرض ملك لله تعالى، فالسعي لإرضائه بالفدية أو لإغراء عباده الصالحين بالمال لينثنوا عن هدفهم أمر عبث لا جدوى منه، لأنهم سوف يحققون هدفهم لا محالة.لقد حاول أهل مكة بشتى الطرق

Page 140

الجزء الثالث ۱۳۳ سورة يونس إغراء النبي الله ليكفّ عن محاربة الشرك، فما كان جوابه لقومه إلا أن قال: "والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته".(السيرة لابن هشام).كذلك لَمَّا بَادَأَ الفرسُ المسلمين القتال ودخلت جنود المسلمين في الأراضي الإيرانية ردًّا على عدوانهم سعوا للتصالح مع المسلمين نظير أموال عرضوها عليهم، ولكن المسلمين رفضوا عرضهم هذا ليحقق الله على أيديهم ما وعدهم به (تاريخ الطبري، أحداث السنة الرابعة عشرة للهجرة).والواقع أن ملوك الدنيا يحتاجون إلى الأموال ولذلك يفرحون بما يُعرض عليهم من فدية وخراج، ولكن الله هل هو الذي خلق الأموال، فلا وزن ولا قيمة للفدية عنده، اللهم إلا أن يقدّم إليه المرء نفسه ضحيةً.والله تعالى يتقبل ضحية النفس لأنها وسيلة لتطهير النفوس البشرية.هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ OV التفسير : أي أنهم يستغربون أن يُقام أحد منهم نبيا وينجح أيضًا.ألا يفكرون في التطورات الحاصلة أمامهم كل يوم، حيث يرتقي البعض وينحط البعض الآخر؟ فكيف يستغربون إذا أن ينتصر من بعثه الله الذي إليه يُرجع هؤلاء، بل كل شيء في الكون سوف يرجع إليه ليقضي بينهم بقضائه.يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي

Page 141

الجزء الثالث ١٣٤ سورة يونس الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ () شرح الكلمات : موعظة: وَعَظَه : نَصَحَه وذكره بما يلين قلبه من الثواب والعقاب.وقال الخليل: الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.الموعظة: كلام الواعظ من النصح والحثّ و الإنذار (الأقرب).التفسير: لقد نصحهم من قبل بأسلوب لطيف للغاية أن لا خير في تمني العذاب، فلا تطالبوا.به ثم بيّن لهم بشتى الطرق ما في العذاب من حكم وأهداف، والآن يقول لهم: تعالوا أخبركم كيف يكون النجاح حليفا لمحمد رسول الله ﷺ.فاعملوا أن سرّ نجاحه لا يكمن في كثرة العُدة والعتاد والأصحاب، وإنما نجاحه منوط كلية بكتابه العظيم المتسم بمحاسن ومزايا لا يمكن أن يقف في وجهها مقاوم ولا معارض لمدة طويلة، بل لا مناص له من الرجوع إليها وقبولها في نهاية الأمر.والمزايا التي يتحلى بها كتابه هي كما يلي: الميزة الأولى: أنه موعظة، وذلك يعني: أولاً : أنه يحتوي على نصائح مخلصة نافعة.وما يقال عن نصح وإخلاص لا بد أن يقع في القلوب، فعندما ستُدركون أن محمدًا لا يريد بنصائحه مكسبا شخصيا، ولا يطمع بها في مال ولا جاه ولا حكم، وإنما يريد بها مصلحتكم وخيركم، فسوف تنجذبون إليها تلقائيًا.وثانيا: أنّ فيه مطالب ومفاهيم ترق لها القلوب وتلين، إذ يركز على حب الله وخشيته بحيث لا يستطيع حتى أقسى الناس قلبا أن يقاومه.وثالثًا: أنه يعلم من أسرار الفلاح والرقي ما يأخذ بمجامع القلوب ويحير النفوس بدلاً من أن يولّد فيها نفورًا وكراهية تجاهه.الميزة الثانية: أن فيه شفاء لما يتولّد في قلب المرء من وساوس وشبهات في أمور

Page 142

الجزء الثالث ۱۳۵ سورة يونس الدين.الواقع أن الإنسان مهما بلغ من التردّي والانحطاط فإنه تنتابه من حين لآخر رغبة ملحة في معرفة الحق وتصبو نفسه لإدراك الحقيقة.إنه يريد أن يكتسب طمأنينة فيما يتعلق بذات الله تعالى، والوحي والدعاء وعالم المعاد وغيرها من الأمور الروحانية.ولكن الأديان الباطلة أو المشوهة منها ليست بقادرة على أن تمنحه طمأنينته المنشودة، بل تزيده شكوكا وشبهات في هذه القضايا الهامة لديه.فيقول يا ليت لي طريقًا لدفع هذه الوساوس.يقول الله تعالى هنا: هؤلاء سيجدون ضالتهم في القرآن الكريم.سوف يجدون كيف أنه يطهر نفوسهم من كل ما يختلج فيها من وساوس وشبهات وكيف تنجذب إليه قلوبهم بحيث لن يستطيعوا ردّه عنها.الميزة الثالثة: إن الإنسان عندما يطلع على سيرة أهل الله تعالى، ويعرف كيف أنهم أحرزوا مكانة سامية في التقرب الإلهي ،واليقين وكيف أنه تعالى كشف لهم عن معارف دينية دقيقة، فإنه يتمنى بكل قوة لو يتحول إيمانه النظري إلى إيمان عملى مبني على الخبرة والعيان فيرى بعينه ما رآه أهل الله من ألطاف إلهية من قبل.هذه الرغبة لا تزال تولّد اضطرابا وهيجانًا في قلوب كثير من الناس، والله ولا يطمئنهم بأنهم سيجدون في هذا الكتاب ضالتهم المنشودة، إذ يمنحهم الطمأنينة القلبية والهداية الحقيقية التي توصلهم بربهم، وعندما يدرك الناس أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يوصل الإنسان ،بربه وليس هناك أية وسيلة أخرى، فسوف يندفعون إليه تلقائيا.الميزة الرابعة ومن الناس من تكون عقولهم سطحية فلا يستوعبون بها دقائق العلم والوجدان، وإنما هي الترقيات المادية التي تجذب أنظارهم، ولكي يهتدي مثل هؤلاء البسطاء إلى الحق وَعَدَهم الله في هذا الكتاب بأنواع النعم والبركات، فمن آمن به نال الله نعما وأفضالاً وحقق بعونه تعالى رقيًا ماديًا.فهؤلاء العامة الذين لا يقدرون على إدراك حقائق الأشياء وإنما ينظرون إلى تأثيرها ونتائجها حينما سيرون أنواع الرقي المادي المنوط بتصديق هذا الكتاب فإنهم سوف يؤمنون به رغبة في هذه النعم من

Page 143

الجزء الثالث المادية ١٣٦ سورة يونس إذا تدبرنا هذه المزايا الأربع للقرآن الكريم أدركنا أنه لم يزدهر الإسلام بل ولا أي دين آخر، إلا بفضل هذه المزايا والكمالات.فالذين كانوا أرق طبعا وأرهف حسا قبلوا الإسلام وانتفعوا بتعاليمه وبما فيها من نصح صادق ومخلص.وأما الذين لم يملكوا طبائع حساسة بهذه الدرجة اطمأنوا بما في الكتاب الكريم من أدلة عقلية، وأما من كانوا أدنى منهم حسا وشعوراً فاتعظوا برؤية ما أحدث القرآن الكريم من تطور مدهش وعظيم في أخلاق المسلمين، وما تشرفوا به من الوصال بالله ، وأما الذين كانوا أغلظ الناس طباعًا أيقنوا بصدق الإسلام عن طريق ما حققه المسلمون من رقي مادي بفضل تعاليم القرآن، فدخلوا فيه أفواجًا.لقد أثار البعض اعتراضا على قوله تعالى شفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وقالوا: إنما تتولد الأفكار في الدماغ، فما المراد من قوله بأنه شفاء لما في الصدور أو القلوب؟ والجواب: إن الأمور الروحانية ذات صلة وثيقة بالقلب وقد شهد على ذلك جميع أهل الله بتجاربهم الشخصية.وكما أننا لا نقدر على أن نعلم بالمقاييس المادية ماهية الروح، وما بينها وبين الجسد من علاقة، كذلك من المستحيل أن نعرف ماهية علاقة الروح بالقلب باستخدام القوانين المادية.فلا مناص لنا من أن نصدق ونوقن بشهادة هؤلاء الذين مروا بأنفسهم بتجارب روحانية والذين هم مجمعون على أن للقلب صلةً يقينية بالأمور الروحانية.أما كون الأفكار تتولد في الدماغ فلا يتعارض مع كون القلب ذا صلة قوية بالروحانيات، إذ من الممكن تماما أن يكون لبعض التغيرات الواقعة بالدم تأثير خاص على كون الأفكار صالحةً أو فاسدة وبما أن الدم ذو صلة بالقلب فقد يكون القلب مؤثرًا بهذا الشكل على الأفكار تأثيرًا خفيًا.ثم إنه من البديهي أن الغذاء له تأثير قوي على أفكار الإنسان، وهذا التأثير الغذائي على النفس لا يحصل إلا عن طريق الدم الذي له صلة واضحة بالقلب، وهكذا نستطيع القول بأن القلب أيضًا منبع للأفكار.

Page 144

الجزء الثالث ۱۳۷ سورة يونس ولقد ذكر القرآن هذا المعنى في مكان آخر مبينا أن الغذاء الطيب له صلة عميقة بالأعمال الصالحة حيث قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا منَ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحًا (المؤمنون: ٥٢) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) التفسير : أي أن هذه النعم إنما تُنال بفضل الله وتوفيقه، ولا أحد يستطيع تحصيلها بقوته وجهوده.فمن كان يؤمن بالله لا ينبغي له أن يزهو بثرائه أو يفاخر بعشيرته، إذ لا وزن لهذه الأشياء ولا قيمة لها إزاء ما يهبه الله تعالى فضله من ورحمته، وإنما على الإنسان أن يفرح ويفخر على الأشياء التي أكد الله على صحتها ومنفعتها.وضمير الغائب في قوله تعالى (هُوَ خَيْرٌ) قد يرجع إلى الفضل الإلهي أو إلى عملية عنه آنفا، الحصول على الفضل، وقد يرجع إلى القرآن الكريم الذي قد سبق الكلام.والمراد: أنكم تسألون وأنتم المغرورون بأموالكم وعشائركم: كيف ستتحقق الغلبة لمحمد وهو دونكم مالاً وأضعفكم جاها؟ ألا فاعلموا أن السلاح الذي أعطيناه محمدا هو سلاح القرآن وإنه يفوق كل ما لديكم من أسلحة وثروات وعشائر، ولن يصمد سلاحكم ولا ثراؤكم ولا جاهكم في وجه هذا السلاح الجبار، بل إن الفوز والغلبة سيكونان حليفي محمد وحده.ما أعظَمَ وما أروع الحقيقة التي يذكرها القرآن الكريم هنا، حيث يقول: إن الحقائق الروحانية هي التي تعلو على الماديات.لا شك أن الحق يبدو في أول الأمر أضعف شيء في الوجود، ولكنه ينتصر على كل شيء في آخر المطاف.لو أدرك الناس هذه الحكمة لما آثروا الأشياء المادية على الحقائق الروحانية قط.

Page 145

الجزء الثالث ۱۳۸ سورة يونس قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنْزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقِ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 7.أي التفسير : لقد أعلن من قبل أن محمدًا قد أوتي كتابًا يطهر القلوب من الشكوك، والآن بدأ يبرهن عن ذلك بذكر عادة كانت رائجة بين الكفار، وما كان بيدهم دليل على صحتها إلا أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، بينما عقولهم ما كانت تطمئن بها، وهي عادة تحريم الأشياء أو تحليلها دونما دليل.الواقع أن الطعام هو من أهم الضروريات الأساسية للناس، وأن إرشادهم في شأنه هو من الواجبات الأولية في كل دين ولكن لم يكن لدى الكفار بل لدى العالم كله أي تعليم سليم كامل في هذا الصدد، لأنهم كانوا يحلّلون ما شاءوا، ويحرمون ما شاءوا دونما قانون ولا ضابط وما كان العقل ليرضى بهذه الفوضى.إذ يجب أن يحرم الشيء بناءً على برهان طبّي أو خُلقي أو روحاني، لأن تحريم الشيء إنما يكون لوجود عيب فيه من هذه النواحي، ولكن تحريم الأشياء تحريما اعتباطيا يعني وكأن الله قد خلقها عبئًا دون أي هدف ومثل هذه العادة الفوضوية لا بدَّ من أن تبث الشكوك في قلوب الناس ولا يستطيع أي دين القضاء على هذه الشبهات إلا الذي يبين للتحليل والتحريم قواعد محدّدة حكيمة يقبلها العقل السليم مقتنعًا، وإن الإسلام وحده يمتاز عن سائر الأديان بهذه الميزة، إذ وضع لذلك قواعد معينة وحكيمة، فلا يسمح بتحريم الأشياء أو تحليلها بصورة عشوائية.كما وجه بذلك سؤالا إلى الكفار يقول : ما هو السبب وراء عداوتكم للإسلام؟ هل هناك عادات أو تقاليد ينهاكم عنها وهي نافعة ومفيدة في الواقع؟ هل تغضبون حين ينهاكم الإسلام عن تحريم الأشياء أو تحليلها دونما سبب؟ لقد كانت عادتكم هذه من التفاهة والسخافة بحيث كان لا بد لكم أن تتركوها غدًا أو بعد غد، مثلاً

Page 146

الجزء الثالث ۱۳۹ سورة يونس سواء نــزل النهي عنها في القرآن أم لا.وإذن فيجب أن تفرحوا بنــزول هدي السماء بدلاً من أن تسخطوا عليه.وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ עד شرح الكلمات : يوم القيامة: معناه هنا (في يوم القيامة).التفسير : أي لو كان أحد مؤمنًا بالله تعالى إيمانًا حقيقيًا لما افترى على الله ولما عزا إليه الباطل كما تفعلون في هذه القضايا.فيجب ألا تروا هذه العادات أمورًا هامشية مستهينين بها، بل هي دليل على خلو قلوبكم من الإيمان بالله وعلى عَمَى أبصاركم عن رؤية الصفات الإلهية، وإلا كيف يمكن أن يمن الله عليكم بهذه النعمة العظيمة فتواجهونها بالنكران، مؤثرين على هذي السماء ما تأتي به عقولكم المريضة من أمور فاسدة.وقد يكون للآية معنى آخر، حيث تقدم إنكارهم ليوم القيامة كدليل ثان على فساد عقائدهم وكونها منافية للعقل السليم.إن إنكار يوم القيامة يرجع إلى خوف الفطرة حتى من مجرد تصوّر يوم الحساب والعقاب، وحيث إنها تصاب بالهول والهلع لمجرد التفكير فيه فتنكر وجود ذلك اليوم نهائيًا، مع أن الحقائق لا تتغير بإنكار الناس لها.وإذن فإن الله تعالى يدحض هنا تصورهم الخاطئ ليوم القيامة مبينًا لهم بأنه إنما جعل يوم القيامة لإصلاح الناس لا لإيذائهم، كما تُحدَّد أيام للامتحانات في المدارس لكي يجتهد الطلاب ويرتقوا إلى الدرجات العليا.لا شك أن بعضهم يفشلون، ولكن لا

Page 147

الجزء الثالث ١٤٠ سورة يونس يكون الهدف من الامتحان إفشالهم وإنما ترقيتهم.فمن اعترض على يوم الامتحان فإنه جاهل دون ريب، إذ لا أحد يُكرهه على الفشل بل كل ما عليه أن يجتهد لكي أما الذي يتكاسل ويتهاون ثم ينكر وجود الامتحان كلية خوفًا من الفشل، فلن يؤدي به الإنكار إلا إلى المزيد من الكسل والتهاون، ولن ينجيه هذا التفكير الخاطئ من الدمار بل يقربه منه رويدا رويدا.ينجح.ومَا تَكُونُ في شأن وَمَا تَتْلُو مِنْهُ من قرآن ولا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَل إلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلا فِي كتاب مبين شرح ٦٢ الكلمات : الشأن: الخطب أي ما عظم من الأحوال والأمور؛ والحال؛ الأمر.ويقال: من شأنه كذا، أي من طبعه وخلقه الأقرب)، والمراد من الشأن هنا ما كان للنبي ﷺ من شئون ومشاغل دينية، لأنها أهم أعماله.تفيضون : أفاض الماء على جسده أفرغه وأفاض دمعه: سكبه.وأفاض الناس من عرفات: اندفعوا ورجعوا وتفرقوا أو أسرعوا منها إلى مكان آخر.أفاض القوم في الحديث: اندفعوا وأسرعوا.وأفاض فلان الإناء ملأه حتى فاض.أفاض القداح وبالقداح وعلى القداح: ضرب بها.أفاض بالشيء: دفع به ورمى.أفاض القوم على الرجل: غلبوه.ما أفاض بكلمة : أي ما أفصح بها (الأقرب).فهذه الكلمة تستعمل للكلام عمومًا، ولكنهم يستخدمونها للعمل أيضًا كعادتهم في استخدام الفعل توسعًا

Page 148

الجزء الثالث ١٤١ سورة يونس كقولهم: عَلَفَ الدابة تبنًا وماءً، بدلاً من: علف الدابة تبنًا وأسقاها ماءً.يعزب: عزب الشيءُ عنه يعزب عزوبا: بعد وغاب وخفي.يقال: عزب عنه علمه: غاب.وعزب الرجل ذهب (الأقرب) مثقال: المثقال ما يوزن به ومثقال الشيء ميزانه من مثله (الأقرب) : ذرة: الذرة واحدة الذر وهي صغار النمل؛ الهباء المنبت في الهواء (الأقرب) التفسير: إن ضمير الغائب في (منه) يمكن أن يكون عائدًا على القرآن، أو يكون عائدا على الموعظة المشار إليها بقوله (قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ أو يكون عائدًا على الله تعالى.هذه آية رائعة للغاية إذ يوحي أسلوبها وكأن الله تعالى يتكلم متمكنا من العرش وهو يخاطب أولاً النبي وأصحابه الجالسين أمامه في ناحية ثم يتوجه بالخطاب إلى وهم أيضًا جالسون في ناحية أخرى حيث إن الجزء الأول من الآية موجه إلى الرسول والمؤمنين، بينما الجزء الثاني وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلِ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوم الكفار موجه إلى معارضيه.هذا ودا وقوله تعالى وَلا أَصْغَرَ من أَصْغَرَ مفهوم لأن الشيء الصغير يغيب عن النظر، ولكن يتحير المرء لماذا قال هنا وَلا أَكْبَرَ ، لأن الشيء الأكبر لا يغيب عن نظر الإنسان.فيبدو لأول وهلة وكأن فقط لا فائدة منه.ولكن الحقيقة على عكس ذلك، لأن العين لا يمكن أن تدرك أيضا الشيء الكبير جدا.فمثلاً لو وقفت أمام جبل كبير فلن ترى منه إلا جزءاً صغيرًا جدًا، بينما يغيب عنك معظمه.فثبت أن الشيء يمكن أن يغيب لكونه صغيرًا أو كبيرًا أيضًا.ذَلكَ وَلا أَكْبَرَ إلا في كتاب مبين؛ إن قوله وَلا سجع لذلك يخبرنا الله تعالى هنا أن رؤيته واسعة للغاية بحيث لا يمكن أن يغيب عن نظره أي شيء مهما كان ضخمًا، كما أن رؤيته تعالى لطيفة أيضًا فيستحيل أن يخفى عليه أي شيء مهما كان ضئيلاً.

Page 149

الجزء الثالث ١٤٢ سورة يونس ويتأكد هذا المعنى ويتضح تماما من الناحية العلمية المحضة بمثال العين والأذن.فقد أثبت العلماء أن كلاً من الرؤية والسّماع يتوقف على ذبذبات متوالية متواترة تسمى بالإنجليزية (Vibrations)، وأن كلا منهما يعمل في نطاق ذبذبات محددة السرعة، فالعين مثلاً لا تقدر على رؤية الأشياء إلا ما وقع منها بين حد أعلى وآخر أدنى من هذه الذبذبات.وكذلك الأذن فإنها لا تسمع إلا الذبذبات التي تكون ނ عتها ما بين ثلاثين ألف مرة أو أربعين ألف مرة في الثانية.(دروس علم النفس ص ٧٥).فالثابت علميًا أن الأشياء الكبيرة جدًا تفوت أيضًا إدراك العين والأذن ضخامتها.ولكن الله يقول: إن هذا لا يحدث معنا، فكل شيء -مهما صغر أو كبر محاط بعلمنا.ويذكر الله تعالى في الآية كلاً من المؤمنين والكفار أن قبول الحقيقة أو القيام بالعمل لا يكفي، بل إنه تعالى يراعي عند الجزاء نيّة العامل وأسلوب أدائه له.فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه دائما، لأنه لا يكفيه فقط قيامه بخدمة دينية جليلة أو قراءته كلام الله على الناس، بل عليه أن يراقب نيته وأسلوبه لدى أداء هذه الأعمال، إذ يمكن أن يتسرب الفساد إلى نيته أو يؤدي العمل بأسلوب منفّر للناس أن يقربهم إلى الله عل.فلا تفرحوا بأنكم تعملون من أجل الدين، لأن الله سوف يرى ما إذا كانت نياتكم طاهرة أم لا، وما إذا كان أسلوبكم مقربا الناس إليه ل أم منفراً أكثر من ذي قبل.بدلاً من ولنعلم أن ضمير الخطاب في تتلو للواحد، ولكن الخطاب موجه إلى جميع المسلمين، والمراد هناك فريقان يتباريان مؤمن وكافر ولكننا لن ننحاز إلى الفريق المؤمن لكونه ممثلاً لنا، بل سنرى إلى نيات وأعمال كل فريق.فاسمعوا يا من تقرءون القرآن، لو أنكم لم تقرءوه عليهم بحسن نية وبكامل حكمة فرفضوه بسبب ذلك فسوف نؤاخذكم أنتم أما إذا أديتم واجب نشر القرآن الكريم على أحسن وجه، ومع ذلك كفروا به فسوف نؤاخذهم.هم فإننا لا نرى إلى العمل فحسب، بل إلى

Page 150

الجزء الثالث النيات والظروف أيضًا.١٤٣ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ شرح الكلمات : ٦٣ سورة يونس ألا : للتنبيه والتحذير عمومًا، ولكن هنا بمعنى البشارة.التفسير: لقد أخطأ البعض في فهم قوله تعالى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، فظنوا أن المراد منه أن أولياء الله تعالى لا يمرون بأي خطر، ولكن اللغة العربية لا تجيز هذا المعنى، لأن الخوف على أحد يعني أن يخاف أن تلحقه خسارة أو يهلك، فيقولون: خفت عليك أو خفت على نفسي.وهذا هو المراد هنا..أي أنهم يكونون على يقين من نجاحهم لدرجة أنهم لا يخافون على أنفسهم من أي خسارة أو فشل، وليس المراد أنهم لا يتعرضون للمخاطر.وبين بقوله تعالى (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أنهم لن يغتمّوا على ماضيهم، وهذا إشارة إلى أنه تعالى يحمي أولياءه من عواقب أخطائهم التي وقعوا فيها قبل نيلهم الدرجات العلى في قربه سبحانه وتعالى.ما أكثر ما في هذا المقام من الأمن والأمان.ليس هناك أية قوة في العالم تضمن سلامة الإنسان من أخطار المستقبل وأخطاء الماضي، إلا ذات الله تعالى التي يجد الإنسان في كنفها الطمأنينة الشاملة والسكينة التامة ولكن المؤسف أن هذه هي الحقيقة التي قلما يدركها الناس ويهتمون بها، فيقرعون أبوابا لغير الله تعالى بحثًا عن العلاج الشافي لمشاكلهم وآلامهم، ولا يكون نصيبهم إلا اليأس والحرمان.هذا وقد ذكر القرآن في أماكن أخرى أن أنبياء الله وأولياءه يصابون بالخوف والحزن، ولكن ذلك لا يكون من أجل أنفسهم وإنما بسبب الآخرين.وإن خوف

Page 151

الجزء الثالث ١٤٤ سورة يونس الإنسان أو حزنه من أجل الآخرين لا يُعدّ عقابًا أو منقصة، وإنما هي فضيلة ومكرمة، حيث يعتبر مصابَ الآخرين مصابه هو ويشاطرهم همومهم.وبهذا المعنى ذكر القرآن الكريم حزن يعقوب ال، إذ لم يكن حزنه بسبب تقصير منه، وإنما كان حزنه من أولاده الذين كانوا يرتكبون المعاصى وهكذا كانوا يُحرمون من قرب الله تعالى.وبنفس المعنى كان خوف زكريا الله إذ دعا ربه: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي) (مريم: (٦)..أي أخاف أن يفسد أقاربي وعشيرتي من بعدي.وخوفه هذا دليل على صلاحه وفضله ومدعاة للخير والثواب، لأنه ليس خوفًا من أجل نفسه وإنما من أجل الآخرين كيلا يضلوا وينحرفوا.الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُوا يَتَّقُونَ ٦٤ التفسير : هذه الآية تصف أولياء الله تعالى بأنهم أرقى الناس كمالاً في الإيمان وأعلاهم درجةً في التقوى والصلاح.ولقد شرح النبي ﷺ معنى الولاية شرحًا يبدو وكأنه تفسير لهذه الآية.يقول سيدنا محمد المصطفى : "إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله، فيقومون بين يدي الله ل ثلاثة أصناف.فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: يا رب، خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها، وحورها ونعيمها، وما أعددت لأهل طاعتك فيها، فأسهرتُ ليلي، وأظمأت نهاري شوقا إليها.قال: فيقول الله تعالى: عبدي، إنما عملت للجنة، هذه الجنة فادخلها، ومن فضلي عليك أني قد أعتقتك النار، ومن فضلي عليك أن أُدخلك جنتي.فيدخل هو ومن معه الجنة.من قال: ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: يا رب، خلقت نارًا وخلقت أغلالاً، وخلقت سعيرها وسمومها ويحمومها، وما أعددت

Page 152

الجزء الثالث ١٤٥ سورة يونس لأعدائك وأهل معصيتك فيها، فأسهرتُ ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها.فيقول: عبدي، إنما عملت ذلك خوفا من ناري، فإني قد أعتقتك من النار، ومن فضلي جنتي، فيدخل هو ومن معه الجنة.أدخلك أن ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث فيقول: عبدي، لماذا عملت؟ فيقول: حبا لك وشوقا إليك.وبعزتك قد أسهرتُ ليلى وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك.فيقول تبارك وتعالى : إنما عملت حبا لي وشوقاً إلى فيتجلى له الرب له فيقول: ها أنا ذا، فانظر إلي.ثم يقول: من فضلي عليك أن أُعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك ملائكتي، وأُسلّم عليك بنفسي.فيدخل هو ومن معه الجنة.(فتح البيان، يونس، الآية: وما ظنّ الذين...الخ) ويبدو أن هذا الذي يؤتى به من كل صنف من أهل الولاية سيكون أفضل وأكمل فرد فيهم، وكأنه يتقدم إلى الله تعالى عنهم.وأما أكمل فرد من الجماعات الثلاث وأعلاهم مقاما في الولاية فهو يقينا نبينا الكريم محمد المصطفى ، لأنه هو الذي كان ينادي لحظة وفاته بنبرة تفيض رقةً ولوعةً: اللهم الرفيق الأعلى..الرفيق الأعلى (البخاري، المغازي)..أي أريد لقاء ربي.وهناك أحاديث أخرى تذكر درجات شتى للأولياء منها: " عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء.قيل من هم يا رسول الله ، لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" ابن كثير، يونس الآية: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم).يا لها من أيام رائعة حيث كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يحبون الصالحين من عباد الله تعالى، أما اليوم فالناس يكرهون الصلحاء.والحديث يعلّمنا الطريق الذي يصير به الإنسان وليًا الله تعالى، وهو أن يحب الذين يجتمعون على يد نبي غير خائف لومة لائم، ابتغاء مرضاة ربه.هناك كثيرون

Page 153

الجزء الثالث ١٤٦ سورة يونس يطلبون اليوم الدعاء لكي يصبحوا من أولياء الله تعالى، فعليهم أن يتذكروا أن السبيل إليه أن يطهروا قلوبهم من البغض، ويتركوا سبيل التفرقة، ويتحدوا مع جماعة إمام الزمان سيدنا الإمام المهدي ال، غير خائفين لومة أهل الدنيا، ولا وجلين من الشدائد والمحن.هذا، ولا يُخدعن أحدٌ هنا مما ذكر الحديث من اغتباط الأنبياء بهؤلاء الأولياء، فيظن خطأ أنهم أصبحوا أعلى من الأنبياء درجة كلا، إنما المراد من غبطة الأنبياء لهم هو تمنّيهم أن يكثر أمثال هؤلاء في أتباعهم وليس أن يحرز الأنبياء هذه الدرجة، إذ لا يمكن لأحد أن ينال النبوة إلا إذا كان قد صار من أولياء الله تعالى واتصف بهذه الصفات من قبلُ.لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )) 70 التفسير: البشرى المذكورة في الآية قد فُسرت في العديد من الأحاديث الشريفة ومنها ما يلى: الأول: "عن أبي الدرداء له عن النبي ﷺ في قوله (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال: "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له".(ابن كثير) الثاني: "عن أبي الدرداء قال: أتاه رجل فقال: ما تقول في قول الله (لَهُمُ الْبُشْرَى الْحَياة الدُّنْيا؟ قال: لقد سألت عن شيء ما سمعتُ أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل رسول الله ﷺ قال : بشراهم في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم وترى له، وبشراهم في الآخرة الجنة" (مسند أحمد، ج ٦ ص ٤٤٧) في

Page 154

الجزء الثالث ١٤٧ سورة يونس الثالث وفي رواية: "تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ثرى له" (ابن كثير).: الرابع: في رواية عن هذه البشرى: "يراها المؤمن في المنام أو ترى له".الخامس: عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله : لقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة، فما بشرى الدنيا؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءاً أو سبعين جزءا من النبوة (ابن كثير).السادس: "عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به؟ فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن".(مسلم) السابع: "عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله أنه قال: "لهم البشرى في الحياة من الدنيا" قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن.هي جزء من تسعة وأربعين جزءاً النبوة.فمن رأى ذلك فليخبر بها ، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه، فلينفث عن يساره ثلاثًا وليسكت ولا يخبر بها أحدًا (مسند أحمد، ج ٢ ص ٢١٩) هذا، وقد ظن البعض خطاً أن ما نزل على سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود العليا من وحي هو من قبيل هذه الرؤى العادية وهذا الظن ظن خاطئ تماما، ذلك أن الرسول ﷺ قد اعتبر بعض هذه الرؤى رؤى شيطانية، كما سبق آنفا، ولا يمكن أن إنما يكون في وحي أو رؤى حضرته وهو الإمام المهدي الذي أقامه الله تعالى- شيء من الشيطان.ولقد قال حضرته عن نفسه: إنّي واثق بصحة الوحي النازل عليّ كثقتي بصحة القرآن الكريم.(الملفوظات ج ٥ ص ٧٤) لا شك أننا نستطيع بناء على هذه الأحاديث الشريفة إقناع المنكرين باستمرار الوحي الإلهي وبضرورته بعد النبي ، ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك أنواع من الوحي تكون أسمى درجةً من الوحى المذكور في هذه الأحاديث النبوية.غير أنه مما لا شك فيه أيضًا أن "المبشرات" لفظ عام يمكن إطلاقه على وحي الأنبياء وإلهام الأولياء أيضًا.فالآية تخبرنا باستمرار الوحي بكل أنواعه وما كان خاصا بالصحابة فقد ذكره

Page 155

الجزء الثالث ١٤٨ سورة يونس النبي في هذه الأحاديث.هي ويبين بقوله تعالى لا تبديل لكلمات الله أمرين: الأول: أن ما ذكرناه من أمور سنة إلهية ،أزلية، وبما أنها جارية منذ القديم فسوف تبقى سارية المفعول الآن أيضًا.والثاني: أن ما قطعناه من وعود وبشارات لن تلغى ذلك أن بعض الأمور الغيبية لا تسمّى "كلمات الله" فيمكن أن تلغى، ولكن ما كان منها من "كلمات الله" فلا يلغى أبدا.ثم قال ذَلكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي أن تلقى البشارة هو الفوز العظيم، أو أن عدم تغير الكلام الإلهي هو الفوز العظيم.وكونُ تلقّي البشارة من الله تعالى فوزًا عظيمًا ظاهر بين، وأما عدم تغير الكلام الإلهي فهو أيضًا سر كبير للفوز، سواء في الأمور الروحانية أو المادية.ذلك أن الأمور المادية إنما أساسها (كلمات الله) أي النواميس الطبيعية التي لا تتغير ولا تتبدل، والواقع أنها لو كانت عرضةً للتغير كل يوم لما تمكن الإنسان من هذا التقدم والاختراع فمثلا النار تحرق والماء يروي، والكهرباء تدمر، فكل هذه الأشياء تعمل بحسب قواعد وقوانين لا تقبل التغيير والتبديل، ولو أنها تغيرت خواصها لما استطاع الإنسان الانتفاع بها.فمثلاً لو أراد أحدٌ إشعال النار فيتدفق الماء من الموقد، أو أراد فتح الصنبور فتخرج النار ويشب الحريق..أقول لو حدث ذلك لما توجه الإنسان إلى الانتفاع من كنوز الطبيعة هذه، بل لاختل نظام الكون ودمر تماماً.وعليه، فالنواميس الإلهية غير القابلة للتبدل هي الأساس لنجاحنا، وكلما اطلع عليها الإنسان تطور وازدهر.وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لله جميعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الله) ٦٦ التفسير : لقد ذكر من قبل أن أولياء الله لا يحزنون، والآن يقول لنبيه: لا

Page 156

الجزء الثالث ١٤٩ سورة يونس تحزن، فلماذا هذا التعارض؟ والجواب هو ما ذكرته آنفًا بأن رسول الله ﷺ ما كان ليحزن لنفسه، وإنما كان حزنه وقلقه على ما يثيرونه من اعتراضات ضد ذات البارئ سبحانه وتعالى، ولذلك يطمئنه الله قائلاً: لا تلتفت يا حبيبي، إلى فضولهم، ولا تحزن على ما يقولون عنا، فلن يضرونا به شيئًا، فإن العزة كلها ملك أيدينا.هذه الآية تكشف لنا عن أمرين أولهما ما كان يملكه النبي ﷺ من فطرة طاهرة مرهفة بحيث ما كان يستطيع تحمل اعتراضاتهم ضد ذات الله تعالى.وثانيهما: مدى حب الله الحبيبه المصطفى ، حيث يُطمئن رسوله الحزين ويخفف عنه قائلاً: هون على نفسك يا فأنا السَّمِيعُ الْعَلِيمُ..أسمع جيدا ما يقولون وأعلم تماما ما حبيبي، يفعلون، وعندما أرى أن طعنهم قد تجاوز الحد وصار يمس كرامتنا عندها سوف نقضي على مكرهم هذا نهائيًا.فهذا الأمر في يدنا، ولا داعي لك أن تحزن.أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَحْرُصُونَ ) شرح الكلمات : ٦٧ ما: إما استفهامية بمعنى أي شيء، أو نافية.فالمعنى الأول: ما هو الشيء الذي يتخذونه شريكا الله سبحانه، وفي هذا احتقار لشركائهم.والمعنى الثاني: أن الذين يدعون من دون الله فإنهم لا يدعون شركاء له في الحقيقة، إذ لا شريك له، وإنما يتبعون أهواءهم فحسب.التفسير : هنا يُطَمئن الله و رسوله بطريقين: فأولاً يقول له: ما دام أمر العقاب في قبضتنا فلا يصيبنك حزن ولا قلق.لك أن تتأسف على حالتهم، ولكن تذكر دائما أن اتخاذ القرار في شأنهم بيد إله قادر على ضربهم أو هدايتهم.وثانيًا يقول: إنه لا حقيقة

Page 157

الجزء الثالث ولا قيمة لما يتبعونه، وإذا فلا بد أن يتم ١٥٠ سورة يونس القضاء على عقائدهم الفاسدة التافهة عاجلاً أو آجلاً، إذ لا تقدر الخرافة على الصمود أمام الحقيقة.هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) ) شرح الكلمات : لتسكنوا: سكن يسكن سكونًا: قرَّ.وسكن فلان دارَه وسكن فيها سكنا وسكنا: استوطنها وأقام بها.وسكن إليه ارتاح وسكن عنه الوجع : فارقه.(الأقرب) مبصراً : أبصره رآه، وأبصر فلانًا: جعله بصيراً.(الأقرب) التفسير: إن الشيء المتحرك بالإرادة إنما يتوقف لكي يكتسب المزيد من القوة والطاقة دائما.والواقع أن الله تعالى إنما جعل ظاهرة التعب والإرهاق في المخلوق لبيان الحقيقة نفسها، أي ليدرك الشيء أنه قد أصبح الآن بحاجة إلى غذاء وطاقة مرة أخرى.ولذلك كلما احتاج الشيء إلى الغذاء والطاقة عاف التحرك، تحذيرًا بأن عليه أن يُشحن بالغذاء من جديد.وبما أن الليل يجبرنا على ترك العمل – بهذا المعنى لذلك نعتبره مجلبة للراحة.ولقد ذكر الليل على وجه التمثيل ليخبرنا أنه تعالى كما جعله سببا لإنعاش قوى الإنسان وتنميتها مرةً أخرى، كذلك يحدث مع الأمم والشعوب، فإن ما يطرأ عليها من جمود وكسل يصبح في آخر المطاف سببًا في تطورها وإصلاح شأنها وأخلاقها، إذ تصحو من جديد بكل حماس وقوة بعد هذا الليل من الغفلة والبطالة.وذكر النهار أيضا تمثيلي، لأنه يطلع بعد الليل ليستغل فيه الإنسان ما استجمعه بالليل من قوى

Page 158

الجزء الثالث وطاقات.١٥١ سورة يونس وكأنما يقول الله لا لمعارضي النبي له أن يأخذوا في اعتبارهم ما في ظاهرة الليل والنهار من عبرة ودروس، ويدركوا أنه قد جيء إليهم بالنهار الروحاني بعد ليل طويل، فيجب عليهم الآن أن ينتفعوا بضياء الشمس المشرقة عليهم.ولبيان هذا المعنى قدم هنا ذكر الليل على النهار.هنا ينشأ سؤال يقول : لقد أخر ذكر النهار بوصفه مبصراً ليدعوهم إلى فتح العيون فلماذا ختم الآية بذكر السمع بدلاً من ذكر الرؤية وقال إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؟ والجواب: ليقول لهم بأنكم لا تزالون قابعين في الظلمات رغم طلوع الشمس الروحانية عليكم، ولا تبصرون.فاستخدموا على الأقل أسماعكم لتنتفعوا من خبرة الآخرين، عسى أن تكتب لكم الحياة.قَالُواْ اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانِ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ شرح الكلمات : ٦٩ سلطان السلطانُ الحُجَّةُ ؛ التسلّط؛ قدرة الملك؛ الوالي؛ الملك.(الأقرب) التفسير: لقد بين الله تعالى من قبل أن أسباب هلاك الكفار متوفّرة في عقائدهم التي يعتنقونها، وتوضيحًا لذلك الأمر بدأ الآن يدحض عقائدهم الوثنية هذه، واختار منها ما كان رائجا متداولاً بين الشعوب المتحضرة عندئذ، والذي كان أكثرها خطرًا وقوةً وانتشارًا، وهو أنهم جعلوا الله سبحانه وتعالى ابنا.لقد كان المشركون الآخرون يزعمون فقط أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى، وأما

Page 159

الجزء الثالث ١٥٢ سورة يونس هي: هؤلاء فقد جعلوا الله شريكا في ألوهيته بالذات.وقد ساق على بطلانه أربعة أدلّة - سُبْحَانَهُ، ۲- هُوَ الْغَنِيُّ ، ٣- لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، ٤ - إِنْ عندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا.الدليل الأول : فقوله تعالى (سُبْحَانَهُ يعنى أنه بريء من كل عيب ونقص، ولكن اعتقادكم بأنه اتخذ له ابنا يعرّضه للنقائص من ناحتين أولاً: إن كون أحد أبا لغيره يستلزم كونه قابلاً للفناء والموت وهذا عيب ونقص فإننا نرى أنه لا يتناسل ولا يلد الأشياء إلا الذي يحيطه الفناء قبل أن يحقق الغاية من وجوده.ولذلك لا نجد للأرض أو الشمس نسلاً، ذلك لأنهما باقيتان قائمتان إلى الأجل الذي يحتاج العالم إليهما، بينما نجد أن كل إنسان أو حيوان أو شجرة يموت وينقرض قبل استغناء العالم عنه، فيسعى للبقاء والاستمرار عن طريق التناسل والتوالد لكي يأخذ الجديد مكان الفاني، فثبت أن توالد الشيء دليل على فنائه.من ثانيا : إن التناسل والتوالد دليل على وجود الشهوة الجنسية، والشهوة منقصة أيضًا، لأنها تدل على وجود شيء زائد في جسم ذلك الكائن لا يستطيع الاحتفاظ به بداخله، فيحاول به إيجاد شيء مستقل خارج جسمه، ولكن الله ما أسمى من أن يُعزى إليه مثل هذه المنقصة.والدليل الثاني: هو قوله تعالى هُوَ الْغَنِيُّ ، فإنه يعني بأنه تعالى ليس بحاجة إلى غيره، وفي ذلك دحض لحجة أخرى يسوقها المشركون على جواز الشرك حيث يقولون: صحيح أن التناسل يهدف في الواقع إلى سد الفراغ الحاصل بفناء الأول، ولكن قد يحتاج هذا إلى وزير ليساعده في إنجاز مهامه فأبطل حجتهم هذه بقوله هُوَ الْغَنِيُّ..أي أنه في غنى عن أي مساعد أو وزير، فلا داعي للزعم بأنه اتخذ ابنا ليساعده في تدبير ملكوته.والدليل الثالث: هو قوله تعالى ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)..أي لاشك أن الإنسان يصنع بعض الأحيان شيئًا ثم بعد مرور زمن لا يقدر على التحكم

Page 160

الجزء الثالث ١٥٣ سورة يونس هذا العيب فيه والإشراف عليه، ولكن لا يحدث هذا مع الله ، بل هو أسمى من أيضا وليس بحاجة إلى أحد لإدارة النظام الذي أوجده رغم مرور القرون بعد القرون.والدليل الرابع: هو قوله تعالى (إنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانِ بِهَذَا..أي ليس لديكم أي برهان يثبت مزاعمكم فما دامت هي مزاعم بدون دليل فثبت أن ليس لله بل أي ولد في الواقع.إنه لمن الغريب فعلاً أن المشركين لم يقدروا-رغم محاولاتهم المضنية- على إيجاد أي برهان على عقائدهم الوثنية.لا شك أنهم كانوا ولا يزالون يخوضون عند النقاش في المتاهات الفلسفية، ولكنهم لم يأتوا يوما بأي برهان على كون هذه الأشياء شريكة الله عل.أما قوله تعالى أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُونَ...فاعلم أنه قد سبق أن ذكر هذا الدليل في سورة الرعد بقوله (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد: ٣٤)..ويرجع اختلاف الكلمات في الآيتين إلى أنه تعالى يبيّن هنا أن الشرك ينشأ من الجهالة إذ ليس عليه أي دليل، أما في سورة الرعد فوضح هناك أن عقيدة الشرك تعرّض الله إلى الجهل بالموجودات، إذ تعني وكأن الله تعالى لم يستطع أن يعرف أن له شركاء في الواقع، ولكن المشركين عثروا عليه بقوة علمهم وبلغوه الخبر! قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٢) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ۷۱

Page 161

الجزء الثالث ١٥٤ سورة يونس ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةٌ ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ شرح الكلمات: ۷۲ كَبُرَ عَظُمَ وجَسُمَ.وكبر عليه الأمر: شق واشتدّ وثقل.(الأقرب) مقامي المقام الإقامة، وموضعُ الإقامة زمن الإقامة؛ موضع القدمين؛ المنزلة (الأقرب) أجمعوا : أجَمَعَ القومُ على الأمر : اتفقوا عليه.أجمع أمره بعد تفرقه: جعله جميعا، وأجمع على الأمر: عزم الأقرب ).غُمّة: أمر غمّة: مبهم ملتبس (الأقرب).اقضوا إلي: قضى إليه الأمر : أنهاه وأبلغه (الأقرب).التفسير: إنني أُؤجل الآن ذكر حالات نوح اللي لأسردها بالتفصيل لدى تفسير سورة هود لأنها تتحدث عن أحوال الأنبياء بالتفصيل، وأما هنا فأكتفي بشرح الآية فقط.لقد سبق أن بينت أن السور التي تبتدئ بمقطع (الر) تبحث عموما في الأحداث التاريخية بغية الاستدلال منها على صدق الإسلام.وفي هذه الآية أيضًا، وبعد أن قدم أدلة عقلية على صدق الإسلام، بدأ الله تعالى في سرد حادث نوح على الكفار حيث يقول لهم: تدبروا في حادثة نوح مع قومه، هل ادّخر أعداؤه جهدًا في مخالفته ومعارضته؟ لقد بذلوا ضده جهوداً جبارة ومكروا به مكرًا كبارا، ومع ذلك خيب الله مكائدهم ودمرهم تدميرًا.لقد أمهلهم في بداية الأمر مهلة طويلة، ولكن لما بلغ سیل شرورهم الربي، وآمن به من ،آمن، أبادهم عن بكرة أبيهم.قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ..التلاوة هي قراءة شيء على أسماع الآخرين، والمراد من الجملة يا محمد لا تتجه إلى ما يرويه الآخرون عن نوح، بل اقرأ عليهم ما أنزلناه عليك في هذا الكتاب عن أحواله وأحداثه.

Page 162

الجزء الثالث ١٥٥ سورة يونس وأما قوله تعالى (فَأَجْمَعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ..فاعلم أن أساليب اللغة من العربية الاكتفاء بإيراد فعل واحد مكان اثنين في بعض الأحيان، وهذا ما فعله القرآن في هذه الجملة.فيمكن تفسيرها بمعنيين: الأول: أجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم.والثاني: أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم، باعتبار حذف فعل هو (ادعوا).ونظيره قول الشاعر: يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا (تاج العروس، مادة "جمع" ) حيث استخدم كلمة (التقلد) للسيف والرمح معًا، مع أنها خاصة بالسيف، أما الرمح فيُعتقل ولا يُتقلد.لقد ضرب هنا مثال ثلاثة من أنبياء الله الكرام نوح وموسى ويونس عليهم السلام.وحادثة نوح مثال لدمار شامل، وحادثة موسى مثال لنجاة البعض وهلاك الآخرين، وحادثة يونس مثال لنجاة أُمّة بأكملها.والقصد ببيان هذه الأمثلة أن يُخبر معارضي الرسول ﷺ بأننا نعامل الناس بهذه الأساليب الثلاثة.فإما أن نهلك أعداء رسلنا بشكل شامل كما حدث مع قوم نوح حيث دمرنا الشعب كله ما عدا عدة أنفس، وتارة ننجي بعضا من قومهم ونهلك الآخرين كما حدث في زمن موسى إذ آمن به معظم بني إسرائيل فنجوا، بينما أهلكنا فرعون وقومه، وتارةً أخرى ننجي قومه جميعا كما حصل مع قوم يونس.فينصح الله الكفار بضرب هذه الأمثلة ويقول: لماذا لا تكونون كأمة يونس، ولماذا تقدمون على الهلاك كقوم نوح وموسى عليهم السلام؟ حكايات يظن العامة أن ما يسرده القرآن الكريم من أحداث الأمم الغابرة إنما هي وقصص للتسلية.كلا لو تدبّرتم فيما يوجد في أحوال الأنبياء الثلاثة مثلاً، و ترتيب رائعين لعرفتم أن الله تعالى لم يسردها لمجرد التسلية أبدا.ألم يمر النبي ﷺ بأحداث مماثلة لها تماما في مُختلف الأماكن والفترات؟ ألم يكن مثيلاً لنوح في الفترة

Page 163

الجزء الثالث سورة يونس المكية، ولموسى في الفترة المدنية، وليونس لدى دخوله مكة منتصرا؟ وإذن فإنها ليست مجرد قصص عابرة، بل هى أحداث تنطوي على أنباء وبشارات.أما قول نوح ال: إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكيري) فيقول فيه لقومه: هناك أمران قد يسوؤكم منهما شيء، أولهما: (مَقَامي) كنبي، حيث ترون وكأني أريد الحكم عليكم، ذلك أن النبي أيضا يمارس نوعًا من الحكم.وثانيهما (تذكيري)..أي تعاليمي التي جئت بها، والتي تتنافى مع أسلوب حياتكم.فإذا كان هذا ما يسوؤكم مني فاعلموا أنه لا دخل لي فيه، بل هذا من فضل ربي، وليس لي أية مصلحة شخصية في ذلك، بل اعلموا أنني قد فوضت أمري كله لله تعالى، حيث لا أقوم بأي عمل برغبتي الخاصة بل كل ما يحدث بي يكون من أمر الله وإرادته.وما دام الأمر كذلك فاعلموا أنكم إن عاديتموني فإنما تعادون الله الذي بعثني.ويمكن أيضا اعتبار مَقَامِي وَتَذْكِيرِي) شيئًا واحدا، والمراد: أنه إذا كان يسوؤكم إلقاء وعظي واقفًا بين القوم فاعلموا أني لست تاركًا دأبي هذا، لأنه من صميم واجبي.فإذا كان هذا ما يدفعكم إلى عدائي فشأنكم، فإني متوكل على الله وواثق بنصرته عن الثقة كلها.سنة قديمة، وهي أيضا يتبين من هنا أن وعظ أنبياء الله – عليهم السلام – قائمين سنة الرسول ﷺ إذ كان يلقي الخطبة واقفا (البخاري، الصلاة)، وكذلك فعل الإمام المهدي والمسيح الموعود ال عموما إلا في أيام المرض.كما أنّ الآية تعلّمنا كيف يجب أن يكون التدبير والقيام بأمر من الأمور، وقد ذكرت خمس طرق لا بد من إتباعها لضمان النجاح، وهي: ۱ ضرورة الاتفاق على رأي موحد بعد التشاور.۲) ضرورة جمع المؤيدين لهذا الرأي تحت نظام واحد.(۳) ضرورة وضع خطة مدروسة ومفصلة جيدًا لتنفيذ الرأي المتفق عليه.٤) ضرورة بذل كل جهد وطاقة في وقت واحد دون إهدارها في أوقات مختلفة، حتى

Page 164

الجزء الثالث ١٥٧ سورة يونس يقع ثقل القوم كله على العدو بشكل مكثف مركز مرةً واحدة.ه بعد البدء بالهجوم يجب أن لا يُعطَى العدو فرصةً لالتقاط أنفاسه، كي لا يستجمع قواه من جديد، بل يجب شن الهجمات تلو الهجمات.لقد اتبع الأنبياء جميعًا هذا الأسلوب، وهذا ما رأيناه أيضًا من سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله حيث كان ينشر إعلانا تلو الإعلان بينما الناس لم ينتهوا بعد من الحديث عن إعلانه الأول.وبالاختصار يلفت نوح الأنظار قومه إلى نجاحه الحتمي قائلاً: ابذلوا جهدكم ضدي، واستنزفوا قواكم في معارضي، فإنكم فاشلون في إحباط خطتي، لأن هناك قوة أخرى تضيع بدونها الجهود والتدابير، ألا وهي الثقة بالله تعالى، وأنا أملكها وأنتم محرومون منها.ولذلك أعلن على مسامعكم أن النصر سيكون حليفي أنا، وأني أنا ون بعود ربي، ولو لم تألوا في مساعيكم أي جهد ولم تدخروا أي الغالب حتما مكيدة.الله ما أشدَّ رسل الله إيمانًا ويقينا بصدقهم وبصدق ما يتلقون من الله تعالى من وعود وبشارات، حيث لا يحفلون بعداء المخالفين أبدًا.وليس هذا فحسب، بل إنهم يثيرون حميتهم، مطمئنين ومتأكدين من تغلبهم عليهم في آخر الأمر، بل وينتصرون فعلاً.والحق أن غلبة الأنبياء على الأعداء والمعارضين - بغض النظر عن معجزاتهم الأخرى تشكل وحدها برهانا عظيمًا على صدقهم لدى كل قلب يعى الحق وعين تبصر الرشاد.إلا أن المؤسف هو أن هذه الدنيا العمياء لا تعي ولا تبصر.فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ۷۳

Page 165

الجزء الثالث ١٥٨ سورة يونس التفسير : لقد دأب الأشرار على أن يرموا رسلهم بتهمة الطمع في السلطة والرغبة في الحكم، وآيتنا هذه تفند مزاعمهم حيث تقول: إن حياة الرسل تكون مثالاً فريدًا للطاعة والانقياد فإنهم لا يفعلون أي شيء حُبًّا في الحكم والسلطان، بل امتثالاً لأمر الله تعالى وطاعة له، وإلا لما تكبدوا المشقة والعناء بأنفسهم، بل اكتفوا بممارسة سلطتهم على الآخرين فقط.لكن الثابت من سيرتهم أنهم كانوا أكثر الناس مشقة وعناءً على أنفسهم هم لا يأمرون غيرهم بأن يصلوا ويعبدوا ربهم، بل يعبدونه تعالى أكثر من أي إنسان ،آخر ولا يكتفون بأن يأمروا الناس بأداء الزكاة والصدقات، بل 6 إنهم يكونون بأنفسهم السبّاقين إلى هذه الخيرات.مما يؤكد أنهم لا يستسلمون لطمع الحكم على الآخرين، بل تكون صفتهم الغالبة هي الطاعة والاستسلام الله تعالى، وبهذا يكونون أول المسلمين وأسيادًا لأهل الطاعة والانقياد.وقد يقول بعض المعترضين إن هناك عديدا من الجبابرة في التاريخ كانوا يؤدون الصلوات والصدقات كثيرا وكانوا يرتكبون أبشع المظالم أيضا؟ ولكن مثل هذا الاعتراض ليس سليمًا إذ يمكن أن يكون هناك ملوك يجمعون بين الطغيان على الناس والعبادة الظاهرة الله تعالى، ولكنا لو بحثنا لوجدنا أنهم ورثوا الإيمان المصطنع والعبادة السطحية عن آبائهم.ولكن الذي يكون مصداقا لقوله تعالى ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسلمينَ)، والذي يغرس في قلوب قومه حب العبادة والصلاح والتقوى من جديد، فإنه لا يمكن أبدًا أن يجمع بين الطاعة الله والطمع في السلطة.إذ من المستحيل أن يفكر أحد في السلطة والحكم على الناس وفي الوقت نفســه يفكر بصــدق وإخلاص في عبادة الله ودعوة الناس إليه.نعم، من الممكن تماما أن يكون أحد معتادًا على العبادة وأداء الصدقة نتيجة لتربية آبائه ،له ويكون في الوقت ذاته مدفوعا بفطرته إلى الظلم والعدوان.أجل، قد يجمع بين هذين النقيضين من كان إيمانه عادةً موروثة فقط، لكن اجتماعهما في مؤسس دين من الله تعالى أمر مستحيل البتة.

Page 166

الجزء الثالث ١٥٩ سورة يونس ويأمر الله تعالى نوحًا أن يقول لهم فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ..أي إذا وليتم الدبر في المعركة وسوف تفعلون ذلك حتماً كما هو مذكور في النبأ الإلهي وخرجتُ أنا فيها منتصرا عليكم، فإني لن أفرض عليكم أية مسؤولية مالية، لأن ما أفعله إنما أفعله نصحًا لكم.لم أسألكم أي أجر من قبل ولن أطالبكم بأي شيء في المستقبل.الواقع أنه لم تسنح الفرصة لنوح الي أن يشن الهجمات على أعدائه فيرتدوا منهزمين ويخرج هو منتصرًا، فيعاملهم بما وعدهم به، ولكن هذه الفرصة قد سنحت للرسول الكريم ، إذ انهزم قومه من وجهه، فدخل بلدهم مكة منتصرا عليهم، ولكنه لم يأخذ لنفسه منهم حتى ولا حبة خردل.والمراد من قوله (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هو أنني مأمور بخدمة الإنسانية، و لم أخلق لممارسة الملك والسلطان على الناس، فلو صرت غالبًا عليكم فإنكم لن تروا منى إلا الخير والخدمة أيضًا.وقد قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال بهذا المعنى في بيت من الشعر له بالفارسية: "منه" كرسي زبهر ما که مأموريم خدمت را..." أي لا تقدّم لنا الكر فإننا مأمورون بخدمة الإنسانية.مرآة) كمالات الإسلام، الخزائن ج٥ ص ٥٥).فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ) شرح الكلمات: ٧٤

Page 167

الجزء الثالث خلائف: 17.سورة يونس جمع خليفة وهو من يخلف غيره ويقوم مقامه؛ السلطان الأعظم؛ الإمام الذي ليس فوقه إمام (الأقرب).التفسير: لقد وضح الله بقوله فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) أن هناك فرقًا واضحا بين ما ينزله الله من عقاب بالذين سبق أن أنذرهم وبين ما يحل من العذاب بعامة الناس الذين لم يُنذَروا.وهكذا نبهنا الله إلى علو المنزلة التي يتبوأها رسله لديه ، مبينًا أنهم قوم ينبغي على الإنسان أن لا يعتبر قولهم هينا ولا يستهين بأمرهم.ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ 00 شرح الكلمات : نطبع : طبع الشيء: صوّره بصورة ما طبع عليه: ختم عليه.طبع الله الخلق: خلقهم.طبع السيف: عمله وصاغه طبع الدرهم: نقشه وسكه (الأقرب).التفسير: لقد وضح أبطل كل الاعتراضات التي يثيرها أعداء الإسلام في هذا الصدد.(سيتارث بركاش ص الله هنا أيما توضيح معنى طبعه على قلوب الناس، وهكذا عليهم ٤٩٩).يقول الله : حيث إن الكفّار كانوا قد كفروا من قبل، لذلك صعب أن يؤمنوا رغم ما رأوا من الآيات لأن ما قد صدر عنهم من قول وفعل يمنعهم من أن يتزعزعوا عن موقفهم الخاطئ الذي كانوا عليه.إذ قال كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوب الْمُعْتَدينَ..أي لأنهم يصرون على موقفهم تعثنا وعنادا فلا نهديهم جبرًا وقسرًا.وليس المقصود أنهم يريدون الهدى ونحن نحول دون تحقق رغبتهم.فالحق أن العبد

Page 168

الجزء الثالث ١٦١ سورة يونس نفسه يطبع على قلبه بأعماله، والله يحكم على هذا السلوك بمقتضى النتيجة، ولذلك فقط يُنسب الطبع إليه.وقد وضح هذا المعنى في موضع آخر أيضًا بقوله تعالى (أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) :(محمد (۲۵)..أي أن ما يوجد على قلوب الكفار من أقفال إنما هي من قلوبهم هم.ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ٧٦ شرح الكلمات: الملأ : من مَلاً يملأ ملاً، وهم الأشراف، قيل : سُمّوا بذلك لأنهم يملأون العيونَ أُبهةً والصدور هيبة؛ الجماعة؛ التشاور، يقال: ما كان هذا الأمر على ملأ منا: أي تشاور واجتماع (الأقرب).استكبروا استكبر الرجل كان ذا كبرياء (الأقرب).التفسير: كلما يُبعث نبي من الأنبياء يكذبه الناس لسببين: إما أنهم يعتبرون دعواه أعلى من قدره ومكانته، أو يظنون بأنهم أسمى من أن يتبعوه.وهذا نفس ما حدث لموسى ال؛ فالبعض ظنوا أنه من المستحيل أن يكلم الله و عبدا من عباده، بينما احتقره الآخرون ظانين أنهم أعزّ وأرفع من أن يطيعوا شخصاً كموسى ال.وقوله تعالى (وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ) يمكن أن يفسر بمفهومين؛ الأول: أنهم كانوا من قبل محرمين ولذلك كذبوا موسى ولم يُوفِّقوا للإيمان به، وهذا المعنى يوضح سبب استکبار هم وحرمانهم من الإيمان..أي أنهم لم يؤمنوا به لأن ذلك كان سيؤدي إلى

Page 169

الجزء الثالث ١٦٢ سورة يونس سلب حريتهم المطلقة ويكون عقبة في سبيل ارتكاب الجرائم التي تعودوها.والثاني: أنهم أصبحوا بكفرهم به في عداد المجرمين.والحق أن كلا المعنيين ذو صلة وثيقة بإنكار الحقائق إذ إن السيئة تدفع إلى سيئة أخرى.وإنّه لحق أن أصحاب المساوئ والجرائم يُحرمون من الإيمان بسبب جرائمهم، كما أنه لحق أيضًا أن إنكار الحقائق يضر بتقوى الإنسان ضررًا فادحا، وإن كان في قلبه شيء من خشية الله من قبل فإنه يتلاشى منه فورًا أو تدريجيًا بسبب إنكاره لتلك الحقائق.إن رفض الحقائق ليس بأمر هين بل هو جريمة نكراء، ويجب على من يقيم للتقوى أي وزن أو قيمة أن يسعى جاهدًا كي يتجنبها.فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ شرح الكلمات : VV مبين: أبان الشيء اتضح، وأبان فلان الشيء: أوضَحَه ضَرَبَه فَأَبانَ رأسه من جسده أي فَصَلَه، فهو مبين (الأقرب).التفسير : كلما يأتي الحق من عند الله تعالى يقول الناس إِنْ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ.والواقع أن هذه الكلمة الوجيزة منهم تنطوي على الشر بكل أصنافه وألوانه.ذلك أن الناس صنفان؛ صنف منهم يرغب في الأمور الدينية الروحانية، وصنف آخر يرغب في الأمور المادية السياسية.فبقولهم (سحر) يحاول هؤلاء إثارة مشاعر الراغبين في الأمور الدينية ضد النبي المرسل كي يوهموهم بأن ما جاء به هذا النبي إنما هو خداع وتلبيس يريد به إفساد دينهم الذي هم عليه.وبقولهم (مُبِينٌ) يحرضون ضده الراغبين في الأمور المادية والسياسية بأن ما معه ليس بسحر وخداع فحسب، بل خداع خطير

Page 170

الجزء الثالث ١٦٣ سورة يونس سوف يوقع به الفرقة بينكم ويشتت شملكم.فإذا كنتم تريدون خيرًا لشعبكم فتصدوا لهذا المدعي وإلا فسوف يحوّل شعبنا المتحد إلى أحزاب متناحرة متحاربة.منذ بدء الخليقة نجد أعداء الله لا يزالون يلجئون إلى هذه المكيدة الشيطانية التي لم تفقد قوتها في الفتك والتدمير.ففي زمننا هذا أيضًا استخدم المعارضون هذه المكيدة الشيطانية نفسها ضد مصلح هذا الزمان ولا يزالون أما الناس فيقرءون كل هذه التحذيرات الإلهية في القرآن الكريم ولا يتدبرون فيها، ولا يفكرون لدى تحريض هؤلاء المفسدين لهم ضد سيدنا الإمام المهدي والمسيح الا أن الأمة كانت قد تفرقت وتمزقت وحدتها من قبل بعثته، فكيف فرّقها وشتتها هو كما يدعون.إذا كان بناء الأمة من جديد هو التفرقة فما هو معنى الهدم إذن؟ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ۷۸ التفسير: قوله (أسِحْرٌ هَذَا يعني أن ما جئتُ به من تعاليم لموجودة بين أيديكم، تعرفون تفاصيلها وتحسّون بأنفسكم بتأثيرها، فكيف تسمّونها إذن سحرًا وخداعا؟ كيف يكون سحرًا وكذبًا ذلك الشيء الذي يشح هامة الكذب ويدمغه؟ صرّح الله بقوله وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) بأن الذين يلجئون إلى الكذب والخداع لا يقدرون على تحقيق الأهداف المنوطة بأنبياء الله عليهم السلام.إن الأنبياء يأتون لتغيير أحوال الشعب دينيا وأخلاقيا ومدنيا وسياسيا، إما عاجلاً أو آجلاً.ما من نبي إلا وبعث لهذا الهدف.فموسى الله يقول لهم: أنتم ترون بأم أعينكم أنني أحقق هذه

Page 171

الجزء الثالث ١٦٤ سورة يونس الأهداف شيئًا فشيئًا، وسوف يكتمل إنجازها على يدي في يوم من الأيام، فكيف إذن ترمون بالكذب والخداع من يُحدث هذه التطورات المدهشة؟ قالوا أَجَبْتَنَا لَتَلْفَتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ شرح الكلمات : ۷۹ لتلفتنا: لَفَتَ الشيء يلفت لفتا: لواه وصرفه إلى ذات اليمين والشمال.ولفت فلانًا عن رأيه صرفه (الأقرب).الكبرياء: العظمة التجبّرُ.وفي اللسان العظمة والملك.وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود ولا يوصف بها إلا الله تعالى (الأقرب).وكأنها إذا استخدمت للإنسان جاءت بمعنى سيء وإذا استُخدمت في حق الله تعالى كانت بمعنى حَسَن.280 التفسير هذه الآية شرح للاعتراضين اللذين سبق ذكرهما بإيجاز شديد في كلمة سحْرٌ مُّبين.كان الاعتراض الأول إنه جاء ليفسد علينا ديننا، وقد شرحته الآية في شطرها الأول على لسان كبراء القوم : أَجِبْتَنَا لتَلْفتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا.ولما كان معظم الناس يظنون أن ما يتبعه آباؤهم هو الدين الحق، فكأنهم قصدوا بقولهم هذا أنه يريد إغواءنا عن الدين الحق، ولكنهم ذكروا هذا الأمر ذكرًا يحدث هيجانا عنيفا في قلوب العامة ضد نبيهم.وكان الاعتراض الثاني هو : إنه يريد تشتيت شمل الشعب، وقد شَرَحَتْهُ الآية في الشطر الثاني: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكَبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ..أي أن موسى وهارون يريدان

Page 172

الجزء الثالث سورة يونس الحكم على بلادنا والبديهي أن الوصول إلى السلطة يتم بإحداث الفرقة والخلاف بين أفراد النظام الحاكم.وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ) ^.التفسير: لاحظوا كيف أن الخطأ الواحد يدفع الإنسان إلى أخطاء أخرى.لقد رموا نبيا كريما كموسى ال بالسحر والخداع، فحُرموا بسبب هذا الاتهام من أن يبحثوا أمره بحثاً موضوعيًا، وهكذا وقعوا في الفخ الذي نصبوه له حيث بدءوا بأنفسهم يبحثون عن السحرة لمبارزته.أن فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ ۸۱ التفسير : عندما نزل السحرة في ساحة المبارزة أبدى موسى كراهية واستغناء عن مبارزتهم فقال: افعلوا ما أنتم فاعلون، أما أنا فأراه لغوا وعبا.يظن الناس عمومًا ال كان استعد لمبارزتهم فوراً، ولكن هذا خطأ، لأنه كان يدرك جيدا موسی أنهم سحرة وأن ما يأتون به سيكون لغواً لا حقيقة فيه، فأبدى كراهيته واستغناءه عن التصدي لهم، ولكنه لم يرفض مواجهتهم على الفور صراحة ربما لأنه فكر أن الحقيقة سوف تنكشف تلقائيا لدى المواجهة العملية، وعندها سوف يخبرهم برأيه صراحةً.وهذا ما حصل فعلاً حيث قال لهم عند انكشاف أباطيلهم: (مَا جِئْتُم به السِّحْرُ.

Page 173

الجزء الثالث ١٦٦ سورة يونس یک فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم به السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ شرح الكلمات : ۸۲ لا يُصلح أصلحه ضد أفسَدَه.أصلحه بعد فساده: أقامه.أصلح بين القوم: وفق.أصلح إليه أحسن إليه، يقال: أصلح إلى دابته إذا أحسن إليها وتعهدها، ويقال: أصلح الله له في ذريته وماله.(الأقرب) التفسير: عندما يقف الحق في مواجهة الباطل تنكشف الحقيقة للعيان.فأعمال المفسدين لا تؤول إلا بالفساد والشر، إذ يستحيل أن يأتي أحد بأعمال فاسدة ثم يجني منها خيرا وصلاحًا.فالله تعالى يشير إلى هذه الحقيقة قائلاً: إننا لا نَدَعُ أعمال المفسدين لتأتي بما يرجون، بل إننا نجعلهم يتقلبون ويغيرون حالتهم من حين لآخر فلا ينجحون في مراميهم.وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ۸۳ التفسير: لنعلم أن "كلمات الله" تعني كلاً.من البشارة والوعيد، لأنه تعالى يُثبت الحق بكليهما.يبين موسى الكلية هنا كلمة حكمة رائعة، حيث يقول: إن الله وعمل ليس بحاجة إلى اللجوء إلى الكذب والخداع لنشر دينه، بل كل شيء خاضع لأمره، ولذلك فإنه ينشر دينه بأمره وقدرته.

Page 174

الجزء الثالث ١٦٧ سورة يونس لقد علمنا الله عل هنا درسًا عظيمًا في الأخلاق، ألا وهو: أن صدق الهدف أو صحة المبدأ لا يسمح للإنسان باللجوء إلى طرق غير مشروعة لتحقيقه، بل يجب اتخاذ وسائل مشروعة وفاضلة لتحقيق الهدف مهما كان ساميًا وهاما.ولكن للأسف أن أكثر الناس يجهلون هذه الحقيقة في عصرنا هذا، وهذا الوباء في انتشار متزايد حيث يستسيغون الكذب لتوطيد الحق ما قيمة الحق الذي لا يستطيع أن يزدهر وينتصر دون الاستعانة بالكذب والخداع؟ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمه عَلَى خَوْف مِّن فَرْعَوْنَ وَمَلَتِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالِ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ شرح الكلمات :.٨٤ آمن آمنه أمنه آمن به صدقه ووثق به آمن له خضع وانقاد.(الأقرب).ذرية الذريّة: أصلها الصغار من الأولاد، وإن كان قد يقع على الصغار والكبار معا في التعارف، ويُستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع (المفردات).على حرف جرّ له عدة معان منها التعليل (الأقرب).يفتن فتنه يفتن فَتنًا وفُتونًا: أعجبه فتن المال الناس: استمالهم.فتنت المرأة فلانًا: ولهته.فتن زيد عمرًا: أوقعه في الفتنة ففتن أي وقع.فتن فلانًا فتنةً ومفتونًا: أضله.فتن الرجل إلى النساء: أراد بهن الفجور فتن الشيء فتنا أحرقه، ومنه: يَوْمَ هُمْ عَلَى : النَّارِ يُفْتَنُونَ) (الذاريات: (١٤).فتن فلانًا عن رأيه : صدّه.فتن الصائغ الذهب والفضة فتنة: أذابه بالبوتقة وأحرقه بالنار ليبين الجيد من الرديء ويعلم أنه خالص أو مشوب، وهو أصلُ، معنى الفتنة (الأقرب).

Page 175

الجزء الثالث ١٦٨ سورة يونس عال: علا الشيءُ: ارتفع.علا فلان في الأرض: تكبر وتجبر.علا فلانًا: غلبه وقهره (الأقرب).المسرفين: أسرف فلان جاوز الحد وأفرط أخطأ؛ جهل؛ غفل (الأقرب).التفسير : أي..لم يُطع موسى ال إلا أفراد من قومه هو، بينما رفض الآخرون دعوته خوفا من أن يضطهدهم فرعون وعلية قومه أو يحرقوهم.وهذا يبين أن الناس يستيقنون في قلوبهم بصدق الأنبياء، ولكنهم لا يصدقونهم بلسانهم ولا يعلنون إيمانهم خشية اضطهاد القوم.يكون في الدنيا ملوك جبابرة ولكنهم يملكون من الذكاء والفطنة ما يمنعهم من مضايقة الرعية حتى لا تتمرد عليهم، فمثلاً كان قوم نوح الله يعارضونه، ولكنهم اكتفوا بالسخرية منه ومن أتباعه دون أن يعذبوهم تعذيبا يمحو أثرهم.ولكن فرعون كان غبيا، فعامل هؤلاء الناس بقسوة دفعتهم إلى الخروج عليه.كان بنو إسرائيل في صف موسى، فخاف فرعون أن يتعاظم شأنهم ويتفاقم خطرهم فيضعف حكمه ويذهب سلطانه، ولذلك كان يضطهدهم ويعذبهم.ولكن هذا كان غباءً شديدًا منه، لأن العنف والعدوان دونما مبرر يقوّي أسباب التمرد ولا يجدي نفعاً.ويبدو من الآية أنه ما آمن بموسى جميع قومه، وإنما جزء منهم، كما هو ظاهر من قوله تعالى إلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمه، أما الآخرون من قومه فكانوا معه بسبب الدوافع السياسية.وهناك من قال بأن الضمير في قوله تعالى (مِّن قَوْمه) عائد على فرعون لا على موسى، والمعنى عندهم أن أفرادًا من قوم فرعون أيضًا صدّقوا بموسى (القرطي).ولكني أرى أن المعنى الأول أقرب إلى الصواب.كما اختلف المفسرون في ضمير الغائب في قوله تعالى (مَلَئِهِمْ)، فقال البعض: هم أسياد من بني إسرائيل، لأن الحديث هنا عن الإسرائيليين.ويرى غيرهم أن الضمير

Page 176

الجزء الثالث ١٦٩ سورة يونس يرجع إلى أسياد الإسرائيليين من قوم فرعون، وقد سُمّوا أسيادًا لهم لكونهم حاكمين عليهم.غير أنني لا أرى داعيا لإرجاع الضمير إلى فئة معينة من الشعبين، لأن السيادة لا تعرف فقط بناء على انتماء أحد لشعب حاكم بل أيضا بما يتمتع به أحد من حكم وسلطة.فالحق أن كبار رجال الحكومة الفرعونية سواء كانوا من الفرعونيين أو الإسرائيليين - قد سُمّوا ملاً لبنى إسرائيل، إذ كان فرعون يستعين بالمسئولين الكبار من الشعبين لاضطهاد الإسرائيليين.وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مسلمين ٨٥ التفسير: ينصح موسى ال شعبه قائلاً: عليكم أن تثقوا بالله ثقة كاملة، موقنين بأن الذي أنتم بصدد إنجازه هو مطلب سماوي يريد الله تحقيقه.هناك الكثير من الناس الذين ينادون القوم باسم القضية القومية، ولكن القرآن الكريم لم يحبذ هذه التسمية، مما يساعد الإنسان على أن يضع رضا الله نصب عينيه دائمًا، كما يحرّره من قيود العنصرية الخطيرة.ويبدو قوله تعالى (إن كُنتُم مُّسلمين جملةً زائدة في بادئ الرأي، إذ سبق أن قال إن كُنتُمْ آمَنتُم بالله، ولكنه ليس بزائد في الواقع، وإنما جيء لبيان معنى جديد، ذلك أنه إذا ذكر الإيمان إزاء الإسلام فيعني اليقين الكامل..أي الطاعة القلبية، بينما يراد بالإسلام عندئذ الطاعة الظاهرة.فالمراد من الآية: إذا كنتم تؤمنون بالله إيمانًا

Page 177

الجزء الثالث ۱۷۰ سورة يونس کاملاً، وتريدون أن تتذوقوا ثماره بصورة عملية فعليكم أن تتوكلوا على الله وحده مفوضين إليه أموركم كلها.لقد بين الله بذلك أنه يجب أن يؤدي الإيمان الحقيقي إلى تغيير في الأعمال، مع العلم أن المؤمن الحقيقي يكون مؤمنًا في البداية ثم يصبح مسلما، أما ضعيف الإيمان فيكون مسلما في البداية ثم يصير مؤمنًا، لأن هذا يبدأ في الأعمال أولاً بداية سطحية فيكتسب قلبه بذلك قوة تدريجية حتى يصبح مؤمنًا حقيقيًا.أما صاحب الإيمان القوي الحقيقي فتكون أعماله منذ البداية نابعة من إيمان ذاتي لأن رقيه رقي ذاتي وليس مكتسبا مما حوله، فتبدأ رحلة إصلاحه وطهارته من الباطن إلى الظاهر.ولكن صاحب الإيمان الضعيف يكون ارتقاؤه ارتقاء طفيليا يتم بمساعدة من حوله من المؤمنين، لذلك تبدأ رحلة إصلاحه من الظاهر إلى الباطن، وإلى هذا أُشير في قوله تعالى قالت الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات (۱٥)..أي أنكم وفقتم - بفضل صحبة المسلمين – أن تقلدوهم تقليدًا ظاهريًا فحسب، فلا تدعوا الإيمان، لأنكم لم تقطعوا بعد مرحلة تطهير القلب.فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ۸۷ 030 التفسير: إن قولهم رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يمكن أن يفسر بمفهومين؛ الأول: لا تدعنا نأت أعمالاً نسيء بها إلى دينك ونتيح بها لأعدائك فرصة الهجوم عليه والثاني: لا تجعلنا عرضة لاضطهاد الظالمين.

Page 178

الجزء الثالث ۱۷۱ سورة يونس وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخيه أَن تَبَوَّءًا لقَوْمِكُمَا بمصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ شرح الكلمات : ۸۸ تبوا: تبوأ المكان وبه: اتخذه محلةً وأقام به.(الأقرب).قبلة: القبلة: النوع الجهة، يقال: ما لهذا الأمر قبلة أي جهة صحة؛ الكعبة؛ كلُّ ما يُستقبل من شيء.يقال: ما له في هذا قبلة ولا :دبرة أي وجهة.اجعلوا بيوتكم قبلةً: أي متقابلةً (الأقرب).التفسير: قوله تعالى أَن تَبَوَّءًا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا لا يعني أنهم كانوا يعيشون في البادية في الخيام، فأمرهم باتخاذ البيوت، وإنما المراد أن يقيموا متجاورين ليتمكنوا من التعاون والمساعدة فيما بينهم.وهذا أيضا نوع من الهجرة، بل هو أمر طبيعي، لأن الفئات الضعيفة تعيش دائما في شكل تجمعات في المدن.فمثلاً، في بلادنا (الهند) هناك أكثرية للمسلمين في مقاطعة بنجاب والهندوس أقلية فيها، ولذلك نجد الهندوس يعيشون في مدنها بعدد أكبر نسبيًا، أما في مقاطعة أتر برديش، فيشكل الهندوس فيها الأكثرية، ولذلك نجد سكانها المسلمين يعيشون في مدنها بعدد أكبر نسبيا.أما قوله تعالى (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً فيمكن تفسيره بعدة معان، نظرا إلى ما "للقبلة" من معان مختلفة.وقد سبق أن صرّحت أن الله تعالى قد استخدم في القرآن كلمات ذات مدلولات عديدة، فيمكن أن تختار منها كل ما يتفق وينسجم مع الكريم السياق.فبالنظر إلى معان مختلفة للقبلة، يمكن أن تعني الجملة ما يلي: ١.يجب أن تعيشوا معًا.ذلك أن البيوت لن تكون متقابلة إلا إذا عاشوا مجتمعين متجاورين.

Page 179

الجزء الثالث ۱۷۲ سورة يونس.٢ يجب أن تتعاونوا فيما بينكم.ذلك أن الغاية من اتخاذ البيوت المجاورة أن يسهل عليهم مساعدة بعضهم بعضا..يجب أن تبنوا البيوت في جهة واحدة..أي أن تعيشوا تحت نظام واحد وتعملوا لتحقيق هدف موحد.٤.يجب أن تكون بيوتكم من نوع واحد وقد أشار بذلك إلى ضرورة علاقة قوية بين الغني والفقير منهم لتحقيق الرقي القومي، وأن يكون للقوم كلهم طابع واحد، وأن يكون كل واحد منهم واقفا على حال أصحابه، أما إذا عاش أحد في القصر بينما بات أخوه في الكوخ دون أن يتفقد ذاك حال هذا فمن الصعب أن ينشأ بينهما ترابط قوي.وبقوله تعالى (وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وجّه أنظارهم إلى ضرورة الدعاء والعمل بمثابرة، لأن الإقامة تشير إلى معنى الثبات والمداومة.وباختصار، تعلّم الآية سبعة دروس تستطيع أية أمة أن تحقق بالعمل بها تقدمًا قوميا، وهذه الدروس هي: الاجتماع، الوحدة، التعاون، النظام، الترابط بين الغني والفقير، الدعاء، المثابرة على العمل.وفي الأخير توجه الآية النصيحة إلى زعيم القوم وتقول وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)..أي عليك برفع معنويات أتباعك بذكر الأخبار السارة لهم، لأن اليأس والقنوط هو أكبر الآفات.

Page 180

الجزء الثالث ۱۷۳ سورة يونس وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَاهُ زِينَةٌ وَأَمْوَالًاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبيلكَ رَبَّنَا اطمس عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبهمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) شرح الكلمات : اطمس: طمس الشيء وعليه أهلكه؛ استأصل أَثَرَه (الأقرب والمعجم الوسيط).أَشَدُدْ شَدَّ عليه: حمل عليه (الأقرب).وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بأن معناه: قَسِّها (القرطبي)..أي اجعلها قاسيةً، ولكنا لم نعثر على هذا المعنى في القواميس.زينة: الزينة: ما يتزين به.(الأقرب).مع العلم أن القرآن الكريم قد اعتبر كلّ ما على الأرض زينةً كقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا) الكهف (۸)، بل ستمى الحياة الدنيا أيضا زينةً كقوله اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاحُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأولاد (الحديد) (۲۱)، ولكنه أطلق "زينة" الحياة الدنيا" خاصة على الأموال والأولاد فقط كقوله (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) (الكهف: ٤٧).وعندما ذكر الزينة في معرض الحديث عن ضلال الأمم فقد أراد بها أيضًا زينة الحياة الدنيا أي المال والبنون.أما كلمة الزينة في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها فقد أطلقت فقط على الأولاد دون الأموال، إذ أضاف إلى جانب الأولاد كلمة الأموال التي هي في الواقع جزء من زينة الحياة الدنيا، لأن القاعدة أنه إذا كانت الكلمة ذات مدلولين وذكر أحدهما في الجملة فلا يراد بها إلا المدلول غير المذكور.خذوا مثلاً كلمة "الإسراء" فإنها تعني عموما السفر بشخص ما ليلاً، ولكنها تعني مجرد السفر أيضًا، كما جاء في

Page 181

الجزء الثالث ١٧٤ سورة يونس قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) (الإسراء (۲).فالإسراء هنا بمعنى السفر فقط، لأنه ذكر الليل إلى جانبه.التفسير: لا تعني الآية أن الله جل شأنه أتى آل فرعون زينة وأموالاً بهدف أن يقوموا بإضلال الناس، وإنما اللام في (ليُضِلُّوا) تدلُّ على معنى الصيرورة والعاقبة، والمعنى: إنك يا ربِّ آتيتهم زينة وأموالا ،ولكنهم بدلاً من أن يشكروك عليها، صاروا يُضلُّون الناس.وهذا أسلوب يعبر به عن الأسف، حيث يقول: ما أشدَّ شقاوة هؤلاء القوم، إذ أصبحوا ناكرين لهذه النعمة الإلهية العظيمة، بل يُضلُّون الآخرين أيضًا ! وقوله تعالى (فَلا يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) عطف على قوله (لِيُضِلُّوا)، والمراد: ليضلوا عن سبيلك ولكيلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.وأما قوله رَبَّنَا اطْمس عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبهمْ) فهو جملة معترضة.وهو دعاء عليهم ولا شك، ولكنه في الحقيقة ليس بدعاء سيء، بل هو دعاء خير لهم، لأنه ليس بدعاء شخص غاضب ناقم عليهم، وإنما هو دعاء نبي رحيم مشفق عليهم.يقول فيه موسى ال: يا رب، لقد أعطيتهم أولادًا وأموالاً، وكان الحري بهم أن يكونوا لك شاكرين، ولكنهم صاروا لصنيعك ناكرين.وقد تجاوز نكرانهم بحيث إنهم بدءوا يضلون الآخرين، وساءوا لدرجة أن قلوبهم لن تميل إليك إلا برؤية العذاب الأليم.فإنني أتضرع إليك أن تدمر أموالهم وتعرضهم لصدمات مؤلمة في أولادهم علهم يعودون إلى سبيل الهدى، فأت بالعذاب من أجل هدايتهم.إنه يدعو الله تعالى أن يعذبهم بأولادهم وأموالهم لأنها سبب انحرافهم عن الهدى، فإذا أوذوا فيها رجعوا إلى صوابهم ومالوا إلى الهدى.وإذن، فهذا ليس بدعاء عليهم وإنما هو دعاء لهم، لأنه ليس لضلالهم وإنما لهدايتهم.لا جرم أنه يدعو عليهم بالعذاب، ولكن الذين لا يهتدون إلا بالعذاب يصبح هذا الدعاء رحمةً لهم.ومثاله كأن يطلب أحد أقارب المريض من الطبيب أن يبتر عضوه الفاسد كيلا يسري فساده

Page 182

الجزء الثالث ۱۷۵ إلى الجسم كله، فلا شك أن طلبه هذا رحمة بالمريض.كذلك كان دعاء في الحقيقة دعاء رحمة وشفقة لا دعاء عذاب ونقمة.سورة يونس موسی العليا وقوله تعالى (اشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يعني تعريضهم للصدمات في أولادهم.وهذا يتم بطريقين؛ الأول: أن يصب على أولادهم أنواع المصائب والآلام، والثاني: أن يوفق أولادهم إلى الإيمان، لأن ترك الأولاد دين الآباء وانضمامهم إلى صفوف العدو يمثل صدمة مؤلمة للآباء.وقد حدث هذا في زمن النبي ، حيث قبل أولاد أعدائه الإسلام، أما في زمن موسى ال فقد عوقب الفرعونيون فقط بموت البكر من أولادهم.ومما يدل على روعة الترتيب القرآني أنه عندما تحدّث عما أنزل الله عليهم من النعم قدم ذكر الزينة –أي الأولاد على ذكر الأموال حيث قال: (زِينَةً وَأَمْوَالاً)، ولكنه لدى الحديث عن العذاب عكس الترتيب وقال رَبَّنَا اطْمَسَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبهمْ وذلك أن نعمة الأولاد أغلى من نعمة الأموال، فكان أحق بالتقديم عند الحديث عن النعم، أما عند ذكر العقاب فقد ذكر أخف العقابين أولاً.وكأنه قال: يا رب، إذا اهتدى هؤلاء نتيجة نقص في الأموال فحسب دون أن يمسهم بــــــلاء في أولادهم فاغفر لهم، وإن لم ينتهوا فأنزل عليهم بلاء يُصيب أولادهم لعلهم يهتدون.هذا البيان إذ يُبرز روعة ترتيب القرآن فإنه يكشف أيضا عما كان موسى يكن في قلبه من رأفة ورحمة بالقوم.لقد أثار القسيس ويري اعتراضًا حيث قال : إن الدعاء الذي يعزوه القرآن هنا إلى موسى يختلف عما ورد في التوراة؟ والجواب: أولاً: إن مخالفة القرآن لما ورد في التوراة لا يعني أنه خالف الحق والصواب.وثانيًا: إن ويري يجد بين الدعاءين اختلافا لأنه يفسر الآية القرآنية تفسيرًا خاطئًا، وإلا فليس بينهما أي اختلاف في الواقع.

Page 183

الجزء الثالث ١٧٦ سورة يونس قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ التفسير: يمكن أن يتساءل هنا أحد قائلاً: كان الدعاء من شخص واحد هو موسى ولكن الله يوجّه هنا الخطاب للاثنين: (قَدْ أُجِيبَت دَعْوَتُكُمَا؟ والجواب: لقد ورد في الدعاء كلمة (رَبَّنَا) التي هي للجمع، مما يؤكد أن الدعاء كان من كليهما موسى وهارون عليهما السلام، ولذلك جاء الجواب للاثنين.وقوله تعالى (وَلا تَتَّبعَان شرح لقوله (فَاسْتَقيمَا.ولا يعني هذا النهي الموجه إليهما أن أنبياء الله يتبعون في الواقع ما يقول لهم الجهال، بل المراد منه: أن العدو سوف يسعى لإبعادكم عن الهدف، فعليكم بأخذ الحيطة والحذر منه، ولا تلقوا بالاً لما يقابلونكم به من أقوال تافهة واهية مما قد يبعدكم عن غايتكم الحقيقية.وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فَرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ به بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ شرح الكلمات : ۹۱ جاوزنا جاوز الموضع: تعدّاه (الأقرب).أَتْبَعَ: قال الأصمعي: تبعه: لحقه أو أدركه، وأتبعه: تَبِعَ أَثَرَه، أدركه أو لم يدركه.وأتبعه : تبعه وذلك إذا كان سبقه فلحقه (الأقرب).أَدْرَكَ : أدرك الشيء: بلغ وقته (الأقرب).

Page 184

الجزء الثالث ۱۷۷ سورة يونس التفسير : لقد وضح الله جل شأنه في الآية مسألةً دينية هامة تتعلق بالسياسة والحكم، حيث بين أنكم مأمورون بطاعة الحاكم أو الملك، ولكنه إذا تدخل في أمور دينكم ولجأ إلى استخدام القسر والجبر عليكم ليردكم عن الحق، فعليكم أن تهاجروا من بلده.أما إذا حال دون هجرتكم فقد صار في عداد الطغاة ويجوز لكم شرعًا محاربته، لأنكم عندئذ تكونون على الحق ويكون هو على الباطل، ولن تُعتبر مخالفتكم له مخالفة للحق والقانون.ذلك أنه كما لا يحق لأحد أن يعيش في بلد ما وهو مخالف لقوانين تلك البلاد، كذلك تماما لا يحق لحاكم أن يُكره أحدًا على العيش في بلده بالرغم من الخلافات الدينية الحادة القائمة هناك.وقوله تعالى ( بَغْيًا) يعني أنه ما كان لفرعون أي حق قانوني لاضطهادهم، وقوله (عَدْوا) يعني أنه لم يعد لديه أي حق أخلاقي كذلك.وما نطق به فرعون عند الغرق يدل على غاية هوانه وتذلله.ذلك أنه لو قال "آمنت برب موسى لا يكون قد تذلّل كثيرًا، لأن موسى ال كان قد تربى في بيته وكان يحظى لدى القوم بالتقدير والاحترام، ولكنه تاب عند الغرق قائلاً: آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) وكأنما قال: إنني أؤمن برب صانعي اللبن هؤلاء، إذ كان يعاملهم باحتقار وازدراء شديدين، مسخّرًا إياهم في أعمال الطين واللبن."1 الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ! ۹۲ التفسير: إن الإيمان إنما ينفع في حالات معينة، أما إذا تبين الحق وحصحص فلا قيمة للإيمان عندئذ لأن الثواب إنما يترتب على يبذله الإنسان من جهد وتضحية لأمر ما، أما الأمر الذي لا يكلّف فهمه جهدًا ولا عناء فلا يثاب عليه بشيء.

Page 185

الجزء الثالث ۱۷۸ سورة يونس فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنكَ لَتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنْ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ۹۳ ذلك، عن التفسير: إن الله تعالى يجزي الإنسان جزاء حكيمًا.لقد آمن فرعون إيمانًا كان بمثابة قالب بدون روح، فجزاه الله و بحسب هذا، حيث نجى بدنه دون الروح، ليصير عبرةً لمن بعده.أما قوله تعالى نُنَجِّيكَ بِبَدَنكَ..فاعلم أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يذكر نجاة جثة فرعون من الغرق، بينما التوراة لا تذكر شيئا ومثلها كتب التاريخ.ومن أصدق من الله قيلاً.فاليوم، وبعد مرور ثلاثة آلاف السنين، قد عُثر على جثة فرعون منفتاح صاحب موسى، وهي محفوظة الآن في المتحف المصري بالقاهرة.وقد رأيته بأم عيني.إنها جثة شخص قصير القامة نحيف الجسم، تعلو وجهه ملامحُ الحَنَقِ والغضب والحمق.ما أبعد الشقة الزمنية بيننا وبينه، جل شأنه لم ينقذ جسمه من الفناء فحسب، بل أبقاه جثةً ومع ذلك فإن الله محفوظة إلى الآن لتكون عبرة لمن بعده.من ما أقوى هذه الآية برهانًا على فضل القرآن الكريم.إذ يدّعي أهل التوراة أنها تسرد تاريخ العصر الموسوي وأن تدوينها قد تم في ذلك العصر (سفر الخروج: ١١:١)، ولكن القرآن يأتي بعدها بنحو ألفي سنة، ويكشف الستار عن أحداث من عصر غافلة عنها.وليس هذا فحسب، بل إن الواقع يصدق موقف القرآن التوراة بينما هي مؤكدًا فضله وكماله على ما جاءت به التوراة.لقد ذكر بعض المفسرين أن اسم فرعون موسى هو رعمسيس وليس منفتاح.ولكن هذا ليس بصحيح، أما لأن رعمسيس هو الذي تربّى موسى العليا في بيته، الذي بعث موسى نبيا في زمن حكمه فهو ابنه الثاني منفتاح.والتوراة أيضا تشير إلى

Page 186

۱۷۹ الجزء الثالث سورة يونس ذلك، إذ وَرَدَ فيها أنه عند ولادة موسى ال كان بنو إسرائيل مسخرين في بناء مدينة اسمها رعمسيس (الخروج ١).ويبدو من هذا أن اسم الملك الحاكم عندئذ هو رعمسيس الذي كان يبني مدينته باسمه.كما ورد في التوراة أيضا أنه بعد وفاة هذا الملك بعث موسى نبيا الخروج (۲) فالملك الذي أرسل إليه موسى والذي تعرض للغرق هو منفتاح بن رعمسيس وهذا ما تؤكده الموسوعة اليهودية أيضًا (انظر مجلد ، كلمة Menephatah).كما تعلّمنا الآية عدة دروس منها أنه يجب على الإنسان أن يبادر إلى فعل الخيرات، وكلما دعي إلى حسنة عليه أن يسارع إليها.والدرس الآخر هو أن الله تعالى لا يضيع شيئًا من عمل الإنسان مهما كان قليلاً أو ضئيلاً.انظروا إلى فرعون كيف يعلن إيمانه لحظة الموت فينال به من الله تعالى أمانًا لجثته على الأقل، وسينفعه إيمانه ولو نفعا قليلاً طالما تمثل جثته عبرةً للآخرين ودافعا لإيمانهم.ومن أجل ذلك كان حضرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي – رحمه الله - يرى أن الله تعالى سوف يُنجِّي فرعون من عذاب الآخرة.(شرح القاشاني على فصوص الحكم ص ٣٢٢).وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّاً صدق وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اختَلَفُواْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ )) شرح الكلمات: مبوا : اسم ظرف من بوأه وبوّاً له منزلاً : هياه ومكن له فيه (الأقرب).

Page 187

الجزء الثالث ۱۸۰ سورة يونس صدق: يعبر عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله (في مقعد صدق) وقوله (أن لهم قَدَمَ صدق) (المفردات).التفسير: قوله تعالى (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَات..اعلم أن الوحي الإلهي يأتي في المحل الأول بين كل ما رزقنا الله من طيبات لأنه ينزل من الله أطيب وأحلى ما يكون.وتعني الكلمة أيضا الطيبات المادية، لأن بني إسرائيل كانوا مسخرين من قبل فرعون في مصر في صناعة اللبن وغيرها من الأعمال الطينية دون أن يعطيهم أجرة عليها، فكان من الصعب عليهم -والحال هذه أن يتمتعوا هناك بهذه الطيبات، وربما كانوا يحصلون عليها بالسرقات ولكنهم بعد خروجهم من مصر وجدوا الرزق الحلال الوفير.أما قوله تعالى (فَمَا اختَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ فالمراد من العلم هنا القرآن وليس التوراة، إذ لم يكن هناك بين نزول التوراة وتشكيل أمة بني إسرائيل فاصل زمني يمكن أن يختلفوا فيه.ولا تعني الآية بلوم اليهود على الاختلاف أن تفسير الوحي الإلهي بأكثر من معنى أمر محظور، لأن هذا الزعم يتنافى مع ما ورد في القرآن نفسه في مواضع أخرى، وإنما المراد من الاختلاف هنا اختلافهم في شأن.لقد كان بنو إسرائيل كلهم متفقين على أن نبيا عظيمًا سوف يُبعث لهم، فلما جاءهم اختلفوا في أمره وكفروا به.وذلك كما يفعل المسلمون اليوم، إذ إنهم كانوا جميعًا يؤمنون بمجيء المسيح الموعود العلنية لإصلاح الأمة الإسلامية، وكانوا يصدّقون كل الأنباء المتعلقة بظهوره الواردة في القرآن الكريم والحديث الشريف، فلما جاءهم هذا الموعود كفروا به، بل قالوا بأن الأنباء التي تذكر ظهوره زائفة وبأنها روايات موضوعة.النبي وبالاختصار فإن المراد من اختلاف بني إسرائيل هنا هو اختلافهم حول تحقق الأنباء الخاصة بالنبي الموعود لهم.فما زالوا يؤمنون بها إلى أن ظهر النبي المصدق لما معهم من أنباء، فمنهم من اختلف في تلك الأنباء ومنهم من كفر بها نهائيًا.

Page 188

الجزء الثالث ۱۸۱ سورة يونس ومما يدل على أن الاختلاف هنا يعني اختلافهم في القرآن الكريم لا في التوراة قول الله في الآية التالية (فَإِن كُنتَ في شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ..أي: أيها المخاطب بالقرآن، إذا كنت تشك في أمره فاسأل هؤلاء القوم.وفعلاً كان اليهود ينتظرون بعثة نبي مثيل لموسى في العرب بفارغ الصبر، حتى إن كتب التاريخ لتشهد على أن بعضهم جاءوا واستوطنوا المدينة، ليكونوا أول المؤمنين به فلما جاءهم صاروا له ألد الأعداء.(السيرة لابن هشام ج ۱ بدء إسلام الأنصار).= فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) التفسير: لا تعني الآية أن القرآن الكريم يولّد الشكوك في القلوب، وإنما المقصود ما يردده الكفار من اعتراض، إذ زعموا بأن القرآن يوقعهم في الشبهات.فردّ الله عليهم قائلاً: أيها المعترض، إذا كان هذا الكلام يسبّب الشكوك في قلبك -كما تزعم- فاسأل الذين قرءوه وانتفعوا به، لتعرف أنه يطهر القلوب وينير الباطن ويهب اليقين.كما تبين الآية بكل وضوح وجلاء أن الكتاب السماوي وحده لا يكفي لهداية الناس، بل لا بد من معلم يعلّمهم إياه، لأن معرفة العلوم الروحانية تتطلب تجربة روحانية ولو قليلة.فإذا درس الإنسان كتابًا سماويًا يجب أن لا يبت بنفسه في الأمور التي يساوره الشك فيها، بل عليه أن يستشير فيها أولي العلم بهذا الكتاب، لأنه إذا كان هذا كلامًا إلهيًا في الحقيقة فلا بد أن تنكشف مفاهيمه وفق ما يتمتع به القارئ من روحانية وقرب لدى الله.

Page 189

الجزء الثالث الله ۱۸۲ سورة يونس لقد ظن البعض خطأ أن ضمير الخطاب هنا يرجع إلى الرسول ﷺ وأصحابه، وأنهم هم الذين شكوا في الوحي القرآني، فأمرهم الله أن يسألوا في شأنه اليهود والنصارى.ولكنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام موجهًا إلى الرسول ، لأن الذي يتلقى تعالى لا يمكن أن يَشُكٍّ في صحته.وحي فلا جرم أن الخطاب هنا أيضًا موجه إلى الذين اختلفوا فيه.وقد سبق أن أثبت خطأ هذا الزعم بالبراهين، لأن الله تعالى قد أكد إيمانهم القوي بصدق القرآن في موضع آخر بقوله (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَن اتَّبَعَني (يوسف: ۱۰۹).وبديهي أن المقتنع بالشيء على وجه البصيرة والخبرة لا يمكن أن يساوره الشك فيه.كما أن الآية التالية أيضا تدحض هذا الزعم الفاسد كليةً.97 ولَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ! شرح الكلمات : ۹۷ كلمات: الكلمة والكلمة: اللفظة؛ وكلٌّ ما ينطق به الإنسان مفردًا كان أو مركبًا.وتُطلق الكلمة على الخطبة والقصيدة.والعشرُ كلمات: وصايا الله العشر.(الأقرب).التفسير : الكلمة هنا تعني الوعيد بالعذاب، والمراد من الآية أن الذين استوجبوا الإنذار بالعذاب ثم لم يسعوا للنجاة منه فإنهم لن يؤمنوا أبدا.والآية تؤكد أنه كلما يخبر القرآن الكريم أن الكفار لن يؤمنوا فإنما يريد به فقط الكفار الذين لا ينتفعون من الإنذار، وليس جميع الكفار.

Page 190

الجزء الثالث ۱۸۳ سورة يونس وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ۹۸ التفسير: تصرح الله و لا تنفعهم الآيات النازلة من عند الله شيئًا، بل إنّ كبرى المعجزات تصبح في نظرهم خدعةً وشعوذة.إذن فلا عبرة ولا قيمة لما يردّده أعداء أي نبي من أنه لم يرهم آية ولا معجزة، وإلا لكانوا قد آمنوا به، وإن كان هؤلاء المعارضون جهابذة ونوابغ في العلوم.بل يجب على كل إنسان أن يتخذ بنفسه القرار في أمر النبي التدبر الكافي في أمره وبعد قياسه على سنة الأنبياء الآخرين وأحوالهم، حتى لا يُحرم من قبول الحق.الآية أن الذين لا يريدون الانتفاع بالحق الذي ينزل على رسل فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخَزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ شرح الكلمات : ۹۹ قرية: القرية: المصرُ الجامع؛ وقيل: كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا؛ جمع الناس (الأقرب).الخزي: الهوانُ العقاب البعد؛ الندامة : وأصلُ الخزي ذُلُّ يُستحيا منه (الأقرب).حين: الحين: وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر.وقيل: الدهرُ؛ المدة (الأقرب).التفسير: إن الآية تحتوي على الكثير مما يساعد الإنسان المتدبر المتفكر على إدراك عظمة رحمة الله الواسعة.ما أشدَّ كلماتها دلالةً على الرغبة الإلهية الملحة في أن تؤمن

Page 191

الجزء الثالث ١٨٤ سورة يونس الدنيا كلها، وكم تنم ألفاظها عن الأسف البالغ لعدم وجود أمم أخرى كقوم يونس ال، الذين عندما جاءهم العذاب تابوا كلهم توبةً صادقة نصوحًا لدرجة أن الله تفضل بقبولها ونجاهم من العذاب المحقق.النبي ونعمه، وقد حدث هذا أيضا مع الكريم حيث دخل قومه جميعا في طاعته يوم فتح مكة، فنجوا من العذاب، ثم آمنوا به حقا فأصبحوا ورثةً لأفضال الله وهكذا تمت مماثلة النبي الكريم بيونس عليهما السلام.كان يونس نبيا من أنبياء الله العظام عليهم السلام، وقد أكد القرآن الكريم في خمسة أماكن فيه بأن يونس نبي مرسل من عند الله تعالى، وهي: سور النساء (الآية: ١٦٤) والأنعام (الآية : (۸۷) والصافات (الآية: (١٤٠) والأنبياء (الآية: ۸۸) والقلم (الآية: (٤٩)، وقد ذُكر في السورتين الأخيرتين باسم صاحب الحوت) و(ذا النون) الحادثته مع الحوت.كما تذكر ذلك الأحاديث النبوية الشريفة، فقال النبي ﷺ: (ما ينبغي لأحد أن يقول إني خير من يونس بن متى) (البخاري، الأنبياء).ولا يظنن أحد بذلك أنه لم يكن بأفضل من يونس ال، وإنما سبب قوله هذا كما ذكر الشارحون أيضا أن النبي لم يكن قد أخبر عندئذ بفضله على سائر الأنبياء عليهم السلام، وبعد أن أخبره الله بذلك أعلن: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (ابن ماجه، الزهد).وأرى أن ما قاله النبي ﷺ في الحديث الأول يرجع إلى سبب آخر أيضا ذي صلة بموضوع هذه الآية بالذات، فإنه لا يتحدث هنا عن أفضلية كلية ليونس ال وإنما يشير إلى أفضيلته الجزئية المذكورة في الآية، حيث كان يونس الوحيد بين سائر الأنبياء الذي آمن به قومه جميعًا عند رؤية آثار العذاب، بينما لم يتيسر ذلك لأي نبي آخر إلى ذلك الوقت، ولذلك لم ير النبي ﷺ من المناسب أن يفضل نفسه على يونس، وإنْ كانت الأحداث قد أكدت فيما بعد تشابها بينهما في هذه الخصوصية، حيث تاب

Page 192

١٨٥ سورة يونس الجزء الثالث قومه على يده لدى فتح مكة وآمنوا به جميعًا، فنجوا من العذاب كما حدث بقوم يونس عليهما السلام.لقد ولد يونس في غاث هابر (Gath Happer) بمحافظة زيبون في زمن الملك ير بعام الذي كان حكمه ما بين ٧٨١ إلى ٧٤١ قبل الميلاد (الموسوعة التوراتية لوستمنستر كلمة Jonah).وقد جاء ذكر هذا الملك في التوراة (سفر الملوك الثاني:.(١٤ هناك كتاب باسم يونان في التوراة.ولكن الباحثين مختلفون فيما إذا كان يونان الذي بشر في نبوءته بتحرر بني إسرائيل من ربقة الأورميين، هو نفس صاحب هذا الكتاب أم هو شخص آخر؟ لقد سردت التوراة أحداث النبي يونان كالآتي: أمر الرب يونان قائلا: قم، اذهب يتوب إلى نينوى المدينة العظيمة، وناد عليها، لأنه قد عظم شرها.فخاف يونان أن أهلها وينجوا من العذاب الذي أنذرهم فبدلاً أن من يتجه إلى نينوى هرب إلى يافا، وركب من هناك سفينة ذاهبة إلى ترشيش ولكن حاصرت رياح شديدة السفينة فجأةً.فخاف الملاحون وصرخوا أمام آلهتهم بدون جدوى.وأخيرًا ألقوا القرعة ليعرفوا من هو السبب في هذه البلبلة.فوقعت القرعة على يونان.فسألوه عن حاله، فقال: لقد فررتُ من طاعة أوامر ربي، فَاطْرَحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم.فطرحوه فيه، فتوقف عن هيجانه وأمر الرب حوتًا عظيمًا ليبتلعه، فكان في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليال وأمر الرب الحوت فقذفه إلى البر.ولما استرد صحته قام وذهب إلى نينوى وأنذر أهلها بأنهم سيصيبهم الدمار بعد أربعين يوما.فتاب أهلها العذاب.فشق ذلك على يونان فخرج إلى البرية.الله عنهم عن المعاصي وآمنوا، فرفع فأنبت الله هناك يقطينة فارتاح إليها.يونان.ثم أرسل الله دودةً، فأكلت الشجرة فیبست.فتأذى يونان من حرارة الشمس وتضايق.فأوحى الله إليه: أنت أشفقت على

Page 193

الجزء الثالث 117 سورة يونس اليقطينة التي لم تتعب في إنباتها، أفلا أشفق أنا على عبادي الذين يبلغون عشرات الآلاف وقد خلقتُهم.ملخص من سفر يونان.يبدو من دراسة القرآن الكريم أن بيان التوراة هذا ليس بصحيح مائة بالمائة، وأن القرآن يرفضه لعدة وجوه منها: أولاً: إن القرآن ينفي بكل شدة وصرامة أن يخالف نبي من أنبياء الله تعالى صريح الوحي، وإلا لرفع الأمان كلية.والله تعالى يعلن في القرآن الكريم صراحةً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ النساء (٦٥)، ويأمر نبيه بإتباع الرسل قائلاً (فَبهُدَاهُمُ اقْتَدهُ) (الأنعام: (۹۱)..أي على الإنسان أن يقتدي بهدي الرسل كافة، وأن يسعى لتكون أعماله مصطبغة بنفس الصبغة والروح المتجلية في أعمالهم.فلو كان الأنبياء أنفسهم مصابين والعياذ بالله بهذه الأمراض الخطيرة ويعصون أوامر الله فكيف يأمرنا بإتباعهم؟ ثانيا: يبدو من بيان القرآن أن يونس الأُرسل إلى قومه، ولكن يبدو من الروايات اليهودية أنه كان يهودي الأصل، ولكنه بعث إلى أمة غير يهودية، هم الأشوريون أهل نينوى التي كانت حينئذ عاصمة المملكة الأشورية.مع العلم أن أشور هذه ليست بسورية إنما هي دولة أخرى كانت حدودها الجنوبية تبدأ من شمال مدينة بابل حتى تخوم أرمينيا شمالاً، وتصل إلى الكردستان شرقًا وإلى الشاطئ الغربي لدجلة غربا.وكأنها كانت منطقة واقعة في جزء غربي من العراق الحالي.لقد كانت للأشوريين في وقت من الأوقات مملكة قوية كانت عاصمتها أشور التي كانت تقع على بعد ستين ميلاً من الموصل والتي تسمّى اليوم قلعات شرجت، ولكنهم نقلوا العاصمة فيما بعد من أشور إلى نينوى بحوالي ثلاثة عشر قرنًا قبل الميلاد (الموسوعة اليهودية، كلمة Nineveh).

Page 194

الجزء الثالث ۱۸۷ سورة يونس وباختصار فإنه وفق بيان القرآن لم يكن يونس ال من بني إسرائيل، أو إذ كان منهم فإنه لم يبعث إلى نينوى، بل إلى قبيلة من القبائل الإسرائيلية.ولقد تضاربت آراء المستشرقين أيضًا فيما إذا كان حضرته إسرائيليا أم لا؟ ويستطيع كل عاقل أن يدرك بأدنى تدبر أن موقف القرآن الكريم في الأمرين كليهما أقرب إلى العقل والمنطق، على عكس ما تذكره التوراة.وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَانتَ تُكره النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 1..التفسير: لقد قال الله تعالى من قبل فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَة...إلخ.وكأنه كان عبّر الله عن رغبته الشديدة في أن يؤمن الناس جميعًا.فنشأ من ذلك سؤال: لماذا لا يحقق رغبته هذه وهو القادر المطلق القدرة، ولماذا لا يجعل الجميع مؤمنين؟ فرد الله هنا على ذلك ردًّا لطيفًا رائعًا وقال لَوْ شَاء رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلَّهُمْ..إلخ..أي لو كنا نريد تنفيذ أمنيتنا بالإكراه لما فرّقنا بين قوم ،وآخر، بل لجعلنا كل العالم مؤمنين، ولكننا لا نريد ذلك، لأننا تركنا أمر الإيمان لخيار الإنسان نفسه، وإن كان بودنا أن يهتدي الجميع، ويحظوا بالدرجات العلى من قربنا.أما قوله تعالى (أَفَأَنتَ تُكْرَهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) فيمكن تفسيره بطريقين: الأول: أن يكون دليلاً على ما قيل في الجملة السابقة، والمراد: أنه من المستحيل أن يُكره الناس على الإيمان إذ لا جدوى في ذلك، ولأن العاقل لا يُقنع أحدًا بالإكراه.فهل تحب يا محمد إكراه الناس على الإيمان وما دمت لا تحب ذلك فكيف يمكن الله العالم بذات الصدور أن يجعل الناس مؤمنين قسراً.

Page 195

الجزء الثالث ۱۸۸ سورة يونس والثاني : أن يكون الكلام موجها إلى كل مسلم وليس إلى النبي ، والمراد: لا تغضبوا أبدًا من كفر الناس فتلجئوا إلى إكراههم على الإيمان، بل تذكروا دائما أنه ما دام الله الذي هو مالك العباد وخالقهم لا يُكرههم عليه فكيف يحق لكم ذلك؟ وبأي من المعنيين أخذنا فإن الآية تُنكر بكل قوة وشدة نشر الإسلام باستخدام العنف والإكراه، وتهدم مزاعم الذين يقولون بأن الإسلام يجيز الإكراه في الدين.كما يمكن أن نستنتج من الآية أنه من المحال أن يكون المسلمون الأوائل قد مارسوا الإكراه في نشر الإسلام، لأنهم كانوا عاملين بأحكام القرآن الكريم بكل حرص وحذر، فكيف يستساغ أن يكون هؤلاء الذين كانوا ينهون عن الإكراه في الدين حينما كانوا محرومين من الحكم بل حتى عندما كانوا هدفًا للاضطهاد والتعذيب في مكة..أقول كيف يمكن أن يكونوا قد بدءوا في قهر الناس على قبول الإسلام بمجرد أن أخذوا زمام الحكم! وَمَا كَانَ لنَفْس أَن تُؤْمِنَ إلا بإذن الله وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) شرح الكلمات : إذن: أذن بالشيء إذنًا: علم به.وأذن له في الشيء: أباحه له.والإذن: الإجازة؛ الإرادة؛ العلم.(الأقرب).الرجس: القَذَرُ؛ المأثم؛ العملُ المؤدي إلى العذاب؛ الشك؛ العقاب؛ الغضب (الأقرب).

Page 196

من ۱۸۹ سورة يونس الجزء الثالث التفسير: إن للآية مدلولين: الأول: إنها تسوق الأدلة على عدم جواز الإكراه في الدين حيث يقول الله إنه من المستحيل أن تؤمن نفس بشيء إيمانا حقيقيا بدون الإذن عنده ، أي أن اليقين إنما يتولد في القلب بحسب نواميس حددها الله تعالى، وليس مجرد الإقرار باللسان، فلا تستطيعون بالإكراه إقناع أحد.ثم الذين يقبلون الشيء دون تعقل ووعي لا ينفعهم إيمانهم شيئًا، بل يرتد عليهم وبالاً وبلاء من عند الله سبحانه وتعالى، فلا جدوى في إكراه الناس.وإذن فما أشدّهم غباء وحمقا أولئك الذين يرمون القرآن الكريم بأنه يعلم الجبر والإكراه في الدين رغم وجود تعاليمه الواضحة الصريحة هذه.كلا، بل إن القرآن الكريم يحارب ويبطل نظرية الجبر بأدلة دامغة.كما أنه لا شك في جهل أولئك الذين يقولون بنسخ هذا الحكم القرآني، إذ لا يدركون أن البراهين الحقة لا تبلى ولا تلغى أبدًا.إن صحة وصدق هذه البراهين القرآنية الرافضة لنظرية الجبر لم يزل أمرًا ثابتا متحققا في كل عصر، فما معنى إلغائها ونسخها إذن؟ والمعنى الثاني للآية أنه قد قيل من قبل أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وكان من الممكن أن يُقال بأنه إذا كان الله لا يُكره ولا يُجبر أحدًا على الإيمان فلماذا ينزل أحكامه وشرائعه للعباد بواسطة رسله ولماذا يبشرهم وينذرهم، فهذا أيضًا نوع من الإكراه؟ فالآية تمثل ردًّا على هذا المعترض حيث يقول الله تعالى إن تبليغنا الناس طريق الهدى بواسطة الأنبياء وتقويتنا إيمان المؤمنين من خلال آياتنا البينات ليس بإكراه، بل هو السبيل الوحيد لخلق الإيمان في القلوب، إذ كيف يمكن للعباد أن يصلوا إلى خالقهم إن لم يدلهم على الطريق الذي يُكسبهم قربه ورضوانه؟ فلو لم يفعل الله ذلك لما استطاع العباد أن يهتدوا إليه.إذا اخترنا هذا المعنى للآية فتكون كلمة (الإذن) بمعنى الإرادة..أي لو لم يُرد الله لك أن يهيئ الأسباب لهداية الإنسان لما استطاع الإنسان أن يهتدي.

Page 197

الجزء الثالث ۱۹۰ سورة يونس وأما قوله تعالى (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعْقِلُونَ) فمعناه: أن الذين لا يستخدمون عقولهم ولا يريدون العمل وفق مشيئتنا هذه لا نكرههم عليها، وإنما نرتب النتائج بحسب أعمالهم، وبما أنهم يميلون إلى السيئة فتكون عاقبة أعمالهم أيضا سيئة.أو أنه يعني بأن الذين لا ينتفعون بما وهبنا لهم من عقول فإنما هم الذين نَذَرُهم يسقطون في وحل السيئات والأرجاس، وأما غيرهم فلا.قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) شرح الكلمات : ١٠٢ تغني يقال: ما يغني عنك :هذا أي ما يُجدي عنك (الأقرب).النذر : جمع نذير وهو الذي يُنذر وينبه (الأقرب).التفسير: أي أن أسباب انتصار محمد رسول الله ﷺ تتهيأ في السماوات والأرض، فلا داعي للجبر والإكراه.والمراد من النظر إلى السماوات والأرض هو النظر إلى ما يقع فيهما من آيات و آثار دالة على صدقه ، ولذلك قال في آخر الآية: بأن الذي لا يريد أن يؤمن عنادًا واستكبارًا لا تنفعه الآيات ولا المعجزات أيضًا.فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي معَكُم مِّنَ الْمُنتظرين )

Page 198

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۱۹۱ سورة يونس أيام : أيام الله : نِعَمُهُ ونِقَمُه وعليه في القرآن (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ..أي ذكرهم بنعمه ونقمه.وفي الأساس للزمخشري معناه : ذكرهم بدمادمه على الكفرة.ويقال: هو عالم بأيام العرب: أي بوقائعها الأقرب).وبما أن الحديث هنا عن الكفار فنأخذ الأيام هنا بمعنى النقم، والمراد أنهم لا ينتظرون إلا أن يصيبهم الله بأنواع العذاب كما أصاب به الذين خلوا من قبلهم.لأنه التفسير : أي أن الذين لا يؤمنون عنادًا وتعنتا فسوف يحل بهم العذاب في آخر الأمر، فلا حاجة بهم الآن ليطالبوا به، قادم عليهم في موعده لا محالة.الغريب أن الكفار الذين يتمتعون بالسلطة وينهمكون في تعذيب المؤمنين يبدون قلقهم على تأخر العذاب بينما لا يريد هؤلاء المضطهدون أن يتعجل الله بالعذاب عليهم، ولذلك نجد الله تعالى يأمر رسوله أن يقول لهم: انظروا إلي أيضًا، فإنّي أنتظر نزول العذاب عليكم ولكن دونما قلق على تأخره، مع أنني عرضة لتعذيبكم، فلماذا أنتم قلقون على تأخر نزول العذاب عليكم وأنتم تنعمون بالراحة والسؤدد، واعتداءاتكم علينا لا تنقطع.هناك من جماعتنا من يقولون إن الناس لا يستمعون إلينا فمن ذا الذي نبشره بالدعوة الأحمدية؟ فأجيبهم أن يتذكروا قول الله تعالى هذا للنبي ، حيث يأمره أن يُعلن للقوم قائلاً: إنني لن أبرح اللحاق بكم وتبليغ الرسالة إليكم وإن لم تستمعوا لقولي ومهما أعرضتم عني.

Page 199

الجزء الثالث 1.2 ۱۹۲ سورة يونس ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ التفسير: كان الحديث هنا عن محمد رسول الله وحده، ولكنه يقول هنا نُنَجِّي رُسُلَنَا مستخدما صيغة الجمع رُسُلَنَا، وذلك للأسباب التالية: ١.كل نبي يكون في الحقيقة ممثلاً للأنبياء كافة، فكأن نجاته تكون بمثابة نجاة جميع الرسل، أما إن هلك وخسر -والعياذ بالله لاشتبه على الناس صدقهم جميعا.٢.فيه إشارة إلى بعث رسل في الأمة الإسلامية في المستقبل، وبأنهم سيكونون من أبناء الأمة نفسها وتابعين للرسول ، لأن الله تعالى قد استخدم في الجملة التالية كلمة الْمُؤْمِنِينَ) بدلاً من رُسُلَنَا) وقال: حَقًّا عَلَيْنَا تُنجِ الْمُؤْمِنِينَ، مبينًا أن هؤلاء المبعوثين سيكونون رسلاً من ناحية، ومؤمنين بالرسول ﷺ ومن أمته، من ناحية أخرى.قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفَّاكُمْ وَأُمَرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شرح الكلمات: 1.0

Page 200

الجزء الثالث ۱۹۳ سورة يونس يتوفاكم: من الوفاة وهي الموت.توفّى الله زيدا: قبض روحه.وتوفي فلان مجهولاً: روحه ومات، فالله المتوفّي والعبد المتوفّى.وأوفى فلانا حقه ووفاه ووافاه: قضت أعطاه إياه وافيًا تامًا.واستوفى حقه أخذه وافيًا (الأقرب والقاموس المحيط).التفسير: إن فعل التوفّي من باب التفعّل لا يعني إلا قبض الروح والموت إذا كان الفاعل هو الله سبحانه وتعالى والمفعول به أحدا من ذوي الأرواح.ولا يستطيع أحد تقديم أي نظير خلاف ذلك من التراث العربي كله، لا من قاموس ولا قول شاعرٍ ولا عبارة كاتب ولا كلمة خطيب.ولا يراد بالتوفّي إيفاء الحق أو استيفاؤه ولا توفيته إلا إذا كان هناك ذكر للحق.اعلم أن المؤمن لغةً هو من يأمَنُ منه الناس ويهيئ هو الأمن للآخرين.والمؤمنُ كذلك من يكون في مأمن، ذلك أنه يتوكل على الله كلية فيصير في مأمن من عقابه.لقد أمر الله هنا رسوله أن يقول للكفار كيف تدّعون أن الشكوك تساوركم حول ديني، مع أنني لا أزال على نفس الدين الذي كنت عليه من قبل، ولا أنفك كارها ومتبرئًا من الشرك كما كنت في الماضي.و لم أزدَدْ في ديني هذا إلا إيمانًا ويقينًا.أما قوله وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذي يَتَوَفَّاكُمْ فأشار به إلى أن الإله الذي أنا أومن به هو في صدد هلاككم وكسر شوكتكم ليتم بذلك الحجة عليكم.وأن أقمْ وَجْهَكَ للدِّين حَنِيفًا ولا تكونن من المشركين ) تَكُونَنَّ شرح الكلمات : ١٠٦ أقم: أقام الشيء: أدامه.(الأقرب) وجهك: الوجه: المحيا؛ نفس الشيء؛ سيد القوم؛ الجاه؛ الجهة؛ القصد والنية؛ المرضاة (الأقرب).يقال: أريد وجهك: أي رضاك.

Page 201

الجزء الثالث ١٩٤ سورة يونس حنيفًا: الحنيف: الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه؛ وكل من كان على دين إبراهيم؛ المستقيم (الأقرب) يبدو أن هذا المعنى الأخير جاء بتأثير من التفاسير القرآنية، وأن المعنى الثاني (أي المستقيم) هو المعنى الحقيقي للكلمة.التفسير قوله تعالى (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا يعني أن لا تعبــد الأصنـــام أو لا تتخذ مع الله ولدا ، إذ لا داعي لمثل هذا النصح لمن قد صار حنيفًا من قبل، وإنما المراد منه أن لا تتجه إلى ما سوى الله مطلقا، وإلا سوف تُعدّ بهذا الخطأ البسيط في الظاهر من المشركين.وكأنما الله قد أشار بذلك إلى الأصناف الدقيقة للشرك، محذرًا إيانا من الوقوع فيها.وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إذا من الظالمين (ال) ۱۰۷ التفسير: ليس المراد من الآية أن لا تدعُ الأشياء التي لا نفع فيها أو لا ضرر، بل الآية تؤكد على أن كل شيء ما خلا الله لا يملك في حد ذاته نفعا ولا ضرا، فلا تتوكل على ما سوى الله جل شأنه.و" و "الظالم" يعني هنا المشرك.وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي ﷺ سُئل مرةً عن الظلم فقال: الظلم يعني الشرك أيضًا (البخاري، التفسير، الأنعام).

Page 202

الجزء الثالث سورة يونس وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لفَضْله يُصِيبُ به مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ۱۰۸ التفسير: لقد صرّح الله هنا أن القرآن الكريم ليس بمسئول عما ينشأ في قلوب الكافرين من شبهات وشكوك، وإلا لوجب أن تتولد هذه الشكوك في قلبي أنا قبل أي شخص آخر، لأنني أنا الذي نزل عليه القرآن ولكني ثابت على صخرة من اليقين، وقد جعلني هذا القرآن محباً كاملاً الله تعالى، وزاد عقلي فراسةً وأفكاري استنارة، وأزال عن عيني كل غطاء لما سوى الله، وكأن كل ما دونه قد غاب عن أنظاري فيما يتعلق بنفعي وضري.إن تأثيره المذهل هذا يؤكد بطلان زعمكم، وأن كل ما عندكم من رجس الشكوك إنما هو ولا الشكوك إنما هو وليد أفكاركم المريضة.ثم أتبعه بقوله (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي لا جرم أن قلوبكم قد فسدت، غير أنني أؤكد لكم أنكم لو تضرعتم إلى الله طالبين غفرانه فسوف يطهر قلوبكم ويزيل عنها كل رجس وفساد، ويهب لكم اليقين كما وَهَبَه لي أنا.وكما بيّن في الآية فإن كلاً من الخير والشر نوعان؛ نوع لا يقع بقدر خاص من عند الله تعالى، وإنما يقع طبقًا لقدره العام المتمثل في النواميس الطبيعية التي وضعها في الكون، وهذا النوع من الخير أو الشر يمكن حصوله أو زواله وفق مساعي الإنسان.ولكن هناك نوعًا آخر ينزل بقدر إلهي خاص ولا دخل فيه للأسباب المادية والأعمال الإنسانية، وإنما تكون وراءه التدابير السماوية، ويتوقف حصوله أو زواله على المشيئة الإلهية فقط لا على التدابير البشرية.ولقد أشار الله و بتوجيه الخطاب هنا إلى الرسول ﷺ إلى أنه تعالى سوف يعامله وفق قدر خاص غير عادي، فلا يتم نجاحه ولا تظهر غلبته نتيجة تدابير البشر بل بتدابير سماوية لا يستطيع أحد الحيلولة دونها.وباستطاعة كل لبيب أن يدرك بالنظر في

Page 203

الجزء الثالث ١٩٦ سورة يونس حياة النبي أن كافة إنجازاته تمت بفضل من الله تعالى وبقدر خاص من لدنه جلّ وعلا، ولذلك نجد أن مكائد أعدائه قد فشلت أمام تدابير الله فشلاً ذريعا، رغم كونهم أشد من النبي مكرا وكيدًا في الظاهر.قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ۱۰۹ شرح الكلمات : وكيل: الوكيل: فعيل بمعنى مفعول لأنه موكول إليه، وقد يكون للجمع والأنثى؛ ويكون بمعنى فاعل إذا كان بمعنى الحافظ، ووصف به الله تعالى وقيل: الكافي الرازق (الأقرب).التفسير : أي أن هدايتكم أو ضلالكم لن يجلب علي أي نفع أو ضرر، لأنني لست مسئولاً عنكم ولو أننى كنت كذلك لكانت مسؤولية ضلالتكم علي دون شك والعاقبني الله ؛ إذ لم أخبركم على الهدى وأنتم تضلّون.إنما أنا رسول وما على الرسول إلا البلاغ.11.وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ

Page 204

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۱۹۷ سورة يونس اصبر صبرَ فلانًا عن الأمر : حَبَسه عنه.وصبرتُ نفسي على كذا: حبستها، يُقال: صبرت على ما أكره وصبرت عما أحب (الأقرب).قضاءه.التفسير: هنا في آخر السورة وجه الله الأنظار إلى نفس الموضوع الذي بينه في مستهلها، وقال: إن أمر الله مفعول لا محالة، وكما أنه حكيم فهو حاكم كذلك.فما عليك أيها الرسول إلا أن تستمر في تبليغ رسالة ربك، وأن تتحمل في سبيل ذلك أذاهم غير مكترث به إلى أن يُصدرَ الله فيهم أما قوله تعالى: (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ فإشارة إلى أن قضاءه جل شأنه سيكون خيرًا لك.وبالفعل فقد أنزل الله قضاءه الذي وقف حياله العالم مبهورا مبهوتا، حيث أصبح المتعطشون لدم النبي ﷺ عاشقين له، ولهين به، يفدونه بأرواحهم.لقد آمنت به مكة كلها فجأةً كما فَعَلَ قوم يونس ال، وتوافد عليه القوم أفواجًا، يدخلون في دينه وينضمون تحت لوائه.6

Page 205

الجزء الثالث ۱۹۸ سورة هود سورة هود مكية وهي مع البسملة مئة وأربع وعشرون آيةً وعشرة ركوعات سورة هود مكية كلها عند ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد.وهناك رواية عن ابن عباس أنها مكية ما عدا قول الله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَثْرٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ).وقد استثنى مقاتل ثلاث آيات أولاها: المذكورة أعلاه، والثانية: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمَن قَبْله كِتَابٌ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، نزلت في عبد بن سلام وأصحابه، والثالثة: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) نزلت في نبهان التمار.(البحر الله المحيط) ملخص محتواها تتناول سورة هود أحدًا من مواضيع سورة يونس بالشرح والتفصيل.لقد ذكر الله في سورة يونس أنه تعالى يعامل أمم الأنبياء بطرق ثلاث؛ إما أن يدمرهم نهائيا؛ أو يغفر لهم تماما؛ أو يُهلك جزءاً منهم كلية ويُنجى جزءاً آخر نجاةً وسورتنا هذه بيان مفصل للسنة الإلهية الأولى حيث توضح كيف أنه جل شأنه دمر بعض الشعوب كليةً ومحا كل أثر لهم، واستعاض عنهم بقوم آخرين لم يكونوا واستمرارًا للأمم السابقة الهالكة وإنما بدأ بهم دورًا جديدًا في تاريخ الإنسانية.كما تبيّن سورة هود أن من صفات الله أنه لا يزال يراقب دائما أهل السيئة تامة، خلفا

Page 206

الجزء الثالث ۱۹۹ سورة هود ويعاملهم بمقتضاها.كما تذكر أنه عزّ وجل لا يزال يهيئ الأسباب لهداية الخلق وفق الحاجة، فإذا لم ينتفع بها الإنسان هلك هلاكًا روحانيًا كما لو أنه كف عن تناول الغذاء المادي مات مونا ماديًا.ثم يُبين الله تعالى أن الناس لا ينقرضون بمجرد موت جيل منهم، وإنما يقوم مقامهم : جيل آخر، كذلك هي حال الأمم، فإذا هلكت أمة جاء الله بأمة أخرى عوضا عنها.وتخبرنا السورة أيضًا أنه من الممكن أن تحقق أمة من الأمم رقيا ماديًا دون أن تنشئ صلة بالله تعالى، ولكن لا يبقى من الأمم إلا التي تحافظ على إيمانها إلى جانب الرقي المادي..أي أن الأمة التي تحافظ على علاقتها بالله هي التي يُكتب لها الخلود.كما ذكر الله عزّ وجل في هذه السورة سبب انتصار المؤمن على الكافر عند المواجهة.وشرح هذا الموضوع بضرب أمثلة بعض الشعوب القوية التي تعرضت لعباد الله الصالحين بالسوء فهلكت وبادت فسرد سبحانه وتعالى في هذا الصدد أحداث قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام.ولقد تطرق فيها إلى ذكر إبراهيم أيضًا ولكنه حديث ضمني جاء في سياق الحديث عن لوط ال وقومه.ثم ذكر سبحانه وتعالى أخيرًا ما جرى بين موسى أحداث، العليا وفرعون من ولكنه لم يتحدث هنا عن موسى لكونه منتميا إلى بني إسرائيل، وإنما لبيان ما فعل فرعون وقومه بموسى مما تسبب في هلاكهم.ثم نصح المؤمنين بأن يتذكروا دائمًا أنه إذا أراد الله عذاب قوم فيجب على المؤمنين اجتنابهم كلية، لأن اختلاط المؤمنين بهؤلاء الكفار يعرضهم للعذاب.طمأن الله تعالى النبي قائلاً: إننا نقص عليك أحداث رسلنا هؤلاء كيلا تحزن على هلاك قومك، فقد كانت هذه عاقبة كثير من أعداء أنبيائنا.إلا أن الله تعالى قد أدخل السكينة على قلب النبي حين لفت نظره إلى ما سيحققه المسلمون من رُقي وإنجازات كبرى.

Page 207

الجزء الثالث سورة هود لقد ساق الله تعالى في هذه السورة من أخبار العذاب وهلاك الأمم، والمسئوليات الجسام على النبي ، ما جعله يصرح قائلا: "شيبتنى "هود الترمذي، التفسير، سورة الواقعة)..أي أن فحوى هذه السورة قد أثر في نفسي تأثيرًا هدّ كياني وأشف بدني.بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) الر كِتَابٌ أَحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ من لدن حكيم خيم ) لَّدُنْ شرح الكلمات : أحكمت أحكمته التجارب جعلته حكيمًا.أحكم السفيه: أخذ على يده، أو : بَصَّرَه بما هو عليه أحكم الشيء: أتقنه، وأحكم فلانًا عن الأمر: ردّه ومنعه.أحكم الفرس: جعل للجامه حكمة.(الأقرب).فصلت: فصل الشيء: جعله فصولاً متمايزة.فصل الثوب: قطعه بقصد خياطته.فصل الكلامَ: بينه وضدُّ أَجَمَلَه.فصل العقدَ: جعل بين كل خرزتين من لون واحد خرزةً أو مرجانةً أو شذرةً أو جوهرةً مخالفةً لهما.(الأقرب) خبير : الخبير: العارف بالخبر.والخبرُ : ما يُنقل ويُتحدث به (الأقرب).(وَاللهُ خَبِيرٌ بمَا تَعْمَلُونَ) أي: عالم بأخبار أعمالكم ؛ وقيل : عالم ببواطن أموركم؛ وقيل: خبير بمعنى مخبر.(المفردات) التفسير: يعلن الله جل شأنه في قوله كتَابٌ أَحْكمَتْ آيَاتُهُ أن آيات هذا الكتاب زاخرة بالحكم وإن كل ما ورد فيه يكفّ الإنسان عن الشر ويأخذه إلى الخير، ويبصره بما في نفسه من مساوئ خفيّة، وهكذا يوقفه على حقيقة أمره.وإنه

Page 208

الجزء الثالث ۲۰۱ سورة هود كلام لا نقصان فيه ولا فضول وفيه كل تعليم نافع وضروري لما يحتاج إليه الناس دون حشو أو نقص.كما أننا ذكرنا فيه كل ما لا بد منه من تفصيل للأحكام دون الإغماض عن ذكر الفروع الضرورية بقدر الحاجة.وقوله تعالى (فصلت) إشارة في الواقع إلى ما يوجد في القرآن الكريم من تعاليم متشابهة جاء ذكرها في موضع آخر هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ محْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ آل عمران (۸).فقد ذكر مُتَشَابِهَاتٌ إزاء مُحْكَمَاتٌ ( في سورة آل عمران، أما في آيتنا هذه فقد وضع كلمة (فصلت) مقابل أحْكمَتْ)، ليبيّن أن المفصلة هنا بمعنى المتشابهات.ومن هنا يتجلى لنا معنى المتشابهات أيضًا، إذ المراد منها الأحكام التفصيلية المتعلقة بالفروع، وهي التي يتجاسر العدو على الطعن فيها، أما التعاليم المحكمة أي الأحكام الرئيسية الجوهرية فلا يقوى أحد على التعرض لها بالطعن.مع العلم أن السبيل لمعرفة الحق إنما هو قياس الأحكام الفرعية على الأحكام الرئيسية، فإذا توافقت وتطابقت فلا وجه للاعتراض.فهناك مثلاً من يعترض على الإسلام بسبب بعض تعاليمه الفرعية كالحدود (تفسير ويري جـــ ١ ص ٢١٦)، ولكنهم لو قاسوها بالتعليم الأساسي القائل: اعفوا إذا كان العفو نافعًا، وعاقبوا إذا كان العقاب رادعا، لما وجدوا سبيلا للاعتراض، إذ سيجدون الإسلام يأمر بالعقاب حيث يُجدي وبالعفو حيث يُفيد.ومثال آخر نضربه لتوضيح الأمر فنقول: إن الله يأذن بالقتال والحرب في بعض الحالات، وهذا ليس بالأمر المحبّذ فيما يبدو، ولكنا إذا أدركنا أنه لا يكون في بعض الأحيان بد من الحرب لتوطيد العدل والأمن لم يبق محال للاعتراض على ذلك شأنه تعالى في ذلك شأن الطبيب الذي يقتلع للمريض سنا.فإن عملاً قاسيًا خاليًا من الرحمة والشفقة، ولكنا لو نظرنا إلى عملية قلع الأسنان تبدو حقيقة الأمر لوجدنا هذا العمل الرحمة بعينها.أما قوله عزّ وجل من لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير ففيه إشارة إلى أن مصدر هذا الكتاب

Page 209

الجزء الثالث ۲۰۲ سورة هود هو مصدر سام للغاية، ولذلك فإنه يمكن الاطمئنان إليه وقبوله بكل تفاصيله وفروعه، لأن الحكيم لا يفعل إلا ما يتلاءم مع مقتضى الحال.وقد بين القرآن بوصف الله تعالى "بالحكيم" أن الذي أنزله لا يريد به عزا ولا شهرة وإنما يريد به خير الناس ونفعهم، لذلك لم يتزل فيه تعليمًا ظاهره خير وباطنه ،شر، بل قدّم فيه كل ما هو خير لهم في الواقع ولو عافه البعض وابتعدوا عنه.أما مثال التعليم الذي ظاهره خير وباطنه شر فهو ما ورد في الإنجيل حين يقول: إذا لطمك أحد على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضًا (لوقا ٢٩:٦)، ومثال التعليم الذي ظاهره يبدو شرا ولكن باطنه خير في الحقيقة هو ما يأمر به القرآن الكريم حين يفرض على الإنسان أن يقاوم بشدة وقوة كل الذين يتدخلون في دين الآخرين عن طريق الظلم والإكراه.فمن كان يريد كسب الصيت والشعبية لدى الناس سوف يدعوهم إلى التعليم الأول، ولكن الذي يريد خير الإنسانية ومصلحتها في الواقع فلن يكترث برضا الناس أو سخطهم، وإنما سيقدم لهم ما ينفعهم في الحقيقة.إن هذه السورة تشتمل على كثير من أخبار العذاب لذلك استهلها الله عزّ وجل بذكر صفته "الحكيم" ليوضح للناس أن معاقبة الأمم السالفة كانت لحكمة بالغة فيها صلاحهم، وليس عن ظلم وتعسف وقهر.كما بين بذكر صفته (الخبير) أنه سبحانه وتعالى عليم بحقيقة الأشياء ومطلع على بواطن الأمور، ولا يمكن لمثل هذا الخبير أن يلزم الصمت على فساد في باطن الإنسان أو يتردد في معاقبته على سوء أعماله.أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ) التفسير: إن الأمر الإلهي بالعبادة يبدو في ظاهره دليلاً على طمع وأنانية منه

Page 210

الجزء الثالث ۲۰۳ سورة هود والعياذ بالله - أو كأنه تعالى بحاجة إلى عبادة ،الإنسان ولكنا إذا تدبرنا القرآن الكريم وجدنا الواقع على عكس ذلك، لأنه يصرح بكل وضوح وجلاء أن ليس الله حاجة في عبادة أو عمل ما من أي مخلوق كان، حيث يعلن سبحانه ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لنَفْسه إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَن الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: ٧)، وكذلك قال لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَل اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإيمان) (الحجرات: ١٨)..أي أن إسلام أحد من الناس ليس بمنة على الله أو رسوله، وإنما هو إحسان وفضل من الله على العبد إذ هداه إلى طريق الرقي والفلاح.إذن فالعبادة تنفع العابد، ذلك أن العبادة لا تعني أبدًا تلك الحركات الجسدية الظاهرة فقط، وإنما هي اسم لكل الجهود الظاهرة والباطنة التي تجعل من الإنسان مظهرًا لصفات الله عزّ وجل.لأن كلمة العبد تعني في الواقع من ينطبع بطابع سيّده وينقاد بمشيئته انقيادا تاما.والظاهر أن الذي ينقاد تماما لمرضاة الله سبحانه وتعالى سوف تنعكس فيه صفات الله الحسنى فيُحرز مدارج عالية من الرقي.وهكذا فإن العبد هو المنتفع وليس الله جل وعلا.وأما ما ورد في التوراة بأن الله تعالى خلق آدم على صورته (التكوين:١)، فهو أيضًا إشارة إلى أنه تعالى قد خلق الإنسان ليسعى للاتصاف بالصفات الإلهية، وإلا فإن الله عز وجل أسمى وأعلى من أي صورة أو تشكل.فالحث على العبادة إنما يعني أن يكون الإنسان دائم النظر إلى الله تعالى، لأن أحدًا إنما يستطيع رسم صورة الشيء رسماً كاملاً إذا كانت ملامحه واضحة في ذهنه.والعبادة اسم لوضع الصفات الإلهية نصب العين ونقشها في الذهن.يعني تخويفا من وهناك حديث شريف يشير إلى هذا المعنى إذ جاء فيه أن شخصا سأل النبي : ما الإحسان (أي العبادة الكاملة)؟ فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه" (البخاري، الإيمان).وأما قوله تعالى (إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فاعلم أن الإنذار لا الله تعالى كتخويف الناس بالأفاعي والأسود، وإنما المراد منه: التحذير والتنبيه.فلا تعني الجملة بأنني أخوفكم من الله تعالى، بل المعنى أنني أنبهكم إليه وأذكركم به كيلا

Page 211

الجزء الثالث ٢٠٤ سورة هود تغفلوا عما ينفعكم وتختاروا ما يضركم.كما أن كلمة (بشير) تعني أنني لم آت لتحذير كم فقط، بل جئتكم بما سيحقق لكم الرقي أيضا.وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم كبير ) شرح الكلمات : يمتعكم: المتاع: كلُّ ما يُنتفع به من الحوائج كالطعام والبز وأثاث البيت والأدوات والسلع.وقال في الكليات: المتاعُ والمتعة : ما يُنتفع به انتفاعاً قليلاً غير باق بل ينقضي عن قريب.وأصلُ المتاع ما يُتبلغ : به من الزاد.ويأتي المتاع اسما بمعنى التمتيع.(الأقرب) التفسير: لقد وجه الله تعالى في الآية السالفة الأنظار إلى غاية خلق الإنسان، ولكن الإنسان يواجه أحيانًا شتى العقبات في طريقه إلى غايته لذلك أخبر الله العباد هنا أنكم إذا نويتم الاتصاف بصفاتي والحصول على قربي ووجدتم العراقيل دون غايتكم هذه، فالسبيل لإزالتها أن تسألوا ربكم الغفران..أي عليكم بأن تستعينوا به على تطهير قلوبكم مما علاها من صدأ الذنوب وتتضرعوا إليه أن يخلصكم من دَرَن المعاصي التي تحول دون توصلكم إلى ربكم الأعلى.والغفران يعني أيضا تغطية الشيء ومحوه، فيكون معنى الاستغفار أن ادعوا الله تعالى كي يمكنكم من كبح الشهوات التي تقف عقبةً دون وصولكم إلى الله جل شأنه.ثم قال (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ..أي بعد كبح تلك الشهوات توجهوا إلى الله تعالى ليتولد

Page 212

الجزء الثالث ۲۰۵ سورة هود حبه في قلوبكم، فيسهل عليكم الوصول إليه.ويتبين من ذلك أنه بعد كبح الشهوات وإخماد العواطف الشريرة المثيرة لسخط الله تعالى يمكن للإنسان التوصل إلى الله، أما بدون القضاء عليها ومحو تأثيرها السابق فيستحيل أن تتولّد في القلب محبة الله تعالى بشكل كامل.كما يتضح من ذلك أن التوبة تأتي بعد الاستغفار.هناك بعض الحمقى الذين يزعمون أن التوبة التي يدعو إليها الإسلام تشجّع الإنسان على المعاصي.والحق أنهم يجهلون حقيقة التوبة الإسلامية.ذلك أن العبد الذي لا يزال يحاول محو آثار ذنوبه الماضية، مكافحا رغباته الشريرة، ساعيًا إتباع أوامر الله تعالى..كيف يمكن أن يقال عنه بأن توبته ثرثرة وفضول كلام لا يتعدى اللسان، ومدعاة لارتكاب المزيد من المعاصي.فالحق أن زعمهم هذا يدلّ على غبائهم وحماقتهم هم.إن التوبة الحقيقية لا تكون باللسان فقط، لأنها تعني في الواقع اجتناب المرء الذنوب وميله إلى الله تعالى بكل رغباته واهتماماته.فإذا لم تكسبه هذه التوبة رضوان الله وقربه، فلا أدري ما هو الشيء الآخر الذي يمكنه من ذلك؟ أما قوله تعالى (يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) فأخبر فيه أنكم إذا أطعتم نبيكم فسوف تحققون المكاسب المادية أيضًا.ذلك أن المتاع يعني المنفعة المؤقتة، وليست هي إلا المنافع الدنيوية المادية.والمراد من أَجَلٍ مُّسَمًّى هو الفترة الزمنية التي يحددها الله تعالى لقيام وازدهار أمة ذلك النبي المرسل.وأما قوله تعالى (وَيُؤْتِ كُلِّ ذِي فَضْلِ فَضْلَهُ فالمراد منه البركات الروحانية، سواء نالها الناس في هذا العالم أو في الآخرة.وقوله تعالى (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبير).اعلم أن الشيء يُعتبر كبيرًا بالنظر إلى ضخامته وأيضًا إلى تأثيره، فالمراد من الجملة أنكم إذا رفضتم هذا التعليم فسوف تواجهون عذابًا طويلاً مؤلماً للغاية بحيث يتعذر عليكم احتماله.

Page 213

الجزء الثالث ٢٠٦ سورة هود إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التفسير: أي سوف تؤخذون إلى الله تعالى في آخر المطاف، فلماذا لا تقومون بأعمال تنفعكم عند المثول أمامه جلّ وعلا واعلموا أنه قادر تماما على كل شيء..أي على الإنعام عليكم أو عقابكم، فاسعوا للظفر بإنعامه وفضله.أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) شرح الكلمات: ٦ يَثنون: ثَنَى الشيء ثَنْيَا: عَطَفَه (الأقرب).والإنسان يثني فم القربة أو الكيس كيلا يسقط منه ما فيه، فمعنى الجملة : أنهم يسعون لإخفاء ما في قلوبهم من أفكار.يستغشون: استغشى ثوبه وبثوبه استغشاء: تغطّى به كيلا يسمع ويُرى (الأقرب).التفسير : لقد ذكر الله هنا عيبين للكفار يحرمانهم من الهدى.الأول: إنهم يخفون ما يتولد في قلوبهم من أفكار مريضة ولا يكشفونها لأهل الحق، وهكذا لا يمكن شفاؤهم منها، مع أنه يجب على الإنسان الذي يبحث عن الحق والهدى أن يصرّح للآخرين بما يصده عن قبول الحق، لأنه ما لم يتم إزالة العقبة الحقيقية لا يمكن له نيل الهدى.وقد لوحظ هذا المرض في كثير من الناس فإنهم لا يذكرون أثناء الحديث عن قضية ما العقبة الحقيقية التي تقف أمامهم وإنما يناقشون الأمور الهامشية، وهكذا ينتهي الحوار وهم على ما كانوا عليه من الشك والريبة.

Page 214

الجزء الثالث ۲۰۷ سورة هود والمرض الثاني هو أنهم يحاولون أن لا يغيروا ما في قلوبهم، ودأبهم في ذلك أنهم لا يريدون الحوار وسماع موقف الخصم إطلاقا.وكيف يمكن أن يهتدي للحق من ليس مستعدًا لسماع ما يقوله الآخرون.وهذا المرض أشد فتكا من الأول، وهو عام وشائع.فلكي يبقوا على ما هم عليه يحاولون جاهدين - عند رؤية تأثير الحق والصدق - أن ينأوا بأنفسهم عن الاستماع لأهل الحق كما ينهون غيرهم عن الإصغاء إليهم قائلين: إن هؤلاء سحرة مشعوذون فلا تسمعوا الحديثهم.والله تعالى يُنبههم هنا أنهم يتعاملون مع الذي هو عالم الغيب، فهل سيجديهم قولهم بأنهم لم يقبلوا الحق ولم يعرفوه لأنه لم ينكشف عليهم، ولم يروا حجة ولا برهانا.إن الذين يفرون خلسة كي لا تقام عليهم الحجة، قد أقاموها هم على أنفسهم فعلاً.فلا يحق لهم بعد الادعاء بعدم العلم أو عدم الاطمئنان إلى الحقيقة.اللهم إلا من سعى منهم جاهدًا لفهم الحقيقة ومعرفة الحق، ولكنه لم يستطع ذلك، أو الذي لم يبلغه الحق رغم بحثه الأكيد عنه بخلوص النية وصفاء القلب.وقد تعني الجملة أن الله العليم مطلع على مكائدهم الظاهرة والخفية ضد دينه الحنيف.خير حال وفي والمراد من ذات الصُّدُور هو الأفكار والنوايا، وذلك أن صدر الشيء يعني أفضله، وأفضل ما في الإنسان أفكاره ونواياه لأنها منبع جميع أعماله وإنجازاته.فتعني جملة إِنَّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصُّدُورِ أنه عزّ وجل مطلع على خفايا قلوبهم، وأنه لم يبعث رسوله إليهم إلا بسبب فساد نياتهم، فلا حقيقة إذن لدعواهم بأنهم على غنى عن أي مصلح سماوي.إن علاقة هذه الآية بما قبلها هي أن الآيات السابقة لها تعلم الإنسان طريق الترقيات الروحانية وتتحدث عن العقبات التي تعوق تقدمه رغم أنفه، وتدلّه كيف يستطيع تذليلها.أما هذه الآية فتتحدث عن العوائق التي يخلقها الإنسان بنفسه، والتي تتوقف إزالتها على إرادته وجهوده هو.

Page 215

الجزء الثالث ۲۰۸ سورة هود ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (1) شرح الكلمات : V دابة: الدابة: ما دب من الحيوان، وغلب على ما يُركب ويُحمل، ويقع على المذكر، والهاء فيها للوحدة أي) للواحد كما في الحمامة.(الأقرب).مستقرها : المستقر : موضع الاستقرار والشمس تجري لمستقر لها: أي لمكان لا تجاوزه وقتًا ومحلاً (أي زمانًا ومكانًا) (الأقرب).مستودعها : استودعه مالاً: استحفظه إياه.والمستودع: مكان الوديعة والحفظ؛ مكان الولد من البطن (الأقرب).التفسير: تعني الآية أن الله تعالى وحده الذي يهيئ الرزق لكل مخلوق، سواء كان من الآدميين أو من حشرات الأرض أو وحوش الغاب، وكل ما على المخلوق هو أن ينتفع بهذا الرزق.إن العقل الإنساني يقف مذهولاً حيال كيفية حصول كل هذه الحشرات التي - لا تعد ولا تحصى - على رزقها الميسر.إن الإنسان لا يعرف حتى الآن نوعية غذاء بعض الديدان.إن ما يزرعه الإنسان لنفسه يجعل الله فيه نصيبا للحيوانات أيضا، فإذا أصبحت حبات القمح غذاءً له فإن التبن يكون علفًا للمواشي.لو نبتت حبات القمح دون السيقان والأوراق التي تصير تبنًا للماشية فلربما ما اعتنى الإنسان بغذاء هذه الحيوانات المسكينة كما ينبغي.ثم إن الله تعالى قد جعل بعض الأطعمة ضارة لبعض المخلوقات ونافعة لغيرها.فمثلاً تصلح الأعشاب والأشجار ذات الأشواك طعاما للإبل، وتصير النجاسة غذاءً للغنم.ثم إنه جل شأنه قد هيّأ للديدان المتولدة في جسم الإنسان غذاءها حيث هي.وبالاختصار، قد جعل الله تعالى لكل مخلوق غذاء مختلفا.حتى إن أغذية

Page 216

الجزء الثالث ۲۰۹ سورة هود الحيوانات المفترسة تختلف من حيوان لآخر.فكل هذه الحيوانات التي تبلغ عشرات الملايين تعيش على أغذية متنوعة جدا.وهذا الإنسان الذي يدعي اكتشاف أسرار الطبيعة لا يستطيع الإحاطة حتى بأنواع هذه المخلوقات، ناهيك عن معرفة نوعية أغذيتها التي هيّأها الله لها.وأشار الله بقوله تعالى كُلِّ في كتاب مُّبِين إلى أن المخلوقات لم توجد بنفسها عبنا، بل إن الله تعالى هو الذي خلقها وقد حدد لكل فرد منها مدى وجعل له غاية محددة.وتبين الآية أنه لما كان الله تعالى هو الذي يهيئ الرزق لكل مخلوق، من صنوف - له الحيوانات التي لا حصر لها، ويلبي كل حاجة لها مهما ضَؤُلَت – فكيف يمكن إذن أن يُغفل الله سبحانه هذا الكائن الذي هو أشرف المخلوقات وأرقاها، فلا يهيئ الرزق الروحاني الذي هو سبب فضيلته في الواقع..أي كيف يمكن أن يتغاضى سبحانه عن إنزال تعليم سماوي لهذا المخلوق الراقي لتنمية ملكاته الروحانية وقواه الأخلاقية.إن العقل السليم لا يقبل أبدًا أن يكون الله هو الذي يسد حاجات هذا الكائن منذ أن كان مضغةً من الدم في الرحم، ثم يتخلى عنه عندما يستوي إنسانًا ويكون بحاجة إلى ما ينمي به ملكاته الروحانية والأخلاقية.فلا بد إذن أن يكون الله قد هيأ أسبابًا لتربيته الروحانية، وترك له الخيار كي ينتفع بها على الوجه الذي يتراءى له.ولقد قال الله تعالى من قبل (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، والمستقر مكان استقرار الشيء وإقامته إقامة دائمة والمستودع مكان إقامته إقامة مؤقتة.لقد أضاف هذه الكلمة هنا لأنه لا يقدر على إمداد المحتاجين بالغذاء إلا الذي يعرف مكان إقامتهم، كما أنه لا الغذاء المناسب النافع إلا من كان عالما بمدى قدرات أولئك يهيئ المحتاجين.أما الذي لا علم له بمنازل المخلوق وقدراته فيمكن أن يخطئ في كيفية تزويده بالغذاء.ومن أجل ذلك نجد أن ما اخترعه الإنسان من عند نفسه من مبادئ

Page 217

الجزء الثالث ۲۱۰ سورة هود وتعاليم فإنه لم يراع فيها الاتزان، بل راعى فيها مستودعه فقط أو مستقره فحسب.فإما أنهم بالغوا في التركيز على الجانب الروحاني وحده، غاضين النظر تماما عن حاجات الإنسان الجسمانية، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى حرمانه من الرقي الروحاني أيضا، لأن فساد الإناء يسري إلى الغذاء الذي فيه؛ أو أنهم بالغوا في التركيز على الجانب الجسماني فقط، مهملين الحاجات الروحانية تماما، مع أن الإنسان إنما يفضل على غيره من المخلوقات بروحانيته وآدميته لا غير.وهكذا فكأن هؤلاء المقترحين يُفسدون غاية الخلق الإنساني.فالحق أن عقل الإنسان وحده لا يقدر على إدراك الغذاء المناسب له الذي يُراعى فيه الجانبان الروحاني والجسماني معًا، لأنه لا علم له بحالات ما بعد الموت في قبره وبعد بعثه في الآخرة، في حين هو بحاجة إلى الغذاء الروحاني في ذلك العالم.إذا فلا يستطيع هو أن يقترح بعقله الذاتي ما ينفعه في الآخرة من عقائد وأعمال.وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ (*) شرح الكلمات : : الماء: جسم رقيق مائع يُشرب، به حياة كل نام (الأقرب).سَحَرة: السحر كلُّ ما لَطُفَ مأَحَدُه ودَقَ؛ وقيل : إخراج الباطل في صورة الحق؛ وإطلاقه على ما يفعله من الحيل حقيقة لغوية (أي مجاز).سَحَرَه: عمل له السحر وخدعه (الأقرب).

Page 218

الجزء الثالث ۲۱۱ سورة هود التفسير : يقول الله تعالى : انظروا كيف أن الله هيأ بالتدريج أسبابًا لخلقكم وظروفًا لرقيكم، حيث لم يزل يطوّر الحياة إلى أن خلق الإنسان ألا تدركون من ذلك أنه جعله غاية خلق الكون كله؟ ثم فكروا لماذا جعله غاية الخلق؟ لا شك أن سبب ذلك هو ما أُودع هذا الإنسان من ملكات روحانية.فكيف يمكن أن يهمل الله ملكاته الروحانية هذه، ولا يهيئ لتنميتها وتطويرها ظروفا ملائمة؟ أما قوله تعالى (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء، فاعلم أن القرآن الكريم قد صرّح في عدة أماكن فيه أن الماء منبع الحياة كقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقكُم مِّن مَّاء مهين (المرسلات (۲۱)، وقوله فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلق من ماء دافق (الطارق: = ٦و٧) ، وقوله ( وَهُوَ الَّذي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصَهْرًا﴾ (الفرقان: ٥٥)، وقوله أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: ۳۱).وهكذا يؤكد القرآن مرارا وتكرارًا أن الحياة خُلقت من الماء.فالمراد من قوله تعالى ( وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أن صفات الله الكاملة إنما ظهرت من خلال كائنات ذات حياة.وأي شك في أن الصفات الإلهية إنما تظهر ظهورا كاملاً عن طريق الإنسان الذي هو آخر وأفضل حلقة في سلسلة الحياة.وإن قوله تعالى ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً أيضًا يؤكد المعنى الذي ذكرته آنفًا.ذلك أن العرش لو كان موضوعًا على الماء المادي في الحقيقة - كما يزعم البعض فكيف يتم به اختبار الأعمال الإنسانية؟ ولكن ما ذكرته من معنى لا يُبقي أي إشكال وينحسم المعنى في الجملتين تماماً، إذ إن المراد الحقيقى منهما أن الله عز وجل قد قدر ظهور صفاته الكاملة من خلال المخلوقات الحية، لكي يرى سبحانه أي الناس سينتفع بهذه الصفات ويسبق غيره في مضمار الرقي الروحاني.كما أن قوله تعالى ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يشير إلى أن غاية خلق الإنسان ليكون مظهرًا للصفات الإلهية، لأنه تعالى جاء بهذه الجملة بعد قوله (وكان يسعى أن

Page 219

الجزء الثالث ۲۱۲ سورة هود عرشه على الماء ليبين أننا إنما نتجلى بهذه الصفات لكي تقوموا بأحسن ما يمكن من الأعمال، مما يؤكد أنه تعالى إنما يتجلى بها لكي يسعى الإنسان إلى تقليدها والاتصاف بها.كما أن قوله تعالى (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء يعني أيضا أنه ما دامت قدرته تعالى لم تزل تتحكم في كل حلقة من سلسلة خلق الإنسان فكيف يمكن أن يخرج هذا الإنسان عن دائرة قدرة الله تعالى وحكمه.وهناك معنى ثالث لقوله تعالى ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء وهو: أن الله قد جعل ظهور صفاته منوط وطا بوحيه وكلامه.ذلك أن القرآن قد شبّه الوحي الإلهي بالماء في مواضع عديدة منه، ولذلك فقد يراد بالماء هنا الوحي، والمعنى: أننا قدرنا ظهور صفاتنا من خلال الوحي لكي تهتموا بالعمل وتنتفعوا بهذه الصفات.والحق أنه تعالى لو لم يجعل الرقي الروحاني مشفوعا بالنعم المادية لحرم الكثيرون من هذا الرقي الروحاني، ولكنه تعالى قد أعلن سنته هذه بقوله (كَتَبَ اللهُ لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) (المجادلة: ٢٢).فالذين يتشرفون بنعمة الوحي الإلهي يحققون هم وأتباعهم غلبةً مادية أيضا، لكي ترى الدنيا كيف يعمل هؤلاء بوحي الله بعد نيل القوة والحكم.إن الآية تشير أيضا إلى النظرية الإسلامية عن الارتقاء والتطور البشري حيث يعلن سبحانه قائلاً إننا جعلنا عرشنا على الماء أي على عملية الحياة لكي يتم بين الكائنات الحية سباق يُظهر فيه كلُّ كائن حي ملكاته ،وقدراته حتى يتضح في آخر المطاف أيّ هذه الكائنات الحية جدير بأن يصبح غاية للحياة.بمعنى أن الهدف الأخير من عملية خلق الحياة إنما كان ينحصر في أن يخلق الله تعالى كائنا قادرا على التجلي بالحياة على أكمل الوجوه.وهذا يبيّن جليا أن الإنسان لم يُخلق إلا في آخر مرحلة من مراحل شتى مرت بها عملية الخلق وتطورت.وهذا يعني أن الإسلام لا يعترف بكون الإنسان مخلوقا قد تطور من القرد أو أي حيوان آخر، غير أنه يعترف بكل تأكيد بأن الحياة لم تزل في تطور تدريجي إلى أن خُلق الإنسان، وإن كان الله قد دبّر من تطوير بذرة خلقه منذ البداية بحيث لا يخرج منها في آخر المطاف إلا الإنسان.

Page 220

الجزء الثالث ۲۱۳ سورة هود وأما قوله تعالى (وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ فَبَيِّن فيه أن خلق الإنسان بهذا الأسلوب نفسه يشكّل دليلاً على أنه لا بد من حياة بعد الموت، لأن خلق هذا الكون الشاسع الواسع كي يعيش فيه هذا الكائن البشري ذو الإرادة يُوضح بكل جلاء أن حياته لا تخلو من غاية أسمى.ولكنا نجد - من جهة أخرى – أن حياته في هذا العالم حياة اختبار وابتلاء، ومكان الاختبار يكون دائمًا مكان إقامة مؤقتة غير ثابتة مثل قاعة الامتحانات، فهي ليست بمكان يمكث فيه الطالب على الدوام، بل يبقى فيه إلى حين انتهاء الامتحان.ثم إننا نجد أن دار الابتلاء يغلب عليها عنصر الغموض والخفاء، وأما دار الجزاء فيغلب عليها عنصر الوضوح والجلاء.وهكذا نجد هذه الحياة الدنيا إذ يغلب عليها عامل الخفاء والغموض إلى أن حدا ذلك بالبعض إلى إنكار وجود البارئ سبحانه وتعالى.وإذن فلا بد من أن يؤخذ الإنسان من دار الخفاء والابتلاء هذه إلى دار الجلاء والجزاء.وهذا ما يقول الله تعالى هنا لرسوله الكريم، بأنك إذا قلت لهم: ألم تروا أنّ الله ظلّ يُطوّر الكون والحياة شيئًا فشيئًا إلى أن خلق الإنسان وجعله الغاية من خلق هذا العالم كله، أجابوك بنعم كما يفعل اليوم الملحدون الذين يعتقدون بنظرية التطور والارتقاء - ولكنك حينما تقدم لهم النتيجة المنطقية الحتمية وتقول إذن فلا ينبغي أن تنتهي دورة الحياة هنا فقط، بل لا بد من حياة بعد الموت، تراهم يكذبونك ويعرضون عنك! - وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لِّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

Page 221

الجزء الثالث شرح الكلمات: ٢١٤ سورة هود أمّة: الأمة: الجماعة؛ الجيل من كل حي؛ الطريقة؛ الدين؛ الحينُ (الأقرب).حاق: حاق به يحيق حيقًا وحيوقًا وحيقانًا أحاط به.حاق بهم الأمر: لزمهم ووجب عليهم.حاق بهم العذاب: نزل وأحاط (الأقرب).: التفسير يقول الله تعالى كما أن الناس مخدوعون عن الحياة بعد الموت كذلك هم مغترون فيما يتعلق بعذاب الدنيا؛ فإذا تأخر عنهم العذاب طفقوا يثيرون شتى الاعتراضات، مع أنهم لو أعملوا الفكر لأدركوا بكل سهولة أن الدنيا ما دامت دار ابتلاء واختبار فلا بد أن يمنحهم الله بعض المهلة قبل أن يسحقهم بعذابه، إذ لولا المهلة والتأخير لم تعد الدنيا دار اختبار بل صارت دار جزاء.الغريب أن أهل الدنيا ينكرون وجود الدار الآخرة من جهة، ومن جهة أخرى يطالبون بالعذاب الحاسم على عداوتهم للرسل، وهكذا يعترفون - من حيث لا يدرون – بضرورة دار الجزاء.وقد أشار بقوله وَحَاقَ بهم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ إلى أنهم ليسوا جادين في مطالبة العذاب، وإنما هدفهم الاستهزاء والاستخفاف ولكن استخفافهم هذا يرتد عليهم وبالا إذ يتسبب في تعجيل العذاب.وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَتُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إله لفرِح فَحُورٌ )

Page 222

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۲۱۵ سورة هود يئوس: اليئوس كصبور: القنط (الأقرب).كفور : اسم المبالغة من كفر يكفر نعمة الله وبنعمة الله كفورًا وكفرانا: جحدها وسترها، وهو ضد الشكر (الأقرب).نَعْماء: النعماء: اليد البيضاء الصالحة (الأقرب).ضراء: الضراء: الزمانةُ (أي القحط؛ الشدة؛ النقصُ في الأموال والأنفس؛ نقيضُ السراء (الأقرب).السيئات السيئة: نقيضُ الحسنة (الأقرب).والحسنة يعبر بها عن كل ما يسر من نعمة تنالُ الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة تُضادُّها (المفردات).فرح: اسم المبالغة من فرح يفرح الرجل بالشيء: انشرح صدره بلذة عاجلة؛ بَطِرَ (الأقرب).فخور: اسم المبالغة من فخر يفخر الرجل: تمدَّحَ بالخصال وباهي بالمناقب والمكارم من حسب ونسب وغير ذلك، إما فيه أو في آبائه (الأقرب).التفسير: إنّ الأمم المبتعدة عن نور الوحي الإلهي تتملّكها وجهتا النظر الخاطئتان هاتان.فبالرغم من أنهم يرون بأم أعينهم أن الدنيا في تقلب دائم ومستمر، إلا أنهم لا يفكرون في أسباب هذه التقلبات ولا يتلقون منها ،درسا، بل يستسلمون فقط للحالة التي تطرأ عليهم.فإن أصابتهم مصيبة استولى عليهم القنوط، وإن أصابتهم مسرة تملكهم الزهو والغرور.ذلك أنهم لم يدركوا أن الدنيا دار الابتلاء، وأن الله تعالى يختبر الإنسان ويرى كيف يكون ردّ فعله في حالتي الفرح والترح، وأنه من خلال هذا الاختبار يطوّر الله أحوال الإنسان الروحانية حتى تصل ذروتها وكمالها.والذي لا يدرك هذه الخطة الإلهية فإنه عندما يمرّ بأي من الحالتين فإنه لا يتعظ بها، بل يصير منفعلاً مستسلما لما هو فيه.

Page 223

الجزء الثالث ۱۲ ٢١٦ سورة هود إلا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ التفسير: أي أن المؤمنين لا يسلكون كهذا السلوك.فلا يدعون الحزن يغلبهم ولا يسمحون للفرح أن يصرعهم، وإنما يتحكمون في أنفسهم ويضبطونها في كل حال.فلا يصيبهم هلع ولا جزع ولا قنوط حينما يحل بهم بلاء، بل يبدون عليه صبرا وجلدًا، ويصمدون له بشجاعة وبسالة ساعين لإزالة أسبابه بكل همة وعزيمة.وعندما تأتي عليهم أيام الفرح والسرور والنعم فلا يستبد بهم الزهو والغرور، وإنما يزدادون بها صلاحًا وتقوى، ويهتمون بأن يشاركوا غيرهم فيها، ويصنعون بهم المعروف أكثر.وبقوله تعالى (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبير، يخبر بما سيناله المؤمن من جـزاء ملائم.فبما أنه يصبر على الأذى والشدة، وأن هذا الأذى يترتب على أخطائه أو ضعفه البشري، فلذا يكون جزاء صبره الغفران عن أخطائه وتقصيراته البشرية.ثم بما أن المؤمن لا يزهو ولا يتباهى عند الفرحة والنعمة بل يزداد بها تقوى وصلاحًا، فلذا يزيده الله أيضًا فضلاً وعطاء.فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَثْرٌ أَوْ جَاءِ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ۱۳ شرح الكلمات: لعلك: لعلّ: طمع وإشفاق (من المخاطب).ولعلّ، وإن كان طمعا فإن ذلك يقتضي في كلامهم تارةً طمع المخاطب، وتارةً طمع غيره.فقوله تعالى فيما ذكر عن

Page 224

الجزء الثالث ۲۱۷ سورة هود قوم فرعون: (لَعَلَّنَا تَتَّبِعُ السَّحَرَةَ فذلك طمع منهم، وقوله في فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فإطماع لموسى ال مع هارون، ومعناه: فقولا له قولاً لينا راجين أن يتذكر أو يخشى، وقوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ أي..يظن بك الناس ذلك (المفردات).كنز الكنز ما يُدْخَرُ؛ المالُ المدفون في الأرض؛ اسم للمال إذا أُحرز في وعاء؛ الذهب الفضةُ؛ ما يُحرز فيه المال (الأقرب).التفسير: لقد سبق أن ذكرت أن من أسلوب القرآن أنه أحيانًا يرد على السؤال دون ذكره صراحةً، وهذا ما فعله هنا، إذ لا تذكر هذه الآية السؤال الذي أثاره الكفار بل بدأت بالردّ عليه.لقد سأل الكفار لدى سماعهم وعد الله للمؤمنين لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبير وقالوا: كيف تعدهم، يا محمد، بالأجر الكبير وأنت لا تملك كترا وليس معك أي فوج من الملائكة ليساعدوك على ضعفك وقلة حيلتك؟ فيرد الله عليهم ويقول معرّضا بهم: إنه فعلاً توجه خطير، وسوف تضطر يا محمد بسببه أن تخفي بعض ما أوحيناه إليك من أنباء عن انتصار الإسلام وازدهاره! والمراد أنك لن تفعل ذلك أبدًا.أما إذا اعتبرنا (لعل) في قوله تعالى (فَلَعَلَّكَ تارك...طمعا من العدو، فيكون للجملة معنى آخر وهو أن العدو يطمع في أن تخفي بعض كلام الله النازل عليك خوفًا من مطاعنهم هذه، ولكن طمعهم هذا عبث وباطل، لأنك "نذير"، أي رسول فقط، وعملُ الرسول تبليغ الرسالة بأمانة كما هي دون أن يخفي منها شيئًا.وأنت لست تدعي بأنك إله حتى تكون كنوز الكون تحت تصرفك كما يطالبون.6 وأما لو قيل هنا: إن المؤمنين الذين وعدوا بالأجر الكبير أيضا أناس وليسوا بآلهة يملكون الكنوز فكيف سيملكون إذن هذا الأجر الكبير؟ فالجواب إن هذا وعد لهم جزاء على صبرهم وسيتحقق لهم في المستقبل، وليس أنهم قد أعطوه من قبل.فما كان يحق للكفار أن يطالبوا الرسول الله أن يريهم منذ البداية أسبابا ظاهرة لرقيه وازدهاره،

Page 225

الجزء الثالث ۲۱۸ سورة هود وإنما يحق لهم ذلك عند حلول الموعد، لأن وجود الأسباب والقدرة منذ البداية يعني القدرة الذاتية وهي ميزة لا يتمتع بها أحد سوى الله جل وعلا.أما قوله تعالى (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فأكد فيه سبحانه أن هذا كله سيقع لا محالة، وسوف تحظى يا رسول الله بالغفران والأجر الكبير، وسوف يتزل الملائكة الذين سوف ينجزون لك مهماتك ومشاريعك.ولن تظفر أنت وحدك بالملك سوف يناله غلمانك ويصيرون ملوكًا أيضًا.بل إن الذي لم يُعمه التعصب عن رؤية الحق، يستطيع أن يدرك ما إذا تحققت هذه الوعود أم لا؟ ألم تذلل الملائكة كل عقبة كانت تعترض سبيل رقي الإسلام؟ ألم يظفر النبي بالمغفرة ؟ أو لم يجز الله أصحابه الذين صبروا على صنوف التعذيب والاضطهاد أجرًا كبيرًا.إنه لمن المؤسف حقا أن يستنتج بعض أعداء الإسلام من هذه الآية أن الرسول ﷺ أن كان قد استعد للتخلي عن أجزاء من القرآن الكريم خوفًا من مطاعن الكفار! مع السياق ينقض هذا الزعم هل من عاقل يقول بأن مطالب الكفار بإنزال الكتر والملائكة كانت من الثقل والقيمة بحيث تخيف الرسول ﷺ فيقوم بإخفاء بعض رسالات الله جل شأنه؟ هل يُعقل أن ينسى الرسول قول الله له: ﴿إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ؟ إذا كان الكفار يجهلون ذلك فالآية إنما تتحدث عن طمعهم هم فقط، حيث ظنوا خطأ أنه سيترك بعض الوحي خوفًا منهم، وليس أنه قد استعد فعلاً ليسقطه من نص القرآن الكريم.ألا يتذكر هؤلاء المعترضون الجهال قول الرسول لوفد قريش عندما جاءوا يُهدّدونه أن يتصالح معهم وإلا سحقوه وأقاربه سحقا؟ أو لم يقل رسول الله ﷺ لعمه ردًا على عرضهم وتهديدهم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته (السيرة لابن هشام).فكيف يستساغ إذن الزعم بأنه الله له خاف مما عرض عليه الكفار حتى إنه قام لكي يخفي كلام

Page 226

الجزء الثالث ۲۱۹ سورة هود الله سبحانه وتعالى.ثم إننا إذا تدبرنا في الآية التالية وجدناها أيضًا تفنّد هذا الزعم الفاسد، لأنها تتحدى كل العالم أن يأتوا بكلام يماثل أيا من عشر سور من القرآن الكريم.فإذا كان النبي ﷺ قد أصبح بنفسه - والعياذ بالله - ضحية للشكوك والشبهات في القرآن الكريم فكيف يُعقل أن يوجه هذا التحدي بعيد الحديث عنه كمشكك في القرآن.إن هذا التحدي القرآني يبيّن بكل جلاء وصراحة أن إيمان النبي بصدق القرآن الكريم كان أقوى وأثبت من رواسي الجبال.أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُون اللَّه إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٤ التفسير هذه الآية أيضًا تؤيد المعنى الذي تُبيّنه الآية السابقة.إذ إن الكفار لــما ظنوا أن محمدا سوف يخفي بعض الوحي الإلهي خوفًا من طعنهم، ردّ الله عليهم بقوله للرسول الكريم: ما كنت لهم إلا نذيرا، ولم تدع الألوهية حتى يتحتم عليك اصطحاب هذه الأشياء دليلاً على صدق دعواك.وإنك لنبي مُرسَل ولا بد لك من تبليغ الرسالة كما هي دون أي نقصان فيها.وكان من الممكن أن يرد الكفار على ذلك بقولهم إنّ هذه دعوى باطلة، وإنما أنت في الواقع رجل مفتر وليس في يدك قوة أو أسباب غير عادية، فيرد الله عليهم في هذه الآية بقوله : لا شك أن هذا النبي لا يملك أي كنوز ظاهرة حاليا، ولكنه يملك كنوزا روحانية، ولا سيما الكتر الذي لا يساويه كل ما لدى الناس من أموال وثروات مجتمعةً، ألا وهو القرآن الكريم.فإذا كنتم صادقين في زعمكم أن محمدًا مفتر

Page 227

الجزء الثالث ۲۲۰ سورة هود وكذاب، وأن بعض ما أتى به من كلام إنما هو ناقص مُفتقر إلى التغيير والتعديل، فتعالوا أيها الكافرون إلى ساحة الترال.ولا نطالبكم أن تأتوا بكتاب يوازي القرآن كله ضخامة ،ومعنى، وإنما أن تأتوا بعشر سور من مثله حتى وإن كان الذي تأتون به يماثل تلك الأجزاء التي ترونها تافهة تفتقر إلى التعديل.أما إذا لم تستطيعوا ذلك، ولن تستطيعوا، فلا مناص لكم من الاعتراف بأن هذا الرسول يملك كترا لم يسبق له نظير في العالم أجمع.وقوله تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَات، لقد سبق أن ذكرت في تفسير سورة يونس أن مسألة سموّ القرآن وتحدي العالم بالإتيان بنظيره..قد عالجها القرآن في خمسة مواضع، وأرى أن مفهوم التحدي في كل موضع منها يختلف عن غيره: ١ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْله وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُون الله إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة: ٢٤).أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (يونس: ٣٩).٢ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُون الله إن كُنتُمْ صَادِقِينَ).وهي الآية التي نحن بصددها.قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لا يَأْتُونَ بِمثْله وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ( الإسراء: ۸۹).، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثِ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا 0 صادقينَ) (الطور: ٣٤ و ٣٥).ويلاحظ أن التحدي في الموضعين الأول والثاني من نوع واحد، أما تحديات المواضع الأخرى الثلاثة فكل منها له معنى خاص به.ففي سورة الإسراء كان التحدي بالإتيان بمثل القرآن كله، وفي سورة هود بالإتيان بعشر سور بينما كان التحدي في سورة الطور على الإطلاق وإن كان بالإتيان ببعض سورة، فما السبب في هذا

Page 228

الجزء الثالث الاختلاف؟ ۲۲۱ سورة هود قيل إن الاختلاف سببه التنازل للمعارضين في التحدي حتى ينكشف لهم عجزهم التام.فطالبهم أولاً بمثل القرآن كله وعندما عجزوا طالبهم بعشر سور مثله، فلما عجزوا طالبهم بسورة، وحينما عجزوا أيضًا طالبهم بحديث مثل القرآن.وعندي أن هذا التعليل لا يخلو من الاضطراب والضعف، لأن ترتيب نزول القرآن يخالف ذلك.حيث كان ترتيب نزول هذه السور كالآتي: سورة الطور، ثم سورة الإسراء، ثم سورة هود، ثم سورة يونس وأخيرًا سورة البقرة.فليس من السائغ نظرا لترتيب نزول السور أن يكون التحدي أولا ببعض آي القرآن، فإذا عجزوا يرفع التحدي إلى القرآن كله فلما عجزوا يخفض إلى عشر سور ثم إلى سورة واحدة.ثم إن القرآن الكريم لا يسرد هنا حادثا لنعتبر به فحسب، بل يبين هنا تحديًا علينا أن توجهه إلى العالم أجمع، فيجب أن نكون على بينة منه ونعلم جيدا بماذا نتحداهم.هل نطالبهم بالإتيان بمثل القرآن كله أم بعشر سور منه ، أم بسورة، أم ببعض سورة؟ فإذا كانت المطالبة بتقديم آية واحدة مثله تفي بالغرض فما الداعي بأن نطالبهم بسورة كاملة، أو إذا كانت الكفاية في المطالبة بالإتيان بسورة واحدة مثله فلماذا نطالبهم مثله، أو إذا كانت المطالبة بعشر سور كافية فلماذا نطالبهم بمثل القرآن بعشر سور کله؟ فالرأي عندي أن لا حاجة بنا للخوض في تحديد زمن نزول هذه التحديات وهذه السور، لأن بعضها قد نزلت في فترات متقاربة جدًا بحيث يتعذر تحديد ترتيبها الزمني.ثم يجب أن نأخذ بالاعتبار في صدد نزول القرآن أنه لم تتزل سورة واحدة بعد أخرى، بل في بعض الأحيان نزلت في فترة واحدة أكثر من سورة فإننا وإن كنا نستطيع تحديد زمن نزولها بالنظر إلى زمن نزول آخر آية منها ولكن لا يصح هذا بالنظر إلى کل آیا تها.ولذلك كله أرى أن هذه الآيات تتضمن مطالبات متنوعة، وكل مطالبة منها

Page 229

الجزء الثالث ۲۲۲ سورة هود مستقلة ولا تتركنا بحاجة إلى تحديد زمن نزول السور، بل نستطيع اليوم أيضا أن نتحدى العالم بكل هذه المطالبات وفي وقت واحد كما تم التحدي بها عند نزول القرآن.وقبل أن أتناول بالبحث كل مطالبة منها على حدة..أود أن ألفت الأنظار إلى أن كل تحد منها جاء مقرونا بذكر المال والثروة والقوة والقدرة ما عدا الوارد في سورة البقرة، لأن التحدي الوارد فيها هو نفس ما في سورة يونس، قد أعاده الله في سورة البقرة، بصورة مختصرة، مع العلم أن سورة البقرة سورة مدنية وسورة يونس مكية.يقول الله في سورة يونس قبل التحدي: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ....قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُل اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس: ٣٥،٣٢ و٣٦).وكذلك جاء في سورة الطور بعد إيراد التحدي: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ.أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (سورة الطور: ٣٦-٣٨).وجاء هنا في سورة هود قبل التحدي:...لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَثرٌ أَوْ جَاء مَعَهُ وجاء في سورة الإسراء بعد التحدي : ( وَقَالُواْ لَن تُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْحُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبِ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْحِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِالله وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً.أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفَ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء...) (الإسراء: ٩١-٩٤).من ذلك يتبين أن هناك علاقةً عميقة بين التحدي المطالب بمثل القرآن وبين

Page 230

الجزء الثالث وهي ۲۲۳ سورة هود الكنوز والخزائن، ألا الله تعالى على من يطالبون بالكنوز أنهم يطالبون الرسول ﷺ بما هو فعلاً بين يديه..فمعه أعظم الكنوز وأسماها ويرد على من يطالبون بالملائكة فيقول: إن الملائكة لا تتنزل لمسابقات مادية وإنما تتنزل بالوحي، وقد نزلت بالفعل على الرسول الكريم بكلام الله تعالى.فالمنكرون يطالبون الرسول بما قد حصل من قبل.وإذا كانوا قد أعماهم التعصب فأنكروا كونَ القرآن كتراً، أو تنزّل الملائكة معه من عند الله تعالى..فليأتوا بمثل القرآن لأنه بنفسه يؤكد أنه منقطع النظير إذ يقدم الأدلة على نزوله من عند الله وعلى كونه كثراً يعجز الجميع عن أن يأتوا بمثيل له.أن القرآن المجيد أيضا كتر من كنوز الله وخزائنه، ويردّ وهناك فرق يجب الانتباه إليه في هذه الآيات المتضمنة للتحدي، وهو أنه عندما طالبهم بالإتيان بكلام مثيل للقرآن بكمية أكبر فقد ذكر إلى جانبه المطالبة بالكنوز والملائكة من جانب الكفار، ولكنه عندما تحداهم بالإتيان بمثله بكمية أقل لم يُشفعه بهذه المطالبة على لسان الكفار ، بل الله نفسه سألهم عندئذ قائلاً: هل أنتم ملاك هذه الكنوز، وهل أنتم المشرفون على نواميس الطبيعة والمدبّرون لها.وسبب هذا الفرق في الأسلوب هو أن الأماكن التي ذكر فيها موضوع كون القرآن كترًا كبيرًا بصورة واضحة كان هذا السؤال عندها متوقعًا وواردا من قبل الكفار، لذلك يذكره القرآن بلسانهم مشفوعا بالرد عليه.أما الأماكن التي ذكر فيها هذا الموضوع بشكل دقيق عميق فما كان الكفار ليدركوا عندها عظمة القرآن الكريم، ولو تُرك الأمر عندئذ هكذا انتظارًا لتساؤلاتهم لبقيت جوانب من فضل القرآن الكريم خافيةً على الناس.ولذا فقد كشفها الله بنفسه بتوجيه السؤال إليهم، وبهذا فقد أظهر كل محاسن القرآن وجلاها فتبارك الله أحسن الخالقين.والآن أتناول هذه الآيات - كلاً على حدة - لإيضاح الحكمة من هذه التحديات.أولاً : لقد جاء التحدي الأكبر في سورة الإسراء مُطالبًا بالإتيان بمثل هذا القرآن دون أن يشترط عليهم بأن يكون هذا الكلام منسوبًا إلى الله، بل يمكنهم كاملاً

Page 231

الجزء الثالث ٢٢٤ سورة هود أن يأتوا بأي كلام كان ومن أي مصدر يشاءون، شريطة أن يكون مثل القرآن الكريم أو أفضل منه.ولما كان تحديد المماثلة أمرًا هامًا فقد بينها القرآن الكريم في سورة الإسراء نفسها حيث قال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كفورًا (٩٠)..أي إذا كان الكافرون يرون هذا القرآن من افتراءات البشر فعليهم أن يقدموا كلامًا مساويًا له في الفضائل التالية: (1) أن يكون هداية كاملة في أمور الدين مستوعبا جميع ضرورياته من العقائد وفلسفتها، وصفات الله وحكمة ظهورها، وعلم الكلام، والعبادات وفلسفتها، وعلم الأخلاق ومبادئه الفلسفية، والمعاملات وأسسها الحكيمة، وما يتصل بالدين من أمور الحضارة والمدنية والسياسة والاقتصاد، وحقيقة الحياة الآخرة وما يتعلق بها، وغيرها من أمور حيوية ضرورية.(۲ أن يتناول الأمور السالفة الذكر من كل نواحيها سعةً وعمقاً، مرشدًا إلى الصواب والحق في كل مجال منها.) أن تكون كل عناصره مع سعتها ودقتها لا تقدم إلا النافع الخالي من الضرر.كافة (٤) أن يكون كلامًا عامًا..لا يخص شعبًا بعينه، ولا يرعى مصلحة فئة معينة، بل يخاطب الإنسانية جمعاء، ويصلح للطبائع البشرية كلها، ويتفق مع الظروف والأوضاع ويناسب مستوى الأفهام جميعا.وبما أن القرآن الكريم لم يكن قد نزل بشكله الكامل عند نزول سورة الإسراء، لم يطالبهم الله فيها أن يأتوا بمثله الآن، بل قال: لا يَأْتُونَ بمثله)..أي لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله لا في شكله الحالي ولا بعد اكتمال نزوله.ولعل في هذا التحدي ردًّا على من يزعمون معرفة الأمور الغيبية ممن يسمون "الروحانيين" (Spiritualists)، فينبههم إلى أن الإتيان بمثل علوم القرآن مستحيل

Page 232

الجزء الثالث ۲۲۵ سورة هود على الإنسان، سواء حاول هو بنفسه أو بمعونة الأرواح الخفية التي يدعون الاتصال بها.مع العلم أن المراد بالجن هنا هو تلك الكائنات التي يتوهمون وجودها والتي يزعم الروحانيون الاتصال بها لمعرفة الدقائق الروحانية.ومما يؤكد قولي هذا هو أن الله تعالى قد سبق أن ذكر الروح قبل هذه الآية بأربع آيات إذ قال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً) (الإسراء: ٨٦).ثانيا : والآية الأخرى التي تتناول اعتراض الكفار بأن الرسول ﷺ لا يملك كترا الآية التي نحن بصددها فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَات فإن وليس معه ملك هي الآية تقدم القرآن على أنه كتر نزلت به الملائكة وتتحداهم بأن يأتوا ولو بما يماثل عشر سور من هذا القرآن ثم ليزعموا أن الملائكة قد جاءت به من لينتظروا مصيرهم بعد هذا الافتراء على الله جل شأنه.يؤاخذه الله عند الله تعالى، ثم وقال لهم: إذا كنتم أنتم لا تتجاسرون على هذا الافتراء فكيف تستسيغون زعمكم أن محمدا قد تجاسر على هذا الافتراء.وإذا كان محمد بالفعل مفتريا كذابا فلماذا لا عز وجل؟ بهذا الأسلوب يدعوهم الله هنا إلى المبارزة العلمية والروحانية معًا.كما ويطالبهم هنا بالإتيان بعشر سور فقط على عكس ما تحداهم به في سورة الإسراء، لأن القرآن الكريم لا يعالج هنا بيان كماله من كافة الوجوه كما فعل هناك، بل إنه يفنّد هنا اعتراضهم على بعض الأمور الواردة في الوحي القرآني كما هو واضح من قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وأيضا من قولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَثرٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ وبهذا يدعوهم الله تعالى لأن يختاروا ما يشاءون مما يرونه عيبا في القرآن ويأتوا إزاءه بعشر سور مما يختلقون حتى يتم اختبارهم فيما يدعون.وقد اختار العدد عشرة لأنه عدد تام، وكأنه تعالى يقول لهم: ها نحن لا نضيق عليكم الفرص بطلب مثال واحد تأتون به، بل بوسعكم أن تحاولوا عشر مرات وتعرضوا عشرة أمثلة إن كنتم فاعلين.ولا يعني عدد العشرة أنهم فعلاً كانوا قادرين على الإتيان بسورة واحدة فطالبهم بعشر تصعيدا لاختبارهم، كلا، بل إنه الطريق

Page 233

الجزء الثالث ٢٢٦ سورة هود الأمثل لدحض مزاعمهم، أن يُعطوا أكثر من فرصة في عشر محاولات، حتى لا يدعوا بأنهم كانوا مغبونين.ثالثا: والموضع الثالث الذي أعلن فيه القرآن أنـه كتـاب لا نظـيـر لـه هو ما جاء في سورة يونس حيث تحداهم الله تعالى أن يأتوا بسورة واحدة فقط مما يماثل هذا القرآن وهو دون التحديين السابقين بعشر مرات.ذلك لأن التحدي هنا جاء تدليلاً على إحدى دعاوي القرآن الكريم، وليس ردًا على الكفار.فقد ذكر قبل هذا أن القدرة الكاملة والتصرف المطلق هو الله وحده، والدليل على ذلك هو القرآن الكريم نفسه.ولقد أورد فيها خمسة تحديات عن القرآن قائلا: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس: ۳۸) فهو (أولاً) يحتوي على تعليم لا يمكن للإنسان أن يأتي بمثله؛ وهو (ثانيا) يصدق الكتب السماوية السابقة؛ وهو (ثالثًا) يكمّل الأحكام الناقصة فيما سبق من وهو (رابعا) مصون من كل عبث أو تصرف إنساني؛ وهو خامسا) منهج عام الجميع الناس وكافة الأزمان، من رب العالمين.ثم يأتي التعقيب على ذلك بقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَن اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (يونس: ٣٩) أي إذا كنتم تحسبون أن ما ذكرناه عن القرآن ليس حقا ولا عدلاً فأتوا بسورة واحدة مثله تتصف بتلك المزايا الخمس المذكورة آنفا، أما وأنكم لن تستطيعوا الإتيان حتى بسورة واحدة مثله، فيمكن أن تقدروا مدى كمالاته وفضائله التي لا تعد ولا تحصى، وتعرفوا كتب؛ كم هو أسمى من افتراء البشر.فالمماثلة يراد بها هنا فضائل القرآن الخمس هذه.رابعا: والتحدي الرابع هو قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بحديث مثله إِن كَانُوا صَادِقِينَ (الطور : ٣٤ ٣٥ أي إذا كنتم صادقين في مزاعمكم فقدموا ولو أمرًا واحدًا من مثله.وكان هذا أقل التحديات شأنا، حيث قيل

Page 234

الجزء الثالث ۲۲۷ سورة هود لهم فأتوا بكلام ولو أقل من سورة واحدة من القرآن الكريم.مع العلم أن هذا التحدي أيضًا لم يرد استجابة لدعوى من الكفار، بل إنه جاء تدليلا على ما ادعاه القرآن نفسه في مستهل تلك السورة بقوله تعالى وَالطُّور وَكتَابٍ مَّسْطُور ) فِي رَقٌ مَّنشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْحُورِ ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِع (الطور : ۲-۹)..أي أننا نقدم كبرهان لَهُ : على حتمية وقوع القيامة أمرين اثنين هما: القرآن والإسلام، مؤكدين أن القرآن هو الكتاب الموعود به على جبل الطور، وسوف يُكتب وينشر كثيرا في العالم دون انقطاع، وأن الإسلام سوف يدخل فيه الناس أفواجًا، عامتهم وكذلك خاصتهم من ذوي الفضائل الروحانية والملكات الجسمانية، وأن هذا المعين الدافق سترتوي منه الدنيا بأسرها من أقصاها إلى أقصاها.ثم يعقب الله تعالى بعد عدة آيات بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ) فَلْيَأْتُوا بحديث مثله إن كَانُوا صادقينَ) (الطور : ٣٤ - ٣٥ أي إن كان هذا عندهم أنباء افتراء فعليهم أن يأتوا بحديث أي نبأ واحد مثل الذي جئنا به فيما سبق من متنوعة، ولا نشترط عليهم أن يكون الحديث الذي يأتون به منسوبًا إلى الله، بل لا نشترط حتى أن يكون من عند أنفسهم، بل لهم أن يستخرجوه من أي كتاب سماوي أو غير سماوي.مع الاعتبار أنه تحداهم هنا بأقل المطالبات :وقال فليأتوا ولو بنبأ واحد مثل الأنباء الكثيرة التي يزخر بها القرآن الكريم، وأكد لهم فشلهم وعجزهم معللا ذلك بقوله: إنكم لن تقدروا على ذلك أبدًا، لأن الإدلاء بمثل هذه الأنباء يقتضي أن يكون مصدرها خالقًا للسماوات والأرض ومراقبا لها ومالكًا لما فيها من كنوز وخزائن، وواهبًا للنفوس رقيها الروحاني، ومُطّلعًا على الأمور الغيبية، بينما أنتم محرومون من هذه المواصفات والقدرات كلها، فأنى لكم أن تدلوا بمثل هذه الأنباء.ولم تكن هناك حاجة لتأكيد فشلهم في تقديم نظير لهذا النبأ القرآني من الكتب السماوية السابقة،

Page 235

الجزء الثالث ۲۲۸ سورة هود لأنها كانت كتبا صحيحة من حيث مصداقيتها ومرجعيتها إلى الله فعلاً، لكن الفرق بينها وبين القرآن الكريم هو الدرجة والمنزلة.خامسا : أما التحدي الخامس فقد ورد في سورة البقرة حيث طالبهم بالإتيان بسورة واحدة.قال الله تعالى (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْله وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُون الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقينَ) (الآية: ٢٤).وهنا أيضا جاء بالتحدي تدليلاً على دعوى القرآن المذكورة في قوله تعالى ﴿ذَلكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ).مع العلم أن مطالبة الإتيان بسورة واحدة جاءت أيضا في سورة يونس مع نفس التأكيد بأنه لا رَيْبَ فِيهِ)، مما يعني أن هناك صلة وثيقة بين موضوع لا ريب فيه وبين مطالبة الإتيان بسورة واحدة.تعالوا نر ما هي تلك العلاقة.لقد أعلن القرآن الكريم عن نفسه في سورة البقرة قبل إيراد هذا التحدي بآيات عديدة أنه هُدًى لِّلْمُتَقينَ..أي أنه قادر على إيصال الإنسان إلى الدرجات العلى في الروحانية.وكأن التحدي هنا يعني أنكم إذا كنتم في شك من كون القرآن من عند الله تعالى فتعالوا لمبارزته في مجال تأثيراته الروحانية، وأتوا ولو بسورة واحدة ذات تأثير روحاني مثله ذالك أنه لمن مزايا القرآن أن قراءة أية سورة منه تشحن الإنسان بتأثيرات روحانية سامية للغاية، وكأنه يقضي على الشكوك التي تثور في النفس، ويوصل العباد إلى دنيا اليقين وهو مقام الوصال بالله تعالى.وهذا المقام إنما ينال بتلاوة القرآن الكريم وحده، إذ ليس هناك أي كتاب آخر يستطيع أن يباريه في هذه الميزة الرائعة.إن كل سورة منه تتسم بهذه الصفة التي لا يمكن أن يجاريها أي كلام آخر.لقد تبين تمامًا مما أوضحناه إلى الآن أن هذه التحديات الخمسة تمثل خمس مطالبات الخطأ في الواقع، كل واحدة منها مستقلة وثابتة ومتحققة ولا تنسخ إحداها الأخرى.لقد وقع المفسرون في بسبب زعمهم بأن كل تحد منها يعني الإتيان بمثل أن الأمر على عكس ذلك فالتحدي في هذه السور القرآن في الفصاحة فقط، مع

Page 236

الجزء الثالث ۲۲۹ سورة هود الخمس ليس واحدا -كما أسلفتُ بل إنها تحديات مختلفة مستقلة، وكل واحد منها يدعو إلى الإتيان بمثل القرآن كله أو بعضه طبقا للسياق والظروف.أما إذا قيل: هل تتضمن هذه التحديات المطالبة بضرورة كون كلام الكفار فصيحا كفصاحة القرآن أم لا، فالجواب: نعم، وبكل تأكيد، ولكنها مطالبة ضمنية، وليست الغاية الحقيقية المطلوبة.ذلك أن المعاني السامية لا يمكن التعبير عنها إلا بكلمات فاضلة وتراكيب رائعة ولما كان القرآن الكريم محتويا على معارف سامية فكان لزاما على منزله أن يختار أفضل الكلمات وأروع التعابير وإلا بقيت تعاليمه غامضة مبهمة.وما دام القرآن قد نزل بهذه الميزة اللغوية الراقية فلا بد أن تشتمل هذه التحديات على مطالبة المعارضين بالالتزام بقواعد الفصاحة والبلاغة أيضا.فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ )) التفسير: أي أنهم إذا لم يقبلوا التحدي فسوف يظهر جليًّا أن القرآن الكريم يحتوي في الواقع على المعارف والعلوم التي نزلت من عند الله فقط، وأن فيه أمورًا لا يستطيع أي إنسان الوقوف عليها، ومن أجل ذلك تقاصرت أحلام الناس عن أن تأتي بمثله.كما أن ذلك يشكل برهانا على أنه لا إله إلا إله ،واحد لأنه لو كان معه آلهة أخرى لما لزموا الصمت على تحدي القرآن ولكانوا قد تقدّموا ليبطلوا دعوى الرسول هذه.فالصمت من كل طرف وصوب إن دل على شيء فإنما يدل على أن لا إله إلا إله واحد، لا شريك له.وهنا سؤال: هل هذا التحدي كان خاصا بزمن الرسول ﷺ أم أنه لا يزال قائما

Page 237

الجزء الثالث ۲۳۰ سورة هود مفتوحا لكل زمن؟ عن ذلك يُجيب الله تعالى باستخدام ضمائر الجمع للخطاب في قوله (فَإِن لَّمْ يَسْتَجيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ، بدلاً من أن يقول (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم..).وهذا دليل على أن المسلم في أي زمن يستطيع توجيه هذا التحدي لمعارضي القرآن، لأنه سيبقى فريدا بهذه المزايا والكمالات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.أما قوله تعالى (فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) فأرى أنه خطاب للكفار حيث قيل لهم: قبلتم كتاب الله وأسلمتم بعد أن انكشفت لكم حقيقته تماما وتبين لكم بأنه كتاب منزل عند الله من تعالى وقد عجز الجميع عن الإتيان بمثله؟ هلا مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) شرح الكلمات: توف: وفّى فلانًا حقه توفيةً: أعطاه إياه تاما (الأقرب) لا يبخسون: بَخَسَه يبخس بخسا: نقصه حقه، ومنه: لا تبخس أخاك حقه.وبخسه: عابه.وبخس الناس: مَكَسَهم أي أخذ منهم العُشر (الأقرب).التفسير : يقول عَزَّ من قائل: إن الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها أي متاعها وأموالها فسوف نوفيه نصيبه منها ولن نحرمه مما هو في صدده.أن يتدبروا إن الذين ينخدعون بما عند الشعوب المسيحية من ثروات هائلة عليهم هذه الآية جيدا.ذلك أن الله تعالى يؤكد هنا أن تحقيق الرقي المادي ليس متوقفا على الرقي الروحاني، بل يمكن أن ينال أحد متعَ الدنيا وهو معرض عن الدين.ذلك أن الرقي المادي له مبادئه الخاصة به وهي اجتهاد الإنسان آخذا بالأسباب الطبيعية المتاحة له.إذن فتحقيق الرقي المادي وحده دون أية آثار روحانية ليس بدليل على كون

Page 238

الجزء الثالث ۲۳۱ سورة هود الإنسان مقربا من الله تعالى؛ لأنه عز وجل يصرح هنا أن كل واحد سينال أجره في هذه الدنيا على ما يبذله من جهود خالصة لأجل الحياة المادية، أما إذا عمل أحد باسم الدين أعمالا خاطئة تخالف المشيئة الإلهية فلن ينال عليها أي أجر روحاني.هذا هو معنى قوله تعالى (أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) وقوله تعالى وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) يعني أنهم لن يلاموا ولن يعابوا فيما يتعلق بأعمالهم المادية، أو أنهم إذا لم يرتكبوا ظلمًا فيها فلن يعاقبوا بعذاب في الدنيا وإن لم يهتموا بأمور الدين، لأنه تعالى لا يعذب أحدا في الدنيا بسبب إنكار الحق إلا إذا عمد إلى الشر والاستهزاء بالدين، أما مجرد الإنكار فلا يتسبب في عذابه في هذه الدنيا، لأن الآخرة وحدها هي دار الجزاء الحقيقية.أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وباطل ما كَانُوا يَعْمَلُونَ ) شرح الكلمات : ۱۷ حَبطَ حَبطَ العمل حُبوطًا وحَبَطا: فسُد.حبط ماء البئر: ذهب ذهابًا لا يعود كما كان (الأقرب) بَاطِلٌ: بَلَ: فَسُدَ أو سقط حكمه.(الأقرب) التفسير : هذه الآية تكملة لما قد قيل من قبل : فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ..والمراد أنكم إذا لم تذعنوا إلى الله و لم ترغبوا في الدين فلا شك أنكم ستجنون متاع الدنيا، ولكن لن يمن الله عليكم بقربه وحظوتة عز وجل.وضمير المؤنث في جملة وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا يمكن أن يُرجع إلى الحياة الدنيا أو

Page 239

الجزء الثالث ۲۳۲ سورة هود إلى الآخرة، فالمعنى الأول : أنهم سينالون جزاء ما عملوا لأجل الحياة الدنيا وهم فيها، لذلك لن تجديهم أعمالهم تلك يوم القيامة شيئا.أما إذا عاد الضمير إلى الآخرة فالمراد: أنه لما قاموا بأعمالهم الدنيوية وفقًا للنواميس الطبيعية التي وضعها الله تعالى نالوا جزاءها، ولكن ما صنعوه لأجل الآخرة لم يكن وفقا للسنن الإلهية لذا فإن أعمالهم تلك تذهب هدرًا لفسادها وكسادها يوم القيامة وإنهم لن يجنوا منها المنفعة المنشودة أبدا.ه و وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ منه أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ ده فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) شرح الكلمات : ۱۸ إماماً : الإمام من يُؤتَمُّ به، ويستعمل للمذكر والمؤنث، ومنه: قامت الإمام وسطهن.والإمام أيضا: الخيط يُمدّ على البناء فيبنى؛ ما امتثل عليه المثال.(الأقرب) رحمة الرحمة: رقة القلب وانعطاف (أي عَطف) يقتضي التفضل والإحسان والمغفرة.(الأقرب) الأحزاب: جمع حزب، والحزب: الطائفة جماعة الناس؛ جند الرجل وأصحابه الذين على رأيه، ومنه في القرآن أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان؛ وكلُّ قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضًا.(الأقرب)

Page 240

الجزء الثالث ۲۳۳ سورة هود مرية: المرية: استخراج ما عند الفرس من الجري.والمرية والمرية: الشك؛ الجدل، :يقولون ما فيه مرية أي جدل (الأقرب) التفسير : هناك حذف في الآية، والتقدير : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد من ربه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة كمن هو كاذب أو كمن هو ليس على بينة؟.ومثل هذا الحذف أمر شائع معروف في اللغة العربية.تذكر الآية ثلاثة مقاييس لمعرفة صدق القرآن الكريم والرسول الأكرم ، معلنة أن من توفرت فيه هذه الأمور الثلاثة يستحيل أن يكون كاذبًا.ذلك أن الناس ثلاثة أنواع فيما يتعلق بالحق الذي ينزل من عند الله تعالى: ١.الذين يعيشون في زمن نزول الوحي على النبي.٢ الذين يخاطبون بالوحى ولكنهم يظهرون بعد وفاة النبي.٣.الذين ظهروا في الماضي وكانوا يتوقعون نزول هذا الوحي.والحق أنه إذا اجتمعت الشهادات من هذه الأزمان الثلاثة على صدق أمر أو وحـ معين فلا يمكن أن يحوم حول صحته وصدقه أي شك، لأن الشهداء من الأزمنة الثلاثة قد أدلوا بشهادتهم على صدق ذلك الأمر وحقانيته.مع العلم أن الذين يتوقعون نزول أمر سماوي في المستقبل إنما يقوم إيمانهم به فقط على الأنباء الغيبية التي وردت عنه في الكتب السماوية السالفة.أما الذين يتزل الوحى في زمانهم فإنهم ينظرون إليه من زاويتين؛ الأولى: هل يتوفر فيه من الأدلة الداخلية ما يدل على صدقه وصحته؟ والثانية: هل يتحقق بتزوله ما ورد عنه من أنباء في كتب الأولين؟ أما الذين يظهرون بعد نزوله فتصبح مثل هذه الشهادات بالنسبة إليهم قصة قديمة تروى، فيهيئ شهادة من نوع آخر على شكل تأثيرات ونتائج لهذا الوحي.فبالإضافة إلى الشهادتين الأوليين تكون تأثيرات الوحي بين أيديهم، فعندما يجدون أنه لا يزال يؤتي ربه حتى زمانهم، يعرفون أنه لا ينفك صالحًا لهم كما كان صالحا للذين خلوا من قبل.واعلموا أن الشهادة الذاتية الداخلية هي أفضل هذه الشهادات درجة وأهمية، لأنها الله لهم أكله بإذن

Page 241

الجزء الثالث ٢٣٤ سورة هود تصلح للحاضر والمستقبل، كما أنها تغني عن البحث عن أدلة أخرى في الواقع.وتأتي الشهادة بتأثيراته في المحل الثاني أهمية، لأنها ضرورية للذين يظهرون فيما بعد، ولولا هذه الشهادة لبقي صدقه أمرًا مشتبها ومشكوكًا فيه بالنسبة للأجيال اللاحقة.ذلك أن كون الوحى في حد ذاته وحيًا حقيقيًا لا يكفي كحافز للناس على العمل به، بل إنه لا بد من التدليل على أنه لا يزال صالحا للعمل به ونافعا في الوقت الحاضر أيضا، وليس أنه كان مجديًا في الماضي فقط، ولكنه فقد تأثيره اليوم وحل محله وحي سماوي آخر نَسَحَه وألغاه.فإذا ظهرت عليه ثمار جديدة ناضجة تأكد لنا أنه لا يزال نافعا لأهل هذا العصر الحاضر كما كان نافعا للذين كانوا من قبل.أما شهادة الأنباء السابقة فتأتي في الدرجة الثالثة، وإن كانت تشكل دليلاً هاما للغاية، إذ لا تنفك تمهد لعقول الناس في كل عصر كي يؤمنوا بالحق عند نزوله، غير أنها لا تنفع إلا الذين تنكشف الحقيقة في زمانهم.لقد ساق الله عز وجل هنا على صدق القرآن هذه الأدلة بأنواعها الثلاثة، فقال: إنه يحمل في نفسه الشهادة الداخلية على صدقه، كما أن أنباء الكتب السماوية السابقة أيضا تتظافر على صدقه، ثم إنه سوف يؤتي أكله كل حين بإذن ربه في المستقبل بحيث لن يسع الناس إنكاره وتكذيبه في الواقع.والدليل الأول جاء في قوله تعالى (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه..أي أن القرآن الكريم أو الرسول الكريم الذي جاء به يحمل في نفسه أدلة ذاتية داخلية تؤكد بشكل حاسم أنه من عند الله تعالى.وبما أن عصر القرآن الكريم كان ممتداً إلى يوم القيامة، فقد أصبح لزاما عليه أن يهدي الناس إلى سواء السبيل في المستقبل البعيد أيضا، لذلك وعد الله تعالى بقوله وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ..أي عندما تصبح البراهين الدالة على صدق القرآن بمرور زمن طويل قصةً بالية في نظر أهل ذلك العصر فسوف يرسل ليشهد على صدقه وحقانيته.الله من لدنه شاهدًا

Page 242

الجزء الثالث ٢٣٥ سورة هود كما أخبر القرآن الكريم أنه بالإضافة إلى أدلته الذاتية وثماره الروحانية المستمرة، فقد سبق أن أخبر الأنبياء السابقون بتروله حيث جاء فيه وَمَن قَبْله كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً)..أي أن كتاب موسى الذي جاء قبله يهدي ويرشد الناس إلى صدق القرآن الكريم، وصار سبب رحمة وراحة لهم إذ سهل عليهم معرفة صدق القرآن.وعقبه بقوله ( أَوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ به..أي أن الذين سيكون لهم كتاب موسى إمامًا ورحمة هم الذين سوف يصدقون بالقرآن فوراً.وقوله تعالى ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ يتضمن ردًّا على من يعترضون علينا نحن المسلمين الأحمديين قائلين: لماذا لم يبعث الله هاديًا من عنده طوال هذه الحقبة التاريخية من التاريخ الإسلامي الممتد إلى ثلاثة عشر قرنا غير مؤسس جماعتكم؟ والجواب هو أن مثل هذا الشاهد الهادي إنما تمس الحاجة إليه عندما يبدأ الناس يشكون في الشريعة ويتساءلون ما إذا كانت تلك الشريعة لا تزال صالحة للحياة أم لا؟ والواقع أنه لم تكن هناك حاجة ملحة لأي مأمور كهذا من عند الله تعالى منذ بعث الرسول الكريم إلى زمننا هذا، لأن القرآن لم يكن في هذه القرون الثلاثة عشر عرضةً للشكوك والشبهات بهذا الشكل المخيف الذي نراه في عصرنا هذا.لقد حاصره أهل الوساوس والشبهات من كل طرف وصوب لدرجة أن المسلمين أنفسهم أخذوا يظنون أن بعض أحكامه أصبحت غير صالحة للعمل، وأن هناك حاجة ملحة لتعديلها.ومثالاً على ذلك ما يثيره هؤلاء الناس اليوم من مطاعن حول تعاليم الإسلام عن الصلاة والصيام وقطع يد السارق والحجاب والربا وغيرها هذا وإن أتباع المدعين الكاذبين كالبهاء والباب وغيرهما أيضا أخذوا يعلنون أن شريعة القرآن قد نُسخت وحلّت محلها الشريعة البهائية.ثم إن العلمانين أيضا أخذوا يشنون هجمات شرسة على القرآن الكريم من الناحية التاريخية والعلمية البحتة وبالاختصار فإن الإسلام لم يكن قد تعرض لمثل هذا الموقف الخطير من قبل قط، ولذلك لم تكن هناك في الماضي حاجة لشاهد مأمور من عند الله تعالى.6

Page 243

الجزء الثالث ٢٣٦ سورة هود لقد تضاربت آراء المفسرين حول هذه الآية، فقال بعضهم إن المراد من قوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة هم المؤمنون، والمراد من الشاهد هو الرسول.ولكن هذا المعنى باطل ومخالف للعقل، لأن الرسول كان أولاً، ثم جاء المؤمنون به فيما بعد.ويرى الآخرون أن الشاهد هو أبو بكر أو علي رضي الله عنهما.لكن هذا أيضا خطأ، لأن الآية تصف الشاهد أنه (مِّنْهُ)، بمعنى أنه سيقف شاهدًا بأمر من تعالى، ولكننا نعرف أن سيدنا أبا بكر وسيدنا عليًّا لم يدّعيا قط أن الله قد بعث ايا منهما شاهدا على صدق القرآن الكريم أو النبي الكريم.ويقول البعض بأن هذا بن سلام.ولكن هذا القول أيضا غير سليم لنفس الأسباب الشاهد هو عبد المذكورة أعلاه.الله عند الله الواقع أن الآية تتحدث عن بعثة الإمام المهدي والمسيح الموعود ال، إذ كان مقدرا له أن ينزل من عند الله تعالى بنفس الطريقة التي نزل بها الرسول ﷺ على بينة من ربه.وكانت الغاية من بعثته أن يقوم شاهدًا على صدق الإسلام بآيات سماوية ومعجزات جديدة، في زمن سيصبح فيه صدق الإسلام وتأثيره الروحاني هدفا لهجوم الأعداء من شتى الطوائف ومختلف المجالات.وأما الشهادات الواردة في كتاب موسى على صدق القرآن الكريم فهي عديدة وأهمها ما ورد في سفر التثنية (١٨:١٨).لقد أصبح كتاب موسى ال إمامًا ورحمةً على صدق القرآن الكريم كالآتي: أولا بذكر أنباء نزوله للناس.ثانيا: بتوضيح منهاج النبوة أي السنة الإلهية فيما يتعلق بالنبوة.ثالثا : بإتاحة الفرصة للمقارنة بين تعاليمه وتعاليم القرآن.رابعا : بكونه عاملاً مساعدًا لشرح أصول الشرائع والأحكام.ولنعلم أن قوله تعالى ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ إنما يبشر بمن يأتي شاهدا على صدق القرآن، وليس بمن يعلن نسخه، كما تزعم البهائية.وإذن فإن الآية تصرح برفض

Page 244

الجزء الثالث ۲۳۷ سورة هود العقيدة البهائية وتقيم الحجة على أتباعها.ذلك أنهم يعترفون بصدق القرآن الكريم ولا شك، ولكنهم في الوقت نفسه يعلنون أن شريعة القرآن قد فقدت صلاحيتها في هذا العصر، وأن زعيمهم "بهاء الله" هو الموعود به في القرآن (الكواكب الدرية في مآثر البهائية ص ١٣٠).ولكن الحقيقة هي على عكس ذلك تماما، لأن الآية تؤكد أن هذا الموعود إنما سيأتي شاهدًا على صدق القرآن ومؤكدًا على صحته، وعلى أنه لا يزال صالحا وسيظل نافعًا للإنسانية إلى يوم القيامة، وليس بأنه سيأتي شاهدا على نسخه وبطلانه.فكل من يزعم أن الشريعة القرآنية منسوخة لا يمكن اعتباره موعودا به في هذه الآية.وأما قوله تعالى (وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَاب فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فاعلم أن المراد بالأحزاب عموما الطوائف المعارضة لأنبياء الله عليهم السلام.ولما كان النبي ﷺ مبعوثًا إلى الدنيا كافة فالمراد بالأحزاب هنا سائر الأديان والأمم الأخرى.وأما قوله تعالى ﴿فَلا تَكُ في مرْيَة مِّنْهُ فليس موجها إلى الرسول ﷺ وإنما إلى الآخرين.ذلك أنه سبق أن أكد الله بقوله أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ به..وجود جماعة مؤمنة بالقرآن أو الرسول، وما دام الأمر هكذا فإنه من غير المعقول تماما أن تكون هذه الجماعة قد آمنت بكلام الله لما رأته من البراهين الدالة على صدقه، ومع ذلك لا يزال من نزل عليه الكلام السماوي بالأدلة والبراهين فريسة للوساوس والشكوك! وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالمينَ : ۱۹

Page 245

الجزء الثالث ۲۳۸ سورة هود التفسير: ما أروعه من بيان، حيث يخبرنا الله تعالى أن المدعي الكاذب يكون أظلم القوم، وأن المفترين موصومة وجوههم بلعنة من عند الله تعالى، فليس صعبًا في الواقع التمييز بين الصادقين وبين الكاذبين ممن يدعون النبوءة، بل يُعرف المتنبئون منهم بما يظهر على وجوههم من آثار الكذب والزور واللعنة.ولذلك سيقول الأنبياء الصادقون يوم القيامة لمنكريهم وهم يشيرون إلى أولئك المتنبئين الكاذبين: انظروا إليهم، هكذا تكون وجوه الكاذبين، فلا شك أنكم كذبتمونا لخبث باطنكم.الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) شرح الكلمات : عوَجًا: العوج: اسمٌ مِن عَوجَ ضدُّ استقام أي انحنى.العوج في الأجساد، والعوج في المعاني (الأقرب).التفسير : يمكن تفسير قوله تعالى (وَيَبْغُونَهَا عَوَجًا بطريقين: الأول: أنهم يريدون لسبيل الله تعالى عوجًا وفسادا، يقال: بغيتك الشرَّ أي طلبتُ لك الشر (فتح البيان)، والمراد أنهم لا يكتفون بصدّ الناس عن سبيل الله تعالى بل يسعون جاهدين لكيلا يطلع الناس على ما فيه من خير، ويعرضونه عليهم عرضا بحيث لا يرون فيه إلا المساوئ والعيوب.وهذه مكيدة يلجأ إليها أعداء الحق دائما، إذ يسعون دوما لإخفاء جمال الحق وأن يطفئوا نوره وينسجوا حوله من الأكاذيب والأباطيل ما يجعل الناس يرون ما فيه من حُسن وجمال قبحًا وعيبًا ونقصانًا.والثاني: هو أنهم يبغون للذين يطلبون سواء السبيل عوجًا أي أنهم يتمنون للسائرين

Page 246

الجزء الثالث ۲۳۹ في سبيل الحق أن يضلوا عنه وينحرفوا، بل وإنهم يبغون إيذاءهم.سورة هود أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (2) التفسير: كلمة الأرض تعني الكرة الأرضية عموماً، ولكنها إذا ذكرت مقرونةً بالحديث عن قوم فيُراد بها بلدهم وملكهم.يقول الله تعالى: إن المفترين لا يمكن لهم أن يحققوا الغلبة في البلاد أبدًا، بمعنى أنه لا يُكتب لمكائدهم النجاح، وإنما يبقون متعثرين بما نسجوه من مكر وكيد، حيث لا يلقون أي نصر من عند الله تعالى، كما لا يجدون لهم صديقًا مُعينًا من الناس لافترائهم على الله ومخالفة سبيله.ولا يعني ذلك أنهم لا يجدون أي صديق ولا ولي على الإطلاق وإنما المراد أنهم لا يجدون صديقا يغنى عنهم شيئًا ويساعدهم على تحقيق مراميهم.كما وليس المراد من قوله تعالى (وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء أن الله تعالى هو يكون وليهم ولا أحد غيره ، بل المعنى أنهم سيُحرمون من ولاية الله لافترائهم عليه، ثم إنه لغضب الله عليهم لن يستطيع أصدقاؤهم الذين هم على شاكلتهم أن ينصروهم على الله أبدا.وأما قوله تعالى (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ فاعلم أن الضعف يأتي بمفهومين: بمعنى الضعفين أو بمعنى الزيادة مطلقا.ونظرًا إلى المعنى الأول تعني الجملة: أن الله سوف يعذبهم بعذابين، عذاب على معاصيهم، وعذاب على ذنوب من أضلوهم.والمعنى الثاني لها : أنه تعالى سوف يزيد عذابهم باستمرار، ذلك لأنهم قد بذروا بذرة السوء

Page 247

الجزء الثالث ٢٤٠ سورة هود التي لا تزال تنمو بنفسها وتنبت سيئات أخرى.وأما قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) فهو استغراب حالة المفترين بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون..أي لقد مضى قبلهم كل من الصادقين والكاذبين من مدّعى النبوة، ولكن العجب من هؤلاء أنهم لا يستمعون إلى أخبار الأوائل ولا يعتبرون بمصيرهم! من أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَحْسَرُونَ ) شرح الكلمات : ۲۳ خسروا خَسِرَ: ضدُّ ربح؛ ضل؛ هَلَكَ (الأقرب).۲۲ وبهذه المناسبة أذكر أني بحثت في المعاجم والقواميس عن فعل "خسر" فلم أجده يستعمل إلا لازما، ولكن العجيب أن جميع المفسرين فسروا كلمة "خسروا أنفسهم" متعدية بمعنى "أهلكوا".أما صاحب "التاج" فيقول: "لا يُستعمل هذا الباب إلا لازما أئمة التصريف".ثم يقول: "إن هؤلاء الأئمة أخطئوا حين ظنوا أن كما صرح به القرآن استخدم هذا الفعل متعديا".الواقع أن الفعل لازم، ولكن المؤسف أن قواميسنا متأثرة بالدين حتى جعلوا اللغة أيضا تحت تأثير التفاسير، وهذا لم يخدم الإسلام شيئا وإنما أضر به إذ اختفت هذا التصرف الكثير من معارف القرآن عن أعين الناس.ليت هناك من يشمر عن ساعد الهمة والجد ويصنف قاموسًا لغويًا يكون متحررًا تماما من تأثيرات التفاسير الدينية، حتى يخرج الناس من هذا القيد الضاغط المجافي للحق..فيسهل عليهم فهم

Page 248

الجزء الثالث القرآن الكريم! ٢٤١ سورة هود فمثلاً في قضية "خسر" لو أننا لم نخضع لرعب التفاسير والتزمنا بقواعد اللغة..لحللنا هذه المسألة بدون اللجوء إلى مخالفة القواعد لجعله متعديًا.فيمكن أن نعامله معاملتنا لفعل "سفة" كما في قوله تعالى (سَفهَ نَفْسَهُ..بتقدير حرف جر محذوف تقديره (في)، أي سفه في نفسه؛ أو نعتبر كلمة (نفس) تمييزا يأتي أيضًا معرفةً كشاذ.كذلك في (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ يجوز تقدير المعنى خسروا في أنفسهم، أو اعتبار (أنفسهم) تمييزاً.لا جَرَمَ: مِن جَرَمَ يجرم جَرمًا قَطَعَ.قال الفراء هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة "لا بد" "ولا محالة ، فجَرَت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم وصارت بمنزلة حقا، وهو مأخوذ من معنى القطع (الأقرب).التفسير: أي لا شك أن هؤلاء ينجحون إلى حد ما في مكائدهم في الدنيا ويُلحقون بأنبيائنا بعض الأذى، ولكنهم في الآخرة لن يلقوا إلا خسرانا مبينًا.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَحْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) شرح الكلمات : ٢٤ أخبتوا : أخبت القومُ : صاروا في الخبت وهو ما اطمأن واتسع من الأرض؛ وأخبَتَ إلى الله: اطمأنّ إليه وتخشع أمامه (المنجد).وكأنما أشار باستخدام هذه الكلمة إلى أنهم يجدون في إنابتهم وخشوعهم أمام ربهم السكنية والطمأنينة، فينقطعون إليه عما سواه، كما يجد الإنسان الراحة في المشي في الأرض الواسعة المستوية.

Page 249

الجزء الثالث ٢٤٢ سورة هود التفسير : يتضح من الآية أنه لا يكفي الإنسان في سبيل نيل الكمال الروحاني أن يطمئن بالإيمان وصالح الأعمال فحسب، بل يتطلب ذلك منه أن يتصف أيضا بالتوكل الكامل والاطمئنان البالغ والحب الجم لله عز وجل.فكما أن الرضيع لا ينعم بالراحة إلا في حضن أمه، كذلك لا بدَّ لمن يريد إحراز الرقي الروحاني أن يكون محبا لله حُبًا جَمَّا واثقًا به منيبًا إليه جل شأنه، وإلا فلن يحظى بقرب الله أبدا.مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصيرِ وَالسَّمِيع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ شرح الكلمات: الفريقين: الفريق الطائفة من الناس أكثر من الفرقة، وربما أطلق الفريق على الجماعة قلت أو كثرت.(الأقرب) التفسير: لقد قام القرآن هنا بالمقارنة بين الإيمان والكفر، معتبرا المؤمن بصيرا وسميعًا، والكافر أعمى وأصم.مع العلم أن القرآن الكريم لا يريد سب أحد بإطلاق هذه الكلمات عليه، وإنما يريد بها بيان الواقع.فلا يظنن أحد أنه تعالى يصف الكافرين هنا بالعمى والصمم عبئًا ودون هدف أو قصد، بل إنه يبين عن طريق هذا المثل حقيقة الكفر.ولكي ندرك المراد القرآني هنا يجب علينا أن ننظر إلى ما يميز البصير السميع عن الأعمى والأصم.ولنأخذ أولاً البصير والأعمى إن أول ما يمتاز به البصير عن الأعمى أن الأول يستطيع رؤية النور بينما لا يقدر الأخير على رؤيته.والفارق الآخر بينهما أن هذا يصل إلى غايته المنشودة بسرعة، ولكن الأعمى لا

Page 250

الجزء الثالث ٢٤٣ سورة هود يصل إليها بسر عة وإنما ببطء، متحسّسا هنا ومتعثراً هناك.والفارق الثالث بينهما أن البصير يقدر على التمييز بين صديقه وعدوه، فلا يهاجم إلا عدوه، ولكن الأعمى غير قادر على ذلك، فمن المحتمل تماما أن يضرب الصديق وهو ينوي ضرب العدو.هذا هو حال المؤمن بالدين الحق وبين الكافر.فالذي يحب الله يستطيع أن يعرف الكلام النازل من عنده تعالى في حين أن الذي لا يكن الله حبًا حقيقيًا يُحرم من هي القدرة على معرفة كلامه تعالى.فالمؤمن يكون دائم الوعي للمشيئة الإلهية التي بمثابة النور الذي يهدي إلى السبل الروحانية، بينما المنكر للحق يكون أعور العين الروحانية، فيبقى محروما من إدراك المشيئة الإلهية.ثم إن المؤمن الحقيقي لا يزال ينشد من الله الهدى والإلهام في مسيرة الحياة، فلا يتعرض للتعثر والسقوط وإنما يصل إلى هدفه دون عائق، ولكن الذين يعتمدون على عقولهم فقط قد يصلون إلى الحق ولكن بعد آلاف الزلات والعثرات.وأضرب مثلاً واضحا على ذلك وهو تحريم الخمر، فلقد حرمها الإسلام دفعة واحدة قبل ثلاثة عشر قرنا، فامتنع المسلمون عن تعاطيها على الفور دونما تردد، في حين أن العالم الآخر لم يقتنع بمضار الخمر إلا مؤخرًا وذلك بعد تعرضه للعثرات والمعاناة طوال هذه المدة.والفارق الثالث بين الفريقين واضح وجليّ أيضا، فالمؤمنون بالحق يتمسكون بمبدأ موحد واضح دون أن يُحدث ذلك أي تعارض بين عقيدة لهم أو أخرى، ولكن أهل الباطل لا يزالون متخبطين لا يعرفون موقفهم بالضبط ويعميهم التعصب لدرجة أنهم يهاجمون أحيانًا معتقداتهم أنفسهم وهم يحاولون إبطال ما يؤمن به أهل الحق.ومن أجل ذلك نبّه الإسلام معارضيه مراراً وتكرارًا إلى أن يكونوا حذرين أثناء هجومهم على المسلمين، إذ إن هجومهم يكون في بعض الأحيان موجها في الحقيقة إلى عقائدهم هم من حيث لا يشعرون.والتشبيه الآخر هو عن السميع والأصم، فنجد أن الأول يمتاز عن الآخر بأنه

Page 251

الجزء الثالث ٢٤٤ سورة هود يسمع فلا يستفيد من خبرة الآخرين، ولكن الأصم محروم من هذه الميزة، إذ لا يستطيع الاطلاع على خبرات الآخرين وأفكارهم.وهذا هو الفارق بين الإسلام والديانات الأخرى.إن الإسلام أو المسلم يستوعب في نفسه كل ما هو حق أيا كان مصدره، ولكن معارضي الإسلام يكتفون بما عندهم من أفكار بالية تافهة، متغافلين عما عند غيرهم من حقائق ومحاسن.ولقد قال النبي مشيرًا إلى نفس هذا الفارق : كلمة الحكمة ضالة المؤمن أخذها حيثما وجدها" (الترمذي، العلم).فالخلاصة أن الدين الحق يستجمع في نفسه الديانات الباطلة تميل إلى التعصب والعناد.هو حق وحسن، ولكن إنه لمما يدعو إلى العجب أن ما يعرضه العدو كعيب في الإسلام يعتبره القرآن فضيلة وميزة مثلاً يقول المعترضون بأن الإسلام قد انتحل حقائق ومحاسن الديانات السابقة، فيرد عليهم القرآن بأن هذا ليس منقصة ولا عيبا بل هو دليل على فضل الإسلام ونزاهته، فهو ليس كالأصم الذي يبقى على ما عنده من خصوصيات وفضائل، بل إنه كالسميع الذي يستوعب في نفسه علوم الآخرين ومعارفهم، ويزيد عليها ويطورها ليكون علمه كاملاً، ولذلك استجمع الإسلام في ذاته كل ما لدى الديانات الأخرى جمعاء من تعليم حسن أو حكمة نافعة، إلى جانب الحقائق الأخرى الخاصة به دون أي دين آخر.هذا وإنه تعالى قد أشار بضرب مثال البصير والأعمى أو السميع والأصم إلى ميزة أخرى ينفرد بها الإسلام عن غيره ألا وهي استمرار ظهور الآيات السماوية والمعجزات الإلهية ونزول الوحي والإلهام في الإسلام.ذلك أن العين المبصرة إنما هي تلك التي ترى آيات الله المتجددة باستمرار، أما التي تُحرم من رؤية تلك الآيات فهي عمياء.كذلك الأمر بالنسبة للأذن فليست الأذن النافعة إلا التي تسمع نداء الله تعالى، لأن هذه هي الوظيفة الطبيعية للأذن، أما التي لا تسمع نداءه فإنها في الواقع صماء عاجزة.

Page 252

الجزء الثالث ٢٤٥ سورة هود وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٢٦ التفسير : لقد بين القرآن الكريم من قبل أن المتنبئين أو أتباعهم لا يتعظون بمصير الصادقين ومصير الكاذبين ممن ادعوا النبوة في الذين خلوا من قبل، كما أنهم لا يستمعون لأخبارهم وأحوالهم.وقد ضرب لبيان حال الفريقين مثال البصير والأعمى والسميع والأصم.أما الآن فأخذ القرآن يوضح هذه الحقيقة بتقديم أمثلة من التاريخ، حيث اختار منها أولاً مثال نوح الله وقومه فقال : انظروا إلى أحوال نوح الذي كان من أنبيائنا الصادقين والذي قد أخبر قومه بأنه لهم نذير مبين.إنه لمن البراهين الساطعة على صدق كل نبي صادق أنه يعلن على الملأ أنه نَذِيرٌ مبين ولهذه الجملة مفهومان: الأول: أنه لا يُخفي على الناس تعليمه الحقيقي أبدا ولا يُسرّ من أعماله شيئًا، بل يقدّم لهم كل ما يؤمر به شاءوا أم أبوا.بينما يحاول المتنبئون إخفاء تعاليمهم الحقيقية سعيًا لضمّ الناس إلى صفهم، وخوفًا من أن ينصرفوا عنهم.خذوا مثلاً البهائيين الذين يسعون اليوم جاهدين لإخفاء تعاليم "البهاء" و"الباب" عن العالم، ولا يسمحون للناس بالاطلاع على مؤلفاتهما، حتى إنهم جمعوا بعض ما كتبه البهاء وقاموا بإتلافه..(كتاب نقطة الكاف ص ٢٤٧).والمعنى الثاني: أن إنذار النبي الصادق يكون إنذارًا مبينًا، بمعنى أنه لا ينذرهم عبئًا ولغوا، بل يكون إنذاره مبنيا على الأدلة والبراهين لذلك فإن إنذاره القوم لا يبعث على القنوط واليأس فيسلمهم للهلاك والدمار بل إنه يزيدهم يقظةً وصحوةً ونهوضًا.ولكن المتنبئين الكاذبين يُنذرون القوم عبئًا وهم يقلدون الأنبياء الصادقين، فيزيد إنذارهم الطين بلة، ويُسلم القوم إلى اليأس والهلاك.وهذا الأمر لا يخص المتنبئين فقط، بل هذا هو دأب الجهال كافةً، فلا يكون إنذارهم إلا عبئًا لا جدوى منه، إذ لا يعلمون أن التحذير والوعيد لا يجديان نفعًا في كل الظروف بل ربما تكون النتيجة

Page 253

الجزء الثالث ٢٤٦ سورة هود على عكس ما يتوقعونه.لقد أشار النبي الله إلى مثل هذا الإنذار الخاطئ المدمر بقوله : "إذا قال الرجل هلك الناس فقد أهلكهم" (مسلم) (البر) : أي أن الذي لا يزال يردد بين القوم أن الناس قد هلكوا وأصبحوا بلا دين ولا إيمان فهو الذي يتسبب في الواقع في دمارهم وهلاكهم وضعف إيمانهم وانحراف سيرتهم.ذلك أن مثل هذه الأقاويل تبعث القوم على الاستهانة بالفسوق واللادينية وتوقعهم في حضيض اليأس والقنوط.فما لم يغير الله بنفسه النظام القديم السائد في الناس بنظام سماوي جديد يجب أن لا يتولد لدى القوم الإحساس بأن الجميع قد فسدوا ولم يبق بينهم ولا صالح واحد، وإلا فسوف يفقدون الهمة وينهارون نهائيًا.نعم، إذا جاء نبي من عند الله تعالى بنظام سماوي جديد فلا بأس عندئذ في إنذار عام، لأن حالة القوم حينذاك تكون في الواقع سيئة وفاسدة، ولكن العلاج يكون متوفرا لديهم في شخص النبي المرسل.فها هو نوح اللي يعلن للقوم بأنني نَذِيرٌ مُّبين..أي أنني أحذركم بناءً على أدلة وبراهين و لم آت لأعيث الفساد أو أبث اليأس بينكم، بل جئتكم لأنبهكم إلى الأمر الواقع.كما أن قوله نَذِيرٌ مُّبِينٌ يعني أن النبي لا يكتفي بالإنذار فحسب، بل يخبر القوم عن سبيل النجاة من العذاب، ولذلك أردف بقوله أنْ لا تَعْبُدُواْ إلا الله)..أي أنكم ستنجون من العذاب إذا امتنعتم عن الإشراك بالله تعالى.وكأنما أكد بقوله هذا على كونه نذير مبين.واعلم أن الملوك الطغاة والمنافقين والمغرضين أيضا يمثلون إنذارا للبلاد وأهلها، ولكن أيا من هؤلاء لا يكون نَذِيرٌ مُّبين ، لأنهم لا يدعون بأنهم منذرون، بل يخفون نواياهم الخطيرة مدعين بأنهم لا يريدون للقوم إلا خيرًا وبركة، بينما تكون أعمالهم نذير شؤم ونحس للناس.كما أن هذا الإنذار لا يكون مدعما بالإلهام الإلهي، وإنما يكون مبنيا على القياس بأنه ما دام هذا الحاكم طاغية فلا بد أن يهلك أهل البلد، أو

Page 254

الجزء الثالث ٢٤٧ سورة هود أنه ما دام قد كثر في القوم أهل السوء والفساد فلا بد أن يهلكوا.وبالاختصار، لا يكون الإنذار المبين إلا على يد المبعوث من عند الله تعالى، لأنه لا يتسبب في هلاك القوم، بل يحذرهم منه ويعمل على نجاتهم، لأن إنذاره يكون يقينيًا مبنيا على الوحى من عند الله.أما إنذار الآخرين فليس أساسه إلا مجرد القياس.أَن لا تَعْبُدُواْ إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ۲۷ التفسير: لقد حار بعض المفسرين في تفسير هذه الآية متسائلين: كيف وصف اليوم بكونه (أليمًا) مع أن العذاب هو الذي يكون أليما وليس اليوم (تفسير الطبري)؟ والحق أن حيرتهم ترجع إلى قلة تدبرهم إذ لم يدركوا أن الكلام الذي يهدف إلى بيان دقائق المعارف ولطائف الحقائق لا بد أن يستخدم أساليب مبتكرة وتعابير غير عادية، وإلا يستحيل التعبير عن تلك المعاني اللطيفة.وكل من يتدبر في هذا القول يدرك البون الشاسع بين التعبيرين (عذابًا أليما عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، إذ يجد التعبير الثاني أبلغ في تصوير شدة العذاب.ذلك أنه مما لا شك فيه أن العذاب يكون مؤلما ، ولكن هناك أيامًا هي أكثر إيلاما من العذاب نفسه، إذ لا تزال ذكراها تعذب ذاكرة الناس، فتقشعر أبدانهم لمجرد تصور آلامها وإن مرت عليها آلاف السنين.ذلك أن العذاب يؤلم الناس الذين يحل بهم ، ولكن ذكرى أيام العذاب المؤلم جدا تظلُّ تُسبّب الآلام للأجيال القادمة أيضا.فقوله (عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) إشارة إلى هذه الحقيقة اللطيفة، إذ يعني نوح بهذا القول : أنني أخاف عليكم عذابا مؤلما هائلا للغاية بحيث إنه يظل رادعًا ومزدَجرًا للناس على مر العصور والواضح أن ما يوجد في هذا التعبير من جدة وجودة لا يوجد في قولنا (عذابًا أليما) فقط.ثم إن الواقع أيضا يؤكد ذلك إذ كان ولا يزال طوفان نوح يمثل عبرةً ومزدجرا

Page 255

الجزء الثالث ٢٤٨ سورة هود للناس، إذ يعتبرونه حتى اليوم كارثة هائلة ويوما مروّعًا رغم مرور آلاف السنين على وقوعه، ويتملك قلوبهم هول عظيم وأذىً شديد من ذكر ذلك اليوم المخيف.فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمه مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ شرح الكلمات: ود ۲۸ بشرا : عُبِّرَ عن الإنسان بالبَشَر اعتبارًا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع والمثنّى، فقال تعالى: أنؤمنُ البَشَرَين)، وحُصَّ في القرآن كلُّ موضع اعتبر من الإنسان جثته وظاهره بلفظ البشر (المفردات)..أما أنا فأرى أن هذه مصطلحات تُطلق على حالاته المختلفة، فيسمى (إنسانًا) إشارة إلى حقيقته وأخلاقه، و (بشرًا) بالنظر إلى هيكله الظاهري، و(آدميا) نظرا إلى بداية منشئه.أراذل جمعُ أرذل من رذل بنفسه رذالةً، أو من رَذَلِه رَدْلاً جعله رذيلاً، ضدّ انتقاه.والأرذل في هذه الصورة بمعنى المرذول.والأرذل الدون في منظره وحالاته كالرذل والرذيل، يقال : ثوب رَذَل ورذيل وسخ رديء (الأقرب).بادي الرأي: أي ظاهره من بدا يبدو، ومنهم من الرأي.جعله بدأ يبدأ، والمعنى أول من التفسير: المراد من قولهم مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا أنه لا فرق بيننا وبينك من حيث المظهر والشكل، فكيف إذن نعتبرك مختلفا عنا في الباطن وأنك صاحب حظوة

Page 256

الجزء الثالث ٢٤٩ سورة هود وزُلفى في البلاط الإلهي، وأنك أُوتيت دوننا قدرات تستطيع بها سماع كلام الله الذي لا نسمعه.أن لم يزل أعداء الأنبياء على مر العصور يثيرون هذا الاعتراض نفسه، وحجتهم الإنسان إنما يفضل على غيره بما يكتسب بجهده من علوم ومهارات، ولكن صاحبنا هذا خلو من هذه الميزة، فكيف نصدق إذن أنه يمتاز علينا بقدرات باطنية غير عادية؟ وهذا ما يقوله المعارضون لنوح: لو كنت موهوباً بقدرات باطنية خاصة للزم أن يكون مظهرك ذا طابع خاص وأن تكون حائرًا على علوم مادية بشكل غير عادي، ولكننا لا نراك تملك هذه الميزة، فكيف نسلّم بأنك تملك قوى باطنية غير عادية.- العليا لقد قدموا - في زعمهم - حجةً فلسفية قوية، ولربما كانوا يعرضون على نوح ال صورًا لبعض أهل الله رسموها في مخيلتهم قائلين له انظر هكذا تكون وجوه أنبياء الله تعالى.ولربما كانت لهذه الصور عدة رءوس ووجوه، تماما كما يصنع عندنا الهندوس مع تماثيل كبارهم حيث قدموا "غنيش جي"، وهو أحد كبارهم، في صورة غريبة جدًا لها عدة رءوس ووجوه.ذلك أن الناس في الزمن البدائي جدا ما كانوا ليقتنعوا بأنه يمكن أن يكون النبي بشرًا مثلهم شكلاً ومظهرًا.ولربما كان أعداء نوح يرقصون فرحًا وابتهاجا لدى إدلائهم بهذه الحجة، ولكن الواقع أن حجتهم واهية وليس فيها من الوزن والقيمة من شيء.ثم يتخذ أعداؤه خطوة أخرى دعمًا لحجتهم السابقة حيث يعيرونه بقولهم (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَادَلُنَا بَادِيَ الرَّأْي ، أي أنك خلو من قوى خارقة، فأنت بشر مثلنا، وليس هذا فحسب، بل إن أتباعك أسوأ منا حالاً، فأي انقلاب ستحققونه أيها الجهال الأراذل.ولقولهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذْلُنَا بَادِيَ الرَّأْي عدة معان نظرًا إلى مدلولات مختلقة لكلمة (بادي الرأي)، نذكرها فيما يلي: إذا كانت باديَ الرَّأْي مشتقة من بدأ يبدأ) ومتعلقة بكلمة (أراذلنا) فالمراد:

Page 257

الجزء الثالث ٢٥٠ سورة هود أن أتباعك يا نوح، ربما يكونون طيّبي النفوس، ولكنا نجدهم لأول وهلة أراذل مستضعفين، ولعلنا نراهم أحسن حالاً في المستقبل.وهذا أسلوب للكلام يراد به الاستنكار الشديد وذلك كقول البعض في صيغة الاستفهام ربما نحن اللثام؟ والمراد: لسنا بلئام أبدا.فالمراد من قولهم أنه لا شك في خسة أتباعك ورذالتهم.أما إذا اعتبرناها مشتقةً من بدا يبدو) ومتعلقةً بكلمة (أَرَادَلُنَا) فالمراد أنهم أراذلنا في مظهرهم دونما شك، ولا يبدو لنا من محاسنهم ومزاياهم شيء، وربما تكون أنت وحدك مطلعا عليها.وهذا أيضا تعيير بهم.أما إذا كانت باديَ الرَّأْي متعلقة بفعل اتَّبَعَكَ فالمعنى: أنه لم يتبعك هؤلاء الأرذال إلا اتباعا سطحيًا دونما إدراك وتبصر ، ولو أنهم فكروا في حقيقة ما تدعوهم إليه لما اتبعوك.وهذا احتقار بشع منهم في حق نوح العلي.وهناك معنى آخر لهذه الجملة وهو : أنه قد اتبعك هؤلاء اتباعًا ظاهريًا فحسب، ولم يؤمنوا بك من صميم قلوبهم، وذلك طمعا في بعض المنافع المادية.ويستمرون في احتقارهم لنوح فيقولون: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل..أي أننا نسلّم جدلاً بأن فيكم من المزايا الباطنة والكفاءات الخفية ما أكسبكم هذه الحظوة عند ربكم، ولكن أخبرونا أما كان حريًّا بكم أن تتمتعوا بالعز والجاه بشكل خارق، لأن الذي يفوق أقرانه بمزايا خاصة يصبح غالبًا عليهم ولكنا لا نرى لكم علينا من شرف ولا غلبة.، ثم ذكروا النتيجة التي توصلوا إليها بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذبين)..أي أننا واثقون تماماً أنكم كاذبون، إذ لا دليل على ادعائكم بأنكم أهل الحق وأن الله قد فضلكم علينا.آه، لقد دَأَبَ أهل الدنيا منذ القدم على أن يقيسوا صدق الأنبياء بمقاييس ابتدعوها بأنفسهم، وحينما لا يجدونهم في زعمهم صادقين يجلسون هادئي البال مطمئنين، أنهم قد درسوا دعواهم بدون أي تعصب ووجدوها باطلة.وبالرغم مما ظنا منهم حققه الإنسان من تقدم مذهل، وبالرغم من مجيء هذا العدد الضخم من أنبياء الله

Page 258

الجزء الثالث ٢٥١ سورة هود الكرام لهداية الناس إلا أن الإنسان لا يستعد إلى الآن لقياس صدق كلام الله ورسله عند من بالمعايير التي وضعها الله لهذا الغرض، وإنما يريد أن يقيس صدقهم بما اخترعه نفسه من مقاييس زائفة.فكيف يمكن أن يهتدي إلى الحق والصواب بهذه العقلية؟ كلا، ثم كلا.قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآثَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِنده فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمُ اللزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) شرح الكلمات تُلزم الزَمَ فلانا المال والعمل: أوجبه عليه (الأقرب) ۲۹ التفسير : يقول نوح لمعارضيه: افترضوا - ولو للحظة - أنني بالفعل تلقيتُ من الله البراهين والبينات على صدق دعواي وحَصَّني ربي برحمة عظيمة منه، ثم لنفترض أن هذه البينات قد نزلت علي نزولاً يحيطه الغموض والإبهام ولذلك لا تستطيعون رؤيتها، فأخبروني كيف نشرحها لكم إذن حتى تفهموها ، اللهم إلا أن تتدبروا فيها بأنفسكم.إذ لا بد للإنسان لإدراك حقيقة ما- أن يُعمل فيها فكره ويتدبرها بأسلوب يساعده على تفهمها، ولكنكم ترفضونها من أول وهلة كارهين حتى الإصغاء إليها، فأَنَّى لكم أن تفهموها إذن اللهم إلا أن تُجبروا على ذلك جبرا، وهذا لن نفعله معكم أبدا.إن هذه الآية تهدم نظرية الإكراه في الدين من أساسها، إذ تبين أنه إذا كره أحد عقيدة ما فلا يمكن إكراهه على فهمها واعتناقها.كما تخبرنا الآية أن الذي ينظر إلى أمـــر ما نظرة كراهة بدلاً من أن يسعى لفحصه ومعرفة كنهـه فـإنه يبقى

Page 259

الجزء الثالث ٢٥٢ سورة هود محروما من الوصول إلى الحق.لذا يجب على من يبحث عن الحق أن يطهر قلبه من التعصب دائما ويتعود على البحث الصادق.وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارد الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلافُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) شرح الكلمات : طارد اسم الفاعل من طَرَده أي أبعَدَه (الأقرب) التفسير : بعد أن وصفهم نوحُ الله بما هم فيه من تعصب وعناد بدأ الآن بتبرئة ساحته مما اتهموه به فقال : إن العاقل لا يقوم بأي عمل إلا لهدف وغاية.فإذا كنت ما تزعمون- مفتريًا على الله تعالى فهل ترون أنني أكسب من هذا الكلام المفترى أي منفعة شخصية؟ إنكم تعلمون جيدا أنني لا أطالبكم بأي مقابل أو أجر على ما أدعوكم إليه، فما الداعي والحال هذه لأن أقوم بالافتراء أصلاً؟ ربما يقول هنا بعض المعترضين صحيح أن نوحا لم يطلب منهم أي مال، ولكنه كان يريد بذلك التسلط عليهم، وما أكثر ما يكذب الناس طمعا في الحكم! الواقع أن هذا الاعتراض باطل، لأن أنبياء الله عليهم السلام يكونون أكثر الناس عملاً بما يأمرون به وأسبَقَهم إلى ما يدعون إليه، إذن فلا يمكن أن تُعد حالتهم هذه حكما.وإذا كان لا بد من تسميتها حكومة فإنها حكومة خادم فقط، ولا يمكن أن يُعزى صاحبها إلى الجشع والطمع.وبعد أن برأ نفسه مما نُسب إليه أخذ في تبرئة ساحة أتباعه فقال: (أولا) إنهم ما داموا قد آمنوا بي في الظاهر فلا يحق لي أبدًا أن أطردهم بناء على الشبهات

Page 260

الجزء الثالث ٢٥٣ سورة هود والوساوس.وثانيا) ما دمت لا أطالب أحدًا بأي أجر، سواء عندي الثري والفقير، فلماذا أطردهم لفقرهم.إن الإيمان هو أهم شيء عندي وهم أهل الإيمان، وحيث إنهم يملكون أمرًا ذا قيمة في نظري فلا أقيم لقولكم وزنًا بأنهم أراذل القوم.كما عيّروه أيضًا بأن أتباعه صدّقوه بأفواههم لا ،بقلوبهم، فردّ عليهم: إنني لا أريد أجراً ، كذلك هم لا يتلقون مني مقابلاً على إيمانهم، فكيف يحق لي إذا أن أشك في إيمانهم هذا.إنهم ينشدون فضل الله، وهو عالم الغيب، وإنهم ماثلون أمامه في يوم من الأيام.فمن كان صادقًا في إيمانه ظفر بلقاء الله وقربه، ومن كان زائف الإيمان فأمره بيد الله الذي سيعامله معاملة ملائمة.فلا حاجة لي أن أقحم نفسي فيما بين منهم العبد وخالقه.والاعتراض الثالث الذي أثاروه عليه هو قولهم إننا لا نرى لكم علينا من فضل، بل نظنكم كاذبين، وأنكم لئام وأقزام فرد عليهم بقوله (وَلَكنّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ...أي أنكم لستم مستعدين لقبول الأمر الواقع إنكم تعرفون جيدا ما إذا كنت أنا وأصحابي من ذوي الأخلاق الفاضلة أم أننا من أهل الرذائل، وإنكم تعلمون يقينًا ما إذا كنا صادقين في حديثنا أم كاذبين، ولكنكم تخفون الحق وتتجاهلون الواقع بسبب العداوة والعناد.إنه لمن سنة الله المستمرة أن كل من اصطفاه الله نبيًا تكون حياته قبل دعواه حياة طاهرة تماما بعيدة عن الكذب والريبة، وليس نوح الله بمستثنى من هذه القاعدة الكلية، ولذلك فقد عرض على الكفار هذا الدليل نفسه قائلا: إنكم بأنفسكم شاهدون على صدقي وأمانتي قبل دعواي فلا شك أنكم ترمونني الآن بالكذب والافتراء ظلمًا وعداء.وقد أشار بقوله (إِنَّهُم مُلاقُو رَبِّهِمْ إلى أمر هام آخر، حيث قال: إنكم تزعمون أنه لا فضل لأتباعي عليكم، ولكني أحس برؤية وجوههم الوضاءة أنهم يزدادون باستمرار تقربا وحظوة لدى الله..أما أنتم فيما أنكم محرومون من المعرفة

Page 261

الجزء الثالث ٢٥٤ سورة هود من الروحانية فإنكم لا ترون أنوار الإيمان في وجوههم فتقولون وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا فَضْل، في حين أن الله لا يزال يشملهم بفضله ويشرفهم بقربه.وإذا لم تلمسوا آثار الفضل فيهم فالذنب ذنبكم أنتم.إن المخلوق الغبي لا يرى الفضل والشرف إلا في الأشياء المادية، ولكن أهل الله يرون الشرف الحقيقى فيما يراه الله فضلاً هو وشرفا.فكان نوح الا ينظر ويفرح بما يحققه أتباعه من قرب الله تعالى، ولكن الكفار كانوا ينظرون إلى طعامهم البسيط وأسمالهم البالية، وهذا البون الشاسع بين وجهتي النظر هاتين ما كان ليوصل إلى نتيجة واحدة، ولذلك نجد الفارق بين الرأيين كما بين السماء والأرض.فكان أحد الفريقين يراهم أراذل مهانين، بينما يراهم الفريق الآخر أشرافًا مكرمين.وقد يكون قول نوح (وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) دحضًا لزعمهم بأن أصحابك لم يؤمنوا بك إلا في الظاهر ، فأشار بقوله هذا إلى ما كان أصحابه يبذلونه من تضحيات جسام.ذلك أن تصديق النبي في بداية دعواه ليس بأمر هين، بل هو بمثابة القفز في النار.ولذلك نجده يوجه اللوم إلى الكفار ويقول: ألا ترون إلى ما يبذله أتباعي من ثمن باهظ لإيمانهم.فما أشدكم غباءً إذ ترون منهم هذا الثبات والصمود والفداء والإخلاص وتظنون أنه تظاهر كاذب وأنهم لم يؤمنوا إلا في الظاهر.وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ التفسير : يستمر نوح الله في ردّه على طعنهم في أصحابه ويقول: إن قصدكم من هذه المطاعن أن أطردهم عني، ولكن ألا تفكرون أنني لست بمسئول أمامكم، بل أنا مسئول أمام الله ، فكيف يمكن أن أثير سخطه علي بغية رضاكم.ألا ترون أنني لو طردتهم صرت ناكرا الجميل صنعه الله إلي صنعه الله إلي من أجل نصرتي، وبالتالي أثرتُ غضبه

Page 262

الجزء الثالث ٢٥٥ سورة هود وسخطه، وأنى لي بعد غضبه علي أن أؤدي هذه المسئولية الجسيمة العظيمة التي على عاتقي الضعيف.ألقاها ولا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَك وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُوْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٦) شرح الكلمات : ۳۲ تزدري از دراه احتقره واستخف به (الأقرب) التفسير : هنا يجيب نوح اللي على طعن الكفار بأسلوب آخر ويقول: إنكم تعترضون على كوني بشرًا مثلكم، ولكن الواقع أنه لا تعارض بين دعواي وبين كوني بشرًا، إذ ليس ضروريًا أن يكون الرسول مختلفًا عمّن أُرسل إليهم، بل يجب أن يكون مثلهم.فلو أنني ادعيت مثلاً بأن الله قد سلّم إلي ملكوته لجاز لكم الاعتراض عليّ قائلين: إنه لمن المستحيل أن يفوّض الله أمر ملكوته إلى بشر مثلنا، ولكني لا أدعي ذلك أبدا، بل كل ما أقوله هو أن الله تعالى قد أنعم علي واتخذني وسيلةً للكشف عمّا يريد كشفه لعباده من علم الغيب.ويستطرد نوح الله في رده على ما رموا به أتباعه قائلاً: إنكم تحكمون عليهم وفق حالتهم التي ترونهم عليها الآن من فقر وبؤس، ولكن من ذا الذي يعلم ما يخفيه لهم المستقبل.أنا لا أدعي علم الغيب، ولا أجزم بما سيؤتيهم ويوفيهم الله تعالى من خير.وهذا تأكيد لطيف منه على خير الجزاء الذي سيؤتيهم الله، كما أنه يحمل طابع تعريض لاذع بالكفار المعاندين.

Page 263

الجزء الثالث ٢٥٦ سورة هود الظاهري، مع وفي الآية نفسها يوضح نوح مراده فيقول: تحكمون عليهم بالرذالة لمجرد بؤسهم أن الفقر الظاهري لا يجعل صاحبه رذيلاً، وإنما هو فساد القلب الذي يجعل صاحبه رذيلاً وبعيدا عن رحمة الله.وما دام الله هو العليم بذات الصدور فهو الذي سيحكم بيننا فيما بعد، فإذا كان هؤلاء الناس طيبي النفوس في نظره ، فلا شك في أنه سيجزيهم على خدماتهم وتضحياتهم خير الجزاء.ول، وقوله إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) جاء لينبههم إلى أن من يزعم لنفسه ما لا يستحقه فعلاً يسحقه الله سحقا؛ أو أن من يحكم على غيره بدون حق فهو ظالم.وأنا لا أدعي لنفسي بما لا حق لي فيه، كما أنني لا أتجاسر على أن أحكم على أتباعي بخلاف ما يُظهرونه من أعمال وتصرفات.إلى هذه الدرجة يرتدع ويتورع الأنبياء من الحكم على الآخرين بخلاف ما يظهر منهم، ولكن الأسف كل الأسف أن الناس عامةً جريئون جدا على أن يحكموا على غيرهم بفتاوى خطيرة عند كل صغيرة وكبيرة في حين كان الأجدر بهم أن يكونوا أكثر خوفًا وأشد حذرًا.مع العلم أن الظلم معناه أخذ الحق من صاحبه ووضعه في يد من لا يستحقه.فالمراد من قول نوح اللة هنا : أنني لو ادعيت بأنني أملك الخزائن وأطلع على الغيب وأشارك في ملكوت السماء والأرض، لعزوت لنفسي ما هو ملك لله وحده جل شأنه، وإذا زعمتُ بأنه لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا كنتُ هاضما لحقوق المؤمنين، وفي كلتا الصورتين سأصبح حتما من الظالمين.قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ منَ الصَّادِقِينَ (7)

Page 264

الجزء الثالث ٢٥٧ سورة هود التفسير: كان نوح الة قد أشار فيما سبق إلى انتصار المؤمنين وازدهارهم، ولما كان انتصارهم هذا يتوقف على هلاك الأعداء، الذي سيمهد الطريق لرقيهم ، لذلك أدرك هؤلاء الكفار على الفور أنه يتوعدهم بالهلاك، فقالوا له: حسنا، دعنا من هذه النقاشات، وأخبرنا صراحة متى موعد هلاكنا الذي تهدّدنا به إن كنت من الصادقين.قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم به اللهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ) ٣٤ التفسير: فأجابهم نوح القائلاً: الآن فهمتم قولي وأدركتم قصدي ومرادي، ولكني لا أملك في أمر العذاب أي خيار أبدًا هذه الآية تبين لنا ثلاثا من سنن الله تعالى فيما يتعلق بالأنباء الإلهية عن العذاب.أولاها: أن موعد تحقق الأنباء الوعيدية يبقى على العموم خافيًا.أن وثانيتها: أنه يمكن إلغاء الوعيد كلية، وذلك بدليل قول الله إن شاء بمعنى نبأ العذاب -رغم الإعلان عنه - يمكن إلغاؤه أصلاً.وثالثتها: أنه بالرغم من إلغاء الأنباء الفرعية إلا أنه من المستحيل أن يلغى النبأ الأساسي والجوهري وهو أن رُسل الله وأتباعه هم الغالبون في آخر المطاف حتما، ومن أجل ذلك قال (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) : أي سواء أتاكم الله بالعذاب أم لا، إلا أنكم لن تعجزوه عما يريد، فالمؤمنون هم الغالبون في آخر الأمر حتمًا.وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُعْوِيكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (ال) ۳۵

Page 265

الجزء الثالث شرح الكلمات: ٢٥٨ سورة هود نصحي: نَصَحَه ونَصَحَ له نَصحًا و نُصحًا ونصاحَةً ونصاحيةً: وَعَظَه وأخلص له المودة، وهو باللام أفصَحُ (الأقرب).يغويكم: غوى يغوي غيَّا: ضلَّ وخاب والهمك في الجهل؛ هَلَكَ.وغَوِيَ غَوايةً: ضل.وأغواه: أضله (الأقرب).التفسير: يقول لهم نوح ال: إنني أتمنى لكم الهدى وأخلص لكم المحبة، ولكن لله أكثر وأشد من نصحي لكم ومحبي إياكم، فإذا كان الله يرى الخير في هلاككم فإنني راض بما يرضى هو جل شأنه.إن هذه الآية تدحض بكل وضوح وصراحة الزعم بأن نوحا ال تسرع في الدعاء على قومه بالهلاك، إذ إنه لم يدعُ عليهم من تلقاء نفسه، بل إن الله تعالى هو الذي أمره بذلك، وإنه يعلن لهم هنا صراحة بأنني لا أملك أي خيار إذا كان الله يريد أن يهلككم.ثم إنه دفع عن الله تعالى أيضا أي اعتراض وعيب فقال: هُوَ رَبُّكُمْ أي ما دام خالقكم الذي يربيكم قد قضى بهلاككم فلا شك أن هذا هو خير لكم لكم ولمن سواكم.أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِحْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (2) شرح الكلمات : إجرامي: أَجْرَمَ : أَذنب؛ عظم جرمه (الأقرب) التفسير : هذه الآية أيضًا استمرار لحديث نوح مع قومه ولا تتحدث عن النبي

Page 266

الجزء الثالث ٢٥٩ سورة هود محمد.وهناك فرق واحد هو أن الخطاب من قبل كان موجها من نوح إلى قومه، وأما هنا فمن الله إلى نوح، حيث أمره أن يردّ عليهم بقوله: إن كنت كاذبًا كما تزعمون بأنني أفتري هذا الكلام من عند نفسي فلا شك أن هذه جريمة كبرى سأعاقب عليها حتمًا، فلا داعي لقلقكم وهلعكم.أما إذا كنت صادقا في دعواي فاعلموا أن تكفيركم إياي معصية كبرى ستعاقبون عليها دونما شك، ولا خوف على من ذلك.وبقوله (وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُحْرَمُونَ) قدّم لهم جوابًا لطيفا آخر على تهمة الافتراء حيث قال: ألا ترون أنني متره تماما عن كلّ ما أنتم فيه من معاص وجرائم، فكيف تستسيغون إذا اتهامي بأنني أتجاسر على كبرى الجرائم وهي الافتراء على الله.إن العقل السليم لا يُقرّ ذلك أبدًا.فلا شك في أنّ التهمة التي ترمونني بها باطلة تمامًا.° أن هذه لقد طعن القسيس "ويري" في هذه الآية حين قال: لقد أخطأ من زعم الآية تتحدث عن نوح، بل الواقع أن محمدا كان يختلق القرآن من عند نفسه والعياذ بالله مفتريًا على الله، وكان قد نسي هنا ما إذا كان يتحدّث عن نوح أم عن نفسه، ولذلك قال على الفور أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ متداركا خطأه ونسيانه (تفسير ويري ).الحق أن المعنى الأصح للآية هو ما سبق أن ذكرته آنفًا، ولكن بعد اطلاعي على طعن القسيس أرى أنها تتحدث أيضا عن رسول الله ﷺ حيث دحض الله بها مزاعم القسيس ومن على شاكلته.ذلك أنه سبق أن زعم القسيس عن قوله تعالى ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنَكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بمَا فِي أَنفُسهمْ إِنِّي إِذًا لَّمنَ الظَّالِمِينَ ( ) أن نوحا لم يتعرض لمثل هذه الاعتراضات، وإنما الواقع أن محمدا يدافع عن نفسه بلسان نوح ليوهم القوم أن هذه الاعتراضات ليست بدءًا من كفّار مكة، بل لم يزل الناس يثيرونها ضد أنبيائهم.فكأن القسيس الهم سيدنا محمدا بافتراء هذا الكلام من عند

Page 267

٢٦٠ سورة هود الجزء الثالث نفسه.فأرى أنه من الممكن تماما أن يكون الله الذي هو عالم الغيب قد جاء بهذه الآية كجملة معترضة هنا تفنيدا لهذه الأفكار المريضة من القسيس وأمثاله، منبيًّا رسوله بأنه سيأتي يا محمد في المستقبل قوم سيطعنون في أحداث الماضي هذه، زاعمين بأن نوحا لم يقل هذا، وإنما افتراه محمد من عنده، فعليك أن ترد عليهم بأنني لو كنت مفتريًا فسوف يعاقبني الله على الافتراء لا محالة ولن أنجو من عذابه أبدًا.وليعلم القسيس أن هذا الذي يعدّه مفتريًا على الله قد صار غالبًا على أعدائه، ولكن الذي يتخذه القسيس وأمثاله ابنا لله سبحانه قد نجح الأعداء في تعليقه على الصليب! فهل يعامل الله المفترين بما عامل به محمدا ؟! ثم إن صدق النبي ﷺ متحقق أيما تحقق أيضا بكونه مبرا طاهرًا من كل ما قد تلطخ به قومه من أرجاس وعيوب ومعاص.وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَيس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ شرح الكلمات : ۳۷ لا تَبْتَئِس : ابْتَأَسَ : كَرَه وحَزِنَ لا تبتئس أي لا تحزن ولا تشتك (الأقرب) التفسير : هذه الآية أيضا تؤكد بكل وضوح وجلاء أن دعاء نوح لقومه، سواء أكان دعاء خير أم دعاء شر، إنما كان بأمر من عند الله تعالى، لا من عند نفسه، لأنه تعالى يأمره هنا فَلا تَبْتَئس بمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)، مما يؤكد أنه لم يكن قد يئس من إيمان قومه إلى حين نزول هذا الأمر الإلهي، بل كان قلقا على حالتهم بسبب عدم إيمانهم.فلو اعتبرنا دعاءه رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (نوح:۲۷)

Page 268

الجزء الثالث دعاءً ٢٦١ سورة هود عليهم، لوجب علينا أن نرى ما إذا كان هذا الدعاء قد صدر عنه قبل أم بعد نزول الآية التي نحن بصدد تفسيرها؟ فإذا كان قد دعا به بعد نزولها، فلن يُعتبر دعاء شر، بل إنه كان تعبيرا عن استسلامه لقضاء الله فيهم، لأنه تعالى إذا كان قد قرر تدميرهم من قبل، فما كان نوح بحاجة للدعاء لهلاكهم.أما إذا قيل بأنه قد دعا به قبل هذا القضاء الإلهي فلا يبدو هذا قولاً صائبا، لأنه لو كان قد دعا لهلاكهم قبل صدور هذا القضاء فكيف قيل له فَلا تَبْتَئس بمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ.كيف يمكن أن يصاب بالقلق والهم على سماع هلاك قوم كان يدعو من قبل لهلاكهم، بل يجب أن يسره الخبر؟ فالواقع أن القضاء السماوي لهلاكهم كان أسبق زمنا من دعائه هذا، وأن دعاءه ليس دعاء شر وإنما هو بمثابة تعبيره عن قبوله قضاء الله وانقياده لقرار السماء.وكأنه يقول: يا رب ما دمت قد قضيت بهلاكهم فأهلكهم، فأنا راض ومستسلم لقضائك.أما إذا كان أحد يصرّ على اعتباره دعاء شر فليعلم أن نوحا الله لم يدع به من عند تلقاء نفسه بل بأمر الله ، ومثل هذا الدعاء لا يمس بشأن الأنبياء، لأنه إذا أخبر من العليم الخبير بمصير تعيس لقوم فالدعاء بحرمانهم من الهدى لا يمثل إلا بيانًا للواقع والحقيقة.هو ولو قيل: ما دام الله قد قرر هلاكهم فما الداعي لأن يدعو بهذا الدعاء؟ فالجواب أن النبي رغم تلقيه خبر عذاب قومه، لا يزال يشفع عند الله لهم نظرا إلى رحمة الله يلغي وعيده بالعذاب.وهذا ما فعل نوح ال، إذ لم يبرح يتوسل أن الواسعة، عسى إلى الله تعالى طالبًا لهم الرحمة إلى أن أدرك أن تأخير العذاب أكثر من ذلك ضار بمصالح الدين، وإذاك دعا ربه قائلاً : فليكن الآن، يارب، ما قررت وقضيت.

Page 269

الجزء الثالث ٢٦٢ سورة هود وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ۳۸ شرح الكلمات : الفلك: السفينة يذكر ويؤنث.(الأقرب) أعيننا: الأعين جمع عين وهي كلمة كثيرة المعاني ومنها: الباصرة؛ وتُطلق على الحدقة؛ أهل البلد؛ أهلُ الدّار ؛ الإصابة في العين، يقال به عين (أي مرض في عينه)؛ الدَيْدَبان (أي الرسول)؛ الجاسوس الجماعةُ ؛ حاسة البصر؛ الحاضر من كلّ شيء؛ خيار الشيء ؛ الدِّينارُ ؛ نفس الشيء وذاته؛ النقد الحاضر ؛ السيد؛ الشمس أو شعاعها؛ العتيد من المال؛ مطرُ أيام لا يقلع الينبوع.أنت على عيني: أي في الإكرام والحفظ (الأقرب).فلان بعيني: أي أحفظه وأراعيه.قال: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا، وقال: ﴿وَاصْنَع الْفُلْكَ بأعيننا أي بحيث نرى ونحفظ، ومنه: عين الله عليك: أي كنت في حفظ الله.(المفردات) التفسير: عندما أخبر الله نوحا بهلاك قومه أمره أيضا أن سفينة مستعينًا يصنع بأتباعه أو أهل بيته.لقد ذكرنا آنفًا أن من معاني العين أهل الدار ، ولا يكون من أهل دار النبي أقاربه فقط، بل إن أتباعه أيضًا يُعتبرون أهل داره، لأن كل قرابة له تأخذ طابعا روحانيا، فلا يُعد من عشيرته المادية قريبًا له إلا الذي يؤمن برسالته ويبقى على صلة روحانية به ، ولذلك فسرنا قوله تعالى بأعيننا بمعنى أقاربنا وأتباعنا.مع العلم أن قوله تعالى بأعيننا) بمعنى أهل دارنا لا يعني أن الله تعالى دارا ماديةً، أيضًا يصبحون من بل قد نسبهم الله تعالى إلى نفسه لأن المخلصين من أتباع النبي هم أحباء الله تعالى.ونظيره قوله تعالى ( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر :

Page 270

الجزء الثالث ٢٦٣ سورة هود ۳۱-۳۰ ).فالمراد من أهل دار الله تعالى من يستحقون جنته.وقد استخدم هذا التعبير ليلهمهم مزيدا من السكينة والسلوان لدى اقتراب فاجعة العذاب.وقوله تعالى بأعيننا قد يعني أيضا أن اصنع السفينة وعين الله تكلوك وترعاك بطرق شتى، لأن من معاني (العين) الحفاظة والإكرام أيضًا.فالمعنى أنك سوف تتعرض أثناء صنعك السفينة لأنواع السخرية والازدراء من قبل القوم، فلا تكترث بما يصنعون، لأننا سوف نحفظك ونكرمك.وأرى أن قوله تعالى بأَعْيُنَنَا وَوَحْيَنَا إشارة إلى سفينتين: سفينة مادية كانت تصنع بمساعدة المؤمنين، وسفينة روحانية تصنع بالتقوى التي تنجي صاحبها من العذاب.أما قوله تعالى (وَلا تُخَاطِبْني فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فهو دليل آخر على أن نوحا ال لم يدعُ عليهم قبل صدور القرار السماوي بعذابهم، لأنه إذا كان يدعو عليهم قبل ذلك أيضًا فلماذا يخاطبه الله بقوله: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَةٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْحَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْحَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْحَرُونَ شرح الكلمات : نسخر من أساليب اللغة العربية أنهم يستخدمون الفعل نفسه كجزاء عليه.وقد اتبع القرآن هذا الأسلوب في عدة مواضع منه كقوله تعالى ﴿وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مَثْلَهَا (الشورى: ٤١)، وقوله فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة: ١٩٥).والظاهر أن الجزاء على العدوان لا يُعدّ عدوانًا، وإنما العدوان أن يعاقب المعتدي بأكثر مما يستحقه من العقاب.كذلك قال الشاعر : وداووا بالجنون من الجنون (ديوان

Page 271

الجزء الثالث ٢٦٤ سورة هود الحماسة).فقد أطلق الجنون على جزاء العمل الجنوني.وهكذا قال نوح الله إن تَسْحَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ هم فيه التفسير: كلما بعث الله رسولاً قابله أهل الدنيا بالسخرية والاستخفاف، وبما أنه يعرض على الدنيا ما لا تكون أفهامهم جاهزة بعد لإدراكه واستيعابه، لذا يجد الأشرار فرصة سانحة للازدراء به أكثر فأكثر.ولكن هؤلاء الحمقى لا يفكرون أن غاية بعثته لا بد أن تكون أسمى من إدراك العقل البشري عندئذ، وإلا لما كانت هناك حاجة لإرساله.ذلك أن الرسل لا يُبعثون إلا عند فشل الناس في التحرر مما من محن وخطوب بما تمليه عليهم أفهامهم من حلول قياسًا بالظروف المحيطة بهم، بل إنها تقربهم إلى هذا الهلاك أكثر فأكثر.فيبعث الله رسله ليأخذوا بأيديهم ويرشدوهم إلى الصواب.ولكن بما أن وصفتهم العلاجية تكون غريبة على القوم ولا عهد لهم بها، فإنهم يعتبرونها خاطئةً بطبيعة الحال، مما يتيح الفرصة لأعداء الحق أن يثيروا الطعن والسخرية.ولكن ماذا تكون النتيجة يا ترى؟ إن أنبياء الله وأتباعهم لا بد أن يخرجوا من ساحة الحرب منتصرين بينما يصبح أعداؤهم في عداد الأغبياء المهزومين إلى الأبد.٤٠ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُحْزِيهِ وَيَحلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ شرح الكلمات : يُخزي: أخزاه: أوقعه في الخزي وأهانه أخزى الله فلانا: فَضَحَه (الأقرب) يحلّ: حل عليه الأمر: وَجَبَ (الأقرب) التفسير: قوله تعالى عَذَابٌ يُخْزِيهِ...اعلم أن العذاب صنوف وألوان، فمنه ما

Page 272

الجزء الثالث ٢٦٥ سورة هود يجعل الآخرين ينظرون إلى من حل به العذاب نظرة رحمة وشفقة، فمثلا عندما ينهدم بيت أحد يعامله الناس بالرحمة ويواسونه، ولا يسبب هذا النوع من العذاب أي خزي ولا هوان لصاحبه ولكن من العذاب ما يجلب لصاحبه الذل والهوان أيضا، كأن أحد ينكشف خداع بين الناس، ففيه عذاب وافتضاح أيضا، أو كأن يُجعل عبرةً للآخرين، ومثاله ما حل بقوم نوح حيث لا تنفك تلك الكارثة الهائلة ماثلة في العالم كعبرة ثابتة.أذهان وأشار بقوله عَذَابٌ مُّقيمٌ إلى أنه سيكون من العذاب الذي يصيبكم في الدنيا، كما ستذوقونه في الآخرة أيضا.وكأنما يقول: إنما العذاب الحقيقي ما يجلب لصاحبه الذلة الأبدية التي لا تنمحي آثارها بل تلازمه وتهملكه فلا ضير من استهزائكم بنا لأنه شيء عابر ولا يسبب لنا خزيًا ولا عارًا حقيقيًا، ولكن يجب أن يخاف ويقلق من سيصيبه عذاب باق وخزي أبدي.حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ٤١ شرح الكلمات: فَارَ جاش؛ فارت القدر: جاشت وغلت فار الماء: نبع من الأرض وجرى (الأقرب) التنور : المكانُ الذي يُخبز فيه؛ كل مفجر ماء؛ محفلُ (أي مجتمع) ماء الوادي (الأقرب).وقال صاحب تفسير البحر المحيط: "هو مجاز، والمراد غلبة الماء وظهور

Page 273

الجزء الثالث ٢٦٦ سورة هود العذاب، كما قال لشدة الحرب: حَمِي الوطيس.والوطيس أيضا مستوقد النار، فلا فرق بين حمي وفار إذ يُستعملان في النار، قال الله تعالى: سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، كما لا فرق بين الوطيس والتنور".زوجين: الزوج: كلُّ واحد ومعه آخر من جنسه (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى احْمِلْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ : خُذ معك في السفينة من كل حيوان لا بد من حمله زوجين اثنين أي الذكر والأنثى.التفسير: استمر الأعداء في النقاش والجدال والسخرية من جانبهم، وتمسك نوح الة بأهداب الصبر، متوكلاً على نصرة الله، إلى أن تفجرت الينابيع بالماء وجرت المياه على وجه الأرض.مع العلم أن الطوفان لم يأت بسبب انفجار العيون الأرضية وحدها، بل كانت الأمطار الغزيرة هي المصدر الحقيقي لمياه الفيضان، كما صرح القرآن بذلك في عدة أماكن منه.لقد نزلت الأمطار بكثرة وغزارة قبل العذاب بحيث غطت المياه كل مكان، وكما يحدث إبان هطول الأمطار بكثرة فإن العيون الأرضية أيضا تفجرت بالمياه ،بغزارة وهذه المياه السماوية والأرضية تسببت معًا في دمار أهل المنطقة.فقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمر وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) (القمر: ۱۲ - ۱۳)، وبقوله تعالى (يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي) (هود: ٤٥).وهذه ظاهرة طبيعية تشاهد بكثرة، لأن هطول الأمطار الغزيرة يتسبب في فوران العيون الأرضية بكثرة، ولاسيما في المناطق الجبلية، حيث يجرى الماء في العيون نتيجة ذوبان الثلوج المتراكمة على أعالي الجبال، وإن نزول الأمطار يزيد الثلوج ذوبانًا، وبالتالي يؤدي إلى زيادة المياه الأرضية.والثابت من القرآن الكريم أن نوح ال كان يسكن في منطقة جبلية، فقد ذكر القرآن بعد هذه الآية بآيتين قولاً لابن نوح سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ مما يوضح ويؤكد أن موطنهم كان واديًا بين الجبال، وإلا فكيف فكر ابنه في اللجوء إلى جبل من الجبال؟ فهل يجري ويصعد جبلا يقع الْمَاء مما

Page 274

الجزء الثالث ٢٦٧ سورة هود على بعد مائة أو مائتي ميل؟ فقوله هذا دليل على أنه كان واقفا بسفح جبل، وعندما رأى ارتفاع المياه ظن أنه سينجو منها بسهولة بالصعود على الجبل.وأما قوله تعالى (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا من كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فليس المراد منه كُلُّ الأحياء الموجودة على الأرض، بل فقط الحيوانات التي كان يربيها نوح في بيته.ذلك أن كلمة (كُلِّ) تعني عادة فقط ما يملكه الناس عموما، وليس كل موجود على الأرض.مثلاً يصف القرآن الكريم ملكة سبأ بقوله (وَأُوتيت من كُلِّ شَيْءٍ (النمل: ٢٤)، ولكن نجد سليمان ال يرد على رسلها بأنكم لا تملكون شيئا بالمقارنة بما أعطاني الله، وسوف ترون كيف آتيكم بجنود لا قبل لكم بها.فلو كانت كلمة (كُلِّ) تعني كل ما في الأرض للزم أن تكون الملكة تملك ما في حوزة سليمان أيضا، ولكن لا أحد يأخذ بهذا المعنى هناك، بل يفسرونها بأن كل ما كانت بحاجة إليه كان متيسرا لديها.(روح المعاني).وهذا هو المراد هنا بمعنى أن الله تعالى أمر نوحا أن يأخذ معه في السفينة زوجين من كل حيوان كان بحاجة إليه.وهذا المعنى معقول ومنطقي جدا، وإلا نضطر للقول غير المعقول بأنه حشد فيها ملايين الحيوانات من الدواجن وحشرات الأرض ووحوش الغاب ،وغيرها، وأن ضخامة سفينته كانت تساوي ربع الكرة الأرضية تقريبا !! ومما يلفت النظر أنه تعالى قد حنّه على أخذ أقل ما يمكن وذلك بدليل قوله تعالى: زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) مما يؤكد أنه أمر أن يأخذ معه ما لا بد له منه، لا أن يحشد فيها كل حيوانات العالم.وقوله تعالى: إلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لا يعني إلا من أخبرناك صراحة بهلاكه، بل المراد إلا من هو هالك وفق قضائنا وقرارنا.لقد حسب نوح ولم يدرك أنه تعالى يخبره بذلك عن هلاك بعض من أهله ومثال التعبير عن الغنى الإلهي هو قول شعيب لقومه الكافرين وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ خطأ أن قول الله هذا إنما هو تعبير عن عظيم استغنائه فحسب،

Page 275

الجزء الثالث ٢٦٨ سورة هود ربنا (الأعراف: (۹۰) مع العلم أن المراد من نَّعُودَ فيها أي نعود في ملتكم الكافرة.والبديهي هنا أن الله تعالى لا يريد لنبيه أبدًا أن يرتد إلى ملة الكافرين أو يشرك فلا شك أن قوله إلا أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا إنما يقصد جبروت الله وغناه عن العالمين، وأن قدرته غير محدودة، وليس أنه يمكن أن يأمر نبيه بالارتداد.٤٢ وقَالَ ارْكبوا فيها بسم الله مَحْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بهم في مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِل يَا بُنَيَّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) شرح الكلمات : ٤٣ - مجريها أصله مجراها والمجرى إما مصدر من جرى يجري مجرى، أو اسم ظرف أي مكان جريانها أو موعد جريانها.مرساها : مصدر ميمي من أرسى يرسي إرساء.ورست السفينة: وقفت على الأنجر، والمرسى مكان وقوف السفن (الأقرب).وفي قراءة مجريها ومُرسيها..أي الرازي) بسم الله الذي هو مجريها ومرسيها (تفسير مَعزِل: عزل الشيء عن غيره، يعزِل عَزَلاً: نحاه عنه جانبًا.وعزل فلانًا عن منصب أو نحوه رفعه عنه وعزل تنحى.ويقال : هو عن الحق بمعزل أي مجانب له.(الأقرب) التفسير: لقد اختلف المفسرون فيما إذا كان هذا ابنا حقيقيا لنوح أم لا.فيرى

Page 276

الجزء الثالث ٢٦٩ سورة هود البعض أنه لم يكن ابنا له بل من أقاربه، بينما يرى الآخرون أنه ربيبه من زوجته ولم يكن من صلبه ولكن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة -رضوان الله عليهم- والضحاك وابن جبير ومعظم المفسرين قالوا: إنه ابنه (البحر المحيط).وأرى أنه لا داعي لمثل هذا النقاش.ما دام القرآن يسميه ابنا لنوح، وما دام ناداه هو نفسه بقوله (يَا بُنَيَّ)، ثم ليست هناك آية أخرى تخالف كونه ابنا، فلا بد أن يكون منه من القرابة بحيث يطلق عليه اسم الابن.لقد اعترض المستشرقون على ما ذكره القرآن عن ابن نوح وقالوا بأن بيان القرآن مخالف لما ورد في التوراة! (تفسير ويري) وإنه لمما يبعث على العجب والحيرة أن يعترض هؤلاء على القرآن الكريم بناء على ما ورد في التوراة بالرغم مما هي عليه من النقائص والعيوب قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أمر الله إلا مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ () شرح الكلمات : سآوي: أوَى منزله وإلى منزله نزل به ليلاً أو نهارا (الأقرب) ٤٤ يعصمني : عصم يعصم عصما الشيء: ء: مَنَعه.عصم الله فلانًا من المكروه: حفظه ووقاه (الأقرب) تدل على التفسير: يبدو من هذه الآية أيضا أن نوحا اللي كان يقطن في منطقة محاطة بالجبال، ومن أجل ذلك يقول ابنه: سآوي إلى جبل.فإن كلمة (جَبَلٍ) وجود أكثر من جبل هناك.يبدو أن المنطقة كانت واديًا محاطًا بسلسلة من الجبال،

Page 277

الجزء الثالث ۲۷۰ سورة هود وإن ارتفاع المياه في مثل هذا المكان ارتفاعًا غير عادي ليس مما يخالف العقل والمنطق.هذا ويتضح من الآية أن الأحمق لا ينفك مغمض العين عن الحقائق حتى إلى آخر لحظة، فكان ابنه يرى الطوفان قادمًا ومع ذلك لم يزل يشك في رسالة أبيه.وقوله إلا مَن رَّحِمَ يعني أنه لا مُنقذ من الطوفان اليوم إلا الله، ولن ينجو منه إلا من تداركته رحمته تعالى.وفي قوله تعالى (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ إشارة لطيفة بأنه ول كان قد حفظ نوحًا من أن يتألم برؤية مشهد غرق ابنه، فجعل بينهما حجابًا من موج مرتفع حين غرقه.وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءِ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) وَنَادَى لوح ربِّه فَقَالَ رَبِّ إِنَّ أبنى منْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ابْنِي الحاكمينَ ) شرح الكلمات : ابلعي: بلعه يبلعه وابتلعه: أنزله من حلقومه إلى جوفه و لم يمضغه (الأقرب) أقلعي: أقلع عن الأمر: كف (الأقرب).غيض: غاضَ الماء: نقص أو غار وذهب في الأرض.وغاضَ الماء: إذا نقصَهُ (الأقرب).استوت استوى على ظهر دابته: استقر (الأقرب).بُعدًا : بعد يبعدُ بُعدًا: ضدُّ قَرُبَ؛ مات (الأقرب).

Page 278

الجزء الثالث ۲۷۱ سورة هود التفسير: ما أشد الأنبياء توقيرًا وتعظيما لله.لقد ارتكب نوح اللي خطأ اجتهاديا في فهم كلام الله تعالى حيث ظنّ أن كل فرد من أهله سوف يظفر بالنجاة، ولكن حينما أوشك ابنه على الغرق تضرّع نوح إلى ربه بأسلوب غاية في اللطف والشفافية قائلاً: "إنَّ ابني منْ أَهْلي"..أي أنني أتوسل إليك أن تنجيه وفق ما وعدتني به ولكن لما كانت الظروف الظاهرة تقضى بعدم نجاته قال (وَإِنْ وَعْدَكَ الْحَقُّ...أي لو غرق فلن يقدح ذلك في وعدك، بل سيبقى وعدك حقا كما هو ويكون قرارك صائبًا في كل حال.والواقع أنه لا يتحلى بهذا الأدب الجم والإيمان القوي خصوصا في أوقات الصدمات الرهيبة إلا عباد الله المقربون من الطراز الأول..قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ٤٧ التفسير : ما أبلَغَهُ من كلام حيث ذكرت الحقيقة في كلمات موجزة للغاية.يقول عزّ من قائل: إننا لم نقصد بكلمة أَهْلك كل من في بيتك، وإنما قصدنا المؤمنين فقط، لأن أهلك الحقيقيين من هم على صلة بالله و وقوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ يمكن تفسيره بطريقين؛ الأول: أن يكون ضمير الغائب في (إنه) راجعا إلى دعاء قام به نوح والمعنى: أن دعاءك هذا يا نوح ليس عملاً صالحا إذ ليس في محله، لأن الصالح من الأعمال ما يكون ملائما للموقف.لقد أن أعلنا قضاءنا، فلا جدوى من هذا الدعاء وقد حان العذاب.والثاني: أن يكون الضمير عائدًا على ابنه، وتكون كلمة (عمل) بمعنى عامل، أو سبق

Page 279

۲۷۲ سورة هود الجزء الثالث يكون هناك محذوف والتقدير: إنه ذو عمل غير صالح، والمعنى: أن ابنك ليس من أهلك لأنه لم يزل يعمل عملاً غير صالح أي كان يرتكب أعمالاً غير صالحة منافية للتقوى.وكلا التقديرين جائز وفق القواعد العربية، لأن المصدر يقع أحيانًا بمعنى الفاعل للمبالغة، كقول الشاعر عن ناقته: ترتعُ مَا غَفَلَتْ، حتى إذا اذكَرَتْ فإنَّما هي إقبال وإدبار (لسان العرب) أي عندما تذكر فصيلها فإنها لا تبرح مقبلة ومدبرة دون انقطاع.ويعني قوله تعالى (إنِّي أَعظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهلين..أنت حامل أمانة كلام الله تعالى، فعليك أن تكون أكثر حذرًا في المستقبل وتتدبر في كل جانب محتمل من کكلامه.وكأن ما حصل في النبأ من إجمال وغموض كان بهدف أن يجعله الله عبرةً لنوح في المستقبل، حيث قال له: عليك أن تتلقن درسًا مما حصل منك من خطأ اجتهادي في فهم الوحي، وتتذكر دائما أن الأنباء السماوية تحتمل أكثر من مدلول ولا يُفهم تأويلها الحقيقي إلا عند تحققها.وأما قوله تعالى (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فيمكن تفسيره بمفهومين: الأول: أن لا تطلب من الله تعالى ما ليس لك علم بماله وعاقبته.إن هذا الأمر من الأهمية والخطورة بمكان إذ إن الجهل به يؤدي إلى أضرار كثيرة بالناس.إن الإنسان ليس بعالم الغيب، فلا يستطيع أن يدرك ما إذا كان ما يطلبه من الله هو خير له أم شر، مبارك أم غير مبارك، لذلك يجب على من يدعو الله دعاء أن يأخذ هذا الأمر في اعتباره دومًا عند الدعاء، فيبتهل إلى أن ربه يمنحه الشيء ما دام خيرا له، وإلا فليصرفه عنه.ولقد عمل النبي بهذه الحكمة دائمًا، كما حث أصحابه على ذلك، فقد كان يأمرهم أنه إذا هم أحدهم بأمر فليقل: "اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه.وإن كنت تعلم

Page 280

الجزء الثالث ۲۷۳ سورة هود أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أَرْضني به" (البخاري، التهجد).ما أكمله وأشمله من دعاء! فإنه يوضح تماما أن ما يحسبه الإنسان خيرا قد لا يكون خيرًا بالضرورة، بل لعله يكون شراً في علم الله الذي عنده الغيب.فينبغي أن لا يسأل الإنسان ربه قائلاً: أعطني كذا وجُدْ علي بذاك، وإنما عليه أن يتوسل إليه أن يعطيه الشيء إذا كان خيراً له عاقبة ومآلاً، وإلا فليصرفه عنه.نعم، إذا كان الإنسان يعلم علم اليقين أن الشيء الذي يطلبه هو خيرٌ له دونما شك فيمكن أن يسأل الله إياه صراحة.فمثلاً لا ضير أن يسأل ربه أن يهب له رضوانه ولقاءه، ويؤتيه حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة، لأنها كلها خير وبركة.ولكن يجب أخذ الحيطة والحذر دائما فيما لا يعلم الإنسان بماله ونتائجه.وكان دعاء نوح ال - وإن تم تلميحا وإشارةً بأن يركب ابنه السفينة معه أيضًا من الأمور التي لا يعرف عقباها ، بل كان أغلب الظن أنه لو نجا معهم لأساء إلى الدين لما تعود عليه من المعاصي، وتسبب في ضعفه بدلاً من إعلاء كلمته، ولذلك كان هلاكه هو القرار الصائب الملائم.والثاني: إذا اعتبرنا كلمة فَلا تَسْأَلْن بمعناها العادي أي السؤال لا بمعنى الدعاء فالمراد من الآية: ينبغي للمرء أن لا يسأل إلا عن أمور يزيده الجواب عنها علما و معرفةً، ويكون إدراك حقيقتها في مقدرته.أما دقائق الحكم ولطائف الأمور التي عليها مدار النواميس الطبيعية والتي لا تنحصر في حادث أو حادثين وإنما تتعلق بملايين الأحداث التي وقعت بعضها قبل ملايين السنين أو سيقع بعضها في المستقبل..فالسؤال عن مثل هذه الأمور ليس إلا عبثا ،ولغوا لأن إدراكها بشكل كامل ليس بوسع العقل البشري، إذ لم يؤت القدرة على استيعابها.فقوله تعالى ﴿فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعني إذًا: لا تسأل عن أمور لا طاقة لك بإدراكها، أو التي جعلت خارج نطاق علمك وليس المراد أن لا تسأل عما لا تعلمه، ذلك أن الإنسان إنما

Page 281

الجزء الثالث ٢٧٤ سورة هود يسأل عن الشيء ما دام يجهله، وأما ما يعلمه فلا حاجة له بالسؤال عنه..وأيّ شك في أنه لا يليق بالمرء أن يسأل عن أمور هي أسمى من أن يدركها عقله، أو هي مما لا أن تنكشف له تفاصيلها.ينبغي ويبدو من قوله تعالى ﴿إِنَّهُ عَمَل غَيْرُ صَالِحٍ أن أعمال الابن كانت خافية على أبيه، فنهاه الله عن السؤال كيلا يُهتك ستر ابنه ويُفتضح أمره، لأن الجواب عليه كان يتطلب الكشف عن عيوبه ومعاصيه كشفًا تفصيليا، فأوجز الجواب قائلاً (إِنِّي أَعظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.فما أروعَه مشهدًا لكون الله ستارًا وذا مغفرة واسعة، حيث يقضي ل بغرقه من جهة، ومن جهة أخرى يستر عيوبه ومساوئه.فقوله إنِّي أَعظُكَ أَن تَكُونَ منَ الْجَاهِلينَ) يعني في هذا السياق بأنه يجب على الإنسان أن يدرك مثل هذه الأمور بعقله الموهوب ويكف نفسه عن السؤال عنها.وأيُّ شك في أن السؤال يسبب المشاكل في بعض المواقف، فيجب على المرء عندئذ أن يتصرف بحكمة مستخدمًا عقله بدلاً من السؤال.أما قول نوح (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ فينشأ عنه سؤال وهو أنه لم يرد في الآية أي الله تعالى بإنقاذ ابنه، بل كل ما ذكر فيها هو أن الله أمره بأن يأخذ معه في وعد من السفينة أناسًا معينين فإذا كان أحد قد عصى الله تعالى ولم يركب فيها وغرق فهذا ذنبه هو وليس بأن الله قد أخلف وعده، فكيف يذكر ربه بوعده قائلاً إذن ربه نوح (وَإِنْ وَعْدَكَ الْحَقُّ؟ الجواب: لقد كان هناك وعد إلهي حتمًا، ولكن جاء بصيغة أمر، وما أكثر ما يكون الوعد يحمل طابع الأمر.ذلك أن أَمْرَ الله له بأن يأخذ في السفينة أناسًا معينين كان يتضمن دون شك وعدًا منه بإنقاذهم من الطوفان.والدليل الآخر على كونه وعدًا الاستثناء المذكور في قوله إلا مَن سَبَقَ عَلَيْه الْقَوْلُ حيث لم يكشف عليه بأسماء هؤلاء الذين قضى بهلاكهم من أهله.فلو كان

Page 282

الجزء الثالث ۲۷۵ سورة هود هذا أمرًا دون وعد لصرّح بأسمائهم أو أعمالهم حتى لا يأخذهم في السفينة، ولكن من أهله.هذا لم يحصل، ومن أجل ذلك تحيّر نوح عندما رفض ابنه أن يركب مع أنه ولكن الله لم يرد أن يخبر نوحا بأسماء هؤلاء الذين استثناهم من النجاة.والدليل الثالث على وجود الوعد هنا أنه تعالى لم يقل لنوح عند سؤاله: متى وعدتك بنجاة أهلك، وإنما قلت لك فقط: خُذ فيها أهلك والمؤمنين، فإذا كان أحد لم يركب معك فهذا ذنبه هو، وهو المسئول عن عاقبته.بل الله تعالى يسلّم ويقرّ بوعده لنوح بنجاة أهله الحقيقيين المؤمنين قائلاً: نعم، ولكن هذا الرجل الذي تتوسل من أجله ليس من أهلك.لقد رأيت لزاما علي أن أوضح هذا الأمر بالتفصيل لأن بعض الجهال ينكرون إمكانية وقوع النبي في خطأ اجتهادي في فهم أنباء الله تعالى، وعندما تُعرض عليهم مثل هذه الآيات التي تنقض دعواهم يقولون : ليس فيها أي وعد، وإنما تذكر أمرًا من عند الله تعالى.ولكني قد أثبتُ الآن أن الله كان قد قطع فيها وعدًا لنوح بنجاة أهله، ولكنه لم يدرك المراد الحقيقي من الوعد، فوقع في خطأ اجتهادي، ولكن الله تعالى كشف عليه الحقيقة في موعدها.قَالَ رَبِّ إلى أعُوذُ بك أن أسألكَ مَا لَيْسَ لي به علم وإلا تَغْفر إِنِّي أَنْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) ٤٨ التفسير : ما أرفَعَ مكانة الأنبياء في طاعة الله ،، فما أن سمع نوح القول الله تعالى حتى قام واعترف بخطئه ورجع عن موقفه، وليس هذا فحسب، بل تضرع إليه تعالى قائلا: يا رب سأسعى جاهدًا أن لا أعود لمثله أبدًا، ولكني لا أقدر على فعل

Page 283

الجزء الثالث ٢٧٦ سورة هود شيء بدون معونتك، فأعنّي على أن لا أقع في مثل هذا أبدًا.ما أشدَّ أولئك المتصوفين الكاذبين جهلاً وغباء، الذين يطلقون دعاوي فخمة خطيرة، رغم حرمانهم من أية درجة روحانية عالية ولا يتأسون بهذه الأسوة الحسنة للأنبياء عليهم السلام.كما أن هذه الآية تكشف لنا حقيقة استغفار الأنبياء ونوعية الأخطاء التي تصدر فقد ذكرت الآية استغفار نوح الله، ولكنه لم يكن عن معصية أو مخالفة منه لحكم من أحكام الشرع، وإنما كان استغفاره بسبب خطأ اجتهادي وقع فيه من جراء الضعف البشري، كما توضح الآيات السالفة.فتبين أن استغفار الأنبياء لا يعني أنهم بالفعل ارتكبوا معصية لربهم، وإنما المراد منه أن يحميهم من عواقب تقصيراتهم الناتجة عن ضعفهم البشري.عنهم.الله قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ رود و وه سنمتعهم لم يمسهم ثُمَّ يَمَسُّهُم شرح الكلمات : منَّا عَذَابٌ أَلِيم ) ٤٩ بركات : جمع بركة وهي: النماء؛ الزيادة السعادة.بَرَكَ الشيء بالمكان: ثبت.بارك الله فيك: طَهَّرَك.باركه رضي عنه.واللهم بارك على الأنبياء وآلهم: أي أدم لهم ما أعطيتهم من التشريف والكرامة (الأقرب) التفسير : تعارض هذه الآية نظرية التوراة بأن الناس اليوم هم أولاد لنوح من ذريته التي بقيت بعد الطوفان، فإنه تعالى يؤكد هنا أنه ليس نوح وحده الذي انتشرت ذراريه في الدنيا، بل لقد قطع الله تعالى وعودًا لأتباعه بالبركة والنماء، وأن أولادهم أيضا قد انتشروا في الدنيا إلى جانب أمم أخرى غير أمة نوح الق.

Page 284

الجزء الثالث ۲۷۷ سورة هود ما أقوى هذا البيان دليلاً على فضل القرآن الكريم على التوراة.إن كل كتابي مثقف يوقن اليوم في قلبه أن سكان الأرض ليسوا من أولاد نوح وحده، وهكذا تراه يؤكد موقف القرآن ويرفض موقف التوراة التي تقول بأنه لم ينج من الطوفان إلا نوح وأولاده وأن ذراريهم هم الذين عمروا الأرض فيما بعد التكوين: ٨ ).إذ تصنف التوراة سكان المعمورة كلهم ثلاثة أصناف تُنسب إلى ثلاثة من أبناء نوح سام وحام ويافث (التكوين: ٧ ).بينما يعارض القرآن الكريم هذه الفكرة الخاطئة معلنًا أنه ليست ذرية نوح وحده التي عمّرت الكرة الأرضية، بل كان لأتباعه أيضًا أولاد، إلى جانب الشعوب الأخرى من المناطق التي لم تتعرض للطوفان.، وقوله تعالى (وَأُمَمٌ سَمَعُهُمْ قد يعني الأمم الأخرى التي لم تتعرض للطوفان.- به كما أسلفت- بل مد الله لهم وأمهلهم ثم أهلكهم فيما بعد.كما يمكن أن يُقصد ذراري نوح وأتباعه والمراد أن طائفة كبيرة من أولاد هؤلاء الناجين المباركين سوف تؤول إلى الفساد بعد فترة من الزمن فيمسهم منا العذاب الأليم.تلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ من التفسير: تبين هذه الآية بكل وضوح أن القرآن لا يسرد أحداث الأولين في كحكايات وأساطير، بل إنها أنباء الغيب..أي أنها أحداث سوف تقع أمثالها المستقبل.وكأن الله تعالى يقول: إنها يا محمد، أخبار عماً وقع لنوح دون شك، ولكننا نقصد من ذكرها أن نخبرك أنك ستواجه أحداثًا مماثلة.ولذلك ختمت الآية بقوله تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بمعنى أنه كما دمرنا قوم نوح إلا من آمن به منهم كذلك سوف نهلك جزءا من قومك، وسوف نُخرج من نسلك ونسل المؤمنين بك

Page 285

الجزء الثالث ۲۷۸ سورة هود أمة جديدة سوف ترفع لواء الصدق والتقوى في كل زمن عاليًا خفاقا.ويعجب المرء كيف يزعم البعض - رغم هذه الآيات الصريحة – أن القرآن لا يقصد بسرد هذه الأحداث إلا ذكر أساطير الأولين فقط؟! الحق أنه لا يذكر أيّ حادث من الماضي إلا لينبئ بأن المسلمين أيضا سوف يواجهون مثله.وهذا ما حدث بالفعل.فما من حادث من التاريخ القديم سرده القرآن الكريم إلا وقد وقع مثله مع الرسول ﷺ وأتباعه، أو سيقع بأمته في المستقبل.هناك اختلاف كبير لدى المسلمين والمسيحيين واليهود حول طوفان نوح، وبما أنه لم يكن بوسعي ذكره بالتفصيل تحت آية معينة لذلك أذكر هنا بحثي ورأبي حوله مع آراء الآخرين.تقول التوراة بأن والد نوح اسمه " لامك " الذي كان في الجيل التاسع من نسل آدم ال.ولما كان نوح ابن خمس مائة سنة ولد له سام وحام ويافث (التكوين ٥،٦).عندما رأى الله فساد أهل الأرض قرّر تدميرهم.وكان نوح رجلاً بارا يصنع وأن يأخذ فيها أهله وأولاده عند الطوفان، وأن فاختاره الله وأمره أن سفينة، يأخذ معه كذلك من كل البهائم الطاهرة سبعةً سبعةً، ذكرًا وأنثى، وأما التي ليست بحلال فيأخذ منها اثنين ذكرًا وأُنثى (التكوين٦).وعندما جاء الطوفان أهلَكَ كل ذي حياة على الأرض، إلا نوحا ومن معه في الفلك من إنسان وحيوان فعمّروا الأرض من جديد.واستوت السفينة بعد الطوفان على جبال أرَراط (التكوين: ۷ و ۸ فنزل هو وأولاده ليعيشوا على اليابسة مرةً أخرى، وعملوا في الزراعة.فغرس كرما، وشرب من خمره، فسكر وتعرّى، فأبصره ابنه حام الذي أخبر أخويه ساما ويافث بذلك.فأتى الأخيران إليه مشيًا إلى الوراء وسترا ،عورته، فلما أفاق دعا على ابنه حام قائلا: ملعون كنعان أولاد حام الذين سيعمرون أرضًا باسم كنعان، وليكونوا عبيدا لذرية سام ويافث (التكوين ٩).كما يتبين من التوراة أن أبناءه استوطنوا بعد الطوفان منطقة هي أرض العراق

Page 286

* الجزء الثالث ۲۷۹ سورة هود حاليا، إذ ورد فيها أن حفيد حام صار حاكمًا على بابل وما جاورها (التكوين ١٠).وهناك اختلاف بسيط بين بيان التوراة وبين ما ورد في روايات يهودية أخرى، ولكن لا حاجة بنا للخوض في تفاصيلها، إلا أنه لا بأس من الإشارة إلى أن أحد كتب الروايات اليهودية المعروف باسم "مدراش أغاده" يذكر أن نوحا سُمي بهذا الاسم لاختراعه المحراث (الموسوعة اليهودية ، كلمة (Noah) بينما تذكر التوراة أن أباه هو الذي سماه بهذا الاسم.وقد حاولوا التوفيق بين البيانين في كتاب "سفره يا شير" بقولهم: إن أباه سماه "مناحيم" ومعناه المعزّي، وقد أطلق عليه "نوح" بعد الطوفان (الموسوعة اليهودية).وقد اختلفوا أي اليهودُ أيضًا في كون نوح صالحا أم لا؟ فقال بعضهم هو بار تقي، ويرى الآخرون أنه صالح إلى حد ما، بينما اعتبره البعض شريرا، وأنه قد نجا من الطوفان بسبب الصالحين الذين كان من المقدر أن يخرجوا من صلبه.وورد في التلمود - وهو مجموعة روايات يهودية - أنه كان نبيا شارعًا، وأنه بدأ في تدوين شريعته بعد حادث الطوفان بثمانية وعشرين عاماً وكانت شريعته تحتوي على شيء من المسائل الطبيعية والأحكام المماثلة لما ورد في شرع موسى ال، وأن الملك رافائيل هو الذي علمه الطب وشيئًا من خواص الأعشاب، ونُقل كتابه إلى لغات أخرى، ومنه أخذ الهنود واليونان علم الطب (الموسوعة اليهودية).وبالمناسبة فقد فات علماء اليهود هنا أنه لم يبق في الدنيا بعد الطوفان إلا أولاد نوح فقط - كما يزعمون - إذ كان جميع سكانها من أولاد نوح، فما كانوا إذن بحاجة إلى أية ترجمة لشرعه إذ كانوا يفهمون لغة جدهم نوح! ومما يثير العجب وجود حكايات مشابهة لطوفان نوح في تراث السكان القدامى هكذا ورد في التفسير الكبير، ولكن الذي ورد في الموسوعة اليهودية يقول بأنه بدأ بتدوينها في اليوبيل الثامن والعشرين أي في العام الخامس والسبعين بعد الطوفان.(الناشر)

Page 287

الجزء الثالث ۲۸۰ سورة هود في كل قارة تقريبًا (الموسوعة التوراتية).حيث تحكي الروايات القديمة في اليونان عن شخص كنوح وعن طوفان كطوفانه، مما يعني أن أوروبا أيضًا كانت على علم بحادث تاريخي من هذا القبيل.كما أن السكان القدامى من أمريكا الشمالية يحكون قصصاً مشابهه لحادث نوح.بل هناك تشابه كبير في الأسماء والأمور الأخرى في روايات من قارات مختلفة.فمثلاً تذكر الروايات القديمة البابلية اسم بطل الطوفان هو (هسيس إندرا) أي العاقل، وأنه كان العاشر بين الملوك.وهذا مشابه لما ورد في التوراة بأن نوحا كان من الجيل العاشر بعد آدم ال التكوين: ٥).بينما تذكر مختلفة القصص من أمريكا الشمالية أن اسم البطل هو (كنيان)، ومعناه العاقل أيضًا.ثم هناك روايات متشابهة لدى القدماء من إيران ومصر والهند تتحدث كلها عن طوفان عظيم في القديم، وأن القلة فقط نجوا منه في سفينة عبد صالح.حيث تذكر الروايات الهندية والبابلية أن عبدا صالحا تلقى من الله خبر الطوفان قبل حدوثه.تقول الروايات البابلية أنه تلقى هذا الإنذار في المنام، بينما تقول الهندية منها إن الآلهة حذرته من وقوعه (الموسوعة اليهودية Deluge).وتذكر الروايات البابلية أن اسم الجبل الذي استوت عليه السفينة هو جبل أرمينيا.وقد قال المفسرون المسلمون بأن الجودي المذكور في القرآن هو جبل أرمينيا (الكشاف وابن كثير).وهنا نجد توافقا بين الرواية البابلية وبين القرآن.وبما أن بابل كانت موطنا لأولاد نوح – كما تشهد التوراة – فلا بد من ترجيح الرواية البابلية على غيرها، خصوصا وأننا لا نرى أي مكسب يمكن أن يجنيه البابليون من ذكر حادث نوح، وذلك على عكس التوراة التي قد حاول مؤلفوها جاهدين أن يعطوا للعالم انطباعًا وكأن تاريخ الدنيا كله منحصر فيما تذكر التوراة فقط.أما التراث الهندي فنجد فيه ذكر بطل الطوفان في كتاب باسم (ست بت برهمن) حيث ورد فيها أن (منُو) هو أول إنسان، وكان ابنا لإله الشمس (دوشوات).كان يغتسل مرةً، فوقعت في يده سمكة.فتوسلت إليه قائلة: لو أطلقت سراحي فإنني سوف

Page 288

الجزء الثالث أنجيك ۲۸۱ سورة هود من طوفان عظيم قادم، ونصحته بصنع سفينة كبيرة.ولما جاء الطوفان أخذت السمكة السفينة إلى قمة جبل، حيث نزل (منو) عند هدوء الطوفان وقدم قربانًا.فوهب الله له بنتا، دون أن تكون لها أم، ومنها تكاثر الناس دون أن يكون لها زوج.الباب الثامن ص ۱۱۲-۱۱۳).والرواية الثانية هي من كتاب مها) (بهارتا) إذ جاء فيه أنه كان مع (منو) سبعة آخرون من أولي الألباب، وأن السمكة كانت في الواقع (برهما) أي الإله، وأنها علمت (منو) كيف يخلق آلهة أخرى وأناسًا.(ص ١٦٤-١٦٥) أ ووردت الرواية الثالثة في كتاب باسم شريمد بهاغوت بران)، وتذكر هذه الرواية أنهم اصطحبوا بعض الحيوانات في سفينتهم (باب ٢٤ ص ٨٦٠-٨٦٣).فكل هذه الروايات ذات المصادر المختلفة متفقة في معظم الأمور حتى وإن هناك تشابها كبيرًا بين الأسماء الواردة فيها فاسم البطل في الروايات الهندية هو (منو)، وفي التوراة (نوح)، وفي التلمود ((مناحيم) وكلها أسماء متشابهة جدا.مع العلم أن (مناحيم أصله ((مناح، لأنهم في العبرية يضيفون (يم) للتعظيم والاحترام.كذلك هناك تشابه في معاني الأسماء الواردة في الروايات البابلية والأمريكية، كما أشرنا إليه قبل قليل.كما أن سائر الروايات متفقة على وجود سفينة واحدة ونجاة بضعة أشخاص فقط.وكل هذا إن دل على شيء فإنما يدل دلالة قطعية على حدوث كارثة عظيمة كان لها تأثير عالمي، ومن أجل ذلك شهدت عليه الشعوب من كل العالم وسجلته تواريخها.وحيث إنه من المستحيل حدوث طوفان عالمى يغطى كل الكرة الأرضية فلذا يرى العلمانيون في العصر الحديث أن القصة لا تعدو أن تكون حكاية تمثيلية فقط، حيث قالوا بأن كل ما في الأمر أن بعض الأقدمين كانوا قد تحدثوا عن دوران الأجرام الفلكية بهذا الأسلوب التمثيلي، فانخدع الناس بهذا التمثيل، وحولوه إلى أسطورة (الموسوعة التوراتية، DELUGE).

Page 289

الجزء الثالث ۲۸۲ سورة هود ولكن هناك سؤالاً له ثقله وأهميته: كيف يمكن أن يكتسب هذا التمثيل-كما يسمونه كل هذه الأهمية والشعبية، وأن يترك هذا التأثير العميق في قلوب سكان المعمورة، ولماذا حفظه الناس من كل أنحاء العالم بهذا الشكل دون غيره من القصص والأساطير؟ ثم إنّ هناك سؤالاً آخر يطرح نفسه: إذا كانت قصة نوح قصةً أسطورية فلا شك أنه لم ينسجها إلا أهل منطقة واحدة من العالم، فكيف نالت هذا الانتشار العالمي منذ القدم حتى سُجّلت في تواريخ الديانات كلها مَنْ من العقلاء يسلّم بأنه يمكن لقصة منسوجة من خيال أهل بلد واحد في زمن موغل في القدم، حيث كانت الاتصالات بين الشعوب محدودة للغاية..أن تنال هذا الانتشار الواسع في مناطق نائية وبلغات مختلفة، وأن تكتسب لدى أهلها أهمية متساوية بحيث تصبح جزءا من تاريخ الديانات كلها ! والحق أنه - نظراً لما حازت هذه القصة من انتشار عالمي وتعظيم خطير بشكل متواتر متوال على العصور – لا المرء إلا أن يعترف بصحتها، وبأنها كانت - يسع ذات طابع عالمي وذات وقع غير عادي.وبعد التوصل إلى هذه النتيجة يسهل على المرء أن يدرك أن بيان القرآن عن الحادث يتفق مع هذه النتيجة في كل جزئياتها، كما لا يتعارض مع النواميس الطبيعية، إذ كل ما يقوله القرآن الكريم هو إن طوفانًا عظيمًا حدث في منطقة من العالم في قديم الزمان وأباد أهلها جميعًا؛ وأن الله تعالى تفضل على بطل الطوفان ببركات خاصة؛ وكتب لنسله غلبة غير عادية بسبب صلاحه وتقواه؛ وأنه كانت هناك عندئذ أمم أخرى في العالم ولكن عذاب الطوفان لم يشملهم؛ وإنما لاقى هؤلاء مصيرهم في موعد كتبه الله عليهم؛ وأن الطوفان كان شديدا وعارما لدرجة أن الناس لم يجدوا الملاذ إلا في السفن إذ هطلت أمطار غزيرة من السماء، كما تفجرت العيون الأرضية بالمياه حتى ارتفعت من غزارتها إلى ذُرى الجبال.وهذه أحداث واقعية لا مجال لأحد أن ينكرها.فإن القرآن الكريم والروايات

Page 290

الجزء الثالث ۲۸۳ سورة هود المختلفة من شتى البلدان متفقة على أنها كانت منطقة جبلية، بل ويخبرنا القرآن أنها كانت واديًا محاطًا بسلسة من الجبال.فمن الممكن تماما أن يكون مدخل الوادي ضيقًا لوجود جبال محاذية، وكما يحدث في معظم الوديان الجبلية فإن مدخله قد انسد بصخور أو قطع جليدية كبيرة انحدرت نتيجة زلزال عنيف، ومن ناحية أخرى تفجرت عيون الماء من تحت الأرض، فارتفع سطح المياه المتجمعة في الوادي حتى غطت قمم الجبال.وقد حدث حادث مماثل لذلك في جبال التبت سنة ١٩٢٨م عندما سقط نهر جليدي في أحد الوديان.وبما أن الحادث قد وقع في مرحلة بدائية من الحضارة الإنسانية، وبما أن نوحا ال كان أول إنسان في تلك المرحلة، إذ تصفه الأحاديث الشريفة بأنه كان أول الرسل (البخاري، الأنبياء)..وتؤكد التوراة أيضا ذلك..فقد ثبت من كل هذا أن نوحا كان مؤسس الحضارة الإنسانية.وإن الروايات الهندوسية أيضًا تصدق ذلك، لأنها تصف (منو) كأول إنسان، ولكنها تذكر أيضا نجاة سبعة آخرين معه من الطوفان.وإذا ما أخذنا هذين الأمرين بالاعتبار نصل إلى النتيجة بأن هذا الرسول كان أول إنسان في مرحلة الحياة الحضارية وليس أول بشر على الإطلاق.وبعد اتفاق هذه البيانات الثلاثة الهامة من الأديان المختلفة في المناطق المتباينة فإنه لا يبقى هناك مجال للشك في أن نوحا هو الذي أرسى أساس الحضارة والمدنية.ذلك أنه عندما يحقق شعب من الشعوب ازدهاراً حضاريًا ومَدَنيا فإنهم يتناسلون ويتكاثرون سريعا، بينما تأخذ الشعوب المجاورة الخاضعة لهم في القلة والانقراض بصورة تلقائية.وكلما استوطن شعب متحضر أرض قوم أقل منهم حضارة أضعفوهم ومحوا آثارهم.فيبدو أن كل بلد انتشرت فيه ذرية نوح وأتباعه الذين كانوا بمثابة الحلقة الأولى في سلسلة الحضارة الإنسانية..فإنهم قضوا على سكانه الأصليين نهائيا، أو أضعفوهم إذ جعلوا هذه الأمم الضعيفة تنصهر فيهم، أو أنهم على الأقل كسروا شوكتهم، وهكذا استطاعوا أن ينشروا تقاليدهم وعاداتهم وأن يخلدوا آثارهم في كل أنحاء العالم.هكذا

Page 291

الجزء الثالث ٢٨٤ سورة هود فإن قصة حادثة الطوفان التي كان لها وقع عميق في نفوس قوم نوح اللي قد حققت بسبب استعمارهم الأرض انتشارا عالميًا.نعم، إنه ليس صحيحًا أن طوفان نوح قد شمل الدنيا كلها، كما أنه ليس صحيحًا أيضا أن كل هذه القصص من البلدان المختلفة تشير إلى أكثر من طوفان، بل الحق أن الطوفان واحد، ولم يغطّ إلا منطقة واحدة من الأرض فقط.وبما أن نوحا الي كان أول إنسان في مرحلة الحضارة الإنسانية الأولى وأن ذريته وذرية أتباعه قد انتشروا بعد الطوفان في بلدان شتى وتغلبوا على أهلها الأصليين بسبب تفوقهم الحضاري، لذا كانوا هم الخالدين الباقين، أو أن الأقوام المغلوبة اتبعت دينهم وتحضرت بحضارتهم، وهكذا ذاعت قصة الطوفان في هذه البلدان أيضًا.وبعد مرور زمن طويل عندما لم يبق لهؤلاء المستوطنين الجدد من قوم نوح أية علاقة بموطنهم الأصلي القديم، وصار الوطن الجديد هو وطنهم الحقيقي..أدخلوا في حكاية الطوفان أسماء الأماكن والشخصيات المحلية المتعارف عليها في الوطن الجديد، وهكذا اكتسب الحادث الحقيقي الواحد للطوفان طابع أحداث عديدة.وَإِلَى عَادٍ أَحَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ إن أنتم إلا مُفْتَرُونَ ) ۵۱ التفسير: يقول: إن الواقع يؤكد أنه لا إله إلا الله، وإن العقيدة الوثنية مجرد افتراء..أي أنه ليس هناك أي برهان ولو ضعيف على صحة عقيدة الإشراك بالله تعالى، حتى يقال بأن المشركين قد أخطئوا الفهم، إنما الواقع أنهم يقلدون آباءهم في عقائدهم تقليدًا أعمى.

Page 292

الجزء الثالث ٢٨٥ سورة هود يرى الباحثون الغربيون أنه لا أثر لوجود قوم باسم عاد أصلاً.ويقولون: إن ما عثرنا عليه من عبارات قديمة في الجزيرة العربية لا يشير إلى أي قوم قديم باسم عاد، بل كل ما نعرفه منها هو أن الشعب السومري هو أقدم الشعوب هناك، وكانوا أول الحاكمين للمنطقة.ثم تلاهم الشعب السامي الذين نبغ فيهم شخص يدعى حمورابي، وكان نبيًّا بُعث قبل الميلاد بألفي عام، وقبل موسى بست مائة عام، وكانت تعاليمه مشابهة لما ورد في التوراة، حتى قال البعض منهم: إن تعاليم التوراة منقولة عن تعاليم حمورابي.يجب أن يتوقف هنا أهل الكتاب ممن يرمون القرآن الكريم بتهمة سرقة التعاليم من صحف الأولين وقفة تأمل وتدبر! ويرى الباحثون في الغرب أيضا أن القرآن إنما ذكر قصة عاد بناءً على ما كان يتناقله العرب من قصص وأساطير لا أساس لها إذ لم يجد هؤلاء الباحثون الغربيون أية آثار لقوم باسم عاد.ولكن هذا خطأ منهم، ذلك أن الأمم تُذكر باسمين: باسم شعبي واسم قبلي.فمثلاً "الآريون" اسم شعبي مشترك يطلق على الطوائف والقبائل الهندية التي منها قبيلة (بتا).فلو أنهم عثروا على آثار لقبيلة "غبتا" هذه، ثم قالوا بأننا لم نجد أي أثر للشعب الآري وإنما وجدنا آثار قوم آخرين فلا شك أن قولهم هذا يعتبر غباء أرى أن (عاد) اسم شعبي أطلق على عدة قبائل، وكل قبيلة منها كتبت اسمها على اللوحات والنقوش إبان غلبتها وحكمها ولكن كل واحدة منها كانت تنتمي لقوم عاد.منهم.كذلك يخبرنا القرآن الكريم أن عادًا جاءوا قبل ثمود، وإننا وإن كنا لا نجد فيه أي اسم مشترك للأمم السابقة لثمود، إلا أننا نستطيع القول قياسًا على ما أسلفت بأن اسمها المشترك هو عاد والتواريخ القديمة تذكر كلمة (عاد).فمثلاً ورد في التواريخ اليونانية القديمة اسم قبيلة عاد حيث تقول: كانت هناك قبل الميلاد قبيلة حاكمة على

Page 293

الجزء الثالث ٢٨٦ سورة هود اليمن اسمها Adramitai.أرض القرآن ج ۱ ص ۱۸۳).و "عاد" هذه مذكورة في القرآن الكريم باسم "عاد إرم" حيث يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبَلَادِ الفجر: (۷-۹ وحيث إن الجزء الأخير من الكلمة وهو (itai) تأتي في اليونانية للدلالة على كون الكلمة اسما، لذلك فالاسم الحقيقى لهذه القبيلة هو (Adram) التي أصلها (عاد إرم) كما جاء في القرآن الكريم.ويرى بعض الكتاب الأوروبيين أن المراد من الكلمة (Adramitai) منطقة حضرموت العرب قبل الإسلام جـ ١ ص ٦٢).ولكن هذا غير صحيح، لأن حضرموت اسم لمنطقة وليس لقبيلة، ولأن حضرموت مذكورة على حدة، وبصورة صريحة في كل المصادر اليونانية واللاتينية، ولكنهم لم يطلقوا عليها في أي مكان اسم (Adramitai)، وإنما سموها (Adramotitai) باليونانية، و(Chatramotitai) باللاتينية.إذن فلا يصح أبدًا أن نأخذ (Adramitai معنى حضرموت ظنًا أن علماء التاريخ والجغرافية لم يطلقوا عليها اسمها الشهير القديم، وإنما اخترعوا لها اسما جديدا في تلك المناسبة خاصةً! وهناك دليل أكبر من ذلك على خطأ هذا الزعم، فإن نفس هذا المصدر الذي وردت فيه كلمة (Adramitai) قد ذكر تاريخ حضرموت ذكرًا منفصلاً، مما أن مؤلفه أيضا يرى أن الاسمين هما لمسمّيين مختلفين العرب قبل الإسلام جــــا ص ٦٢).لقد ذكر القرآن الكريم تاريخ (عاد) كالآتي: يعني.١ قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبَلَاد ) الفجر: ٧ - ٩.أي أننا نخص بالذكر هنا إرم من بين قبائل عاد الذين كانوا يبنون مباني فخمة شامخة، وكانوا من القوة والمنعة بحيث لم تؤت مثلها بعدهم أية قبيلة عربية أخرى.والثابت تاريخيًا بما لا يدع مجالاً للشك بأنه

Page 294

الجزء الثالث ۲۸۷ سورة هود كانت لقوم عاد حكومة قوية استمرت حتى إلى ما قبل الميلاد بخمسة قرون.(أرض القرآن ج ١ ص ١٢٥).وقد برهن علماء الألسنة على وجود لغة باسم (الآرامية) التي كانت كلماتها مشابهة جدا للغة العبرانية وأنها كانت لغة شعب (إرم)، وكانت لهم حكومة عظيمة بعد حكم الساميين.لقد نشروا سلطانهم على العراق وفلسطين والشام والمنطقة الكلدانية، بل يرى بعضهم أن عادًا قد بسطوا سلطانهم على مناطق أبعد من ذلك أيضًا.(الموسوعة البريطانية تحت Semetic Languages).فثبت من الآية المذكورة آنفا أن القرآن الكريم إنما يتحدث هنا عن قبيلة (إرم) من شعب عاد، وقد أسلفت أن الأثريين قد عثروا على قبيلة باسم (إرم).۲.قال الله لهم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء ٧٠).وهذا يبين أن زمنهم من بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ (الأعراف: كان ما بعد قوم نوح مباشرة.مما يدل على أن الشعوب السامية المذكورة في التاريخ، التي كانت حاكمة قبل (إرم)، أيضا كانت جزءاً من عاد...قال الله لهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ ريع آيَةً تَعْبَثُونَ) (الشعراء: ۱۲۹)..أي أنكم تبنون في كل مكان عال بنايات وتماثيل.وهذه علامة أخرى لقوم عاد، إذ كانوا متعودين على بناء العمارات التذكارية في الأماكن المرتفعة.وبالفعل فإنها لا تزال هناك في الجزيرة العربية بنايات فخمة منذ أزمنة سحيقة أرض القرآن ج ۱ ص۹۳).بل لقد شاهدتُ بنفسي في اليمن أثناء سفري إلى أوروبا مع بعض رفاقي بعضا من هذه المباني الشاهقة فوق تلال مرتفعة على بعد عدة أميال من عدن.وكانت بها برك وأحواض.٤.وقال الله تعالى (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ (الأحقاف: ٢٦).يتبين من ذلك أن معظم تاريخ هذه الأمة قد طواه الدهر، إلا بعضا من آثار المباني الفخمة.

Page 295

الجزء الثالث ۲۸۸ سورة هود ه.وقال الله تعالى مشيرًا إلى موقع وطنهم (وَاذْكُرْ أَحَا عَادِ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف (الأحقاف (۲۲.والأحقاف هي تلال رملية طويلة (المفردات)، ٢٢).وتُطلق في مصطلح العرب على منطقتين ذواتي ماء وخضرة مجاورتين للصحراء، وعند هبوب الرياح الرملية تتكون فيها تلال رملية تقع إحداهما في جنوب شبه الجزيرة وتسمّى الأحقاف الجنوبية، وتبدأ من اليمن ما بين صنعاء وعدن، وتمتد إلى الشرق فالشمال وثانيتهما الأحقاف الشمالية، وتبدأ من بصرى وتمتد إلى الجنوب حتى برية العراق.ومن المحتمل أن تكون المنطقة قبل العذاب خالية من التلال الرملية، ولكن رياح العذاب حملت من الصحراء الرمال التي غطت أهل المنطقة وتاريخها.ومن الممكن تماما أنه لو أُزيلت الرمال لظهرت من تحتها آثار تلقي على تاريخهم مزيدا من الضوء.٦.لقد أخبر الله تعالى عن هلاك عاد بقوله (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَة سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالِ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى تَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَحْلِ خَاوِيَة (الحاقة: ۷ و ۸).يتضح من ذلك أن ريحًا عاصفةً هبّت على عاد لثمانية أيام متتالية، فاختفت تحتها كبريات مدنهم وانكسرت شوكتهم، وبدأ انحطاطهم.كما تعطي الآية انطباعًا بأن آثارهم لا تزال باقية محفوظة تحت غطاء الرمال، حيث قالت: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كما تبين أن المنطقة سُمِّيت بالأحقاف بعد تعرضها لهذا العذاب.يا قَوْم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أخري إلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا جْرِيَ تَعْقِلُونَ ٥٢

Page 296

الجزء الثالث شرح الكلمات : ۲۸۹ سورة هود فَطَر : فطَرَ الشيء يفطُرُ فَطرًا: شقه.فطَر العجين: اختبره من ساعته ولم يخمره.فطر الأمر : اخترعه وابتدعه وأنشأه.وفطر الصائم فَطرًا فطرًا وفُطورًا: أكل وشرب؛ وقيل ابتدأ الأكل (الأقرب).التفسير: لقد عبّر هود الله في الجزء الأول من الآية عن غنى نفسه وبعده عن اتباع الشهوات، وأما في الجزء الآخر منها فقد أعرب عن تواضعه واحتياجه إلى فضل الله جل شأنه.وهذا هو المقام الذي يتبوأه أهل الله تعالى.فإنهم يستغنون عن الدنيا استغناء كاملاً، ومن ناحية أخرى يخرّون على عتبة الله متواضعين خاشعين بحيث لا أحد يبدو أكثر منهم فقرا وضعفًا.وبقوله إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أكد على خالص توكله على الله، فلم يكن في شك من أجره عند الله، بل كان على يقين بأنه تعالى سيجزيه على تضحيته أحسن جزاء.كما توضح الآية أن سؤال الناس وطلب العون منهم يتنافى مع عزة النفس والمروءة دون ريب، ولكن التوسل إلى الله لك لا يقدح في عزة نفس المرء أبدا، إذ إنه لا حرج من أن يمد المخلوق يد السؤال إلى خالقه.وقد أزال بذلك سوء فهم قد يتولد في قلب البعض إذ يظنون أن سؤال العبد ربه أيضا غير لائق.وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوا مُحْرمينَ ) شرح الكلمات: 090

Page 297

الجزء الثالث ۲۹۰ سورة هود مدرارا : اسم المبالغة من دَرَّ الشيء يدرّ درا ودرورًا كثر.در العرق وكذا السماء بالمطر: سال.وسماء مدرارٌ : تَدرُّ بالمطر.وعين مدرار وتدرّ بالدمع وديمة مدرار غزيرة السيلان.وفي القرآن: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، والسماء هي بمعنى المطر مجازا (الأقرب).التفسير: يبدو من الآية أن هؤلاء القوم كانوا يعيشون على الزراعة، وما كانت أراضيهم تُسقى بالقنوات أو الآبار وإنما بالمطر.كما تنبه الآية على أن الأمة المنهارة إذا صدقت نبيها فإنها لا تنهض نهوضا روحانيا فقط، بل إنها تحقق رقيًا ماديًا أيضًا وتنال حياة جديدة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ).قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةِ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ شرح الكلمات ٥٤ عن: حرف جرّ وله تسعة معان، الرابع منها: التعليل، كقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ اسْتغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابيه إلا عَن مَّوْعِدَة) (الأقرب).التفسير: الشرير يأخذ كلمة الخير أيضًا مأخذ الشرّ.فقد استنتجوا مما قدم لهم هود من نصح وخير بأنه يريد الحكم عليهم، فردّوا عليه بقولهم: لا يمكن أبدًا أن نتخلى عن آلهتنا لما تقول وننقاد لأمرك.ويتعجب المرء من تجاسرهم المشين هذا، فإنهم رغم إتيانهم عملاً شنيعا كالشرك

Page 298

۲۹۱ سورة هود الجزء الثالث الذي لا يستند إلى دليل ولا -برهان يطالبون هودًا بأن يأتي بالبرهان على دعواه، مع أنهم كانوا هم أصحاب الدعوى وليس هو، لأن الشرك بالله هو الأمر الجديد الغريب وعليهم تقديم الدليل عليه فجسارتهم محيّرة فعلاً، حيث يقولون لمن يفند دعواهم بالدليل من قبل: لماذا لا تقدم لنا برهانًا على ما تقول، وكأنهم ملتزمون دائما بالبراهين ولا يقولون شيئا ولا يقبلون أمرًا إلا بالدليل والبرهان وما أشد إهانتهم واحتقارهم لرسولهم إذ يقولون له ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ.إنها كلمة صغيرة، ولكنها مليئة جدًا بمرارة الازدراء والاستخفاف، حيث يقولون: من أنت وما قيمتك حتى نترك آلهتنا أجلك؟ من إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ واشْهَدُوا الي يريءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ () مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا أَنِّي ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ شرح الكلمات : ٥٦ اعتراكَ: اعتراه اعتراءً غَشِيَه طالبًا ،معروفه واعترى فلانًا أمر: أصابه (الأقرب).التفسير : أي بما أنك لا تؤمن بآلهتنا فإنها قد انتقمت منك وأفسدت عقلك.ولكن ما أروع ما يرد به هود ال عليهم إذ يقول : إذا كنتم تزعمون أن أحدًا من آلهتكم سخط عليّ لإساءتي إليهم وصبّ عليّ غضبه بإفساد عقلي، فها إني أقولها علنًا بأنني أعادي آلهتكم جميعًا، وأكرههم كراهة شديدةً، وأتبرأ منها تماما، فإن كانوا يملكون في الحقيقة شيئا مما تعزونه إليهم من قدرات وصفات فلينتقموا مني وليفعلوا بي

Page 299

الجزء الثالث ما يشاءون.۲۹۲ سورة هود ويعني بقوله (إِنِّي أُشْهِدُ الله...) أنكم لم تنتفعوا مما قدمت لكم من براهين عقلية، والآن أقدم لكم شهادة عملية من الله على صدقى، متضرعًا إليه و أن يتزل الآن آياته التي تفصل بين الحق والباطل.إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِدٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ شرح الكلمات : OV ناصيتها الناصية قصاص الشعر أي حيث تنتهى ننتته مقدمه أو مؤخره؛ وقيل: الناصية مقدمُ الرأس؛ وقالوا: الطرّة هي الناصية، والجمع ناصيات ونواص.وأذل فلان ناصية فلانٍ أي عزَّه وشرفه نواصي الناس أشرافهم والمتقدمون منهم، وهذا كما وصفوا بالذوائب، يقال: فلان ذؤابة قومه وناصية عشيرته (الأقرب).التفسير: كان من عادات العرب أن الملك إذا انتصر على العدو عُرض عليه الأسرى فكان يأخذهم من نواصيهم يهزها تعبيرًا عن غلبته عليهم.وكان من عاداتهم أيضًا أنهم إذا أرادوا العفو عن العدو جزوا ناصيته وأطلقوا سراحه.فالمراد من قوله تعالى ما مِن دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ ِبنَاصِيَتِهَا: أولاً: أن كل واحد منكم خاضع لسلطان الله وغلبته، وثانيًا: أن الله تعالى قد جز ناصية كل واحد منكم وتركه حراً رحمةً بكم.وهكذا نبه الناس أنهم خاضعون لقدرته وسلطانه دائما، وأنهم يعيشون بمحض رحمته وعفوه وإلا ما كانوا يستحقون العيش بالنظر إلى أعمالهم.وأشار بقوله رَبِّي وَرَبِّكُم إلى أن سيدي هو سيدكم أيضًا، فكيف أخافكم ما

Page 300

الجزء الثالث دمتم بشيء.۲۹۳ سورة هود عبيدا لسيدي، لأن من يتخذه السيد صديقا له لا يستطيع عبيده أن يَضُرُّوه وبين بقوله (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أمرين؛ أولهما: أن من يسير على طريق سوي هو الذي يصل إلى ربه، بينما يتخبط المشرك هنا وهناك، فَأَنَّى له الوصال بالله تعالى.وثانيهما: أنكم تريدون إبادتي، وذلك بدليل قوله تعالى (ثُمَّ لا تُنظرُون)، ولكن ربي قادم لنجدتي على صراط مستقيم..أي على أقرب طريق، حيث إن الطريق المستقيم يكون أقرب الطرق وأسرعها.فَإِن تَوَلُوا فَقَدْ أَبْلَعْنَكُم مَّا أَرْسَلْتُ به إلَيْكُمْ ويستخلف رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إن رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) النبي شرح الكلمات : ۵۸ إن تولوا: أصله : تتولوا.أي إن تعرضوا.التفسير : يظن الجهال أنهم إذا رفضوا دعوة النبي ألحقوا به ضرراً، مع أن الواقع أن رسول، والرسول لا يتضرر أبدًا، وإنما يتضرر المرسل أو المرسل إليه.وهذا ما يعلنه هود الهنا بأنني لست إلا رسولاً، ولا خوف على أبدا، اللهم إلا أن أقصر في تأدية واجبي أي أداء الرسالة التى أحملها من الله تعالى لكم.فما دمت قد بلغتكم رسالته فأنا في مأمن من أي ضرر.وأما الذي أرسلني بها إليكم فليس به أي حاجة إليكم حتى يتضرر بالرفض من جانبكم.إنما الرسالة لصالحكم أنتم، فإذا رفضتموها، فسوف تؤمن بها أمة أخرى لا محالة، وتنتفع بها وتحقق الازدهار والغلبة، ولن تضيع رسالة الله في أي حال، لأنه إذا أراد شيئًا نفّذه وحفظه.فما دام قد أراد الآن هذا

Page 301

الجزء الثالث ٢٩٤ سورة هود الأمر وأنزل تعاليمه بواسطتي فإنه سوف ينفّذها ويحفظها حتمًا.كما أشار بقوله إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أنه لن يدع أعمالكم دون حساب ومؤاخذة، بل هي مسجلة محفوظة لديه، ولا جرم أنه سوف يحاسبكم عليها.وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٌ ۵۹ ) التفسير: إنه من سنة الله العامة أنه إذا أنزل وباء أو أذى عاديا عانى منه الجميع، سواء منهم الصالح أو الطالح دون أي تمييز، ولكنه تعالى عندما يبعث نبيا فإنه يعامل الناس عندئذ وفق سنة خاصة.فحينما يتزل الله جل شأنه أنواع العذاب إقامةً للحجة المسرفين، تثور رحمته بالمؤمنين بشكل غير عادي، فينجيهم من العذاب في معظم الأحيان نجاة كاملة أو جزئية، رغم عيشهم بين الكفار في بلد واحد.وإلى هذه السنة الخاصة أشار بقوله رحمة منا..أي أننا أنجيناهم بفضل خاص وفق سنتنا الخاصة، لا على بحسب سنتنا العامة.وقوله تعالى (عَذَابِ غَلِيظ ) يعني أنه كان عذابًا مؤلما شديدًا للغاية لا يستطيع أحد الفرار منه.وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ حبار عنيد 7.

Page 302

الجزء الثالث سورة هود شرح الكلمات: جحدوا: جحد حقه وبحقه يجحد جحودًا: أنكره مع علمه به.جحده: كفر به وكذبه (الأقرب).جبار: الجبار من صفات الله تعالى -أي الذي يجبر ويصلح- كل عات متمرد (الأقرب).عنيد: العنيد: المخالف للحق الذي يردّه وهو يعرفه، جمعه عند.(الأقرب) التفسير: قوله تعالى تلكَ عَادٌ إشارة إلى خطورة شأنهم أي تلك هي أحوال عاد الأمة العظيمة القوية، ولكنهم استكبروا ومالوا إلى الشر وكفروا بالحق تعنتا وعنادا، ولم ينتصحوا لمن أتاهم برسالة خير وصلاح لهم وإنما اتبعوا أصحاب النفوذ والمنعة من بينهم ممن كانوا يلجئون إلى الإكراه والعنف مثيرين الفتنة والفساد في البلاد مدعين مع ذلك بأنهم حملة لواء الحرية في الرأي والعقيدة.وَأَتَّبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لَّعَادٍ قَوْمٍ هُودٍ شرح الكلمات : بُعدًا : البعد ضدُّ القرب؛ اللعن (الأقرب).التفسير : اللعنة إذا كانت من العباد فمعناها قول بعضهم لبعض: عليك اللعنة أي الهلاك، وإذا كانت من لَعْنَةٌ الله فتعني الإبعاد.فالمراد من قوله تعالى (وَأَتَّبِعُوا فِي هَذه الدُّنْيَا الله ويوم القيامة أنهم كانوا بعيدين عن وهم في الدنيا، وهكذا سيكونون يوم القيامة أيضًا إذ سيُحرمون من رؤية الله وقربه جل شأنه.

Page 303

الجزء الثالث ٢٩٦ سورة هود أما قوله تعالى ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ) فهي كلمة حكمة رائعة للغاية.فإن (ألا) أداة تنبيه، و(الرب) معناه: الذي يخلق الشيء ولا يزال يطوّره ليأخذه إلى درجة الكمال، إذن فالمراد من الجملة : انظروا ما أقبَحَ ما فعلته عاد، حيث رفضوا قول من رباهم، مع أن الشريف يطيع من يُحسن إليه.ولكن المؤسف أن هؤلاء القوم قد عَقُوا من أخذهم إلى هذه الدرجة السامية، وهكذا فإنهم لم ينكروا الجميل فحسب بل ارتكبوا حماقة كبرى لأن الذي كان قد رفعهم لقادرٌ تماماً على أن يضعهم ويحطهم إلى أسفل السافلين.وهذا ما حدث بهم بالضبط، فهلكوا وبادوا عقابًا على معارضتهم لنبيهم هود العلمية.وَإِلَى ثَمُودَ أَحَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَريبٌ مُحِيبٌ ) شرح الكلمات : ٦٢ استعْمر: استعمره في المكان: جعله يعمره.واستعمر الله عباده في الأرض: طلب منهم العمارة فيها.(الأقرب).التفسير: إن كلمة "صالح" العربية تدل دلالةً واضحةً على أن قومه ثمود كانوا أمة عربية.وبما أن القرآن يصرّح أن محمود خلفوا عادا إذ قال لهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاء من بَعْد عاد (الأعراف: ۷۵ فثبت أن عادا أيضا كانت أمة عربية.وقد يقول أحد هنا بأن كلمة "صالح" قد تكون معربة من لغة أخرى.ولكن هذا الزعم ليس بسليم، لأن كل ما ورد في القرآن من أسماء أجنبية قد ذكرها كما هي

Page 304

۲۹۷ سورة هود الجزء الثالث دون تعريبها كموسى وهارون ويونس وزكريا وغيرها.فلا شك إذن في أن "صالح" كلمة عربية، وأن عادا وثمود أيضا أمتان عربيتان.وبما أن عادًا سُمّوا خلفاء لقوم نوح (الأعراف (۷۰) فثبت أن نوحا - الي - أيضًا كان مبعوثًا في منطقة عربية، وكان من العرب.والتاريخ يؤكد أن مسكنه كان ،العراق، وأن العرب كانوا حاكمين على هذه المنطقة في القديم.والذي أقصده من ذكر هذه الأمور بالتفصيل هو أن أدلّل على أن العربية كانت لغة الناس كافةً في البداية، لأنه إذا تأكد لنا أن بداية النسل الإنساني كانت من شبه الجزيرة العربية فلا بد من الاعتراف أن العربية هي أم الألسنة.إن بحوث العلماء الغربيين أيضا تؤكد أنه كانت في البداية لغة تسمى السامرية ومنها اشتقت العربية، ثم بسبب التغييرات والتعديلات تشعبت منها لغات أخرى.كما أنهم يعترفون في بحوثهم بأن اللغة السامرية هذه كانت لغة أهل الجنوب من شبه الجزيرة العرب قبل الإسلام ص ۳۳ ولكن الواقع أن كل ما ينطق به أهل الجزيرة والعراق من لغات إن هي فروع للعربية.إلا وقوله تعالى (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ...) لا يعني أنه تعالى خلق قوم صالح من الأرض، لأن خلق الإنسان منها إنما كان فقط لدى خلق أول آدمي، أما بعد ذلك فأصبح خلق الناس يتم عن طريق التناسل والتوالد وإنما المراد من الآية أنكم كنتم أمة أرضية أي منحطة متردية وحقيرة في أعين الناس، فنهض بكم الله من الحضيض، وحقق لكم الغلبة والحكم على الآخرين، وفوّضَ إليكم مهمة نشر الأخلاق النبيلة والآداب الفاضلة.فيجب أن تسألوا الله الغفران على تقصيراتكم لدى أداء هذا الواجب، لأنه مسؤولية خطيرة عظيمة، فإذا فعلتم ذلك زادكم فضلاً ورحمةً.وأشار بقوله ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه إلى كلمة حكمة عظيمة، وهي أن كل شيء راجع إلى أصله، وأن على الإنسان أن يتذكر دائمًا أنه ضعيف الخلق حقير الشأن أساسا، وأن رقيه إنما يتوقف على فضل الله تعالى، فعليه أن يرجع إلى الله ويتوب دومًا، ليترل

Page 305

الجزء الثالث عليه فضله ورحمته ۲۹۸ صلته مجددًا، أما إذا قطع سورة هود عن خالقه وربّه زلّت قدمه بعد ثبوتها، وتردَّى إلى حالته البدائية من الضعف والهوان والحقارة.وقوله تعالى (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّحِيبٌ)..لقد بين بكلمة (قريب أنكم إذا رفضتم رسالته فإنه قادر على عقابكم فوراً، لأن جنوده قريبة سريعة لا تتأخر.ثم أردفه بقوله مجيب دفعًا لظن البعض بأنه تعالى وإن كان قريبًا إلا أنه قد لا يتدخل في شئون العباد، فقال : إنه لا ينسى عباده، بل إذا ما دعاه أحد لبى نداءه وجاء لنجدته فورا.قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ شرح الكلمات : ٦٣ مُريب: أرابه يُريبه إرابةً : شككه وجعل فيه ريبةً.أرابه منه أمر: أساء به الظن ولم يستيقن أرابك فلان بلغك عنه شيء أو توهمته أراب زيدا: أقلقه وأزعجه، قال المتنبي: ما أرابك من يُريب (الأقرب).الله التفسير: يشكو قوم صالح منه قائلين: لقد كنا نعقد عليك آمالاً جسامًا لما حباك به من فطنة وذكاء وقدرات وكفاءات.فكنا نتوقع أن تكون مصدر قوة ونفع لقومك، ولكنك بدأت تعمل على هلاكهم.ولم يدرك هؤلاء أن آمالهم في صالح كانت قد تحققت فعلاً، حيث أصبح مصدر خير وبركة لقومه، ولكن لم يتحقق ما كان مرجوا في أنفسهم هم حيث حُرموا من المساهمة في الحملة الإصلاحية التي بدأها صالح الخير قومه.ما أضعف هذا الكائن الذي يسمّى إنسانًا، يظل عائشا على الأمل زمنا طويلاً، وما أن يحين موعد تحقق آماله التي ظل ينشدها سنين عديدة، بل لعل قومه من قبل قد

Page 306

الجزء الثالث ۲۹۹ سورة هود عاشوا عليها قرونًا طويلة، حتى يقوم فجأة معرضًا عنها منصرفًا عن هذا المعين المتفجر حوله كي يرتوي منه قوم آخرون.آه، ما أشبه الليلة بالبارحة ! لقد كان المسلمون ينتظرون منذ قرون رجلاً موعودا لهم من السماء، فلما جاءهم بالحق أعرضوا عن ندائه ولم يغيروا ما بأنفسهم، بينما أخذت تؤمن به أقوام أخرى وتنتفع ببركاته.وقولهم أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا..أي أتمنعنا من أن نعبد كما عبد آباؤنا.والمراد أننا كنا نتوقع منك أن ترفع اسم الآباء ولكنك بدأت تضع الفأس على جذورنا حيث تحارب عقائد الآباء وطرق عبادتهم.القاعدة أن الإنسان إذا مرض أصبح فمه مريضًا أيضًا، فيجد الماء الزلال مرا.وهذا ما حدث هم، فلما كانت قلوبهم فاسقة قالوا عن التعليم الذي أنزله الله لدفع الشكوك بأنه يملأ قلوبنا بأنواع الشكوك والشبهات.إن قولهم لصالح بأنك كنت محطّ آمالنا لم يكن عن إغراء له أو أسف عليه، بل هكذا جرت سنة الله مع أنبيائه عليهم السلام.فكل من بعثه الله تعالى نبيا، يكون قد ترك وقعا عظيمًا في قلوب القوم قبل دعواه بما أوتي من كفاءات بارزة وقدرات مميزة.وهذا أمر ضروري أيضًا، لأنه عند بداية دعواه لا يكون شيء من الأنباء والوعود قد تحقق له بعد، كما لا تكون تعاليمه وشرائعه قد نزلت بشكل كامل، فلا يكون في من دليل على صدقه إلا حياته السابقة لدعواه.وهذا هو البرهان الوحيد الذي أقنع السيدة خديجة وأبا بكر وعليا وزيدًا –رضي يده عندئذ الله عنهم- بصدق النبي ، فإنهم لم يؤمنوا به برؤية معجزة أو آية أو تعليم مفصل، وإنما صدقوه بمجرد إعلانه عن دعواه، بناء على ما رأوه من حياته الطاهرة.(السيرة النبوية لابن هشام).

Page 307

الجزء الثالث سورة هود قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً ٦٤ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَحْسِيرٍ ) شرح الكلمات : ينصر : نصر فلانًا من عدوّه : نجاه منه وخلصه وأعانه وقواه عليه.(الأقرب).تخسير : خسره : جعله يخسر؛ نَسَبه إلى الخسران؛ أضله؛ أهلكه (الأقرب).التفسير : يقول صالح الله لقومه : تقولون لي بأن تعاليمك تثير في قلوبنا شتى الوساوس والشبهات، وأنك لو لم تدعُنا إليها لاخترناك سيدا علينا! فهلا أخبرتموني أنني لو كنت في الحقيقة من عند الله تعالى فماذا سأجنى من زعامتكم بترك رسالته.أفلا تزيدني صداقتكم وبالاً وسيادتكم خسرانًا! وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ : الكلمات : شرح 70 ذَرُوها ذَرْهُ أَي دَعْه، يقال: ذَرْه واحذَره (الأقرب).التفسير: كانت ولا تزال ناقة صالح ال مرتعا يجول فيه خيال الناس.وقد جمع حولها المفسرون من الأساطير والخرافات أصنافًا وألوانًا حتى قال بعضهم بأن الكفار عندما طالبوه بآية صدقه خلق على الفور ناقة من بطن الجبل، وكانت حاملاً، فور خروجها من الجبل ابن كثير).لقد جمعوا في تفاسيرهم دون أن ينتبهوا إلى تأثيرها الخطير في قلوب السذج من الناس.فولدت ما سمعوه من خرافات

Page 308

الجزء الثالث سورة هود الحقيقة أن القرآن الكريم لا يقول بخلق الناقة هكذا كمعجزة، بل يصرّح (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (الشعراء: ١٥٤-١٥٧).والمراد من قولهم مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أَي من المخدوعين.والمراد من قوله لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ أَن لها الحق في ورود الماء في يومها المحدد، كما لكم الحق أن تستقوا في يومكم المحدد أيضًا.تبين هذه الآيات أن الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما هي حُرمتها التي جعلت معجزةً، حيث أنذر صالح بالعذاب كلّ من يتعرض لها بالسوء.لو كان خلقها آيةً – يزعمون - لقال: لقد سبق أن خلقت الناقة من الجبل كمعجزة استجابة لمطلبكم، كما ولكنه ينذر بالعذاب من يهدد حريتها في الشرب.أما السؤال: كيف صارت الناقة آية فالجواب الأول عليه هو ما كان يذكره أستاذي المعظم المولوي نور الدين الله حيث قال كان من عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرةً تأكل وترتع في حرث الناس حيث تشاء، وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم أن ووفق هذه العادة الشائعة سرّح صالح ال ناقته بأمر حريتها علامةً على سلطته السماوية، معلنا لهم من تعرض لها من عند الله أهلكناه.بسوء جاعلاً تعالى، أن لا يمسوها بسوء، وإلا فسيكون هذا بمثابة خروجهم على حكومة السماء، وسوف يحل بهم العذاب.ولو قال قائل: إنه لا يليق بنبي من أنبياء الله أن يفعل كما يفعل ملوك الدنيا الطغاة، فيطلق فحلاً يأكل في حرث القوم ويفسده، ثم يهدد هو بالويل والدمار لمن يمنعه من فساد زرعه! فجوابه هو أنه لا شك في أن هذا لا يليق بالنبي، ولكن صالحًا يكن يقلّد هؤلاء الطغاة إذ لم يقل بأن ناقتي سوف ترعى في أي أرض وفي أي حرث، بل قال: (فذروها تأكل في أرض الله...أي سترعى في الأرض التي لا يملكها أحد، لأن أرض الله هي ما لا يكدح أحد في زراعتها، وإنما هي خالية من الزرع، تنبت لم

Page 309

الجزء الثالث ٣٠٢ سورة هود العشب والكلأ بما يتزل عليها من ماء السماء.أما أنا فأرى شخصياً أن صالحا الله قد أراد بقوله: (فَذَرُوهَا تَأْكُلُ في أَرْضِ الله أن ذروني أتحرك عليها بحرية في أسفاري التبليغية ولا تمنعوني من أن أنتقل عليها من مكان إلى آخر لأداء واجباتي الدينية.ومثل هذا المجاز كثير في جميع اللغات حيث يراد بمنع المركب منع الراكب، لأنهم إذا أرادوا إيقاف راكب أوقفوا مطيته.فيبدو أن القوم كانوا يحولون دون رحلاته التبليغية ولا يدعونه يتحرك بحرية هنا وهناك، فنهاهم عن ذلك قائلاً: دعوا ناقته تذهب به حيث يشاء لتبليغ رسالة ربه.ولكنهم قتلوا الناقة، أو بتعبير آخر، أخبروه عمليا أنهم لن يسمحوا له بالتبليغ في بلدهم بهذه الحرية.فأخذهم العذاب الذي دمرهم تدميرًا.الله وقد يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن صالحا ال كان قد أدرك أن احتكاكه بالقوم يؤدّي إلى المزيد من الفتنة والفساد فأراد أن يتحاشى الاصطدام بهم.وبما أن العيون والمراعي هي ملتقى القوم عموما امتنع بأمر من الله- عن أخذ ماشيته إلى العامة، وصار يرعاها في أرض نائية لا يملكها أحد كما توقف عن إيراد ناقته المراعي الماء في الموعد المعتاد عمومًا، بل اتخذ لذلك موعدًا آخر حيث لا يكون فيه الرعاة الآخرون.ثم أعلن للقوم : ها قد اتخذت أنا وأتباعي كل تدبير ممكن لتفادي الفتنة، متكبدين المشقة والعناء، إذ تركنا المواعيد والمراعي التي قد تؤدي إلى الاحتكاك والاصطدام بكم.فإذا أثرتُم الفتنة والفساد بعد ذلك فسيكون معناه أنكم لا تريدون أن نعيش ونحيا، وعندئذ سوف يحل بكم العذاب من عند الله تعالى.وهذا المعنى يتأكد بالأحداث التاريخية أيضًا حيث تذكر التواريخ القديمة واديا باسم "فج الناقة" العرب قبل الإسلام ص ٦٤ كما ورد هذا الاسم في كتاب الجغرافيا لبطليموس الذي كان قبل الميلاد بمائة وخمسين سنة.والمؤرخون اليونان القدامى يطلقون عليها (Badanata)، وهو تحريف لـ"فج الناقة" (أرض القرآن ج۱، ص ١٩٦).إذن فوجود واد قديم بهذا الاسم يعطى انطباعا أن صالحا ال

Page 310

الجزء الثالث سورة هود كان قد اتخذ لناقته مرعى منفصلاً بعيدًا عن قومه حتى لا تحتك ناقته بالمواشي الأخرى، ولا يشتبك راعيها بغيره من الرعاة، ولا تحصل فتنة ولا فساد، ولكن معارضيه لم يرضوا بذلك أيضًا، بل وصلوا هناك وقتلوها، فأخذهم العذاب لهتكهم حرمة قرار السماء.ولا يعجبن أحدٌ ويقول: كيف يجوز إبادة أمة بأسرها على قتل ناقة واحدة؟! ذلك براحة أن قتلهم الناقة كان بمثابة تمردهم على الله تعالى وأنهم لن يدعوا رسوله صالحًا في أي مكان، وسوف يمنعونه من تبليغ رسالات الله بالقضاء على كل وسيلة يتخذها للقيام بمهامه التبليغية.وهذا كان دليلا على عدائهم وتمردهم الشديدين، ولا يمكن أن تنجو من العقاب أمة كانت قد أصبحت محرمةً في حق الله تعالى بعد أن أنكرت رسالته.فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب فا ٦٦ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا وَمِنْ حَزْيِ يَوْمنذ إن رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيرُ ) ٦٧ التفسير: لا شك أن العذاب في حد ذاته يسبب الخزي وأي خزي، ولكنه تعالى قد بين بزيادة كلمة من خزي يومئذ أن عذابهم كان يحتوي على عناصر الخزي والذل بشكل خاص.

Page 311

الجزء الثالث ٣٠٤ وَأَحَدَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ شرح الكلمات : الصيحة: العذابُ؛ الغارةُ إذا فوجئ الحى بها.(الأقرب).جاثمين: جثم يجثم ويجثم حُثومًا: تلبد بالأرض (الأقرب).سورة هود التفسير: لقد وصف عذابهم هنا بالصيحة، وفي سورة الأعراف سماه رجفة أي زلزالاً، وفي سورة الشعراء أطلق عليه العذاب فقط، وقال في سورة النمل آنا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)، وجاء وصفه في سورة الذاريات صاعقة، أي البرق المدمر، وفي سورة الجاثية سُمّى عذابهم طاغية..أي المتجاوز للحدود، وأما في سورة القمر فقال: الصيحة، وفي سورة الشمس قال: فدمدَمَ عليهم.ولأول نظرة نجد في هذه الأوصاف اختلافا، ولكن الواقع ليس هكذا، لأن الصيحة والصاعقة والطاغية تعني العذاب أيضًا، فإذا كان القوم قد دُمّروا بالزلزال فكل هذه الأوصاف ملائمة وصحيحة تماما.كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ.شرح الكلمات : لم يغنوا : غني يغنى فلان: عاش (الأقرب).79 التفسير : لم يقل هنا مثلاً ألا بُعدًا لثمود قوم صالح كما قال في الآية (٦١): ألا بُعْدًا لَّعَادِ قَوْمٍ هُود.ولا يظنن أحد أن تلك الزيادة في الآية ٦١ كانت بهدف القافية، لأن القافية كانت ستختل لذلك لم يقل هنا (قوم صالح.كلا، إن القرآن

Page 312

الجزء الثالث ٣٠٥ سورة هود الكريم لا يزيد الكلمات أو ينقصها من أجل السجع ،والقوافي، بل يرجع هذا الفرق بين الآيتين إلى حقيقة تاريخية.ذلك أن (عاد) اسم لأمتين: عاد الأولى وعاد الثانية.فلو اكتفى القرآن بقوله ألا بُعْدًا لعاد دون زيادة قَوْمِ هُود لاشتبه ما يقصده القرآن هناك، ولم يدرك القارئ هل يقصد عادًا الأولى أم الثانية أم الاثنتين.فبزيادة كلمة (قَوْمِ هُود وضح أنه يقصد عادًا الأولى فقط.أما ثمود فهو اسم يطلق على أمة واحدة هي قوم صالح، فما كان هناك احتمال لاشتباه المراد، فلم يقل بعده (قوم صالح).لقد ورد ذكر ثمود في التواريخ اليونانية أيضًا التي تحدد زمنهم قريبا من زمن المسيح ال، وقالت بأن موطنهم هو الحجر ، وأطلقت عليهم اسم (Thamdeni) (Supplement Ti the Oxford English Dictionaray, A Thamudic) وذكرت عن مقربة من الحجر موضعا باسم "فج الناقة".لقد كتب ذلك المؤرخ اليوناني الشهير بطليموس الذي كان قبل الميلاد ب ١٤٠ سنة (العرب قبل الإسلام - ص٦٤).وقال أبو إسماعيل صاحب "فتوح الشام": "إن ثمود ملئوا الأرض بين بصرى وعدن، فلعلها كانت في طريق هجرتها نحو الشمال" العرب قبل الإسلام ص ٦٥).أي أن هذا الحادث وقع عندما اضطروا للهجرة من اليمن وقت اشتداد شوكة القبيلتين حمير وسبأ فيها.كانت ثمود حاكمة على المنطقة الواقعة في جنوب الأحقاف، وعندما طردتهم حمير وسبأ هاجروا إلى الحجاز فتهامة فالحجر.ولكن صاحب "مدن العرب" يعلق على ذلك قائلاً: "ولا يخرج الحكم في ذلك من التخمين" (العرب قبل الإسلام، ص ٦٥).الواقع أن العرب يرون أن (ثمود) أيضا كانوا فرعًا من (عاد)، قاطنين مثلهم في اليمن، وعندما استتب حكم الحميريين في اليمن طردوهم إلى ناحية الحجاز.ولكن لا يقوم عليه أي دليل إلى الآن إذ لم يعثروا بعد على أي آثار لهؤلاء في جنوب الجزيرة.

Page 313

الجزء الثالث ٣٠٦ سورة هود وكانت الحجر تسمى في القديم "مدائن صالح"، ويتبين من آثارها القديمة أنها كانت خضعت لحكم النبطيين ويسمون أنباطًا أيضًا - قبل الميلاد.وكان وطنهم الأصلي "البتراء" التي تسمى Petra) باليونانية.فقد عثروا هناك على كثير من الكتابات النبطية.ولكنهم إلى جانبها قد اكتشفوا كتابات باللغة اليمنية أيضًا ويسميها جماعة من المستشرقين "ثمودية" أي كتابات تنتمي إلى قوم نمود.وهذا الاكتشاف يؤيد موقف الجغرافيين العرب الذين قالوا إن وطن ثمود كان في جنوب الجزيرة وأنهم هاجروا منها إلى الحجر في الشمال، وإلا كيف تشابهت لغتهم باللغة اليمنية.والحجر التي يبدو أنها كانت عاصمة ثمود - تقع ما بين المدينة المنورة وتبوك.ويسمى وادي الحجر هذا وادي القرى.لقد كانوا ذوي قوة ومنعة كما يصفهم القرآن بقوله (الَّذِينَ جَابُوا الصَّحْرَ بالْوَاد (الفجر: (١٠).ويذكر القرآن الكريم أن زمنهم كان بعد قوم عاد مباشرة حيث قال (وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادِ (الأعراف: ٧٥).وكذلك قال حكايةً عن رجل مؤمن من قوم فرعون رفع صوت الحق في البلاط الملكي محذرًا قومه ومؤيدا موسى: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ (غافر: ٣١ - ٣٢).يتبين من ذلك أن ثمود كانوا أسبق زمنًا من زمن موسى لأنه يقدّم هلاكهم دليلاً على صدق موسى.وهناك استدلال آخر يؤكد أن هؤلاء كانوا قد هلكوا وبادوا قبل موسى بكثير.فإنهم في أواخر زمنهم كانوا حاكمين على ما بين شمال الجزيرة وجنوب فلسطين، ومن ناحية أخرى يخبرنا القرآن أنه في زمن موسى كانت هذه المنطقة خاضعة لقوم مدين.وبنو مدين هؤلاء كانوا من نسل مديان بن إبراهيم ال من زوجته الثالثة "قتورة".وكانوا يعيشون في هذه المنطقة عندما أخرج يوسف ال من البئر وأُخذ إلى مصر (التكوين (٢٥.فتبين من ذلك أن ثمود ما كانوا حاكمين على تلك المنطقة في زمن موسى، بل كانوا قد هلكوا حتى قبل إبراهيم أو كانت شوكتهم أيضا

Page 314

الجزء الثالث ۳۰۷ سورة هود قد انكسرت تماماً ، وإلا لم يستطع بنو مديان انتزاع حكم المنطقة من أيديهم.ولا أقصد بهذا الاستدلال بيان حقيقة تاريخية فحسب، بل أقصد أيضا الردّ على ما يطعن به المؤرخون المسيحيون في القرآن الكريم بأنه لا يراعي الترتيب الواقعي لدى سرد أحداث الماضي.الأبطال) وعبادتهم ص۸۷.الحق أن القرآن الكريم في كل مكان قد قدّم ذكر هود على ذكر صالح ثم ذكر إبراهيم فموسى عليهم السلام، مما أنه قد سرد حتى الأحداث التي اندثرت آثارها سردًا صحيحًا وبترتيب صائب يعني محكم للغاية.ونظرا إلى ما سبق ذكره من أدلة وآثار نستطيع القول على وجه التخمين بأن الزمن الحقيقي لانحطاط ثمود هو نحو ٣٦٠٠ سنة من اليوم.لقد قال البعض بأن ثمود هم عاد الثانية، ولكن غيرهم لا يتفق مع هذا الرأي، بل يرون أن ثمود جاءوا ما بعد هلاك عاد.وكأن عادًا الأولى كانوا قد هلكوا في زمن هود ، وجاء بعدهم عاد الثانية، وأما (ثمود) فإما أنه اسم آخر لعاد الثانية أو هم أمة أخرى خرجت من نسل من بقي منهم بعد العذاب.وقد ذكر الشيخ محمد سليمان الندوي في كتابه أرض القرآن": "لقد عثر بعض المسلمين في زمن معاوية له على إحدى الكتابات الأثرية الثمودية – مع العلم أن الأثريين الغربيين لا يثقون بهذه الرواية - ولكن لم يُعرف مصيرها بعد ذلك (أرض القرآن ص ١٢٤ و ١٨٣).وقد عثر عليها الآن مرة أخرى المستشرق الإنجليزي (Wellested) في سنة ١٨٣٤.ونُشرت ترجمتها في مجلة ( Asiatic Society Journal)، ونقلها عنها المستشرق الإنجليزي (Forester) في كتابه.واللغة الأصلية لهذا الأثر حميرية.وهي في الواقع لهجة عربية لأهل جنوب الجزيرة العربية، ولكن المستشرقين سموها الحميرية.لقد عثروا عليها في مكان باسم "حصن غراب" قرب عدن.وإليكم تعريب ما جاء فيها:

Page 315

الجزء الثالث ٣٠٨ سورة هود "لقد عشنا طويلاً في هذا القصر في مأمن من البؤس والشقاء.كانت الأنهار تمد قنواتنا بالمياه، وكانت أمواج البحر الهائج تصطدم في غضب بجدران الحصن، وكانت مياه الينابيع تنساب بخرير عذب بين النخيل التي يغرسها البستانيون في أراض صالحة خصبة في وادينا كنا نزرع الأرز، ونصيد البقر الوحشي والأرانب الفتية.وكنا نداعب السمك حتى يخرج من الماء.كنا نمشي متبخترين وعلينا الحلل السندسية الخضراء المزركشة الزاهية الألوان وكان يحكمنا ملوك ذوو أفكار نزيهة طيبة، وكانوا يعاقبون الأشرار وفق شريعة.هود كنا ندوّن القرارات والأحكام الصائبة في كتاب.وكنا نؤمن بالمعجزات وبيوم القيامة وبسر "نث نون" هجم علينا اللصوص وخاصمونا فأسرجنا الجياد، وتصدى لهم فتياننا الأشراف برماح صلبة حداد.كان البواسل الأبيون من رجالنا ونسائنا يقاتلون على متون خيل طويلة الأعناق كماتي الألوان، فلم تزل سيوفنا تُتَّخنُ في العدو الجراحَ وتقطعهم إربا، إلى أن قمنا بغارة على قلب الأعداء، فهزمناهم وكسرنا شوكتهم، وكانوا من أسوأ الخلق".يتضح من هذه العبارة الأثرية أن القوم كانوا ذوي حضارة وثقافة حيث كانوا يقومون بتدوين القرارات القانونية الهامة، لتكون مرجعًا لرجال القضاء، وهذا كما يفعل الإنجليز اليوم حيث ينشرون في دوريات خاصة التقارير عن أهم قرارات المحاكم.إننا لا نستطيع الجزم ما إذا كانت هذه الأمة المذكورة في الأثر قد مضت قبل صالح الأم بعده، إذ من الممكن أن يكون قد بقي جزء من قوم هود في جنوب الجزيرة ولم يهاجروا مع الباقين إلا أنه من المؤكد أنهم كانوا من قوم ثمود وقد بعث صالح إليهم أو إلى إخوانهم الذين هاجروا إلى الشمال.ويتضح من قوله تعالى (تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا (الأعراف: (٧٥ أن ثمود كانوا حاكمين على مناطق الجبال والسهول معا.كما أن قوله تعالى في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعِ وَنَحْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ (الشعراء: ١٤٨ - ١٤٩) يشير إلى أن أرضهم كانت ذات عيون وبساتين وزروع ونخيل من نوع جيد.

Page 316

الجزء الثالث سورة هود وهكذا فإن هذا الأثر يصدّق ويوثّق كل كلمة وردت في القرآن الكريم وصفا لهؤلاء القوم.يبدو أنه بعد صالح ال بقليل دب الفساد في قومه "ثمود" وأخذوا بالانحطاط، إذ إننا لا نجد بعد زمنه لبضعة قرون أي أثر ولا ذكر لهم بين الأمم الغالبة.لقد ذكرت ثمود بعد ذلك في نُصب تذكاري للملك الآشوري سرجون أو شرغون أقامه تذكارا لانتصاره على العرب، وكان زمن ملكه ما بين ۷۲۲ إلى ٧٠٥ قبل الميلاد.وقد ذكر هذه الأمة المؤرخون اليونانيون أيضًا وهم ديدورس (۸۰) قبل الميلاد) وبليني (۷۹) قبل الميلاد)، وبطليموس (١٤٠) قبل الميلاد.وعندما هاجم الملك الرومي "جستين" العرب كان بين جنوده ثلاث مائة جندي من أمة ثمود.أما عند ظهور الإسلام فإن كل أثر لهذه الأمة كان قد انمحى واندثر.(أرض القرآن ص ۱۹۸) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيدٍ شرح الكلمات : V.ما لبث يقال: ما لبث أن فعل :كذا ما أبطأ في فعله أو ما تأخر عنه (الأقرب).عجل العجل ولد البقرة، وقيل: أول سنة (أي ما كانت سنه دون عام) (الأقرب).حنيذ: الحنيذ: المشوي.وفسّره أبو زيد بالنضيج؛ وآخر بالذي يقطر ماؤه بعد الشَي (أي الشواء.ونقل الأزهري عن الفراء: الحنيذ ما حفرت له في الأرض ثم غممته، وهو من فعل أهل البادية إلى أن قال والشواء والمحنوذ الذي قد ألقيت فوقه

Page 317

الجزء الثالث سورة هود الحجارة المرضوضة بالنار حتى ينشوي الشواء شديدًا فيتهرّى تحتها (الأقرب).التفسير : لقد ذكرتُ من قبل أن هذه السورة تتحدث عن إبراهيم حديثا ضمنيًا كمدخل في الموضوع الأساسي وهو الحديث عن لوط عليهما السلام، الذي دمر قومه بالعذاب، لأن موضوع السورة يدور حول ذكر الأمم التي تعرضت للعذاب.وذكر إبراهيم قبل لوط لأن الأخير كان من المؤمنين ،به ونبيًا تابعًا له، مثلما كان إسماعيل وإسحاق نبيين تابعين له أيضا، أو كما كان هارون لموسى، ولكنهم لم يكونوا أنبياء أُمتيين، لأن النبوة كانت توهب عندئذ مباشرة، لا بفضل إتباع أحد للنبي المتبوع، أما الأُمتية فلا توجد إلا في أمة المصطفى ﷺ حيث يكون النبي التابع له نبيا من النبوة ناحية وأُمتيا من ناحية أخرى.وباختصار كان لوط نبيًا تابعًا لإبراهيم عليهما السلام، مؤمنًا به قبل تشرفه بالنبوة، وهاجر معه إلى الشام، ولذلك قرّر الله أن يُخبر إبراهيم أولاً بهلاك قوم لوط.لذلك نجد القرآن هنا يقدّم على ذكر لوط ذكر النبأ الذي تلقاه إبراهيم عن هلاك قوم لوط.ولكن لاحظوا رحمة الله الواسعة بإبراهيم فحيث إن النبأ المؤلم لم يكن يمت إليه بصلة مباشرة، وإنما فقط لكونه نبيًا متبوعا من قبل لوط، لذلك خفّف الله عن إبراهيم وطأة خبر هلاك الأشرار مبشِّرًا إياه بخروج جيل صالح من نسله.من هم هؤلاء الرسل الذين أخبروا إبراهيم بهلاك قوم لوط عليهما السلام؟ يرى بعض المفسرين أنهم أناس بينما هم ملائكة عند الآخرين (ابن كثير، وبيان القرآن).وأرى أنهم بشرٌ سُمّوا ملائكة لصلاحهم، كما وصف يوسف ال إِنْ هَذَا إِلا مَلَكَ كَريمٌ ﴾ (يوسف: ٣٢).ملكًا في القرآن وهناك آية تعارض كونهم ملائكة وهي قوله تعالى قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولاً) (الإسراء: ٩٦).تخبرنا الآية بأمرين؛ الأول : أن الملائكة يأتون كرسل إلى الصلحاء لا إلى الأشرار.إذن فالآية

Page 318

الجزء الثالث ۳۱۱ سورة هود تعارض الزعم أنهم ملائكة تمثلوا في صور إنسانية لأهل القرية الأشرار عندما ذهبوا إلى لوط.والثاني: أن الإنسان الصالح أيضًا يسمّى مَلَكًا، لأن الآية استخدمت كلمة الملائكة بمعنى الناس، إذ لو كان أهل الأرض ملائكة حقيقيين لما كان هناك حاجة لبعث الرسول إليهم، لأن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.ولو قيل: لماذا لم يزف الله البشرى لإبراهيم مباشرةً دون واسطة هؤلاء الرسل؟ فالجواب أنه قد جرت سُنّة الله فيما يتعلّق بالأنباء أن المرء يرى ويُرى له" (ابن ماجه، تعبير الرؤيا)..بمعنى أنه تعالى يخبر المؤمن بمشيئته بطريق مباشر وأيضا بواسطة الآخرين.وبما أن هؤلاء الرسل كانوا متجهين إلى لوط بهدف خاص، وكان عليهم أن يمروا على إبراهيم أيضا ليخبروه بالعذاب، فلذا زفّ الله بواسطتهم البشرى لإبراهيم حتى تخف صدمته بخبر العذاب.أما الهدف الخاص الذي من أجله أرسل هؤلاء إلى لوط بنبأ هلاك قومه، فلا نجد إليه أية إشارة يقينية في كلام الله تعالى، إلا أنني أرى لذلك سببًا، وهو أن إبراهيم ولوطا عليهما السلام كانا غريبين في المنطقة، إذ كانا قد هاجرا إليها من بلاد أخرى، فمن الممكن تماما أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى بعض صلحاء تلك البلاد يخبرهم بهلاك القوم، لكي يأخذوا لوطًا إلى مكان محفوظ قبل حلول العذاب.ولو قيل: هل هناك نظير لمثل هذا الموقف حيث لا يُخبر النبي بهلاك قومه إلا بواسطة الآخرين، ويفاجئ العذاب القوم دون أن يؤتوا فرصة للتوبة؟ فالجواب: لا.إن هذا لم يحدث قط، ولم يحدث لقوم لوط أيضًا.لأنني لا أقصد من قولي هذا أنه تعالى أخبره بهلاك القوم بواسطة هؤلاء الرسل فقط، وإنما أقصد أنه أخبره عن طريقهم باقتراب موعد العذاب فقط.كان لوط قد تلقى من الله تعالى نبأ هلاك القوم من قبل وكان قد أنذرهم منه، وذلك بدليل قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ وَأَصْحَابُ الرَّسُ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّع كُلٌّ

Page 319

الجزء الثالث ۳۱۲ سورة هود كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيد (ق:١٣-١٥).وهذا يؤكد أن هذه الأمم قد تلقت الوعيد من رُسلها كذلك تلقى إخوان لوط الإنذار بالعذاب منه.وأما هؤلاء الرسل فأخبر الله لوطًا عن طريقهم بموعد اقتراب العذاب، وذلك تخفيفا عنه ولكي يصطحبوه إلى مكان محفوظ من العذاب.ومما يدلّ أيضًا على أنهم كانوا قد أنذروا من قبل هذا قول الرسل للوط: (بَلْ جنَاكَ بمَا كَانُواْ فيه يَمْتَرُونَ) (الحجر: (٦٤)..أي جئناك لنخبرك بموعد العذاب الذي كنت تنذرهم به بينما هم كانوا يمارون.أما قوله تعالى: (قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلامٌ فهناك محذوف قبل (سلاما) والتقدير: نسلم عليك سلاما.وأما قول إبراهيم لهم : سَلامٌ) فهو إما مبتدأ خبره محذوف أي: سلام عليكم، أو هو خبر لمبتدأ محذوف، أي جوابي سلام ما أروع ما حرص عليه إبراهيم من آداب التحية والسلام مما يعلمنا القرآن بقوله (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحيَّة فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: ۸۷)..فالرسل دعوا له بقولهم سَلامًا)، وهي جملة فعلية كما شرحت ،آنفًا، فيرد عليهم إبراهيم بأفضل مما دعوا له حيث قال «سلام»، وهي جملة اسمية، والجملة الاسمية أقوى وأشد معنى وتأكيدا من الجملة الفعلية لأنها تدل على الدوام والاستمرار.كما تتضمن الآية درسًا آخر في موضوع الضيافة.فما أن وصل الضيوف بيت إبراهيم حتى قام لتوه فذبح عجلاً وقدمه إليهم شواء طيبا، دون أن يسألهم ما إذا كانوا قد تناولوا الطعام، أو ما إذا سيأكلون الآن أم بعد قليل؟.إن الضيافة من الآداب الإسلامية الأساسية، ولكن الواقع المؤسف هو أن المسلمين أخذوا يتهاونون فيها بتأثير الأمم الأخرى ، مع أن سنة النبي ﷺ في هذا الصدد لا تزال أسوة حسنة لنا.لقد كان المصطفى ﷺ متحليا بجميع الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة بشكل عام، ولكن إكرام الضيف كان من صفاته البارزة بحيث لمسته زوجه الأولى السيدة خديجة رضي الله عنها بوجه خاص.فعندما نزل عليه الوحي أول مرة

Page 320

الجزء الثالث ۳۱۳ سورة هود ورجع إلى البيت فَرعًا، وعبّر لزوجه عن قلقه مما حدث، طمأنته بقولها: "كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتَصلُ الرَحمَ، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق." (البخاري، بدء الوحي).لقد رمى بعض الجهال إبراهيم ال بالإسراف والتبذير لكونه ذُبَحَ عجلاً كاملاً ليقري ثلاثة أشخاص فقط ! ولكن الحق أن هذا ليس من الإسراف في شيء، لأنه كان يعيش في البادية حيث لم يكن هناك أي جزار أو محل للحاجيات اليومية كي يشتري منه ما يلزم ليعد لهم طعاما مناسبًا.لقد كان بنفسه يعيش على تربية الماشية، فما كان بوسعه - إن أراد إكرام ضيوفه - إلا أن يذبح ما يتيسر له من شاة أو عجل ويجهزه ويقريهم به.فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصلُ إِلَيْه نَكَرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا لخف إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَى قَوْمٍ لُوطٍ ) تَخَفْ شرح الكلمات : ۷۱ تكرهم: تكر الأمر ينكر نَكْرًا ونُكرًا ونكورًا ونكيرا: جَهله.نكر الرجل: لم يعرفه.(الأقرب) أوجَس: الرجلُ إيجاسًا: أَحَسٌ وأَضمَرَ (الأقرب) خيفةً: خاف يخاف خوفًا وخيفةً: فزع الخيفة: الفزع؛ الحذر؛ ضدُّ الأمن (الأقرب) التفسير: قوله تعالى (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً لا يعني أن إبراهيم ال أُصيب بالذعر والهلع منهم، بل المراد أنه قلق في نفسه أن يكون قد قصر في إكرام ضيوفه مما كرّه

Page 321

الجزء الثالث سورة هود إليهم أكل طعامه ولكنه لم يُبد قلقه لهم بلسانه، إذ ليس من اللباقة أن يقول أحد لضيفه: هل قصرت في ضيافتك، لأن هذا قول محرج.قوله تعالى (نَكرَهُمْ يعني أن إبراهيم ظنهم من المسافرين العاديين، ولكنه عندما وجدهم لا يأكلون أدرك على الفور أن وراءهم هدفًا لم ينتبه إليه، لأنهم لو كانوا مسافرين عاديين لقبلوا ضيافته، فإن المسافر في مثل هذه البرية لا يستطيع العيش بدون الاستجابة لمثل هذه الدعوة.ولكن هؤلاء أيضا لاحظوا قلق إبراهيم وحيرته من أمارات وجهه، فهدءوا من روعه قائلين: لا تقلق، فإننا لم نترك الطعام لتقصير منك في ضيافتنا، وإنما جئناك حاملين خبر العذاب لقوم لوط لذلك لا نرى من اللائق أن نأكل بهذه المناسبة.وهذه الآية أيضا تؤكد أنهم ما كانوا ملائكة بل بشرًا، وإلا لما قدموا هذا العذر، بل قالوا: نحن ملائكة ولا نأكل.وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشِّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ۷۲ شرح الكلمات : ضحكت ضحك يضحك ضحكا وضحكا وضحكا: ضدُّ بكي.وضحك الرجل ضَحَكًا: عَجِبَ أو فَزِعَ.(الأقرب) وَضحِكَ: فزع، وبه فسر الفراء الآية.(تاج العروس.ويُستعمل الضحك في السرور المجرد نحو: (مُسفرة ضاحكة)، واستعمل للتعجب المجرد تارة (المفردات).التفسير: كانت زوجة إبراهيم تسمع الحوار الجاري بين إبراهيم وضيوفه، فلما

Page 322

الجزء الثالث ٣١٥ سورة هود سمعت خبر العذاب لقوم لوط فزعت وتألمت لهلاكهم.ففرح الله تعالى بفعلها هذا، وبشرها بحفيد اسمه يعقوب من ابنها إسحاق الذي سبق أن تلقت نبأ ولادته قبل قليل بواسطة الضيوف.لقد أشفقت على خلق الله جل شأنه، فبشرها الله بذرية سوف ترتقي في سلم الخيرات والبركات.ما أوسعَ رحمة الله تعالى، حيث إن الإنسان إذا أبدى عطفا صادقًا على خلقه، ولو كانوا ممن يتعرضون للعذاب، فإنه تعالى يقدر عمله هذا وينظر إليه بحب وإعجاب.كما أن الآية تحل مسألة هامة أخرى.يقول المسلمون إن إسماعيل هو الذبيح أي الابن الذي أراد إبراهيم ذبحه ويرى النصارى أنه إسحاق عليهم السلام (التكوين (۲۲) ويمكن أن ندحض زعمهم هذا بالشواهد التاريخية إلا أن هناك من المسلمين ٢٢)، من يوافقون المسيحيين في الرأي خطأ (انظر تفسير الرازي، سورة الصافات)، ولكن الواقع أن هذه الآية وحدها تكفي لإصلاح خطئهم، لأنها صريحة في أن الله تعالى كان قد أخبر إبراهيم حتى قبل ولادة ابنه إسحاق أنه سوف يُرزق أولادًا ويكون يعقوب من بينهم من المقربين إلى الله تعالى.فكيف يُعقل أن يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه، الذي سبق أن أُنبئ عنه أنه سيكبر ويعيش طويلا حتى ينجب ابنا بارا مقربا لدى الله؟ ثم كيف يُعقل أن يكون إبراهيم أيضا قد نسي كل هذه البشارات والوعود الإلهية ويستعد لذبحه؟ فإذا كان يرى أن رؤيا الذبح تتعلق بإسحاق فلم لم يتوسل إلى ربه قائلا: يا رب، لقد سبق أن بشرتني في ابني هذا أنه سيعيش طويلاً حتى يُرزق ابنا مقربا لديك، فكيف تأمرني الآن بذبحه؟ فما هو المراد الحقيقي من أمرك هذا يا إلهي؟! فالآية تؤكد بكل وضوح أن إسماعيل هو الابن الذبيح، فلا داعي لنا لاعتبار إسحاق ذبيحا، متأثرين مما ورد في كتب اليهود المحرفة وكأن ما جاء فيها هو الصحيح.

Page 323

الجزء الثالث ٣١٦ سورة هود قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلدُ وَأَنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عجيب ۷۳ شرح الكلمات : يا ويلتي ويلتى أصلها ويلتي والويلة: الفضيحة؛ البلية.(الأقرب) عجوز: العجوز: المرأة المسنة لعجزها عن أكثر الأمور وهو وصف خاص بها (الأقرب) بعلي: البعل: ربُّ الشيء، يقولون: من بعلُ هذه الناقة؟ أي: ربُّها.الزوج والمرأة بعل وبعلة (الأقرب) التفسير: ليس المراد من الآية أن زوجة إبراهيم تعجبت من الخبر تكذيبا له.كلا، إذ لا يُتوقع حتى من امرأة مؤمنة عادية أن تتعجب من شيء باعتباره مستحيلاً على القدرة الإلهية، فكيف يُتوقع من زوجة نبي أن تُنكر قدرة الله تعالى، رغم رؤية آيات الله الكثيرة من قبل.الواقع أنها تعجبت إكباراً لنعمة الله عليها، لا إنكارا لقدرته.وقد ذكر مثل هذا العجب من إبراهيم أيضا في موضع آخر من القرآن الكريم، ولكنه بنفسه فسَّر عجبه مبينًا بأنني أتعجب إكبارًا للنعمة الإلهية لا إنكارا لها أو قنوطا منها حيث قال للرسل المبشرين له بالابن: قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقَانِطينَ لا قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ ربِّه إلا الضَّالُونَ) (الحجر: ٥٥-٥٧).قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ

Page 324

الجزء الثالث إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ٧٤ ۳۱۷ سورة هود التفسير : الشيعة لا يعتبرون زوجات النبي من أهل بيته (تفسير القمي، الأحزاب، قوله تعالى : ليذهب عنكم الرجس أهل البيت).ولكن القرآن الكريم قد أطلق هنا "أَهْلَ الْبَيْت" على زوجة إبراهيم وحدها، التي لم تكن قد ولدت بعد أي ولد.فالحق أن القرآن الكريم كلما استخدم هذه الكلمة قصد بها الزوجة أيضا.لوط فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ Vo شرح الكلمات : الروع: الفزع، راع: فزع (الأقرب) 6 التفسير لم يكن خوف إبراهيم ال على نفسه، وإنما على قوم لوط القلب، ومثل هذا الخوف لا يقدح في شأن النبي، بل هو دليل على عظيم تقواه وسموّ أخلاقه.فأول ما سمع إبراهيم نبأ هلاك القوم أصابه الفزع وتحير في أمره، ولكنه لما تلقى البشارة من الله بأنه سوف يعوّضه بأمة أفضل من الأشرار الهالكين خفّ همه وهدأ باله برؤية هذه المحبة الإلهية، فتشجع وبدأ يتوسل إليه لا مسترحما لقوم لوط.

Page 325

الجزء الثالث ۳۱۸ سورة هود إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهُ مُّنِيبٌ ) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ.قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) شرح الكلمات : أوّاه : الأوّاه : الكثير التأوه إشفاقًا.(الأقرب) منيب: أناب إليه: رجع إليه مرة بعد مرة.(الأقرب) : VV :التفسير ما أكثَرَ ما كان إبراهيم حظوة لدى الله، فإنه تعالى لم يقل له: اسكت فإنني لن أسمع لدعائك، بل قال له في لطف دعك يا إبراهيم من هذا السؤال، فقد حان الآن ميعاد ربِّك وقد جف القلم، ولا راد لقضاء الله.وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصيبٌ ) ۷۸ شرح الكلمات : سيء: ساءه: فعل به ما يكرهه، أو أحزنه (الأقرب) وسيء: فُعل ) وسيء: فعل به المكروه.ضاق بهم ذَرْعًا: ضَاقَ بهِ ذَرْعًا: ضعُفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصًا.وأصل الذَرْع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله.وأراد بالذراع في قوله: (ولكن كان أرحبهم ذراعا) النفس.(الأقرب) يوم عصيب: شديد الحر، أو شديد (الأقرب).التفسير: أي أن الرسل عندما وصلوا إلى لوط ال عانى منهم المشقة، ولم يجد من

Page 326

الجزء الثالث ۳۱۹ مخلصًا، أو تضايق من معاملتهم حيث لم يفلح فيما أراد منهم.سورة هود إصرارهم يقول بعض المفسرين بأن الرسل لما نزلوا ضيوفا على لوط حاول التخلص منهم، ولكنهم تطفلوا عليه بإلحاح شديد فتضايق من ذلك ابن كثير)، ولكن هذا الزعم باطل تماما.وأرى أن ما تذكره التوراة في هذا الصدد هو الصحيح (الخروج ١٩)، وإليه تشير الآية الواقع أن الرسل حينما وصلوا إلى قرية لوط دعاهم إلى بيته، ولكنهم لم يقبلوا دعوته، كيلا يشقوا عليه ويسببوا له الحرج ولكنه ألح عليهم فأصروا على الإنكار، فاستاء من ذلك ،وتضايق وهذا ما يذكره الله هنا، ليكشف لنا ما كان يتحلى به نبيه من خُلُق إكرام الضيف، وليس في ذلك كما ظن البعض- أدنى إشارة إلى بخله وسوء خلقه.وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُحْرُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ) شرح الكلمات: ۷۹ يُهرعون: أُهرِعَ الرجل (مجهولا): أُرعِدَ من غضب أو ضعف أو خوف أو برد؛ أعجل على الإسراع، فهو مُهرع.وفي اللسان : الهَرَع والهراع والإهراع: شدة السوق.وقال أبو عبيد: أهرع الرجلُ: إذا أتاك وهو يرعد من البرد.أقبلَ الشيخ يُهرع أي أقبلَ يُسرع مضطربًا (الأقرب) التفسير: يبدو من الآية أن لوطا ال خاف على الرسل أن يتعرض لهم قومه بمكروه، لأنهم كانوا أشرارا بالعموم.ولا نعني بالشر هنا شرا جنسيًا كما زعم بعض

Page 327

الجزء الثالث ۳۲۰ سورة هود المفسرين، إذ قالوا بأن الرسل كانوا ملائكة تمثلوا للقوم على صور فتيان مرد ذوي = = جمال وبهاء، وعندما رآهم قوم لوط أعربوا عن سرورهم وجاءوا مسرعين لفعل الفاحشة بهم (البحر المحيط وابن كثير).لكن هذا الظن باطل كليةً، لأن الله تعالى قد وضح الأمر في موضع آخر من القرآن الكريم حيث يحكي قولهم للوط أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) (الحجر: (۷۱)..أي ألم نمنعك من اصطحاب الأجانب إلى قريتنا.فلو كانوا فرحين بمقدمهم وهم يُضمرون الفاحشة بهم لكانوا قد ألحوا عليه بإحضار المسافرين إلى القرية بكثرة، ولكنهم على النقيض من ذلك يقولون له في غضب: ألم نمنعك من إحضار الغرباء.ولو قيل: لقد ورد في مكان آخر من القرآن الكريم (وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَة يستبشرُونَ) (الحجر: (٦٨)..أي جاءه قومه فرحين بقدوم الأجانب لأن الفرصة قد سنحت لفعل الفاحشة بهم، فالجواب: إنهم لم يفرحوا بنية الفاحشة بهؤلاء الضيوف، وإنما فرحوا لأنهم وجدوا في ذلك حجة يبررون بها معاقبة لوط، حيث قالوا: اليوم قد وقع هذا في قبضتنا وسوف نسوي معه الحساب.والواقع أنه في قديم الزمان كانت لكل مدينة أو لمجموعة من القرى حكومة مستقلة خاصة، ذات طابع جمهوري، فأحيانًا كان يحكمها ملك أو جماعة من علية القوم.وهكذا كان الحال بالنسبة لقريتي سدوم وعموراء اللتين بعث إليهما لوط ال (التكوين: ١٤).وقد ورد في التلمود وهو كتاب يضم الروايات التاريخية اليهودية أن أهل القريتين كانوا يقطعون على الناس طرقهم وينهبون أموالهم (الموسوعة اليهودية Sadom) والبديهي أن الأمة التي لا يأمن جيرانها بوائقها وإيذاءها لا بد أن تعيش في خوف دائم من جانبهم.وتذكر التوراة أنهم كانوا على حرب مع الجيران التكوين: ١٤)، ومن أجل ذلك كانوا لا يسمحون للغرباء بدخول القرية، مخافة أن يفتحوا أبوابها بالليل، فيفاجئهم العدو وهم نائمون.

Page 328

الجزء الثالث ۳۲۱ سورة هود وكان لوط يُكرم الضيوف عملاً بسنة الأنبياء عليهم السلام، فكان يستضيف المسافرين في بيته خشية أن يسلبهم القوم إذا باتوا في الخارج.وكان قومه ينهونه عن ذلك كما يدل على ذلك قولهم له أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَن الْعَالَمينَ) (الحجر: ۷۱).فعندما جاء بالرسل هذه المرة استشاطوا غضبًا لمخالفة أوامرهم وفرحوا واستبشروا أنهم وجدوا فرصة لمعاقبته ولحل القضية نهائيًا.ولما كان لوط يعرف سوء معاملتهم للضيوف الأجانب خاف أن يسيئوا إليهم، فقال لقومه مهدّدئًا ثورتهم: إن بناتي هؤلاء اللاتي يعشن بين ظهرانيكم من أطهر شهادةً على براءة ساحتي..أي لا تتعرضوا للضيوف لأنكم إذا طردتموهم هكذا مهانين فسوف تجلبون عليكم الفضيحة والعار أمام الآخرين.وأما خوفكم من أنني أتآمر عليكم مع الأعداء فلا داعي لذلك، لأن بناتي هؤلاء يشكلن ضمانًا يجب أن يُطمئنكم مع العلم أنه كانت للوط بنتان متزوجتان بين القوم إذ تستطيعون بكل سهولة أن تنتقموا مني بمعاقبتهما، دون أن تفتضحوا أمام العالم.أنه وقد هراً بعض المفسرين وقالوا بأن لوطًا ال كان قد قدم للقوم بنتين له ليشبعوا بهما رغبتهم الجنسية ولا يتعرضوا للضيوف (تفسير فتح البيان)، وقد كتبوا هذا متأثرين بما ورد في التوراة.ولكن هذا المعنى باطل تمامًا ولا يليق حتى بشخص رذيل دَعْكَ أن يصدر عن نبي من أنبياء الله الكرام، وهم أكثر الناس غيرة وحمية.الواقع لا يقترح مثل هذا الاقتراح حتى من يرتكبون الفواحش عمومًا.فلا ريب أن هؤلاء المفسرين قد وقعوا في الخطأ بسبب تأثرهم بالتوراة.لأن القرآن الكريم لا يقول أبدًا بأنه قدم بناته لهم من أجل أن يفعلوا بمن الفاحشة، وإنما حاول بذلك تهدئة أهل قريته قائلا: ما دام عيالي وأولادي يعيشون بينكم وتحت حكمكم فكيف ساغ لكم أن تسيئوا بي الظن وتعتبروني عدوا لكم يريد التآمر مع الأعداء.فافهموا قصدي واعملوا بتصحي، فهذا خير لكم، ولا تفضحوا أنفسكم بإهانة الضيوف.وقد قال بعض المفسرين إنه عرض على القوم بناته للزواج لا للفاحشة (فتح

Page 329

الجزء الثالث ۳۲۲ سورة هود البيان).ولكن هذا الرأي أيضا لا يبدو سليمًا لأن بناته كُنَّ متزوجات بين القوم من قبل بحسب بيان التوراة (التكوين (۱۹).ولو سلمنا جدلاً أنه كانت له بنات عذارى إلى جانب المتزوجات فلا تنحل المشكلة أيضا، إذ ليس من المعقول أن يأتيه أهل المدينة طامعين في ضيوفه الرجال للفاحشة، فيقول لهم لوط حسنًا، فليتزوج بعضكم ببناتي هؤلاء! ولما كان لوط ال شيخا كبيرًا فقد يكون قوله هذا مجازا، حيث اعتبر زوجات المعارضين كبناته فقال: إن بناتي هؤلاء أي زوجاتكم خير لكم وأطهر، فلماذا تعرضون عن الطريق السليم وتقعون في الفاحشة.^.قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٌّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ التفسير: عندما قال لهم لوط ل إن بناتي اللاتي من تحتكم لضمان كاف لبراءتي، فكأنما اعتبرهن رهائن عند القوم، ولكن كانت العادة الشائعة لدى هؤلاء الناس أنهم ما كانوا يرضون برهائن إناث بل بالرهائن الذكور من أولاد العدو، ولذلك ردوا عليه: لا نقبل الرهائن الإناث، وأنت تعلم جيدا أن قصدنا من ذلك أن تمتنع عن إحضار الضيوف الأجانب إلى القرية، فقولك، احتجزوا بناتي بينكم ولا تؤذوا ضيوفي قول مرفوض.يقول بعض المفسرين بأن قولهم مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقِّ أيضا يشكل دليلاً على أن لوطا ال عرض عليهم بناته للفاحشة أو الزواج.ولكن الحقيقة أن هذه الآية تبطل زعمهم، إذ كيف يتوقع من قوم بلغوا هذا الحد

Page 330

الجزء الثالث ۳۲۳ سورة هود في ارتكاب الفاحشة أن يفرقوا بين ما يحق لهم وما لا يحق في الأمور الجنسية الشهوانية، فقولهم مَا لَنَا في بَنَاتِكَ منْ حَقٌّ إنما يشير إلى عادتهم من أخذ الرهائن الذكور ، وليس إلى ما ذهب إليه هؤلاء المفسرون.قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (1) قَالُوا يَا ۸۱ لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعِ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفتْ منكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب ) شرح الكلمات : ۸۲ ملك :ركن الركن الجانب الأقوى من الشيء؛ الأمر العظيم؛ ما يقوّى وجند وغيره؛ العز والمنعة (الأقرب) التفسير : ورد في الحديث الشريف: "عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد البخاري، الأنبياء).ويقصد لوط من قوله هذا: يا ليت كانت بي قوة حتى أمنعكم من ارتكاب المعاصي، ولكن ليس لي عليكم سلطان، اللهم إلا أن ألوذ بربي وأطلب منه أن يتزل بكم العذاب، ولكني أؤجل هذا حتى يهتدي منكم من كان الهدى من نصيبه.غير أن القوم عندما لم يرضوا بالتماسه الحار المخلص دعا عليهم بإذن من الله تعالى، كما يصرح بذلك الحديث المذكور آنها.ولما علم الرسل أن لوطًا يريد أن يبتهل إلى الله لهلاك القوم كشفوا له غرض

Page 331

الجزء الثالث ٣٢٤ سورة هود قدومهم الذي كانوا يخفونه عنه، وأخبروه بأنهم قد أتوا من عند الله لنفس الغرض أي لنخبرك أن الله تعالى قد قضى بهلاك هؤلاء القوم ، ولقد أُرسلنا لنخرجك وأهلك عدا زوجتك من بين القوم قبل العذاب الذي سيحل بهم في الصباح ويهلكهم عن بكرة أبيهم.فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافَلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ( مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيد ۸۳ Λε شرح الكلمات : سجيل: السجيل: حجرٌ وطين مختلط (المفردات).السجيل: حجارة كالمدر (الأقرب).منضود: نَضَد المتاعَ ينضد نَضدًا : جعل بعضه فوق بعض (الأقرب) مُسوَّمة: المسومة: المرسلة؛ المعلمة (الأقرب) التفسير: يبدو أن القوم أهلكوا بزلزال عنيف مدمّر، لأن الزلزال الشديد يؤدي إلى قلب سطح الأرض، وتطاير الأحجار التي تتساقط على الأرض كالمطر.والمراد من قوله مُسَوَّمَةً أي أنه تعالى كان قد قدّر منذ الأزل أن تتسبب هذه الأحجار في دمار هذا القوم.واسم والد لوط هو حاران الذي كان أحًا لإبراهيم عليهما السلام، بحسب بيان التوراة.كان لوط قد هاجر مع إبراهيم إلى كنعان أي فلسطين من "أور" الواقعة في

Page 332

الجزء الثالث ٣٢٥ سورة هود العراق، ثم انفصل عنه وأقام في قرية باسم سدوم (التكوين ١١ و ١٣).وهناك عدة اختلافات بين القرآن الكريم والتوراة فيما يتعلق بقصة لوط، ففي حين تصمه التوراة بعادة الشجار والحسد (التكوين (۱۳)، يصفه القرآن الكريم بصفة الطيب والصلاح.كما يبدو من التوراة أن الرسل الثلاثة تناولوا الطعام الذي قدمه لهم إبراهيم ال (التكوين (۱۸) ولكن القرآن ينكر ذلك.والأعجب من ذلك أنها تقول بأن أحد هؤلاء الثلاثة هو الله والآخرين ملكان التكوين) (۱۸) ومن ناحية أخرى تزعم أنهم أكلوا الطعام.ونترك للقارئ أن يحكم بنفسه أي المصدرين أقرب إلى الحق والصواب.كما تقول التوراة بأن لوطا عرض على القوم بناته ليُشبعوا بمن رغبتهم الجنسية (التكوين (۱۹)، بينما يُعلن القرآن الكريم أنه لم يقدمهُنَّ إليهم لارتكاب الفاحشة وإنما کضمان لبراءته من التآمر.كما تقول التوراة بأن زوجته صارت عمودا من الملح عقابا من الله تعالى (التكوين ١٩)، بينما لا يذكر القرآن الكريم من هذه القصة الخرافية شيئا.أرى أن هذه الأمثلة من الخرافات تكفي لإظهار فضل القرآن الكريم على التوراة.وبين بقوله تعالى (وَمَا هيَ منَ الظَّالمين ببعيد أن هذا البيان ليس مجرد قصة مسلية، بل فيه نبأ بأن هذا سيحدث أيضا مع محمد رسول الله ، حيث قدر الله تعالى أن يدمر بعضًا من معارضيه كما دمر قوم لوط ال.وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ

Page 333

الجزء الثالث ٣٢٦ سورة هود عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ( وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ٨٥ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٦ شرح الكلمات : المكيال ما يكال به.(الأقرب).كانت الأشياء تعرف مقاديرها في القديم بطريقين: من بالإناء أي بالكيل أو بالثقل أي بالوزن وكان الكيل عندئذ أكثر استخدامًا الوزن.أما اليوم فالوزن هو الأكثر شيوعًا، وإن كانت السوائل يُعرف مقدارها بالكيل.الميزان آلة ذات كفتين يوزن بها الشيء ويعرف مقداره من الثقل والميزان: المقدار.(الأقرب) التفسير: قوله (إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْر يعني أراكم في ثراء ورخاء.والمراد أن الغش من الفقير أيضًا عمل مشين، ولكن غش الغني أكثر سوءاً وأشد قبحاً.وقوله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيط)..أحاط بالشيء يعني: أهلكه.لقد وصف (اليوم) بكونه محيطا على سبيل المجاز للمبالغة كقولهم: نهاره صائم، والمراد أن عذاب ذلك اليوم سيكون مدمرا للغاية.وقد تعني كلمة (يَوْمٍ مُّحِيط) أن ذلك اليوم لن ينقضي ما لم يستأصل شأفة القوم كلهم.لقد بعث شعيب ال إلى قوم مدين.ومَدْين أو مديان كان ابنا لإبراهيم من زوجته قتورة، وقد ورد ذكره في التوراة التكوين (٢٥ مع العلم أن الأولاد كانوا يُدعون في القديم باسم أبيهم، ولذلك سمي أولاده أيضا بمدين.أو ربما كانوا يسمون

Page 334

۳۲۷ سورة هود الجزء الثالث في البداية بنو (مدين فاختصر الاسم لكثرة الاستعمال.وكانت مدينتهم المركزية أيضا تسمى مدين.وربما كان اسمها في البداية ديار ،مدين فصار مدين فقط بمرور الوقت.منطقة أما عن موقع مدين فاعلم أن البحر الأحمر ينقسم في الشمال إلى فرعين، أحدهما يتاخم مصر، والثاني يتاخم شبه الجزيرة العربية، وهذا الأخير يسمى خليج العقبة.وكانت مدين تقع قريبًا من خليج العقبة على ستة أو سبعة أميال إلى جانب الجزيرة العربية.وبسبب قربها من الساحل قد اعتبرها بعض الجغرافيين القدامى مرفأ، بينما يرى الآخرون أنها لم تكن مرفاً بل كانت على بعد من الساحل.(دائرة المعارف الإسلامية باللغة الأردية، مدين شعيب).كانت القوافل التجارية من العرب تمر بمدين في طريقها إلى مصر.ولا تزال هناك إلى اليوم قرى عديدة باسم مدين ولكن مدين الأصلية قد اندرست ولا يوجد لها من آثار الآن.كان بنو مدين يسكنون في شمال الحجاز، وكانت هذه المدينة عاصمتهم.لقد هاجر موسى ال إلى مدين عندما فر هاربا من الفرعونيين بعد حادث قَتَلَ فيه أحدًا منهم الخروج) (۲) وعندما هاجر ببني إسرائيل أقام قريبا من مدين (الخروج ١٨).وهذه إحدى المشابهات التي كانت بين موسى وبين نبينا محمد عليهما السلام، إذ أقام النبي بعد الهجرة في المدينة، كما أقام موسى بعد الهجرة في مكان باسم مدين.مع العلم أن المدينة المنورة كانت تسمّى يثرب" قبل الهجرة لتفشي الأمراض والأوبئة فيها بكثرة، ولكن الله تعالى طهرها من الأوبئة بعد هجرة النبي إليها، فسماها المدينة.وهكذا تمت هذه المشابهة الظاهرة بين النبيين الكريمين عليهما السلام.النبي يتبين من دراسة أحوال شعيب اللة في القرآن الكريم ما يلي: ١.كان معظم معارضيه من سكان مدينته كما حدث مع الكريم عليهما السلام، فقد ورد في القرآن الكريم قَالَ الْمَلأُ الَّذينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُحْرِ جَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ) (الأعراف: ۸۹)

Page 335

الجزء الثالث ۳۲۸ سورة هود ٢.كان قومه يقومون بالغش والخداع في المعاملات اليومية، إلى جانب أعمالهم الوثنية، ولأجل ذلك نصحهم خاصة (وَلا تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ)..كانوا ينعمون بالثراء والرخاء ولذلك يقول لهم شعيب (إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ).٤.كانوا يقومون بقطع الطرق على الناس ولذلك نصحهم قائلا ﴿وَلا تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحها) (الأعراف : ٨٦) وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (هود: (٨٦).هذه الكلمات إما تدل على عادتهم قتل الناس وشن الغارات أو على كونهم صعاليك يقطعون الطرق.لقد كانوا يسكنون في منطقة كانت مفترق الطرق بين الشام ومصر وشبه الجزيرة.ويبدو أنهم كانوا ينهبون المسافرين المارين بأراضيهم.ومما يؤكد ذلك أنه كانت لأهل مدين غابة واقعة قريبا من مدينتهم، وكان يسكنها قوم باسم "ودان ، وودان" هذا كان ابن أخ لمدين.وقد سمى القرآن أهل هذه الغابة (أصحاب الأيكة)، وقد نصحهم شعيب أيضا بنفس ما وعظ به أصحاب مدين حيث جاء فيه كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُحْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (الشعراء: ۱۷۷.(١٨٤ والأيكة غابة بها أشجار السدر والاثل، وهذه الأشجار تهيئ كمينا سهلاً لقطاع الطرق، لأن فروعها كثيرة ومائلة إلى الأرض يختفي فيها الإنسان بسهولة.وفي موضع آخر قال القرآن الكريم في وصفهم وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَّالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِين) (الحجر ۷۹ و ۸۰).والمراد من وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ أَي أَن قوم لوط وأصحاب الأيكة كانوا يقطنون منطقة يمر بها طريق عام.يقول المفسرون بأن شعيبا كان قد بعث في زمن موسى عليهما السلام، وهو الذي

Page 336

الجزء الثالث ۳۲۹ سورة هود زوج ابنته من موسى عندما جاءه هاربًا من الفرعونيين بعد حادث القتل (التفسير الحقاني).ولكن التوراة تقول بأن الذي أقام عنده موسى في مدين وتزوج من ابنته اسمه حوباب أو يثرون (العدد ۱۰ والخروج (۳) ولقد أيد صاحب "أرض القرآن" رأي المفسرين سائقا الأدلة التالية على صحة موقفه : أولا: يتضح من التوراة أن موسى ا لدى هجرته ببني إسرائيل من مظالم الفرعونيين أقام في مدين أولاً، ولكن نسوة المدينة حاولن سَلْبَ إيمانهم واستمالتهم إلى الشرك حيث كن يأخذهم إلى معابدهن الوثنية، فقام موسى بشن غارة على أهل مدين وقتلهم بما فيهم النساء والأطفال.، ثانيا : سجل القرآن الكريم قول شعيب لقومه (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ) وهو إشارة إلى نفس الغارة التي شنها موسى على أهل مدين، والتي انتصر فيها، فقسم جزءاً من أراضي القوم بين الإسرائيليين وترك جزءا منها لأهل مدين.فقال شعيب عندئذ مهدئًا قومه مضى ما مضى وعليكم الآن أن ترضوا بالقضاء الذي أصدره موسى وأن تقنعوا بما بقي في أيديكم.وإن قوله وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا أيضا إشارة إلى ما فعل بهم موسى حيث نصحهم أن يكتفوا بالبقية الباقية في أيديهم، ولا يحاربوا الإسرائيليين بعد الصلح أرض القرآن ج ٥ ص ٤٦٤).إنني أتفق مع صاحب "أرض القرآن" فيما ذكره من معلومات عن أحوال مدين وموطنهم وأشيد بجهوده المشكورة، ولكني أختلف معه فيما يقول عن شخصية شعيب الله وإليكم أدلتي.۱ صحيح أن القرآن يحكي قولهم لشعيب أو أن تَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء أَوْ بمعنى أن يَدَعهم لينفقوا أموالهم بحرية ويتصرفوا فيها كما يشاءون، ولكننا لا نجد في القرآن الكريم ولا في التوراة أي ذكر لحادث قتال كهذا بين أهل مدين والإسرائيليين حتى نطبق عليه هذه الآية..وقول شعيب لهم وَلا تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا أيضا لا يعني ألا

Page 337

سورة هود الجزء الثالث يثيروا فتنة الحرب بعد عقد الصلح مع الإسرائيليين، إذ لم ينعقد أي صلح بين الأمتين بحسب بيان التوراة نفسها، بل إنها تقول إن الإسرائيليين استولوا على أملاك أهل مدين.إذا فلا مناص من أن نأخذ كلمة "الإصلاح" هنا بمعناها العام أي الصلاح والتقوى وليس بمعنى الصلح بعد الحرب.والمراد من قوله هذا أن لا يدمروا بأعمالهم الفاسدة ما نالوه من صلاح وتقوى نتيجة تربية الأنبياء المبعوثين إليهم من قبل.٣.تذكر التوراة أن حوباب هذا هاجر بعد دمار مدين إلى موسى ووجد هناك أرضا صالحة للزراعة ولا نجد له أي ذكر بعد ذلك العدد) (۱۰).وهذا يتنافى مع العقل والمنطق تماما، إذ كيف يمكن لنبي أن يترك مهمته الأساسية ويعرض عن قومه مهاجرًا إلى منطقة أخرى، ليشتغل هناك بالأعمال الزراعية متناسيا غاية بعثته.لا تذكر التوراة حوباب كبي أبدا، مع أنه لو كان هو حموا لموسى ونبيًا لَلَزِمَ ٤.أن تتحدث عن نبوته..0 لقد تحدث القرآن الكريم في عدة مواضع فيه عن شعيب النبي وعن هذا الشيخ الذي كان حموا لموسى عليهما السلام، ولكنه لم يذكر في أي موضع ولو بالإشارة والتلميح أن الاثنين شخصية واحدة.كما لم يقل القرآن الكريم أن حمو موسی كان نبيا.٦.انه لمما يخالف العقل أن تُدَمَّر أمة نبي بيد نبي آخر وهما على قيد الحياة.الواقع أنه على افتراض أن حربًا نشبت بين الأمتين كان من اللازم أن ينضم شعيب والذين آمنوا معه إلى صفوف موسى عليهما السلام ولكن التوراة أيضا خالية من أي ذكر كهذا، بل لا تذكر أي شخص آمن بحوباب بل ورد فيها على النقيض أنه لم يكن معه إلا أولاده فقط (العدد (۱۰).بينما يؤكد القرآن الكريم وجود جماعة من المؤمنين مع النبي شعيب العلمة (هود: ۹۳)..ومما يشكل أسطع دليل وأعظم برهان على كون شعيب وحوباب شخصيتين

Page 338

الجزء الثالث ۳۳۱ سورة هود مختلفتين هو قولُ القرآن الكريم بعد الحديث عن هلاك قوم شعيب: (ثُمَّ بَعَثْنَا من بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فَرْعَوْنَ وَمَلَئِه فَظَلَمُواْ بهَا ﴾ (الأعراف: ١٠٤).فما دام القرآن الكريم صريحًا في أن موسی سى جاء بعد هلاك قوم شعيب فكيف يسوغ لنا الظن أن شعيبا وحوباب كانا شخصية واحدة، وأن قوم شعيب أهلكوا على يد موسى وأصحابه.أن.ولو اعتبرنا شعيبا حموا لموسى للزم علينا القول بأن الأول لم يُبعث في قومه رسولا إلا بعد هجرة موسى بالإسرائيليين إلى مدين وأن مهمته انحصرت فقط في ينصح قومه بالتصالح مع المهاجرين.مع أننا نجد أن موسی وأصحابه واجهوا أثناء هجرتهم أمما أخرى أقوى مثل العمالقة ،وغيرهم، ولكن الله لم يرسل إليهم أي رسول ينصحهم بالتصالح مع موسى وأصحابه ! ٩..لقد سجل القرآن الكريم في نفس هذه السورة قول شعيب لقومه (وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم ببعيد) الآية: (٩٠) ، مما يوضح أن شعيبا جاء بعد لوط بزمن قريب.إذن فلا يصح القول بأنه بعث في زمن موسى عليهما السلام.في مصر؟.١٠.لو كان شعيب حموا لموسى فلماذا لم ينذر قومه بعذاب أنزله الله قبل قليل من الزمان على أعداء موسى الفرعونيين، خاصة وأنه كان يريد تأييد موسى وتعزيزه؟ فكيف يُعقل أن يتغافل شعيب عن ذكر ما فعل الله لأجل موس ضد أعدائه موسی وبالاختصار، فإني أرى أن المفسرين قد أخطأوا في زعمهم أن شعيبا كان حموا لموسى عليهما السلام.والحق أن حوباب الذي كان حموا له شخص وأن شعيبا شخص آخر كلية، وأنه قد شَمَلَ الهلاك قوم شعيب قبل بعثة موسى، و لم يبق من ذراريهم عندئذ إلا قليل، بعد أن آلت قوتهم وشوكتهم إلى الأفول تماماً.وأما ما تذكره التوراة من أن حوباب وضع نظامًا لقوم موسى فيبدو أنه كان قد استقاه من تعاليم شعيب.ذلك أن أتباع كل نبي يحققون الرقي، ولا بد أن يكون

Page 339

الجزء الثالث ۳۳۲ سورة هود المؤمنون بشعيب قد ازدهروا، وبما أنهم كانوا قريبي العهد من موسى، فمن الممكن تماما أن تكون آثار تعاليمهم وحضارتهم لا تزال باقية، فقام حوباب الذي يبدو أنه شعيب- باقتباسها، واقترح بموجبها نظامًا لأمة موسى عليهما السلام.من أمة بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم شرح الكلمات : بِحَفِيظٌ ۸۷ بقية الله: البقية: اسم لما بقي؛ مثل في الجودة والفضل، يقال: فلان بقية القوم أي من خيارهم، ويقال: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا.وأولو بقية أي أولو الرأي والعقل (الأقرب) التفسير: المراد من قوله بَقيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ أن ما تكسبونه بطرق مشروعة لكم ويجب أن تروا فيه الكفاية.ويمكن أن يعني أيضا أنكم من عند الله تعالى هو خير لو أحسنتم استخدام ما وهب لكم الله من قدرات وملكات لكان أدعى لرقيكم، من أن تلجئوا إلى أنواع الغش والخداع.ووضح بقوله (وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بحفيظ أن لا تظنوا أنكم سوف تنجون من العذاب بسببي.كلا، بل إذا لم تنتصحوا بنصحي فلا بد أن يحيطكم العذاب.وفي هذا إشارة إلى أن الناس – رغم عداوتهم الظاهرة لأنبيائهم – يكنون لهم احتراما بالغا ويعتبرونهم مصدر خير وبركة ،لهم لما رأوا منهم قبل دعواهم من سيرة طاهرة وأخلاق فاضلة.

Page 340

الجزء الثالث ۳۳۳ سورة هود قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالَنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ شرح الكلمات : ۸۸ الحليم: حَلُمَ: صَفَحَ وسَتَرَ.والحلم: الأناةُ؛ العقلُ.(الأقرب) الرشيد : ذو الرشد؛ الذي حَسُنَ رُشدُه فيما قدّر ؛ والرشيد في صفات الله: الهادي إلى سواء الصراط.(الأقرب) التفسير : أرى أن قولهم هذا أيضا استهزاء منهم وسخرية، والمراد: ليس لك علينا من فضل ولا فرق بيننا وبينك إلا الصلاة التي تضيع فيها ،وقتك، وأما الجد والكد في التجارة أو الزراعة وغيرهما فلا تعرف منها شيئا.فهل تريد منا أن نضيع ما حققناه من عز وشرف ببقائنا عاطلين مثلك؟ فقولهم أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ...) تشنيع منهم بشعيب بأنه قد أُصيب بالخبل والخرف من كثرة سجوده وصلاته، وصار يظنّ أن الصلاة هي كل شيء.ما له وعبادتنا وأموالنا.سنعبد ما نشاء، وننفق كما نشاء.العجيب أن شعيبا ال يعظهم أن لا يأكلوا أموال الآخرين بالباطل، ولكنهم يردون عليه بقولهم: ما لك وما نفعل نحن أحرار في أن نتصرف في أموالنا كما يحلو لنا.وكأنهم لما تأصل فيهم أكل أموال الآخرين كانوا قد فقدوا التمييز بين الحلال والحرام لدرجة أنهم لم يدركوا أنهم لا يأكلون أموالهم هم وإنما يمدون أيديهم إلى أموال الآخرين بالباطل.قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيْنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا

Page 341

الجزء الثالث ٣٣٤ سورة هود حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) شرح الكلمات :.۸۹ أخالف : خالفني إلى كذا: قصده وأنت مُوَلِّ عنه.(الأقرب) التفسير : هناك كلام محذوف والمراد ليست صلاتي التي تأمرني بهذا وإنما هو ربي الذي يأمرني به فأخبروني يا قوم، لو كنت في الواقع أتلقى وحيا من الله مقرونا بأدلة على صدقه، ورزقًا حسنًا من فضله ورحمته، أفلا يحق لي إذا أن أعظكم وأنهاكم عما أثبت بطلانه بأدلة دامغة؟ أما قولهم: لماذا تنهانا عن التصرف الحر في أموالنا فقد ردّ قائلا: انظروا إلى سلوكي وسيرتي أنا ألا ترون أنني عامل بما أنصحكم به، وما دام الأمر كذلك فلا شك أنني مخلص فيما أعظكم به.وإذا كنتم تظنون أنني أريد بذلك سلطة وحكمًا عليكم فهو أيضا ظن باطل، لأن الإنسان يمكن أن يُسدي النصح لأحد دون أن يكون سيدا وحاكما عليه، وما دام هذا حقًا مشروعًا لي فسوف أستعمله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.أما النتائج فليست بيدي، وإنما هي في يد الله تعالى، وما عليّ إلا البلاغ.ما أروعه وما ألطَفَه من شرح لمقام النبوة.فكل مأمور من عند الله تعالى بل كل مبلغ وداعية يواجه نفس المشاكل.في البداية يتبرم الناس من نصحه ووعظه، إذ يعتبرون نصحه نوعًا من الجبر والإكراه.ثم يهدئون قليلاً ويتنازلون ويعتبرونه مساويًا لهم في الدرجة، ويأذنون له أن يقول ما عنده، دون أن يصدقوا قوله.ولكن النبي لا يبدي أي سخط عليهم لا في المرة الأولى ولا في المرة الثانية، وإنما يهتم بأداء واجب التبليغ في الحالتين على سواء، ولا ينظر إلا إلى الله غير مكترث بكل من سواه.

Page 342

الجزء الثالث ٣٣٥ سورة هود وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم ببعيد ) شرح الكلمات : لا يحرمنكم: جَرَمَ لأهله: كَسَبَ، ومنه في القرآن: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى ألا تَعْدِلُوا ، أي لا يكسبنكم، وقيل أيضًا : لا يحملتكم (الأقرب).وأصلُ الجرم: قطعُ الثمرة عن الشجر ، واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ومعنى جَرَمَ: كَسَبَ أو جنى (المفردات).التفسير: يتضح من الآية أن شعيبا بعث بعد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط ولكن قبل موسى عليهم السلام، إذ لا نجد هنا أي ذكر لأمة موسى، مع أن هاجر مع قومه وأقام بعض الوقت في نفس هذه المنطقة التي كان يسكنها قوم شعيب.موسى وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ شرح الكلمات : ۹۱ ودود الودود : الكثيرُ الحب، فعول بمعنى فاعل، يقال: هو ودود وهي ودود.الودود في الأسماء الحسنى معناه: المحب أو المحبوب من أوليائه، فيكون بمعنى مفعول (الأقرب).التفسير : كان ولا يزال أعداء الإسلام يطعنون فيه بأنه قد فتح باب الإثم على مصراعيه بالسماح بالتوبة ظانين أن التوبة في الإسلام تعني ترديد الإنسان بضع كلمات باللسان فقط، وهذا يكفيه لغفران معاصيه ستيارث بركاش ص ٦٦٩).

Page 343

الجزء الثالث ٣٣٦ سورة هود والحق أن الإسلام لا يعلم ذلك أبدا، وإنما التوبة في الإسلام شيء آخر تماما.لأنه يرى أن رجوع المرء عن المعصية إلى الحسنة ثم تقدّمه إلى درجات روحانية عليا لا يتأتى دفعة واحدة، وإنما يتم على مراحل عديدة.فعلى المذنب –إذا أراد الرجوع إلى ربه - أن يبدأ أولا في محاسبة نفسه بمعنى أن يدرس أحوال نفسه ويتنبه إلى ما فيه من عيوب وأخطاء، وهذا سيول ولد فيه الندامة.ثم يقوم بالاستعاذة أي يسعى لتدارك أخطائه مستعينا بالله تعالى.ثم تأتي مرحلة الاستغفار أي يدعو ربه أن يحفظه من تأثيرات وعواقب ما تقدم من ذنبه في الماضي.ثم تأتي مرحلة التوبة أي يبدأ في إنشاء علاقة الله تعالى بكل ما أُوتي من قوة وطاقة.إذن فليست التوبة الإسلامية أبدًا ثرثرة باللسان ،وحده وإنما هي مرحلة من مراحل عديدة لا بد للعبد من اجتيازها حتى يستطيع العودة من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة أو يتقدم من درجة روحانية متدنية إلى درجة أخرى أعلى منها.ولن يطعن في مثل هذه التوبة إلا الذي هو جاهل تماماً بحالات النفس البشرية.مع العلم أن ما ذكرناه هنا من مدارج روحانية كلها مذكورة في القرآن الكريم، بل فيه أكثر من ذلك، ولكنا لم نفصلها بغية الاختصار.مع قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَحَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزِ ) قَالَ يَا قَوْمِ ۹۲ أرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله وَالحَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظَهْرِيَّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ۹۳

Page 344

الجزء الثالث شرح الكلمات: ۳۳۷ سورة هود رهط الرهط قوم الرجل وقبيلته؛ وعددٌ يُجمع من الثلاثة إلى العشرة وليس فيهم امرأة، ولا واحد من لفظه وجمعه أرهط وأرهاط ومنه في القرآن: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تَسْعَةُ رَهْط أي تسع أنفس.(الأقرب) عزيز: العزيز: الشريف؛ القوي؛ القليلُ النادر لا يكاد يوجد؛ المكرم، وجمعه: عزاز وأعزّة وأعزاء والعزيز أيضا من أسمائه تعالى، وهو المنيع الذي لا ينال ولا يغالب، ولا يُعجزه شيء، ولا مثل له والعزيز الملك لغلبته على أهل مملكته؛ والعزيز لقب من مصر مع الإسكندرية (الأقرب).ويتبين من القرآن الكريم أن العزيز كانت تُطلق أيضًا على وزير المال في زمن الفراعنة.مَلَكَ ظهريًا : الظهري: الذي تجعله وراء ظهرك وتنساه وتغفل عنه (الأقرب) التفسير : انظروا إلى ما يكنه النبي من حمية وغيرة في سبيل الله تعالى.لو كان هناك أحد غير شعيب لسُرَّ بكلام هؤلاء ولقال في نفسه: ما أكثر ما في قبيلتي من القوة والمنعة حتى ليهابها القوم فلا يتعرضون لي بسوء، ولربما استغل ذلك وهدد المعارضين بقوله: تعالوا إلى ساحة الترال لتعرفوا ماذا سيصنع بكم قومي.ولكن شعيبا ال لا يُبدي إلا أسفًا وسخطًا على قولهم هذا ويقول بكل حماس وغيرة: هل عشيرتي أكبر وأعز عندكم من الله تعالى فتهابونها ولا تخافون الله القهار.والعجيب أنكم لا تمسونني بالسوء خوفًا من قومي، بينما لا تردعكم خشية الله عن خداع الناس ونهب أموالهم بالباطل.إن شعيبا ال لا يكترث حين يُعرب عن الحمية والغيرة في سبيل الله تعالى..بأن عشيرته سوف يعتبرون قوله هذا إهانة لهم وقد يسخطون عليه ويتخلون عنه.كلا، بل تستولي عليه عندئذ فكرة واحدة هي النظر إلى عظمة الله والدفاع عن اسمه العلي الشأن عزّ وعلا.وقد تعرض نبينا محمد العديد من المواقف المماثلة لذلك، وعبّر فيها عن حبه وحميته الله تعالى، بما يليق بمقامه السامي.ومثال ذلك ما حدث في غزوة أحد لما تشتَّتَ

Page 345

الجزء الثالث ۳۳۸ سورة هود الجيش المسلم و لم يبق حول النبي ﷺ إلا حفنة من أصحابه الفدائيين، وأُشيع بين القوم أن الرسول قد قتل.فصاح أبو سفيان قائد جيش المشركين: أيها المسلمون قد قتلنا رسولكم، إلا أن الرسول ﷺ منع أصحابه من الردّ عليه الخطورة الموقف، حتى لا ينتهز العدو تشرّد المسلمين، فيحمل عليهم حملة أخرى.ثم صاح زعيم المشركين: أفي القوم أبو بكر؟ فكف النبي أصحابه عن الرد عليه.فقال: ها قد قتلناه أيضًا.ثم صاح: أفي القوم عمر؟ فلم يملك نفسه لشدة الحماس والغيرة فرد عليه: نعم، يا عدو عمر الموجود لضرب رأسك؛ ولكن النبي كفّه عن الكلام.فهتف أبو سفيان مرتجزا: اُعْلُ هُبل اُعْلُ هُبل..أي العظمةُ لهُبُل صنمنا.فلم يملك النبي نفسه وقال لأصحابه : لم لا تردون عليه الآن؟ قولوا الله أعلى وأجل، الله أعلى وأجلّ (البخاري، الجهاد).عمر الله، إن فانظروا كيف أنه كان محاصرًا بين الأعداء، وكان أصحابه مشتتين مشردين، ولكن غيرته الشديدة على اسم الله تثور لدى سماع هذه الكلمات التي تمس بعظمة الله ، فيبدي حميته وغيرته وعلى هذا النحو العجيب.أما قوله إنَّ رَبِّي بمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيحدّر به شعيب قومه بأنكم تثيرون غضب الله عليكم، عندما تعتبرون رهطي أعزّ من الله تعالى فأخاف أن يسحقكم بعذابه ويدمر تجارتكم، ويضيع جهودكم ولا يُبقي في أيديكم شيئًا.وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (۳) وَلَمَّا املی.92 جَاءِ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ

Page 346

الجزء الثالث ۳۳۹ سورة هود ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ فيهَا أَلا بُعْدًا لِّمَدِّينَ كَمَا بَعدَتْ ثَمُودُ ! شرح الكلمات : مكانة المكانة المنزلة والمكان.(الأقرب) ٩٦ - ۹۵ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ رقيب رقبه وارتقبه انتظره والرقيب: الحافظ ؛ المنتظرُ ؛ الحارس؛ ابن العم.: والرقيب: من صفات الله تعالى.ورقيب الجيش: طليعتهم (الأقرب).التفسير: أي اعملوا ما يحلو لكم، ولسوف أستمر في العمل بما يليق بمقامي ومترلتي، وسوف تُبدي النتائج أي الفريقين منا كان عاملاً برضا الله تعالى، وأينا كان يأتي بما يتنافى مع مشيئته.عل إن أنبياء الله تعالى في كل زمان ما فتئوا يلتمسون من أقوامهم أن يفوضوا الأمر لله تعالى منتظرين حكمه، ولكن الناس دائما وأبدا يأخذون الأمر بيدهم ولا ينتظرون حكم الله، فيعاقبون.والمراد من قوله إنّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي أنا الذي يجب أن يُصيبه القلق لتأخر حكم الله فينا، وذلك لكوني أنا وأصحابي هدفًا لتعذيبكم واضطهادكم، ولكن الغريب أننا صابرون رغم العذاب، وأنتم على ظلمكم قد نفد صبركم.أفلا ينبغي أن تصبروا معنا حتى يقضي الله بيننا وبينكم؟ وقوله تعالى (وَأَخَذَت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَيَارِهِمْ جَاثِمِينَ..اعلم أن موطن قوم شعيب كان منطقةً تكثر فيها الزلازل فمن الممكن أن يكونوا قد أُهلكوا بعذاب الزلزال كما يدلّ على ذلك ظاهر الكلمات.أو قد تكون كلمتا (الصَّيْحَةُ وجَاثِمِينَ) مجازا، والمراد أنه حل بهم عذابٌ قَصَم ظهورهم وكسر شوكتهم،

Page 347

الجزء الثالث أذلة فأصبحوا في بلادهم مهانين.٣٤٠ سورة هود وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينِ ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشيد ) شرح الكلمات : ۹۸ سلطن: السلطان الحجة، تقول: له سلطن مبين..أي حجة (الأقرب).التفسير : انسجاما مع موضوع هذه السورة، لا يتناول القرآن الكريم هنا من أحوال موسى مع قوم فرعون إلا ما يحمل طابع العقاب فقط.فقد تحدث هنا فقط عن الفرعونيين الذين لم يؤمنوا به فهلكوا، دون أن يتطرق إلى ذكر بني إسرائيل الذين صدقوه فورثوا نعم الله تعالى.لقد سبق أن بينتُ أن فرعون ليس اسما لشخص معين وإنما هو لقب لملوك مصر أي لمن حكموا وادي النيل والإسكندرية قبل حكم الرومان هناك.أما بعد استيلاء الروم على الأراضى المصرية فلم يبق لهذا اللقب أثر ، وإنما كان للملوك الرومان ألقاب رومانية خاصة.كما لم يكن "فرعون" لقبًا لملوك أسرة واحدة وإنما أطلق على ملوك من عدة أسر حكمت مصر حوالي ثلاثة أو أربعة آلاف من السنين وكان عدد ملوك هذه الأسر مختلفًا، فأحيانًا كان يظهر من أسرة واحدة عشرة أو عشرون ملكًا.وفرعون الذي اصطدم بموسى لم يكن من سكان مصر الأصليين، وإنما كان ال من أسرة أجنبية، ولذلك كان حذرًا متخوّفًا من الإسرائيليين خشية أن يتآمروا عليه مع أهل البلد الأصليين، أو يهبوا لحربه.فقد ورد في التوراة: فقال لشعبه: "هو ذا بنو

Page 348

الجزء الثالث ٣٤١ سورة هود إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا.هلمَّ نَحتال لهم لئلا ينموا ويتكاثروا، فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويصعدون في الأرض"(الخروج ١) وقوله "شعب أكثر وأعظم منّا" لا يعني أنهم أكثر عددًا من أهل البلد جميعا، وإنما المراد أنهم أكثر من عائلة فرعون وذريتها.وولد موسى في الأيام التي كان فرعون يضطهد بني إسرائيل.وهناك في التوراة أحوال أخرى لموسى منذ الولادة حتى الشباب وما بعده (سفر الخروج ٣ و ٤)، ولكن القرآن الكريم يختلف مع بيان التوراة في بعض الأمور ومنها: أولاً: تقول التوراة بأن أم موسى لم تقذفه في مياه النيل، وإنما وضعته في سلّة وخبأتها بين نبات يُسمّى الحَلْفَاء على شاطئ النهر، فقد جاء فيها: "أخذت (أُمه) له من البردي وطلته بالحمر والزفت ، ووضعت فيه الولد ووضعته بين الحلفاء على سفطا حافة النهر" (الخروج ٣:٢).ولكن القرآن الكريم يؤكد أن أمه وضعته في التابوت ووضعت التابوت في النهر حيث جاء فيه: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَن اقذفيه في التَّابُوتِ فَاقْذفيه في الْيَمِّ فَلْيُلْقه الْيَمُ بالسَّاحِلِ يَأخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) (طه: ٣٩ و ٤٠).ثانيا : ورد في التوراة أن موسى القتل المصري المتشاجر مع العبراني قتلاً عمدًا حيث قيل فيها: فرأى رجلاً مصريًا يضرب رجلاً عبرانيًا من إخوته.فالتفت إلى هنا فِيهَا وهناك، ورأى أن ليس أحد فقتل المصري وطمره في الرمل (الخروج ۲: ۱۱-۱۲).بينما يبرئ القرآن الكريم موسى العلمية لا من تهمة القتل المتعمد حيث قال: ﴿فَوَجَدَ رَجُلَيْن يَقْتَتَلَان هَذَا من شيعَته وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَته عَلَى الَّذِي عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ (القصص: ١٦).مما يبين أن لكُمْ المصري على سبيل التأنيب لا بنية القتل، ولكن المسكين مات بلكمة واحدة منه.ثالثًا: وتذكر التوراة أن موسى رأى في اليوم التالي أيضًا عبرانيين يختصمان، حيث جاء فيها: "ثم خرج في اليوم الثاني وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان.فقال للمذنب منْ موسی

Page 349

الجزء الثالث ٣٤٢ سورة هود لماذا تضرب صاحبك؟ فقال: من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟ أتفكر أنت بقتلي كما قتلت المصري" (الخروج ۲: ١٣ و ١٤).ولكن القرآن الكريم يصرح أن الخصومة في اليوم التالي ما كانت بين عبرانيين وإنما بين عبراني ومصري، كما هو ظاهر من قوله تعالى (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَة خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بالأَمْس يَسْتَصْرخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس إن تُرِيدُ إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (القصص: ۱۹ و ۲۰).رابعا : تقول التوراة إن موسى العليا لما بلغ ماء مدين بعد فراره من فرعون بعد حادث القتل حدث به ما يلي: "وكان لكاهن مديان سبع بنات، فأتين واستقين وملأن الأجرار يستقين غنم أبيهن فأتى الرعاة وطردوهن.فنهض موسى وأبجدهن وسقى غنمهن" (الخروج ٢: ١٦-١٩).بينما يصف القرآن الحادث كما يلي: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءِ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظَّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقير) (القصص: ٢٤ و٢٥).ما أروع بيان القرآن وما أقربه إلى الأخلاق الفاضلة الطاهرة، حيث يبين أن الفتاتين كانتا لا تقتربان من الماء حشمة وحياء.وهناك نواح أخرى للاختلاف بين ما ورد في التوراة والقرآن الكريم فيما يخص هذا الحادث، منها: أ- تقول التوراة بأن سبع بنات للكاهن وردن الماء، بينما يقول القرآن إنهما اثنتان.ب تقول التوراة بأنهن كن قد ملأن الجرار بالماء، وأن الرعاة منعوهن من الاستقاء.ولكن القرآن الكريم يبين أن الفتاتين لم تقتربا من الماء حشمة وحياء، بل ما

Page 350

الجزء الثالث ٣٤٣ سورة هود زالتا تذودان قطيعهما عن الماء.ج- تزعم التوراة بأن موسی تصدى للرعاة المتخاصمين مع الفتيات، وأنجدهن وسقى لهن، بينما يعلن القرآن الكريم أنه سقى دون أن يحدث أي شجار بينه وبين الرعاة.خامسا: تصرّح التوراة بأن الله تعالى أمر موسى أن يرجع إلى مصر ويخرج بني إسرائيل من مصر دون أن يشعر فرعون بأنهم هاربون من ملكه، حيث جاء فيها: "تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له: الرب إله العبرانيين التقانا، فالآن نمضي سَفَرَ ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" (الخروج ٣: ١٨).وكأن الله تعالى نفسه علم موسى الخداع والكذب! والعياذ بالله.ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى فرعون ويقول له صراحةً إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسَلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ) (طه: ٤٨).سادسًا: قيل في التوراة بأن الله أمر موسى: "تطلبُ كلُّ امرأة جارتها ونزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب، وتضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين" (الخروج.(۲۲:۳ ولكن الله تعالى يصرّح في القرآن الكريم أن الله تعالى لم يأمرهم بسلب المصريين حليهم، وإنما أخذوها بأنفسهم غدراً وخيانة حيث جاء في القرآن قولهم وَلَكنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ طه (۸۸ وهذا يعني أنهم هم المسئولون عن هذه الخديعة و لم يأمرهم الله بها أبدا.سابعا: لقد وصفت التوراة معجزة اليد البيضاء" كما يلي: "فأدخل (موسى) يده في عُبّه (أي جيبه)، ثم أخرجها وإذا يده برصاءُ مثل الثلج (الخروج ٤: ٦) أي صارت يده بيضاء نتيجة البرص.بينما يصرّح القرآن الكريم أنها صارت بيضاء نيرة كآية ومعجزة، دون أن يكون بها أي رض حيث قال: (وَاضْهُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً

Page 351

الجزء الثالث ٣٤٤ سورة هود أُخْرَى (طه: ٢٣).ثامنا: تزعم التوراة أن هارون اعتبر أخا لموسى لكونه فردا من اللاويين عشيرته، ولم يكن شقيقا له حيث ورد فيها : أليس هارون اللاوي أخاك، أنا أعلم أنه هو يتكلم" الخروج ٤: (١٤).ولكن القرآن الكريم صريح في أن هارون كان شقيقا لموسى عليهما السلام، حيث جاء فيه قول هارون لموسى: (يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذُ بلحيتي ولا برأسي (طه: ٩٥) والمراد من يَبْنَؤُم..يا ابنَ أُمِّي.تاسعا: تعتبر التوراة هارون شريكا مع بني إسرائيل في عبادة العجل، بل داعيًا إلى هذا العمل الوثني المنكر حيث تقول: "فضرب الرب الشعب، لأنهم صنعوا العجل الذي صنعه هارون.خروج ۳۲ (٣٥) أما القرآن الكريم فيبرئ ساحة هارون من هذه المعصية براءةً كاملة معلنًا: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طه: ۹۱).ولا أرى حاجة لأي تعليق من جانبنا على هذه الاختلافات بين التوراة وبيان القرآن الكريم.والحق أن الكتاب المسيحيين أنفسهم يعترفون بوجود التحريف والتلاعب بما ورد في التوراة.فقد قالوا في الموسوعة البريطانية أن جزءا كبيرًا من التعاليم الحمورابية قد دست إلى كتاب موسى في شكل ملخص (الموسوعة البريطانية، كلمة موسى).كما أنهم خطئوا بيان التوراة أنه كان لهارون ضلع في عبادة العجل، واستدلوا بذلك على أن عديدًا من الأمور قد أُضيفت إلى التوراة فيما بعد.وباختصار، فإن العقل السليم والعلم الحديث كليهما متفقان على صحة بيان القرآن الذي نزل بعد موسى بألفي سنة، وعلى كون بيان التوراة مشكوكا فيه، رغم ادعاء أهلها أنها كانت قد دونت في زمن موسى العليا.أما التساؤل لماذا سُمّي موسى بهذا الاسم، فتقول التوراة بأن سببه أنه انتشل من

Page 352

الجزء الثالث ٣٤٥ سورة هود الماء (خروج (۲:۱۰.ولكن العجيب أنها من جانب آخر - تُنكر إلقاء أمه له في مياه النيل.ولكن القرآن الكريم يعلن ويؤيد بكل صراحة إلقاءها له في اليم.أما كلمة "هارون" فليس لها أي معنى باللغة العبرية.ويرى الباحثون المعاصرون أن الكلمة جاءت من إحدى لغات شمال الجزيرة العربية (الموسوعة البريطانية، كلمة (Aaron).وهذا يعني أن العبرانيين في زمن موسى كانوا لا يزالون على صلة بلغتهم الأصلية أي العربية التي اشتقت منها العبرية.يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ شرح الكلمات : 0=0 يقدم: قدَمَ القومُ يقدُمُ قدمًا وقدوما سبقهم.قدّم فلان على قرنه شجع واجترأ عليه.قدُمَ على العيب يقدَم: رضي به.وقدم من سفره: عاد.وقدم البلد: أتاه.(الأقرب) أورد ورد البعيرُ وغيره الماء: بلغه ودناه من غير دخول، وقد يحصل دخول فيه وقد لا يحصل.وورَدَ زيد الماء: خلافُ صدر عنه.وأورده إيرادا: أحضره المورد، ثم استعمل المطلق الإحضار (الأقرب).الورد: العطش؛ القطيعُ من الطير؛ الإبلُ الواردة؛ الجيش؛ النصيب من الماء؛ الماء الذي يورد؛ القومُ يردون الماء (الأقرب).المورد: موضع الورود؛ الطريق إلى الماء (الأقرب).التفسير : يعني أن العاقل إنما يتبع أوامر من يهديه إلى الصواب وينفعه، ولكن هؤلاء الأغبياء اتبعوا فرعون الذي كانت أوامره تؤدي بهم إلى الهلاك.

Page 353

الجزء الثالث ٣٤٦ سورة هود وأما قوله تعالى (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فمعناه: ما هي الفائدة التي جَنَوْها من إتباع فرعون الذي ألقى بهم إلى النار، وبئست النار وردًا.ولقد ذكرتُ في شرح الكلمات أن (أورد) تعني أصلا أحضر على المورد أي الماء، ولكن القرآن استخدمها بمعنى إحضارهم على النار ذلك ليبين أنهم سوف يُعطون النار التي تدمّر الحياة عوضا عن الماء الذي هو سبب الحياة المادية والروحانية على السواء، وفق قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلِّ شَيْءٍ حَيْ) (الأنبياء: ٣١).وهكذا بين أن جهودهم التي بذلوها لتدمير حياتهم الروحانية بدلاً من إحرازها سوف تتمثل لهم بصورة النار المدمرة في يوم القيامة.كما يمكن أن يكون المراد منه أنهم سوف يدخلون النار فعلاً، ولكن دخولهم فيها سوف يحقق لهم ما يحققه وارد الماء، بمعنى أن دخولهم النار سوف يشفي غليلهم الروحاني كما يشفي ورود الماء غليل العطشان، أي أن النار سوف تكون سببًا لتطهيرهم تطهيرا باطنيًا.كان الناس في القديم يقومون بكي الحيوانات على وجهها وأطرافها، ولقد كره النبي هذه العادة كرها شديدًا (مسلم السلام)، إلا أنه لما وجد أنهم يكوونها أيضًا كعلاج لها من الأمراض، سمح لهم بهذا حين لا يكون منه بد قائلاً: "آخر الدواء الكي".وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم هنا بأن عطشهم سوف يعالج بالنار، وسيكون ذلك آخر علاج لتطهيرهم من أمراضهم.وَأَتَّبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ شرح الكلمات : : الرفد: رفده يرفد رفدًا أعطاه؛ أعانه، (يقولون): هو نعم الرافد إذا حلّ به الوافد.

Page 354

الجزء الثالث ٣٤٧ سورة هود والرفد: العطاء والصلة.وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، وفي القرآن "بنسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ" أي العون المعان أو العطاء المعطى (الأقرب).التفسير: أي أن الإنسان إذا اتبع الشرير جلب عليه خزي الدنيا والآخرة.واعلم أن (لَعْنَةً) لم ترد هنا كسب وشتيمة، وإنما جاءت بمعناها الحقيقي أي البعد، والمراد أنهم ما داموا قد عاشوا في الدنيا بعيدين عن الله تعالى، فإنهم سوف يُحرمون من قربه جل شأنه في الآخرة أيضا.وقد تشير كلمة (الرِّفْدُ) إلى شخص فرعون، والمراد أنهم بدلاً من أن يعودوا إلى الله مالوا إلى فرعون، واعتمدوا عليه، وما أسوأه من عماد، إذ تسبب في عذابهم، لأن عمادهم أي فرعون هَوَى بنفسه أيضًا في الجحيم التي دفعهم إليها.ذَلكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ) شرح الكلمات : ١.١ حصيد حصَدَ يحصُدُ ويحصد حصدًا وحصادًا: قطعه بالمنجل.حصد القومَ بالسيف: قتلهم.حصد الرجل: مات (الأقرب).التفسير: يمكن أن تفسر كلمة (الْقُرَى) بمفهومين: الأول: أهل القرى باعتبار كلمة (أهل) محذوفة ونظيره قول إخوة يوسف لأبيهم وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا أي اسأل أهل القرية.فالمراد من قوله منْهَا قَائمٌ وَحَصيد أن بعض أهل هذه القرى (أي الشعوب لا تزال ذريتهم قائمة باقية، وبعضها قد انقرضت أو صارت شبه منقرضة.والمفهوم الثاني : هو القرى نفسها والمراد من قوله تعالى (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصيد أن آثار بعض هذه المدن لا تزال باقية بينما لم يبقَ لبعضها الآخر أي أثر.وهكذا يلفت الله الأنظار إلى حقيقة تاريخية مهمة بأن بعض الشعوب التي مرَّ ذكرها آنفًا لا تزال

Page 355

الجزء الثالث ٣٤٨ سورة هود آثارها ومعالمها موجودة باقية، بينما اندرست آثار بعضها الآخر نهائيًا أو أصبحت في عالم المجهول.وإذا كان الأمر كذلك فلا يحق للمستشرقين أن يعترضوا على القرآن الكريم بحجة أنهم لم يعثروا على آثار بعض هذه الشعوب، لأنه بنفسه يعلن أنه لم يعد لبعضها آثار تعرف ولا معالم ترى.ولو أنهم يعثرون عليها في المستقبل فهذا أيضًا لا يقدح في القرآن العظيم لأنه يصفها بكلمة (حصيد)، والحصيد ما قُطع بالمنجل، والمعروف أن النبات المقطوع بالمنجل تبقى أصوله محفوظة باقية.وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَثْبِيب ! شرح الكلمات : تتبيب تبيه : أهلكه (الأقرب).١٠٢ التفسير: يؤكد القرآن الكريم مرة بعد أخرى أننا لم نُعاقب أية أمة إلا بسبب أعمالها، وليس ظلمًا وإجحافًا منا.والسبب لهذا التأكيد المتكرر من القرآن الكريم هو أن الله تعالى يعلم منذ الأزل أنه سيأتي على الناس زمان يقوم فيه بعض المتكلّفين رياءً بالدفاع عن تلك الأمم البائدة مدعين بأن الله تعالى قد ظلمهم وأغلظ عليهم العقاب، مع أنهم لم يرتكبوا ما ارتكبوه من أخطاء إلا نتيجة قضاء الله وقدره! ولذلك نجد الله تعالى لم يتحدث في القرآن عن عقاب قوم إلا ونفى الظلم عنه، وهكذا أنكر ورفض هذا القبيل، بأن يرفع سبحانه قوما دونما استحقاق وجود أي قضاء وقدر له ويضع آخرين دون أي علة أو من سبب.كما أن كلمات القرآن هذه تشير إلى أن عقاب كل أمة يكون ملائما لحالتهم

Page 356

الجزء الثالث ٣٤٩ سورة هود ونتيجة منطقية لأعمالهم.وأشار بقوله (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ الهَتُهُمُ إلى أن كل ما في الكون من ماء أو هواء أو نار فإنه ينفعهم، ولكن آلهتهم لا تملك لهم أي نفع.فمثلاً أي شك في أن سيوف الكفار قد نفعتهم في حربهم ضد المسلمين حيث تسببت في استشهاد بعض أصحاب النبي ، ولكن متى نفعتهم آلهتهم بصورة عملية كهذه؟ فما أشدّهم غباء حيث يتخذون ما لا يجلب لهم أي نفع إلها.وقوله تعالى لمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ إشارة إلى أن زيف الآلهة الباطلة إنما ينكشف حينما يقضي الله بكشف بطلانها وبيان كونها مجرد أوهام لا تضر ولا تنفع، أما قبل ذلك فلا ينفك الناس يعزون إليها شتى المنافع ،والبركات ولكن حين ينزل القضاء من الله تعالى فلا يملكون حياله شيئًا، ويظهر بطلان شركهم للعيان.وهنا يطرح سؤال نفسه ما بال القرآن الكريم يعلن من جهة أن الآلهة الباطلة لا تملك نفعا ولا ضرا، ومن جهة أخرى يقول عنها وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَثْبِيبٍ..أي أن هذه الآلهة الباطلة زادتهم خسرانًا وهلاكًا؟ هنا يجب أن نعلم أن الضرر نوعان: خياري واضطراري.ومثال الضرر الخياري أن يُلحق أحد بصاحبه ضررًا عن قصد وإرادة ومثال الضرر الاضطراري أن يسقط السقف مثلاً على أحد ويهلكه، فلا دخل لأي إرادة من جهة السقف في هلاكه، إنما كان هذا نتيجةً طبيعية لسقوطه عليه.وبعد فهم هذين النوعين من الضرر لا ينبغي أن يصعب على المرء إدراك مراد القرآن الكريم في هاتين العبارتين.فعندما ينفي القرآن الكريم أي ضرر من قبل الآلهة يعني به الضرر الخياري الذي يكون ناتجا عن إرادة تلك الآلهة، وحينما يتحدث عمّا تلحقهم آلهتهم من ضرر فيقصد به الضرر الاضطراري الذي لا دخل لهذه الآلهة فيه.وأي شك في أن الآلهة الباطلة هي السبب الأكبر في إلحاق الضرر الاضطراري بالناس، لأن الإشراك بالله هو أكبر من أية جريمة أخرى (سورة لقمان: ١٤).

Page 357

الجزء الثالث عندما أمر النبي ٣٥٠ سورة هود عند فتح مكة بقتل بعض من كبار المجرمين معلنًا أنه لا أمان منهم أن لهم، أهرع هؤلاء إلى الكعبة المشرفة وأمسكوا بأستارها لائذين بها، ظنا آلهتهم التي وضعوها فيها سوف تحميهم، ولكنهم قتلوا مع ذلك.(السيرة الحلبية، فتح مكة.ولو أنهم لم يفكروا هذا التفكير الخاطئ لربما لاذوا بالفرار ونجوا من القتل.وهكذا فإن قوله تعالى ﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَثْبِيب يعني أن فساد عقائد المشركين يؤدي إلى خلل وفساد في مكائدهم أيضًا.وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَحْذَهُ أَلِيمٌ شَديدٌ ۱۰۳ التفسير: لقد ذكر هنا الغرض من سَرد أحوال الأمم السابقة، وبين أنه إذا نزل العذاب بساحة قوم محا كل أثر لهم فليحذر الذين يناصبون محمدا العداء، فلا يسلكوا طريقًا يؤدي بهم إلى العذاب! وكلمة ( ظَالِمَةٌ) جاءت هنا بمعنى مشركة.فقد استخدم القرآن الكريم الظلم بمعنى الشرك في مواضع عديدة منه، كما أن هذا المعنى ثابت في أحاديث الرسول ﷺ (البخاري، التفسير الدخان والمراد من الآية أن العذاب الذي يترل على قوم عند زوال التوحيد الحقيقي من بينهم يكون عذابًا مدمّرًا للغاية، أما الهلاك الذي يترل بالأمم نتيجة العوامل الطبيعية فيحل بهم تدريجيًا ولا يكون شديدا مثل الأول.إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّحْمُوعٌ لَّهُ

Page 358

الجزء الثالث النَّاسُ وَذَلكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ١٠٤ ٣٥١ سورة هود التفسير: يمكن أن يتساءل هنا أحد: ما الفائدة دام لا يعتبر بآية العذاب من العذاب إلا الذي يخشى الآخرة من قبل، وأما الذي لا يخافها من قبل فلا يستفيد منها.الجواب: يجب أن نتذكر جيدا أن كلمة (الآية) لا تعني هنا أن ذلك العذاب يكون دليلاً على عذاب الآخرة، وإنما جاءت (الآية) هنا بمعنى العبرة، وأيّ شك في أن العذاب الدنيوي إنما يكون عبرةً لمن يؤمن بوجود عذاب الآخرة.إذن فالآية تتحدث فقط عن المؤمنين بالآخرة وتقول: إن رؤية العذاب الدنيوي تذكرهم بعذاب الآخرة، فيجدون أكثر في السعى لكسب الدار الآخرة.وقوله تعالى (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ يعني أن ذلك اليوم في حد ذاته ضروري لتكميل روحانية الإنسان، فليس هو وسيلة لهدف آخر وإنما هو بنفسه مقصد وغاية.وهكذا بيّن أن جمع الخلق كلهم في يوم معين ليس بدون غاية، ولن يكون حادثًا اعتباطيا بل سيتم بمشيئة إلهية ولهدف خاص هو كشف الحقائق كلها.الحق أن القرآن الكريم يبيّن أن كل ما يصدر عن الإنسان من عمل فإنه لا يكون في الحقيقة عملاً خالصا من لدنه وحده، بل تكون أعماله كلها متأثرة بعوامل كثيرة من قبل الآباء والظروف السابقة لميلاده، أو من قبل زملائه وأخلاقهم ومن قبل الذين سيأتون بعده ، ولا بد من النظر إلى هذه العوامل والتأثيرات كلها عند تقييم أي عمل من أعمال الإنسان.فعلى سبيل المثال هناك شخص قد تعود على ارتكاب الجرائم، ولكن عادته هذه ناجمة عن خلل تكويني في مُحه وَرَثَه عن أحد آبائه الأوائل الذي كان مجنونا أو شبه مجنون.فلا نستطيع أن نقول بأنها جريمته فقط، بل لا بد أن نضع في الاعتبار الحالة العقلية الجده هذا، وإلا فسوف نكون مخطئين لا محالة في تقييم هذه الجريمة.وما دام

Page 359

الجزء الثالث ٣٥٢ سورة هود الأمر كذلك فلا بد من يوم يُجمع فيه الناس كافةً مع أعمالهم لينظر في الظروف التي ارتكبوها فيها، ذلك لكي يرى كل واحد منهم أعماله مع الأسباب والظروف التي تمت فيها، فتنكشف له ولغيره حقيقة أعمالهم انكشافا تاما، فيدركون ويطمئنون بأن التفاوت في جزاء الناس لا ظلم فيه ولا إجحاف، إنما هو عدل وقسط من الله تعالى الذي يردّ كل فعل يقترفه الإنسان إلى مسبباته الحقيقية والدوافع الإرادية وغير الإرادية التي تكمن وراءه.دوو ومَا تُؤَخِّرُهُ إلا لأجَلٍ مَّعْدُودٍ ) شرح الكلمات : 1.0 لأجل: للام الجارة اثنان وعشرون معنى، والثامن منها موافقة (إلى) (أي أنها تكون بمعنى إلى نحو : له أي إليه (الأقرب).التفسير : الأجل نوعان: أجل يمكن نقله من مكانه، حيث له دائرة محددة يمكن أن يتقدم أو يتأخر فيها دون أن يتجاوزها ومثاله عمر الإنسان، فيمكن أن يطول أو ينقص في دائرة معينة ولكن يستحيل أن يتعداها.وهناك أجل آخر لا يحيد عن وهو أجل خاص بعمر الكون، فهو معدود محدّد، فعندما يحين موعد فنائه لا يمكن أن يحيد عنه قيد أنملة، فلا يتقدم أو يتأخر ولا للحظة واحدة.مکانه يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ١٠٦ التفسير : أي أن ذلك الوقت هو وقت قيام الحساب الإلهي وصدور حكم الله

Page 360

الجزء الثالث ٣٥٣ سورة هود تعالى، فلن يتكلم عندئذ أحد إلا بإذن الله جل جلاله.اعلم أنه لا يُسمح للناس في المحاكم الدنيوية بالكلام إلا بأمر من الموظف المجاز وذلك منعا للضجيج الناتج عن كلام الناس المتداخل ولكن ليس هذا هو السبب في امتناع الناس عن الكلام يوم القيامة، بل إنهم لن يتكلموا إطلاقًا إِلا مَن أَذنَ الله له، لأن كل نفس سوف تعرف أن لا جدوى من تقديم المعاذير أمام عالم الغيب.غير أن الكاملة الله تعالى سوف يتولى بنفسه الدفاع عن عباده برحمته ويسمح لهم بتقديم عندهم مما يمكن أن ينفعهم أو ينفع غيرهم في تخفيف جرائمهم أو تعظيم حسناتهم.أما قوله تعالى ﴿فَمِنْهُمْ شَقي وَسَعِيدٌ فاعلم أن الشقي هو من ليس فيه ميل إلى الخير ولا يتأثر قلبه من دواعيه والسعيد من يميل إلى الخير بطبعه دونما تكلف أو رياء.وفي ذلك اليوم سوف يُكرم السعيد لصدق إيمانه وسوف يُخذل الشقي ويُهان.ما فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) شرح الكلمات :.۱۰۷ زفير: زفَرَ يزفر زَهْرًا وزفيرًا: أخرج نفسه بعد مده إياه؛ وزفرت النار: سُمع صوت لتوقدها.والزفير : الداهية؛ أول صوت الحمار (الأقرب).شهيق: شهق الرجل يشهق شهيقًا: تردَّدَ البكاء في صدره.وشهيق الحمار: آخر صوته.(الأقرب).التفسير: لقد شبه القرآن هنا الكفار بالحمار.وقد ذكر أحد أسباب هذا التشبيه في موضع آخر منه بأنه كما لا يمكن للحمار أن يصير عالما بحمل الكتب على ظهره، بل يبقى حمارًا كما هو، كذلك حال المعرضين عن الحق، فإنهم رغم علومهم الظاهرة، يبقون محرومين تمامًا من المعرفة والروحانية الحقيقيتين.

Page 361

٣٥٤ سورة هود الجزء الثالث ثم إن الحمار مشهور بغبائه، كما أنه حيوان جبان وفق قوله تعالى كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةِ) (المدثر : ٥١-٥٢).وهذا هو حال الكفار أيضا.والحق أننا لو أمعنا النظر لأدركنا أن هذين الأمرين يمثلان أكبر عائق في سبيل إيمان الناس.ذلك إما أنهم لا ينتفعون بما يقدّم إليهم من علوم ومعارف بسبب حمقهم وغبائهم أو أهم لا يقبلون الحق وقد استيقنته أنفسهم خوفا من الجبارين من القوم.وفي كلتا الصورتين يؤكدون شبههم بالحمار.وقوله تعالى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يؤكد أن هذه الأصوات سوف تصدر عمن يدخلون في الجحيم.فاتضح من ذلك أن الآيات التي يبدو منها أن الجحيم هي سوف تحدث هذه الأصوات إنما معناها الحقيقى أن هذه الأصوات سوف تصدر نتيجة بكاء أهل النار وعويلهم.التي خالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ۱۰۸ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَحْدُودٍ ۱۰۹ شرح الكلمات : سُعدوا: سُعد على المجهول وسعد ويسعد سعادةً: ضدُّ شَقي، فهو مسعود على الأول، وسعيد على الثاني، واللفظ يأتي مرةً بصيغة الفاعل ومرةً بلفظ المفعول والمعنى واحد، نحو عبد مكاتب ومكاتب وبيت عامر ،ومعمور ونظائره كثيرة.والسعد:

Page 362

الجزء الثالث ٣٥٥ سورة هود اليمن وأسعد عليه: أعانه (الأقرب).مجذوذ: جد الشيء: كسره؛ قطعه مستأصلاً.وجد: أسرع.وجد النخل: صرَمَه.عطاء غير مجذوذ: أي غير مقطوع.(الأقرب) التفسير : هذه الآية تلقي الضوء على قضية هامة يختلف فيها الإسلام مع الأخرى اختلافا كبيرًا، ألا وهى قضية النجاة.الأديان فالهندوس يرون أن الجنة والجحيم (أي الثواب والعقاب) كلتيهما محدودة الزمن.ينال الإنسان جزاء أعماله ثوابًا أو عقابًا في العالم الآخر، ثم يرجع إلى الدنيا مرة أخرى ستيارث بركاش ص ٥٦٩).وإنّ كل الفرق الهندوسية -رغم اختلافها في الأمور الأخرى متفقة على هذه العقيدة.أكبر وبعد الشعب الآري الذي جاء منه الهندوس يُعتبر الشعب السامي من الشعوب القديمة، الذي ينتمي إليه اليهود نسلا والنصارى دينا.ويرى اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا إذ لا مكان فيها لغير اليهود، وأن الجحيم شبه محرمة على اليهود، وإذا كان لا بد من دخول يهودي فيها فإنه لن يبقى فيها إلا لمدة أحد عشر شهرًا على الأكثر (ترجمة سيل للقرآن، ص۱۰).أما غيرهم فكلهم في الجحيم التي لا نهاية لها، وسوف يبقون فيها للأبد.وأما النصارى فيرون أن كلاً من الجنة والنار أبديّة لا نهاية لها ولا انقطاع.غير أن هناك فرقًا منهم تعتقد أن الجنة سوف تنتهي في آخر الأمر (رسالة بولس الثانية كورنثوس ٥، والمكاشفة ١٤ ٩-١١).ولكن الإسلام يعارض هذه النظريات كلها معارضةً شديدة.والنظرية الإسلامية في هذا الشأن كما ذكرها الأسلاف (تفسير الرازي)، وكما أكد عليها في هذا العصر سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال بأسلوب خاص هي أن الجنة أبدية ولزمن غير محدود، ولكن الجحيم ليست كذلك، بل إنها سوف تنتهي بعد مرور زمن (الخزائن الروحانية ج ۳، إزالة أوهام ص ۲۸۰ ، وأيضا الخزائن ج ٢٢ حقيقة الوحي

Page 363

الجزء الثالث ص۱۸۹).٣٥٦ سورة هود وأما قوله تعالى عن الجحيم خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ ربُّكَ فقد اختلف المفسرون فيه كثيرًا، فقال بعضهم: إن (ما) جاءت بمعنى (من) التي هي لذوي العقول والتقدير إلا من شاء ربك، بمعنى أن الجحيم أبدية ولكن الله تعالى سوف يُخرج منها بعد فترة من يشاء من عباده الموحدين.(القرطبي) ولكن المفسرين الآخرين يردّون على ذلك قائلين: لا شك أن (ما) تأتى أحيانًا بمعنى (من) شريطة أن يكون بعض غير ذوي العقول ضمن ذوي العقول هؤلاء، ولكن هذا الشرط غير متوفّر هنا، فلا يصح اعتبار (ما) بمعنى (من).وهناك شروط أخرى لمثل هذا الاستخدام وهي أيضا غير متوفرة في هذه العبارة.ولقد ساق الفريق الأول من المفسرين شواهد أخرى من الآيات القرآنية على ورود (ما) بمعنى (من)، ومنها قوله تعالى (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ (النساء) (٤)، ولكن الفريق الآخر يقول بأنها لم تُستخدم في هذه الآية ومثيلاتها بالمعنى الذي يريدونه.وأنا أيضًا متفق مع الذين لا يرون (ما) بمعنى (من).ثم يجب أن يتذكروا أن القرآن الكريم قد وصف عقاب العاصي الذي سيدخل النار -سواء كان مؤمنًا بالله موحدا أو كافرا به مشركا بكلمة واحدة، فبأي كلمة يفرق أصحاب الرأي الأول بين عقوبة المؤمن الفاسق وعقوبة الكافر المشرك ممن يدخلون النار.يقول القرآن الكريم موجها الكلام إلى المسلمين الموحدين: ﴿وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ سُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء: ١٥)، ويقول لهم أيضًا وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الله وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) (النساء: ٩٤).وقال في موضع آخر ﴿وَمَن يَعْصِ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ (الجن) (٢٤) والخطاب قبل هذه الآية موجه إلى الكفار ولا شك، ولكن القاعدة المذكورة هنا لا تخص الكفار وحدهم، بل هي عامة تشمل كل العصاة سواء من أهل الإيمان والتوحيد أو أهل الكفر والشرك.

Page 364

الجزء الثالث ٣٥٧ سورة هود إذن فلا يجوز تحديد عموم الآية بأي حال.ويرى الآخرون أن (ما) هنا ظرفية والمراد منها هو الفترة التي تكون قبل دخولهم النار في عالم البرزخ وغيره (الرازي)، ولكن هذا أيضا غير صحيح، لأنه تعالى قال من قبل (خالدِينَ فِيهَا)، فالاستثناء جاء عن الخلود، ولا يتحقق هذا الاستثناء إلا بعد دخولهم في النار.ثم إن الخلود يعني الزمن المقبل لا الماضي كما يتضح هذا من قوله تعالى (أَفَإِن مِّتَ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) (الأنبياء: (٣٥).وقد اختلفوا أيضًا في الاستثناء الوارد عن أهل الجنة في قوله تعالى (فَفِي الْجَنَّة خالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَت السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلا مَا شَاء رَبُّكَ، فيرى البعض: أن هؤلاء الذين استثناهم هنا هم أصحاب الأعراف أو من يخرجهم الله من النار بعد فترة ويدخلهم الجنة.الواقع أنهم وقعوا في هذه المشكلة واضطروا لهذه التأويلات لأنهم من جهة وجدوا الآية صريحة في إعلانها أن عذاب جهنم عذاب مؤقت وسينتهي بعد فترة، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يعتقدون خطأ أن الجحيم أبدية وعذابها غير منقطع مثل الجنة التي نعيمها أبدي وغير محدود مع أن الحق أنه ليس القرآن الكريم وحده الذي يعلن عن خراب جهنم بعد فترة من الزمن، بل إن الأحاديث الشريفة أيضا تؤكد ذلك، فقد ورد في الحديث: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا" (مسند أحمد وكأن الخلود يعني هنا العيش فيها لقرون.لقد انتقد بعض المحدثين هذه الرواية بقولهم بأن أحدًا من رواتها كذاب، ولكن الحق أن لا قيمة لانتقادهم هذا، لأن الرواية تذكر نفس ما ذكره القرآن الكريم واصفًا أهل النار بقوله لابتين فيهَا أَحْقَابًا) (النبأ: ٢٤).وقد ذكر صاحب "فتح البيان" أن نفس هذا المعنى مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة.وقد نقل العلامة البغوي الرواية نفسها عن أبي هريرة، مما يؤكد صحتها

Page 365

الجزء الثالث ٣٥٨ سورة هود (فتح البيان).والإمام ابن تيمية أيضا قال بفناء جهنم وأخبر أن هذه هي عقيدة عمر وابن عباس وأنس وكثير من المفسرين.وأما الإمام الحافظ بن القيم وهو تلميذ لابن تيمية ومن كبار الصوفية فقد كتب بحثًا مستفيضا عن فناء جهنم في كتابه "حادي الأرواح في بلاد الأفراح" (فتح البيان).وقد فسر البعض كلمة (خالدين فيها بأنها تعني مكوثهم في النار دوما، ولكنهم قالوا أيضا بأن الله تعالى حينما يقضي على جهنم بسبب رحمته الواسعة فلا تبقى جهنم، وهكذا ينتهي أيضا خلودهم فيها.لقد نقل ابن جرير عن الشعبي أن جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابا" (تفسير ابن جرير، تحت الآية).أي هناك وقال ابن مسعود ليأتين عليها زمان تخفق بها أبوابها ونفس القول مروي عن الله الله بن عمر رضي عنهم(فتح البيان).جابر وأبي سعيد الخدري وعبد ثم إن هناك رواية في البخاري ومسلم تؤكد فناء جهنم، خلاصتها: أن الله تعالى سوف يمنح للملائكة والنبيين والمؤمنين حق الشفاعة، فيذهب المؤمنون ويشفعون لإخوانهم، ويُخرجون من النار من يعرفونهم.فيعودون إلى الله "فيقول لهم: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه.فيُخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نَذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيُخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه.فيُخرجون خلقا كثيرًا.ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا..فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين.فيقبض قبضةً من النار، فيُخرج منها قوما لم يعملوا الخير قط (مسلم كتاب الإيمان، والبخاري، الردّ على الجهمية).

Page 366

الجزء الثالث ٣٥٩ سورة هود يتضح من هذا أن الله تعالى سوف يُخرج من الجحيم حتى أولئك الذين لم يعملوا أية حسنة قط.وهذا يشكل دليلاً على فناء جهنم، إذ لا يمكن أن يكون من أهلها أحد أحط درجة من هذا الصنف من الناس، فما دام هؤلاء أيضا سيُخرجون منها فمعنى ذلك أنها ستفنى وستنتهي.هي كما يجب أن نعلم أن "قبضة الله" لا تعني قبضة مادية، وإنما تعبير عن إحاطة الشيء إحاطة كاملة، وهذا أيضا دليل أنه لن يُبقي في جهنم أحدا إذ لا يمكن أن يبقى شيء خارجًا عن الإحاطة الإلهية.كما نستنتج من هذه الرواية أن من سيستحق عذاب النار سوف ينال نصيبه منها أولاً، ثم يُخرج منها لينال جزاءه على ما فَعَل من لأنه تعالى يقول فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزال: ۸)، وهذا يؤكد خير، أن النجاة هي نصيب الجميع في آخر المطاف، وأن الجحيم فانية في آخر الأمر.وكل هذه الروايات توضح تماما أن معظم الصحابة وكبار التابعين يتمسكون بالرأي الذي نتمسك به نحن المسلمين الأحمديين في هذه المسألة، بل إن القرآن الكريم نفسه مؤيد لموقفنا كما يتبين من آياته التالية: أولاً: نفس هاتين الآيتين اللتين نحن بصدد تفسيرهما فمما لا شك فيه أن الله تعالى قد قال فيهما عن الفريقين إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ، ولكنه فرّق بين وصفهما، إذ وصف الجنة بكونها (عَطَاء غَيْرَ مَحْذُوذ أي غير منقطع، بينما قال في وصف جهنم: (إِنَّ رَبَّكَ فَعالُ لِّمَا يُريدُ ، وفيه تأكيد شديد على أمر ما، وليس هذا التأكيد إلا على إخراج أهل النار منها لا محالة.فالجملة مؤكدة أولاً بكونها جملة اسمية، ثم بحرف (إن) المؤكدة، ثم باسمين للمبالغة (رب) و(فَعالُ).فإذا كان الله تعالى لا يريد إخراجهم من النار أبدا، فما الداعي لهذا التأكيد المتكرر يا ترى؟! ثم إذا كانت الجحيم غير منقطعة مثل الجنة فلماذا لم يقل في وصفها مثلاً: (عقابًا غير مجذوذ) كما قال عن الجنة عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذ..أي أن أهل الجنة سيعيشون بحسب مشيئتنا ولا شك، ولكن مشيئتنا فيهم هي أن يخلدوا فيها دون أن تنقطع أو

Page 367

الجزء الثالث تفنى.٣٦٠ سورة هود وهذا الدليل من القوة والجلاء بحيث إن الإمام ابن حجر الذي كان معارضا لرأي الإمام ابن تيمية القائل بفناء الجحيم..اضطر للقول بأن الله تعالى قد صرّح بمشيئته عن أهل الجنة، ولكنه لزم الصمت عن أهل النار.ولكن الواقع أن الله تعالى لم يسكت عن إظهار مشيئته فيما يتعلق بأهل النار، بل صرّح عنها هنا بقوله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَالٌ لِّمَا يُرِيدُ..أي أنه لك سوف يحقق فيهم لا محالة مشيئته المشار إليها في قوله إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ثانيا : قال الله تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) :(هود: ١١٩- ١٢٠).والمراد من قوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أنه خلقهم لكي يرحمهم.وقد روى ابن كثير عن ابن عباس قوله: "للرحمة خلقهم و لم يخلقهم للعذاب" ابن كثير).وروى ابن وهب عن طاووس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثرا".فقال طاووس اختلفتما وأكثر تما.فقال أحد الرجلين لذلك خُلقنا.فقال طاووس: كذبت.فقال: أليس الله يقول: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُختلفينَ إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلَقَهُمْ؟ قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة.وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ابن كثير).وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن المراد من قوله تعالى (وَلذَلكَ خَلَقَهُمْ) هو : للرحمة خلقهم.وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة : (وَلذَلكَ خَلَقَهُمْ أي للرحمة والعبادة (الدر المنثور).والبديهي أنه لو بقي البعض في الجحيم إلى أبد الآباد فلن يُعتبر خلقهم للرحمة، بل يكون منافيًا لمدلول هذه الآية.ثالثا: قد ورد في القرآن في عدة أماكن وصف نعيم الجنة بأنه أبدي غير منقطع كقوله تعالى (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون) (التين (۷)، وقوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)

Page 368

الجزء الثالث ٣٦١ سورة هود (الانشقاق (٢٦).ولكن لم يرد هذا الوصف عن النار مما يؤكد أن هناك فرقا بين جزاء الجنة وعقاب الجحيم فيما يتعلق ببقائهما وانقطاعهما.رابعا: قال الله تعالى عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: ١٥٧).فهذه الآية تؤكد أن رحمة الله تسع كلّ شيء، ولكن عذابه أمر عارض عابر، وأن من سيعاقب بالعذاب سوف تسعه أيضا رحمة الله في آخر المطاف.فإنه قد جعل العذاب هنا لأفراد معينين، وجعل الرحمة شاملة للناس كافة بل للأشياء جميعًا ليؤكد أن عذاب جهنم سوف ينتهي في يوم من الأيام حتماً، وإلا لم تكن رحمته واسعة لكلّ شيء.وهناك آية أخرى بهذا المعنى رَبَّنَا وَسَعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا (غافر: ۸).لقد ذكر هنا سعة علم ورحمته معًا.فالزعم بحرمان البعض من الرحمة الإلهية ببقائهم في العذاب دون نهاية يستلزم أن نعتقد أن هناك أشياء تخرج عن دائرة العلم الإلهي.وكما أن هذا الظن باطل بالبداهة، كذلك باطل حرمان البعض من الرحمة الإلهية ببقائهم في النار الأبدية.الله وقد يقول هنا قائل هذا المنطق يلزمنا أن نعتقد بأن البعض لن يعاقبوا حتى عقابًا مؤقتًا، وإلا سنضطر للقول بأن البعض يخرجون من علم الله خروجًا مؤقتًا؟ والجواب أننا إذا سلّمنا بانتهاء العذاب في آخر الأمر فلا بد لنا من التسليم أيضًا بأن العقاب في الآخرة وسيلة للإصلاح في واقع الأمر، وإذا كان العقاب يهدف للإصلاح فلا شك في كونه مظهرا من مظاهر الرحمة الإلهية، ومثاله مثال العقاب الذي ينزله المعلم بتلميذه.وهكذا فإنه لا يخرج عبد من عباد الله من رحمته الواسعة ولو للحظة، بل يبقى دائمًا تحت ظلها.ولكن لن يكون الأمر كذلك إذا اعتبرنا العذاب أبديًا دون نهاية.خامسا : يقول الله تعالى فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي (الفجر: ٣٠- ۳۱)، أي الذي يصير عبدًا حقيقيًا لله تعالى يُدخله في الجنة.ويقول عز من قائل في

Page 369

الجزء الثالث ٣٦٢ سورة هود موضع آخر وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون (الذاريات: ٥٧) أي أن كل إنسان سوف يصبح في آخر الأمر عبدا حقيقيًا الله ،، لأن هذه هي غاية خلقه التي لا يمكن أن يبقى محروما للأبد من إحرازها وحيث إن الناس جميعا سوف يصيرون عبادا الله تعالى عاجلاً أو آجلاً - فلا بد من أن يدخلوا جميعًا في الجنة أيضا في آخر الأمر.سادسًا: يعلن ربنا جل شأنه فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ (الزلزال: ۸).ولكن تخفيف العذاب عنه لا أنه رأى نتيجة الخير الذي فعله.لذلك من الضروري أن يعاقب المرء على سوء أعماله لفترة، ثم ينتهي عقابه ليرى جزاء أعماله الحسنة.يعني سابعًا: يخبرنا الله تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (القارعة: ٩ - ۱۰) أي الذي لا تكون أعماله ذات ثقل وقيمة فإن جهنم ستكون بمثابة أم والظاهر أن الجنين لا يبقى في بطن أمه للأبد، بل يمكث فيه إلى حين اكتمال نموه واكتساب قوته كذلك العُصاة إنما يمكثون في الهاوية أي الجحيم إلى أن تنمو وتنضج فيهم الملكات التي تمكنهم من الرؤية الإلهية.وباختصار، إن كل هذه الآيات تصرّح بأن جهنم ليست أبدية غير منقطعة، وأن الخلود لا يعني البقاء بدون نهاية، وإنما يعني فقط زمنا طويلا قد عبر عنه القرآن بقوله: لا بثينَ فِيهَا أَحْقَابًا.وأما قول الله تعالى عن أهل الجنة والنار : خالدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ فإنما المراد منه أنهم سيمكثون هناك إلى زمن بقاء سماء وأرض الجنة والجحيم.فما دامت الجحيم ستؤول إلى الفناء هكذا مع العلم أنه ليست هناك أية آية في القرآن تنفي انتهاء الجحيم فلا شك أن مكوث أهلها فيها أيضًا سيصل إلى النهاية.ولكن الجنة، كما بينت، عطاء غير مجذوذ أي غير منقطع بخلاف الجحيم كما صرح القرآن.

Page 370

الجزء الثالث ٣٦٣ سورة هود فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوص (1) ۱۱۰ التفسير: يمكن أن تُعتبر (ما) الواردة في قوله تعالى مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء موصولة أو مصدرية بمعنى: فلا تك في مرية وشك من الذين يعبدهم هؤلاء، أو من عبادتهم لهؤلاء.فالمراد من الجملة: أولاً: لا تستغرب من أنه كيف يمكن أن يشرع أحد في عبادة شيء سوى الله تعالى.ذلك أن الإنسان الذي لا يفكر فيما يرثه عن الآباء من عقائد ونظريات، لا يُستبعد منه ارتكاب مثل هذه الحماقة.ونظرًا إلى هذا المعنى لا بد من التسليم أن الآية لا تخاطب من عاشوا زمن نزول القرآن الكريم، وإنما تخاطب أهل زمن سوف يتمحي فيه الشرك عن أعين الناس وسوف يُكتب الانتشار والغلبة للتوحيد الخالص، حتى يستغرب المرء عندئذ متسائلاً: هل يمكن أن يعبد الإنسان شيئًا ما الله تعالى.وهكذا تمثل هذه الآية نبًا عن غلبة التوحيد والذين كانوا يعيشون في مركز الإسلام في زمن غلبته قد رأوا بأم أعينهم تحقق هذا النبأ القرآني، بل إن أهل عصرنا أيضًا سوی ليعجبون من العديد من عقائد الكفار المشركين التي تحدث عنها القرآن الكريم.ثانيًا: وقد يكون المعنى: أيها المخاطب، لا تحسَبَنّ أن هؤلاء سوف ينجون من العذاب، فإنهم يقتدون بآثار الأولين، وما دام الأولون لم ينجوا من العذاب الذي استحقوه فكيف يمكن أن يكون هؤلاء في مأمن منه.ثالثا : وقد تعني الآية: أن لا تظن بأن شركاءهم الذين يعبدونهم هم الذين أمروهم بما أدى بهم إلى الشرك كلا، بل لم يأمرهم أحد بشيء من هذا القبيل، وإنما هي أفكار وأوهام ورثوها عن آبائهم الذين اختلقوها من عند أنفسهم.وكلمة (غَيْرَ مَنقُوص) حال مؤكدة لقوله تعالى (وَإِنَّا لَمُوَفُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، لأن

Page 371

الجزء الثالث ٣٦٤ سورة هود التوفية نفسها تعني أداءً وافيا كاملاً، فجاء قوله غَيْرَ مَنقُوص تأكيدًا لنفس المعنى بأنه لا الأولون نجوا من العذاب كجزاء وفاق على ما فعلوه ولا هؤلاء سينجون منه.وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ) ۱۱۱ التفسير : الآن عند نهاية السورة لفت الأنظار مرة أخرى إلى الموضوع الذي ذكره في مستهلها وقال: إن الوحي كان ولا يزال ينزل من عند الله تعالى، ولكن الناس لا ينتفعون به.لقد أنزلنا على موسى كتابًا تضمن نبًا عن نزول كتاب سماوي آخر، ولكن الناس نسجوا حول هذا النبأ سياحًا من الشكوك والشبهات غير مكترثين بفداحة جريمتهم، والحق أنه لولا قرار سبَقَ من جانبنا لدمرناهم على جريمتهم النكراء هذه.والقرار المشار إليه هو نفس ما ذكره في الآيتين التاليتين وما شابههما: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون (الذاريات : (٥٧) وقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: ١٥٧)..أي أن الله تعالى قد خلق العباد ليرتقي بهم ارتقاء روحانيا، وقد أن يعاملهم برفق ورحمة، ولذلك لا يتعجل عقابهم على أخطائهم حتى لا يُحرموا من الرقي الروحاني بل لينالوا الهدى.قضی وقوله تعالى ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُريب إشارة إلى أمرين، الأول: إن هذا الكتاب نزل لتطهير الناس من الشكوك والوساوس، ولكنهم عادوا وبدئوا يشكون فيه أمراضهم الباطنة.والثاني: أنهم بدلاً من أن ينتفعوا مما أنزلنا إليهم برحمتنا الواسعة ويكونوا عبادا لنا شاكرين يقعون فريسةً لشتى أنواع الشبهات حول ما نزل إليهم، ظانين أنه لو كان هذا كتابًا صادقًا فلماذا لا يعذبنا الله على رفضنا إياه؟

Page 372

الجزء الثالث ٣٦٥ وَإِنْ كُلاً لمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) سورة هود التفسير : المفسرون لا يختلفون في بيان معنى هذه الآية، ولكن اللغويين منهم قد ذهبوا مذاهب شتى فيما يتعلق ببيان تركيبها.ويرجع اختلافهم إلى كلمة (لما)، لأنها قد استخدمت هنا خلاف الاستخدام الشائع.فهي تُستخدم عمومًا على ثلاثة أوجه: أولها أن تختص بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيًا كقوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (سورة الجمعة: ٤).وثانيها: أن تختص بالماضي فتقتضي جملتين وجدَت ثانيتهما عند وجود أولاهما نحو لَمَّا جاءني أكرمته، وقال ابن جني: إنها تكون عندئذ ظرفا بمعنى (حين)، وقال مالك: بمعنى (إذ).وثالثها: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الجملة الاسمية نحو: إن كُلُّ نَفْسٍ لمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (سورة الطارق (٥)، كما تدخل على الماضي لفظا لا معنى نحو: أنشدك الله لَمَّا فعلت أي ما أسألك إلا فعلك.(مغني اللبيب).ونظراً لاستخدامها غير الشائع هذا وقع النحويون في المشاكل حتى قال المبرد: "إنها لحن".وقال الكسائي : "ما أدري ما وجه هذه القراءة" (روح المعاني تحت الآية).وقال ابن جني: (لَمَّا) ،زائدة، ولكنه لم يقدم على قوله دليلاً.بينما يرى الآخرون: "أنها مركبة من (لمن ما)، فأبدلت النون ميما وأُدغمت، فلما كثرت الميمات حُذفت الأولى.وهذا القول ضعيف، لأن حذف مثل هذه الميم استثقالاً لم يثبت"." وأضعَفُ منه قول آخر: إن الأصل (لَمَّا ) بمعنى جمعًا، من لم يلم بمعنى جمع، كقوله تعالى (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لمَّا، ثم حُذف التنوين إجراء للوصل محرى الوقف، لأن استعمال (لَمَّا ) في هذا المعنى بعيد، وحذف التنوين من المنصرف في الوصل أبعد".(مغني اللبيب).وأرى أن أفضل الآراء ما يراه ابن الحاجب حيث يقول : "إنها (لَمَّا) الجازمة حُذف

Page 373

الجزء الثالث ٣٦٦ سورة هود فعلها والتقدير : لَمَّا يُهمَلوا، أو لَمَّا يُتركوا.(مغني اللبيب) مع العلم أن (لَمَّا) تفارق (لم) الجازمة للمضارع في خمسة أمور منها: أن منفي (لم) لا يجوز حذفه بينما يجوز حذف منفي (لَمَّا) كقول الشاعر: فجئتُ قبورهم بدءا ولـــما وناديتُ القبور فلم يُحِبْنَة أي زُرتُ قبور أسياد قومنا ولم أكن بعد بدا (أي سيدا)، ولكن القوم أخذوا يعتبرونني كبيرًا لهم.وقد فضل ابن هشام رأي ابن الحاجب، إلا أنه يرى أن المحذوف هو (يهملوا أو يتركوا) والتقدير هو: (لَمَّا يوفُوا أعمالهم أي أنهم إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها.ويتفق العلامة محمد ابن حيان الأندلسي أيضًا مع هذا الرأي، ولكنه يرى أن التقدير (وإنْ كلاً لَمَّا ينقص من جزاء عمله) (البحر المحيط).والرأي عندي ما يراه ابن الحاجب فإنه ثابت من اللغة ومطابق للقواعد العربية، وأما الآراء الأخرى فإننا لا نخطئها تماما نظرا لما يحتله أصحابها من مكانة علمية مرموقة، ولكنها بعيدة عن المألوف وبادية التكلّف.أما مسألة المحذوف فهي مسألة هامشية وبسيطة لأن القاعدة في مثل هذه الظروف أن يكون المحذوف ملائما للسياق.والمحذوفات الثلاثة التي بينها أئمة اللغة هؤلاء متقاربة المعنى في الحقيقة، ويمكن أن تختار أيا منها، وإن كنت أرى أن ما ذكره ابن هشام أحق بالترجيح لمطابقته للكلمات القرآنية وتقديره: "وإنّ كلاً لَمَّا يوفوا أعمالهم ليوفيهم ربك أعمالهم"، والمعنى هو يجب أن لا يغتر أحد بما نعطيهم من مهلة فيظن أنهم سينجون من العقاب.كلا، فإن أعمالهم مسجلة لدينا، كما أن المهلة ليست إلا لمدة محدودة معينة، وسوف يأتي يوم تنتهي فيه المهلة فينالون فيه جزاء وافيًا على ما ارتكبوه من السيئات.

Page 374

الجزء الثالث ٣٦٧ سورة هود فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بصير ۱۱۳ شرح الكلمات : استقم: استقام الأمر اعتدل، ويقال: استقام له الأمر، وفي القرآن: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إلَيْه أي في التوجه إليه دون الآلهة (الأقرب).واستقامة الإنسان: لزومه المنهج المستقيم (المفردات).لا تطغوا طغى يطغى طغَى وطُغيانًا وطغيانًا: جاوَزَ القَدْرَ والحَدَّ.طغى فلان: أسرف في المعاصي والظلم (الأقرب).التفسير: تعلن هذه الآية أن الرسول ﷺ ليس بمسئول عن نفسه وحدها، بل من واجبه أيضًا العمل على إصلاح أتباعه.ونفس هذه المسئولية تقع على خلفائه والمؤمنين به.والحق أن الإنسان يصاب بالهول بالنظر إلى ضخامة هذه المسئولية كما وكيفا.فكميتها مذكورة في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ ووَمَن تَابَ مَعَكَ.وأي شك في أن ثبات الإنسان على أوامر الله تعالى دون انقطاع مصطحباً زملاءه وأصحابه ليس بأمر هين أبدا.وأما كيفيتها ونوعيتها فمذكورة في قوله تعالى كَمَا أُمرت).وهكذا تتعاظم هذه المسئولية لأنه تعالى يأمرنا أن تكون استقامتنا إلى المستوى الذي يريده.وما أشد وما أصعب على الإنسان الضعيف أن يحقق هذا المستوى في العمل بأوامر رب السماوات والأرض.كما يتضح من الآية أن الاستقامة وحدها لا تنفع الإنسان شيئا، وإنما تنفعه الاستقامة التي تتفق مع المشيئة الإلهية اتفاقًا كاملاً يظن بعض الناس جهلاً أنهم مواظبون على الصلاة والصوم فلا خوف عليهم.ولكن الواقع أن الصلاة أو الصوم في حد ذاته ليس شيئا مطلوبا ولا غاية منشودة، وإنما الهدف الحقيقي أن يعيش الإنسان

Page 375

الجزء الثالث ٣٦٨ سورة هود مطيعا لأوامر الله تعالى، ومنقادًا لمشيئته.بل الحق أن الصلاة أو الصوم نفسه يمكن أن يجعل الإنسان شيطانًا مريدا إذا قام به خلافًا لحكم الله تعالى، فمثلاً قال النبي ﷺ "لا يتحرى أحدكم..فيصلّي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها" (مسلم، الصلاة).كما نهي عن صوم يومين يوم الفطر ويوم الأضحى وقال لا يصوم فيهما إلا الشيطان.فالحق والحق أقول: إنه لا يمكن للإنسان أن يرث أفضال الله تعالى ما لم يكن سلوكه تابعا للمشيئة الإلهية تماماً، وما لم يكن رضوانه هو الحافز لكل عمل يصدر منه.كما تبين الآية أنه لا مناص لمن كان يؤمن بالله ورسوله الكريم من إتباع أسوته الحسنة، لأن الله تعالى يأمر هنا فَاسْتَقمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وهذا يعني أن المقياس الحقيقي لصحة أي عمل هو ما وضعه الله لرسوله وما بينه بأسوته الحسنة، وإلا لم يوجه الخطاب إلى الرسول والمؤمنين معًا في كلمة واحدة فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ، بل قال: أما من تاب معك فعليه كذا وكذا.وفي هذا تنبيه أن من واجب المؤمنين أن يتأسوا دائما بأسوة الرسول الكريم.والواقع أن تحقيق هذا الهدف صعب جدًا، وأنه مهما سعى المرء وكدح في سبيل ذلك فإنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من الجهد، لأننا لا نستطيع أن نقول : سنسعى بحسب مستوانا ودرجتنا، والرسول يسعى وفق مقامه ومنزلته كلا، بل إنّ الله تعالى يأمر أن يحاول المؤمنون أيضًا الوصول ثم الثبات على نفس المقام الذي هو مأمور للثبات عليه.ولكن المؤسف هو أن المسلمين قد أساءوا الفهم والعمل وانحطوا لدرجة أنهم لا يسعون بأنفسهم للوصول والثبات على هذا المقام، وإذا ما من الله على عبد من عباد الله بهذا المقام الأسمى سموه كافرًا ودجّالاً.فإنا لله وإنا إليه راجعون.وقوله تعالى كَمَا أُمرت يوضح أنه لا ينفع الإنسان من أعماله إلا ما كان ملائما للموقف.فمثلاً إذا بدأ أحد يرفع ذكر الله باللسان عاليًا في موعد الصلاة بدلاً من أدائها، أو قام بأعمال تحول دون الصوم في أيام الصيام، أو صام في وقت القتال وتخلف عن الجهاد، فلن تغنيه هذه الأعمال شيئًا.لذلك على الإنسان أن يفكر دائما

Page 376

الجزء الثالث ٣٦٩ سورة هود ويرى أي الأعمال أفضل في ذلك الوقت وفي ذلك الموقف، ويسعى للعمل بما يلائم المواقف، لأن العمل الذي يتفق مع مقتضى الحال هو الذي يُكسبه رضوان الله تعالى.أن أحدًا إنه لما يثير دهشتي من المفسرين العصريين ذوي الفطنة الخامدة قد فسر على ضوء هذه الآية قول الله تعالى (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: (۷۰) حيث قال: كما أن الصحابة لا يمكن لأحد منهم أن يصبح "خاتم النبيين" عملاً بهذه الآية من سورة هود كذلك لا يمكن لأحد من الأمة أن ينال درجة النبوة عملاً بهذه الآية من سورة النساء، كما تزعم الجماعة الإسلامية الأحمدية.(بيان القرآن، الآية).ولكني أقول : إن "مع" هنا تعني المعيّة في عمل التوبة وليس في "ختم النبوة".فهل يوجد هناك مدع واحد يقول بأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ما كانوا تائبين، وإنما كان الرسول هو التائب.وحده.فإذا كان الرسول وأصحابه كلهم نالوا در رجة التائبين، وإن كان بين توبته وتوبتهم بون شاسع جدا، فلماذا لا نقول عن آية سورة النساء بأن كلا الفريقين سوف ينال النبوة وإن كان بين درجاتهما تفاوت كبير دون شك.لقد تركت هذه الآية في قلب النبي له من الوقع والتأثير ما جعله يقول: "الهود وأخواتها شيبتني قبل الشيب (الدر المنثور، سورة هود ذلك أنه فكر أن هؤلاء التائبين معه ليسوا مشمولين فيمن هم في زمنه فحسب بل سوف يكونون في أمته إلى يوم القيامة، فكيف يمكن أن يحمل المسئولية عن تربيتهم أيضًا.هذا هو التفكير الذي كان يَقُضُ مضجعه فعجِّل إليه الشيب.غير أن الله لا قد لقلقه وخشيته هذه فرح بحيث كفل له المهمة ووعده بأنه تعالى لا يزال يبعث في هذه الأمة أناسا يحظون بقربه لإتباعهم خطوات النبي المباركة ويقومون بإصلاح الأمة.هذا، ويجب أن نفكر الآن في أنفسنا لنرى ما الذي فعلناه لأداء هذه المسئولية

Page 377

۳۷۰ سورة هود الجزء الثالث مقارنة بما فعله الرسول الكريم ، لأن الله تعالى قد فرض علينا –كما فرض على رسوله إصلاح أنفسنا، والاهتمام أيضًا بإصلاح المؤمنين الآخرين.ويستطيع كل إنسان أن يدرك بأدنى تدبر أن العمل بهذا الأمر الرباني لا يمكن أن يتم بدون نظام کامل، لأن المؤمن يستطيع أن ينصح إخوانه المؤمنين الذين حوله، ولكن يستحيل عليه تفقد حال المسلمين جميعًا وتوجيه النصح للمؤمنين القاطنين في مختلف أرجاء العالم، اللهم إلا أن يكون هناك نظام متكامل لهذه المهمة ويكون هذا المسئول جزءا منه، وعندئذ سوف يتحقق له ذلك وهو جالس في بيته.وإنه يمكن أن يصبح جزءا من هذا النظام إذا دعمه بماله أو وقته أو قلمه أو لسانه أو معرفته مساهما في كل خدمة تتم في إطار هذا النظام.وفي الوقت الحاضر إنما هي جماعتنا الإسلامية الأحمدية التي تمتاز بهذه الميزة، فهي الجماعة الوحيدة التي تقوم بواجب تبليغ الإسلام في شتى بلاد العالم تحت نظام قائم.وعندما يرسل فلاح بسيط من أفرادها من قرية نائية في بنجاب أو رجل كادح يقطن جبال أفغانستان وهو يجهل جغرافيتها أقول إن مثل هؤلاء الناس البسطاء حين يرسلون شيئا من دخلهم إلى صندوق الجماعة فإنهم لا يؤدون بذلك واجبهم الشخصي نحو التبليغ فيما حولهم فحسب، بل إنهم يشتركون أيضا في الجهود التي تبذل لنشر الإسلام في جاوا وسومطرة وأوروبا وإفريقيا وغيرها من البلاد والقارات، وهكذا فإنهم يؤدون - ولو إلى حد ما- هذا الواجب الذي يفرضه الله عليهم في هذه الآية.كما أن الآية توجه أنظارنا إلى أهمية توعية الأولاد، ولكن الأسف أن الناس لا يهتمون بهذا الأمر كما ينبغي.النبي ، فقلت: يا رسول رُوي عن أبي علي السرّي قوله: رأيت (أي في المنام) الله، رُوي أنك قلت: شيبتني هود؟ قال: نعم.فقلت: ما الذي شيبك، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ (سُنن البيهقي، شُعب الإيمان).

Page 378

الجزء الثالث ۳۷۱ سورة هود وقد روى الدارمي وأبو داود في مراسيلهما والبيهقي في شعب الإيمان: قال رسول الله ﷺ : "اقرءوا هودَ يوم الجمعة" (البيهقي، شعب الإيمان).وهذا أيضًا يؤكد علاقة هذه الآية بالنظام والجماعة، لأن الجمعة أيضا اجتماع ونظام.يوم يوم أفليس عجيبا إذن أن لا تذوب قلوبنا من تأثير هذه السورة التي بلغ وقعها في قلب مع منه النبي -رغم صبره وجلده إلى حد أنها شيبته قبل أوان المشيب، أننا أحق بخشية الله تعالى..لكي يُعيننا على أداء هذا الواجب الثقيل الذي ألقاه على عواتقنا الضعيفة.والواقع أن الإسلام لا يقيم للنجاح الفردي أي وزن ولا قيمة، ولذلك إذا لم ننهض بالقوم كلهم وفي جميع المجالات فلن نحقق في الحقيقة أي فلاح، وإلى ذلك يشير الله بقوله وَلا تَطْغَوْاْ أي أن عدم الاعتناء بباقي القوم ظلم وطغيان، لأن التهاون بهم سوف يتيح الفرصة للسيئة كي ترفع رأسها من جديد إن إحراز الفرد الواحد رقيًا كبيرًا ومقاما عاليا لا يجدي العالم فتيلاً، لأن الظلمة ستخيم مرة أخرى فور وفاته.وإنما النجاح الحقيقي أن يسلك الجميع سبل الخير حتى يتم القضاء على الشر كليةً.ولكن الأسف أن المسلمين -رغم هذا التعليم القرآني الصريح- لم يتخلفوا اليوم في مجال العلوم الدينية فحسب، بل أيضًا في مضمار العلوم المادية والترقيات الدنيوية.فلا يساهمون في عملية النهوض بالإنسانية من الناحية المادية إلا قليلاً، أبناء بينما يسعى الأمم الأخرى بكل شجاعة وبسالة في إحراز قصب السبق في كل المجالات العلمية.وأما قوله تعالى إنَّهُ بمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيعني أنه ينظر إلى جهودكم الجماعية كما ينظر إلى جهودكم الفردية.

Page 379

الجزء الثالث ۳۷۲ سورة هود وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ من أولياء ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) شرح الكلمات : ١١٤ - لا تركنوا ركن إليه يركن وركُن يركن ركونًا: مال إليه وسكن (الأقرب).التفسير: لقد بيّن هنا مبدءًا هاما ألا وهو أن مَن كان على صلة بالظالم يشمله أيضا العقاب الذي يحل بالظالم.وأما علاقة هذه الآية بالتي قبلها فهي أن هذه تنبه على ضرورة مراقبة المؤمنين الآخرين وتفقد حالاتهم لكي يبقوا ثابتين على الإيمان.ذلك أنكم إذا تهاونتم في أداء هذا الواجب تجاه إخوانكم فإنهم سوف ينحرفون عن جادة الاستقامة ويصبحون في عداد الظالمين ويستوجبون العقاب، وحيث إن الأشياء المتواصلة المترابطة يتأثر بعضها ببعض، فلا بد أن تسري إليكم عيوب إخوانكم الظالمين ما دمتم على صلة بهم، وهكذا يصبح فسادهم بمثابة فسادكم أنتم.وكأن الله تعالى يحدّرنا أن قطع الصلة عن الإخوان والأحباب موت كما أن الإبقاء على الصلة مع الأقارب الظالمين أيضا موت، والطريق السليم إنما هو الطريق الوسط: أن تهتموا دائما بمراقبتهم وإصلاحهم ولا تدعوهم يفسدون كيلا تضطروا لقطع الصلة بهم وكيلا تفسدوا أنتم باستمرار الصلة بهم.كما أن للآية معنى آخر أيضًا وهو أنه قال من قبل لا تَطْغَوْا أي عليكم بالكف عن الظلم بأيديكم، والآن يقول: ليس هذا فقط هو المطلوب منكم بل يجب أن تدركوا أن صحبة الظالم ومساعدته بأي شكل من الأشكال أيضًا ظلم يستوجب العقاب.إن كثيرًا من الناس لا يظلمون بأيديهم، ولكنهم يرتكبون الظلم بإخفاء ما يرتكبه أصدقاؤهم من ظلم وعدوان، ويسعون لإنقاذهم من العقاب الذي استوجبوه على جرائمهم، فيجب أن يرتدعوا بهذا الإنذار الرباني عما يفعلون.وأشار بقوله وَلا تَرْكنُوا أنه إذا ذهب أحد إلى الظالم لسدّ حاجة أو تصريف

Page 380

الجزء الثالث ۳۷۳ سورة هود عمل مشروع فليس هذا مما يعاقب عليه، وإنما يستوجب العقاب إذا ارتاح وسكن إلى ما يرتكبه الظالم من أعمال عدوانية و لم يعرب عن كراهيته لها وبراءته منها.وأقم الصَّلاةَ طَرْفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ شرح الكلمات : ۱۱۵ طَرَفي النهار : الطَّرَف: حرفُ الشيء ونهايته؛ الناحية؛ طائفةُ والمراد من (طرفي النهار) هو الصبح والمساء.من الشيء (الأقرب) زُلفًا جمع ،زلفة، وهي: القُربة المنزلة الطائفة من أول الليل؛ وقيل: الساعات التي يلتقي بهما الليل والنهار (الأقرب).وقيل لمنازل الليل زُلف (المفردات) التفسير: تعلّمنا هذه الآية طرقًا يتحقق بها صلاح القوم، وعلاقتها بما قبلها من الآيات هي أن الله تعالى قد ذكر من قبل المسؤوليات التي تقع على النبي وعلى أتباعه وبما أن القيام بتلك المسؤوليات الضخمة يفوق قدرة الإنسان فلذا علمنا هنا طرقًا تسهل علينا إنجاز هذه المهمة الشاقة وإليكم بيان هذه الطرق: أولا : عليكم بالعبادة والابتهال إلى الله تعالى لأن عونه وحده هو الذي سوف يساعدكم على أداء هذا الواجب العظيم تجاه الإصلاح القومي.وثانيا : اغزوا قلوب القوم بالقدوة الحسنة، لأن الكلمات وحدها لا تستطيع قلع الشرور وقمع السيئات من المجتمع، وإنما هي الحسنات التي تقوم باستئصالها.فبقوله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ يعلّمنا الطريق الذي نستدر به رحمة الله تعالى القادرة على تغيير القدر الإلهي لصالحنا، وبقوله إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ

Page 381

الجزء الثالث ٣٧٤ سورة هود السَّيِّئَات يدلّنا على التدابير التي يتم بها القضاء على المساوئ.ومن هذه التدابير والوسائل: ١.يجب أن تكون أعمالكم حسنة، لأن الناس سوف يقتدون بأسوتكم الحسنة، وهكذا سوف تنمحي السيئات من بينكم تلقائيا.والحق أننا إذا أمعنا النظر أدركنا أن قليلا من هم الذين يعملون الفكر والتدبر لاتخاذ مسلك معين في أمور الدين، اللهم إلا من كانوا في زمن بعثة الأنبياء وصاروا من أتباعهم، فهؤلاء يختارون سبيلهم بعد تفكير وروية.أما الناس في العصور الأخرى فإنهم يقلدون الآخرين عموما في دينهم، وهكذا تلعب الأسوة الحسنة دورا بارزا في توطيد الخير بين المجتمع، لأن الذين حولك سوف يقلدون أسوتك الحسنة حتمًا، وبالتالي سوف ينجو قطاع كبير من القوم من المساوئ والشرور تلقائيا.۲ والوسيلة الثانية لاستئصال الشر هي أن تقوموا بوعظ القوم ونصحهم بالخير، وفي هذه الصورة تؤخذ كلمة (الحسنات) بمعنى النصائح الحسنة..والوسيلة الثالثة أن تعاشروا الناس بالحسنى، فهذا أيضا يساعد على قمع الشر، لأنكم إذا عاملتموهم بإحسان ،أحبوكم، وبالتالي قبلوا نصيحتكم.كما أن الآية تعلّمنا اثنين من أسرار الرقي الفردي: أولهما: أن الإنسان إذا تعوّد على الحسنات تخلّص من العادات السيئة تلقائيا.فمن أراد إصلاح نفسه فليعمل من الحسنات ما يتعارض مع ما يوجد فيه من القبائح، أنه وسیری وثانيهما: أنه من أراد تفادي عواقب الذنوب التي ارتكبها في الماضى فليفعل الخيرات أكثر فأكثر ، فكلما ازداد خيرًا وصلاحًا حمى نفسه من عواقب ما تقدّم من ذنبه.سيتحرر دون صعوبة من تلك المساوئ.

Page 382

الجزء الثالث سورة هود وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ١١٦ التفسير: أي أن المثابرة على الخير شرط أساسي.فما دام الله يرتب النتائج على الأعمال السيئة فلماذا لا يأتي بنتائج الأعمال الحسنة ولكن الشرط أن لا يُبدي الإنسان قلقًا ولا يترك السعى مللاً.فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إلا قليلاً مِّمَّنْ الجَيْنا منهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أثرفُوا فيه وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ۱۱۷ ) شرح الكلمات: أولوا بقية: البقية: مثل في الجودة والفضل، يقال: فلان بقية القوم، أي من خيارهم.و "أولوا بقية أي من الرأي والعقل، أو أولو فضل (الأقرب).ترفوا : أَترَفته النعمة: نعمته؛ أطغته وأبطرته (الأقرب) التفسير : أي ما دام القانون الجاري منذ القدم هو أن الفساد يتطرق إلى القوم إذا ما أهملوا ولم يتفقد أحد حالهم فمن واجب أصحاب العقل والرأي منهم أن لا يتغافلوا عن أداء واجبهم تجاه توعية الآخرين حتى يقضوا على الشر من بدايته كيلا تنمو بذرته ولا تزدهر، فينجو القوم من الهلاك.ولكن الأسف أنهم لم ينتبهوا إلى واجبهم القومي، إلا قليلا أن يتدبروا في أسباب هلاك الأمم الغابرة وبدلاً من منهم، ويُنقذوا شعوبهم منه، شرعوا في جمع ما خلفته الشعوب الهالكة قبلهم من متع الدنيا، وهكذا أصبحوا هم أنفسهم ظالمين وحُرموا من قرب الله سبحانه وتعالى.

Page 383

الجزء الثالث ٣٧٦ سورة هود وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ شرح الكلمات : ۱۱۸ :مصلحون أصلحه ضد أفسَدَه.أصلح الأمر بعد فساده: أقامه.أصلح بين القوم: وفق.أصلح إليه: أحسن إليه (الأقرب) التفسير : تعلن الآية أن إنزال العذاب بقوم دونما جريمة منهم ظلم، وأن الله أسمى من أن يكون ظالما.ولكن الغريب أن مسلمي اليوم يتعرضون لعذاب تلو العذاب، ومع ذلك يزعمون أنهم بخير وسائرون على المنهج الصحيح! وكأنهم يعلنون أن الله - والعياذ به ظالم إذ يعذبهم رغم كونهم صلحاء..لا تصدر عنهم جريمة ولا يأتون السوء! وفي الآية درسان لمن يريد أن يستفيد منهما؛ الأول : أن العذاب لا يترل بأحد دونما جريمة وفساد، فإذا رأيتم آثار العذاب فعليكم بأخذ الحيطة بمحاسبة أنفسكم.والثاني: أن السبيل لدفع العذاب أن هو ينسى القوم ما يوجد بينهم من خلافات ويعقدوا صلحا فيما بينهم، ويبدءوا في النصح بالخير..أي أن يتحدوا ويسعوا لإزالة ما في مجتمعهم من عيوب هذا هو العلاج الحقيقي الناجع؛ ذلك أنه لا يُحدث في أي قوم الانحطاط والتردي إلا سببان اثنان فقط : الأول: الفُرقة والتشتت.والثاني: تَسَرُّب العيوب والمساوئ إليهم.فإذا أزالوا من بينهم أسباب الانحطاط هذه نهضوا من جديد وازدهروا لا محالة.وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ ۱۱۹ إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَامْلأَنَّ جَهَنَّمَ

Page 384

الجزء الثالث مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ۱۲۰ ۳۷۷ سورة هود التفسير : يتضح بالتدبر في معنى هذه الآية والتي قبلها معًا أن الإنسان كلما تقدم في مجال الخير والصلاح ازداد صبرًا وثباتًا، وكلما ازداد صبرًا شملته الرحمة الإلهية أكثر فأكثر.وأما قوله تعالى وَلذَلكَ خَلَقَهُمْ فيعني إنما خلقناهم ليصبحوا موردا لرحمتنا، وليس المراد منه أنه خلقهم من أجل الاختلاف لأنه تعالى قد صرّح في مكان آخر من القرآن الكريم وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون (الذاريات: ٥٧)، وأيضا قال: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف: ١٥٧).والمراد من قوله تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَامْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعين أنني سأملؤها ممن يتبعون الشيطان، وليس أنني أملؤها من الناس عمومًا.ذلك أن الله تعالى قد ذكر هنا إتمام كلمة له وهي وعد من لدنه تعالى، وهذا الوعد نجده مذكورًاً في قوله تعالى للشيطان عندما سأل الله مُهلةً: لَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف: ۱۹)..أي لك أن تغوي الناس، ولكن تذكر جيدا أنني سوف أملاً منك وممن تبعك أجمعين.فلا شك أن هذه الآية إشارة إلى نفس هذا الوعد المذكور في سورة الأعراف، إذ لا نجد في القرآن أي أثر لأي وعد آخر كهذا.فالمراد أنه تعالى سوف يملأ جهنم ممن يتبعون الشيطان، لا أنه يلقي فيها المؤمنين أيضا دونما جرم أو ذنب.جهنم وهنا ينشأ سؤال: لماذا تحدث الله عن هذا الوعد هنا خاصة؟ والجواب: أولاً: لقد أعلن من قبل أننا إنما خلقنا الناس لرحمتنا، ولكنه عندما تحدث عن العذاب نشأ سؤال طبيعي هو : ما دام قد خلقهم لرحمته فلماذا يعذبهم إذن؟ فقال دفعًا لهذا الإشكال : لا شك أننا خلقناهم ،لرحمتنا ولكنا كنا أعلنا أيضا أن من يتبعون منهم الشيطان لن يتحقق لهم وعد الرحمة منا فوراً، بل سوف يُلقون أولاً في النار التي تتلاءم

Page 385

الجزء الثالث ۳۷۸ سورة هود مع المزاج الناري للشيطان الذي اتبعوه، ليدركوا كيف أن الإنسان إذا أعرض عن الكائن النوراني -أي النبي - هوى إلى مكان سحيق.وثانيا: لقد أعلن الله بقوله وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ أننا إنما خلقنا الناس لرحمتنا وسوف نشملهم بها، فنشأ عن ذلك الإعلان سؤال يقول: فأين إذن قولك لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنَّة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فرد عليه قائلا: لقد تم هذا الوعد بإبقائهم في جهنم كل هذه الفترة، فالآن نحقق لهم وعد الرحمة وندخلهم الجنة.وكأن هذا السؤال سينشأ عندما يُخرج الله أهل النار من الجحيم ويدخلهم الجنة.وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذه الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )) ۱۲۱ التفسير : يتضح من هذه الآية جليًا أن القرآن الكريم لم يهدف بسرد أخبار أنبياء الله السابقين إلى بيان التاريخ، وإنما نبأ بها بأن النبي و أيضا سوف يمر بأحوال مشابهة لها، وإلا كيف يكون سردها تثبيتًا لقلب النبي ومدعاة لطمأنينته.لا شك أننا إذا اعتبرناها أنباء عما سيحدث معه في المستقبل فإنها تصبح عندئذ مجلبةً للسكينة والطمأنينة له، لأنه عرف بها مسبقا مكائد قومه التي سيلجئون إليها ضده، ومصيرهم الذي سيقولون إليه.بل الحق أنه كان لزاما عليه أن يمر بأحداث مماثلة لأحوال الأنبياء السابقين لكونه بروزا لهم جميعا.وكلمة (هذه في قوله تعالى (وَجَاءكَ في هَذه الْحَقُّ..إشارة إلى هذه السورة، والمراد أن ما ذكرناه فيها من أخبار فإنها ليست قصصًا من الماضي فحسب، بل إنها أنباء سوف تتحقق حتمًا، وموعظة للناس، وتذكير للمؤمنين بواجباتهم.

Page 386

الجزء الثالث ۳۷۹ سورة هود وَقُل لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ۱۲۲ التفسير: أي قُل: لا حاجة بنا للجوء إلى الشجار وبذر الفتنة والفساد، لأن أعمالنا مختلفة عن أعمالكم ولأن كل واحد من الفريقين مسئول عن أعماله هو، وسوف تُظهر النتائج بنفسها أيُّ الفريقين كان على الحق.وَانتَظرُوا إِنَّا مُنتَظرُونَ ) ۱۲۳ التفسير : أي لماذا نفذ صبركم على تأخر النتائج، في حين كنا نحن أدعى لأن نفقد الصبر لأننا عرضة لعدوانكم ولكنا لا نزال متمسكين بأهداب الصبر وأنتم لا تصبرون! وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) التفسير أي مما لا شك فيه أن تحقق الأنباء المذكورة يبدو اليوم أمرًا مستحيلاً في بادئ النظر، ولكن النتائج في يد الله ، فلا بد أن تتحقق أنباؤه ووعوده في مواعيدها وإن بدت اليوم مستحيلة الوقوع.كما تنبه الآية المؤمنين أنه مما لا شك فيه أن الله تعالى هو الذي زف لكم هذه البشارات وقطع لكم هذه الوعود، ولكن يجب أن تتذكروا أنه غني عن العالمين، ويمكن أن يؤجل الوفاء بها لتقصير منكم، فعليكم أن تظلوا عاكفين على عبادته، متوكلين عليه، لكي تستدرّوا ،رحمته فينفّذ قراره في موعده ولا يؤخره عليكم أبدًا.

Page 387

الجزء الثالث ٣٨٠ سورة يوسف سورة يوسف مكية وهي مع البسملة مئة واثنتا عشرة آية واثنا عشر ركوعًا إن سورة يوسف مكية عند معظم الصحابة رضي وقتادة يريان أن أربعًا من آياتها الأولى مدنية.(القرطبي) الله عنهم، إلا أن ابن عباس الترابط: أما علاقتها بما قبلها من السور فهي أن الله تعالى قد تحدث في سورة يونس مركزا على جانبين من سنته مع البشر: وهما العقاب والرحمة.ثم فصل جانب العقاب في سورة هود، والآن - في سورة يوسف – يفصل جانب الرحمة.وقد تحدث عن موضوع العقاب قبل موضوع الرحمة لأن أعداء الرسول كانوا سيعاملون بهذا الطريق، حيث نجد أنه عندما حان جزاؤهم عاقبهم الله أولاً، ثم شملهم برحمته وغفر لهم في آخر حياة النبي.لما كان الرسول ﷺ أفضل رسل الله وخاتم الأنبياء جميعا عليهم السلام عامل الله معارضيه في الدنيا كما سيعامل الناس يوم القيامة، حيث سيلقي بالمجرمين في الجحيم أولاً، ثم يخرجهم منها ويدخلهم الجنة في آخر المطاف.تمتاز هذه السورة عن أخواتها بأنها تركز على بيان حادث واحد بيانًا مفصلاً، بينما هذا نجد غيرها من السور تقتبس أجزاء من شتى الأحداث لبيان الموضوع.ويرجع الاختلاف إلى تشابه كبير بين حياة النبي وحياة يوسف عليهما السلام في كل جزئياتها وتفاصيلها.فسرد الله حياة يوسف سردًا تفصيليًا لينبئ بذلك أن الرسول الكريم سيمر في حياته القادمة بظروف كالتي مر بها يوسف العلية.كما نلاحظ أنه في سورة يونس ذكر الله حادثته كمثال على رحمته، وأما هنا فقد

Page 388

الجزء الثالث ۳۸۱ سورة يوسف اختار حادثة يوسف لبيان رحمته الواسعة بيانًا مفصلاً.وهذا يرجع إلى عدة أسباب منها: ما سبق ذكره من أن حادث يونس العلا يبين المماثلة بينه وبين النبي الكريم من حيث المصير فقط دون التطرق التفصيلي إلى ما سيقع للنبي قبل ذلك من أحداث، ولكن حادث يوسف الله لا يوضح المماثلة بينهما في المصير فحسب، بل يبين أيضا ما سيحصل للنبي ﷺ في الفترة الأولى من بعثته.والسبب الثاني هو أن حادث يونس يكشف لنا عن التشابه بين الشعبين فيما يتعلق بمصيرهما حيث نُجِّيَ قوم النبي الكريم الا الله من الهلاك في آخر الأمر مثلما حصل بقوم يونس العل.ولكن حادث يوسف العليا يكشف عن تشابه آخر أيضا بين النبيين هو أن أسرة يوسف قد نجوا على يده هو، كذلك تم الإعلان عن العفو العام للكفار يوم مكة بلسان النبي.وهذا لم يتيسر ليونس ال، لأنه لم يعلن بلسانه عن نجاة قومه من الهلاك، وإنما أعلنها الله بنفسه وبفعله هو سبحانه وتعالى.فتح بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين التفسير: إن قوله تعالى (الر) يعني فيما يعنيه: أنا الله أرى.واعلم أن موضوع هذه السورة أيضا يدور حول رؤية الله لأحوال أنبيائه.فقد بين الله بقوله هذا أن أحوال هذا الرسول مشابهة لأحوال يوسف، فإذا كان من غير المستساغ اعتبار يوسف مفتريًا قبل ظهور عاقبة أمره فكيف يُستساغ إذن أن يُرمى محمد بالافتراء قبل انكشاف مصيره.وقد جاء باسم إشارة للبعيد (تلك) ليشير إلى ما يوجد في هذه السورة من أنباء، والمراد أنكم ترون هذه الأنباء بعيدة أي مستحيلة الوقوع ، ولكنها سوف تتحقق حتمًا في يوم من الأيام.

Page 389

الجزء الثالث ۳۸۲ سورة يوسف لقد وصف الكتاب بأنه (الْمُبين) ليعلن أنه كتاب كامل في ذاته حيث إنه غي بالأدلة والبراهين الدالة على صدق ما يدعي به دون الحاجة إلى أدلة من الخارج، وأنه ليس بواضح بين في نفسه فحسب، بل إنه يبين أيضًا حقيقة ما ورد في الكتب السابقة أمور غامضة أو خاطئة.من وقد دحض القرآن الكريم باستخدام هذه الكلمة ما كان سيثار ضده في المستقبل من اعتراضات بأنه يتعارض مع ما تذكره الكتب السابقة عن أحداث الماضي.فقد وضح الله هنا بأن تصحيح الأخطاء الواردة في الأسفار الماضية هو من صميم واجب القرآن الكريم، فكيف لا يخالفها في بعض الأمور.الملاحظة أنه قد قال في وصف الكتاب هنا بأنه (الْمُبين)، بينما وَصَفَه في سورة مع هود بأن آياته قد فصلت، ذلك أنه اقتبس في سورة هود اقتباسات مختلفة قصيرة من شتى أحداث الماضي، تدليلاً على صدق الرسول الله، فكانت الكلمة الملائمة (فصلت)، إذ يعني التفصيل جعل الشيء فصولاً وأجزاء متمايزة منفصلة.وأما هنا فسَرَدَ حادثًا واحدًا طويلاً، فكان التعبير المناسب لذلك هو (الْمُبين) الذي فيه معنى الشرح والتفصيل والتوضيح.لذلك هي كما أشار بكلمة (الْمُبين) إلى أن القرآن الكريم قد بيّن كل ما يحتاج إليه الإنسان للوصال بالله تعالى من تشريع سماوي وخُلق فاضل واعتقاد سليم وغيرها من الأمور.إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنَا عَرَيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )) الكلمات شرح عَرَبيًّا العربي نسبة إلى العرب، وهو مصدر وصفة مشبهة من عَرَب يعرب وعرب يعرب عَربًا.وتُطلق الكلمة على الجزيرة العربية وعلى شعبها الأصلي القديم.يقال:

Page 390

الجزء الثالث ۳۸۳ سورة يوسف عربت المعدة عربا: تغيرت وفسدت.وعَرَبَ الجرح: نُكس وغفر وبقي أثره بعد البرء؛ تورم وتقيح.وعَرَبَ الرجل: فسدت معدته ؛ نَشِطَ؛ فَصُحَ بعد لكنة في لسانه، فهو عَرَبٌ.وعَرَبَ النهرُ: غَمَرَ.(الأقرب) فجميع الاشتقاقات من (عرب) تدل على معاني الامتلاء والكثرة، والصفة المشبهة منه هي: عرب، والاسم المنسوب منه هو: عربي، أي الممتلئ جدا، هو : عربي، أي الممتلئ جدا، مع العلم أن النسبة أيضا تعطي معنى المبالغة كقولهم (أحمري) من أحمر، و(عبقري) من عبقر.فالمراد من قوله تعالى قُرْآنًا عَرَبِيًّا أنه كتاب غني جدا بالمعارف والمعاني، لأن الكتاب إنما يمتلئ بالعلوم والمفاهيم وعندما توصف اللغة بأنها عربية فالمراد أن مفرداتها غزيرة المعاني واسعة المفاهيم.وعَرُبَ الرجل عَرَبا: كان عَرَبيًا خالصًا ولم يلحن ؛ وعَرُبَ اللسان: تكلم بالعربية وكان عربيًا فصيحا.(الأقرب).والصفة المشبهة منه عَرَب، وإذا أضفنا إليها ياء النسبة أصبحت (عَرَبيَّا)..أي الذي يكون فصيح الكلام للغاية بريئًا من اللحن أو اللكنة تماما.ويتأكد هذا المعنى من مشتقات أخرى للكلمة حيث يقولون: أعرب الشيء: أبانه وأفصحه.وأعرب عن حاجته: أبان عنها، وأعرَبَ كلامه حسنه وأفصح ولم يلحن في الإعراب.وأعرب بحجته: أفصح بها (الأقرب).وقال الراغب: العربي: المفصحُ، والإعراب: البيان.(المفردات) وبناءً على هذا المعنى، فالمراد من قوله تعالى قُرْآنًا عَرَبيًّا أنه كتاب سوف يُقرأ كثيرا وعلى الدوام، وأن مطالبه واضحة مقرونة بالأدلة والبراهين.التفسير: لقد ذكر الله هنا ميزتين أخريين للقرآن الكريم ذكرًا لطيفا، فقد سماه في الآية السابقة (الكتاب)، ليخبر أنه سوف يُكتب ويدوّن وسيبقى محفوظا في صورة كتاب على الدوام.ووَصَفَه في هذه الآية قُرْآنًا عَرَبيًّا، لينبئ أنه سيُقرأ بكثرة وعلى العصور.فهناك أسفار عديدة تكتب وتُطبع بكثرة، ولكنها لا تقرأ إلا قليلاً، ومثال مر

Page 391

الجزء الثالث ٣٨٤ سورة يوسف ذلك الإنجيل.ثم هناك كتب لا تطبع بكثرة ولكن تُقرأ كثيرًا، ومثاله "غرنت" وهو كتاب السيخ.ولكن من الضروري لبقاء أي كتاب محفوظا مصونًا أن يُكتب بكثرة وأن يُقرأ أيضًا بكثرة.وهذه ميزة ينفرد بها القرآن الكريم عن سائر الأسفار السماوية.أما كلمة (عَرَبيَّا) فتُستخدم بمعناها العام أيضا، ولكنها كما أسلفت - تدل أصلاً على معنى الامتلاء والكثرة.وإنما تسمى هذه اللغة عربية لأنها كثيرة المفردات واسعة المعاني، بحيث يجد فيها الإنسان بكل سهولة ما يعبر به عن أي معنى يختلج في قلبه.حتى إن المستشرقين أيضًا اعترفوا بهذه الميزة الفريدة للّغة العربية قائلين بأنها لغة كاملة للغاية مادةً واشتقاقا.فها هو الكاتب الشهير لين بول Edward W.Lane الذي قام بنقل القاموس "تاج العروس" إلى الإنجليزية يعترف بشعور الحاسد الذي تعتريه الحسرة في مقدمة قاموسه هذا قائلا: "لا نجد للغة العربية نظيرًا بين لغات العالم كلها، فهي زاخرة بمفردات تبلغ مئات الألوف، وما من لفظة فيها إلا وتنطوي على معنى وحكمة".وقد نقل الأديب الأريب العلامة ابن جنّي قولاً لأستاذه أبي علي: إن الحروف العربية أيضا تحتوي على معان معينة فمثلا إن الحروف (ك ، ل، م) إذا وردت في كلمة ما دلّت على القوة والقدرة دائما مثل ملك وملك وكلم ولكم وغيرها.كذلك فإن المشتقات من ( ع ر ب تدل على الامتلاء والكثرة مثل: الرعب والعبور وغيرهما.لا شك أن أئمة اللغة القدامى قد لفتوا النظر إلى هذه المزايا للغة العربية، إلا أنه لم يتحدث عن كونها أمّ اللغات كلها إلا سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الل، فقد أثبت كون اللغات كلها متفرعة من العربية بوضوح وجلاء بحيث لا يسع أحدًا إنكاره الخزائن الروحانية ج ۹، منن (الرحمان.لكن المؤسف هو أنه لم يسعفه العمر لتكميل هذا الكتاب غير أنه قد ذكر فيه المبادئ الأساسية.ولقد حاول أحد الناس تقليد حضرته فصنّف كتابًا في هذا الموضوع، ولكنه قد

Page 392

الجزء الثالث ٣٨٥ سورة يوسف دفن الحقيقة لجهله بها.ولقد نبه الله تعالى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إلى أننا أنزلنا الكتاب بهذه اللغة لكي يسهل عليكم الانتفاع به على أحسن وجه لأنه إذا لم ننزله عربيا، أي بلغة قادرة على التعبير عن كل مفهوم ومعنى لما استطاع الناس الاستفادة منه.نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ شرح الكلمات نقص: قصَّ أَثَرَه يَقُصُّ قَصَّاً وقَصَصًا: تتبعه شيئًا بعد شيء، ومنه: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا..أي رَجَعَا في الطريق التي سلكاها يقُصان الأَثَرَ.وقَصَّ عليه الخبر والرؤيا: حدث بهما على وجههما ، ومنه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص...أي نبين لك أحسن البيان.(الأقرب) التفسير: يبدو من الآية أن الناس كانوا مختلفين في حادث يوسف نزول القرآن الكريم، وإلا لما أعلنَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ..أي نحن الذين سوف نكشف الحقيقة، ونحكي الحادث دون زيادة أو نقصان، فنفصل بين المختلفين فيه.العليا قبل ولكن المستشرقين لم يفكروا في هذا الاختلاف السائد قبل نزول القرآن الكريم ليدركوا أن الحادث كان قد صار عرضةً للاختلاف والتشويه قبل ذلك، مما حدا بهم للطعن في القرآن الكريم عندما وجدوا بيانه مخالفا لما ورد في التوراة في هذا الصدد.حتى قال المستشرق الألماني (بروكلمان يكفي لإقناع أي مسلم بفضل التوراة على

Page 393

الجزء الثالث ٣٨٦ سورة يوسف القرآن أن يُعرض عليه ما ورد في الكتابين عن حادث يوسف، لأن القرآن قد ذكر هذا الحادث الجميل ذكرًا مشوّهاً مما أفقده روعته وجماله تماما.(ملاحظات عن الإسلام ص ۱۲۰، نقلا عن تفسير ويري).والحق أن المستشرق قد برهَنَ بقوله هذا على صدق القرآن الكريم نفسه، إذ سبق أن أعلن القرآن: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص...أي نحن الذين سوف نسرد عليك الحادث الحقيقي دون زيادة أو نقصان، مما أن الذي أنزل القرآن كان على علم بأنه سيأتي زمان سوف يبسط فيه بعض الجهال ألسنتهم في بيان القرآن الكريم.أما قوله بأن القرآن قد ذكر الحادث ذكرًا مشوّهًا ممسوحًا فسوف نرد عليه بعد قليل يعني لدى تفسير الآيات التالية بحيث يتضح للقارئ تماماً أي المصدرين ارتكب التشويه والمسخ.واعلم أن قوله تعالى بأننا نحن الذين نسرد لك هذا الحادث سردًا صحيحًا لأننا أوحينا إليك هذا القرآن يتضمن نبا عن وقوع حادث مماثل له في حياة الرسول ﷺ إذ لا نجد أية علاقة بين نزول القرآن وبين حادث يوسف اللهم إلا إذا اعتبرناه نبا عما سيحدث بالرسول الكريم، مما إذا تحقق حدا بالناس أن يصدقوا وحي القرآن وأن يصدقوا حامله محمدا رسول الله.وهناك سبب آخر لقول الله هذا، وهو أن حامل القرآن لما كان مثيلا ليوسف عليهما السلام - فكان لزامًا أن يعرف ما مر به مثيله من أحوال وأحداث.وأما قوله تعالى ﴿وَإِن كُنتَ قَبْلَه لَمنَ الْغَافِلِينَ فله مفهومان: الأول: أنك من كنت تجهل هذه القصة، لأن أحداثها لم ترد من قبل مجتمعةً في أي مصدر لا في التوراة ولا في التلمود، وإنما كانت وردت متفرقة في أماكن شتى.يقول النصارى معترضين : كيف يقال بأن محمدا كان يجهل الحادث مع أنه مذكور في التوراة تفسير ويري؟ والجواب أن بيان التوراة عن الحادث متعارض مع بيان القرآن، فلا شك أن الرسول ما كان يعرف بعض الحقائق التي انفرد القرآن بذكرها، وسوف أبين بعد قليل بالأدلة والبراهين أن بيان القرآن هو الحق والصواب، وأنه ما

Page 394

الجزء الثالث ۳۸۷ سورة يوسف من أمر اختلفت فيه التوراة مع القرآن إلا وكانت مخطئة فيه.والمفهوم الثاني هو : أنك ما كنت تعلم أن هذا سيحدث معك كما لم يكن يوسف يعلم أنه سيحدث معه ما حدث.إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ شرح الكلمات : يا أبت أصله يا أبي أبدلت ياء المتكلم تاءً بسبب النداء، فيقولون: يا أبت ويا أمت، تعبيرا عن الحب الشديد.التفسير: لقد تعرّض بعض الكتاب المسيحيين للقرآن الكريم بالنقد فيما يتعلق بحادثة يوسف ال، لذلك سوف أوضح أولاً بأول الفوارق بين ما ورد في التوراة وما ورد في القرآن الكريم في هذا الشأن.الفارق الأول : هو أن التوراة تناولت هذا الحادث بذكر نَسَب يوسف العليا، ولكن القرآن الكريم استهله بذكر الرؤيا التي كانت النقطة المركزية في حياة يوسف ومحورًا لكل ما جرى له من أحداث دون أن يخوض في ذكر نسبه وغير ذلك مما يخص المؤرخين.وبغض النظر عن فروق أخرى بين بيان المصدرين فإن هناك بونا شاسعا بينهما بصدد بيان هذه الحادثة، وإننا لو وضعنا هذا الأمر أمام أي من المعلقين المحايدين فسوف يحكم لصالح القرآن الكريم نظرًا لبراعة استهلاله للحادث، إذ إن رؤيا يوسف التي كانت العامل الأساسي لنجاحه الله، وهي التي غيرت مجرى حياته تماما، مي وجعلت إخوته أعداء له، وتحقيقًا لتلك الرؤيا جاء الله بهم إلى مصر وألقى بهم على

Page 395

الجزء الثالث ۳۸۸ سورة يوسف قدميه مرغمين.ولو أردنا تعيين ذلك الجانب من حياته الذي كان درسًا وعبرةً للآخرين فلن نجد أي شيء أفضل من رؤياه هذه.والفارق الثاني بين المصدرين هو أن القرآن الكريم قد قدّم ذكر الأحد عشر كوكبًا على ذكر الشمس والقمر في بيان الرؤيا، ولكن التوراة فعلت العكس، فقد ورد فيها: "فقال إني حلمت حلمًا أيضًا، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي.وقصه على أبيه وإخوته".(التكوين ٣٧: ٩ و ١٠) وهذا الاختلاف أيضا يكشف فضل القرآن الكريم على التوراة، لأن كليهما متفق على أن المراد من الكواكب إخوته ومن الشمس والقمر ،أبواه، وأن أول من التقى به وخضع له أدبا واحتراما - بعد أن أكرمه الله في مصر - هم إخوته، أما أبواه فقد التحقا به فيما بعد.فالترتيب الذي راعاه القرآن في بيان الرؤيا هو الصواب، وأما الترتيب الذي راعته التوراة فإنه خاطئ ومستغرَب.ولا شك في أن الله تعالى قد أرى يوسف أولاً أولئك الأشخاص من أسرته الذين قدّر لهم أن يقابلوه أولاً، ثم أراه أولئك الذين قدّر لهم مقابلته فيما بعد.يعني أنهم أما السجود المذكور في قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فإنه لا سيسجدون له حقيقةً، بل المراد هو أنهم سيصبحون خاضعين وتابعين له.وهذا ما حصل بالضبط إذ حضر إليه في مصر إخوته وأبواه واستوطنوا عنده حيث كان يتقلد منصب الوزارة، وهكذا أصبح هؤلاء الناس تابعين له يعيشون تحت لوائه.وقد ورد في تفسير "روح المعاني" بأن طاعة الوالدين والإخوة ليوسف ليس بأمر ذي بال فلذا علينا أن نعبر الشمس بالملك والقمر بالوزير والكواكب بعلية القوم.ولكن هذا المعنى باطل، لأن ملك مصر لم يكن تابعا ليوسف بل كان يوسف خاضعا لقوانين بلده كما صرح بذلك القرآن في قوله تعالى: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ في دِينِ الْمَلك (الآية: (۷۷)..أي ما كان ليوسف أن يحتجز أخاه عنده وفق القانون الملكي.ثم إن الملك مهما كان احترامه لوزير من وزرائه كبيرا فلا يمكن أن يعبر عن

Page 396

الجزء الثالث ۳۸۹ سورة يوسف منه.تقديره له بكلمة السجود، لأنه لا يحترمه عن طاعة وخضوع وإنما عطفًا ولطفا.وحيث إن السجود المادي تمثيل لكمال الطاعة لذلك لن يطلق السجود هنا ولو طاعته.مع العلم مجازا إلا على صور مختلفة للطاعة والواقع أن طاعة الأبوين والإخوة أمر عظيم أيضًا، لأن الآباء لا يكونون عموما طائعين للأولاد.ولكن الأمر في حادثة يوسف عجيب جدا.لقد أخبره الله بالرؤيا وهو صغير أنه سيأتي يوم يدخل فيه أبواه في أن يوسف كان يبلغ حينئذ أحد أو اثني عشر عامًا، وكان أبوه قد تجاوز الخمسين.ومن ذا الذي يستطيع أن يضمن طول هذه المدة- أنه سيعيش ويحقق رقيًا، وأن أبويه وإخوته الأحد عشر سيبقون أيضا أحياء ويصبحون طائعين له طول هذه الفترة.إذا فتحقق الرؤيا في هذه الظروف ليس بأمر عادي أبدا.لقد أخبرتُ من قبل في تأويل أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا أن المراد منها أحد عشر أحا ليوسف.وقد ذكرت التوراة أسماءهم كما يلى رأُوبين، شمعون، لاوي، يهوذا، يساكر، زبولون، بنيامين، دان نفتالي جاد وأشير.(التكوين ٢٩ و ٣٠ و٣٥) هذا، وقد ذكرت التوراة معاني غريبة لهذه الأسماء التي أطلقتها عليهم أمهاتهم إلا بنيامين.6 المماثلة الأولى : بين النبي الكريم ويوسف العليا، وهي في كيفية نزول الوحي الأول.فكما حدث ليوسف كذلك نزل أول وحي على النبي وهو في غار حراء"، وقد حمل هذا الوحي أنباء تخبره بأنه سوف يفوق ويتغلب عليهم جميعًا إذ قال الله له اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق : ٤ - ٦ أي اقرأ هذا الكلام الذي أنزله عليك أكرمُ مَن في الوجود، بمعنى أن الله الأكرم سوف يجعلك أنت أيضا أكرم مخلوق في الأرض، وسوف يعلمهم بواسطتك ما لم يعلمه أحدًا من الأولين..بمعنى أنك سوف تصبح أشرف كائن في الأولين وفي الآخرين، لأنك سوف تُعطى ما لم يعط الأنبياء الأولون.وكأنه تعالى

Page 397

الجزء الثالث سورة يوسف يقول للرسول: ستكون سيدًا لإخوتك..أي لقومك وكذلك لآبائك الروحانيين أي الأنبياء السابقين، وذلك كما قال النبي ﷺ : "أنا سيد ولد آدم" (ابن ماجة، الزهد)، وأعلن: "لو كان موسى وعيسى حيَّين لما وسعهما إلا اتباعي" (ابن كثير، الآية: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين).وبالاختصار لقد أخبر النبي لدى أول وحي تلقاه أنه سوف يصير سيدًا مطاعا لإخوته ولآبائه القدامى.النبي المماثلة الثانية: لقد حكى يوسف رؤياه لأبيه عليهما السلام، كذلك ذكر بمشورة من زوجته رضي الله عنها حادث بدء نزول الوحي لشخص صالح من أسرتها هو ورقة بن نوفل (البخاري، بدء الوحي).قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ و الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مبين شرح الكلمات : يا بني: كلمة (بني) تصغير من (ابني).ولا يُقصد بالتصغير الإشارة إلى ولد صغير السن وإنما يقصد به التعبير عن شدة الحب.وهذه الكلمة تُستخدم لكبار الأولاد أيضا، لأن الولد مهما كبر فهو يبقى صغيرًا بالنسبة إلى أبيه ويستحق عطفه ومحبته.فقد ورد في القرآن الكريم قول نوح اللي لابنه عند الطوفان : يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا (هود:٤٣)، وقول لقمان ال لابنه : يَا بُنَيَّ لا تشرك بالله) (لقمان: ١٤).فيكيدوا كاده يكيد كيدا: خدعه ومكر به، والاسم المكيدة؛ وعلمه الكيد، وبه كَذَلكَ كدْنَا لِيُوسُفَ أي علمناه الكيد على إخوته.وكاد له: احتال عليه.

Page 398

الجزء الثالث ۳۹۱ سورة يوسف وكاد فلانًا: حاربه؛ أراده بسوء.والكيدُ : المكر والخبث؛ الحيلةُ؛ الحرب؛ إرادةٌ مضرّةٌ غير خفية.وهو من الخلق الحيلة السيئة، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق (الأقرب).التفسير : هنا أيضا نجد اختلافًا بين بيان المصدرين، فالقرآن يصرح أن يوسف ال قد قصَّ رؤياه على والده أولاً ، فنهاه أن يقصها على إخوته قائلاً: لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتكَ، ولكنّ التوراة تقول بأنه قصها على إخوته قبل أبيه.(التكوين ٣٧: ·(9 وبيان القرآن هو الحق والصواب كما تشهد بذلك التوراة نفسها إذ ورد فيها أن يوسف كان قد رأى رؤيا أخرى قبل هذه ورواها لإخوته فبدءوا يبغضونه حيث قيل: وحلم يوسف حُلمًا وأخبر إخوته.فازدادوا أيضًا بغضًا له" (التكوين ٣٧: ٥).وورد فيها أيضا فقال له إخوته لعلك تملك علينا مُلكًا أم أن تتسلط علينا.تسلطًا.و ازدادوا أيضًا بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه).(التكوين ٣٧: ۸) فهل يُعقل بعد ظهور هذه الكراهية من إخوته أن يحكي لهم يوسف رؤياه الثانية التي كانت مشابهة لرؤياه الأولى في فحواها قبل أن يحكيها لأبيه؟ كلا بل إن المنطق السليم يفرض أن يخفي رؤياه الثانية عن إخوته لما رآه منهم في المرة الأولى، وأن يحكيها لأبيه.فبيان القرآن الكريم أقرب إلى العقل والصواب وذلك بشهادة التوراة نفسها.وأما قول يعقوب ال لابنه لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فقد ذكر القرآن الكريم نفسه سبب هذا النهي حيث قال: فَيَكيدُوا لَكَ كَيْدًا يعني أنهم سوف يدركون بذلك أن لك مستقبلاً باهراً، فيحسدونك ويبغضونك، ناسين أن لا خيار للإنسان في شأن الرؤيا، وسيحاولون القضاء عليك.وهذا ما تؤكده التوراة أيضًا بأنهم كانوا ناقمين عليه نتيجة أحلامه ورؤاه.المماثلة الثالثة وهي كما أن يوسف عندما قص رؤياه على أبيه يعقوب عليهما

Page 399

الجزء الثالث السلام أنذره بأنه سيواجه عداءً ۳۹۲ سورة يوسف من قبل إخوته، كذلك لما قص النبي ﷺ حادث الوحي الأول على ورقة بن نوفل أخبره قائلاً: "يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك"..أي ليتني كنت شابًا قويًا أساعدك.وحينما سأله النبي ﷺ في حيرة: أو مُخرِجِيَّ هُم"..أي هل قومي حقا سيطردونني من بلدي؟ أجابه ورقة: "لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي." (البخاري، الوحي) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التفسير : أي سوف يعاملك الله تعالى تماما كما رأيت في الرؤيا، وسوف يعطيك ما وعدك به من حظوة واصطفاء.وأما قوله تعالى (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ) فله مفهومان؛ الأول: سوف يحقق الله تعالى لك ما رأيت في الرؤيا من بشارة.والثاني: سوف يهب لك مَلَكَةً تعرف بها تأويل الرؤيا.أما قوله تعالى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ فالمراد من إتمام النعمة هو التشريف بالنبوة، فبشره الله بذلك أنه سوف يهب له أيضًا النبوة وهكذا يكرم آل يعقوب؛ بمعنى أنهم سوف ينالون نصيبا من النبوة بالإيمان بيوسف.هنا أيضًا يختلف القرآن مع التوراة، فإنه يقول: إن يعقوب فرح برؤيا ابنه وأيقن بصدقها وصحتها.ولكن التوراة تقول إنه زجره على رؤياه، حيث جاء فيها: "فانتهره أبوه وقال له ما هذا الحلم الذي حلمت هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى

Page 400

الجزء الثالث ۳۹۳ سورة يوسف الأرض.فحسده إخوته وأما أبوه فحفظ الأمر" التكوين ۳۷ : ۱۰ و ۱۱).ولا جرم أن بيان التوراة مخالف للعقل، لأن أي إنسان ذي عقل سليم لا يزجر أحدا على ما يراه في المنام، لأن الحلم أو الرؤيا ليس في خيار أحد.نعم، يمكن أن يزجر الإنسان أحدا إذا كان يظن أن الشخص كاذب ولم ير أية رؤيا، ولكن التوراة تقول بأن يعقوب زجره قائلاً: ما هذه الرؤيا التي رأيت، مما يعني أنه يعتبره كاذبًا.إذن فادعاؤها بأن أباه زجره على الرؤيا أمر غير منطقي، وكل عاقل سوف يصدق القرآن في بيانه حتما.ثم إن التوراة نفسها تعارض بيانها هذا، إذ تضيف أن يعقوب حفظ هذه الرؤيا.والبديهي أنه حفظها لأنه أيقن بأنها من الله الرحمن إذن فمن المستحيل أن يزجره على سماعها، خاصةً وأن الابن كان لا يملك أي خيار في أن يراها أو لا يراها.المماثلة الرابعة يتضح من هذه الآية أن يعقوب ال أيقن أن ما رآه ابنه كان رؤيا رحمانية وآمن بها واعتبرها شرفا ومكرمة لشعبه، وهذا ما حدث للنبي حيث صدقه ورقة بن نوفل عند سماع حادث الوحي الأول واعتبره مدعاة عز وشرف لقومه قائلا: "هذا الناموس (أي الوحي) الذي نزّل الله على موسى" (البخاري،الوحي).لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ تعالى ينبئ التفسير : أي أن في هذا الحادث آيات للذين يسعون لفهم صدق النبي.وكأنه هنا أن هذا الرسول أيضا سوف يتعرض لما مر به يوسف العل من ظروف ومحن.فالآية دليل واضح على أن القرآن لا يحكي حادث يوسف كقصة تاريخية، وإنما يسرده ليزوّد الباحثين عن صدق محمد رسول الله له بالبراهين الدالة على صدقه.

Page 401

الجزء الثالث ٣٩٤ سورة يوسف 28 إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ شرح الكلمات: عُصبة: العصبة من الرجال والخيل والطير العصابة، والعصابة: الجماعة أى المجموعة؛ وقيل : العشرة؛ وقيل ما بين العشرة إلى الأربعين.(الأقرب) وقد فضل المفسرون معنى العشرة لأن إخوة يوسف المعادين له كانوا عشرة.والعصبة تدل على القوة أيضا لأنها مشتقة من العصب، وكأنهم قالوا نحن الذين نكدح ونكسب للأسرة فلماذا يؤثر أبونا يوسف وأخاه علينا.التفسير: المماثلة الخامسة: لقد واجه النبي ﷺ نفس الموقف في عدة أشكال، فمثلا كان لعمر ه عم اسمه زيد بن عمر بن نفيل، وكان قد تعلّم التوحيد من علماء اليهود، وكان يقوم بالوعظ ضد الوثنيين.وعندما سُئل عن دعوى النبي ﷺ قال: أنا الذي كنت أحارب الشرك في مواعظي وخطي، فكنت أنا أحق بالنبوة (البخاري، المناقب؛ والسيرة لابن هشام).الله دین وقد أثار اليهود والنصارى نفس هذا الاعتراض ضد النبي إذ زعموا أنهم حملة وأحقُّ بنعمة النبوة.بل يتبين من القرآن الكريم أن الفكرة نفسها كانت تختمر في أذهان مشركي مكة أيضًا.يقول القرآن: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُل الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (الزخرف: (۳۲).أي لماذا لم يتزله الله على زعيم من زعماء مكة أو الطائف.وكأنهم احترقوا غيظًا وحسدًا إذ كيف أن الله اختار هذا الشخص الضعيف من بيننا لهذا الفضل والشرف؟ فرد الله عليهم بقوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةً رَبِّكَ (الزخرف:۳۳).مِّنَ

Page 402

الجزء الثالث ٣٩٥ سورة يوسف وقولهم إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِين يعني: أنه من واجب أبينا أن يحبنا نحن لما نقوم به من جهود وأعمال من أجل الأسرة ولكنه يحنو على يوسف الذي لا يحرك ساكنًا، وهذا من أبينا خطأ كبير.وقولهم هذا يدل على أنهم كانوا ناقمين عليه غاية النقمة.اقْتُلُوا يُوسُفَ أو اطَّرَحُوهُ أَرْضًا يَحْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ شرح الكلمات:.الصالحين صلح الشيء يصلح صلاحًا وصلوحًا وصلاحية: ضدُّ فَسَدَ أو زال عنه الفساد ، يقال صلحت حال فلان وصلح الرجل في عمله لزم الصلاح (الأقرب) التفسير: انظروا إلى تأثير الصحبة الصالحة.لقد كان إخوته يخططون لارتكاب جريمة شنيعة، ولكنهم كانوا أبناء لنبي من الأنبياء وكان لصحبته تأثير فيهم لذلك كانوا يشعرون في قرارة نفوسهم بالخوف من غشيان المعصية، ودفعا لهذا الخوف خدعوا أنفسهم قائلين: هلموا نقتله الآن وسوف نتوب فيما بعد.هناك كثير من الناس الذين يقعون فريسة لهذه الخدعة الشيطانية، مع أنه لا ضمان للحياة.ومهما كان الإنسان صادقا وقويًا في نيته للتوبة فإنه ليس في مأمن من أنواع الأخطار والأخطاء أبدا.إذ قد يفاجئه الموت، أو يصاب في عقله، أو يتعود على المعصية بحيث يستحيل التخلي عنها.فما دام الأمر كذلك كيف يضمن توبته في آخر المطاف.وهنا أيضا نجد اختلافًا بين التوراة والقرآن، إذ يقول القرآن إن إخوته تشاوروا أولا، وبعد المشورة احتالوا على أبيهم ليأخذوه معهم خارج البيت وينتقموا منه.

Page 403

الجزء الثالث ٣٩٦ سورة يوسف ولكن التوراة تزعم أنهم كانوا خارج البيت ورأوه وهو قادم إليهم، فاستعدوا فوراً لقتله حيث جاء فيها: "فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه.فقال بعضهم لبعض هو ذا هذا صاحب الأحلام قادمٌ.فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله.فنرى ماذا تكون أحلامه التكوين ٣٧.(۲۰-۱۸ إنه من السهل جدا للذين يقومون بتحري أسباب الجرائم أن يدركوا أن قول القرآن هو الصواب، إذ لا يفكر أحد ولا يستعد على هذا النحو فجأةً لقتل شخص ما إلا المجانين أو قطاع الطرق الذين قد تعودوا على سفك الدماء وإزهاق النفوس بدون هوادة.ولكن إخوته كانوا يعيشون في ذلك البيت عيشة الشرفاء فما كانوا ليستعدوا هكذا فجأةً لقتله.إذا فاتفاقهم جميعًا على قتله، دليل على أنهم كانوا قد تشاوروا وتآمروا على قتله من قبل.أفلم يفكر أخوه الذي اقترح عليهم قتله ماذا سيكون مصيره إذا لم يرض باقي الإخوة باقتراحه؟ كما أن قولهم وَتَكُونُواْ من بعده قَوْمًا صَالِحينَ أيضًا يكشف أنهم ما كانوا مجرمين بالعادة، بل كانت فطرتهم تعافُ هذه الفعلة الشنيعة.فلا شك أن رواية القرآن أقرب إلى الصواب عقلاً وواقعا.المماثلة السادسة: وهي تتمثل في مؤامرة القتل.يقول الله تعالى عن تآمر الكفار على قتل النبي ﷺ وَإِذْ يَمْكُرُ بكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبُتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: ۳۱).قوله ليُثْبِتُوكَ) يعني ليأسروك ويقيدوك.فكما أن أخوة يوسف العلية خططوا لقتله أو إلقائه في أرض نائية، كذلك كان تخطيط المشركين ضد المصطفى.

Page 404

الجزء الثالث ۳۹۷ سورة يوسف قَالَ قَائِلٌ مَّنْهُمْ لا تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَة الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ۱۱ شرح الكلمات: غيابة: الغيابة من كل شيء ما سَتَرَك منه.والغيابة من منه.والغيابة من الحب و الوادي: قعره.ووقعنا في غيابة أي هبطة من الأرض والغيابة: القبر.(الأقرب) الجب: البئر، أو البئر الكثيرة الماء البعيدة القعر.وفي المصباح: الجب بئر لم تُطوَ (الأقرب).السيارة : مؤنث السيّار أي كثير السير والسيارة القافلة وأصلها القوم يسيرون.(الأقرب) التفسير: أي إذا كنتم لا ترضون إلا بمخالفته في كل حال فلا تقتلوه؛ بل فكروا في مكيدة أخرى نطرده بها من البيت.المماثلة السابعة: كما أن بعض إخوته عارضوا قتله كذلك خالف بعض من الكفار المتآمرين قتل النبي ، بل إن بعضهم ضغطوا على الآخرين بحيث اضطر هؤلاء أخيرًا لنقض المعاهدة التي أبرموها لقتله الا الله وأتباعه عن طريق التجويع والفاقة ) السيرة لابن هشام).قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصحُونَ ) ۱۲ شرح الكلمات: لا تَأْمَنا : أمنه وأمنه وائتمنه واستأمنه : جعله أمينًا (تاج العروس).

Page 405

الجزء الثالث ۳۹۸ سورة يوسف ناصحون نصح الشيءُ نَصحا ونُصوحًا خَلَصَ.ونصحت توبته نصوحًا: خلصت من شوائب العزم على الرجوع.ونصح الثوبَ: أنعم خياطته ولم يترك فتقا ولا خلالاً، شبه ذلك بالنصح ونصح العمل أخلصه، ونصح العسل: صفاه.(الأقرب) التفسير: ورد في التوراة: "ومضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم.فقال إسرائيل ليوسف أليس إخوتك يرعون عند شكيم.فتعال فأرسلك إليهم.فقال له ها أنذا" (التكوين ۳۷ : ۱۲ و ۱۳)..أي أن أباه هو الذي حضه على الذهاب إلى إخوته في المرعى.ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن إخوته تآمروا على قتله، ثم استأذنوا أباهم ليرسله معهم إلى الخارج.وكان يعقوب ال على علم بسيرة أبنائه السيئة وبما كانوا يكنونه نه ضد يوسف من عداء وشر والتوراة أيضا تؤكد ذلك: " فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" (التكوين ٣٧:٤).فكان من المستحيل - والحال هذه أن يرسله أبوه بنفسه إلى الإخوة.فلا شك إذا في صحة بيان القرآن وخطأ بيان التوراة.ويبدو من المشهد الذي ترسمه هذه الآية أن يوسف ال كان عندئذ قد بلغ من العمر حوالي أحد عشر عامًا أو اثني عَشَرَ ، لأن ما قاله إخوته لا يقال إلا عن طفل في هذه السن.ولكن التوراة تزعم أنه كان قد بلغ سبع عشرة سنةً (التكوين ٢:٣٧).وهذا خطأ كما سنثبت ذلك بعد قليل.أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرتع ويَلْعَبُ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) ۱۳

Page 406

الجزء الثالث شرح الكلمات ۳۹۹ سورة يوسف يرتع رتعت الماشية في المكان رتعًا ورُتوعًا ورتاعا أكلت وشربت ما شاءت في خصب وسعة.ورتع القوم أكلوا ما شاءوا في رغد ويقال: خرجنا نرتع ونلعب أي ننعم ونلهو.( الأقرب) التفسير: يبدو من هذه الآية أنهم كانوا حراثين أيضا، ولكن التوراة تزعم أهم كانوا رعاة.والحق أن بيان القرآن هو الحق والصواب وهذا ما يتأكد من التوراة نفسها، إذ تذكر الرؤيا الأولى الواردة في التوراة أن يوسف رأى فيها أنه وإخوته يصنعون حُزما من الكلأ (التكوين (٢:٣٧).ولكن الطفل الصغير الذي لم يُسمح له بالخروج من البيت إلا قليلا ولم يعش في المدينة وإنما في البرية مع أهله منقطعًا عن باقي العالم، لا يمكن أن يرى في الرؤيا مشهدًا كهذا لا عهد له به من قبل في الحياة.فالرؤيا الأولى أيضا تؤكد صحة بيان القرآن بأنهم كانوا حراثين أيضًا.وفي قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) دليل آخر على أن يوسف كان صغير السن عندئذ، وإلا فإن الشاب المترعرع في البرية والبالغ سبع عشرة سنة، لا يكون بحاجة إلى حماية الآخرين على هذا النحو.الذِّئبُ وَأَنتُمْ قَالَ إلى لَيَحْزُلنِي أَن تَذْهَبُوا به وأخاف أن يأكله الدلب وأنتم عنه وَأَخَافُ غَافِلُونَ ١٤ التفسير : قال يعقوب بأن مجرد التفكير في خروجه معكم يؤلمني، لأني أخاف أن يأكله ذئب وأنتم في غفلة عنه.وقوله هذا يشكل دليلا آخر على كون يوسف العلي حينئذ صغير السن.كما يبدو منه أيضا أن أباه كان قد تلقى بوحي الله إشارات تنبهه

Page 407

الجزء الثالث ٤٠٠ سورة يوسف إلى مؤامرتهم هذه، ولذلك امتنع عن إرساله معهم بنفس الحجة التي كان إخوته سيلجئون إليها في ما بعد تبريراً لغيابه.قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّكْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) ۱۵ التفسير: علينا أن نأخذ العبرة من هذه الحادثة وندرك كيف أن الحسد يلقي صاحبه بعيداً في الضلال.ذلك أنه إذا كان إخوته الآخرون لم يجدوا أي رادع يمنعهم من نسج هذه المؤامرة الشنيعة ضده كان من واجب "دان" و "نفتالي" على الأقل أن يُظهرا من الحياء ما يمنعهما من التورط في المؤامرة، لكونهما من بطن زوجة يعقوب التي كانت أمةً لأم يوسف.ذلك أن أمه كانت لا تستطيع الإنجاب في البداية فأهدت هذه الأمة لزوجها يعقوب ليكون له أولاد منها فولدت له ولدين فاعتبرتهما أم يوسف أولادًا لها وقامت هي بتربيتهما، أحدهما "دان" ومعناه ( لقد رُزقتُ أنا أيضًا ولدا) والآخر نفتالي (أي لقد صرت غالبة على أختي بولدي هذا) وتولت تربيتهما بنفسها (التكوين ۳٠: ١-١٠).ولكن انظروا إلى قسوة قلب داني ونفتالي كيف اشتركا في مؤامرة قتل ابن امرأة كانت محسنة لهما.فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْحُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لنبتهم بأمرهم هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ال) التفسير: أي أنهم لا يدركون اليوم مقام من يسيئون إليه، ولكن الأمر سينكشف

Page 408

٤٠١ سورة يوسف الجزء الثالث عليهم بكل جلاء، عندما يضطرون للمثول بين يديه وكأن الآية وصف لما كان عليه يوسف العليا عندئذ من حالة ضعف وانعدام حيلة بحيث لم يخطر ببال إخوته حينئذ أنه يمكن أن ينال هذا الشرف العظيم.المماثلة الثامنة : إن إلقاء يوسف العليا في البئر يشكل أيضا تشابها آخر بينه وبين فعندما اضطر نبينا للهجرة نتيجة مضايقات الكفار بمكة، وطاردوه اختبأ في "غار ثور" وهو أيضا شبية بالبئر.والفارق الوحيد هو أن يوسف أُلقي في البئر بيد إخوته، أما النبي الله فاختبأ بنفسه في الغار (السيرة لابن هشام).النبي أُلقي وقد تشبه حادثة إلقائه في البئر ما حدث للنبي ﷺ في شعب أبي طالب حيث في ذلك الشعب ليبقى فيه محاصرًا لحوالي ثلاث سنوات.المماثلة التاسعة: لقد أخبر يوسف اللي بمصير إخوته قبل وقوعه، كذلك بشر الله النبي له بأن إخوته (أي قومه) سوف يضطرون للمثول أمامه أذلاء صاغرين في يوم من الأيام.وهذه البشارة مذكورة في قول الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد (القصص: (٨٦).أي أن الإله الذي أنزل عليك القرآن للعمل به سوف يعود بك حتمًا إلى البلد التي هي مرجع الخلائق ومعاد الناس، بمعنى أنك سوف ترجع إليها فاتحا بعد أن طردت منها.وَجَابُوا أَبَاهُمْ عَشَاء يَبْكُونَ ) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّقْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين ١٨

Page 409

الجزء الثالث الكلمات: ٤٠٢ سورة يوسف شرح عشاء: العشاء أول الظلام، وقيل من المغرب إلى العتمة، وقيل من زوال الشمس إلى طلوع الفجر.(الأقرب) التفسير : قولهم وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئب يشكل برهانا آخر على أن يوسف اللي كان صغيرًا عندئذ، لأن شابا في سن السابعة أو الثامنة عشرة يستطيع الاشتراك في أية لعبة شاء.كما أن الذئب الواحد لا يهاجم شابا بيده سلاح، اللهم إلا أن يكون هناك قطيع من الذئاب، ولكن لا توجد في أرض فلسطين منطقة فيها الذئاب على شكل قطعان.وقولهم وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ يبين أنهم ما كانوا محرمين متعودين على ارتكاب الجرائم، وإلا لم يتفوهوا بهذه الكلمة التي هتكت سرهم، لأن المجرمين بطبيعتهم لا يكشفون عن جرائمهم بمثل هذه الكلمات، أما هؤلاء فقد تفوهوا - رغمًا عنهم- بكلمة كشفت عن جريمتهم.وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمِ كَذِبِ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ شرح الكلمات: ۱۹ أَنفُسُكُمْ سولت سوّل له الشيطان أغواه وسهل له من السَوَل أي الاسترخاء.يقال هذا من تسويلات الشياطين وما تطلبه وتسأله سولت له نفسه كذا: زينته له وسهلته له وهونته (الأقرب).فقوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) تقديره : فصبري صبر جميل، أو: فأمري صبر جميل، أو: فصبر

Page 410

الجزء الثالث جميل خير لي.٤٠٣ سورة يوسف المستعان استعان طلب العون والمستعان من يُطلب منه العون.التفسير: يتضح من التوراة أن يعقوب عندما رأى قميص يوسف الا أيقن بموته حيث جاء فيها:" فتحققه وقال: قميص ابني.وحش رديء أكله.افترس يوسف افتراسًا" (التكوين ۳۷ (۳۳).ولكن القرآن الكريم يعارض هذا الرأي ويقول: إن أباه اعتبر قضية قميصه خدعة منهم واستعان بالله على ما يقولون، مما يؤكد أنه كان يأمل أن يكون يوسف حيًا، وإلا فلا معنى لقوله وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.والحق أن التوراة نفسها تؤيد موقف القرآن، حيث جاء في موضع آخر منها أن سف اللي عندما أوقف أخاه عنده في مصر، تقدم إليه يهوذا وقال: "قال لنا عبدك أبي أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي اثنين فخرج الواحد من عندي وقلت: إنما هو قد افترس افتراسا و لم أنظره إلى الآن." التكوين ٤٤ : ٢٧ - ٢٨) يو فيتضح من قول يعقوب ال: "و" لم أنظره إلى "الآن أنه كان يوقن بأن يوسف لا يزال حيا، ولو كان موقنا بموته كما تذكر التوراة هنا بأنه افترس- لصار قوله هذا: " لم أنظره" عبثا ولغواً.إذن لا شك في صحة بيان القرآن الكريم.وإن التلمود أيضًا يساند رأي القرآن، فقد جاء فيه أن يعقوب عندما رفض ادعاءهم ذهبوا وأتوه بذئب، فقال له الذئب: "كيف أكل ابنك وقد فقدت اليوم ابني أنا".ثم تذكر الرواية أن يعقوب لم يزل متفائلاً إلى أن أخبره الله بالرؤيا أن ابنه لا يزال حيا يرزق ) الموسوعة اليهودية، كلمة Joseph).وهذا البيان من التلمود مهما كان مخالفًا للعقل فإننا عندما نقرأه مع قول يهوذا السالف الذكر ندرك دونما شك أن يعقوب لم يثق بادعائهم هلاك يوسف بين أنياب الذئب.المماثلة العاشرة فكما أن إخوة يوسف قد ادّعوا هلاكه كذبا كذلك زعم الكفار قتل الرسول ﷺ في موقعة أحد عندما أعلن أبو سفيان: إنا قتلنا محمدا.حتى إنهم

Page 411

الجزء الثالث ٤٠٤ سورة يوسف نشروا هذه الإشاعة في مكة السيرة) لابن هشام.لكن الفرق الوحيد هو أن إخوة يوسف عزوا قتله إلى الذئب، وأما هؤلاء فقد ادعوا قتله بأيديهم.وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ شرح الكلمات : واردهم: الوارد : الذي يتقدم إلى الماء، أو الذي يتقدم القوم فيستقر لهم.قوله تعالى أَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ أي ساقيهم (المفردات).الواردة جمع الوارد وهم القوم الذين يردون الماء.(الأقرب) یا بشرى كلمة للتعجب والتعظيم والفرحة مثل يا ويلتي ويا حسرتي التي يعبر بها عن الأسف.البضاعة: طائفة من المال تعدُّ للتجارة.(الأقرب) التفسير : انظروا كيف يعامل الله عباده بكل وفاء.لقد ألقى هؤلاء يوسف في البئر عند البرية، ولكن الله تعالى جاء لنجدته على الفور حيث مرَّ ركب من هناك، فبعثوا ساقيهم طلبًا للماء، فجاء الله به إلى البئر نفسها التي أُلقي فيها يوسف.ويبدو من قوله تعالى (وَأَسَرُّوهُ بضَاعَةً أنهم رأوا في يوسف إمارات النبل والسؤدد فلذا اعتبروه متاعًا غاليًا.

Page 412

الجزء الثالث ٤٠٥ سورة يوسف وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ۲۱ التفسير : عندما عرف إخوته أن أصحاب القافلة قد أخرجوه من البئر جاءوهم وقالوا لهم إنه عبد لنا قد أبق، وباعوه لهم.التوراة تقول إن إخوته باعوه بعشرين درهما (التكوين ۳۷: ۲۸).وبين القرآن أنهم لم يبيعوه لأهل الركب رغبةً في المال وإنما ليتظاهروا أنه مملوك لهم.يبدو أن إخوته خافوا أنهم إذا لم يتدخلوا في تحريره منهم لربما يساورهم الشك في أمره وربما يوصلونه إلى البيت مرة أخرى، فتَظَاهَروا لهم أن يوسف عبد لهم لا يصلح لشيء ويريدون التخلص منه بأي ثمن.والشراء يعني الاشتراء أيضًا، وعليه فقد يرجع ضمير الجمع في (شَرَوه) إلى أهل القافلة..أي أنهم اشتروه من إخوته بدراهم معدودة.وهنا أيضًا تختلف التوراة عن القرآن إذ تزعم أن إخوته هم الذين أخرجوه من البئر حيث تقول بأنهم بعد إلقائه فيها جلسوا يأكلون فلاحت لهم قافلة من الإسماعيليين، فاتفقوا على بيعه لهم، فأخرجوه منها وباعوه لهم بعشرين درهما (التكوين ٣٧ :٢٨).ولكن القرآن يخبر أن القافلة هي التي أخرجته منها.ويكفي لإبطال زعم التوراة أن نذكر أن هناك تعارضًا صارحًا فيها حتى في بضع جمل وردت عن الحادثة.ففي الجملتين رقم ۲٥ و ۲۷ ذكرت أن الركب كان من الإسماعيليين، ثم في الجملة التالية زعمت أنه كان من المديانيين، ثم عادت فقالت في آخر الجملة نفسها أنهم أن هناك بونا شاسعاً بين القبيلتين.فالكتاب الذي يخطئ ويتعثر بهذا الإسماعيليون.مع الشكل في أربع جمل كيف يمكن اعتباره حاكمًا ومهيمنا على القرآن الكريم؟ كما أن التلمود أيضًا يؤكد صحة بيان القرآن مائة بالمائة (الموسوعة اليهودية كلمة كلمة (Joseph كذلك ورد في التلمود بينما إخوته يتحدثون عنه جاء ركب من المديانيين في

Page 413

الجزء الثالث ٤٠٦ سورة يوسف طلب الماء ونزلوا صدفة على البئر نفسها التي ألقوا يوسف فيها.وتحير أهل الركب من وجود صبيّ وضيء جميل نبيل فأخرجوه منها واصطحبوه وساروا ولما مروا بأبناء يعقوب ورآه هؤلاء معهم صاحوا بهم: لماذا سرقتم عبدنا الذي ألقيناه في البئر لعصيانه؟ رُدُّوه إلينا.( التلمود، ترجمة H.Polano ص ٧٤-٧٥) وهذه الرواية التلمودية أيضًا تتفق تماما مع بيان القرآن.فلا يستساغ أبدًا ترجيح بيان التوراة على بيان القرآن الذي يدعمه التلمود والعقل أيضًا.وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات: ۲۲ مثواه الثواء والمثوى الإقامة مع الاستقرار.(المفردات والمثوى: المنزل (الأقرب).مكنا مكنته ومكنت له فتمكن فهو مكين ومتمكن أي ذو قدر ومنزلة (المفردات).مكن فلان عند السلطان مكانة عظم عنده وارتفع وصار ذا متزلة (الأقرب).تأويل: التأويل من الأول: أي الرجوع إلى الأصل، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلاً (المفردات).والتأويلُ: العاقبة؛ بيانُ أحد محتملات اللفظ.أَوَّلَ الشيء إليه: رجعه، ومنه قولهم في الدعاء للمضل : أوّل الله عليك أي ردَّ عليك ضالتك.وأوّل الكلام دبّره وقدّره وفسّره وأوّل الرؤيا: عبّرها (الأقرب).التفسير: لما وصل الركب إلى مصر باعوا يوسف بثمن لا بأس به.تقول الكتب

Page 414

الجزء الثالث ٤٠٧ سورة يوسف اليهودية بأن الذي اشتراه في مصر اسمه "فوطي فار"، وكان رئيس الحرس الملكي.وكان هذا المنصب يُعتبر في القديم أكبر منصب في البلاط الملكي.وفي الحكومات الإسلامية أيضًا كان الحاجب رئيس الحرس والكاتب (السكرتير الخاص) يعتبران أعلى درجةً من غيرهما من أفراد الحاشية، أما في أواخر حكم الخلفاء العباسيين فكان الحاجب أعلى درجة من الكاتب أيضًا.وهذا الذي اشتراه من مصر أدرك برؤية ملامحه نبله وشرفه، فنصح زوجته أن لا تعامله كالخدم الآخرين بل أن تعامله بإكرام، فربما ننتفع به في يوم من الأيام، أو نتخذه ابنا لنا إذا وجدناه ولدًا غير عادي.هناك حذف بعد قوله تعالى: وَكَذَلكَ مَكَّنا ليُوسُفَ في الأَرْضِ)، والتقدير : "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض لنكرمه ولنعلمه تأويل الأحاديث".أي أننا بوأنا يوسف بيت رئيس الحرس لنكرمه من جهة، ولنزيده علمًا في الروحانيات بإيقاعه في المحن والاختبارات لأن هذا ضروري للرقي الروحاني.وبالفعل، فقد قدّر الله ليوسف الله أن يقع في الخصومة مع امرأة العزيز ليمر بمجاهدات روحانية خاصة.وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) شرح أشده: الكلمات : ۲۳ بلغ فلان أشُدَّه أي قوته، وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، والمشهور أن ذلك بمعنى الإدراك والبلوغ.(الأقرب) التفسير: ليس المراد منه أنه تشرف بالنبوة بمجرد أن بلغ شبابه، بل إنه من أسلوب القرآن أنه يترك أحيانًا أحداث الفترة المتوسطة جانبا بذكر النتيجة فقط.

Page 415

الجزء الثالث ٤٠٨ سورة يوسف وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَت الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ شرح الكلمات: ٢٤ راودته راوده شاءه وراوده عن نفسه وعليها خادعه، وفي القرآن: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه، أي طلبت منه المنكر (الأقرب).المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود وراودتُ فلانا عن كذا، قال الله تعالى: (تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسه) أي تصرفه عن رأيه (المفردات).هيت لك: أي هلمّ لك وتعال (الأقرب).هيت لك أي تهيأت لك (المفردات).التفسير: توضح هذه الآية أن يوسف ال لم يقع في شرك امرأة العزيز، فباطل قول بعض المفسرين بأنه كان على وشك أن يقع فريسة لإغرائها (الطبري).أما قوله تعالى ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ فالمراد من (ربي) هو الله تعالى.وقد أخطأ من قال بأن المراد منه رئيس الحرس الذي كان يوسف في بيته (تفسير القرطبي).مما لا شك فيه أن العزيز كان قد أكرم مثوى يوسف وهيأ له إقامة محترمة، ولكن وصول يوسف إليه وتفكير العزيز في تكريمه أيضًا لم يكن إلا بفضل الله تعالى.فلا حق لنا أن نسيء الظَّن في إنسان كريم كيوسف فنتوهم أنه نسب نجاحه في ترك المعصية إلى الناس لا إلى أفضال الله تعالى.الحق أن كل ما ناله إنما ناله بحسب بشارات من الله تعالى، فلا شك أنه نَسَبَ ورعه وتقواه إلى فضل الله تعالى، إذ كان يرى في ارتكاب المعصية نكرانًا للنعم الإلهية.

Page 416

الجزء الثالث ٤٠٩ سورة يوسف 0 رسد وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءِ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شرح الكلمات: ٢٥ همت به وهم بها : هم بالشيء نواه وأراده وعَزَم عليه وقصده ولم يفعله (الأقرب).المخلصين: أخلص الشيء: اختاره، وأخلصه الله جعله مختارا خالصا من الدنس (الأقرب).التفسير: وكما سبق آنفًا فإن كلمة "الهم" تعني: عقد الإنسان العزم على فعل شيء، وإن لم يستطع تنفيذه لسبب من الأسباب.فالآية تعني أن زوجة العزيز أرادت أمرًا بيوسف ولكنها لم تقدر على تنفيذه، كذلك أراد يوسف أمرا لامرأة العزيز ولكنه لم يستطع تنفيذه هو أيضًا.يرى بعض المفسرين أن المراد من الآية أن كل واحد منهما أراد ارتكاب الفاحشة (الدر المنثور).ولكن هذا الرأي باطل تمامًا فقد سبق أن أبطله الله في الآية السالفة، حيث صرح أن امرأة العزيز احتالت لصرف يوسف عمّا في نفسه ولكنه لم يتأثر بمكائدها، بل ذكر ربه خشية، وحذر المرأة من العواقب.هو إذن فلا يمكن أبدا أن يراد من قوله تعالى (وَهَمَّ بها أنه أراد بها سوءا.فإن إرادة كل إنسان تفسر بحسب حالته، وقد وصف الله في الآية السالفة حال الاثنين إذ قال إن المرأة كانت تنوي بيوسف السوء ولكنه صدها عن هذا الظلم محذرًا إياها من عواقبه.فالمراد من "هم بها" أنها كانت عازمة على أن تنحرف به إلى الشر، وأما فكان يريد لها أن تمتدي إلى الخير، بيد أن الاثنين لم يفلحا فيما أرادا، إذ لم يقبل هو ما بغته من سوء و لم تقبل هي ما أراد بها من خير.أما قوله تعالى (لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ فليس بمتعلق بقوله (وَهَمَّ بِهَا ، بل هو

Page 417

٤١٠ سورة يوسف الجزء الثالث جملة منفصلة مستقلة، وجوابها محذوف وهناك نظائر عديدة لمثل هذا الحذف كقول الله تعالى ﴿وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكيمٌ) (النور: ۱۱)، وقوله تعالى ﴿وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَتَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص:٤٨).والمراد من هذه الجملة أن يوسف رأى البراهين والآيات من الله تعالى في الماضي، ولولاها لما وجد هذه العزيمة والتصميم على مقاومة الشر.فمثلاً لم ينصح المرأة بالكف عن السوء بل بقي صامتًا، ولكنه قد رأى آيات الله فلم يكن يُتوقع منه إلا أن يصدها عن ارتكاب المعصية، ولكنها لسوء حظها لم تقبل نصيحته وأصرت على الفاحشة.، وقد اختلف المفسرون بمعنى البرهان الذي رآه ،يوسف فمنهم من يرى أن يوسف أيضًا كان قد رضي بالإثم واستعد لارتكابه، فطلبت منه امرأة العزيز إلقاء رداء على صنم في بيتها لأنها كانت تشعر بالخجل منه، فتنبه يوسف وعاد إلى الصواب وقال: "أنا أحق بالخجل والحياء من ربي الذي يعلم ويرى " (الدر المنثور).بينما قال الآخرون إنه رأى في السقف عبارةً تقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً.وكأن القرآن كان قد تم نزوله حينئذ ويرى غيرهم أنه رأى يدا مكتوبا عليها قول الله تعالى ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كرَامًا كَاتِبِينَ.ويزعم البعض أنه رأى صورة أبيه يعقوب الع وهو يعض أنامله، فرجع عما نواه (ابن كثير).والحق أن كل هذه المزاعم باطلة لا أساس لها من الصحة.وإنما يعني بُرْهَان ربه تلك الآيات والبراهين التي كشفها الله ليوسف اللي في الماضي؛ ومنها رؤياه التي بشره الله بها عن مستقبل باهر، والوحي الذي تلقاه وهو في البئر يبشره بالنجاة منها وبأنه سوف يحقق رقيًا غير عادي بحيث سيضطر إخوته في يوم من الأيام للمثول أمامه خاضعين.وأيُّ شك في أن الذي كان يهيئه الله لمثل هذه الإنجازات العظيمة لا يمكن أن يهينه ويخزيه هكذا أمام امرأة مشركة.قوله تعالى كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء) يعني أولاً أننا إنما أريناه الآيات

Page 418

الجزء الثالث والبراهين لكي ٤١١ سورة يوسف نكفه عن المساوئ والفواحش والحق أن هذا هو الهدف الذي يحققه الله بإظهار الآيات والبراهين على عباده الأخيار فكيف يمكن أن لا يتحقق هذا الغرض الإلهي في قضية يوسف بل تنقلب النتيجة تماما.بینه والمعنى الثاني، أن هذا الحادث وقع لكي ينجيه الله تعالى من صحبة هذه المرأة الشريرة.فمن الحقائق التي لا يحوم حولها الشك أن العيش في صحبة الأشرار يؤثر سلبيًا في عقل الإنسان وأفكاره ولو أن امرأة العزيز لم تبد نيتها الشريرة بهذا الطريق ليبقى يوسف في صحبة هذه المرأة وزميلاتها الفاسدات الأخلاق.فلم يرد الله أن يعيش يوسف في صحبتهن، فكشف عن نواياها الشريرة على الفور، وفصل وبينهن بإرساله إلى السجن حيث ينقطع كليةً إلى عبادة الله تعالى على انفراد.المماثلة الحادية عشرة: كما أن امرأة العزيز حاولت صرف يوسف عن الصراط المستقيم، كذلك أعداء النبي ليل الصرفه عن دينه بشتى الإغراءات.فقد سجل سعی التاريخ أن وفدا من قريش جاءوه ووعدوه أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة، أو يزوجوه من أراد من النساء وأن يجعلوه سيدًا عليهم شريطة أن لا يذكر آلهتهم بسوء.فردّ عليهم النبي ﷺ بمقولته الخالدة: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما تركته حتى يُظهره الله تعالى أو أهلك دونه".(السيرة لابن هشام).وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الحادث بكلمات مماثلة حيث قال: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَن تتناك لَقَدْ كدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَليلاً) (الإسراء: ٧٣ و ٧٤) مما يعني حاولوا اختبار النبي ﷺ ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعا ، لأن كلام الله تعالى كان قد ثبت فؤاده فكان إيمانه راسخا رسوخ الجبال.وهناك مشابهة أخرى بين النبيين الكريمين وهي كما أن الناس قالوا في تفسير بعض الآيات القرآنية عن يوسف العليا بأنه كان قد مال إلى السيئة قليلا، كذلك أن هؤلاء

Page 419

الجزء الثالث ٤١٢ سورة يوسف زعموا في تفسير آيات من القرآن أن النبي لا لا لا لو كان قد مال إلى الكفار قليلاً.فالحق أن القرآن لم يقصد أبدًا في هذه الآية ما ذهب إليه المفسرون.وَاستَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ ٢٦ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) شرح الكلمات : استبقا: تسابقا أي سبق أحدهما الآخر أو أراد أن يسبقه.استبقا الصراط: جاوزاه وتركاه حتى ضلا.وأما قوله واستبقا الباب، فبتقدير الجار..أي تسابقا إليه، أو على تضمين الفعل معنى الابتدار أي ابتدرا الباب (الأقرب).قد: قد الشيء: قطعه مستأصلاً، وقيل مستطيلاً، وقيل شقه طولاً (الأقرب).التفسير: لما رأى يوسف الي أن نُصحه لا ينفعها شيئًا، فكر أنه لو بقي عندها مدة أطول فقد يعرّضه هذا للاتهام، فحاول الفرار من هناك.ولكن امرأة العزيز حاولت إيقافه ممسكة بثوبه من الخلف، فشقته شقا مستطيلاً.وتزامن ذلك حضور زوجها إلى البيت، فحاولت إخفاء جريمتها بأن اتهمت يوسف البريء بالاعتداء عليها، ثم لم تلبث أن اقترحت بنفسها عقابه بأن يُسجن أو يعذب عذابًا أَلِيمًا.يبدو من كلمة وَاسْتَبَقَا الْبَابَ أن يوسف ال أسرع إلى الباب ليفتحه ويفر منها، ولكن امرأة العزيز بادرت إلى الباب لتمنعه من فتحه.فلو كانت التي تريد الفرار لما أخذت بمؤخر قميصه.فلا شك أنها جرته من قميصه لتدفعه عن الطريق هي ولتقف هي أمام الباب حتى لا يستطيع فتحه، ولكنها فشلت في هذه المحاولة.هنا أيضا يعارض القرآن التوراة في بيانها، فقد جاء فيها أن يوسف فرّ تاركا ثيابه

Page 420

الجزء الثالث ٤١٣ سورة يوسف عند المرأة (التكوين (۳۹ (۱۳) ولو أخذنا بعين الاعتبار أن العبرانيين ما كان لباسهم عندئذ إلا قميصاً طويلاً واحدًا على العموم، فهذا يعني أن يوسف فرّ من عندها ريب عاريًا، وهو أمر مكروه للغاية لا يتوقع صدوره عن إنسان كيوسف ال.فلا أن بيان القرآن هو الأقرب إلى العقل والمنطق، إذ لم يفر من عندها تاركا ثيابه وراءه وإنما انشق قميصه من الخلف.قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلِ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ) شرح الكلمات : ۲۸ ۲۷ وَإِنْ كَانَ شَهِدَ: شهد المجلس شهودًا: حضره؛ اطّلع عليه ؛ عاينه.شهد الجمعة: أدركها.وشهد على كذا: أخبر به خبرًا قاطعًا.وشهد عند الحاكم لفلان على فلان بكذا شهادة: أدى ما عنده من الشهادة (الأقرب).الصادقين: الصدق: نقيضُ الكذب، هو الذي يكون ما في الذهن مطابقا لما في الخارج (الأقرب) والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم (أي سقط) شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما، بل إما أن يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب على نظرين مختلفين (المفردات).التفسير: إنّ ما فعله يوسف هو الذي يليق بمقام عباد الله الأخيار، فإنه رغم كونه مظلومًا لم يبادئ الحديث عما حدث بل حاول ستر خطيئة المرأة، ولكنها لما اتهمته بالإثم كذبا اضطر لبيان الواقع، وأخبر زوجها قائلاً: لم أفكر أبدا في الخطيئة وإنما هي

Page 421

الجزء الثالث ٤١٤ سورة يوسف التي كانت تحاول إغرائي بها بل وإرغامي عليها.ثم إن الله بنفسه هيا ظروفًا برأت ساحة يوسف، حيث قام شاهد من أهلها يشهد لصالحه إذ نبه أنه لو كان يوسف هو الذي نوى بها الشر لكان هناك احتمال أكبر أن يتمزق قميصه من الأمام، ولكن قميصه قد تمزق من الخلف وهذا دليل واضح أن هذا المسكين كان يريد الفرار منها وأنها هي التي كانت تريد إيقافه ومنعه من الهروب.وحيث إن القرآن لم يذكر من قبل حادثة تمزق القميص، يبدو أن هذا الشاهد هو أول من رأى القميص ممزقًا من الخلف، ولكنه لم يصرح بذلك خوفًا من غضب تلك المرأة، وإنما تحدث بأسلوب وكأنه يبين قاعدة عامة لمعرفة الحقيقة في مثل هذه الظروف.تذكر المصادر الإسلامية أن اسم المرأة كان زليخا ، ولكن التوراة لم تذكر لها أي اسم.غير أن التلمود أيضا ذكر أن اسمها "زليخا" (التلمود، ترجمة بولائيو ص ٨٠).ويبدو أن المسلمين نقلوا هذا الاسم عن هذا المصدر.فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ۲۹ التفسير: يبدو أن هذا من كلام العزيز.فعندما نبهه الشاهد إلى فحص القميص ووجده ممزقا من الخلف أدرك الحقيقة.قال البعض بأن قوله إِنْ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يعني أن النسوة بطبعهن يملن إلى المكر والكيد بوجه خاص.مما لاشك فيه أن النسوة بسبب تعرضهن للظلم والعدوان من الرجال عمومًا يَكُن أشدَّ مكرًا من الرجال وأمهَرَ منهم في التمويه والتعتيم ولكن هذه العادة ترجع إلى

Page 422

الجزء الثالث ٤١٥ سورة يوسف هضم حقوقهن بأيدي الرجال ومن أجل ذلك لا نجد هذه العادة في نساء الشعوب أو العائلات التي تؤدى فيها حقوق النساء كاملة، بل نجد على النقيض من ذلك أن الرجال في الأمم المقهورة بأيدي الظالمين يلجئون أيضًا إلى المكر والخداع.فهذه العادة ليست خاصة بالنسوة فقط، وإنما هي نتاج الظلم وهي قائمة لدى الجنسين على حد سواء.كما يجب أن نعلم أن عبارة (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ليست قرارا سماويًا وإنما هي من قول العزيز، وقوله ليس بحجة علينا.لقد تفوّه به غاضبًا، والذين لا يملكون أنفسهم عند الغضب يتفوهون بمثل هذا الكلام، سواء كانوا من النسوة أو الرجال.إننا نرى دائمًا أَنَّ كل جنس يرمي الجنس الآخر بشتى النقائص والعيوب.فمن اعتبرها قاعدة عامة أو حقيقة ثابتة فقد ساق دليلاً على جهله وقلة إدراكه فحسب.إذ لا أحد يقصد من مثل هذه الأقوال أن المخاطب أو جميع أفراد الجنس الآخر مخطئون.فمن حمل مثل هذه الأفكار الخاطئة عن جنس النساء الذي خرجت منه سيدات فاضلات عظيمات مثل مريم وخديجة وعائشة رضوان الله عليهن فلا شك أنه لا يهين إلا نفسه.يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ )) شرح الكلمات أغرض: أعرض عنه أضرب وصد، وحقيقته جعلُ الهمزة للصيرورة، أي أخذتُ عرضا أي جانبًا غير الجانب الذي هو فيه (الأقرب).فالمعنى دَعْكَ من هذا ولا تبال به.

Page 423

الجزء الثالث ٤١٦ سورة يوسف التفسير : هذا أيضا من كلام العزيز، حيث ينصح زوجته من ناحية، ومن ناحية أخرى ينصح يوسف ال بأن يتغاضى عما حدث ولا يُفشي هذا السر.وهنا نجد اختلافا آخر بين ما ورد في القرآن وما ورد في التوراة، فإنها تذكر أن العزيز صدق زوجته في قولها، وعَدَّ يوسف محرمًا وغضب عليه (التكوين ٣٩: ١٩- (٢٠).ولكنها سرعان ما تعود لتؤيد القرآن بقولها فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن.وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل التكوين (۳۹ (۲۲) ونعرف من التوراة أن زوج زليخا وهو العزيز "فوطيفار" نفسه كان يشرف على السجن حيث ورد فيها فسخط فرعون على خصيَّيه السقاة ورئيس الخبازين، فوضعهما في حبس بيت رئيس الشُرَط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسًا فيه.فأقام رئيس الشرط يوسف عندهما".(التكوين ٤،٢:٤١) وإنه لمما يتنافى رئيس ذلك مع العقل أن يكون العزيز قد وجد يوسف العليا يحاول الهجوم على عرضه ومع يعينه مشرفًا على السجن.ثم إنه من غير المعقول أيضًا أن يضع العزيز هؤلاء السجناء الخصوصيين الذين أمر الملك بسجنهم- تحت رقابة يوسف العلا وهو يعرف أنه عدوه.فتبين من ذلك كله أن العزيز كان على يقين من براءة ساحة يوسف من التهمة.وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ۳۱ شرح الكلمات :

Page 424

الجزء الثالث ٤١٧ سورة يوسف العَزيزُ: الشريف؛ القويُّ؛ المكرَّم؛ وهو من أسماء الله تعالى أي المنيع الذي لا يُنال ولا يُغالَبُ ؛ الملك لغلبته على أهل مملكته؛ لقب من (الأقرب).مَلَكَ مصر مع الإسكندرية شَغَفَها : شغَفَهُ شَغْفًا: أصاب شغافَه.شغفه حبه شغَفًا: علق بالشغاف.والشغاف: غلاف القلب؛ وقيل: حجابه؛ وقيل: حبّته؛ وقيل: سُوَيداؤُه (الأقرب).ضَلال: الضلال: الهلاك؛ الفضيحة؛ الباطل؛ ضدُّ الهدى (الأقرب).قوله تعالى إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ وقوله: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إشارة إلى شغفه بيوسف وشوقه إليه، وكذلك قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِين (المفردات).التفسير: (العزيز) كان لقبًا لملوك مصر في ذلك الزمان، ولكن هذه المرأة لم تكن زوجة الملك المصري عندئذ إنما كانت زوجة لرئيس حراسه.يبدو أن هذه الكلمة كانت تطلق أيضا على أعيان البلد، أو أن النسوة أطلقن هذا اللقب عليها تملقا لها ملگا مثلما يسمّي الخادم سيده وغير ذلك من الألقاب.وعندما شاع خبر الحادث بين أقارب العزيز وسمعته بعض النسوة اللاتي كن صديقات لامرأته فيما يبدو، بدأن في نشر الخبر علنًا.ولكنهن – بغية التشهير بها - أذَعْنَ الخبر بحيث يتوهم الناس وكأن الغرام بينهما لا يزال مستمرًا.وهكذا قدمن الحادث بشكل مشوّه يوهم السامع وكأن يوسف الله أيضا كان متورطا في المعصية.وأما كلمة (حُبَّا) في قوله (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا فهي للتمييز، والمعنى: قد شغفها حبه، و مثاله: طاب محمد نفسا أي طابت نفس محمد ، والمراد أن حب يوسف قد تمكن من قلبها أي أنها أَحبَّتْهُ حبًا شديدًا، غير مبالية بالعواقب.فكأَن هؤلاء النسوة قمن بهجائها ولكن هجاء مليحا.

Page 425

الجزء الثالث ٤١٨ سورة يوسف فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكًا وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ شرح الكلمات: سمعت : سمع بالشيء معناه أنه سمع خبرًا كان شائعا، إذ ورد شمع بكذا: شيعه، وسمع بالرجل: أذاع عنه عيبا وندّد به وشهره وفضحه (الأقرب).متكأ : اتكأ جلس متمكنا، يقال اتكأ على السرير اتكأ القوم عند فلان: طَعموا قال جميل: فظللنا بنعمة واتكأنا أي طعمنا واتكأ على عصاه: تحمّل واعتمد عليها.قال ابن الأثير والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدًا على أحد الشقين، وهو يُستعمل في المعنيين جميعًا، يقال اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه.وكلُّ من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه.والمتكأ مجلس يجلس عليه عنده.للاتكاء (الأقرب).سكينا: السكين آلة يُذبَحُ بها.والسكينة: السكين وهي أخص منه.والسكينة: الطمأنينة (الأقرب).خَرَجَ عليهنَّ خَرج عليه برز لقتاله وخرجت الرعية على الوالي: خلعت طاعته، وخرج الوالي على السلطان تمرّد، وخرج إلى فلان من دينه: قضاه إياه (الأقرب).أكبرنه: أكبره: راه كبيرا وعظم عنده (الأقرب).حاش لله: حاش منه يحيش حيشًا فزع.ويقال حاشى زيدا من القوم: استثناه.حاشا ويقال فيها أيضا حاش وحشى.وقال في "الإيضاح": كلمة استعملت للاستثناء فيما يتره فيه المستثنى عن مشاركة المستثنى منه في حكمه (الأقرب).قال أبو

Page 426

الجزء الثالث ٤١٩ سورة يوسف البقاء حاش لله : فاعله مضمر.تقول: حاش يوسف بخوف الله.إذا كان (حاش) فعل أمر من حاشى يحاشي فالمعنى اتق الله أيها المخاطب ولا تتهم يوسف بهذا، استبدلت الفتحة بالكسرة ( حاشية (الجلالين).وقال صاحب "المغني": الصحيح أنها اسم مرادف للبراءة من كذا، بدليل قراءة بعضهم حاشا لله ،بالتنوين، كما يقال: براءة الله.وعلى هذا فقراءة ابن مسعود: حاش الله كمعاذ الله.فعلاً، التفسير: أي عرفت امرأة العزيز أن النسوة يتحدثن عنها بأسلوب يبدو طيبًا ولكنهن في الواقع يبغين التشهير بها، حيث يوهمن الناس وكأن الفاحشة قد ارتكبت رغم إعلان أهلها بأن الأمر ليس كذلك، وأدركت بأنهن يحسبن أن الغرام بينهما لا يزال قائماً مستمرًا ، مع أن كل ما في الأمر أن بوادر الغرام قد ظهرت من امرأة العزيز، ولكن الأمر لم يتعد ذلك.فلكي تزيل "زليخا" هذه الأوهام والشبهات من أذهانهن دعتهن إلى الطعام فرتبت الموائد ووضعت سكينًا أمام كل واحدة منهن - ويتضح من ذلك أن استخدام السكاكين لتناول الطعام عادة قديمة، مثلما يرتبون اليوم السكاكين على الموائد قبل إحضار الأطباق ثم أمرت امرأة العزيز يوسف أن يضع أمامهن الطعام.فلما رأينه أدركن من ملامح وجهه الكريم أنه ليس من صنف البشر الذين يأتون الفواحش واعترفن بعظمته وطهارته وبخطأ ظنهن فيه، وببراءته من التورط في الإثم مع المرأة.وأما قوله تعالى (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيمكن تفسيره بطريقين.الأول: أن ما رأينه من عظيم نبله وشرفه وبراءته بهرهن لدرجة أنهن انهمكن في مشاهدة هذا المحيا حتى إن بعضهن جرحن أيديهن بالسكاكين.والثاني: أن هذا تعبير عن شدة الحيرة والدهشة بمعنى أنهن قمن بعض أناملهن من روعة المشهد وقلن: كيف خطر لنا أن نظن أن هذا الملك الكريم يمكن أن يقترب من الفاحشة وعض الأنامل يدلّ كذلك على الندم وقد جاء هنا بكلمة (أيدي) بدل (أنامل) بحسب عادتهم في ذكر الكل مكان البعض.

Page 427

الجزء الثالث ٤٢٠ سورة يوسف ولقد ورد في التلمود أنها وضعت أمامهن البرتقال، وأمرت يوسف بالقيام بخدمتهن، فانهمكن في رؤية وجهه الجميل منبهرات فجرحن أيديهن.أما الجملة إِنْ هَذَا إِلا مَلَكَ كَرِيمٌ فتعني أنهن عندما رأينه أقررن بعظمته وورعه، و لم يلبثن أن قلن إنه ملك كريم.وهذا يعني أنه يمكن إطلاق كلمة "الملك" على البشر مجازا.قَالَتْ فَذَلَكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ) شرح الكلمات: ۳۳ استعصم : امتنع وأبى تقول : دُعي إلى مكروه فاستعصم أي أبي وطلب العصمة.واستعصم: تحرى ما يعصمه.واستعصم به استمسك به ولزمه.واستعصم من الشر والمكروه: التجأ (الأقرب).لَيَكُونَا : أَصلُه لَيَكُونَنْ.الصاغرين: صغر : ضدُّ عظم؛ هان بالذل.وصغُرت الشمس مالت للغروب.صغر القوم: كان أصغرهم.الصاغرُ: المهان الراضي بالذل والضيم، جمعه الصاغرون (الأقرب).التفسير: لقد ذكرنا من قبل أن النسوة تحدثن بأسلوب يوهم بأن الفاحشة قد ارتُكبت فعلاً.ودفعا لهذا الوهم قامت امرأة العزيز بدعوتهن إلى الوليمة.والظاهر أن هذه الفعلة يستحيل ارتكابها ما لم يرض بها الرجل، فلذا عرفت هذه المرأة صديقاتها بيوسف الله ليعترفن بأفواههن بأنه أسمى من الوقوع في هذه الرذيلة.ثم بينت لهن

Page 428

الجزء الثالث ٤٢١ سورة يوسف الفاحشة واقع الأمر قائلة: لقد حاولت إيقاعه في شَرَكي ولكنه امتنع عما أريد منه.وكما هو باد من حديثها فإنهن كن صديقات سوء، ولذلك بعد أن برأت ساحته من أكدت لهن نيتها الشريرة نحوه قائلة: إنه إذا لم يخضع لرغبتي فسوف أرغمه على السجن وأذيقه الخزي والهوان.والغريب أن المفسرين يقولون بأن يوسف مال إلى ارتكاب المعصية ولكن المرأة التي كانت محور الحادث والتي رأت في رفضه لرغبتها إهانة لها، نجدها تعلن أنه لم يقع في مكيدتها بالرغم من محاولتها المضنية، بل استعصم وسلم.ومن عجائب القدر أن المرأة هددته بالذل والهوان بإلقائه في غياهب السجن، ولكن السجن نفسه أصبح سببًا في عزة يوسف وشرفه، إذ جعله الله تعالى من خلال دخوله السجن مقربًا للملك، ووزيرًا للمال.وهكذا تحقق ما هددته به، كما أنجز الله وعده معه، ليبين أن كل شيء في قبضته وقدرته، فلو شاء لخلق من أسباب الخزي والذل دواعي العز والشرف.قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ومنه شرح الكلمات ٣٤ أصبُ : صبا يصبو صَبْوًا وصُبُوا وصبًا وصباءً مال إلى الصبوة أي جَهل الفتوة، أن نفسه تصبو إلى الخير، وهو يصبو إلى معالي الأمور.صبا إليه صَبوَةً وصُبوَةً وصُبُوا: حنّ إليه (الأقرب).الجاهلين: الجهلُ على ثلاثة أضرب: الأول : وهو خلو النفس من العلم؛ والثاني:

Page 429

الجزء الثالث ٤٢٢ سورة يوسف اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه؛ والثالث: فعلُ الشيء بخلاف ما حقه أن يُفعل (المفردات).التفسير: لقد أكد الله في الآية السابقة براءة يوسف بلسان امرأة العزيز، وهنا أكدها بلسان يوسف نفسه وهو يبتهل إلى ربه قائلاً: يا رب إن لم تردَّ عني مكرهن فسوف أميل إليهن مما يعني أنه لم يكن قد مال إليهن من قبل هذا، ناهيك أن يرتكب الفاحشة معها.أوليس غريبا أن المرأة نفسها تعلن أنه لم يمل إليها، كما يؤكد ذلك يوسف بلسانه أيضًا، ثم إن النسوة اللاتي رأينه شهدنَ أن صدور المعصية من مثل هذا الملك الكريم أمر مستحيل، ويأتي المفسرون بعد الحادث بآلاف السنين لكي يعلنوا أن يوسف كان قد مال إلى ارتكاب الفاحشة أولاً، ولكنه تنبه فيما بعد وتاب! لقد ذكرنا إلى الآن عديدًا من المشابهات بين يوسف والرسول الكريم عليهما السلام، ولكن هذه الآية توضح الفارق بين النبيين الكريمين، وتبين فضل النبي وعظمته ذلك أن يوسف الله يستغيث الله تعالى بأن ينقذه من تلك المصيبة بإلقائه في المصيبة الأخرى، ولكن من سنة الرسول الكريم محمد الله أنه كان يسأل ربه العافية والخير دائما، لأنه قادر على ردّ المصيبة بإعطاء النعمة.فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ شرح الكلمات: ! استجاب: استجاب الله فلانًا وله ومنه قبل دعاءه وقضى حاجته (الأقرب).التفسير: أي أن الله تعالى خيب آمالهن الشريرة في يوسف وجعلهن ييأسن منه، كما زاد قلبه قوة وثباتًا.

Page 430

الجزء الثالث ٤٢٣ سورة يوسف ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ شرح الكلمات: بدا: بدا له في الأمر: نشأ له فيه رأي (الأقرب).التفسير: لم يكن دخوله السجن استجابة لدعائه، لأن الدعاء لدخول السجن لم يكن حلاً حقيقيًا لما هو فيه، وقد ذكرت الآية السابقة أن الله تعالى صرف عنه كيدهن استجابة لدعائه.لا شك أن يوسف العليا كان قد دعا ربه أن يُدخله السجن، ولكن الله تعالى استجاب لدعائه بأن دفع بلاءه بطريق آخر أفضل دون أن يُدخله السجن.ثم إنه بعد مرور فترة من الزمن طرأت ظروف مختلفة أدت إلى دخوله السجن، كما يصرح الله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حين.وأرى أن المراد من الآيات المذكورة هنا هو الفضيحة المتزايدة التي تعرضت لها امرأة العزيز..فرأوا من الأنسب أن يسجنوه ليتوهم الناس أن يوسف هو الجاني وأن امرأة العزيز بريئة، وذلك محاولة منهم لاستعادة ما فقدته هذه المرأة من عزة واحترام.تقول التوراة بأن العزيز سجن يوسف أول ما نشب الخصام (التكوين ٣٩: ١٩).ولكن القرآن الكريم يعارض التوراة في زعمها هذا ويرى أنه سُجن فيما بعد.وكما سبق أن بينتُ فإن بيان التوراة مرفوض حتى بناء على ما ورد فيها في أماكن أخرى، فمثلاً قد جاء فيها: "فسخط فرعون على خصيَّيه رئيس السقاة ورئيس الخبازين، فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسًا فيه.فأقام رئيس الشرط يوسف "عندهما (التكوين ٤٠ : ٢-٤).فثبت جليًا أن العزيز كان يرى يوسف الصادقا في قوله حول الحادث، وأنه لم يسجنه في بداية الأمر، وإنما اضطر لسجنه فيما بعد لبعض المصالح الأخرى.

Page 431

الجزء الثالث ٤٢٤ سورة يوسف وَدَخَلَ مَعَهُ السِّحْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خَبْرًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بتأويله إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ شرح الكلمات : ۳۷ أعصرُ خمراً: عصر العنب ونحوه يعصرُ عصرًا: استخرج ماءه.عصر الثوبَ: استخرج ماءه بليه.وعصر الدمّل: استخرج مدته.عصر الركضُ الفرس: عرقه عصر الشيء عنه: منعه.وعصر فلانًا : أعطاه العطية.عصره: حبسه (الأقرب).التفسير : قوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّحْنَ فَتَيَان لا يعني بالضرورة أنهما دخلا السجن في نفس اليوم أو الوقت الذي دخل فيه يوسف.نعم، لا بد أن يكونا قد أسكنا في السجن في المكان الذي كان يسكنه يوسف.وهذا ما تؤكده التوراة أيضًا، حيث جاء فيها: فسخط فرعون على خصيّيه رئيس السقاة ورئيس الخبازين؛ فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن، المكان الذي كان يوسف محبوسًا فيه.فأقام رئيس الشرط يوسف عندهما (التكوين ٤٠ : (٢).وحلم الفتيين هذا موجود في سفر التكوين ٤٠) بتفصيل أكثر ولكن المعنى واحد.والحق أن سؤالهما يوسف اللي عن تأويل الحلم إنما يدل على أنه كان شهيرًا بين أهل السجن بحسن سيرته وعظيم ،صلاحه، وإلا لما سَأَلَهُ الناس عن تفسير الأحلام إذا كان من ذوي الصلاح العادي.ثم إن الفتيين أيضًا يعترفان بعظيم صلاحه قائلين : إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسنينَ.قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقانه إلا نَباتُكُمَا بِتَأْوِيله قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا

Page 432

الجزء الثالث ٤٢٥ سورة يوسف ذلكما ممَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إلى تركتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ شرح الكلمات ۳۸ نبأتكما نبأه الخبر وبالخبر : خبره ويقال : نبأت زيدًا أمرًا منطلقا أي أعلمته.النبأ: الخبر.وقال في الكليات: النبأ والأنباء لم يرد في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم (الأقرب).التفسير: لقد لفت يوسف اللي انتباه الفتيين إلى نفسه بطريقة بارعة.كان يخاف أن يتضايقا من تبليغه فلذا طَمْأَنَهما أولاً بأنني لن آخذ من وقتكما كثيرا، بل سوف أقضي حاجتكما قبل أن يأتيكما الطعام.ويبدو من ذلك أنهم في القديم أيضا كانوا يمنحون السجناء قبل موعد الطعام فسحة يروّحون فيها عن أنفسهم ويتجاذبون أطراف الحديث كما هي العادة الشائعة في هذا العصر.المماثلة الثانية عشرة : هنا أيضًا نجد تشابها بين يوسف وبين نبينا المصطفى عليهما السلام، إذ إن يوسف الله كما يبدو - كان لا يجد فرصةً لدعوتهما إلى الله فلذا وَجَدَ في سؤالهما إياه فرصةً سانحة للتبليغ مدركًا أنهما لا بد أن يصغيا إلى حديثه انتظاراً لسماع تأويل الأحلام.ا.هكذا كان يفعل رسولنا الكريم ، ففي بداية دعوته عندما أراد تبليغ الرسالة و لم يسمعه أعيان مكة.دعاهم لمأدبة طعام، وبعد أن فرغوا من الطعام أراد دعوتهم إلى الإسلام، ولكنهم لم يستمعوا له، وخرجوا من عنده فأقام لهم مأدبة أخرى، ولكنه في هذه المرة أخذ حيطته وشرح لهم دعواه قبل إحضار الطعام، فاضطروا للإصغاء إليه وهم في انتظار الطعام.فهذه الآية تبين لنا سنة أنبياء الله عليهم السلام في مجال تبليغ الدعوة، وعلينا أن

Page 433

الجزء الثالث ٤٢٦ سورة يوسف نتأسى بها دائمًا في وعظنا حتى نتمكن من قول ما نريد من حيث لا نثقل على الناس.وبقوله (ذَلكُمَا ممَّا عَلَّمَني رَبِّي برهن على أن ما اتبعه هو الدين الحق، لأن الدين الحق هو ما يؤتي ثماره في كل حين ويوصل الإنسان بخالقه عل.وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ في النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ۳۹ التفسير: أي أن الدين الذي اتبعه قد ساعد الناس دومًا على الوصال بالله تعالى، وأنه لفضل كبير من الله علينا أنه مهد هذا الطريق للعباد لكي يصلوا إليه، ولكن المؤسف أنهم لا يقدرون هذه المنة الإلهية حق قدرها.ووضح بقوله (ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاس أن النبوة لا تمثل نعمة من هذا لمن يتشرف بها فحسب، بل أنها إنعام إلهي على المؤمنين جميعًا، إذ ينتفعون المعين السماوي على قدر مراتبهم وجهودهم كما أن الكفار أيضًا ينتفعون به رغم رفضهم للنبي، إذ يبدءون في رفض العديد مما لديهم من عقائد فاسدة وأفكار ضالة تأثرا بتعاليمه.E.يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

Page 434

الجزء الثالث شرح الكلمات : ٤٢٧ سورة يوسف القهار : قهره قهراً : غلبه فهو قاهر.وتقول أخذتُهم قهرا أي من غير رضاهم.القهار فعّال للمبالغة وهو اسم من الأسماء الحسنى (الأقرب).التفسير : يقول يوسف العلم إن أهل الدنيا ينتصرون على الآخرين بكثرة الأعوان والمساعدين، ولكن ربي ذو شأن عجيب، فإنه واحد أحد ومع ذلك غالب يقهر الجميع.إن هذا التركيز الشديد من يوسف العلل على هذه الصفات الإلهية لدليل على كماله الروحاني، مما يجدد إيمان المرء ويزيده.مَا تَعْبُدُونَ من دُونه إلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ الله بها من سُلْطَان إن الْحُكْمُ إلا لله أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلا إِيَّاهُ ذَلكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات : ٤١ القيم: دينا قيما أي ثابتًا مقوما لأمور معاشهم ومعادهم (المفردات).القيم على الأمر : متولّيه.القيمة: الديانة المستقيمة (الأقرب).التفسير: يقول يوسف الله : ما الفائدة من عبادة أشياء لا دليل على وجودها، أسماء اخترعتموها من عند أنفسكم، لا يقوم على وجودها أي برهان ولا بل هي يصحبها من الله تعالى أي تأييد.لقد أشار بذلك إلى مبدأ هام للغاية وهو: أن من يبعثه الله تعالى نبيا لابد أن يأتي مصحوبًا ببرهان وتأييد من عنده تعالى والواقع أن أهل الأديان المختلفة يختصمون

Page 435

الجزء الثالث فيما بينهم ٤٢٨ سورة يوسف عبنا.عليهم أن يلتفتوا إلى هذا المقياس اليقيني لمعرفة الصادق ويروا ما هو الدليل الذي أتى به هذا المدعي من عند الله.ذلك أن العقل لا يستسيغ أبدًا أن يرتكز الدين الحق على الأدلة العقلية فقط من غير أي تأييد سماوي.كلا، بل إن الذي يأتي من السماء لا بد أن يأتي مصحوبًا بأدلة سماوية أيضًا.وقد بين بقوله: ﴿ذَلكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أن الدين الحق إنما هو ما يسد للإنسان حاجات المعاش والمعاد معًا ويقدم تعليمًا يُصلح حالتيه الروحانية والجسمانية.كما أشار بـ"ذلك" إلى أنه لن يحقق هذه الأهداف إلا ذلك الدين الذي ينقذ الناس من الوثنية والشرك.وهذه حقيقة عظيمة للغاية، ولا جرم أن الشرك عقبة كأداء تعترض سبيل رقى الإنسان إذ كيف يمكن لقوم يعبدون شتى عناصر الكون كالنار والهواء والجبال وغيرها أن يهبوا لتحطيمها وتسخيرها لخدمتهم وتطورهم.إنما ينتفع من النواميس الطبيعية من يؤمن بأن كل ما في الكون هو من صنع الله تعالى خَلَقَه لنفع الإنسانية.يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ حَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (1) شرح الكلمات : ٤٢ فيُصلب : صلبه أي القاتل كضَرَبَه صلبًا : جعله مصلوبًا.وفي لسان العرب: الصلب هذه القتلة المعروفة وأصله من الصليب وهو الودك.صَلَبَ اللحم: شواه فأساله أي الودك منه.صَلبَ العظام: جمعها وطبخها واستخرج ودكها ليؤتدم به.والصليب: الودك.وفي الصحاح: الصليب هو ودك العظام، وبه سُمّي المصلوب لما يسيل من

Page 436

الجزء الثالث ودكه، والصلب (تاج العروس).- ٤٢٩ سورة يوسف هذه القتلة المعروفة - مشتق من ذلك، لأن ودكه وصديده يسيل التفسير : هنا ينشأ سؤال يقول: كان يوسف العلية مجرد معبّر للرؤيا، فكيف ادعى بأنه قد حُسم الأمر الذي تسألاني عنه؟ والجواب: إن للتفسير أيضًا علاقة وثيقة بما سيتحقق ويحدث نتيجة الحلم والواقع أنه لا يكون للرؤيا أهمية كبيرة قبل أن يقصها صاحبها.أما إذا حُكيت فعُبّرت فإن الله تعالى يغار لها ويحققها كما عُبرت في معظم الأحيان.ولذلك قال الصوفية، بل وقد أشار الحديث النبوي الشريف إلى أن الرؤيا المنذرة يجب على الإنسان أن يتجنب ذكرها للآخرين (البخاري، التعبير).ولذلك نجد أن السجينين لما ذَكَرا حلميهما، أخبرهما يوسف الله بتعبيرهما مؤكدًا أن الحلمين سوف يتحققان حتمًا.ه وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجِ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ( شرح الكلمات بضع: البضعُ ما بين الثلاث إلى التسع (الأقرب).٤٣ التفسير: التمس يوسف الله من الفتى الذي أيقن بنجاته من العقاب أن يذكره عند الملك عندما يرجع إليه ويخبره أن يوسف مودع في السجن دونما ذنب.ولكن الفتى نسي التماس يوسف ولم يذكره عند الملك، وذلك لانشغاله بمشاغله الشريرة حيث كان يسقي الخمر للناس في البلاط.قد فسر البعض قوله تعالى (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ بأن الشيطان أنسى

Page 437

الجزء الثالث ٤٣٠ سورة يوسف يوسف أن يذكر ربه و أي أن يقول: إن شاء الله.والحق أنه لم يكن هناك من داعٍ ليقول يوسف: إن شاء الله، كما لم يحدث منه هذا التقصير.بل قد جاءت كلمة (رب) في قوله: "ذكر ربه" بمعنى الملك كما جاءت أيضًا في قوله: (عندَ رَبِّكَ).فلا لأخذ كلمة (رب) هنا بمعنى الرب ، لنستدل بذلك أن يوسف ال تغافل داعي 6 عن ذكر الله ، بل المعنى الواضح البسيط هو أن هذا الفتى الناجي من السجن أنساه الشيطان ذكر يوسف عند سيده، أي الملك، أنه بمعنى بسبب الأعمال الشيطانية مثل شرب الخمر وتوزيعها زال عن الفتى التأثير الطيب الذي تركته فيه صُحبة ال، فلم يفكر في يوسف ولم يذكره عند الملك كما وصاه بذلك.فبالرغم من هذا المعنى الواضح للآية، الذي يبرى ساحة يوسف من مثل هذا التقصير، لا داعي أن نأخذ بأي معنى آخر يسيء إليه ال.وقد استخدم كلمة (ظنَّ) في قوله تعالى ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجِ لأن رؤيا الإنسان الذي ليس نبيـــا مهما كانت تحمل طابع اليقين إلا أنها لا تخلو من شائبة الشك، فلذلك يعبر عنها بالظن.أنه حق وصدق.الأنبياء فقط الذين يستطيع الإنسان أن يحلف عن وحيهم إنما هم وهذا أحد الفروق الهامة بين وحي الأنبياء وغيرهم.وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سَمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُبُلاتٍ عُضرٍ وَأَخَرَ يَابِسَاتِ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إن كُنتُم للرؤيا تَعبُرُونَ ) شرح الكلمات ٤٤ عجاف: عجفت الشاة عجَفًا: ذهب سمنها وضعُفت وعجفت البلاد: لم تُمطر.

Page 438

الجزء الثالث ٤٣١ سورة يوسف ومنه نزلوا في بلاد عجاف أي غير ممطورة.عجف الحَبُّ: لم يرب.والعجف: الهزال.والأعجف المهزول.وهي عجفاء وجمعه عجاف (الأقرب).تعبرون عبر السبيل عبورًا: شقها أي مرَّ كأنه شقّها وقطعها.عبر بفلان الماء: جاز.عبر الكتاب: تدبّر في نفسه ولم يرفع صوته بقراءته عبر الرؤيا عبرا وعبارة: فسرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها (الأقرب).أفتنا أفتاه العالم في مسألة أبان له الحكم فيها وأخرج له فيها فتوى (الأقرب).التفسير : يبدو أن فرعون كان موقنا إلى حد بعيد بصدق الرؤيا التي رآها، ولذلك لم يكتف بسؤالهم عن تأويلها، بل قال: أخبروني ماذا تقترحون عليّ فعله إن كنتم تفهمون.وهذا يعني أن الله تعالى أراه الرؤيا بوضوح وهيبة بحيث تركت في قلبه وقعا عظيمًا جعله يصدقها ويسعى للنجاة من عواقبها المنذرة، إذ لولا هذا التأثير العميق للرؤيا في قلبه لما ذكرها لحاشيته، وبالتالي لم تتهيأ الأسباب للإفراج عن يوسف ال.قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بتَأْوِيل الأحلام بعالمين الما شرح الكلمات : ٤٥ أضغاث: الضغتُ من الخبر والأمر ما كان مختلطًا لا حقيقة له.هذه أضغاتُ أحلام أحلام ملتبسة لا يصح تأويلها (الأقرب).أحلام: الحلم ما يراه النائم في نومه لكنه غلب على ما يراه من الشر والقبيح كما غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والحسن، وربما يُستعمل كلّ مكان الآخر.جمعه أحلام (الأقرب).وورد في مجمع البحار": "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فهما ما يراه النائم، لكن غلب الرؤيا على الخير والحلُمُ على الشر والقبيح.ورد في

Page 439

الجزء الثالث ٤٣٢ سورة يوسف الحديث: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" (البخاري، التعبير).ليس المراد من الحديث الشريف أن الله تعالى لا يُري الأحلام المنذرة، بل معناها أن أحدًا لو رأى الأحلام المنذرة معظم الأحيان، فليعلم أنها من الشيطان وليست من الله تعالى، لأن رحمته غالبة على غضبه، ومن رأى الأحلام المبشرة عموما فليعلم أنها من الله تعالى، لأن كفة الرحمة الإلهية راجحة في أحلامه.والمعنى الثاني للحديث هو أن مصدر الحلم أي ما يراه من شر هو الشيطان، وأن مصدر الرؤيا أي ما يراه من خير هو الله تعالى؛ أو بمعنى آخر أن سبب العذاب والشر هو الشيطان وسبب الخير والفضل هو الله تعالى فإذا رأى أحد في المنام عموما ما يسوءه وينذره فليعلم أنه على علاقة مع الشيطان فليصلح حالته، وأما إذا رأى ما يسره ويبشره فليعلم أنَّ الله تعالى راض عنه ويريد الإنعام عليه، فيجب أن يزداد خيرًا وصلاحًا.التفسير قالوا إنها أحلام مختلطة، فيها الحق وفيها الباطل، ومشوبة بشوائب حديث النفس، ولا يمكن اعتبارها من الله بشكل كامل، ولا نستطيع تعبير مثل هذه الأحلام إذ لا يمكن الجزم في حكمها.وقولهم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيل الأحلام بعالمينَ ) لا يعني أننا لا نستطيع تأويل الأحلام المنذرة بل جاءت "الأحلام" هنا معرفةً بـ "ال" للمعهود الذهني إشارة إلى أضغاث أحلام التي مرّ ذكرها.والمراد أننا لا نقدر على تأويل هذه الأحلام التي قد اختلط فيها الحق بالباطل.وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ 020

Page 440

الجزء الثالث شرح الكلمات ٤٣٣ سورة يوسف ئ اذكَرَ: أصله اذتكَر (الأقرب).أُمّة: الأمة: الحين (الأقرب) وقوله تعالى (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أي بعد حين.وقد بعد أمه أي بعد نسيان، وحقيقةُ ذلك: بعد انقضاء أهل عصر (المفردات).أو أهل دين التفسير: يبدو من قوله (فَأَرْسِلُون) أنه لم يكن من أعيان القوم الذين خاطبهم الملك.فعندما لم يقدر هؤلاء على تأويل حلمه وتهربوا من الإجابة عن سؤاله بقولهم: إنها أضغاث أحلام تذكر هذا الفتى قصة ما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام، وقال في نفسه إن أحلامنا أيضًا كانت تبدو أضغاث الأحلام، ولكن يوسف ذكر لها تأويلاً معقولاً تحقق فيما بعد تماما، فلربما يذكر يوسف تعبيرا لرؤيا الملك أيضًا.فاستأذن حاشية الملك أن يرسلوه إلى يوسف ليعرف منه التأويل.ولا غرابة في سؤال الملك حاشيته عن تأويل الرؤيا، إذ كان للكهان ورجالات الدين عندئذ نفوذ في البلاد وحظوة في البلاط.ويجب أن نتذكر هنا أمرًا لطيفًا: لا شك أن النجاح كان حليفا لكلِّ من يوسف الليل والنبي ، ولكن هناك فارقا أيضًا.كان نجاح يوسف ال مقدرا بواسطة الآخرين لذلك قدّر الله أن يرى الملك تلك الرؤيا التي كانت سببًا في رقي يوسف ال، وأما النبي ﷺ فقد أراد الله له أن ينال الرّقي بطريق مباشر من لدنه تعالى، فلذا بشره الله بالفوز عن طريق الوحي مباشرة، ولم يرضَ الله له أن يستعين بالناس وهو يرقى سلم التقدم والازدهار.يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سَمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ

Page 441

الجزء الثالث ٤٣٤ سورة يوسف عِجَافٌ وَسَبْعِ سُبُلاتٍ خُضْرٍ وَأَخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ الكلمات : ٤٧ شرح الصديق: الكثيرُ الصدق؛ الدائم التصديق؛ الكاملُ فيه؛ الذي يصدق قوله بالعمل (الأقرب).: التفسير هنا تساؤل: لماذا يقول هذا الفتى بعد أن قص الرؤيا على يوسف: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون، مع أن يوسف ما كان ليجبره على المكوث معه في السجن؟ الجواب: إن كلمة (لعل) قد جاءت هنا لبيان الطمع وليس الشك، وهي تشير هنا إلى ما يطمع فيه المخاطب أي يوسف"، والمراد: أنني إذا رجعت إليهم بالتأويل فسوف يعترفون بعلمك وفضلك وسوف ينكشف عليهم أنك بريء مما رميت به.كما أن الفتى يريد بقوله هذا تبرئة ساحته هو أيضا، فكان وَعَدَ يوسف ال أن يذكره عند سيده أي الملك بعد إطلاق سراحه من السجن، ولكنه لم يف بوعده، لذلك يقول له الآن (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي أنني لو ذكرتك عند الملك قبل هذا لم ينفع شيئًا، لأن الظروف لم تكن مواتية لذلك، ولكني وجدت الآن الفرصة لتبرئة ساحتك فجئتك على الفور.المماثلة الثالثة عشرة: وهي أن الله تعالى كما نبأ في زمن يوسف ال بوقوع القحط والمجاعة لسبع سنين، كذلك أخبر النبي ﷺ بسنين كسني يوسف، حيث جاء في الحديث الشريف عن عبد بن مسعود: "كان هذا لأن قريشا لما استعصوا على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف.فأصابهم قحط وجهدٌ حتى أكلوا العظام، الله فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.فأنزل الله

Page 442

الجزء الثالث ٤٣٥ سورة يوسف تعالى: ﴿فَارتَقبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءِ بِدُحَانٍ مُّبِينِ يَغْشَى النَّاسَ..قال: فأتي رسول الله فقيل: يا رسول الله، استسق اللهُ لِمُضَرَ فإنها قد هلكت...فاستسقى فسُقُوا (البخاري، التفسير سورة الدخان).قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُله إِلا قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ٤٨ ) شرح الكلمات: دَأَبًا : دأب في عمله جدّ وتعب واستمر عليه (الأقرب) فذروهُ: ذَرْهُ أَي دَعْه، يقال ذَرْهُ واحْذَرْهُ.وتقول في المضارع: يَذرُهُ أي يدعه، وأماتت العرب ماضيه ومصدره واسم الفاعل منه (الأقرب).التفسير : المراد من قوله: (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سنينَ دَأَبًا ) أنه لا مناص لكم من أن تزرعوا هذه السنين السبع بجد وتعب دون انقطاع حتى توفروا الغلال لسني المجاعة والجفاف.أما إذا قصرتم في الجهد أو تهاونتم في أخذ الحيطة في الاستهلاك، فلن تقدروا على تحمل وطأة المجاعة.كما أخبرهم يوسف الي كيف يحفظون الغلال فقال: إذا تركتم القمح في سنابله كان أدعى لحمايته من الديدان والسوس.ولعله التوصل إلى هذه الحيلة مما ورد في رؤيا الملك نفسها، حيث فكّر أن رؤيته السنابل مع البقرات ربما تتضمن إشارةً إلى حفظ الحبوب في سنابلها.

Page 443

الجزء الثالث ٤٣٦ سورة يوسف ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ٤٩ شرح الكلمات: شداد الشديد البخيلُ القوي، جمعه شداد.والشديدة مؤنث الشديد وجمعها شدائد (الأقرب).تحصنون: حصن حصانةً: مَنْعَ، وحصنت المرأة حُصنًا وحصانة: كانت عفيفةً، وأحصن: منع (الأقرب).التفسير: أي ثم تأتي أيام القحط تستهلكون فيها كل ما ادخرتموه من حبوب وغلال إلا قليلاً.وقوله إلا قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصُنُونَ) يعني أنكم ستضطرون حتما لتوفير بعض الغلال.وهذا الاضطرار يتمثل في توفير بعض الحبوب، إبقاء على البذر للمرة القادمة، أو خوفًا من أن تمتد المجاعة مدة أطول.ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ شرح الكلمات ٥٠ عام: العام: السنة.وفي المصباح: لا تفرّق عوام الناس بين العام والسنة يجعلونهما بمعنى، فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عام، وهو غلط، والصواب: السنة أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفا من

Page 444

الجزء الثالث (الأقرب).٤٣٧ سورة يوسف يُغَاثُ: غاثَ الله البلاد يغيثها غيئًا : أنزل بها الغيث أي المطر.وغاله يغوثُ غونًا: أعانه ونصره.وأغاثَنا الله بالمطر : كشَفَ الشدة عنا به (الأقرب).يعصرون عصر فلانًا: أعطاه العطية (الأقرب).الأراضي التفسير: لقد اعترض القساوسة على هذه الآية قائلين: إن خصب المصرية لا يتوقف على مياه الأمطار وإنما على فيضان النيل، ولكن القرآن يقول هنا: سوف ينتهي الجفاف ومعاناة الناس بترول الأمطار، مما يعني أن من أنزل القرآن كان جاهلاً حتى بهذه المعلومات الجغرافية البسيطة (ترجمة القرآن لرودول).والجواب: لقد استخدم القرآن هنا كلمة (يغاث الناس)، و(يُغات) فعل للمضارع المجهول إما من (غاث، يغوث) بمعنى إنزال المطر، أو من (غاث، يغوث) بمعنى (النصرة)، أو من (أغاث يُغيثُ بمعنى النجدة.فالمراد من قوله تعالى يُغَاثُ النَّاسُ أفهم (۱) يُمطّرون، (۲) يُنصرون (۳)، يُنْجَدون، أي يفرج عنهم كروبهم.فقولهم بأن القرآن يقصد هنا نزول المطر في مصر مغالطة منهم للناس فما دامت الكلمة تفيد معاني أخرى أيضًا فلماذا لا يأخذون بها ويصرون على هذا المعنى.فجوابنا الأول: إن الآية لا تخبر بترول المطر في مصر وإنما تعني أن الناس سوف ينصرون أو يُنجدون وتفرج عنهم كروبهم وآلامهم.ينبئ عما سيقع في ولو قيل: لماذا استخدم القرآن كلمة غامضة؟ فالجواب : إنه ليس فيها أي غموض ولا إشكال.فما دامت تفيد هذا المعنى أيضًا فلماذا لا يستخدمها القرآن.ثم هناك حكمة أخرى في استخدام الكلمة ذات المدلولين ألا وهى أن القرآن حين قص ما حدث في مصر في زمن يوسف اللي قد قصد به أيضا أن زمن النبي ، إذ كان من المقدر أن يرى العرب مجاعة مشابهة في زمنه أيضًا.ولكن بفارق واحد ذلك أن الله تعالى قدر رفع القحط في زمن يوسف ال بفيضان النيل، وأما الذي كان في عصر النبي ﷺ فرفعه سبحانه بالأمطار.وهكذا استخدم

Page 445

الجزء الثالث ٤٣٨ سورة يوسف القرآن الذي كل كلمة فيه مليئة بالحكم كلمةً تنطبق على العصرين معا.فأحد معانيها، وهو الإغاثة وتفريج الكروب، ينطبق على ما حدث في زمن يوسف ال، بينما المعنى الآخر، وهو إنزال المطر، ينطبق على زمن النبي..وهذا الأسلوب القرآني اللطيف دليل على عظمة القرآن وفضله وليس بمنقصة فيه.أما إذا أخذنا الكلمة بمعنى إنزال المطر فهذا أيضًا لا يقدح في عظمة القرآن أبدا، لأن الآية لا تقول بأن المطر سيترل على أهل مصر، وإنما تقول إن المطر سيترل لأجل الناس.لا شك أن نَضارة الأراضي المصرية ترجع إلى فيضان النيل لا إلى نزول المطر فيها، إلا أن فيضان النيل إنما يتوقف على الأمطار التي تهطل في المناطق التي هي منابع النيل بعيدا عن مصر.إذن فلا يستقيم اعتراضهم بأي حال من الأحوال.وَقَالَ الْمَلِكُ الْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٢) شرح الكلمات: ! بال البال: الحالُ؛ القلبُ (الأقرب).والبال: الحال التي يُكترث بها ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثتُ به.وقال الله تعالى: كَفْرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ، وقال قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) أي حالهم وخبرهم.ويعبر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان فيقال: خطر كذا ببالي (المفردات).التفسير: أراد الملك الإفراج عن يوسف بعد ما رأى أن الكهنة الذين هم على دينه قد فشلوا في تفسير رؤياه، بينما أتى يوسف اللي بتأويل رائع مقرون بعلاج للمصيبة التي تنتظرهم، كما سمع من الملك ساقيه أنه سبق أن تحقق ما ذكره يوسف

Page 446

الجزء الثالث ٤٣٩ سورة يوسف من تعبير لما رآه هو وصاحبه في السجن من أحلام ولكن حمية يوسف أبت أن يخرج من السجن إلا بعد أن تُبراً ساحته مما رُمي به.ويبدو أنه اللي فكر في نفسه أنه لو خرج منه دون أن تُعلن براءته من التهمة فلربما يثير البعض القضية نفسها أمام الملك في المستقبل، فيصدقهم.فالأفضل أن تُرفع إليه القضية الآن لكي يتحرى فيها ويطمئن، حتى لا يستغلها أحد للتآمر عليه فيما بعد.ويبدو من قوله مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أنه قد حدث فعلاً شيء ما يمكن أن نعتبره كقطع الأيدي، فإما أن إحداهن جرحت يدها بالسكين حقا، أو أنهن هذا ما لبثن أن قلن عندئذ: لقد قطعنا أيدينا باتهامنا هذا الشخص، وإلى حادث الجرح أو إلى هذا القول منهن يشير يوسف ال بقوله اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.أما لو كان القرآن يقصد بقوله أكبَرْنَه وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ التعبير عن شدة حيرتهن فقط، لما وصفهن يوسف بقوله (اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.أود أن أذكر هنا كلمة حكمة لا يتذكرها الناس عموماً ، ألا وهي أن اعتبار العمل حسنًا أو سيئًا يتوقف على اختلاف وجهات النظر فأحيانا يكون هناك أمران متعارضان تمامًا فيما يبدو، ولكن باختلاف زاوية النظر إلى كل منهما ينقلب هذان الأمران إلى حسنتين أو سيئتين.وما فعله يوسف العليا أيضا يندرج تحت هذا القبيل من الأفعال.فعندما دعاه الملك كان أمامه خياران اثنان فقط: إما أن يخرج من السجن دون تردد، أو أن يُثبت براءته أولاً ثم يخرج.وهذان أمران متعارضان في الظاهر، ولكن يمكن اعتبار كل واحد منهما حسنًا أو سيئًا بتغيير زاوية النظر إليه.ذلك أنه ال لو امتنع عن الخروج من السجن بسبب الغطرسة والزهو قائلاً: لن أخرج منه ما لم يعترف القوم بخطئهم لعُدَّ عمله هذا معصية.كذلك لو أنه خرج من السجن على الفور مؤثراً راحة نفسه على مصلحة دينية لكان هذا إنما.ولكن الواقع أنه اللي لم يرفض الخروج من السجن استكبارًا وتعاليا، وإنما سببه كما ذكره هو نفسه ألا يتوهم سيده أنه خانه في أهله أثناء غيابه.هكذا فإن نيته الطيبة جعلت

Page 447

الجزء الثالث ٤٤٠ سورة يوسف رفضه من أفضل الأعمال الصالحة.ولكن هناك زاوية نظر أخرى تجعل خروجه الفوري من السجن من أفضل الأعمال، وهي النظر إلى أهمية أداء الواجب.ذلك أن النبي مأمور أن يبلغ الناس رسالة الله، ومهمته هذه تفرض عليه أن يضحي في سبيل ذلك بكل غال ورخيص حتى بكرامته وشرفه.أما لو بقي النبي مسجونًا فإما أنه لن يقدر على تبليغ رسالة الله أو أن نطاق دعوته يكون محدودًا وضيقا جدا.فلو نظر يوسف العلية الا من هذا المنظور وخرج من السجن دون تبرئة ساحته من التهمة، مؤثرًا أداء واجبه على الحفاظ على كرامته وشرفه، لكان ذلك تضحية عظيمة منه.ومن هذه الزاوية نظر الرسول الكريم إلى حادث يوسف ال حيث فَضَّل الخيار الثاني قائلا: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبتُ الداعي (البخاري، الأنبياء).وفي رواية عن أبي هريرة له : "لأسرعتُ الإجابة وما ابتغيت "العذر (مسند أحمد ج ٢ ص ٣٤٦).وكل عاقل يدرك أن ما يفضّله النبي له هو الأفضل، إذ لا جرم أن حفاظ الإنسان على كرامته وشرفه عمل حسن عظيم، ولكنه لو ضحى به لوجه الله تعالى، معرضًا نفسه للاتهام والطعن بغية تبليغ رسالة الله، أو لتحقيق مصلحة دينية أو قومية لكان أفضل من أن يهتم أولاً بالحفاظ على شرفه وكرامته، ولو بنية طيبة.قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدُّتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ شرح الكلمات : ٥٢

Page 448

الجزء الثالث ٤٤١ سورة يوسف خطبكن: الخطبُ : الشأنُ؛ الأمرُ صغُر أو عظم؛ سبب الأمر، يقال: ما خطبك أي ما شأنك الذي تخطبه وما الذي حملك عليه (الأقرب).والخطب: الحال؛ الأمر الذي يقع فيه المخاطبة (التاج).حَصْحَص الحق بان بعد كتمانه (الأقرب).التفسير : يبدو أن الملك عندما سمع التفسير الذي ذكره يوسف اللي أيقن على الفور بطهارته وورعه وأدرك - حتى من قبل الفحص والتحري أن التهمة الموجهة إليه باطلة، ولذلك خاطب النسوة وقال: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدُّتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسه.كما يتضح من الآية أنهن اشتركن فيما بعد مع امرأة العزيز للتآمر على يوسف ليقع في فخها، لأن قول الملك هذا بأن خبر الحادث كان قد بلغه.ولكن الأكيد أن النساء لم يراودنه لأنفسهن وإنما لامرأة العزيز فربما قالت له النساء: عليك بالرضوخ لرغبتها وإلا سوف تلقيك هي وراء قضبان السجن.أمّا لو كن يحاولن مراودته لأنفسهن لكان القرآن صرح بذلك.يوحي ويبدو من قول الملك أن هذا الحادث كان جزءا من الحادث السالف نفسه، وأن النسوة أدركن عندما خاطبهن الملك بهذا الأسلوب أنه سوف يؤيد يوسف في موقفه، وأن إخفاء الحق أكثر من ذلك سوف يعرّضهن للخطر، فأتين بالحق، ولكن بكلمات تبرئ ساحة يوسف وفي الوقت نفسه لا تعرّض امرأة العزيز لأي اتمام.أما هي فأصابها الفزع وأدركت أن الفضيحة موشكة، وأنهن سوف يكشفن سرها الآن، فعليها أن تبادر بالاعتراف بجريمتها هي بنفسها لتنجو من العقاب الذي قد ينزله الملك بها، فقالت دون أن يسألها الملك: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدَتُهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمَنَ الصادقين.

Page 449

الجزء الثالث ٤٤٢ سورة يوسف ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْحَائِنِينَ شرح الكلمات: ٥٣ لم أخنه: خانه في كذا يخونه خونًا وخيانة: اؤتمن فلم ينصح.خان العهد: نقضه، يقال: خانه العهد والأمانة أي في العهد والأمانة، فهو خائن (الأقرب).لا يهدي: الضلال فقد ما يوصل إلى المطلوب، وتضادُّه الهداية (التاج).فالهداية معناها أن تتيسر للإنسان الأسباب إلى الغاية، ثم أن يصل بها إلى الهدف.وقوله تعالى وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائنينَ أي لا ينفّذه ولا يصلحه (التاج).التفسير : لقد اختلف المفسرون في تعيين صاحب هذا القول فَنَسَبَهُ البعض إلى امرأة العزيز، حيث قالت: لم أخن يوسف في غيابه.ولكن هذه الكلمة لا يمكن أن تتفوه بها تلك المرأة، لأنها كانت قد خانت بالفعل، ولذلك أؤيد من قال إن هذا من كلام يوسف، والمعنى: لم أخدعه ولم أخف عنه شيئًا، إذ كان من المحتم أن ترفع القضية إلى الملك في يوم من الأيام، فيظن أني خدعته، بإخفاء حقيقة أمري لأتبوأ هذا المنصب.عنه وقد يكون الضمير في (ليَعْلَمَ) عائدًا على الملك، والضمير في (لَمْ أَخُنْهُ) عائدًا على العزيز، والمراد: ليعلم الملك أني لم أغدر بالعزيز الذي أحسن إلي، لكي لا يظن أن هذا الذي قد غدر بمن أحسن إليه ربما يغدر بي أيضًا.ويبدو أن الله تعالى أخبر يوسف أنه سوف يتقلد منصبًا عند الملك، فلذلك قام بتبرئة ساحته من العليا بالوحي لكي لا يتهمه أحد بها أثناء وزارته للملك.أن الخيانة جميع وأما قوله تعالى ﴿وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائنين فليس المراد منه الخائنين لا يفلحون، لأن الخائنين وردت هنا معرفة بـ "الـ" التي هي للمعهود بالذكر، أي الخائنين الذين مرّ ،ذكرهم ممن يعارضون عباد الله المصطفين.والمراد أن هؤلاء الخونة الذين أساءوا إلى يوسف الذي اختاره الله لمهمة خاصة لا يمكن أن

Page 450

الجزء الثالث ٤٤٣ سورة يوسف يفلحوا.فكم من خائن يقوم بأعمال الخيانة وينجح فيها، ولكن الذين يرتكبون الخيانة ضد من يصطفيهم الله لمهام عظيمة، لا يَدَعُ الله خيانتهم خفية، بل يهتك سترها ويفشلهم فيها.وقد تكون (يَهْدِي) بمعنى (ينصر) وتعني الجملة أن الله لا ينصر الخائنين.ذلك أن الله تعالى أيد يوسف ونصره بشكل خاص، إذ أَرَى الفتيين ثم الملك رؤى كانت سببًا في رقيه، فيوسف يقدم هذا التأييد الإلهي ضد خصومه كدليل على براءة ساحته ويقول: إنه تعالى لم ينصرني بدون سبب، بل كنت على حق، فلذلك أيدني ونصرني.وَمَا أُبَرى نفْسي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِن أُبَرِّئُءُ بي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) شرح الكلمات ٥٤ أمارة: الأمار: الكثيرُ الأمر ومؤنثه أمارة (الأقرب).السوء: كل ما يغُمُّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجة من فوات مال وجاه وفقد حميم (المفردات).التفسير : ما أشدَّ ما تكون فطرة الأنبياء نقاء وصفاء فيوسف العليا يصرح هنا بأني لم أقصد بذلك التظاهر أمام الناس بصلاتي وطهارتي، وإنما فعلت ذلك لأكشف لهم أن الله وحده هو المتره من كل نقص وعيب، وأنه لا يدع الخائنين الذين يناصبون رُسُلَهُ العداء لينجحوا في مكائدهم.فلم أفعل ما فعلته تعاليا وتباهيًا، وإنما لإظهار عظمته وجلاله سبحانه وتعالى، ولأبين للناس أن من يتولّى الله عصمتهم وحمايتهم لا يقدر أحد على إلقائهم في المعصية.أما فيما يتعلق بنفسي فإنني معترف بأن النفس

Page 451

الجزء الثالث ٤٤٤ سورة يوسف البشرية لا تقدر على شيء دون رحمة الله، أي دون شرعه وهديه وفضله ، بل إنها لا تنفك تأمر صاحبها بالسوء مرة بعد أخرى، وإنما هو نور الإلهام والوحى الذي يأخذه إلى الصراط المستقيم.تلو "1 لقد صرّح القرآن في موضع آخر: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أي أن كلام الله تعالى إنما يترل بسبب صفة الله الرحمن.فقوله إلا مَا رَحِمَ رَبِّيَ إشارة إلى الرحمة الإلهية والمعنى أن الفطرة الإنسانية إذا لم يصحبها الوحي الإلهي تصبح كمن يمشي على قمة جبل في ليلة حالكة السواد، فتبقى الفطرة محاصرةً بأنواع الأخطار وترتكب خطأ.أما إذا طلعت عليها شمس الوحي فعندئذ فقط تنفعها عيونها الباطنية.ولقد ذكر القرآن الكريم حالتين أخريين للنفس البشرية؛ الأولى النفس اللوامة حيث قال وَلا أُقْسِمُ بالنَّفْسِ اللُّوَّامَة) (القيامة (۳).والثانية النفس المطمئنة المذكورة في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةٌ الفجر ۲۸ و ۲۹.فالمراد من النفس الأمارة بالسوء الحالة البدائية للنفس البشرية عندما لا تكون قد ذاقت طعم الوحي الإلهي، ولا تكون وارثة لفضله.واعلم أن الآية لا تعني أبدًا أن النفس البشرية تعلّم صاحبها السوء والشر دومًا، لأن القرآن قد دحض هذا الزعم في نفس هذه الآية بقوله: إلا مَا رَحِمَ رَبِّي، كما وليس المراد منها أن الإنسان يولد ،آثما، إذ ليس الحديث عن ولادته، وإنما عن حالته بعد الولادة عندما تعلق به شوائب الدنيا الدنية.أما حالته عند الولادة فقد وصفها الله قائلاً: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا..أي أننا نُقسم بالنفس وبما خلقناها عليه من جمال وكمال.فالواقع أن الله تعالى قد خلق نفس الإنسان بفطرة بريئة من أي عيب وإثم، ولكنه عندما يأتي إلى الدنيا يلوثها بتأثير الآخرين، أما إذا لم يعرضها للتلوث تبقى بريئة سليمة من العيوب والنقائص.وبالاختصار فإن الآية لا تذكر حالة نفس الإنسان عند ولادته، وإنما تتحدث عما تكون عليه بعد أن تشوبها شوائب الدنيا.أما قوله إلا مَا رَحِمَ رَبِّيَ فتقديره : إلا النفس التي رحمها ربي فإنها لا تأمر

Page 452

الجزء الثالث ٤٤٥ سورة يوسف بالسوء..أي النفس المطمئنة التي لا تأمر بالسوء أبدًا أو تكون (ما) بمعنى (من) والمراد إلا الذي يرحمه الله؛ أي أن الذين يرحمهم ربهم لا ينصاعون لنفوسهم الأمارة، أما غيرهم فيقعون فريسة لهجماتها.أو أن تكون (إلا) استثناء منقطعًا، و(ما) مصدرية، والمراد أن الله ينقذ برحمته من يشاء.فكأن هذه المعاني الثلاثة تشير إلى ثلاث درجات يحوز عليها الناس: أولاً : مَنْ تتطهر نفوسهم كلية فلا تأمرهم بالسوء أبدا، وهم أصحاب الدرجة العليا.وثانيا من ليسوا كمثلهم وإنما تأمرهم نفوسهم بالسوء، لكنها لا تتغلب عليهم، وهم الحائزون على الدرجة الوسطى.وثالثا: من كانوا أدناهم درجة، وهم الذين تأمرهم نفوسهم بالسوء كثيرا، فيخضعون لها، إلا أن رحمة الله الواسعة تتداركهم وتأخذ بأيديهم إلى التوبة والخلاص.أما قوله إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ فصرِّح به يوسف إنما أنا عبد لرب غفور رحيم، ومن واجبي أن أستر ذنوب الناس وأغفر لهم، ولكن القضية هنا كانت تمس بعظمة الله وجلاله ولذلك لم أستطع السكوت.وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مكينٌ أَمينٌ ( الكلمات ٥٥ شرح أستخلصه : استخلص الرجل : اختصه بدخلُله (أي بسريرته).واستخلص الشيء: اختاره.(الأقرب) مكين: مكن فلان عند السلطان مكانة عظم عنده وارتفع وصار ذا

Page 453

الجزء الثالث سورة يوسف منزلة.(الأقرب) التفسير: لقد وجه الملك بقوله هذا تأنيبًا لطيفا للعزيز الذي كان يوسف في بيته، وكأنه يقول له : لِمَ لَم تُقدِّر هذا الشخص العظيم حق التقدير، فالآن سوف أقربه مني لينال حقه من التقدير والتكريم.به وكان هذا التقدير من الملك قبل اللقاء بيوسف، ولكنه عندما به أُعجب اجتمع أكثر من ذي قبل، فقال له : ستحظى بمنزلة خاصة في بلاطي.كما طمأنه بقوله : أمين أي أنني لم أشك قط في أمانتك، كما سنثق بك كل الثقة في المستقبل أيضا.لقد ورد في التوراة أن الملك قال ليوسف أنه سَيَهَب له كل شيء إلا كرسيه وتاجه، وأعطاه المركب التالي لمركبه وأعلن في البلاد أنه الحاكم الثاني عليها.(التكوين ٤١: ٤٠).قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى حَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) 1ܘ ويفسد التفسير: فكر يوسف ال أنه إذا صار رئيس وزراء الملك فسوف يقع في المشاكل كلّ يوم، وكذلك إذا توّلى غيره منصب وزارة المالية فقد يحسده هذا الأمور الاقتصادية للبلاد عمدًا ليلقي باللائمة على يوسف ويقول: كان تعبير يوسف لرؤيا الملك باطلاً، ولذلك كله أعرب يوسف للملك عن رغبته في أن يباشر بنفسه الإشراف على اقتصاد البلاد وخزينتها.أنه إذا قام أحد وهو وهنا درس يمكن أن نتلقنه من قول يوسف العل هذا، ألا بدراسة وتخطيط مشروع من المشاريع وكان أهلاً لتنفيذه فهو الأحق والأفضل للإشراف عليه ويجب أن يُعهد تنفيذه إليه.

Page 454

الجزء الثالث ٤٤٧ سورة يوسف لقد اعترض البعض قائلاً: ليس من المستحب أن يطلب الإنسان منصبًا من المناصب، فلماذا طلب يوسف العلي هذا المنصب؟ والجواب أنه لم يسأل منصبا في : الواقع، وإنما تنازل عما استحقه لأن الملك كان يريد أن يقلده منصب الوزارة العظمى، ولكنه اعتذر قائلاً: أوَدُّ أن تسمح لي بالإشراف على ما يتعلق بالمجاعة التي تهددنا.وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٢) شرح الكلمات : يتبوأ : تبوأ المكان: اتخذه محلةً وأقام به (الأقرب).OV أجر: الأجر: الثواب (الأقرب).الأجر والأُجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويًا نحو قوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الله وقوله تعالى آتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا (المفردات).التفسير : لقد ذكر الله تعالى هنا تمكين يوسف في الأرض وكذلك في الآية رقم (۲۲)، ولكنه أردفه هنالك بقوله : (لِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث إشارة إلى أنه كان عليه عندئذ أن يمر بالمحن والاختبارات ليُسبَر غوره، أما هنا فقد قال بعد ذكر التمكين نصيبُ برَحْمَتَنَا مَن نَّشَاء ليبين أن زمن اختباره قد مضى وانتهى، فقد وهبنا له العزة ولن يتعرض بعدها لأي محنة، بل سوف يعيش دائما في ظل رحمتنا ونعمتنا.ثم قال : وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي أن من كان محسنًا إلى الخلق لا يضاع أجره، وذلك كقوله تعالى ﴿وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ (الرعد : ۱۸).

Page 455

الجزء الثالث ٤٤٨ سورة يوسف ولكن كلمة (الْمُحْسنينَ) هنا قد تكون بمعنى ،خاص، أي المقربون إلى الله الذين لهم صلة خاصة بربهم.فقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها أن النبي سُئل : ما الإحسان؟ قال: أن تعبد ربك كما ينبغي.وفي رواية أن شخصا سأل النبي الله عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(البخاري، الإيمان) المماثلة الرابعة عشرة كما أن إخوة يوسف العليا بدءوا يحسدونه على ما كان يرى من مستقبل باهر ،عظیم فطردوه من البيت ليُذل ويُخزى، ولكن الله أكرمه إكراما عظيما، كذلك قام الأعداء بطرد النبي ﷺ من وطنه ليرى الخزي والهوان، ولكن الله تعالى زاده في المدينة عزا وشرفا.إلا أن هناك فارقًا، وهو أن العزة التي نالها يوسف لم تكن بطريق مباشر بل بواسطة الملك، أما النبي لا لا لا لو فكرمه الله تكريما مباشرًا، إذ آتاه حكومة مستقلة وجعله ملكا على العرب.وهذا الفرق نفسه يوجد بين النبيين الكريمين -عليهما السلام- مكانةً ومقامًا.وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) ۵۸ التفسير : أي أننا نتفضل عليهم بنعم الدنيا أيضًا لكي يعرفوا أن الله لا يَدَع أنبياءه وأولياءه يذلون ويخزون، ولكن الأجر الحقيقي هو ما يكون في الآخرة، لأنه أفضل من نعم الدنيا كلها.

Page 456

الجزء الثالث و ٤٤٩ سورة يوسف وَجَاء إِحْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ.لَهُ مُنكَرُونَ شرح الكلمات : دخلوا عليه: دخل البيت ضدُّ خرج، ودخل على فلان: زاره (الأقرب).منكرون: أنكره: جهله (الأقرب).۵۹ التفسير: قال المفسرون في قوله تعالى (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكَرُونَ أنهم لم يعرفوا يوسف لأنهم طردوه عندما كان صغيرًا، أما الآن فكانت لحيته قد نبتت وهيئته قد تغيرت (تفسير الرازي).ولكني أرى أن هذا ليس مما يستحق الذكر في القرآن الكريم، بل هو إشارة إلى ما قال إخوته عند التآمر عليه: التآمر عليه يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبيكُمْ وَتَكُونُواْ من بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين.فكانوا يظنون أنهم إذا طردوا يوسف من بينهم فسوف يزدادون عزةً.ولكن ما حدث هو العكس، إذ ارتقى يوسف في سلم المجد والشرف سريعا خلال فترة الغياب هذه، بينما لم يُكتب لهم أي رقي ولا أي ازدهار، فما استطاعوا أن يعرفوه.عز المماثلة الخامسة عشرة فكما أن إخوة يوسف العليا لم يصدقوا ما ناله من وشرف، كذلك انبهر قوم النبي الله مما حققه من رقي وازدهار.فعندما بعث النبي ﷺ الرسائل إلى الملوك وصلت رسالته إلى هرقل الإمبراطور الرومي بالشام، فتحيّر من قراءتها وسأل حاشيته من هذا الذي يخاطبني بهذه الشجاعة؟ قالوا: هذا رجل من العرب يزعم أنه نبي.فأمرهم بالتحري عن أحوال النبي.وتزامن ذلك وجود أبي سفيان بالشام في ركب من تجار قريش، فأحضر هو وأصحابه إلى مجلس الملك.وعندما عرف هرقل أن أبا سفيان زعيمهم قربه إليه وقال مخاطبًا أصحابه: إني سائل هذا عن ذلك الرجل، فإن كَذَبَني فكذبوه على الفور.ثم سأله عن النبي عدة أسئلة هامة، ولا يزال حوارهما يمثل آية عظيمة خالدة على صدقه.ومما سأله: هل كان

Page 457

الجزء الثالث ٤٥٠ سورة يوسف أحدٌ من آبائه ملكًا حتى يقال : رجل يطلب مُلك أبيه؟ قال أبو سفيان: لا.قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا.قال: فهل يغدر عهدًا؟ قال: لا، ولكننا في مدة (أي فترة هدنة وصلح) لا ندري ما هو فاعل فيها ويقول أبو سفيان: هذا كل ما استطعت أن أدسته ضد النبي الله في حديثي مخافة أن يكذبني أصحابي - فقال: أأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قال : بل ضعفاؤهم.فقال هرقل: فإن كان ما تقوله حقا فسيملك موضع قدمي هاتين.ذلك أنه كانت في الكتب السماوية أنباء بأن خاتم النبيين سوف يفتح بلاد الشام.فحينما قال هذا: ارتفعت الأصوات عنده وكثر الصخب.فخرج أبو سفيان من عنده وقال لأصحابه متعجبًا: لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة! إنه الأصفر (البخاري، الوحي).أي لم نعرف عظمة محمد إلا الآن، فهو يخافه ملك بني أعز وأكرم مما كنا نتصوره.وأبو كبشة كان رجلاً من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان، وبدأ في عبادة النجوم، وكانوا ينسبون النبي إلى أبي كبشة احتقارًا وازدراء، حيث ترك دين آبائه، وكأنه كان ابنا روحانيا لأبي كبشة.وبالاختصار لم يصحُ هؤلاء القرشيون من سباتهم إلا بعدما رأوا ما رأوه في الشام، وبدونه ما كانوا ليفطنوا - وهم في مكة - للمكانة السامية التي كان النبي حائزا عليها.أما هو فكان يعرف قدرهم وحقيقتهم.وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ التُونِي بِأَحْ لَكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ ألي أو في الْكَيْلَ وَأَنا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (3) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ

Page 458

الجزء الثالث لَكُمْ عِندِي وَلَا تَقْرَبُونِ شرح الكلمات ٤٥١ سورة يوسف جهزهم: جهز القوم تجهيزا إذا تكلف بجهازهم للسفر.وتجهيز الغازي: تحميله وإعداد ما يحتاج إليه في غزوه.وجهاز الميت والعروس والمسافر: ما يحتاجون إليه (التاج).يقال: الكيل: كال الطعام كيلاً واكتاله بمعنى واحد.واكتالوا على الناس أي اكتالوا منهم لأنفسهم.قال ثعلب : معناه من الناس، وقال غيره: اكتلت عليه: أخذت منه.كال المعطي واكتال الآخذ وكاله طعامًا وكاله له.والكيل والمكيل: ما كيل به حديدًا كان أو خشبا.وكال الدراهم وزنها كل ما وزن فقد كيْل (التاج).التفسير : تقول التوراة بأن يوسف الله ظن أن إخوته جواسيس وهددهم قائلا: "أحضروا أخاكم الصغير إلي فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنتم أمناء" (التكوين ٤٢: ٣٤).ولكن القرآن يخبرنا أنه عاملهم معاملةً طيبةً وشجعهم على الحضور بأخيهم في المرة القادمة.من الممكن أن يوسف عندما وجّه إليهم أسئلة كثيرة عن أبيه وأفراد العائلة الآخرين ليطمئن عليهم، ظنّ إخوته أنه يشك فيهم ويعتبرهم جواسيس، وإلا فلا يليق بني أن يتهمهم بالجاسوسية وقد عرف أنهم إخوته، لأن هذا نوع من الكذب.فالرأي عندي أن التوراة قد نقلت الظن الناشئ في نفوس إخوته، وليس الأمر الواقع.ثم إنه من غير المعقول أن يعتبرهم يوسف جواسيس إذا لم يُحضروا أخاهم الصغير.

Page 459

الجزء الثالث ٤٥٢ قَالُوا سَترَاوِدُ عنه أباه وإلا لَفَاعِلُونَ ) عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا شرح الكلمات : ٦٢ سنراود: (انظر شرح الكلمات للآية رقم ٢٤).سورة يوسف التفسير: إن السيئة الواحدة تولّد سيئات أخرى.فعندما اتبع إخوة يوسف سبيل الإثم فَسُدَت أفكارهم وقبح حديثهم.انظروا إلى جسارتهم الوقحة إذ قالوا: سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)، وكان يعقوب لم يكن أبا لهم، فعقدوا العزم على خداعه وتسفيهه حتى يرسل معهم ابنه الصغير.وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ شرح الكلمات ٦٣ رحالهم: الرحال جمع رحل، والرحلُ مركب للبعير أصغر من القتب.والرحل ما تستصحبه من الأثاث، وقد يُطلق على الوعاء كالعدل والجراب (الأقرب).التفسير: تمسك يوسف اللي بأهداب الصبر امتثالاً لأمر الله، مقاوما الرقة الشديدة التي أخذت بمجامع قلبه برؤية إخوته بطبيعة الحال، إلا أن حبه الفطري دفعه ليسدي إليهم معروفا عند مغادرتهم، فردّ إليهم الثمن الذي دفعوه للصفقة.منصـ وهذا لا يعني أنه الا خان في أموال الخزينة الملكية كلاً، فقد كان يوسف يتقلد الوزارة، ولا يصعب على الوزير أن يردّ إليهم مالهم ويدفع الثمن من جيبه نيابة عنهم.

Page 460

الجزء الثالث ٤٥٣ سورة يوسف هذا الحادث يكشف لنا أمرًا هامًا هو أن إصلاح الناس إنما يتأتى بمعاملة تكون ما بين الخوف والرجاء.فإنه لا خوفهم أولاً، والآن حبّبهم إليه بهذه الهدية لكي يرجعوا إليه في كل حال.أما قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا فليس المراد منه أن يعرفوا بضاعتهم إذ البضاعة كانت لهم وكان لا بد أن يعرفوها، بل ضمير (ها) راجع إلى معاملته الطيبة لهم وإلى معروفه الذي صنعه بهم.المماثلة السادسة عشرة: لقد كان يوسف الله تواقا للقاء إخوته مرة أخرى رغم كولهم أعداء له، كذلك كان النبي ﷺ حيث خاطبه الله تعالى وقال: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنينَ﴾ (الشعراء: ٤).فعلى الرغم من علمه بما يكن له أهل مكة من عداء شديد فإنه لم يُرد هلاكهم، بل كان يتمنى دائما وبكل شدة وقوة أن ينضموا إليه مؤمنين.فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَحَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ٦٤ التفسير: سبحان الله ! كان إخوته إلى ذلك الوقت مغرورين بقوتهم وأنانيتهم وما كانوا يتجهون إلى الله تعالى رغم ما ظهر لهم من ضعف أنفسهم.هكذا يصبح من يضعف فيه الإحساس بعظمة الدين، فإما أنه يبقى فريسة لوحش الكبرياء والغرور أو يركن إلى اليأس كليةً، ولا يسلك الطريق الوسط الذي لا كبر فيه ولا قنوط.كان إخوة يوسف إلى ذلك الوقت مصابين بهذا المرض، إذ يدل قولهم مُنعَ منَّا الْكَيْلُ على يأسهم البالغ، بينما يكشف قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ عن غرورهم بقوّهم.

Page 461

٤٥٤ سورة يوسف الجزء الثالث قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ شرح الكلمات: آمَنُكم: أمن يأمن أمنًا وأمانًا اطمأن.(الأقرب).مي التفسير : هنا ينبههم يعقوب الله أن يوقنوا الآن على الأقل بأن حماية الله الحماية الحقيقية، فهو الذي يطهر باطن الإنسان من الأفكار النجسة وظاهره من الأعمال السيئة، وهو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه.كما يوضح لهم يعقوب أنه لم يرسل يوسف معهم من قبل عن ثقة بهم، ولن يبعث الآن أخاه معتمدًا معهم عليهم، وإنما أرسله بأمر من الله ومتو و كلاً عليه، وإن رأيه فيهم المشيئة الإلهية لم يتغير شيئا.وها هو الآن أيضا سيرسل أخاه إيمانًا منه أن هذه هي وهو المستعان وعليه التكلان.وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَحَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ نَبْغِي بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ) شرح الكلمات דר غيرُ : مار فلان عياله : أتاهم بميرة (أي طعام) (الأقرب).التفسير : يبدو أن يوسف المنح إخوته بعض المال كهدية منه زادًا لسفرهم علاوة على ما اشتروه.

Page 462

الجزء الثالث ٤٥٥ سورة يوسف ويمكن أن نستنتج من قولهم وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعير أنهم سافروا على ظهور الجمال.كما ذكر القرآن في موضع آخر أيضًا كلمة (بعير) حين نادى المنادي نفْقدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِير) (الآية (۷۳).لكن التوراة تقول بأنهم جاءوا على الحمير حيث ورد فيها: "وأدخل الرجلُ الرجال إلى بيت يوسف، وأعطاهم ماءً، ليغسلوا أرجلهم، وأعطى عليقًا لحميرهم" (التكوين ٤٣: ٢٤).إنه لمن واجبنا لدى تفسير القرآن أن نلقي الضوء على هذه الاختلافات قدر الإمكان.لا شك أننا نحن المسلمين نفضّل ما ورد في القرآن على ما جاء في التوراة، ولكن يجب أن تكون في أيدينا أدلة أخرى لإقناع أهل الكتاب.وأرى أن أفضل سبيل لحسم هذه القضية أن ننظر إلى نوع المطايا التي كان يعقوب اللي وعائلته يستخدمونها في رحلاتهم عمومًا.وعندما نرجع إلى التوراة نجد فيها الحديث عن سفر يعقوب العليا عندما أخذ أهله من عند صهره حيث ورد فيها: "فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على "الجمال" التكوين ۳۱ (۱۷) مما يؤكد أن يعقوب وعائلته كانوا يسافرون عادةً على الجمال.ونظرًا إلى هذه الشهادة من التوراة نفسها وإلى نوعية سفر إخوته إلى مصر حيث كان السفر على ظهور الجمال أكثر راحة وسهولة منه على الحمير..يتحتم علينا عقليًا أن نقول بأنهم سافروا على الجمال.ولكن هذا الشرح يرجع إلى افتراضنا بأن القرآن يقول بسفرهم على الجمال.أما الذي لا يرى استدلالنا هذا قويًا بالقدر الكافي، فيمكن أن يحل هذا الإشكال بطريق آخر، فيقول: إن القرآن لم يصرّح بأنهم سافروا على الجمال، وإنما يعني قوله كَيْلَ بعير وحمْلُ بَعير أن هذا المال الإضافي كان يزن ما يحمله البعير، سواء وضعوه على ظهر جمل أو على متن حمار.وبهذه الصورة لا يبقى اختلاف بين بيان القرآن وما ذكرت التوراة.

Page 463

الجزء الثالث ٤٥٦ سورة يوسف قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) شرح الكلمات: ٦٧ يُحاط: أحيط به دنا هلاكه، وفي القرآن إلا أن يُحَاطَ بِكُمْ) أي: تؤخذوا من جوانبكم (الأقرب).موثقهم الموثق والميثاق العهد (الأقرب).من التفسير: نجد هنا تشابها بين بنيامين والنبي ، فكما أن يعقوب اللي أخذ أبنائه موثقاً لحماية أخيهم بنيامين، كذلك فعل العباس له عندما جاء أهل المدينة يريدون اصطحاب النبي إلى ديارهم فأخذ منهم عهدًا أن يحموه بأموالهم ونفوسهم، وعندما آتوه العهد هاجر إليهم النبي الكريم.السيرة لابن هشام، أمر العقبة الثانية).ورد في التوراة أن يعقوب اللي حينما طالب أبناءه بإيتاء الموثق ردّ عليه أكبرهم وهو رأُوبين قائلاً: خُذ اثنين من أبنائي واقتلهما إن لم أجئ ببنيامين.ولكن أباه رفض ولم يرسله معهم.التكوين ٤٢: ٣٧) فآتاه يهوذا ما طلبه من حلف وموثق فرضي بإرساله معهم التكوين ٤٣: (٨.ويتبين من ذلك أن يهوذا كان يُعتبر أكبرهم عرضه درجة في الدين.هذه العبارة من التوراة سوف تساعدنا أيضًا على فهم الآية رقم ۷۸ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُواْ مِن بَابِ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةِ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِن الْحُكْمُ إلا لله عَلَيْهِ تُوَكَّلْتُ

Page 464

الجزء الثالث وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكَّلُونَ شرح الكلمات : ٤٥٧ سورة يوسف الحكم حكم بالأمر حكمًا وحكومةً قضى.والحكم القضاء (الأقرب).حَكَمَ: أصله مَنَعَ منعًا لإصلاح، ومنه سُميت اللجام حَكَمَةَ الدّابة.الحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه (المفردات).توكلت: توكل على الله: استسلم إليه واعتمد عليه ووثق به (الأقرب).التفسير: حين أخبر إخوة يوسف أباهم عن أحوال مصر مما يبعث على الخوف وقالوا إن القوم اعتبرونا جواسيس، نصحهم أبوهم أن يدخلوا مصر واحدا واحدا لا مجتمعين كيلا يعتبرهم القوم أجانب ولا يشتبهوا في أمرهم ولكنه العلمية أضاف أنني لا أملك لكم شيئا إذا كان الله تعالى قد كتب عليكم محنة وابتلاء.وقد يعني بقوله هذا لا تدخلوا على يوسف إلا من أبواب متفرقة.ذلك أن ومعنى الله تعالى كان قد كشف ليعقوب اللي حقيقة الحال، فلجأ حضرته إلى هذه الحيلة لكي يتمكن يوسف الله من مقابلة أخيه بنيامين على انفراد حتى يحكي له أحوال الأسرة في الوطن.ونبه بقوله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أن ثقتي الحقيقية هي بالله لا بمكيدتي هذه ولا حيلتي.ذلك لكي يلقن أبناءه الذين اعتمدوا دائما على مكائدهم- درسا، أن أنبياء الله يعتمدون على النصرة الإلهية فقط، أنهم يكونون أكثر أهل الدنيا فطنةً وأوفَرَهم مع ذكاء.فما أحوج غيرهم لأن يتأسوا بأسوة هؤلاء القوم الكرام.واعلموا أن التوكل لا يعني امتناع الإنسان عن أخذ الأسباب المادية وإنما المراد منه أن يعتمد على الله تعالى رغم اتخاذ الوسائل والتدابير، موقنا أنها لن تجدي نفعا دون نصرته ورحمته عل.

Page 465

الجزء الثالث ٤٥٨ سورة يوسف وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسٍ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } شرح الكلمات: 79 حاجة الحاجةُ : السُؤْلُ؛ ما يُحتاج له (الأقرب).التفسير : على أن يعقوب كان على علم بناء على الوحي- بأن ابنه يوسف العليا لا يزال حيا يرزق، ولكنه لم يكن يعرف معرفة يقينية أن الوزير المصري المشرف على توزيع الطعام هو يوسف نفسه، ويبدو أنه عندما سمع من أبنائه أن المصريين يظنون أنهم جواسيس لأن هذا الوزير وجّه إليهم أسئلة كثيرة..اقترح عليهم دفعًا لمخاوفهم- أن يدخلوا من أبواب متفرقة.وقد قال البعض بأن يعقوب اللي اقترح عليهم الدخول من أبواب متفرقة لأنه خشي أن تصيبهم عين الناس، إذ كانوا ذوي جمال وبهاء ابن كثير)، لكني لا أراه رأيًا صائبا.إذ ليس من المعقول أن يشكل انضمام ابن واحد إلى العشرة الآخرين خطرًا ما عليهم.لماذا لم يتخذ هذا التدبير عندما ذهب العشرة معًا؟ فالرأي عندي هو ذكرته من قبل بأنه أمرهم باللجوء إلى هذه الحيلة إما دفعا لمخاوفهم عن الجاسوسية، أو تمكينا ليوسف من مقابلة بنيامين على انفراد.وأما قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لَّمَا عَلَّمْنَاهُ فالمراد من هذا العلم الذي تلقاه من الله تعالى هو إدراكه لأهمية التوكل على الله تعالى، فإنه اتخذ التدابير اللازمة، ولكن ثقته الحقيقية كانت بالله تعالى كما ذكر في الآية السالفة.

Page 466

الجزء الثالث ٤٥٩ سورة يوسف وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) شرح الكلمات: ٧٠ آوى: أويته وآويته: أنزلته (في مترلي)، ومنه: اللهم آوني إلى ظل كرمك وعفوك.(الأقرب) لا تبتئس: ابتأس به اكتأب واستكان.ومنه (لا) تبتَنَسُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي لا تحزن ولا تشتك (الأقرب).التفسير: وقوله إنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَيس معناه كنت تظن أن أخاك قد مات، ولكن الأمر ليس كذلك، فها أنا أخوك حي يرزق، فلا داعي للقلق والحزن الآن.وذلك باعتبار أن بنيامين كان جاهلا بالواقع، أما إذا كان يعقوب اللي أخبره بالواقع فالمعنى: لا تحزن على إيذائهم إياك، لأن الله تعالى سوف ينجيك الآن منهم.فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السَّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ انها العيرُ الكُمْ لَسَارِقُونَ )) ۷۱ شرح الكلمات جهز : (انظر شرح كلمات الآية رقم ٦٠) السقاية: الإناء يُسقى به (الأقرب).العير: قافلة الحمير، ثم كثرت حتى سميت بها كل قافلة (الأقرب) العير: القوم الذين معهم أحمال الميرة (أي الطعام) ( المفردات).

Page 467

الجزء الثالث ٤٦٠ سورة يوسف رحل (انظر شرح الكلمات للآية (٦٣) التفسير: يمكن تفسير قوله تعالى جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ بطريقين، الأول: أن يكون يوسف ال هو الذي قد وضعها في متاع أخيه عمدًا لفرط محبته له، لكي يستقي بها في سفره.والثاني: أنه وضعها خطأ، كأن يكون قد طَلَبَ الماء أثناء حديثه مع أخيه، فلما فرغ من شربه وضع الإناء في وعائه ناسيًا.قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (2) قَالُوا تَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرِ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) ۷۳ شرح الكلمات: أقبلوا : أقبل عليه : نقيضُ أدبر (الأقرب).الإقبال: التوجه نحو القبل (أي الأمام) (المفردات).صواع: الصواع المكيالُ الذي يكال به؛ الجامُ الذي يُشرب فيه (الأقرب).زعيم الكفيل (الأقرب).التفسير: من الذي وضع؟ وماذا وضع ؟ وبأية نية وضع؟ ثم كيف اتهموا بالسرقة؟ بأن هذه كلها أمور كانت ولا تزال موضع اختلاف بين المفسرين، فقال بعضهم يوسف اللي هو الذي وضع الإناء في وعاء أخيه عمدًا، ثم عاد ورمى إخوته بالسرقة (تفسير الطبري).والحق أن هذا افتراء خطير على يوسف العلي إذ كيف يُتوقع من يوسف الذي يبدي هذه المحبة الشديدة نحو أخيه أن يلجأ إلى الأسلوب المشين استبقاء لأخيه عنده لبعض الوقت فيضع الإناء في رحله عمدا، ثم يتهمه بالسرقة

Page 468

الجزء الثالث ٤٦١ سورة يوسف ليترك في جبينه وصمة عار للأبد.فلا شك أن هذا ظلم وبهتان ونسبته إلى يوسف كفر.إذ لا يُتوقع هذا حتى من أي إنسان شريف، دعك الله العظام عليهم السلام.أنبياء أن يرتكبه نبي من من الواقع أن هذه أفكار يهودية مصدرها التوراة التي جاءت فيها القصة على هذا المنوال، فتقبلها المفسرون السذج دون أي تمحيص وتدقيق.ربما كان الصواع ليوسف، فقالوا: صُوَاعَ الْمَلِكِ تملقا ليوسف، كما يفعل المتسولون عندنا، حيث ينادون علية القوم : أيها السيد أيها الملك؛ أو كان الموظفون يستخدمون الأواني الملكية في هذه الأعمال.فجاز لهم أن يقولوا: نقصد صواع الملك.ويبدو أن الإناء كان ثمينًا، ولذلك قال المنادي: وَلمَن جَاء به حمْلُ بَعِير، لأن مثل هذه الجائزة لا تكون إلا على الأواني الذهبية والفضية.ولا داعي لأن يقول أحد: كيف كان يستخدم يوسف أواني ذهبية أو فضية، وهو أمر منهي عنه ذلك أن النهي عن استعمال الأواني الذهبية والفضية خاص بالشرع الإسلامي، ولكن اليهود لم ينهوا عنه، كما لم يكن الفراعنة يكرهون استخدامه.الحق أن المشكلة تنحل تلقائيًا بالتدبر في القرآن الكريم نفسه، حيث يتضح من القرآن أن يوسف الوضع بنفسه السقاية أي إناء شرب الماء في متاع أخيه.كما يتضح منه أيضًا أنهم فقدوا صُواعًا أي إناء تكال به الأشياء- ثم عثروا عليه في متاع أخيه أيضًا.وما كان وضع الإناء في متاع أخيه بحادث يستحق الذكر في القرآن لو لم يكن وراءه هدف وغاية الرأي عندي أن يوسف الله وضع السقاية في وعاء أخيه عن عمد تعبيرا عن حبه الشديد له.ويبدو أن الصواع أي "الإناء الملكي" أيضا كان في يده وقتئذ، فوضعه في وعاء أخيه ناسيًا.وعندما فقد العمّالُ الصواع ظنوا أن أحدًا رقه، فبدءوا يبحثون عنه في أمتعة القافلة كلها بما فيها إخوة يوسف.ولكن الذي قام بالتفتيش فتح وعاء أخيه بنيامين في آخر الأمر، نظراً لما يبديه يوسف نحوه من حب وحفاوة، فعثروا على السقاية في متاعه.فأدرك يوسف على الفور أين وقع ނ

Page 469

الجزء الثالث ٤٦٢ سورة يوسف الخطأ.ولكنه لزم الصمت إلى حين مغادرة إخوته، موقنًا بأن كل ما حدث كان من تدبير الله تعالى، وهكذا بقي أخوه بنيامين عنده.0=0 قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنَفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (٢) قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ Vo فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ٧٦ التفسير: لقد تمثل هذا الكيد الإلهي في قول إخوته في حماس ودون رويّة: جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِه فَهُوَ جَزَاؤُهُ..أي عقاب هذه الجريمة أن تحبسوا عندكم من تجدون الصواع في رحله ولو أنهم قالوا بدلاً من ذلك أن تأخذوا من سرقة قه فلربما ما استطاع يوسف استبقاء أخيه عنده، لأنه لو أبقاه عنده بعد قولهم هذا لعرضه حتمًا لتهمة السرقة.ولكنهم قد أتاحوا بقولهم هذا ليوسف فرصة ليبقي أخاه عنده دون تعريضه لأية تهمة.فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلك إلا أَن يَشَاء اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذي علم عليمٌ ) شرح الكلمات: VV

Page 470

الجزء الثالث ٤٦٣ سورة يوسف بدأ: بدأت بالشيء: ابتدأته، وبدأ بفلان: قدّمه (الأقرب).وعاء: الوعاء: الظرفُ يُوعى فيه الشيء، جمعه أوعية (الأقرب).كدنا كاد له احتال له (الأقرب).ليأخذ : أخذه: حبسه (الأقرب).دين: دان يدين دينا: أطاع ودان فلانًا : حَدَمَه حَكَمَ عليه.والدين: الطاعة؛ القضاء الأقرب).واستعير (الدين) للشريعة (المفردات).التفسير : يبدو أن الذي نادى هو نفسه الذي قام بالتفتيش عن الصواع لا يوسف العلة.والمراد من كلمة قبل وعاء أخيه أي قبل وعاء بنيامين الذي هو أخ ليوسف.ولم يؤخر التفتيش عن الصواع في وعاء بنيامين لأنه كان على علم بأن الصواع في متاعه وسوف يعثر عليه في نهاية المطاف، وإنما بدأ بالآخرين قبله أدبا واحتراما له لما كان يوسف يخصه بحب وحفاوة غير عاديين، ولم يتوهم أن يكون من الله الصواع في وعائه.إن قوله تعالى كذلك كدْنَا لِيُوسُف يؤكد أن هذا كان تدبيرا خاصا تعالى، ومع ذلك نجد بعض المفسرين مصرين على اتهام يوسف الله بالكذب والخداع.والحق أن كل هذا كان تخطيطا إلهيًا خاصا، حيث جعل يوسف يترك "الصواع" في وعاء أخيه ناسيا، ثم جعل إخوته يقولون متحمسين دونما روية: جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِه فَهُوَ جَزَاؤُهُ ، وهكذا اضطرهم ليتركوا بنيامين وراءهم عند يوسف.وبعد ما غادر إخوته يكون يوسف قد أخبر عماله بالحقيقة، وهكذا ظهرت براءة بنيامين أمام القوم، فبقي عند يوسف دون أن يجد إخوته فرصة للاعتراض على استبقائه عنده.وأما قوله تعالى: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك فاعلم فاعلم أن (في) هنا سببية، ونظيره الحديث الشريف الذي يقول: دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها و لم تدعها تأكل من خشاش "الأرض" البخاري، بدء الخلق..أي دخلت هذه المرأة

Page 471

الجزء الثالث النار بسبب من ٤٦٤ سورة يوسف قطة، فمعنى الآية ما كان يوسف ليأخذ منهم أخاه بموجب القانون الملكي، ولكن الله تعالى مكنه من ذلك دون أن يخالف يوسف قانون الملك.هنا درس وهو أن الإنسان إذا عاش في بلد ما فعليه أن يطيع قوانين ملكه أو حاكمه.فكان يوسف العلا نبيًا، ولكنه عاش مطيعا قوانين فرعون، بل هناك أكثر ذلك إذ يقول الله تعالى : إنه ما كان يليق بيوسف أن يأخذ أخاه منهم بالقوة مخالفا بذلك قانون البلد.مما يعنى أن عيش النبي مطيعا لقانون حكومة أو ملك لا يتنافى مع مكانته الروحانية، وإنما العكس هو الصحيح.ولكن للأسف أن المسلمين عامة مصابون في هذه الأيام بتفكير مريض حيث يعتقدون أن طاعة ملك أو حاكم غير مسلم حرام.والحقيقة أن نزعة الغدر هذه والتفكير الخائن كهذا قد ألحقت بالمسلمين أضرارا فادحة وقضت على عنصر الأمانة فيهم.لا شك أن من حق المسلمين أن يسعوا للتقدم والازدهار، ولكن لا بخداع وغدر بل بصدق وأمانة.حينما يقيم أحد في بلد ما فإنه بعمله هذا يعاهد على العيش مطيعا لحاكمه، ومن فكر بعد ذلك في الغدر بالحاكم فقد انحرف بعيدا عن جادة الحق والعدل، وسوف يدمر هذا التفكير أخلاقه وأعماله لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه منافق وأرى أن الجبن السائد لدى مسلمي اليوم ناشئ إلى حد كبير من هذا الترعة الفاسدة.وبين بقوله تعالى تَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء أن مثل هذه الطاعة لا تحرم من الوصول إلى سدة الحكم والسلطان بل إن الله يهيئ من عنده لعباده الصالحين أسباب الغلبة والازدهار، لأنه كل منبع كل علم ومالك كل سبب قَالُوا إِن يَسْرِق فَقَدْ سَرَقَ أَحْ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ

Page 472

الجزء الثالث ٤٦٥ سورة يوسف وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ شرح الكلمات: ۷۸ شر مكانًا: المكان : الموضع.ويقال: كان من العلم والعقل بمكان، أي رتبة ومنزلة (الأقرب).التفسير: إن الجريمة تشجع حتمًا على المزيد من الجرائم.لقد هم إخوة يوسف في البداية بقتله قتلاً ماديًا، أما الآن فيريدون قتله أخلاقيًا.فانظروا كيف يقولون بكل جسارة: إن سرق بنيامين فلا غرابة في ذلك فقد سبق أن ارتكب أخوه يوسف نفس الجريمة.ويتضح من قولهم هذا أنهم لم يكونوا قد تابوا توبة صادقة إلى ذلك الحين.إنه لمما يثير الحيرة والدهشة أن المفسرين شرعوا يبحثون عن سرقة ليوسف مصدقين قول إخوته هذا بدلاً من رفضه وتكذيبه، حتى كتب بعضهم أنه اللي كان يسرق الأشياء من بيت عمته الدر المنثور).سبحانك اللهم إن هذا إلا بهتان عظيم! يصعب على المرء تقدير الآلام والمعاناة التي عالجها يوسف من قولهم هذا، ولكنه – رغم قدرته عليهم - لزم الصمت، كاظما غيظه ومتأسفا على حالهم.ما أعظم شأنه وأرفع مكانته.فكم من امرئ يصرعه الغضب مع أنه لا يملك قدرة ولا غلبة على غيره ولكننا نجد يوسف ال رغم مقدرته على عقاب إخوته صبر على ما وجهوه إليه من تهمة منكرة.هذه هي الأخلاق التي يصل المؤمن المتحلّي بها إلى الدرجات العلى.قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبَا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا

Page 473

الجزء الثالث نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) شرح الكلمات : ۷۹ ង។។ مكانه : يقال هذا مكان هذا أي بدله (الأقرب).سورة يوسف التفسير: يا لقسوة قلوبهم المتحجرة! لقد اتهموا أخاهم من قبل بالسرقة، والآن يحتقرون أخاهم الآخر حيث ينفون صلتهم به، وكأنه ليس أخاهم، ولم يحاولوا أن يتوسلوا له عند العزيز قائلين: أيها العزيز، اغفر لأخينا هذا فإن لنا أبا شيخا كبيرًا، بل قالوا إِنَّ لَهُ أَبَا شَيْحًا كبيرًا، وكأنهم بسبب حماسهم وحميتهم رأوا من العار أن ينتسبوا إلى يعقوب الذي أنجب السارقين كيوسف وبنيامين! ^.قَالَ مَعَاذَ اللَّه أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ شرح الكلمات: معاذ الله : معاذ الله ومعاذَ وجه الله أي أعوذ بالله أو الله أي أعوذ بالله أو بوجه الله معاذا (الأقرب).التفسير: إن هذه الآية تمثل دحضًا لعقيدة الكفَّارة المسيحية، حيث يقول يوسف ال إنه لظلم أن تلقى في غياهب السجن شخصاً بريئًا - وإن رضى بذلك بدلاً من المجرم.ولكن النصارى يقولون بأن المسيح الليلة صلب عن رضا ورغبة منه، فصار كفارة لخطايانا (تفسير جروم للتوراة ج ۲ ص ١٦٧).ولكن التوراة نفسها ترفض حتى مثل هذه الكفارة، حيث جاء فيها أن إخوة يوسف حينما عرضوا على العزيز أن يأخذ أحدهم مكان بنيامين ردّ عليهم قائلاً: "حاشا لي أن أفعل هذا.الرجل الذي

Page 474

الجزء الثالث ٤٦٧ سورة يوسف وجد الطاس في يده هو يكون لي "عبدا" (التكوين ٤٤: (١٧).فثبت أن التوراة أيضًا لا تجيز معاقبة البريء مكان المجرم -وإن رضي بذلك الأول وتعتبره ظلما صارحًا.فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَحِيًّا قَالَ كَبيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ غَيْرُ الْحَاكِمِينَ (الله) شرح الكلمات: استيأسوا يئس قنط واستيأس بمعنى يئس (الأقرب).خلصوا خلص إليه وبه الشيء: وصل (الأقرب).۸۱ نجيا: النجي: السر؛ من تُساره.وقد يكون للجمع أيضا مثل الصديق.ومنه حَلَصُواْ نَحِيًّا أي متناجين.وقال الفراء: قد يكون النجي والنجوى اسما ومصدرًا.والنجي: المحدث؛ السريع (الأقرب) وقال صاحب المفردات: خَلَصُواْ نجيا أي انفردوا خالصين عن غيرهم.كبيرهم: يقال فلان كبير أي مسن.وقوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ أي رئيسكم (المفردات).موثقا : الميثاق : عقد مؤكد بيمين وعهد والموثق الاسم منه (المفردات).فرطتم فرّط الشيء وفيه: ضيّعه وقدّم العَجَزَ فيه.فرّط في الشيء: قصر فيه (الأقرب).لن أبرح ما برح فلانٌ كريما : أي بقي على كرمه (الأقرب).

Page 475

الجزء الثالث ٤٦٨ سورة يوسف التفسير : هؤلاء الذين اتهموا يوسف بالسرقة اعترفوا صراحة بجريمتهم المشتركة ضد يوسف على انفراد.سبحان الله ما أعظم قدرته فإنه كتب ليوسف رفعةً فاقت تصوراتهم، ففشلوا في معرفته، إذ لو عرفوه لما تجاسروا على هذا الاتهام.أما (كبيرُهُمْ) الذي ذكرهم بجرائمهم فيبدو أنه كان في قلبه شيء من خشية الله تعالى، إذ يخوّفهم من الغدر بأبيهم، كما يعبّر عن عزيمته على الوفاء بالعهد الذي قطعه مع أبيه حيث قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي.ربّما قصد بقوله أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لي أن يطلق سراح بنيامين بتدبير من الغيب فيرجع به إلى الوطن.كان رأوبين أكبر إخوة يوسف العلل، وأما الذي رفض العودة إلى البيت فهو يهوذا الذي كان الرابع بين إخوته سنًا بحسب ما ورد في التوراة (التكوين ٢٩ و ٤٤).وقد طعن بعض الكتاب المسيحيين في القرآن بأنه قد أخطأ في قوله قَالَ كَبيرُهُمْ حيث نسب هذا الرفض إلى رأوبين بدلاً من يهوذا الذي قال هذا الكلام في الواقع! مما يدل أن مؤلف القرآن كان جاهلاً بالتاريخ (تفسير ويري).إنني لأتعجب دائما على مثل هذه المطاعن من قبل المسيحيين، حيث يعرضون التوراة وكأنها أكثر الكتب السماوية ثقة وسندا في بيان القضايا التاريخية.والحق أن الكتب المسيحية نفسها زاخرة بأدلة تدحض هذا الزعم وتسقط ثقة التوراة في مجال التاريخ إلى حد كبير.دعوا التاريخ القديم جانبًا، فإن ما ورد فيها عن رحلات موسى العلية الا من أحداث لا يثق بها حتى الباحثون المسيحيون أنفسهم، وقد برهنوا على زيفها وبطلانها بأدلة مستقاة من الأحوال الجغرافية والتواريخ الأخرى لتلك العصور بل ومن الشهادات الداخلية من التوراة نفسها.فإن طعنهم في القرآن بناء على مثل هذا الكتاب المحرف مثار للعجب حقا.مما لا شك فيه أننا نستشهد ببعض ما ورد في التوراة من أحداث ولكن شريطة أن تكون منسجمة مع العقل وموافقة للتواريخ الأخرى

Page 476

٤٦٩ الجزء الثالث سورة يوسف أو القرآن الكريم، لأن التوراة قد عبثت بها أيدي المحرفين بحيث لا يمكن اعتبار التاريخ المذكور فيها تاريخا محفوظًا مصونًا.فلا يجوز إذن لأحد – بناء على بيان التوراة الطعنُ في القرآن الكريم، خاصة وأن البحوث الحديثة قد أكدت على ما ذكره القرآن من أحداث التاريخ اليهودي، كعبادة العجل وصيانة جثة فرعون بعد الغرق، بينما أثبتت هذه البحوث بطلان بيان التوراة في هذه الأمور.6 هذا وإذا سلمنا جدلاً بصحة بيان التوراة في هذه القضية فهذا أيضا لا يقدح في القرآن لأنه قال كَبيرُهُمْ ولم يقل "أكبرهم" ، ولا مانع من اعتبار الابن الرابع من الإثني عشر من أبناء يعقوب "كبيرهم وإن لم يكن أكبرهم إذ نستطيع التوفيق بين بيان المصدرين بكل سهولة، ذلك أن نأخذ كلمة كبيرُهُمْ) بمعنى الكبير درجةً لا الكبير سنًا، وسبق أن أثبت في تفسير قوله تعالى قَالَ لَنْ أُرْسَلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونَ مَوْثقًا مِّنَ الله أن يعقوب ال كان يثق بيهوذا الابن الرابع سنا- أكثر من رأوبين - الابن الأكبر سنًا، إذ لم يرسل بنيامين معهم إلا بضمان من يهوذا، ولذلك كله يجب اعتباره "كبيرهم".ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) التفسير: لقد قال بعض المفسرين بأن هذا قول يوسف ال، ولكنني لم أفهم كيف نسبوا هذا القول إليه، لأن السياق لا يؤيد رأيهم.أرى أن الآية تتمة لقول "كبيرهم".

Page 477

الجزء الثالث ٤٧٠ سورة يوسف وأما قوله وَمَا كُنَّا للْغَيْب حافظين فيمكن تفسيره بمعنيين؛ الأول: لا نعرف بالضبط حقيقة الأمر، بل نحكى لك ما رأيناه والثاني: أن يكون كلامهم هذا في شأن موثقهم الذي أتوه والمعنى عندما آتيناك الموثق لم نأخذ في الحسبان أنه يمكن أن نأتيك بمثل هذا الخبر، وإنما عاهدناك حينئذ بنية طيبة.وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ شرح الكلمات: ٨٣ القرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، وللناس جميعًا، ويستعمل في كل واحد منهما.قال تعالى (وَاسْأَل الْقَرْيَةَ قال كثير من المفسرين: معناه أهل القرية.وقال بعضهم: بل القرية ههنا القوم أنفسهم (المفردات).التفسير : انظروا كيف أن الصدق يشحن صاحبه قوة ويغير نبرة حديثه تماما.فإنهم عندما جاءوا أباهم بحديث كذب عن موت يوسف كانوا مترددين في التأكيد على قولهم، أما الآن فكيف يقصون على أبيهم خبر بنيامين بكل ثقة وشجاعة ليؤكدوا له صدقهم حتى إنهم يقدمون شهادة الآخرين.قالوا: اسأل القرية (أي مصر والعير (أي الحمير بدلاً من أن يقولوا أهل القرية وأهل القافلة وأصحاب العير، وذلك تأكيدًا وتنبيها كعادة العرب، والمراد: اسأل أي فرد من القرية والقافلة، فكل صغير وكبير منهم يعرف الحكاية، وسوف يصدقنا فيما نقول.

Page 478

الجزء الثالث ٤٧١ سورة يوسف قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِينِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) شرح الكلمات ٨٤ سولت سولت له نفسه كذا زينته له وسهلته له وهوّنته (الأقرب).التسويل: تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح منه بصورة الحسن منه (المفردات).التفسير : لقد حذف القرآن هنا كعادته الأمور الهامشية من أن إخوته رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه الحادث، واكتفى بذكر جواب يعقوب رأسًا.ذلك أن القرآن ليس كتابا تاريخيا، ولذلك يترك الزوائد، مركزا على المعنى المراد تنبيها للقارئ إلى الدرس الذي يريد تلقينه إياه.الفهم.لقد أجابهم يعقوب الا أن أهواءكم النفسانية قد زينت لكم السيئة.ولم يرد بقوله هذا تكذيبهم في ادعائهم بأن بنيامين قد حُبس، بل يعني أن عداء كم لبنيامين دفعكم لتصدّقوا ما أتهم به من السرقة كان من واجبكم أن لا تسيئوا به الظن، وتقولوا: إنه لم يسرق شيئا بل كل ما جرى له كان سببه سوء وأشار يعقوب البقوله عَسَى اللهُ أَن يَأْتيني بهِمْ جَمِيعًا إلى اعتقاده بحياة يوسف وأنه ليس بعزيز على الله تعالى أن يأتي به وبأخويه بنيامين ويهوذا جميعًا.ويتبين من قوله هذا أنه كان متأثراً بوفاء يهوذا، لما آتاه من قول وعهد، ولذلك نجد أن قلبه بدأ يلتاع على فراقه ويتألم.كما وضح بقوله إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أن الله العليم قد كشف لي الحقيقة، وأرى الآن أن كل ما فعل الله بنا كان لمصلحتنا، وأن ما قاسيناه من معاناة ومحنة كان في الواقع فاتحة خير وازدهار لأسرتنا جميعًا.

Page 479

الجزء الثالث ٤٧٢ سورة يوسف وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) شرح الكلمات: تولّى: تولّى عنه: أعرض وتركه (الأقرب).ابيضت عيناه : يُقال للمهموم أظلمت عليه الدنيا وابيضت عيناه من الحزن (مجمع البحار).وبيض السقاء ملأه باللبن؛ أفرغ ما فيه وأراقه.والأبيضان: اللبن والماء.(التاج) الحزن خشونة في النفس لما يحصل فيها من الغم، ويضاده الفرح (المفردات).كظيم الكظوم: احتباس النفس، ويُعبَّر به عن السكوت.كَظم الغيظ: حبسه.كظم السقاء: شدّه بعد ملئه مانعًا لنفسه (المفردات).فالكظيم: من يملك غضبه.التفسير: لقد اختلف المفسرون كثيرًا في تفسير قوله تعالى ﴿وَابْيَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن، حتى قال البعض بأن يعقوب ال أصيب بالعمى، إذ غطى البياض عينيه.ثم اختلفوا في سبب بياضهما ، فأرجعه بعضهم إلى البكاء طوال أربعين بل واحدة وثمانين جعه سنة.بينما أرج الآخرون إلى تفاقم صدمته بفراق ابنه الثاني (فتح البيان).والواقع أن كلمة (ابيضت) لا يُعبر بها أبدا عن عمى العينين، وإنما الحق أنهم حملوا الكلمة ما لا تحتمله أبدًا.أنه ورد في القواميس معنى مجازي للبياض أيضًا وحجتهم حيث يقولون بيض السقاية أفرغه ومطاوعه ابيض، فالمعنى عندهم أن عينيه جرتا بالدموع الغزيرة حتى فرغتا من البصارة.ولكننا نقول: ما دامت كلمة (ابيضت) لا تعني العمى، فلماذا لا نأخذ بالمعنى المجازي الآخر وهو قولهم "بيض السقاء" ملأه بالماء أو اللبن، خاصة وأنهم يطلقون عليهما أي على الماء واللبن كلمة "الأبيضان"، فالمراد من ابْيَضَتْ عَيْنَاهُ) نظرا إلى

Page 480

الجزء الثالث ٤٧٣ سورة يوسف عينيه هذا المعنى: امتلأت عيناه من الماء أي الدمع.أو نأخذها بمعنى مجازي سام آخر للبياض ألا وهو البريق واللمعان والمراد أنه برقت عيناه من الغم، وحصول البريق فيهما عند الغم أمر طبيعي شريطة أن لا تطول فترة الهم والأدباء يعبرون عن هذا المعنى باستخدام كلمات كهذه، حيث يقولون لاحت في عينيه بارقة أمل.فالمعنى أن لمعتا عندما حلت به الفاجعة الجديدة، أو عندما أحس بأن الهم قد بلغ منتهاه وأن الفرج موشك وأن رحمة الله قريبة.الحق أن كلمة ابْيَضَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْن تعبير عن شدة الغم والحزن كما ذكر في شرح الكلمات.فمن فسرها بما يخالف هذا المعنى الصريح فقد أبعد النجعة، الأمر الذي لا حاجة له بالقرآن الكريم خاصة وأن الله تعالى يقول بعد ذلك مباشرة فَهُوَ كظيم أي أن يعقوب الله نجح في ضبط نفسه ولم يستطع الهم أن يصرعه.فكيف نسلم إذن بأن حضرته ضيّع بصره من شدة البكاء.وكيف يكون كظيما من يضيع عينيه بالبكاء هكذا.فالواقع أننا ولو سلّمنا جدلاً أن كلمة (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ) تعني لغة فقدان البصر من شدة البكاء فلا ينسجم هذا المعنى هنا لوجود كلمة (كظيم).وبالإضافة إلى ذلك، فقد نقل القرآن قول يعقوب (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)..أي سوف أضرب في الصبر مثالاً جميلاً يحتذى به فلو كان قد أضاع بصره بالبكاء فكيف جاز له الادعاء بالصبر الجميل؟ وقد وضح الحديث الشريف معنى "الصبر" بكل وضوح، حيث رُوي أن النبي مر بامرأة وهي تبكي عند قبر ابنها.فقال لها: اتقي الله واصبري.فقالت: إليك عني، فإنك لا تعرف مصيبتي.فقال: لقد مات لي أحد عشر، ثم مضى النبي ﷺ في سبيله.فقال لها رجل: هذا رسول الله ﷺ فقالت متأسفة: لم أعرفه.وجاءت النبي ﷺ تعتذر إليه وتقول: يا رسول الله ما عرفتك سأصبر من الآن.فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى (البخاري (الأحكام.أي أن الصبر الحقيقي إنما هو ما يكون في بداية الصدمة، أما بعد مرور فترة فتهدأ العواطف وتسكن المشاعر وكل واحد يترك البكاء ويصمت.

Page 481

الجزء الثالث ٤٧٤ سورة يوسف فالذي يبدي فزعًا وهلعا ويولول عند الصدمة ولو لبضع ساعات ثم يسكت فلن يعد من ذوي الصبر الجميل.فكيف يمكن أن يدعي يعقوب الذي لم يزل باكيا لحوالي أربعين سنة بأنه صبر صبرا جميلاً.الواقع أنه إذا بالغ المرء في الهم والحزن عند حلول الفجيعة، فسواء أبدى حزنه للناس أو لا فقد جزع وفزع، وهذا هو الأمر المنكر عنه.المنهي ومن المحال أن يحزن أحد من أنبياء الله الكرام على مكروه حزنًا يُشرف به على الهلاك.وإذا كان يعقوب يبكي هكذا بكاءً مستمرًا على الدوام فكيف أدى واجب تبليغ الرسالة.فيجب ألا نأخذ حتى من المعاني المجازية للكلمة إلا ما يتفق مع الرفيعة التي كان يحتلها يعقوب ال، ونرفض ما من شأنه أن يحطّ حتى من درجة المؤمن العادي.المكانة قَالُوا تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالكين (()) 17 شرح الكلمات تَفْتَاً : ما فَتَاً يفعل كذا وما فَتى: أي ما زال ( الأقرب).حَرَضًا حَرَضَ حروضًا كان مُضَنِّى؛ مَرِضَ؛ وسَقم.حرض الرجل نفسه: أفسدها.حرَض حَرَضًا: فسد ،بدنه لا يقدر على النهوض.وحرض حراضةً: طال همه.الحَرَض: الفساد في البدن وفي المذهب وفي العقل والحَرَض: المشرف على الهلاك تسمية بالمصدر للمبالغة وحرَضٌ مَن لا خير عنده ؛ وقيل من لا يرجى خيره ولا يُخاف شره؛ من أذابه العشق أو الحزن؛ الساقط لا خير فيه؛ الرديء من الناس؛

Page 482

الجزء الثالث ٤٧٥ سورة يوسف المضنَى مرضًا وسقما، ومنه في القرآن: حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَي مُدنَفًا (الأقرب).التفسير: "لا تفتأ" تفيد النفى والاستمرار بمعنى لا تزال، وتأتي مصحوبة بقسم وبدونه، وأحيانًا يكون القسم متضمنًا فيها.والمراد من الآية أنك لن تزال تبكى وتتحسر على فراق يوسف حتى لن تصلح لأي عمل أو ستشرف على الهلاك.أليس عجبًا أن نجد هؤلاء يخوّفون أباهم من هذه الأخطار المتوقعة، ونجد المفسرين يقولون بأن يعقوب ال كان قد أصيب بالعمى فعلاً لشدة البكاء وصار كالساقط الرديء من المتاع.والحق أن أنبياء الله الكرام يتمسكون بأهداب الصبر دائما، ولا يبدون الفزع والقلق بهذا الشكل.لقد جربنا ذلك بأنفسنا، إذ رأينا بأم أعيننا نبيا من أنبياء الله عليهم السلام، وشاهدنا بأنفسنا حالته في مثل هذه المواقف.* قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَنِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات: ۸۷ البث: الحال؛ أشدُّ الحزن ( الأقرب).أصل البث: التفريق وإثارة الشيء وبث النفس: ما انطوت عليه من الغم والسر قوله وَ إِنَّمَا أَشْكُو بَنِّي وَحُزْنِي أي غمي الذي يبثه عن كتمان، أو بمعنى غمي الذي بثّ فكري (المفردات).التفسير: وهذا يعني أن يعقوب اللي كان يعلم - بناء على الوحي الإلهي- أن يوسف اللي لا يزال حيا يرزق.* يشير هنا حضرة المفسر إلى سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود العليا.(الناشر)

Page 483

الجزء الثالث ٤٧٦ سورة يوسف يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ٨٨ شرح الكلمات: تحسسوا تحسس: استمع لحديث القوم وطَلَبَ خبرهم في الخير.وقيل: التحسس شبه التسمع والتبصر، يقال: اخرج فتحسّس لنا.وقال أبو عبيد: تحسست الخبر وتحسيت.وتحسس من الشيء: تخبر خبره.وبكل ما ذُكر ( أي ما ذكرناه من معان) فسر قول القرآن يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) ( الأقرب).لا تيأسوا يئس قنط أو قطع الأمل، فهو يائس (الأقرب).: روح الروح: راح إليهم روحًا ذهب إليهم في الرواح.وراح اليوم روحا: إذا كان ريّحًا طيِّبًا.الرَّوْحُ بمعنى الراحة؛ نسيم الريح تقول: وجدت روح الشمال: أي نسيمها.والروح: النصرة؛ العدلُ الذي يريح المشتكي؛ الفرح والسرور؛ الرحمة (الأقرب).وهنا ينطبق المعنى الأخير.التفسير: يتبين من هذه الآية بكل جلاء ووضوح أن الله تعالى كان قد أخبر يعقوب بأن يوسف لا يزال حيًا وأنه في مصر، إذ من المحال أن يأمر أبناءه بالعودة إلى مصر باحثين عن ابن كان يظنه ميتًا بيد ذئب أو بأي طريق آخر.لقد بين الله لا في الآية سرًا عظيما وفريدا للفلاح والرقي، ألا وهو أن اليأس وفقدان الهمة هو أصل كل فشل وهزيمة.فالذي يترك العمل فاقدا الهمة دون أي دليل قطعي على كون الأمر مستحيلاً يبقى فاشلاً على الدوام في مقصده.وهذه القاعدة تعم كل محال من مجالات الحياة.وهذا هو الفارق حتى بين حداد ماهر وبين حداد عادي، فبينما تجدون هذا يقول دومًا عند مواجهة عمل صعب: إنه محال، سترون الآخر جاهدًا في تذليل الصعاب حتى يخرج منها ناجحا في آخر المطاف.كذلك

Page 484

الجزء الثالث ٤٧٧ سورة يوسف المريض الذي يفقد الأمل في الشفاء يصعب عليه استرداد الصحة، والطالب الذي لا يرجو التوفيق في الدراسة تضعف ذاكرته وذكاؤه وإن المبدأ نفسه جار في المجال الروحاني أيضًا، فالشعوب التي لا تؤمن بأن الله قادر على أن يغفر الذنوب فإنها لا تسعى بما يكفي للتخلص من ذنوبها ، والأمم التي لا تؤمن بكون الفطرة الإنسانية طاهرة نقية من العيوب فإنها لا تهتم باستخدام ملكاتها الروحانية ولا بتطويرها حتى تصل بها إلى الذروة.* ولقد نبهنا النبي ﷺ إلى طرد اليأس والقنوط تنبيها خاصا إذ قال: لكل داء دواء إلا الموت.وأيضًا قال : من قال هلك القوم فهو أهلكهم، لأنه يثبط همم القوم، وهكذا يدفعهم إلى الدمار.فيجب رفع معنوياتهم دائمًا على كلا الصعيدين؛ الفردي والقومي، ولكن شريطة أن تكون هذه الآمال حقيقيةً تحفز على السعي والعمل، لا أن تكون أماني فارغة تؤدي إلى مزيد من الكسل والغفلة، كما هو حال المسلمين اليوم، فإنهم بدلاً من أن يصلحوا حالتهم بالسعي والكفاح يظنون أن المسيح الناصري ال سيترل من السماء، ويوزع عليهم نعم الدنيا وكنوزها.إن الأماني أي الآمال الفارغة التي لا تكون مصحوبةً بالكفاح والنضال عندما تستولي على القلب تصبح مدمرة كاليأس تماما.* لم نعثر على هاتين الروايتين، إلا أن هناك روايتين أخريين بنفس المعنى أولاهما: "إن الله وعجل لم يترل داء إلا وأنزل معه شفاء، إلا الموت والهرم.(مسند أحمد ج ٤ ص ٢٧٨)، وثانيتهما: إذا قال الرجل هلك القوم فهو أهلكهم.(مسلم، البر والصلة).(الناشر)

Page 485

الجزء الثالث ٤٧٨ سورة يوسف فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا ببضَاعَةِ مُّرْجَاةِ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) شرح ۸۹ الكلمات : الضر: ضد النفع؛ سوء النفع؛ سوء الحال والشدة.وفي الكليات: الضَرّ بالفتح شائع في كل ضرر، وبالضم خاص بما في النفس كمرض وهزال (الأقرب).مزجاة: المزجى: الشيء القليل، وبضاعة مزجاة: أي قليلة؛ وقيل: رديَّة لم يتم صلاحها فترد وتدفع رغبة عنها (الأقرب).التفسير: إن كلمة (الْعَزيزُ) عربية ومعناها: المعزّز أو الناجح، ولكنها كانت تشير عندئذ إلى منصب خاص، وإن كانوا أخذوا فيما بعد يطلقون على الملك المصري "عزيز مصر " ، ولكن لغة المصريين في زمن يوسف لم تكن عربية حتى نظن أنهم كانوا يطلقون هذه الكلمة على الوزراء.أرى أنها قد وردت هنا بمعنى سيد القوم وكبيرهم.وامرأة العزيز تعني زوجة ذلك الكبير أو الموظف.يصعب على المرء تفهم سلوك إخوة يوسف في هذا الموقف.فإما أن غشيانهم المتكرر للمعاصي تسبب في فساد أخلاقهم لدرجة أنهم أخذوا يسألون الطعام والغلال أن يبحثوا عن إخوتهم المفقودين.أو نقول إنهم أخفوا بهذا السؤال قصدهم الحقيقي خشية أن يعتبرهم القوم جواسيس جاءوا للتآمر عليهم.بدلاً من قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ )

Page 486

الجزء الثالث ٤٧٩ سورة يوسف التفسير: يبدو أن يوسف العلا عندما رأى إخوته بهذه الحالة المخزية أخذته الغيرة عليهم، فلم يملك نفسه وكشف لهم الحقيقة كيلا يعرّضوا أنفسهم للمزيد من الخزي والهوان.لاحظوا البون الشاسع بين سلوك الإنسان المادي والإنسان الروحاني.فإن إخوته لم يظلموه ظلما ماديًا فحسب بل سعوا جاهدين ليشوّهوا سمعته ويمسوا كرامته باتهامه بالسرقة، ولكن يوسف الا عندما يذكرهم بجريمتهم يقول: ﴿إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ، ذلك ليخفف من شناعتها، وكأنه قال: ما فعلتم بيوسف في صغره كان مجرد لهو صبياني، وإلا فأنتم أناس طيبون هذه هي الأخلاق النبيلة التي تقيم للإنسانية وزنها وتبرز جمالها، والتي يجب على كل مؤمن أن يتحلى بها.قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٢) ۹۱ التفسير: إن روعة ما أشار به يوسف إلى الأحداث الماضية، وتأكيد يعقوب على أبنائه من قبل للبحث عن إخوتهم في مصر، كل ذلك حدا بهؤلاء أن يستنتجوا على الفور بأن هذا هو يوسف.أنظروا سموّ أخلاقه ال، فإنه لا يدعهم يعانون أكثر من ذلك، بل يخرجهم من الشبهات والوساوس بكشف الحقيقة عليهم فورا.ثم ينصحهم بكل حب ولطف أن يتمسكوا بالصبر والتقوى، ويخبرهم أن مد اليد بالسؤال إلى الآخرين ليس هو الطريق السليم للتغلب على المشاكل، وإنما سبيله تقوى الله والصبر..أي أن يتخذ الإنسان الله ستراً، ويستمر في الكفاح دون اكتراث بالشدائد.يبدو من أسلوب الآية أن يوسف ال أحضر أخاه بنيامين عندئذ ولذلك قال مخاطبًا إخوته: "أنا

Page 487

الجزء الثالث يوسف وهذا أخي".٤٨٠ قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ! شرح الكلمات : ۹۲ سورة يوسف آثَرَك آثره إيثارا : اختاره وأكرمه؛ فضله (الأقرب).التفسير: لقد تنبهت الآن فطرتهم السليمة من غفوتها، فاعترفوا بصحة رؤياه في الصغر قائلين: لقد تحققت رؤياك أخيرًا حيث فضلك الله علينا رغم معارضتنا إياك، وكنا نحن المخطئين فيما فعلنا.قَالَ لَا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ ) شرح الكلمات: لا تثريب: التشريب: التقريع والتقهير بالذنب (المفردات).ثَرَبَهُ ثَربًا: لامه وعيّره بذنبه.وثربَ المريض: نزع عنه ثوبه.وفي "المصباح" : ثربَ عليه: عتب ولام.وثربه وثرب عليه : قبح عليه فعله، يقال: لا تثريب عليكم (الأقرب).التفسير : لقد قدّم يوسف نموذجًا مثاليًا للأخلاق الفاضلة، إذ لم يلبث أن أعلن كان إخوته في بلد غريب حيث لا ناصر لهم ولا معين، وكم من وساوس ومخاوف كانت تساورهم في تلك اللحظات، ولكنه نجاهم دون تردد من معاناتهم الذهنية التي لا تقلّ وطأة وإيلاما من التعذيب البدني.فلم يغفر لهم فحسب، العفو عنهم.

Page 488

الجزء الثالث ٤٨١ سورة يوسف بل أملهم أيضًا في مغفرة الله تعالى.إن هذا العمل الوحيد من يوسف اللي يبلغ من العظمة والروعة بحيث أنه يستحق به أن يُكتب اسمه بأحرف من نور ويُذكر دائما بالخير.لقد ذكر هذا الحادث في القرآن والتوراة أيضًا، ولكن يتضح من دراسة المصدرين أن التوراة قصته لتبيّن فقط كيف وصل أولاد إبراهيم العلم إلى مصر، بينما تناول القرآن الكريم هذا الحادث لكي يبرز ما فيه من محاسن ودروس أخلاقية، ولا سيما ليبين أن أهل الله تعالى لا يخافون المحن والمصائب لأنها تزيد أخلاقهم جلاء وجمالاً، وأن العدوان عليهم لا يولّد في قلوبهم جحيما من البغض والانتقام، بل يحوّلها إلى جنة أشجارها العفو وثمارها السكينة.المماثلة السابعة عشرة: وكما أن يوسف ال ازداد بعد الهجرة عزا وشرفًا، كذلك حقق الله لا للنبي الرقي والازدهار بعد هجرته إلى المدينة، حتى إن البلد مهاجرا تحت ستار الليل وقع في يديه بعد أن دخله منتصرا في نفسه الذي خرج منه = وضح النهار، ومعه عشرة آلاف قدوسي من صحابته الأطهار.عندها قال النبي لأهل مكة ما ترون إني فاعل بكم؟ وبما أنهم كانوا قد أدركوا مكانته الرفيعة، وانكشفت عليهم الغاية من نزول سورة يوسف، فلذلك أجابوه على الفور: ستفعل * * بنا ما فعل يوسف بإخوته.فقال: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.يا لروعة المشهد المثير ! يُعرض عليه الله أعداؤه الذين صبّوا عليه وعلى أصحابه من المظالم والمصائب ما تنخلع من هوله القلوب، وذلك لعشرين سنة متتالية.من ذا الذي يغفر بهذه السهولة لمثل هؤلاء الأعداء؟ ولكن النبي الا الله وغفر لهم جميعًا دون تردد كل لم نجد هذه العبارة في كتب التراث وإنما جاء فيها أنهم أجابوه بقولهم: "أخ كريم وابن أخ كريم".قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.(زاد المعاد من هدي خير العباد، دخول النبي مكة).(الناشر)

Page 489

الجزء الثالث ٤٨٢ سورة يوسف ما فعلوه من قبل.اشتد المرض مرةً بالإمام المهدي والمسيح الموعود ال فلم يستطع الذهاب إلى المسجد، فكان يصلي المغرب والعشاء بالجماعة في بيته في معظم الأحيان، وكان يقرأ هذه الآيات في صلاة العشاء كل يوم تقريبًا.ولا أزال أتذكر جيدا أنه عندما كان يقرأ قول الله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن جَمِيعًا...إلى قوله تعالى...وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحمين..كان يقرأها بنبرة ملؤها الرقة والألم حتى إنني ما كنت أستطيع مقاومتها وكنت أصاب باضطراب شديد.ولا يزال صدى ذلك الصوت العذب يَرِنُّ في أُذُنَيَّ، وربما أستطيع إلى الآن بهم محاكاته إلى حد كبير.أما سبب تلاوته هذه الآيات فهو أن الذي كان يجري بينه وبين قومه كان مماثلاً لما جرى بين يوسف وإخوته عليهما السلام.إلا أنني أشك فيما إذا كان حضرته اللي يقرأ الآية التالية أيضا أم لا، وما إذا كان يقرأ هذه الآيات في ركعة واحدة أم في ركعتين.اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأَتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) شرح الكلمات : بصيرا : البصير : المقتدر على النظر خلاف الضرير رجل بصير بكذا: عالم به خبير (الأقرب).التفسير : لقد قال بعض المفسرين بأن قول يوسف هذا يمثل لومه على إخوته.ولكني أرى أنه قد عبّر بذلك عن عفوه البالغ، إذ يخبرهم أنكم عندما ذهبتم إلى الوالد

Page 490

الجزء الثالث ٤٨٣ سورة يوسف بقميصي أول مرة أثرتم سخطه، فخذوا الآن قميصي هذا لتبشروه وتسروه، ولكي يدعو لكم ربه طالبًا لكم المغفرة والرحمة.فقد أعلن يوسف عن عفوه عنهم من قبل بقوله : لا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، أما الآن فإنه يرسل قميصه إلى أبيه متوسلاً إليه أن يعفو ويدعو لإخوته.أما قوله يَأْت بصيرا فهو كقولهم: "رجل" بصير بكذا أي عالم بحقيقته وخبير بكنهه"، فالمعنى أن إيمان الوالد بحياتي مبني فقط على ما أخبره الله بالوحي، فاذهبوا إليه بقميصي هذا ليتحول إيمانه إلى علم اليقين بواقع الأمر.والآن يتقدم يوسف خطوة أخرى في الإحسان لإخوته، فيبشرهم بحسن معاملته لهم، ويدعوهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين ليتمتعوا معاً بما وهب الله له من نعم وبركات.وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَن تُفَنِّدُون شرح ۹۵ الكلمات فَصَلَت : فصَلَ من البلد فصولاً خرج منه ) الأقرب.الفصل: إبانة أحد الشيئين من الآخر حتى يكون بينهما فرجةٌ وفَصَلَ القومُ عن مكان كذا: انفصلوا وفارقوه (المفردات).تفتدون التفنيد: نسبة الإنسان إلى الفند وهو ضعف الرأي.قال الله تعالى لولا أن تُفَنِّدُون) قيل: أن تلوموني (المفردات).فند الرجل فَنَدا: حَرَف وأنكر عقله لهرَم أو مرض.فند في القول والرأي: أخطأ؛ كذب وفنده: كذبه؛ جهله؛ عجزه؛ لامه؛ خطأ رأيه وضعفه (الأقرب).

Page 491

الجزء الثالث ΕΛΕ " سورة يوسف التفسير: المراد من ريح يوسف هنا خَبَرُه".فعندما يأمل المرء في تحقق أمر من الأمور في المستقبل القريب يقول: إنني أجد ريحه وهذا ما يعنيه يعقوب الع.وبهذا المعنى قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله في بيت شعر له ما تعريبه: إنني لأجد الآن ريح يوسف، وإنني أنتظره وإن فندتموني (الخزائن الروحانية ج٢١، البراهين الأحمدية ج ٥ ص ١٣١) وليس المراد من قوله لولا أَن تُفَنَّدُون أن لا تسموني مجنونا، وإنما هذا أسلوب للتأكيد، والمراد لو لم تعتبروني مجنونًا فإنني أخبركم أنه قد حان اللقاء بيوسف.وهذا الأمر أسمى من أن تحيطه مداركُكُم وإن كان حقا وصدقًا.قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ () التفسير: كم هو شاسع البون بين من يتلقى الوحي الإلهي وبين من هو محروم منه.فإن اليقين الذي يتمتع به الأول بسبب إيمانه بوحي الله تعالى، لا يمكن أن يتيسر لغيره.ولذلك نجد أقارب يعقوب اللي لا يصدقونه فيما أخبرهم به بناء على الوحي، وإنما يعتبرونه مستحيلاً وضربًا من الخبل.وأما قولهم إنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فاعلم أن الضلال يعني الانحراف عن الحق، وأيضا الاعتقاد بأمر من الأمور، وإن المعنى الثاني هو الذي ينطبق هنا فقط، لأن الذين خاطبوا يعقوب بهذا الكلام كانوا من المؤمنين وإن كانوا ضعفاء الإيمان، فالمراد: أنك لشدة حبك لابنك تفسر الوحي تفسيرًا حرفيًا وإلا فمن المستحيل أن تلقاه مرة أخرى.

Page 492

الجزء الثالث ΣΛΟ سورة يوسف فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) شرح الكلمات ۹۷ فارتد ارتد على أثره رجع.ارتد إلى حاله (الأقرب).بصيرا: بصر به وبَصَرَ بصارةً وبَصَرًا: علم به رجل بصير بكذا: عالم به خبير (الأقرب).التفسير قوله تعالى (فَارْتَدَّ بَصِيرًا لا يعني أنه كان قد عمي من قبل وعاد إليه البصر عندما وُضع القميص على وجهه كلا، بل المراد أنه كان من قبل مؤمنًا بحياة يوسف، بناء على الوحى، أما الآن فبرؤية القميص تحول إيمانه إلى اليقين والاطمئنان.والحق أننا لو أمعنا النظر في حقيقة الوحي لأدركنا أن علم الأنبياء عليهم السلام ينقسم إلى قسمين؛ علم باطني وهو الذي يتلقونه بالوحي، وعلم مادي: وهو ما يحصلونه بالحواس المادية.فعندما يتلقون خبرًا بالوحي يحصل لهم علم أساسه الإيمان، وليس الواقع، وحينما تصدق حواسهم هذا الوحي يحصل لهم علم أساسه الواقع، ويشترك فيه معهم غيرهم أيضًا.وقوله تعالى (فَارتَدَّ بَصِيرًا إشارة إلى هذا النوع من العلم، لأنه إذا تظافرت الحواس الباطنية والمادية معًا على تصديق أمر معلوم بالوحي يصبح العلم به كاملاً.إذا لم تؤكد الحواس المادية العلم الحاصل بالوحي يبقى هناك احتمال أن يكون الوحي بحاجة إلى التأويل بما يخالف ظاهر كلمات الوحي، أما إذا تحقق الخبر في الظاهر أصبح العلم كاملاً ولا يبقى للشبهة مجال.بعد أن أُلقي القميص عليه قال : أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ، وهذا يوضح أن ما حدث لم يكن معجزة ليوسف وإنما ليعقوب، وإلا لو كانت عيونه قد شفيت بإلقاء قميصه عليه كما يزعم بعض المفسرين القال: انظروا إلى المعجزة العظيمة لابني حيث شفى

Page 493

٤٨٦ سورة يوسف الجزء الثالث قميصه عيوني، ولكنه يقول: انظروا، لقد تحقق قولي بأن يوسف حي.فإنما المراد من الجملة -كما قلت من قبل أنهم عندما وضعوا قميصه أمام يعقوب تحول علمه المبني على الوحي إلى علم يقيني واقعي.وكما هي سنة الأنبياء عليهم السلام فإن يعقوب لم يملك نفسه من فرط السرور والفرحة، فأخذ في حمد الله تعالى وتسبيحه بأن وحيه قد تحقق.قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ۹۸ الله التفسير: إن تأثير الإثم يبقى في القلب ما لم يتم غفرانه، لذلك نجد إخوة يوسف لم يزالوا يقعون في تقصيرات تدل على نقصان طهارتهم الباطنية، ولكن نجدهم قد تغيروا تماما بعد أن غفر لهم يوسف قائلاً: لا تَشْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ، وبعد أن شملهم بغفرانه عنهم، إذ لا يرون الآن الكفاية فيما قاموا به بأنفسهم من استغفار وتوبة، بل راحوا يلتمسون من أبيهم أيضًا أن يدعو ربه ليغفر لهم ذنوبهم، مع أن الإنسان العادي يكتفي في مثل هذا الموقف بالاعتذار إلى من أساء إليه فقط.ذلك أنهم حينما أخلصوا في توبتهم انكشفت عليهم الحقيقة أن سخط الإنسان أو عقابه لا يساوي سخط الله وعقابه ، فقرروا أن يعقدوا الصلح مع الله تعالى قبل كل شيء، ويطلبوا منه شيئًا إزاء العفو والغفران بواسطة نبيّه يعقوب.وهذا الطلب كان متضمنًا أيضًا العفو عنهم من قبل أبيهم، لأنه إنما يستغفر لهم ربّه إذا كان قد عفا عنهم بنفسه.

Page 494

الجزء الثالث ٤٨٧ سورة يوسف قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ۹۹ التفسير: ثمة حكمة فريدة يجب أن نتذكرها.فأبوهم يقول لهم: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ والمعلوم أن (سَوْفَ) تفيد التأكيد ولكن في المستقبل البعيد، بينما نجد أخاهم يوسف قد أعلن العفو عنهم على الفور قائلاً: لا تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.لماذا؟ الحق الْيَوْمَ.أن القرآن قد قام هنا بتصوير الفطرة الإنسانية أصدق تصوير.ذلك أن يوسف ال كان يستعد منذ فترة للعفو عنهم لذلك عفا عنهم فوراً دون أن يقول لهم: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي)، وأما يعقوب ال فجاءه الخبر فجأةً، ولذلك ردّ على طلبهم قائلا: حسنًا، ولكن هذا سيستغرق وقتًا، لأن حلول المحبة في القلب من جديد مكان السخط والألم أمرٌ لا يتم على الفور.فانتظروا حتى تهدأ عواطفي ويزول السخط من قلبي ليميل إلى الدعاء لكم.ودفعًا للقلق الذي قد يصيبهم بقوله (سَوْفَ) لم يلبث أن قال إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي لا تُراعُوا، فإن الله سوف يزيل عن قلوبكم ما صدأ الأخطاء ودرن ،الذنوب وسوف يشملكم برحمته الواسعة.هناك عادة عجيبة في بلادنا أن الناس يخطئون ثم عند الاعتذار يلحون على من أخطئوا في حقه بقولهم: لن أبرح مكاني حتى تعفو عني، ويعنون بالعفو أن يخصهم صاحبهم بنفس المحبة والألطاف السابقة.ولكن هذا يتنافى مع الفطرة الإنسانية، لأن العفو نوعان: الأول: أن لا يُعاقَبَ الشخص المجرم، وهذا ممكن تحقيقه في اللحظة ذاتها، والثاني: أن يعود عليه بنفس المحبة والألطاف السابقة وهذا ما لا يحدث على الفور، ولا يُكرَه عليه أحد قسرًا ، وإنما يستغرق بعض الوقت.أصابها من فَلَمَّا دَعَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاء

Page 495

الجزء الثالث الله آمنين \..٤٨٨ سورة يوسف ومع التفسير : اعلم أن أم يوسف اللي كانت قد توفيت عندئذ (التكوين٣٥: ١٩)، ذلك نجد أن كلمة (أبَوَيْه) قد تكررت هنا كثيرًا.لماذا ؟ ذلك ليشير إلى ما كان يبدي يوسف من احترام وتبجيل عظيمين تجاه امرأة أبيه عليهما السلام.إن في ذلك لدرسا عظيمًا للأولاد، هو أن زوجات آبائهم أيضًا بمثابة أمهاتهم، وأن الإسلام لا المعاملة.فعليهم أن يكنوا لهن على الدوام يفرّق بينهن فيما يتعلق بالاحترام وحسن احترامًا وتقديرًا كما يفعلون مع أمهاتهم الحقيقيات.ويبدو من قول يوسف (ادْخُلُوا مصرَ أنه جاء خارج البلد مستقبلاً أبويه.وإذا كان النبي أيضًا يبدي هذه الحفاوة والتكريم لأبويه ويخرج لاستقبالهما، فمعنى ذلك أن استقبال الضيوف ليس بجائز فحسب، بل هو أمر مستح انظروا كم كان يوسف رفيع القدر في الروحانية فنحن نجد إخوته الكبار لا يستثنون ولا يقولون إن شَاء الله) عند القيام بأي مهمة من المهام، وإنما كانوا يعزون كل عمل إلى أنفسهم، وعلى النقيض نجد يوسف الذي كان بمثابة رئيس الوزراء وعنده المراكب الجاهزة يقول ادْخُلُوا مصر إن شاء الله آمنين..أي لا شك أن الأسباب متاحة ميسرة إلا أنه من الممكن تمامًا أن لا نستطيع دخول البلد إذا لم تكن هذه هي مشيئة الله تعالى.الحق أن ترديد كلمة (إن شاء الله) بصدق ويقين قبل القيام بأي عمل يلعب دورًا كبيرًا في رقي الإنسان روحانيا.ذلك أن الماضي من حياته يكون قد فاته وانفلت من يده، وأما الحال فهو قصير الأمد بحيث أنه بمثابة الحد الفاصل بين ماضيه ومستقبله، إذن فالمستقبل وحده هو الفترة الحقيقية التي يمكن أن يستغلها.فإذا قال الإنسان (إن شَاء الله) بصدق عندما ينوي القيام بعمل مستقبلاً فكأنه جعل الله تعالى يشاركه فيما يتوجه إليه من عمل وبالتالي يحميه الله من تأثير الشيطان وشروره.ومن يفعل ذلك

Page 496

الجزء الثالث ٤٨٩ سورة يوسف بصدق ووعي فسوف يسعى لتحقيق مطلبه بكل ورع وتقوى.ثم إن الذي يكون من عادته قول إن شاء الله بصدق وتدبر فيما يريد فعله فإنه من قصد الإثم، لأن هذه الكلمة لا تقال من أجل ارتكاب معصية.فكلما يحمي نفسه ينوي ارتكاب معصية سوف يشعر بالخجل والندم بسبب هذه العادة المباركة.كما أن التعود على قول (إن شاء الله يساعد الإنسان على ذكر الله والتوكل عليه.وإن هذه هي الأمور التي تُعتبر لب الروحانية وخلاصتها.وقوله (ادْخُلُوا مصر إن شاء الله آمنين دعاء.ولربما كان قد علم بالوحي الأخطار التى كانت تنتظر آل يعقوب في مصر مستقبلاً، فابتهل إلى ربه أن يحميهم من تأثيرها المدمر.المماثلة الثامنة عشرة: فكما أن يوسف الدعا ربه قبل أن يدخل بهم البلدة، كذلك كان سنة من النبي عند دخوله بلدًا ما أن يدعو بهذه الكلمات: "اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية وشرّ أهلها وشر ما فيها.اللهم بارك لنا فيها وارزقنا جناها (أو جياها) وأعدنا من وباها وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا." ولقد جربت أنا ورفاقي وكذلك الصلحاء قبلنا أن من يدعو بهذا الدعاء قبل دخوله أي بلد يكون الله في عونه وينجيه من الآفات والمصائب.أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ

Page 497

الجزء الثالث ٤٩٠ سورة يوسف السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزِغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) 1.) شرح الكلمات: رفعه رفعا : ضدُّ وضعه.رفع زيدًا إلى الحاكم رفعًا ورفعانًا: قدمه إليه ليحاكمه.ورفعه إلى السلطان رُفعانًا: قرّبه (الأقرب).الرفع يقال تارة في الأجسام الموضوعة إذا أعْلَيتَها عن مقرها، وتارةً في المنزلة إذا شرفتها.وقوله تعالى ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رفعت فإشارة إلى المعنيين إلى إعلاء مكانه، وإلى ما خص به من الفضيلة وشرف المنزلة (المفردات).العرش سرير الملك (الأقرب).العرش في الأصل شيء مسقف.ومنه قيل: عرشتُ الكرم وعرشته: إذا جعلت له كهيئة سقف.وسُمِّي مجلس السلطان عرشا اعتبارًا بعلوه، وكُنّي به عن العز والسلطان والمملكة (المفردات).خروا : حَرَّ: سقط سقوطا يُسمع منه خريرٌ، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك أيضًا مما يسقط من علوّ.وقوله تعالى: وخروا له سُجَّدًا فاستعمال الخَرّ تنبية على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح (المفردات).خرَّ الماء يخر خريرا : صات وكذلك الريحُ والقصبُ.وخرَّ العُقابُ: صاتَ حُفوقُ جَناحيه.وخرَّ النائم: غط.وخرَّ ساجدا انكبّ على الأرض.وخرَّ الحجر: صوت منحدراً (الأقرب).نزَغَ: نزَغَه نزْعًا: طعن فيه واغتابه وذكره بقبيح.ونزغَ بين القوم: أغرى وأفسد وحمل بعضهم على بعض، ويُقال نزغ الشيطان بينهم (الأقرب).الشيطان: فيعال من شَطَنَ شَطَن عنه : أبعد؛ وشطنت الدار: بعدت (الأقرب).أو هو فعلان من: شاط الشيءُ: احترق.وشاط فلان هلك.والشيطان: روح شرير؛

Page 498

الجزء الثالث ٤٩١ سورة يوسف كلُّ عات متمرد؛ الحيةُ (الأقرب).لطيف لَطَفَ به وله لُطْفًا رَفَقَ به لطف الله للعبد وبالعبد: رفق به وأوصل إليه :.ما يحب برفق؛ وفقه؛ عصمه، فهو لطيف.لطف الشيء لطفا ولطافةً: صغر ودق.واللطيف من الأسماء الحسنى معناه: البَرِّ بعباده المحسنُ إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق ولطف؛ أو العالم بخفايا الأمور ودقائقها (الأقرب).التفسير: قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش﴾ يمكن أن يفسر بمفهومين: الأول: أن يكون من قولهم: رفعه إلى السلطان أي قربه إليه.فالمعنى: أنه قدم أبويه إلى الملك المصري.والتوراة تصدّق هذا المعنى، إذ جاء فيها أنه عرضهما على الملك (التكوين ٤٧: ٧).والثاني: كانت العادة في القديم أن يكون لنائب الملك أيضا عرش إلى جانب عرش الملك، فقد يكون هناك عرش خاص بيوسف، فأجلس عليه أبويه بإذن من الملك.وقوله: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا.فاعلم أن كل المشتقات من (خرور) تتضمن معنى الصوت، ولذلك قال بعض المفسرين: يقال: خرّ ساجدًا عمن يقع ساجدًا على الأرض وهو يكثر من ترديد كلمة (سبحان الله ، سبحان الله).ولا يقال ذلك إذا قام بمجرد السجود (المفردات).فالمراد من قوله تعالى (خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) أنهم اندفعوا ساجدين على الأرض قائلين (سبحان الله سبحان الله، أو أنهم وقعوا ساجدين على الأرض بكل حماس بحيث سُمع لسجودهم صوت.ولكن هذا لا يعني أنهم سجدوا للملك أو ليوسف، كما زعم البعض، بل المراد أنهم سجدوا الله تعالى شاكرين على ما حقق ليوسف من رقي وشرف.فكان يوسف سببًا لسجودهم و لم يكن مسجودًا له.وأما قوله تعالى (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّحْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ فيكشف لنا سمو أخلاق الأنبياء عليهم السلام الحق أن أهل يوسف جاءوه فارين من

Page 499

الجزء الثالث ٤٩٢ سورة يوسف معاناة القحط والمجاعة إلى مقام العز والراحة، ومع ذلك يقول يوسف إنه من فضل الله ورحمته علي أن جاءني بكم من البدو.على المؤمن أن يضع هذه الأسوة نصب عينيه دائمًا، فلا يتسبب في تجريح مشاعر الآخرين، بل يجب أن يخاطبهم بكلام مهذب ينم عن تقدير واحترام لهم.فهذا الخُلق لا يساعد على ازدهار المدنية فحسب، بل يُكسب صاحبه أيضا مرضاة الله تعالى.هنالك من الناس من لا يراعون الحيطة والحذر في حديثهم مع الناس ويسمون عملهم هذا بساطة.منهم.ولكن هذا الأسلوب لم يكن من سنة الأنبياء، الذين كانوا يراعون في حديثهم احترام الآخرين دائمًا، وهذا هو الطريق الذي يجب أن يسلكه كل مؤمن.وقد روي عن النبي أنه عندما أراد الحديث مع أحد اتجه إليه بوجهه، وإذا خاطبه أحد أصغى إلى كلامه إصغاء تاما (الشفاء ج ١ ص ٤٩).ولكننا نجد كبار القوم عندنا في هذه الأيام إذا تحدثوا مع أحد لا يتجهون إلى المخاطب بشكل مرض بل يولون عنهم وجوههم، وحينما يحدثهم أحد لا يستمعون له ولا يلقون لحديثه بالاً.هذه كلها عادات تتعارض مع الإيمان وعلى المؤمن اجتنابها كلية، وإلا رانت على قلبه وأصابته بالكبر والغطرسة.اعلم أن كل رغبة شريرة لا يُعرف مصدرها يعزوها القرآن إلى الشيطان، لأنها وليدة أفكار.دقيقة.وإن كلمة الشيطان - بالنظر إلى مصدرها (شطن)- تعني الوساوس في القلوب وهو بعيد، وأحيانًا تطلق على تلك الروح الشريرة التي تحفز الإنسان على الشر إزاء ترغيب الملائكة له في الخير، وتطلق أحيانًا أخرى على الدوافع الخفية التي تتولد في قلب المرء نتيجة أعمال خاطئة سابقة، وهي التي تدفعه إلى ارتكاب المعصية في حين لا نرى أي سبب ظاهري لذلك.إن رَبِّي لَطيف لِّمَا يَشَاء..إذا وصف الله تعالى بكونه (اللطيف) فمعناه العالم بخفايا الأمور، أو المشفق على العباد ، والنافع لهم بلطف ومحبة.وكأنه إذا كائنا يثير تفقد حالتهم فيتفقدهم عن محبة، وإذا هيأ لهم الوسائل والمرافق فأيضًا عن محبة، وإذا أحسن إليهم

Page 500

الجزء الثالث ٤٩٣ سورة يوسف فأيضا عن حب ورفق، فكل أفعاله تتم عن محبته ولطفه بالعباد.فكأنه سبحانه وتعالى رغم كونه غنيًا عن كل شيء يخفي عنهم غناه ليزدادوا حبًّا الله عل.وأشار بقوله تعالى (لَطيفٌ لِّمَا يَشَاء) أنه يخص بلطفه ومحبته من شاء من العباد، وأن كل إنسان يحظى بفضل الله ولطفه وفق سعته ومقدرته.وجاء هنا بصفة الله (الْحَكِيمُ) دفعًا لاعتراض هو : أن الرؤيا التي رآها يوسف كانت تشير إلى رقيه، ولكن ما حدث هو أنه اضطر للمرور بشتى الخطوب والمحن لفترة طويلة؟! إننا إذا أمعنا النظر فيما حدث تبين أن هذه الشدائد نفسها مهدت الطريق لرقيه، كما تسببت في توبة إخوته وطهارتهم.فلم يكن ما فعله الله بيوسف خاليًا من الحكمة أبدا.لو أن يوسف ال نال العز دون هذه المصائب ما تجلّت عظمة الوعد الإلهي بهذا الشكل، كما لم يتم تطهير قلوب إخوته.فكل ما حدث كان وراءه حكمة عظيمة.رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ شرح الكلمات: ۱۰۲ فاطر: فَطَرَ الأمر: اخترعه (الأقرب).التفسير : : هذه الآية تكشف لنا مدى حب الله وعشقه الذي تعمر به قلوب عباده الأخيار.فما أن نالت يوسف الفرحة والبهجة بلقاء الأقارب حتى اشتعلت في قلبه قبسة المحبة الإلهية، فنسي كل شيء حوله، وتغيبت الدنيا وما فيها عن أنظاره، وهو

Page 501

الجزء الثالث ٤٩٤ سورة يوسف يناجي ربه في لهفة قائلاً: رَبِّ قَدْ آتَيْتَني منَ الْمُلْك...) أي كل هذا يا رب عطاؤك ومن فضلك أنت.هذا هو السجود الحقيقي الذي يحقق لصاحبه الرقي في الروحانية.إن السجود الظاهري سجود مؤقت عابر.وإنما السجود الحقيقي هو أن يركز الإنسان أنظاره إلى الله دائما، سواء في الفرحة أو الترحة، ويصبو إليه قلبه لاهفا هائمًا.أما بدون هذا فلن يحقق الإنسان أي رقي في الروحانية، ولن يدخل الجنة الدنيوية التي إذا لم يدخلها هنا فسوف يستحيل عليه الدخول في الجنة الأخروية.لقد طعن القسيس ويري في القرآن الكريم بسبب قوله تعالى هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا، وقال: هذا البيان يعكس لنا ما يعلم القرآن أتباعه من كبر وغطرسة (تفسير ويري).وأقول ليس الأمر كما زعم القسيس أبدا، بل هو تعبير عن المحبة الإلهية التي يعلمها القرآن، حيث يخبرنا أن يوسف كان يذكر ربه عند كل صغيرة وكبيرة، ولا يقول القرآن كما زعمت التوراة وكان يوسف كان قد نسي ربه وأعرض عنه بعد أن أنعم عليه وحقق له بغيته.وأما قوله رَبِّ قَدْ آتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ فقد ظن البعض أن يوسف كان قد وصل إلى منصب ملك (تفسير البغوي).ولكن هذا خطأ، لأن الملك هنا السلطة يعني: والاقتدار، وكان قد نال هذا بإذن من الملك المصري.ويعني بقوله (وَعَلَّمْتَني من تأويل الأحاديث أنك يا رب حققت أمام عيني ما أريتني من رؤيا وعرفتني على فحواها أو معناه: لقد وهبتني علم تعبير الرؤى.الحق أن شخصيات الأنبياء عليهم السلام تمثل دليلاً على وجود البارئ تعالى، وهذا ما يؤكده يوسف اللي بقوله: ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..أي أن حياتي برهان ساطع على كونك يا ربِّ فاطر السماوات والأرض.إذ بشرتني بالرقي العظيم حينما كنت صغيرًا حقيراً لا يأبه بي أحد ثم أكرمتني بسلطة واقتدار على بلد كبير،

Page 502

الجزء الثالث ٤٩٥ سورة يوسف وكأنك يا رب قد خلقت من أجلي سماءً وأرضا جديدتين، فثبت أنك أنت الذي فطر السماوات و الأرض.وقوله أَنتَ وَليّي في الدُّنْيَا وَالآخرة دعاء أي يا رب انصرني في الدارين.وقد فصل دعاءه هذا بقوله تَوَفَّنِي مُسْلِمًا...أي اجعل عاقبة أمري عاقبة خير، وأدخلني في الآخرة في عداد الصالحين الذين يصلحون للرقي الروحاني.فقوله تَوَفَّنِي مُسْلِمًا تفسير للولاية الدنيوية، وقوله وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) تفسير للولاية الأخروية.ولو قيل: ما الداعي لقوله وَالْحقني بالصَّالحين بعد قوله تَوَفَّنِي مُسلما، فإن الذي يموت مسلمًا لا بد أن يُبعث في الصالحين؟ فالجواب: لا شك أن كل مؤمن يسمى مسلما بحسب كل الشرائع وإن كان إسلامه ضعيفا في حقيقته، ومثل هذا الإنسان سوف يدخل الجنة ولو بعد عقوبة قليلة، ولكن يوسف لا يتمنى لنفسه مثل هذا الإسلام، وإنما يريد أن يرتحل من الدنيا على إسلام يُلحقه على الفور بالصالحين في الآخرة..أي يكون إسلامه كاملاً بحيث لا ينفك بعد الموت أيضا يصعد إلى الدرجات العليا.وهذا هو المقام الذي يجب على المؤمن أن يسعى لإحرازه.ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ۱۰۳ شرح الكلمات: أجمعوا أجمع القوم على الأمر: اتفقوا عليه.(الأقرب) التفسير : لقد بين الله هنا أننا لا نسرد قصة يوسف كحكاية مسلية، وإنما تحتوي على أنباء غيبية..أي أنها أخبار عما سيحدث بالنبي ﷺ في حياته المقبلة.ولقد أثبت

Page 503

الجزء الثالث ٤٩٦ سورة يوسف أحداث مشابهة لما من قبل في تفسير العديد من الآيات كيف أنه وقعت في حياة النبي حدث بيوسف في حياة النبي عليهما السلام.وأما قوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ فالحديث هنا ليس عن إخوة يوسف بل عن إخوة النبي الكريم، إذ الخطاب موجه هنا إليه ، والمراد: ما كنت، يا محمد، لتطلع على ما ينسجه إخوتك أي أهل مكة من مكائد ومؤامرات ضدك ليحقق الله بها المماثلة بينهم وبين إخوة يوسف، فلا شك أنها أخبار جاءتك من الله الذي هو عالم الغيب، وليست وليدة أفكار الإنسان.وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ 1.2 التفسير: أي لا شك أنك تسعى جاهدًا لأن يؤمن بك قومك بسرعة، ولكن ليست هذه هي المشيئة الإلهية، وإنما يريد الله أولاً أن يسلكوا المسلك الذي سلكه إخوة يوسف فلا يؤمنوا بك إلا بعد أن تحقق رقيًا غير عادي فيأتوك صاغرين.وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أخر إنْ هُوَ إلا ذكرٌ لِّلْعَالَمِينَ (الله) شرح الكلمات 1.0 ذكر : الذكرُ : التلفظ بالشيء؛ وإحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنها؛ الصيت، ومنه: "له ذكر في الناس"؛ الثناء؛ الشرف..وفي القرآن وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ؛ الصلاة لله تعالى والدعاء..يقال: إذا حَزَبَه أمرٌ فَزِعَ إلى الذكر؛ الكتاب فيه تفسير

Page 504

الجزء الثالث ٤٩٧ سورة يوسف الدين ووضع الملل.والذكر من الرجال: القوي الشجاع الأبي؛ والذكر من المطر: الوابل الشديد؛ والذكر من القول: الصلب المتين (الأقرب).التفسير: لقد أخطأ إخوة يوسف حين ظنّوا أنَّ العزّ الذي وعد به في رؤياه سيؤدي إلى ذلّهم، مع أن رقيه كان سببا في رقيهم أيضًا، وهذا ما فعله العرب بالنبي ، وإلى ذلك يشير الله تعالى هنا إذ يقول لنبيه : إن قومك ساخطون مما وعدناك به من عز ورقي، ظانين أن هذا سيؤدي إلى هوانهم، رغم أنك لا تطالبهم بشيء لتحقيق رقيك حتى يظنوا أنك تريد السلطة على حساب ضعفهم وهوانهم.بل العكس، فإنك تقدّم لهم ما يضمن لهم الرقي والشرف لهم وللعالم أجمع.فلا مبرر إذن لأن يسخطوا عليك ويغضبوا.المماثلة التاسعة عشرة وهنا أيضًا نجد تشابها كبيرًا بين يوسف والنبي الكريم عليهما السلام.لقد أعز يوسف إخوته ولكن عن طريق الملك، وأما الرسول ﷺ فقد آتي إخوته مُلكًا عظيمًا مستقلاً، حيث أن اثنين من أحمائه أبا بكر وعمر -رضي عنهما - صارا بمثابة ملكين لدولة عظيمة.فتبارك الله أحسن الخالقين.الله وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ) ١.٦ شرح الكلمات: كاين كاين وكأي: اسمٌ مركب من كاف التشبيه وأي المنوَّنة، ولذلك جاز الوقف عليها بالنون، وفيها لغات أخرى وهي: كيين وكاين وكأي وكاء.وهي توافق (كم) في خمسة أمور وهي: الإبهام والافتقار إلى التمييز والبناء ولزوم التصدير

Page 505

الجزء الثالث ٤٩٨ سورة يوسف وإفادة التكثير تارةً وهو الغالب نحو: كأي من رجل، والاستفهام أخرى وهو نادر كقول أبي ابن أبي بن كعب لابن مسعود: كأين تقرأ سورة الأحزاب، وقال: ثلاث وسبعين.وتُخالفها أي أن كلمة "كأين" تخالف كلمة "كَمْ" في خمسة أمور، الأول: أنها مركبة، والثاني: أن مميزها مجرور بمن، والثالث: أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور، والرابع: أنها لا تقع محرورة، والخامس: أن خبرها لا يقع مفردًا (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى: هناك آيات كثيرة في السماوات والأرض، ولكنهم يمرون عنها معرضين ولا ينتفعون بها.هذا هو الفرق بين الكافر والمؤمن.فبينما يعيش المؤمن حذرا مستيقظًا ساعيًا لفهم كل إشارة من عند الله وللعمل بها، نجد الكافر كالأعمى - محروما من رؤية أية آية مهما كانت عظيمة.مع أن الحقيقة المعروضة أمام الاثنين واحدة، وقدراتهما أيضًا متساوية.نعم، تنفتح عيون الكفار عند حلول العذاب شيئًا فشيئًا، ويشرعون في رؤية نور الله تعالى.الواقع أن أنبياء الله تعالى يمثلون اختبارًا للدنيا، إذ تتجلى عند بعثتهم ما تنطوي عليه النفوس البشرية من ملكات وسرائر، وبقدر ما يكون الإنسان بطيئًا أو سريعا في الإيمان بقدر ما تكون منزلته الروحانية منخفضة أو عالية.ما أروعه من مشهد.فنجد المؤمنين يرون في كل ذرة من الكون آيات الله، وإن تفاوتت قدرتهم على الرؤية، فمنهم من يراها بالملايين ومنهم من يراها بالآلاف وبعضهم بالمئات وآخرون بالعشرات، ولكنا نجد على النقيض من ذلك فريقا آخر لا يزال يثير ضجة بأن الله لم يُرنا حتى ولا آية واحدة، فكيف نؤمن بدون رؤية الآيات؟ ومَا يُؤمن أكثرهم بالله إلا وهُم مُّشْرِكُونَ ) ۱۰۷ التفسير: أي أن أعداء الحق هؤلاء يفسرون كل فعل تفسيرًا خاطئا دون النظر إلى

Page 506

الجزء الثالث ٤٩٩ سورة يوسف الباعث الحقيقي.فمثلاً إذا مات منهم أحد ميتة غير عادية أرجعوا موته إلى مرض، أو حادث دون أن يروا أنه لم يمت هذه الميتة المخزية إلا لمخالفته للنبي.أو إذا رأوا أحدًا من المسلمين قد ارتقى وازدهر ينسبون رقيه إلى ذكائه ودهائه.ولا يرى هؤلاء الحمقى أن رقي هذا المؤمن إنما يرجع إلى إتباعه الصادق للنبي ، إذ كان عائشا بينهم قبل إيمانه بالرسول، ولكنه لم يحقق هذا الرقي عندئذ.لماذا؟ فالآية توضح لنا سبب عمى الكفار إذ تبين أن البصارة الروحانية لا يمكن أن تتقوى وتشحذ بدون التوحيد الكامل.وحيث إن عقائد الناس عموما تكون مشوبة بشوائب الشرك لذلك لا يتمكنون من رؤية التجليات الإلهية ولا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل.ذلك أن الشرك إنما ينشأ عند الناس بسبب تقصيرهم في معرفة الصفات الإلهية معرفةً صحيحة والمشرك يضطر دائمًا لتغيير صورة الله الحقيقية لتوافق آلهته الباطلة.وهذا يترك تأثيرًا سلبيًا عميقا في قلب المشرك، حيث تنمحي من ذاكرته الصورة الحقيقية الله تعالى، بمعنى أنه ینسی صفات الله الكاملة الحسنى، فلا يبقى قادرًا على رؤية وجه الله في تجلياته المختلفة في الكون.ولذلك نجد المشركين دائما يعزون الأفعال الإلهية إلى غير الله تعالى من صنم حقير أو إله وهمي أو سبب مادي.إنهم يتذكرون هذه الأشياء، ولكن لا يخطر ببالهم اسم الله وعل أبدا.صور وعلى سبيل المثال، كان الكفار كلما رأوا في زمن النبي الآثار هلاكهم أرجعوها إلى الأسباب المادية، ولم يفكروا أن هذا عقاب من الله، أو عندما رأوا ازدهار النبي وأصحابه بشكل غير عادي عزوه أيضا إلى الأسباب المادية، دون أن يفكروا أن الصحابة كانوا يعيشون في نفس البيئة ونفس الأسباب قبل دعوى النبي ، ولكن النتائج كانت مختلفة تمامًا.

Page 507

الجزء الثالث ۵۰۰ سورة يوسف أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَاب الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )) شرح الكلمات: :أمنوا أَمِنَ اطمأن أمن من الأسد ومنه: سلم (الأقرب) غاشية: غشيه الأمرُ: غطّاه.الغاشية: مؤنث الغاشي؛ الغطاء؛ القيامة لأنها تغشى بأفزاعها؛ نار جهنم؛ الداهية، ومنه : تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَاب الله أي نائبة تغشاه (الأقرب فالغاشية هي مصيبة أو عذاب يحيط بالجميع، إذ لا يمكن أن يسمى العذاب غاشيا إلا إذا غطّى القوم عامةً.بَغْتَةً: البغتة: الفجأة، وهو إما حال في تأويل باغتًا أو مصدر في تأويل أبغَت بغتةً، والأول أصح (الأقرب) لا يشعرون شَعَرَ به علم به وشعر لكذا فطن له وشعر: أحس به (الأقرب).التفسير: لقد صرّح هنا أن الكفار إنما يعتبرون العذاب فقط آيةً، ولذلك سوف يأتيهم العذاب حتما.ولكنه تعالى سوف يأخذهم أولاً بحسب سنته في العذاب بعذاب أدنى، ثم يحل بهم عذابًا يحسم القضية نهائيًا.وهذا ما تؤكده الأحداث في حياة النبي له إذا لحقت بالكفار هزائم عادية في بداية الأمر ثم في آخر المطاف سحقهم الله حيث دخلها جنود المسلمين فاتحين منتصرين، واضطر مكة، عند فتح بالعذاب الحاسم الكفار لوضع السلاح صاغرين مهانين.واعلم أن الساعة في هذه الآية تعني ساعة فتح مكة، التي اكتملت فيها المماثلة العظيمة بين يوسف ال والنبي الكريم..حيث هزم الأعداء هزيمة حاسمة، ثم عفا عنهم دون أي عقاب، غاضاً النظر عن جرائمهم كلها، كما فعل يوسف.

Page 508

الجزء الثالث و ۵۰۱ سورة يوسف قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) شرح الكلمات: ۱.۹ بصيرة: البصيرة: العقلُ؛ الفطنة؛ ما يُستدل به ؛ الحجة؛ العبرة يُعتبر بها؛ الشاهد ومنه عَلَى نَفْسه بَصِيرَةٌ) أي عليها شاهد بعملها الأقرب).قوله تعالى أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي على معرفة وتحقق (المفردات).) التفسير : لقد أشار بقوله هذه سَبيلي إلى نفس الأمور المذكورة آنفا..أي الإيمان بالله والانتفاع من آياته واجتناب الشرك، ثم أوجز كل هذه الأمور بقوله: أدْعُو إلى الله.كما أن قوله أَدْعُو إلى الله تكملة لنفس الموضوع المشار إليه في قوله تعالى (مَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِ (الآية : (۱۰۵) إذ بين أنني بدلاً من أن أسألكم من أجر أود أن أشرككم فيما من الله على من نعم وأفضال.إن البون الشاسع جدا بين أولياء الله الصادقين وبين من يدعون بالولاية كذبا، حيث يزعم الفريق الآخر كذبًا أن عندهم أذكارًا بل وعندهم الاسم الأعظم وأنها أسرار خاصة بهم لا يستطيعون إفشاءها، وعلى النقيض نجد الرسول الكريم يعلن الملأ: لقد تمكنت من الوصال بربي وأريد أن تصلوا إليه أنتم أيضًا.وهذا هو على الغرض الوحيد من ندائي إليكم.ثم يأمره الله تعالى أن يقول عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي لا أريد إسداء هذه الخدمة لكم فحسب، وإنما أسعى أن أكشف لكم الحقيقة بالأدلة والبراهين.أوليس غريبا أن نجد بعض المسلمين يدعون إلى الإكراه في الدين بالرغم من وجود هذه التعاليم القرآنية الصريحة، هكذا يشوهون سمعة الإسلام أمام أعدائه.

Page 509

الجزء الثالث ٥٠٢ سورة يوسف إن هذه الآية تؤكد أنه لا يتبع سنة المصطفى له إلا من يتبعها على ضوء العقل والبرهان.أما الذي يدخل في الإسلام ويؤمن بوحدانية الله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره والبعث بعد الموت..إيمانا تقليديًا دونما فهم ولا برهان، فلا يمكن متبعا حقيقيًا للمصطفى الهلال الاول لأن مجرد الإقرار باللسان بصدق القرآن دون أي دراية بالبراهين الدالة على صدقه وصدق تعاليمه..لا يجعل صاحبه متبعا صادقًا للرسول ، لأن أتباعه الحقيقيين يمتازون بالفراسة والبصيرة.أما هذا فهو أعمى، والفرق الوحيد بينه وبين غير المسلمين أن هؤلاء يتبعون الكتب الأخرى إتباعًا تقليديا أن يسمى أعمى، وأما هذا فإنه يصدق القرآن تصديقًا أعمى خاليا من أي تدبر وبصيرة.إذن فهذه الآية تلقى على عواتق المسلمين مسئولية جسيمة، إذ عليهم أن يعلموا أجيالهم الأدلة على صدق الإسلام، وليست أدلة عقلية فحسب، بل البراهين التي تجمع بين العقل والعيان أي الخبرة الشخصية، وإذا لم يفعلوا ذلك فلن يكونوا أتباعا صادقين للرسول الكريم ، ولن يكون مثلهم إلا كمثل الذين يجندون جنودًا كأنهم جُثث بدون رءوس.من المؤسف أن مسلمي اليوم مصابون بهذه النقائص أيضا، ولذلك نجدهم مُنحني الرءوس أمام الكفار، إذ فقد كلامهم التأثير كليةً، وأخذوا يرتدون عن الإسلام من رعب الآخرين، بدلاً من أن ينشروه في الأمم الأخرى بكل اعتزاز وفخار.فإنا لله وإنا إليه راجعون.= وبين في قوله وَسُبْحَانَ الله أنه لا حاجة الله بأن يُكره الناس على الإسلام إذ لا جدوى من إيمان يأتي عن إكراه.وإنما يلجأ إلى الإكراه من يبغي المنزلة والعزة في إتباع الناس له، ولكن الله تعالى بريء من مثل هذه العيوب، ولن يضر الله شيئًا إذا لم يؤمن به الناس.والواقع إنما يلجأ إلى استخدام العنف والقوة من لا يقدر على إقناع الناس بالدليل وهذه أيضًا ،منقصة والله بريء من كل نقص.6 ووضح بقوله وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن المسئولية التي وضعت على عاتقي ثقيلة

Page 510

٥٠٣ سورة يوسف الجزء الثالث جدا دون ريب، ولكني بريء من الشرك كل البراءة، فلا أراها ثقيلة، بل أتكل على الله كليةً ولا أكثرت بأي شيء سواه أبدًا في نجاحي في القيام بهذه المهمة الصعبة.كما أشار بقوله هذا إلى أنه كلما خلا إيمان القوم من عنصر البصيرة والوعي وقعوا في الأعمال الوثنية حتمًا.وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۱۱۰ التفسير هذه الآية دليل على أن الله لا يبعث الرسل إلا من الرجال دون النساء.إن الله تعالى قد جعل لكل جنس مجالات معينة خاصة به، وأن منصب النبوة لا يقع داخل نطاق أعمال المرأة بسبب بنيتها فلذلك لا يفوضه إلا إلى الرجال، أما النعم والمناصب الأخرى فليست خارجة عن نطاق عمل النساء، ولذا فهن شريكات مع الرجال في هذه النعم والأفضال.فالمرأة يمكن أن تحظى بكل نعمة من نعم الله تعالى، كأن تكون صديقة أو ولية أو قانتة لله تعالى.وبالفعل قد بلغت الكثيرات هذه الدرجات العلا من قرب الله تعالى، ما عدا نعمة النبوة الخاصة بالرجال.والمراد من الآية أن قولهم: كيف يمكن أن يبعث محمد رسولاً إلينا وهو بشر مثلنا ليس إلا وسوسة وخدعة إذ لم يزل الله يرسل البشر الرجال لهداية الدنيا، فيجب أن لا يهلكوا أنفسهم مغترين بهذه الوسوسة، وإلا فسوف يلقون نفس المصير الذي لقيه أعداء أنبياء الله وكل الذين خلوا من قبل.وأما قوله تعالى (وَلَدَارُ الآخرَة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فحدّر به الكفار أن

Page 511

٥٠٤ سورة يوسف الجزء الثالث لا يُخدعوا بما عندهم من عز ومنعة وإنما عليهم أن يتدبروا ويدركوا أن الأمة التي تعمل بحق وعدل وخشية من الله تعالى هي التي تخرج منتصرة في آخر المطاف.وهذه القاعدة واضحة بديهية لدرجة أن المرء يستغرب كيف يمكن أن ينساها الناس.قد يخدعُ الظالمون أهل الدنيا، ولكن لا يمكن أن يستمر خداعهم لزمن طويل، بل إن القوم يستطيعون التمييز بين الخير والشر، لذلك يبدءون في نهاية المطاف في تأييد الفريق الذي يعمل لصالح الإنسانية ولا يريد لنفسه علوا في الأرض، وإنما يفعل ذلك خوفا من الله تعالى، وعندئذ تنكشف على العالم حقيقة الفريق الظالم.كما أن كلمة ( خَيْرٌ) ومعناها أفضل تشير إلى أن المتقي أفضل من غيره في حالته الراهنة الضعيفة أيضًا، وإن كانت فضيلته خفية على أعين الناس.ذلك أن العمل ابتغاء لوجه الله فقط دون أية مصلحة أخرى، يُكسب المؤمن قوةً تشحنه ببشاشة وسكينة رغم ضعفه الظاهري.أما الحرمان من قرب الله تعالى والجشع وإيثار المصلحة الشخصية على مرضاة الله فكلها لا تولد في صاحبها الطمأنينة ولا تجلب له الراحة الحقيقية.فالحالة البدائية للمؤمن خير وأفضل ولا شك، أما عاقبة أمره فتكون خيرا بشكل خارق للعادة بحيث لا يسع العدو إنكاره.حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ )) شرح الكلمات: كذبوا : كذبه الحديث: إذا نقل الكذب وقال خلاف الواقع.كذب الرجل: أخبر بالكذب كذبته نفسه: إذا منته الأماني وخيَّلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون.

Page 512

الجزء الثالث 0.0 سورة يوسف كَذَبَتكَ عينُكَ : أَرَتْكَ ما لا حقيقة له (الأقرب).قال الأنباري: الكذب ينقسم إلى خمسة أقسام...والثاني: أن يقول قولاً يُشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق...والرابع: كذَبَ الرجلُ: بطَلَ عليه أمله وما رجاه (التاج) بأسا : البأس العذاب الشدة في الحرب؛ القوة ومنه وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَديدٌ أي قوة الخوفُ (الأقرب) التفسير هذه الآية تعتبر من أشد الآيات القرآنية صعوبة من حيث المعنى، لأن ظاهرها يعني أن الرسل ظنوا أن ما وعدوا به من غلبة وانتصار كان كذبًا وخداعا، وهذا باطل ومناف لمقام الرسالة، لأن الله قد أعلن في هذه السورة نفسها: إنَّه لا يَيْأَسُ مِن رَّوْح الله إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، فلا يمكن إذًا القول بأن أنبياء الله يئسوا – والعياذ بالله من رحمة الله، أو أنهم ظنوا بأن الله وَعَدَهم وعودًا كاذبة، لأن الأنبياء - وهم يُبعثون معلمين وأسوة لو أساءوا الظن بالله تعالى فكيف يتيسر للآخرين اليقين الذي يحمى من كل شك ووسوسة.والحق أن المفسرين قد واجهوا المشكلة في فهم هذه الآية لقلة تدبرهم فيها، وإلا فإنها لا تقصد ما ذهب إليه البعض وإنما معناها كما يلي: ۱) الواقع أن هذه الآية تتحدث مثل التي قبلها عن الفريقين: الأنبياء ومعارضيهم، وقوله تعالى حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ متعلق بالأنبياء، وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذبُوا متعلق بالكفار، والمعنى أن الكفار عندما ازدادوا شرا وفسادًا قال الأنبياء في أنفسهم إنه لن يؤمن من القوم إلا من قد آمن ويئسوا من إيمان الباقين، وليس أنهم يئسوا من فضل الله ونصرته.وأما الكفار الخائفون من هلاكهم وفق أنباء الرسل عندما رأوا تأخر العذاب اطمأنوا ظانين أنه لن يصيبهم الآن أي عذاب، وأن الرسل كاذبون فيما حذروهم منه.فبينا هم في هذه الظنون إذ جاء نصر الله الذي مهد لانتصار الرسل ولهلاك الأعداء.وهذه حقيقة ثابتة ما زالت تظهر في زمن كل نبي.فكلما تأخر تحقق النبأ عن العذاب الحاسم واطمأن الكافرون فيما يبدو جاء نصر

Page 513

الجزء الثالث ٥٠٦ سورة يوسف الله تعالى بغتةً لينتصر الأنبياء على الأعداء.(۲ أو أن نعتبر الضمير في كذبُوا راجعا إلى الأنبياء، والفاعل هو نفوسهم، وذلك كقولهم: كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون والمعنى أن الأنبياء لما رأوا الكفار على الشر وتأخر نصر الله تعالى، ظنوا أن نفوسهم ربما أملتهم فيما ليس مقصودًا من الوحي الإلهي وأن وعد النصر الإلهي لن يتحقق من خلال هلاك الأعداء وإنما بطريق آخر.الله تعالى.وهذا المعنى أيضًا لا يتنافى مع مقام الأنبياء عليهم السلام- إذ من الممكن أن يقع النبي في خطأ اجتهادي في فهم المراد الحقيقي من وحي ٣) أو نرجع الضمير في كُذِبُوا إلى الرسل والفاعل هو الكفار، والمراد أنه لما استمر الكفار سادرين في غيهم وشرورهم لزمن طويل يئس الأنبياء من إيمان بقية الكفار ظانين أنهم كانوا يأملون في إيمانهم عبثًا، فها قد خيبوا أملهم بالإصرار على الفساد.وبناء على هذا المعنى يكون قوله تعالى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا شرحًا لقوله حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ.وهذا أيضًا يحدث مع الأنبياء في كثير من الأحيان حيث يبدي الكفار بعد سماع أنباء العذاب ردود فعل توهم وكأنهم سيؤمنون عن قريب، ولكنهم لا يلبثون أن يعودوا إلى سيرتهم الأولى ويُعرضوا عن الحق عقابا من الله على سوء أعمالهم، أو عنادا منهم وغطرسة.(٤) أو أن يكون الله هو الفاعل في كُذبُوا ، ويكون الرسل هم نائب الفاعل، وأن نأخذ الكذب بمعنى الصدق الذي يبدو وكأنه كذب، وهذا المعنى للكذب ثابت من اللغة كما ذكرنا آنفا في شرح الكلمات والمراد من الآية أن الرسل لما يئسوا من إيمان الكفار ظنوا أن النبأ الإلهي عن إيمانهم كان بحاجة إلى تأويل، ولكن ظننا أنه يعني إيمانهم، وكان هذا خطأً اجتهاديًا منا ، إذ لا نرى أي آثار لتحققه حرفيا، يبدو أن الله يقصد به غير ما فهمنا منه.وبينما هم في هذه الأفكار والظنون إذ فاجأهم نصر الله، وانقلب الوضع تماما وكانوا هم الغالبين.

Page 514

الجزء الثالث ۵۰۷ سورة يوسف لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ شرح الكلمات: ۱۱۲ قصصهم: قص عليه الخبر والرؤيا قَصَصًا: حدّث بهما على وجههما، ومنه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصَ).(الأقرب).الألباب : اللب: خالص كل شيء؛ العقلُ؛ أو الخالص من الشوائب؛ أو ما زكى من العقل، فكل لب عقل ولا عكس؛ القلب (الأقرب).فالمراد من أولي الألْبَاب : العقلاء الذين لا تشوب طبائعهم شوائب العناد والتعصب، وإنما يدركون الحقيقة على الفور.التفسير: يقول الله تعالى: لو أن هؤلاء تدبروا قليلاً في كلام أنبياء الله الأولين، لأدركوا أن ما يقوله محمد سيتحقق لا محالة، لأنه بعث وفق الأنباء الواردة في كتب الأولين، وأنهم لو كذبوه فقد كذبوا الأسفار السماوية السابقة.فمثلاً هناك أنباء في التوراة وغيرها عن بعث النبي ا ل ل ول ول ول ولو لم يصدقوه للزم عليهم تكذيب التوراة، إذ لا نجد أحد انطبقت عليه تلك الأنباء.أما لو قال أحد: إن الذي هو مصداق لتلك الأنباء لم يظهر بعد، بل إنه سوف يُبعث لاحقا، فالجواب: ما دامت العلامات المذكورة في تلك الأنباء قد تحققت مرة في النبي ، فليس هناك أي أمل في تحققها في شخص آخر مرة أخرى.ولو سلمنا جدلاً بظهور أحد في المستقبل طبقا لهذه الأنباء لصارت باطلة وموضع شبهة وشك، إذ لا قيمة لعلامات وأنباء تنطبق على الكاذب أيضًا.ثم كيف نجزم بصدق هذا الذي يأتي فيما بعد، وإن انطبقت هذه الأنباء عليه فربما يكون كاذبًا كالكاذب الأول.

Page 515

الجزء الثالث 0.1 سورة يوسف والدليل الثاني الذي ساقه القرآن هنا على صدقه هو قوله وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ.أي أن الكتاب النازل على محمد يسد كل ما يحتاجه الإنسان في مجال الدين، وما دام القرآن محتويا على كل ما لا بُدّ منه للإنسان فما الداعي لتزول أي كتاب آخر! إن هذا الدليل يدحض أيضًا ادعاء الذين زعموا بالإتيان بشرع جديد بعد القرآن كمثل "البهاء" الذي ادعى بأنه جاء بشرع جديد (الأقدس،ص٢٣٣).فيمكن أن نوجه إليه السؤال: ما هى الضرورة الدينية التى لم يلبها القرآن حتى مست الحاجة إلى شرعك الجديد؟ فالحق أن هذا البرهان قوي جدًّا بحيث لا يستطيع مواجهته أحد من أتباع "البهاء" أو غيرهم، لأن القرآن قد بلغ من الكمال والشمولية بحيث لا يمكن أن يباريه أي كتاب قديم أو جديد، لا في عدد المسائل المذكورة فيه ولا في تنوعها، ناهيك من أن يبلغ شأوه فيما جاء به من معارف سامية للغاية.ثم وصف القرآن بكونه هُدًى..أي أن ما جاء به النبي ﷺ لا يكتفي بتفصيل الأمور الدينية، بل أيضًا يوصل الإنسان إلى ربه و ويأخذه مرورًا بالمرحلة الأولى العقلية إلى مقام العيان والمشاهدة أي الخبرة الذاتية مع الله تعالى.وآخر ما ذكر من مزايا هذا الكتاب هو أن العاملين به لا يدعون بلسانهم فقط بأنهم من أهل الله تعالى، بل بالفعل يصبح لهم هذا الكتاب رحمةً، حيث يؤدي العمل به إلى نزول الأنوار الإلهية عليهم، فيتزل لهم التأييد الإلهي في كل مجال من حياتهم بحيث يدرك الرائي أنهم يعيشون في كنف الله تعالى وأنهم يحظون بقربه حقا.

Page 516

الجزء الثالث ۵۰۹ سورة الرعد سورة الرعد مكية، وهي مع البسملة أربع وأربعون آيةً وستة ركوعات سورة الرعد مكية كلها، عند الحسن وعكرمة وابن جبير (ابن كثير).وأما عطاء فاعتبرها مكية ما عدا قوله تعالى ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً.والبعض الآخر يستثنون قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا....وَمَا دُعَاءِ الْكَافِرِينَ إلا في ضلال.وقد استثنى قتادة قوله تعالى ﴿وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا...وعن علي أيضًا أنها مكية.ولكنها مدنية عند الكلبي ومقاتل وابن عباس والقاضي منذر بن سعد.وقال ابن عباس بأنها مدنية ما عدا قول الله وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا...إنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (البحر المحيط).فالباحثون عامة يعتبرونها مكية ويبدو أن البعض اعتبرها مدنية لوجود آيات فيها نزلت بالمدينة.واعلم أنه لا يوجد ضمن هذه الآراء أي قول لأي من أكابر الصحابة إلا علي الذي يراها مكية.فثبت أنها مكية كما تشير إلى ذلك مواضيع السورة نفسها.مع العلم أن شهادة ابن عباس لا ترقى إلى مستوى شهادة علي رضوان الله لأن ابن عباس كان طفلاً في حياة النبي.الترابط : : وعلاقة سورة الرعد بالسور التي قبلها هي أن الله تعالى قد بين في سورة أنه يهدي الناس بطريقين: العقاب والرحمة وركز في سورة الرعد على بيان موضوع العقاب.ثم في سورة يوسف ألقى القرآن الضوء على موضوع الرحمة.أما في هذه السورة فقد بين كيف سيحقق للنبي الرقي الذي نبأ به في السور الثلاث عليهم، يونس

Page 517

الجزء الثالث 01.سورة الرعد الماضية، وما هى التدابير التي سيتخذها الله تعالى لجعل دينه غالبا على الأمم الأخرى بما فيها قومه ملخص محتواها : إن الله تعالى يتخذ تدابير غير مرئية لإنجاز ما يريد لا يفطن لها الإنسان إلا عند ظهور نتائجها ترون أن الأرض واحدة والماء واحد فيما يبدو- ولكن الله يأتي بثمار مختلفة الألوان والأذواق باتخاذ تدابير غير مرئية.فلا تتعجبوا من نجاح هذا الرسول قائلين: كيف يمكن أن ينجح هذا الشخص وهو عديم الوسائل لتحقيق ما يقصده؟ ولا تستغربوا من بعثته، بل الحق أنه لو لم يبعث بما جاءكم به لكان أدعى للعجب والاستغراب.ثم بين الطريق التي تتم بها غلبة النبي وهلاك الكفار، حيث أخبر أنه تعالى سيترع حمايته عن علية القوم وكبرائهم، وسيُذهب ريحهم وسيُدخل أولادهم في الإسلام.ذلك أن النواميس الطبيعية تابعة لله تعالى، وسوف يسخّرها في تأييد رسوله الكريم ، أما آلهتهم التي يعبدونها فهي لا تملك أي سلطة ولا قوة في الحقيقة لذا لن تنصرهم شيئًا.لقد زود الله تعالى هذا النبي بالقوى الروحانية التي يستطيع بها التغلب عليهم رغم كونه وحيدا فريدًا؛ شأن الرجل البصير الذي يتغلب على مائة ضرير.إن تعاليمهم الوثنية لا تقوى على الصمود أمام تعليم التوحيد الذي أتى به نبينا.وكما أن الأحمق ينخدع بالزبد المتكون على مياه الفيضان أو الذي يطفو على الذهب والفضة عند غليانهما، فيظن خطأ أن الزبد هو كل شيء، ولا يهتم بما تحته من ماء أو ذهب، كذلك لا ينظر أعداء النبي لا إلا إلى الزبد، فرحين به، غير مكترثين بحقيقة ما تحته، مع أن الزبد ذاهب ضائع لا محالة ولا يبقى إلا الماء أو الذهب.كذلك لن تبقى عقائدهم السطحية الفاسدة إلى أمد طويل، وإنما سيكتب الخلود لما أتى به نبينا من تعليم حقيقي مفيد نافع، لأن تعليمه يتلاءم مع الفطرة الإنسانية، وسوف تقبله الطبائع تدريجيًا عندما تجد فيه انسجاماً وتلاؤمًا، وعندما ترى الفارق الشاسع بين العاملين بتعليمه وبين الرافضين له.

Page 518

الجزء الثالث ۵۱۱ سورة الرعد كما قد أخبر تعالى في هذه السورة أنه سوف يُري العالم معجزات عظيمة بواسطة القرآن الكريم ويغزو بها القلوب.وستكون هذه الآيات ظاهرة وباطنة أيضا.ومن الآيات الظاهرة أن أهل مكة سوف يطردون محمدًا من وطنه، فيتفاقم الأمر حتى يُشهروا السيوف ضده، فتقع في البداية اشتباكات صغيرة، لتتم لمحمد الغلبة تدريجيا، وسوف تنتهي هذه الحروب بفتح مكة على يده في آخر المطاف.هذه وجميع المعجزات ستتم بحول الله وقدرته عل وليس بقوة محمد رسول الله ﷺ.سوف يظهر الله تعالى صدق نبيه ويقيم دينه الحق بهجمات قوية، ومن أجل ذلك سميت السورة بالرعد، وكأن هذه التسمية إشارة إلى أن السحاب الروحاني المثقل بالأمطار كان في انتظار هذا الرعد فقط، لكي يهطل غزيرا على الأرض الجدباء.بدلاً لقد طعن القسيس "ويري" في هذه السورة قائلاً إنها مليئة باعتذارات متكررة من محمد على عدم قدرته على إظهار المعجزات، فكان الأجدر أن تسمى سورة (المعاذير) من (الرعد).(تفسير ويري).وأقول ردًّا على قوله : إنه قول باطل لأن السورة تحتوي على شتى الأنباء الإنذارية، بحيث كانت تسميتها بالرعد أمرًا منطقيًا وطبيعيًا للغاية.في سورة يونس جاء في وصف "الكتاب" بأنه "الحكيم" ، وفي سورة هود قال إنه قد فصلت آياته"، وفي سورة يوسف وصفه بأنه "مبين" ، وأما هنا في سورة الرعد فقد ذكر مجرد "الكتاب" دون ذكر أية صفة له.ذلك أنه تعالى قد جمع في سورة يونس بين الإنذار والتبشير، مبينا أن "الحكيم" يعامل الناس بما يتلاءم مع الموقف.أما في سورة هود فقد ركز الله على بيان سنته في العقاب ولذلك وصف الكتاب بأنه فصلت آياته، لأن التفصيل يشير إلى الفصل والتشتيت والتشريد.وأما في سورة سف فقد ركز سبحانه فيها على أمرين: الأول: بيان الحكمة لتأخر غلبة الأنبياء، والثاني: التركيز على موضوع العفو والصلح، ولذلك وصف الكتاب بكلمة "مبين" التي تشير إلى موضوع بيان الأسباب والأعذار.أما سورة الرعد فإنها تبحث في يو

Page 519

الجزء الثالث ۵۱۲ سورة الرعد الوسائل التي سوف تتخذ لتحقيق الهدف، ولذلك ذكر فيها الكتاب دون أي وصف وقد ذكر الكتاب هنا معرفًا بـ"ال" إما ليبيّن أنه الكتاب الكامل، أو فيه إشارة إلى السور الثلاث الماضية بأن الصفات المذكورة فيها سوف تنكشف في هذه السورة الآن بصورة كاملة.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تلْكَ آيَاتُ الْكتاب والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِن أكثر الناس لا يُؤْمِنُونَ ) شرح الكلمات : تلك آيات الكتاب : راجع الآية رقم٢ من سورة يونس).رَبِّ: (راجع الآية رقم٤ من سورة يونس).: التفسير قوله تعالى المر: لقد استهلت السور الثلاث السابقة بمقطع الر، وأما هذه فابتدأت بمقطع المر أي بزيادة "ميم" على المقطع السابق، وفي ذلك إشارة إلى أن موضوع هذه السورة يختلف بعض الشيء عن موضوع السور السالفة.وقد سبق أن ذكرنا في مستهل سورة يونس عند تفسير المقطعات القرآنية أن م تنوب عن (أعلم)، فالمراد من المر أنا الله أعلم وأرى، وكأن إضافة "م" إلى "ر" إشارة إلى أن موضوع هذه السورة يدور حول العلم والرؤية الإلهيين.واعلم أن الرؤية بالنسبة للإنسان تعني إدراكه بواسطة حاسة النظر لون الشيء وطوله وعرضه.أما العلم فهو أوسع معنى من الرؤية، فإنه يعني معرفته بما يمكن إدراكه بالعين وغيرها من الحواس من شم أو سمع أو لمس.وهنا ينشأ سؤال : ما هو المراد إذن من رؤية الله وعلمه؟ الجواب: إن الله يعلم كل

Page 520

الجزء الثالث ۵۱۳ سورة الرعد شيء دونما حاجة إلى العين أو غيرها من الحواس البشرية، وسواء عنده ما يُدرك بالعين أو بالحواس الأخرى.وإنما ترد هذه الكلمات في حق الله على سبيل المجاز، تقريبا للمعنى ودلالة على البون الشاسع بين الله وبين الإنسان فيما يتعلق بهذه القدرات.والمراد أن الله تعالى أكثر إدراكًا من الإنسان لما يراه الإنسان بالبصر، وأعلم منه أيضًا بما يدركه الإنسان بالحواس الأخرى سواء كانت هذه المدركات حسية أو باطنية.أما قوله تعالى تلْكَ آيَاتُ الْكتاب فمعناه أن ما نزل في هذه السورة أو في القرآن من آيات هو من ضمن الكتاب الموعود الذي لم تزل تنتظره عقول العالم كله، أو أنها جزء من ذلك الكتاب الكامل الذي قد سبق التنبؤ عنه منذ زمن سابق.وما دام الأمر هكذا فلن تستطيعوا معارضته ومقاومته.وهل يعقل أن يهمل الله اليوم ما أنبأ به على لسان أنبيائه على مر العصور، أو هل يمكن أن تصمد ادعاءاتهم إزاء كمالات هذا الكتاب ومحاسنه.ويعني قوله تعالى ﴿وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ أي أن ما ينبئ به هذا الكتاب لواقع لا محالة، ولن تقدر قوة على الحيلولة دون وقوعه.وتعني أن هو الآية ككل، أن الإنسان يصبو دائما إلى المعرفة الصحيحة، ولكن المؤسف هؤلاء القوم عندما جاءهم الكتاب الذي يسمو عن كل شك وشبهة، أعرضوا عنه، مؤثرين الشكوك على اليقين.اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيات لعلكم بلقاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) لَعَلَّكُم

Page 521

الجزء الثالث شرح الكلمات ٥١٤ سورة الرعد عمد العماد ما يُسنَدُ به جمعهُ عُمُدٌ وعَمَدٌ.والعماد: الأبنية الرفيعة (الأقرب).: سخَّرَ : سخره : كلّفه عملاً بلا أجرة؛ ذلله.وكل مقهور لا يملك لنفسه ما يخلّصه من القهر فذلك مسحر (الأقرب).يرفع: (راجع الآية ١٠١ من سورة يوسف) السماوات واستوى والعرش ويدبر (راجع الآية ٤ من يونس) الأجل: ( راجع الآية ١٢ من سورة يونس) يفصل: (راجع الآية ٣٨ من سورة يونس) التفسير : يمكن تفسير الآية بمفهومين أن الله رفع السماوات بغير عمد كما ترون، أو أنه تعالى رفعها بدون أعمدة تستطيعون رؤيتها، أي أنها مرفوعة بأعمدة ولكنكم لا تستطيعون رؤية هذه الأعمدة وكلا المعنيين صحيحان، ذلك أننا لو أخذنا كلمة العمود بالعُرف العام أي ما تُرفع عليه الأشياء الأخرى، فلا نجد هناك مثل هذه الأعمدة المادية للسماوات وأما لو أخذنا العمود بالمعنى المجازي بدليل أن ما ترتكز عليه الأشياء الأخرى هو عمودها مجازا، فنجد الأجرام السماوية قائمة على أعمدة غير مرئية وملموسة مثل قوة الجاذبية أو الحركات المحددة للأجرام وغيرها من الأسباب الأخرى مما اكتشفها علماء الطبيعة أو لم يكتشفوها بعد.وهو والآية تبطل زعما من مزاعم الكفار، إذ كانوا يقولون كيف ينجح محمد في مرامه لا يملك من أسباب الغلبة والانتصار شيئًا.ولقد سبق أن دحض الله هذه الشبهة في الآية السالفة عندما وصف القرآن بكونه حقًا أي ما يتحقق ويتوطد حتما، والآن ساق على بطلانها دليلاً آخر فقال: لا شك أن الأشياء تقوم على ركائز ملائمة، لكن ليس ضروريًا أن تكون هذه الركائز كلها من نوع واحد لا شك أن الإنسان لا يستطيع ولا يقدر على رفع شيء إلا بأعمدة مادية حتى إن السقف البسيط لا يرتفع بدون جدران أو أعمدة، ولكن الله بديع في خلقه، فانظروا

Page 522

الجزء الثالث ٥١٥ سورة الرعد كيف رفع هذه الأجرام السماوية الهائلة الثقل والضخامة بدون ما يمكن تسميته عمودًا بالمعنى المتعارف عليه، أو بدون أعمدة مرئية ومع ذلك فإن الأجرام لا تزال قائمة ثابتة في أماكنها المحددة دون أن يحدث في نظامها خلل أو فتور رغم مرور أزمان سحيقة عليها.فثبت أن هناك بونا شاسعًا بين ما يفعله الإنسان وبين ما يفعله الله.فيجب أن تساعدكم هذه الأمور الظاهرة على قياس الأمور الروحانية.لا جرم أن الإنسان بحاجة إلى الأسباب المادية إذا أراد الغلبة على أحد، ولكن الله تعالى إذا أراد أن يجعل نبيه غالبًا على أعدائه فلا حاجة له إلى أسباب مادية مرئية، بل يحقق الغلبة بتدابير دقيقة وأسباب غير مرئية.ولكن الناس لا يصدقون هذه الحقيقة إلا بعد ظهور النتائج، وأما قبلها فلا ينفكون يعتبرون انتصار نبي الله ضربا من المستحيل.إن الأسباب التي يرى الكفار ضرورة توفرها لدى النبي ﷺ ضمانًا لنجاحه، مذكورة في سورة الإسراء كالتالي: 1) أن يكون عنده ينابيع الماء ليستقي منها الناس والأنعام.أن تكون عنده ضيعات فيها حدائق وبساتين وأن يحفر خلالها أنهارا لعمرانها.أن يُهلك أعداءه في لمح البصر.(٤ أن يأتي الله والملائكة لنصرته على الأعداء.ه أن يملك ثروات هائلة.(7 (٦) أن يملك قوة خارقة حتى يرتقي إلى السماء أمام القوم، ويتزل منها بكتاب مسطور يلمسونه بأيديهم ويقرءونه، أي عليه أن لا يدّعي فقط بأن الله قد أمره بهذا شفويا، بل يجب أن يأتي برسالة مكتوبة منه يقرأها القوم.(الآيات ٨٩ إلى ٩٤).يتضح مما سلف أن هذه الأسباب التي يطالبون بتوفّرها عند الرسول ﷺ هي من نوعين: أسباب مادية كالأرض والأموال والثروات والمياه وسلطة الجزاء والعقاب؛ وأسباب روحانية أي أمور خارقة للنواميس الطبيعية كظهور الله والملائكة لنصرته، وصعوده إلى السماء ليتزل منها بكتاب مسطور وكانوا يجدون النبي ﷺ محروما من

Page 523

سورة الرعد الجزء الثالث هذه القوى والأسباب بنوعيها.فكانوا يظنون أنه ليس بحوزته ما يملكه الملوك، كما ليس عنده ما يجب توفّره عند النبي، ولذلك كانوا يعتقدون أن هذا يحاول رفع البناء بدون عمد وسند فلن ينجح في هدفه.ورب سائل يسأل: لم يكن في دعوى النبي ما يثير عجبهم، فقد كان التاريخ ولا يزال يقدم لنا أمثلة كثيرة لأناس خاملي الذكر محرومين من الوسائل المؤدية إلى سُدّة الحكم، ولكنهم صاروا ملوكًا وحكامًا.خذوا مثلاً : الملك الأفغاني "نادر شاه" والحاكم الفرنسي نابليون بونابارت" في التاريخ الحديث.والجواب: لا شك في وجود هذه الأمثلة في العالم من حين لآخر، ولكن الحقيقة أن هؤلاء كانوا يملكون القدرات والوسائل منذ البداية ولكن الناس لم يأبهوا بهم في بداية أمرهم، وعندما وصل هؤلاء إلى سُدّة الحكم تنبهوا وتعجبوا منهم ومن قدراتهم.وعلاوة على ذلك، فهناك فارق بين بينهم وبين النبي..فهؤلاء إنما أعلنوا عن ملكهم وغلبتهم بعد أن وصلوا إلى الحكم، دون أن يعلنوا في بداية أمرهم بأنهم سيصبحون ملوكًا، بل حتى لم يفكروا في ذلك، فلم يكن هناك عندئذ داع يثير استغراب القوم منهم.ولكننا نجد رسول الله يعلن عن انتصاره سلفا وقبل أوانه، وكان هذا شيئا عجيبًا ومحيرا للعرب.وهناك فارق آخر أكبر وهو أن الذين يصبحون ملوكا بعد أن كانوا خاملي الذكر يلجئون إلى اتخاذ تدابير ملائمة للوصول إلى سُدّة الملك.فمثلاً عندما أراد "نادر شاه" الأفغاني انتزاع الملك من الحاكم، جمع حوله بعض الجنود في البداية، ثم بدأ في قطع الطرق، ثم هزم أمراء المناطق المجاورة له، ثم الأمراء الكبار، حتى انتزع الحكم من الملك نفسه.وهذا ما فعله "نابليون بونابارت"، فإنه حينما رأى حركة أو ثورة خفيفة وصل إليها بسرعة البرق، واستغلها لصالحه، وهكذا زرع الرعب في قلوب رجال الحكومة، وكسب ولاء الجنود له ضدها.هذا هو القاسم المشترك الذي نجده في حياة جميع أولئك الذين وصلوا إلى الحكم

Page 524

الجزء الثالث ۵۱۷ سورة الرعد بعد الخمول، سواء جاءوا قبل النبي الله أو بعده، ولذلك نجد أهل مكة عندما سمعوا هي دعوى النبي بالانتصار والغلبة، شرعوا يتساءلون: ما الأسباب التي يتخذها لكسب أنه كان يحول بصحبته الصالحة الأجلاف القساة ه منه هو الغلبة؟ كل ما رأوه القلوب أناسًا طيبين ذوي قلوب رحيمة وطبائع مسكينة، وبدلاً من أن يعلم أتباعه بث الرعب في قلوب الأعداء بالعدوان عليهم، كان يأمرهم بتحمل أذى المعتدي في صبر وصمت وبالعفو عنه ابتغاء وجه الله.وصاحب مثل هذا التعليم لا يمكن أن يصل إلى الحكم - في رأيهم بل يسد في وجهه أي باب يمكن أن يؤدي إلى سدة الحكم.وكان الله العليم بذات الصدور مطلعا على ما يدور بخلدهم من مثل هذه الأفكار والتساؤلات التي كانوا لا يتفوهون بها علنًا.فرد الله عليهم قائلاً: إن نبينا هذا لا يدعي برفع بناء مادي وإنما يُعلن عن رفع سماء روحانية.ثم اعلموا أن المباني المادية التي ترفعونها بالأعمدة تنهدم في آخر الأمر، ولكن السماء المرفوعة بدون عمد قائمة كما منذ ملايين السنين.هكذا سيتم أمر محمد، فقد جعلنا لقيام أمره أسبابًا خافية عن أنظاركم كأعمدة السماء؛ بعضُها يكمن في التعليم الذي جاء به، وبعضها يتمثل في عصمة الله له فأمره أسمى من أن يعتمد على الأسباب المادية الظاهرة، بل هو قائم على ما هو خارج عن نطاق قدرة البشر ، أي على الأسباب السماوية.ولا غرابة في أمره، لأن ما ضربناه من مثال للأجرام الفلكية يشكل برهانًا على أن الصفات الإلهية إنما تتجلى على هذا المنوال، هكذا ينصر الله أنبياءه بأسباب غير مرئية.هي وقوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يعني أن الله كما رفع الأجرام السماوية في العالم المادي أولاً، ثم بدأ يتجلى بصفاته بشكل كامل، كذلك سيفعل الآن في العالم الروحاني، وسيكمل بواسطة نبيه محمد الله السماء الروحانية لكي تتجلى على الناس صفاته تجليا ظاهرًا ويعطى الإنسانية هديًا كاملاً.مع العلم أن العرش مصطلح قرآني يعني به تكميل النواميس الطبيعية ،والروحانية وقد استُعير هذا المصطلح من العالم المادي، حيث إن الملوك عندما يريدون الإعلان عن قرار هام يعلنونه من على العرش.

Page 525

الجزء الثالث ۵۱۸ سورة الرعد ونظرا إلى هذه العادة الشائعة فقد استخدم القرآن كلمة ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى التجلي الكامل لصفات الله تعالى.أما السؤال عن ماهية العرش فجوابه مبدئيًا ما ذكره الإمام الراغب لدى شرح هذه الكلمة في مفرداته حيث قال: "وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، وليس كما تذهب إليه أوهام العامة.فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له تعالى لا محمولاً، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْده." (المفردات).الواقع أن العرش لغة تعني: السقف، سواء كان عريشا أو مظلة يُستظل بها، أو سريرا مرفوعًا من فوق الأرض بقوائم يُجلس عليه كما يُكنى بالعرش عن الكرامة والملك والغلبة وقوام الأمر (التاج).وهذه المعاني أيضًا مستقاة من السقف، لأنه كان عادة كبار القوم في القديم أن يجلسوا تحت المظلات أو العرائش أو على السُرر المرفوعة.وقد وردت كلمة "العرش" بمعنى السقف في القرآن في قوله: ﴿وَهِيَ حَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوهَا ﴾ (البقرة : ٢٦٠).أي كانت سقوف البيوت قد تهدمت فسقطت عليها الجدران.كما وردت بمعنى سرير الملك في قوله تعالى ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ (يوسف: ۱۰۱).وقد ورد أيضًا بهذا المعنى أربع مرات في سورة النمل عند الحديث عن ملكة سبأ.كما وردت الكلمة بمعناها الخاص بـ "العرش الإلهي" ٢١ مرةً في القرآن الكريم.(راجع لمزيد من التفصيل تفسير الآية رقم ٤ من سورة يونس).وذكر صاحب روح المعاني قول البعض - بدون ذكر الاسم بأن قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إنما هو استعارة للحكم والتدبير، بدليل قوله تعالى في سورة يونس يُدَبِّرُ الأَمْرَ.فهو يرى أن قوله تعالى (يُدَبِّرُ الأَمْرَ تفسير لقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.

Page 526

الجزء الثالث ۵۱۹ سورة الرعد وقد نقل بعض المفسرين الجدد هذا المعنى عن الأسلاف ولكنه معنى خاطئ، لأنه قد ذكر "العرش" في القرآن الكريم والحديث الشريف بكثرة وتواتر بحيث يستحيل أن نظن أن العرش لا يعني إلا الاستعارة عن " الحكم والتدبير" فقط لا غير.فلنرجع مرة أخرى إلى قوله تعالى في سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ لنجد أن قوله.يُدَبِّرُ الأَمْرَ يمكن اعتباره حالاً لقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ بمعنى أن الله استوى على العرش مدبرا نظام الكون كله، أو يمكن أن نعتبره خبرًا ثانيًا لقوله إنَّ ربَّكُمُ...بمعنى أن ربكم الله الذي خلق الكون واستوى على العرش يدبر الكون.أما هنا في سورة الرعد فنجد فاصلاً كبيرًا بين قوله تعالى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وبين قوله تعالى يُدَبِّرُ الأَمْرَ فلا يمكن اعتبار قوله يُدَبِّرُ الأَمْرَ) تفسيرًا للاستواء على العرش.وباختصار، فليس المراد من قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أن العرش مادي أو أنه لا وجود له، أو أنه استعارة عن الحكم والتدبير فقط.كلا، بل العرش اسم للنظام المركزي التابع لصفات الله التنزيهية التي تكون الصفات التشبيهية بمثابة حامل لها أو كأعمدة لها بتعبير آخر.وقد ذكر سبحانه وتعالى استواءه على العرش بعد الحديث عن رفع السماوات ليشير إلى أنه لا حينما يخلق سماءً وأرضا روحانيتين جديدتين تتجلى صفاته تجليا كاملاً، فلا يتجلى بصفة واحدة بل يسخر كل صفة من صفاته التشبيهية التابعة لنظام الصفات التتريهية ،المركزي، وكأنه تعالى يُترل حينئذ بركاته الخاصة من مركز صفاته التنزيهية لكي تظهر جميع الصفات التشبيهية التابعة ظهورا كاملاً، شأن الملك الذي يصدر أوامره الهامة جالسًا على عرشه.لقد أشار الله ل بقوله هذا إلى أنه لا يسخر لتأييد رسوله صفة واحدة فحسب، بل يسخر جميع صفاته التشبيهية..أي التي يتحلى بها على العباد.

Page 527

الجزء الثالث ۵۲۰ سورة الرعد ثم قال انظروا كيف أن الله تعالى إلى جانب رفعه السماوات والأرض- سخر الشمس والقمر لخدمتكم دونما أجر.إن أجراءكم الذين تستعينون بهم نظير أجر قد يشتكون منكم ويترددون في خدمتكم، ولكن هذه الأجرام لا تزال منذ عصور سحيقة تقدم لكم خدماتها دون أن تروا أي عامل من الخوف أو الرجاء يضبط هذه الأجرام، اللهم إلا القانون الإلهي.فما الغرابة في أن يسخر الله نفس هذا القانون من أجل نصرة رسوله محمد ﷺ ليسخر كل شيء لتأييده.أما قوله تعالى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بلقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فيعني أنكم كما تجدون للكون نظامًا محكما عظيمًا يدار بدون أعمدة مرئية لكم، كذلك سوف يدبر الله تعالى أمر رسوله محمد م.و لا فيُرى آيات بينات لنصرته وسيصدر للكون كله الأوامر الصريحة لتأييد ،رسوله فتعمل كل ذرة في الكون على نصرته حتى تنالوا الإيمان اليقيني.وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤) شرح الكلمات : مد: مدَّه : بَسَطَهُ.مَدَّ المديون أمهله.مدَّ الله عمره : أطاله.ومدَّ الشيء: جذبه.ومد القوم: صار لهم مددًا وأغاثهم بنفسه.وفي اللسان: مَدَدْتُ الأرض مدَّا، إذا زدت فيها ترابًا أو سمادًا من غيرها، فيكون أعمرَ لها وأكثر ريعًا لزرعها (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى ﴿ مَدَّ الأَرْضَ :

Page 528

الجزء الثالث ۵۲۱ سورة الرعد 1) (۱) أن الله هو الذي بسط الأرض ووسعها.(۲ أن الله هو الذي زوّد قشرة الأرض بالتراب والسماد لتكون أكثر عمرانا وثماراً.وهذا ثابت بالبحوث الحديثة التي تخبرنا أنه لا تزال تقــع عــلى الأرض ذرات دقيقة للغاية من الكواكب الأخرى مما يساعد الأرض على الإنبات.(۳) أن الله هو الذي أغاث أهلها بنعم لا تقدر ولا تحصى كيلا ينقرضوا.3) رواسي: الرواسي: الجبالُ الثوابت الرواسخ (الأقرب).التفسير: لقد أشار الله تعالى بقوله مَدَّ الأَرْضَ بعد قوله رَفَعَ السَّمَاوَات إلى أن السماء والأرض تتعاملان وتتفاعلان.فكما أن تفاعلهما كزوجين يؤدي إلى الإنتاج، كذلك فإن جميع الأمور في العالم المادي إنما تتم بتفاعل قوي بين السماء والأرض.وهذا هو بالضبط حال العالم الروحاني، فهو أيضًا بحاجة إلى السماء أي إلى ماء الوحي الذي ينزل من السماء، وإلى الأرض أي الطبائع الجاهزة لقبول الماء السماوي.وكما أن الأرض الصالحة لا تلبث أن تخرج نباتها وثمارها بعد التفاعل مع ماء السماء، كذلك هو حال هذه الطبائع الجاهزة، فهي بمثابة الأرض إزاء السماء الروحانية، ولا تستطيع كتمان خزائنها بعد التفاعل مع ماء الوحي السماوي، بل لا تلبث أن تنجذب إلى نبي الله انجذاب قطعة الحديد إلى المغناطيس.فلا تتعجبوا من انتشار دعوة النبي محمد ﷺ، بل يجب أن تعجبوا إذا لم تنتشر، إذ كيف يمكن لأرض صالحة أن لا تُخرج نباتها رغم نزول المطر عليها.ثم قال وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا.أي لقد جعلنا في الأرض جبالاً لندخر فيها الماء على شكل جليد، لتزود العالم بالماء دون انقطاع على شكل ينابيع وأنهار.ولو نفذت هذه الذخيرة الجليدية لجفّت العيون والأنهار وأصبحت الأرض قاحلة جرداء.وهذه هي حالة العالم الروحاني، فإن فيه أيضًا شخصيات عظامًا هي بمثابة الجبال إذ تدخر كلام الله تعالى.وهناك شخصيات أخرى لا تدخر كلام الله، ولكنها تنفع به

Page 529

الجزء الثالث ۵۲۲ سورة الرعد الآخرين.وفئة أخرى تكون كالأرض، فترى أهلها من المنتفعين فقط.أما الجبال فهم الأنبياء، وأما الأنهار فهم العلماء، وأما الأرض فهم عامة الناس.ولولا هذه الرواسي الروحانية لحقت الينابيع الروحانية وهلكت الدنيا.ثم قال وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي جعل في الأرض من كل ثمرة زوجين الذكر والأنثى.لقد ذكر هنا الثمار فقط، ولكنه قد أكد في أماكن أخرى من القرآن أنه تعالى قد جعل من كل شيء.زوجين.وهذه حقيقة ينفرد القرآن بذكرها عن جميع الديانات.لقد عرف العرب قبل نزول القرآن أن أشجار النخل زوجان الذكر والأنثى، ولكنهم لم يعرفوا أكثر من هذا وكانت عقول العالم حينئذ عاجزة عن فهم هذه الحقيقة القرآنية.ولكن بعد مرور ۱۳ قرنًا على نزولها في القرآن أكدتها العلوم الحديثة اليوم، حيث امتزج الله توصل العلماء في بحوثهم إلى أن كل شيء حتى ذرات الجمادات زوجان الذكر والأنثى.وقد ضرب الله هذا المثال ليبين أنه كما خلق كل شيء زوجين، كذلك جعل للعقل الإنساني زوجًا هو الوحي.فما لم يترل عليه نور من وحي لن يتيسر له المعرفة الحقيقة التي هي نتاج تفاعل العقل والوحي.كما يؤكد بذلك أيضا أنه إذا العقل السليم وماء الوحي السماوي فلا تستطيع قوة من القوى منعهما من إنتاج الثمار.وكما أنه كان من المستحيل أن تتيسر للناس معرفة الله حقا بدون ما نزل على محمد ﷺ من وحي سماوي، كذلك من المحال أن تمتنع العقول السليمة عن قبول تعليمه إذا ما عُرض عليها عرضا سليمًا صحيحًا.وساق في قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ دليلاً آخر على انتشار رسالة القرآن الكريم، فقال: لا يخدعن أحد بما يخيم حول محمد من ظلام حالك فيستبعد انتشار تعليمه.فكما أنكم تجدون الآن الظلمات السائدة في العالم الروحاني، كذلك تكون الحال في العالم المادي أيضًا، ولكن الله يأتي بالنهار من الليل المظلم نفسه.فلو كانت ظاهرة الظلمات الروحانية ظاهرة حرة أي خارجة عن نطاق النواميس الإلهية لتعذر إزالتها،

Page 530

الجزء الثالث سورة الرعد ولكنها تابعة خاضعة لأمر الله تعالى، وتأتي وفق القوانين الإلهية وبقضاء إلهي.ألا ترون أن شعاعًا واحدا من الشمس يهتك حجب السحاب الداكن الظلام.كذلك سيحدث الآن، إذ إنّ الله تعالى لا يملك السلطان على النور وحده بل على الظلام أيضًا، فلو شاء إزالة الظلمة فسوف تزول لا محالة.إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي أن الذين يعملون الفكر يستطيعون الانتفاع من هذه الأمثلة، بل إنهم ينتفعون فعلاً، أما الذين يأبون إلا أن يصبحوا حطب جهنم فليس لهم إلا الحرمان الأبدي دون ريب.وَفِي الْأَرْضِ قِطَعْ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانِ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ () شرح الكلمات: قطع: جمع قطعة، والقطعة: الحصة من الشيء (الأقرب).متجاورات تجاور القومُ: جاور بعضهم بعضًا (الأقرب).صنوان: الصنو: الأخ الشقيق؛ الابنُ؛ العَمُّ.وإذا خرج نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو وصُنْو والاثنان صنوان وصنيان والجمعُ صنوان.وقيل الصنو عام في كل فرعين يخرجان من أصل واحد في النخل وغيره (الأقرب).الأكل : الثمر؛ الرزق الواسع (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى: لا تقولوا ما وجه تفضيل محمد علينا، فهو أحد أحفاد عبد المطلب! ألا ترون إلى الأرض كيف أن قطعها المتجاورة أيضا تتفاوت في قدراتها

Page 531

الجزء الثالث ٥٢٤ سورة الرعد على الخصب والإنتاج، فما تُنبته هذه القطعة من زرع أو شجر أو ثمر لا تقدر القطعة المجاورة لها على إنباته وما أكثر ما نجد هذه الظاهرة في بلاد "كشمير" حيث توجد حقول من الزعفران في قطع أرض معينة بينما لا تجده في الأراضي الأخرى لأنها لا تصلح لإنباته.ونفس المشهد يمكن أن تراه في منطقة "بارا" الواقعة في إقليم "سرحد" (بباکستان)، حيث تشتهر أراضيها بإنتاج نوع خاص من الأرز العالي الجودة، ولكن الأرز المزروع في الأراضي المجاورة لها ليس بنفس الجودة.وتلاحظ الظاهرة نفسها في الحيوانات، فإن "غزال المسك" مثلاً إذا تُرك ليرعى في منطقة معينة أنتج أجود أنواع المسك، أما إذا نُقل إلى منطقة غيرها فإما أن ينتج مسكًا رديئًا أو لا ينتجه أصلاً.فالله تعالى يلفت أنظار الكفار إلى هذه الظاهرة ويقول: ما دمتم تجدون هذا التفاوت حتى في قطع الأرض، فلماذا تستبعدون وجوده في الناس؟ ولماذا لا يستطيع الواحد منهم أن يصبح إنسانًا ربانيًا سماويًا بينما يبقى الآخر شخصاً أرضيا ماديا؟ وأشار القرآن بقوله تعالى يُسْقَى بمَاء واحد أن هذه الأشجار تتفاوت ثمارها لونا وطعما مع أنها تُسقى بماء واحد، ولكن أمركم أيها الكفار مختلف.فإن محمدا يشرب مما ينزل عليه من ماء الوحي السماوي، وأما أنتم فتشربون ما يقدمه لكم الشيطان من ماء ،كدر، لأنكم ترفضون سماع كلام السماء وتصغون إلى وساوس الشيطان.وقد يعني الله تعالى بقوله يُسْقَى بمَاء واحد أنه لا جرم أن محمدا كان منكم وعاش في نفس المحيط والظروف التي عشتم فيها، ولكن لا تستغربوا فضله عليكم، ألا ترون أن الأشجار من نوع واحد تُسقى من ماء واحد ومع ذلك تختلف ثمارها طعمًا وجودة.فلا تنظروا فقط إلى توحد الظروف والأسباب، بل انظروا أيضا إلى كيفية استغلال الإنسان لها.إن السيف إذا كان بيد الغمر الجاهل فلا جدوى منه ولا فائدة، ولكنه حليفُ فتح وظفر إذا ما استله البطل المحنك المجرب.لقد كان أبو بكر وعمر - الله عنهما - أيضًا من أهل مكة ولم يكن لأي منهما شأن يذكر قبل الإسلام رضي

Page 532

الجزء الثالث ٥٢٥ سورة الرعد أما بعد اتخاذهما محمد ا ل أبا روحيًا لهما اشتهر كل منهما كأحد أعظم العظماء في العالم، حيث أشاد بإنجازاتهما الأعداء قبل الأصدقاء ولا يزالون وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبْ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَثْنَا لَفِي خَلْقِ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأَوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ شرح الكلمات الله الأغلالُ: "الغُلّ: طوق من حديد أو قد ) أي (جلد) يُجعل في العنق أو في اليد، ومنه قيل للمرأة السيئة الخُلقِ غُلّ ،قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد عليه شعر فيقملُ في عنق الأسير فيؤذيه، فيكون الغُلّ القمل أنكى وجمعه أغلال وغلول.ويُقال: هذا غل في عنقك" (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى: لا تستغربوا إذا كتب الله النجاح لرسوله محمد ﷺ وأصلح الدنيا على يده، وإنما العجب أن لا يهتم بإصلاح الدنيا رغم فساد أهلها إلى هذه الدرجة، لأنه يتنافى مع النواميس الإلهية أن يخلق العين ولا يخلق النور الذي تبصر به وأن يخلق الأنثى ولا يخلق الذكر الذي يتسبب في ظهور قواها الكامنة.كما أنه مثير للغرابة أن يتزاوج الذكر والأنثى ولا ينجبا شيئًا.فلا تقولوا: كيف يمكن أن يتم إصلاح العالم على يد محمد ا لله وإنما العجب من تفكيركم الغبي ، أن تقولوا: كيف يمكن أن تنهض أمة بعد السقوط، وكيف نحيا بعد الممات! فإذا كان العون قد نزل من السماء وماء الحياة قد تيسر فلا غرابة في ذلك أبدا! ووضح بقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أن هذا اليأس المستولي على قلوبهم إنما

Page 533

الجزء الثالث ٥٢٦ سورة الرعد هو نتاج كفرهم ورفضهم.الواقع أنه لا غرابة في قنوط هؤلاء الذين يتبعون المبادئ الزائفة التي اخترعوها من عند أنفسهم، منحرفين عن الصراط الذي حدده الله لهم.وليس للقانط إلا الفشل في اته.مراميه والاحتراق في جحيم حسرا ومن المؤسف أن هذه هي حالة المسلمين اليوم، لأنهم يريدون معالجة مشاكلهم بغير ما وصفه الله لها من علاج.فبدلاً من أن يهتموا بنشر الإسلام وإصلاح أخلاقهم والابتهال والإنابة إلى الله، والاستسلام لأمره، يريدون علاج مصائبهم في إتباع الغرب في ثقافته ونظامه الاقتصادي من بنوك وربا وتأمين للحياة وغيرها.وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ شرح الكلمات المَثُلات: المثلةُ: العقوبة، يُقال: حلّت به المثلة.والمثلة: ما أصاب القرون الماضية من العذاب وهى عبر يُعتبر بها (الأقرب).التفسير أي عندما يقال لهم أن يتحرروا من أغلال التقاليد الفارغة، وينهضوا للرقي والتقدم مستغلين ما وهبهم الله من قدرات ووسائل، وإلا فإنهم سيصبحون كالغصن الجاف الذي لا مصير له إلا النار، يقولون: حسنًا، ائتنا بالنار التي تهددنا بها.وكأنهم عندما يُدعون إلى الخير يرفضون معرضين، وحينما يحذرون العذاب يطالبون به مستعجلين ولا يدركون أن العذاب يحل دائمًا عند بعثة الأنبياء، وهو قادم الآن لا محالة.فكان الأجدر بهم أن يسألوا الله فضله بإصلاح أنفسهم، بدلاً من من أن

Page 534

الجزء الثالث يطالبوا بالعذاب تعنتا وعنادًا.هذا فضل الله ۵۲۷ سورة الرعد الأغبياء هو بالضبط ما يحدث في زمن كل نبي، حيث لا يطلب أعداء النبي ورحمته، ولا يقولون: اللهم إن كان هذا حقًا فارزقنا طاعته، بل يقولون: اللهم إن كان هذا حقا فأمطر علينا عذابًا من السماء.وأما قوله تعالى ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فبين فيه حكمة عظيمة حيث قال: إننا لا نهدف من بعث الأنبياء لأن نهلك الناس وإنما لننقذهم.ألا ترون أن أهل الدنيا يرتكبون ظلمًا تلو الظلم، ولكنا لا نزال نعاملهم بالمغفرة، ولا نستعجل بالعذاب رغم استعجالهم به، لأن ذلك مناف لسنتنا في العذاب.نريد أن نشملكم بالمغفرة، فلذا نسير بحسب الخطة التي ستؤدي إلى نجاة أكبر عدد ممكن منكم.وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَاب أي يجب أن لا تنخدعوا وتسيئوا فهم سنتنا هذه، فتظنوا أنكم ناجون من العذاب.إنما تتاح لكم هذه الفرص لكي تصلحوا أنفسكم، أما إذا لم تصلحوها فسوف نعاقبكم لا محالة.وتذكروا أنه ليس أحد أشد منا عقابًا وعذابًا.واعلم أن قوله تعالى ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) لا يعني أن الله تعالى قاس في إنزال العذاب، بل المراد أن عذابه أشد إيلاما من عذاب الآخرين، فإنه يصيب بآلام ومعاناة تفوق احتمال البشر.كما أشار باستخدام كلمة "العقاب" إلى أنه سبحانه وتعالى لا يعذب دونما سبب، بل يكون عذابه نتيجةً حتميةً لأعمال الإنسان.لأن (العقاب) من (العقب) وهو مؤخر القدم، فالعقاب ما يأتي خلف الإنسان ويتعقبه من ورائه لا محالة، مثل الرضيع الذي يتبع أمه أينما اتجهت.

Page 535

الجزء الثالث ۵۲۸ سورة الرعد ایک کیلا وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ولكُلِّ قَوْم هَاد ) التفسير أي بالرغم من أننا قد أظهرنا الآيات مرارا وتكرارا، ووعدناهم بإنزالها مستقبلاً، إلا أن الكفار لا ينفكون يطلبون الآيات قائلين : كيف نؤمن ولم يُرنا الله أية وهم يعنون بالآية العذاب، لأنه لا معنى للآية عندهم إلا أن يهلكهم الله ويتضح من دراسة القرآن أن مطالبة الكفار بالآية تعني دائمًا نزول العذاب، إلا أن تكون هناك آية؟ قرينة صارفة عن هذا المعنى.ويرد الله على مطلبهم قائلاً: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ..أي أن هؤلاء الأغبياء لا يفكرون أن الله تعالى قد جعلك منذراً ، بل هذا هو اسمك الحقيقي إزاء من لا يصدقك.فلماذا لا يبرحون يسألوننا عن الأمر الذي قد سبق أن أوضحناه أيما إيضاح؟ عليهم أن يتذكروا أيضًا قولنا وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد..فإننا نهتم بهداية كل أمة.فلو جاءهم العذاب قبل أن يهدي هذا الرسول من يريد الهدى من بينهم لم يعد هو هاديًا لقومه فلينتظروا حتى يهتدي على يده الناس، وأما من يتبقى بعدهم فسوف يصبح لهم الرسول منذرًا.وهذا هو ما حدث تماما في حياة النبي ، فكان يهتدي على يده من القبائل والطوائف من كان الهدى من نصيبه.أما الباقون من كبرائهم الذين أصروا على كفرهم فقد هلكوا بالعذاب في آخر المطاف.ولم يزل الأمر هكذا إلى أن جاء الله بأمره الحاسم للموقف، فكتب لنبيه وأصحابه الغلبة الكاملة نهائيًا.اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلٌّ

Page 536

الجزء الثالث شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) شرح الكلمات ۵۲۹ سورة الرعد تَغِيضُ: غاضَ الماء غيضًا: نَقَصَ أو غارَ فذهب في الأرض، وفي الصحاح: قلَّ فنضَبَ.وغاضَ ثمن السلعة: نَقُص، ويُقال: غاضَ الماء والثمنُ.وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ : أي ما تنقص تسعة أشهر.الغيض: السقط الذي لم يتم خلقه (الأقرب).تزداد: من زادَ.يقال: ازددتُ مالاً وازداد الأمر صعوبة.وازداد الراهن دراهم من المرتهن أي أخذها زيادة على رأس المال.وهل تزداد"..أي هل تطلب زيادة على ما أعطيتك، يقوله المعطى للآخذ والزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر (الأقرب)." التفسير: لقد أعلن الله تعالى في الآيات السابقة عن تأييده لرسوله ، باتخاذ تدابير خفية إذ بين أنه خلق كل شيء في الكون زوجين، حتى إن السماء والأرض أيضًا زوجان، فإحداهما مؤثرة والأخرى متأثرة، وتحافظ تلك على حياة هذه بطرق غير مرئية.كذلك الحال في العالم الروحاني، حيث يكون بعض الناس بمثابة الذكر فيؤثرون، ويكون غيرهم بمثابة الأنثى فيتأثرون.وقد أخبر الآن في هذه الآية أنه بالفعل قد بعث وفق هذا القانون شخصاً هو بمثابة الذكر في الأمور الروحانية ولا يمكن لأحد إحراز أية درجة في العالم الروحاني بدون إنشاء العلاقة معه.فالمراد من قوله تعالى اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ أننا على علم بخفايا أعداء رسلنا، ونعرف ما في طبائعهم من ملكات خفية، وما إذا كانت تتأثر من تأثير روحاني أم بتأثير شيطاني، ومن الذي سيزدهر ومن الذي سيباد ويُهلك.وقد أشار القرآن بذلك إلى أن الذين سيقبلون دعوة النبي ﷺ سوف يزدادون ويباركون، وسوف تصقل قدراتهم وملكاتهم.وأما الذين سيقبلون تأثير الشيطان ضد النبي فسوف يهلك الله أولادهم وأتباعهم.

Page 537

الجزء الثالث ٥٣٠ سورة الرعد وقد يكون الحمل هنا بمعناه المعروف والمراد أننا نعلم ماذا ستفعل أجيالكم، فإن نساءكم لن يلدن إلا الذرية التي سوف تدين لمحمد رسول الله ، أما الحمل الآخر فيضيع.وهذا ما حدث فيما بعد، حيث إن الأجيال الجديدة للكفار من أهل مكة دخلت في حظيرة الإسلام بكثرة، ولم يستطع الآباء رغم اضطهادهم للأبناء أن يحولوا دون إسلامهم، وما كان لهم إلا أن يحترقوا حسدًا وحسرة على إسلامهم.لقد ساعد هذا التدبير السماوي كثيرًا على ازدهار دعوة النبي ، ولكن لم يستطع الكفار في بداية الأمر أن يتنبهوا إلى ذلك.عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالَ شرح الكلمات: الغيب: غابت الشمس وغيرها تغيب غيبًا إذا استترت عن العين.واستعمل الغيب في كل غائب عن الحاسة، ويُضادُّه الشهادة (المفردات).فلكل من الغيب والشهادة معنيان: الأول هو أن الشهادة ما يُظهره الإنسان وأن الغيب ما يُخفيه.والثاني: الشهادة ما تدركه الحواس الظاهرة والغيب ما كان أسمى من أن تحيطه المدارك الإنسانية.فقوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ تحذير للكفار بأننا نعلم كل مكر تمكرونه سواء كان ظاهراً أو خفيًا.ومن كان غافلاً عن مكر عدوه بينما يكون العدو مطلعًا على أسراره فإنه لا يقدر على مقاومته.فحذار ثم حذار.الكبير: ذو الكبر، والكبر الشرف الرفعة في الشرف؛ العظمة والتجبر (الأقرب).المتعال تعالى: ارتفع، والمتعال: رفيع الشأن.(الأقرب) والفرق بين الكبير والمتعال هو أن "الكبير" يدل على الرفعة التي يقصد بها المقارنة

Page 538

۵۳۱ الجزء الثالث سورة الرعد للتأثير في الآخرين، مثلما يفعل الشخص المصاب بالكبرياء، حيث يحاول أن يثبت بأنه أكبر من غيره.أما "المتعال" فتدل على الرفعة التي فيها معنى الاستغناء، أي أنه ل أرفع وأسمى من أن تُعقد المقارنة بينه وبين خلقه.بذكر هاتين الصفتين لقد أنذر الله تعالى الكفار بأنه لا وجه للمقارنة بين قدرتنا وبين ما تملكون من قوة.فلستم بشيء أمام قدرتنا.فأنا "الكبير" وسوف أحبط جهودكم وأخيب مكائدكم، سأسحقكم متى شئت وأنا المتعال الغني فلن ينقص هلاككم من ملكوتي شيئًا.التفسير: لقد بينت الآية سرًّا هاما للنجاح، إذ تخبرنا أنه لا بد أن نكون على علم بمكائد الأعداء للتغلب عليهم.فإن كنا مطلعين على خططهم استطعنا أن نتفادى أضرارهم، وإلا سنبقى مهددين بالخطر كل حين.ثم قال : عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة أي يا أيها الحمقى، ألا تفكرون، من الذي تريدون محاربته.هل تريدون أن تحاربوا الله الذي يعلم مكائدكم كلها، الظاهرة منها أو الخفية، والذي هو "الكبير" أي القادر على إحباط خططكم في لمح البصر.وهو "المتعال" أي أنكم لا تدرون بمكره وبما يخطط لإبادتكم.فكيف يمكن لكم محاربته؟ سَوَاءٍ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفِ بِاللَّيْلِ وَسَارِبُ بالنَّهَارِ ) شرح الكلمات: ۱۱ ساربٌ: سَرَبَ البعير سروبًا: تَوَجَّهَ للرغي.إبل ساربة: متوجهة للرعي.سرب جرى.وسرَبَ فلان في الأرض ذهب على وجهه فيها ومضى (الأقرب).

Page 539

الجزء الثالث ۵۳۲ سورة الرعد التفسير : كان الكفار يكيدون للنبي لا بنوعين من المكائد؛ علنية أو سرية.فإما أن هددوه على الملأ حتى يخاف ويرتدع، أو تشاوروا في الخفاء لاغتياله.تارة كانوا يهاجمونه نهارًا وجهارًا كاعتدائهم عليه في ذلك الحادث الذي ألقوا فيه على ظهره الكريم سلى الناقة وهو ساجد في صلاته بفناء الكعبة المشرفة ( البخاري، الوضوء)، أو في محاولتهم خنق النبي بردائه وتارةً أخرى كانوا يهاجمونه ليلاً كما فعلوا في ليلة الهجرة ( السيرة النبوية لابن هشام.فيذكرهم الله تعالى : إنكم لا تحاربون محمدًا، وإنما تحاربون الله، ولتعلموا أن ليس هناك شيء تُسرونه خافيا عليه تعالى، فلن تستطيعوا بمكائدكم العلنية أو السرية أن تضروا رسولي بشيء.لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَال ) شرح الكلمات : ۱۲ معقبات: عقبه جاء بعقبه؛ أتى بشيء بعده عقب فلان: غزا على العدو ثم ثنى من سنته.وعقب في الأمر: تردّدَ في طلبه محدًّا.عقبَ في الصلاة: صلى فمكث في موضعه ينتظر صلاة أخرى.عقب الحاكم على حكم سَلَفه: حكم بعد حكمه بغيره.المعقبات ملائكة الليل والنهار ؛ التسبيحات يخلفُ بعضها بعضا؛ (النوق) اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى (الأقرب).قوله تعالى لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْن يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفه أي ملائكة يتعاقبون

Page 540

الجزء الثالث ٥٣٣ سورة الرعد عليه حافظين له (المفردات).مَرَدٌ: رَدَّه عن وجهه: صرَفَهُ.ردَّ عليه الشيء: لم يقبله.ردّه إلى منزله: أرجعه (الأقرب).وال: وَلِيَ الشيء ولاية وولاية: ملك أمره وقام به.وولى فلانا وعليه : نَصَرَهُ.وولي فلانًا ولاية: أحبه (الأقرب).التفسير: أرى أن ضمير الغائب في قوله لَهُ مُعَقِّبَات..يعود على النبي.الله والمراد أن هناك ملائكة معقبات حول النبي تقوم بحراسته باستمرار بأمر من تعالى، كما يكون للملوك حراس للحماية.وهذا المعنى يتأكد من الحديث الشريف أيضًا، حيث رُوي أن عامر بن طفيل وأربد بن قيس قدما المدينة إلى النبي.فقال له عامر: أتجعل الأمر لي (أي الخلافة) بعد أن أسلمت؟ فرد عليه النبي ﷺ : ليس ذلك لك ولا لقومك.فقال: لأملأن البلاد عليك خيلاً ورجالا.فقال النبي : يمنعك الله تعالى.فرجعا غاضبين.فلما خرجا قال عامر يا أربد، إني سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدّية.فقال أربد : أفعلُ.فأقبلا راجعين.فقال عامر: يا أكلمك.فقام معهما إلى الخارج.فبينما هم في الحديث أراد عامر محمد، قم معي الواقف وراء النبي ﷺ أن يسل السيف لقتله ولكنه لم يستطع رفع يده.وورد في بعض الروايات أن يده كانت قد أُصيبت بالفالج، ولكنها تذكر أيضا أنه كان ركب فرسه عند العودة، مما يعني أنه لم تصب يده بالفالج بل ألقى الله في قلبه الرعب، فلم يجرؤ على الهجوم على النبي له بل وقف منبهرًا مبهوتًا.وتقول الرواية بعد ذلك أن النبي استدار ونظر إلى الخلف فوجد عامرًا واضعًا يده على مقبض السيف، فتنحى من مكانه إلى الوراء دون التعرض لهما.فرجعا خائبين خاسرين.وفي الطريق نزلت الصاعقة على أربد، بينما مات عامر نتيجة دمل كبير.يتضح من هذه الآية أن الصحابة رضوان الله عليهم أيضا أيضا يرون أن هذه الآية تتحدث عن عصمة النبي

Page 541

الجزء الثالث خاصة.٥٣٤ الله سورة الرعد الحق أن حياة النبي ﷺ ما بعد الدعوة كلّها شاهدة على العصمة الإلهية.فإن الملائكة هي التي كانت تحرس رسه في الفترة المكية، وإلا لما كان لينجو من الأعداء الذين حاصروه من كل صوب.أما بعد الهجرة إلى المدينة فقد تمتع فعلاً بالحماية بنوعيها: حماية ملائكة السماء وحماية ملائكة الأرض أي الصحابة رضي عنهم أجمعين.وإن معركة بدر أصدق مثال على هذه الحماية المزدوجة.لقد تعاهد النبي مع أهل المدينة قبل أن يهاجر إليهم، أنه لو حاربه العدو خارج المدينة فلن يكونوا ملزمين بالخروج معه.وقبل أن يخرج النبي لملاقاة العدو في وقعة بدر، استشار المهاجرين والأنصار.فكان المهاجرون يشيرون عليه بكل حماس بالخروج من المدينة، ولكنه لم يزل يقول : أشيروا عليّ أيها الناس.فتقدم المقداد بن الأسود الأنصاري وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل.فقال الأنصاري: يا رسول الله لا شك أننا اشترطنا عليك هذا، ولكنا كنا حين ذاك حديثي العهد بالإسلام.أما وقد شهدنا الآن واختبرنا أنك رسول الله حقًّا، فلا حاجة للاستشارة.والله لو أمرتنا أن نخوض بخيلنا البحر الخضناه والله إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكننا سنقاتل العدو عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك ولن يخلصوا إليك ما لم يطئوا جثثنا الهامدة (البخاري، المغازي، مسلم، الجهاد؛ السيرة لابن هشام، غزوة بدر).وكانت مقولته هذه أحب إلى الصحابة لدرجة أن قال أحدهم: لقد شهدت مع ثلاث عشرة غزوةً، ولأن أكون صاحب هذه الكلمة أَحَبُّ إلي مما فعلت النبي (البخاري، المغازي).* لقد نُسب القول نفسه في بعض المراجع إلى سعد معاذ بن و سعد بن عبادة.(الناشر)

Page 542

الجزء الثالث ٥٣٥ فأرى أن هؤلاء الصحابة الفدائيين الكرام رضي المعقبات الذين أمرهم الله و بحماية نبيه.الله سورة الرعد عنهم أيضا يندرجون ضمن وقوله تعالى يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ أي أنهم يقومون بحمايته بأمر من الله تعالى ابتغاء مرضاته، وليس تعصبًا لفئة أو لقريب؛ ولا خوفا من سلطان.إذ لاشيء يجمعهم على يد واحدة سوى الدين.لقد قال أحد الكفار للنبي عند صلح الحديبية: يا محمد أجمعت أوشاب الناس (أي أخلاطهم.وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك (السيرة لابن هشام ولكن هؤلاء أكدوا إخلاصهم ووفاءهم وفداءهم له رغم أنه لم تكن هناك صلة دنيوية تربطهم به.كما تعني الآية أيضًا أن الله تعالى قد عين حراسًا لكل إنسان يحمونه من شتى الأخطار.وفي هذه الصورة يكون ضمير الغائب في لَهُ مُعَقِّبَاتٌ عائدًا على (مَنْ) في قوله (سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ..الواقع أننا لو أمعنا النظر لأدركنا أن أنواع السموم تدخل أجسامنا في كل لحظة، فمثلاً عندما نتنفس تدخل فينا الجراثيم لأمراض مختلفة من أنفاس الآخرين.ولكن الله تعالى قد جعل في أجسامنا نظامًا يقضي على هذه السموم المتنوعة فور دخولها في الأجسام.ثم إن الإنسان مهدد في كل حين بأنواع الأخطار الأخرى من داء بدني أو صدمة نفسية أو خسارة مال أو هتك عرض وغيرها، وإنما الله الذي يحميه منها، وعندما يرفع عنه حمايته يقع في الأذى بل إنه يهلك حتمًا.وإن في هذا تحذيرًا للكفار بأنهم ينعمون بهذه الراحة بسبب حمايتنا، فإن هم أبوا إلا الإصرار على الشر والفساد فسوف نرفع عنهم حمايتنا فيهلكون.أما قوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَلا يعني أنه مع تعالى لا يعامل أهل السوء بالرحمة والشفقة، بل المراد أنه لا يغير معاملته الحسنة الأبرار، اللهم إلا أن يغيروا ما بهم ويصبحوا أشراراً.أي أن سنة الله تعالى أنه يعامل الشرير أيضا باللطف والرحمة رغم شره، ولكنه لا يعامل أهل الصلاح أبدًا إلا بالحسنى

Page 543

الجزء الثالث ٥٣٦ سورة الرعد إلى أن يتغيروا وينقلبوا أشرارًا فاسدين.حينما يتطرق الفساد إلى قوم ويتعرضون للمصائب التي تشتت شملهم وتهلكهم – كما تعنى كلمة التغيير في الحقيقة - فليعلموا أنهم قد غيروا ما بأنفسهم من صلاح وخير، وصاروا أشرارًا فاسدين.وقوله تعالى (وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالِ فاعلم أن السوء معناه الشر أو الأذى، وكلمة (وال) اسم فاعل من ولي الأمر أي ملكه، والمراد من الجملة أن الله تعالى إذا قرر معاقبة قومٍ فلا أحد يمنعه من ذلك، ولا أحد يستطيع حمايتهم ولا ينصرهم ضد قضاء الله تعالى.وقد ذكر هنا صفة الولاية ليؤكد كونه المالك الوحيد كأنه تعالى يقول: ما دمنا نحن الذين نملك كل شيء ونحفظ الجميع، فمن ذا الذي يحفظ شخصا رفعنا عنه حمايتنا.فمثل هذا الشخص سيبقى معرضا للشر والأذى.وقد صرّح بذلك أنه عمل سوف يقوم بحماية محمد ﷺ ولكنه سوف يرفع حمايته عن أعدائه المجرمين.هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ شرح الكلمات : ۱۳ يُنشى: أنشأه إنشاء: ربّاه.أنشأ الشيء: أحدثه.أنشأ الله الشيء: خلقه.أنشأ الله الخلق: ابتدأ خلقهم.أنشأ فلان الحديث: وضعه.أنشأ الله السحابة: رفعها.أنشأ فلان دارا : بدأ بناءها.وأنشأ :زيد أنشد شعرًا أو خطب بخطبة فأحسن فيها (الأقرب).السحاب الغيم كان فيه ماء أو لم يكن فيه، والواحدة سحابة.ويوصف (السحاب) بالمفرد مراعاة للفظة كقول القرآن وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ

Page 544

الجزء الثالث ۵۳۷ سورة الرعد وَالأَرْضِ، ويوصف بالجمع مراعاة لمعناه كقوله أيضًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ النّقَالَ (الأقرب).التفسير : يسبب البرق خوفا وطمعًا للناس، فَهُم يخافونه كيلا تصيبهم صاعقة منه فتهلكهم، ويحبونه طمعا في الغيث، لأن البرق ينشأ عموماً في السحب الممطرة.كما أن البرق يشكل خطرا على الجنين وعلى بعض النباتات، ولكن في الوقت نفسه فإن لمعانه يقضي على شتى الجراثيم السامة، ويطهر البيئة من مختلف الأوبئة.وهذا ما تفعله السحب الثقيلة أيضًا، فتارة تكون هذه السحب رحمة إذ تتسبب في عمران البلاد، وتارة أخرى تنقلب نقمةً إذ تخرب المدن وتدمر الزروع.لقد وضح القرآن بهذا المثال أن الشيء الواحد يمكن أن يكون سبب خير وبركة أحيانًا، كما يمكن أن يصبح مهلكا ومدمرا في بعض الأحيان.يلمع البرق وتمطر السماء فيجني بها البعض منافع كثيرة، بينما يتضرر بها الآخرون أضرارًا فادحة.فثبت أن الشيء لا يكون في حد ذاته نافعًا أو ضارًا، وإنما نفعه أو ضرره أمر نسبي.فمثلاً لو سئلنا : هل السحب الثقيلة خير أم لا، فإننا لا نستطيع الجزم بخيرها أو شرها دون النظر إلى الظروف والحاجة.عندما تعلو الغيوم السماء يقول الذي يبني بيتًا "إن هذا المطر سيدمرني"، بينما يقول الفلاح الذي يرى زرعه يهلك بسبب الجفاف: "إن هذا المطر سيُحييني".فالله تعالى ينبه الكفار إلى أن المنفعة أو الخسارة المؤقتة أمر نسبي، وعليهم أن لا يتباهوا ولا ينخدعوا بما عندهم من أسباب ووسائل فإنها ظل زائل.لأن المال أو البنين أو الأقارب أو السلطة لا تنفع في كل الأحوال ، بل إنها قد تنقلب أحيانًا إلى مصائب ومحن فعليهم أن لا ينظروا إلى ما بأيديهم من أسباب، بل أن ينظروا إلى ما في قلوبهم من مشاعر وأحاسيس.فإذا كانت قلوبهم فاسدة فلن تنفعهم هذه الأموال والأسباب شيئا ولن تحقق لهم رقيًا، بل إنها ستكون عليهم وبالاً ودمارا.إن هذا الموضوع ولا شك - موضوع هام ولطيف وواسع للغاية، بحيث نستطيع

Page 545

الجزء الثالث ٥٣٨ على ضوئه تأليف عشرات المجلدات حول ظاهرة رقي الأمم وانحطاطها.سورة الرعد وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَته وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ١٤ شرح الكلمات: يسبح: سبح الله: نزّهه (الأقرب) من الرعد: رعد السحاب: صات وضجّ للإمطار.والرّعد: صوت السحاب (الأقرب) الصواعق الصاعقة : الموتُ؛ كلُّ عذاب مهلك؛ صيحة العذاب؛ نار تسقط السماء في رعد شديد لا تمرّ على شيء إلا أحرقته (الأقرب) المحال ماحله مماحلة ومحالاً : ماكره وكايده ؛ قاواه حتى يتبين أيهما أشد.المحال: الكيد؛ رومُ الأمر بالحيل ؛ التدبير المكرُ ؛ القدرة ؛ الجدال؛ العذاب؛ العقاب؛ العداوة؛ القوة والشدَّة؛ الهلاك؛ الإهلاك (الأقرب).وقيل: المحال من الحول والحيلة.(المفردات) التفسير: إنكم تظنون أيها الكافرون، وأنتم تنظرون إلى المسلمين المحاصرين في المحن والمصائب، أن هذا الرعد الرهيب سوف يدمّرهم، ولكن ظنكم خاطئ، لأن الرعد لا يكون مهلكًا لكل إنسان ولا في كل الظروف، كما لا تكون السحب نافعة لكل إنسان في كل وقت.فإن الشدائد لا تأتي لإهلاك الإنسان المؤمن، بل تتسبب في ازدهاره وظهور ملكاته الكامنة وترفع معنوياته، وتزيده قربا وحظوة من ربه.إن البرق والرعد كليهما من خلق الله فأنى لهذه الظواهر الربانية أن تملك عباد الله

Page 546

الجزء الثالث ۵۳۹ سورة الرعد المخلصين.إن هذه الظواهر كلها تسبح الله وتترهه فلو أنها سقطت على محمد ﷺ وأهلكته والعياذ بالله فإنها لن تعتبر مسبحة له سبحانه وتعالى، بل سوف تكون مسيئة إلى الله ، ولكنها ما دامت طائعةً لأمر الله فلن تجلب لأحبائه إلا الخير والنفع، ولن تسقط إلا عليكم أيها الأشرار.ثم قال (وَالْمَلائِكَةُ من خيفته أي ليس الرعد وحده، بل إن الملائكة الذين هم السبب الأول المدبر للرعد وغيره أيضا يسبحون الله خائفين منه عل.فمن كان الله معه فلن تجلب له النواميس الطبيعية والأسباب المادية بكل أنواعها إلا النفع والخير.ثم قال وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ أَي لو تدبرتم في الأمر لعرفتم من هو الذي سيُسقط الله عليه الصواعق.هل تظنون أن الله الذي يتحكم فيها سوف يصيب بها الذين ينصرون دينه أم يُسقطها على الذين يحاربون دينه؟ لا جرم أنه سيدمر بها أعداء دينه عل.وقد صرح بقوله تعالى وَهُمْ يُجَادِلُونَ في الله أن الحديث هنا ليس عن النواميس الطبيعية والظواهر العادية بل إن الله تعالى يوجه بهذا المثال تهديدا بالعذاب لأعداء الإسلام الذين يجادلونه في دينه.كما أشار بقوله وَهُوَ شَديدُ الْمحَال إلى أن الجدال مع الله ل ليس بأمر هين، لأن تدابيره خفية متينة للغاية، وتأتي بنتائج مدمرة.لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءِ الْكَافِرِينَ إلا فِي ضَلال ۱۵

Page 547

الجزء الثالث شرح الكلمات : ٥٤٠ سورة الرعد دعوة الحق: دعا فلانًا دعوةً: طلبه ليأكل عنده الأقرب) حَقَّه حقا: غلبه على الحق.وحق الأمرَ: أثبَتَه وأوجبه كان على يقين منه حق الخبر: وقف على حقيقته.والحق: ضدُّ الباطل؛ الأمر المقضي؛ العدلُ؛ الملك؛ الموجودُ الثابت؛ اليقين بعد الشك؛ الموتُ؛ الحزم (الأقرب).فقوله تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) يعنى: 1) أن نداء الله هو النداء الحق.٢) أن نداء الله هو النداء الغالب.(۳) إنما الدعاء النافع ما يدعو به الإنسان ربَّه.٤) إنه تعالى هو الأحق بالدعاء أي العبادة.ه إنه تعالى هو القادر على تغيير القدر.لا يستجيبون: استجابة واستجاب له رد له الجواب (الأقرب) ضلال: ضلّ عنى كذا ضاع.ضلّ فلانٌ الفرس والبعير: ذهبا عنه.(الأقرب) التفسير كما ذكرنا في شرح الكلمات فإن الآية تعني: (1) أن نداء الله هو النداء الحق، بمعنى أن التعليم الحق تماما، المتره عن الخطأ كليةً إنما هو ما يترل عند من الله، أما ما يخترعه الإنسان بنفسه من منهج وتعليم فلا يخلو من الزيف والخطأ.فلا تظنوا أن تعاليمكم الفاسدة سوف تقاوم تعليمه الحق الطاهر، بل إذا اصطدمت تعاليمكم بتعليمه فسوف تعترف الدنيا بفضل تعليمه الأعلى لا محالة.٢) أن نداء الله هو النداء الحق الغالب المقضى.إن أصوات الملوك الدنيويين تذهب سدىً في بعض الأحيان.فمثلاً: إذا أعلن الملك عن عقاب محرم فإنه قد يهرب من ملكه، أو إذا أراد الملك الإساءة إلى أحد من رعاياه فقد يفاجئه الموت قبل أن يُخزِيَ عدوه ولكن الله أسمى من هذه النقائض، فإنه يفعل ما يريد ولا راد لحكمه ولا مانع لأمره.

Page 548

الجزء الثالث (۳ ٥٤١ سورة الرعد أنما الدعاء النافع الناجح ما يدعو به الإنسان ربه..أي أن الابتهال إلى الله تعالى ضمان للنجاح.(٤) أن الله وحده الأحق بالعبادة بكل أنواعها.فالذي يعبد ما سوى الله، فإنه كالذي يصنع المعروف في غير أهله، فيصبح ظاما وناكرًا للجميل.وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالغه وَمَا دُعَاءِ الْكَافِرِينَ إلا في ضلال) أي أنهم لا يجنون أية منفعة بدعائهم مما يعبدون من دون الله.وإذا ما تحقق بعض ما ينشدونه أحيانًا فلا يخرج عن كونه صدفة لا غير، إذ لا دخل لهذة الآلهة الباطلة في تحقيقه.إلى لقد بين الله تعالى في هذه الآية أن الإنسان كما يُحرم من الانتفاع بالشيء العالي إذا حطه من مكانه واعتبره رديئًا..كذلك لا يمكنه الانتفاع من الشيء الأدنى درجة إذا ما رفعه من مقامه الوضيع، لأن مثاله كمن يعتبر العملة الأصلية زائفة فلا يشتري بها طعامًا يسد به الجوع وإنما يقاسي من قرصات الجوع، أو كمن اعتبر العملة الزائفة صحيحة فيتكبد العناء أيضا، لأنها لن تغنيه عند الحاجة شيئا.من لم يكن عنده معرفة بصفات الله تعالى يبقى محروما من رحمته وفضله إذ لا يقدر على أن ينتفع بهذه الصفات.أو الذي ينسب صفات الخالق إلى المخلوقات ويتخذها آلهة فإنه لن يتمكن من الانتفاع بما في هذه المخلوقات من منافع وفوائد مختلفة.خذوا الماء على سبيل المثال، فقد خلقة الله لفائدة الإنسان، ولكن لو اعتبر أحد الماء إنسانًا مثلاً وبدأ يناديه باسطًا كفيه إليه، كما ينادي الناس وذلك لكي يأتي الماء إليه، فإنه يُحرم مما في الماء من منافع وفوائد لأن الماء لن يأتي إليه أبدًا.ونفس الحال بالنسبة للمخلوقات الأخرى.فالذين يتخذونها آلهة يبقون محرومين من المنافع الكامنة فيها.فمثلا: كيف يمكن للذين يتخذون النجوم والأنهار والجبال وغيرها آلهة أن يتجاسروا على تسخيرها واستغلالها وهي آلهتهم؟! فالحق أن الذين يتخذون البشر آلهة لن ينتفعوا بهم والذين يرفعون النبي إلى درجة

Page 549

الجزء الثالث ٥٤٢ سورة الرعد الإله أيضًا لا يمكن أن ينالوا البركات والمنافع المنوطة بالنبي، لأنهم لا يعاملونه كني، ولا يجدون لديه المنافع والبركات التي ترجى من الله الخالق فقط، ذلك لأن النبي ليس بإله كما يظنون.والحقيقة أن هذا هو السبب الأكبر في تخلف الهند عن مواكبة البلاد الأخرى في مجال الرقي والتقدم لأن أهلها بدءوا يؤلهون الماء والنار، ولا يبرحون عاكفين على عبادتهما.والحق أنهما أكبر العناصر التي يتوقف عليها تقدّم الإنسان ورقيه، وقد سخرهما الأوروبيون لاحتياجاتهم الحياتية فسبقوا أمم العالم.ولكن قد بلغ الجهل بالهندوس درجة أن الإنجليز عندما بدءوا أثناء حكمهم لبلاد الهند في شق قناة من نهر "الغانج" أثاروا ضجة واحتجوا على الإنجليز قائلين: لماذا تقطعون آلهتنا.وهذا ما فعله المسلمون أيضًا زمن انحطاطهم حيث بدءوا يخلعون على الموتى صفات تخص الله وحده ، ويتوسلون إليهم لسدّ الحاجات ودفع الخطوب.فكانت النتيجة أنهم حُرموا من المنفعة الحقيقية التي كان بإمكانهم أن يجنوها من أولياء الله هؤلاء، أعني أن يتأسوا بأسوة هؤلاء الصالحين.أما الدعاء فما كان بإمكان هؤلاء الأموات أن يستجيبوا له.وهكذا لم يكسب هؤلاء المسلمون شيئًا برفع هؤلاء الصلحاء إلى مقام أعلى من مكانتهم الحقيقية.وباختصار فقد أخبر الله تعالى هنا أن الشرك عائق كبير في رقي الإنسان، وأنه ليس بإمكان المشرك أن ينتفع حقًا مما أودع الله في خلقه من منافع ومرافق.وأما قوله تعالى (وَمَا دُعَاءِ الْكَافِرِينَ إلا في ضَلال فالمراد منه أن نداءهم لا يصل إلى من يجب هو ما أن يتوجهوا إليه بالدعاء، فلا يستجاب.ذلك لأن الدعاء النافع يصل إلى الله تعالى فقط.فلو أرسلت الرسالة إلى غير المرسل إليه ثرى أي جدوى يمكن أن تُرتجى منها سوى أنها ستهمل حتمًا.كذلك هي حال دعاء الكافرين، فإن دعاءهم لا يصل إلى الله تعالى الذي وحده يستجيب الدعاء.فلو أنهم وجهوا أدعيتهم إلى الله تعالى لَوَصلت إليه حتمًا، ولكانوا قد انتفعوا بها.ولكنهم توسلوا بها إلى

Page 550

الجزء الثالث ٥٤٣ سورة الرعد المخلوقات التي لا تملك القدرة على الرد والاستجابة، لذلك ضاعت أدعيتهم، وذهبت جهودهم أدراج الرياح.كما وضح بقوله تعالى لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أيضا بأن الله هو المتصرف في القضاء والقدر، ومن لم يكن على صلة به سبحانه وتعالى فلن يؤيدهم القدر الإلهي.كما بين بقوله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ من دونه...أن تدابيرهم أيضا خاطئة وفي غير محلها.وكأنما قال بأنهم لن يتلقوا نصرًا من الله كما لن تنفعهم تدابيرهم، إذن فكيف السبيل إلى نجاحهم؟ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَلالُهُم بالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) شرح الكلمات: ١٦ يَسجُدُ: سَجَدَ يسجدُ فلانٌ: خضع وانحنى فلانٌ ساجد المنحر: ذليل خاضع.سجد البعير: خفض رأسه.سجدت السفينة للرياح: طاعتها ومالت بميلها(الأقرب).ظلالهم: "الظلُ : نقيضُ الضَح وهو الفَيء، أو هو بالغداة والفَيء بالعشي".(ولكن هذا مما يخالف القرآن لأنه قد أطلق الظلال على ما يكون في الصباح وما يكون في المساء)."وقال رؤبة : كل موضع تكون فيه شمس فتزول عنه فهو ظل.يقال ظل الجنة ولا يقال فَيْؤُها، وإنما هي دائما ظلّ وجمعه ظلال والظل: ما يُرى من الجن وغيره؛ العز والمنعة؛ الرفاهة الليل أو جنحه أو سواده والظل من كل شيء: شخصه أو كنه.والظل من الشباب أوله وفي "الأساس": وكان ذلك في ظل الشتاء أي في أول ما

Page 551

الجزء الثالث ٥٤٤ سورة الرعد من جاء.والظلّ من القيظ : شدّته، تقول: سرت في ظلّ القيظ..في شدّته.والظل السحاب ما وارى الشمس منه ؛ أو سواده.والظل من النهار : لونه إذا غلبته الشمس.هو في ظله أي في كنفه.والظَّلالُ أيضًا جمع الظُّلة وهي: الغاشية؛ والبرطلة أى المظلة الضيقة.وفي "التعريفات": الظُّلةُ هي التي أحد طرفي جذعها على حائط هذه الدار وس و وطرفها الآخر على حائط الجار المقابل.والظلة أول سحابة تُظل؛ ما أظلك من شجر؛ شيء يُستتر يستتر به من الحر والبرد.(الأقرب)" الظل: الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس مطلقا، ومنه: سبعة في ظل العرش أي في ظل رحمته تعالى.وجاء: سبعة في ظلّه أي في ظل الله.هو في عيش ظليل، والمراد ظلُّ الكرامة.قد يكنى من الكنف.وفي الحديث: الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله..أي جسمه (مجمع البحار) الظل: ضدُّ الضَح وهو أعم من الفيء، فإنه يُقال: ظل الليل وظل الجنة.ويقال ایک لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يُقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس.ويُعبَّر بالظل عن العزة والمنعة وعن الرفاهة، قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالِ أي في عزة ومناع.وأظلّني فلان: حرسني وجعلني في ظله وعزه ومناعته.وقد يُقال ظلّ لكل ساتر محمودا كان أو مذموما، قال: ﴿وَظِلٌّ مِّن يَحْمُومٍ.والظلال إما جمع ظُلة وإما جمع ظل.(المفردات) الظلالُ كما ذكر في شرح الكلمات جمع ظل أو ظلة.ومن معاني الظل: الفيء، وهنا لا ينطبق هذا المعنى، وإنما ينطبق المعنى الآخر وهو الوجود والشخص، والمراد أن وجود كل الأشياء خاضع للنواميس الإلهية.أما لو كانت الظلال جمع ظلة، فالمراد منه الأسياد والحكام الذين يعملون على راحة رعاياهم خاضعين طائعين لأوامر الله، كما تهيئ الظلة الراحة للناس.الغُدُوّ: جمعُ الغُدوة والغَداة وهي البُكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس (الأقرب)

Page 552

الجزء الثالث ٥٤٥ سورة الرعد الأصال: جمع أصيل وهو وقت ما بعد العصر إلى المغرب (الأقرب) التفسير: تبين هذه الآية أن كل شيء خاضع للنواميس الإلهية، طائعا أو كارها، لهذه سواء فيه المؤمن والكافر والمشرك وحتى الملحد.فكل جزء من الإنسان خاضع فمثلاً إذا وضعت على اللسان شيئًا فإنه مضطر لتذوقه، وإذا وصل النواميس.الصوت إلى الأذن فإنها ستسمعه لا محالة.ولكن هذا خضوع إجباري جبلي.أما الخضوع الخياري الذي يكون عن طواعية ورغبة فمثاله: أكلنا الطعام عند الجوع، ورؤيتنا المشهد الجميل، وخروجنا للنزهة.والحق أننا لو تدبرنا بعمق لوجدنا أن الإنسان وإن بدا حراً في أعماله إلا أنه في الواقع مجبر إلى حد ما في كل أعماله، مما يشكل دليلاً على تدخل قوة خارجية في شؤون حياته.كما أن الآية تبين لنا نوعية الوسائل الخفية والتدابير الدقيقة التي يتخذها الله تعالى لنصرة رسوله إذ يقول: إن من هذه التدابير ما لا يستطيع الكفار مواجهته، فيرضون بها رغم أنفهم، ومن هذه ما سيرضون به طوعًا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا وأنه خير لهم، ولكنه في الواقع شر لهم وصالح للنبي..ومثال هذا ما أكره عليه المكيون النبي يوم الحديبية من شروط قاسية للهدنة ظانين أنها خير لهم، ولكنها كانت خيرا للمسلمين وشرًا للكفار، كما أكدت الأحداث ذلك فيما بعد.ومثاله الآخر طردهم النبي من مكة، ظنًا أن طردهم المسلمين قد يخلصهم من المشاكل، ولكن النتيجة كانت على عكس توقعاتهم، حيث صارت الهجرة حجر أساس لحرية المسلمين وازدهار الإسلام.منهم ومثال التدابير الإلهية التي رضُوا بها كرها ما حدث بفتح مكة، حيث وضعوا السلاح أمام النبي و و و و و و هم كارهون.ومثاله الآخر عدم تعرض الكفار بالسوء لبعض الصحابة في مكة خوفًا من عشائرهم وقبائلهم التي كانت تتمتع بالمنعة والنفوذ.كما يمكن أن تكون كلمة (طَوْعًا وَكَرْهًا ) إشارة إلى المؤمن والكافر، والمراد أن المؤمن يطيع الله تعالى عن حب وطواعية، وأما الكافر فيطيعه على كره ومَضَضَ.

Page 553

الجزء الثالث ٥٤٦ سورة الرعد قوله تعالى (وَظلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ لقد سبق أن بينت أن الظل الفيء أيضًا، أي عدم النور ، وهذا المعنى لا ينطبق هنا، إذ لا معنى لسجود الشيء الذي هو معدوم وغير موجود، وإنما ينطبق هنا المعنى الآخر وهو وجود الشيء وشخصه.فالمراد من الآية أنه علاوة على السجود الطوعي أي الذي يتم عن الإرادة ، فإن سواد كل كائن خاضع للنواميس الطبيعية التي وضعها الله، حتى إن الكافر أيضا خاضع جسمه لطاعة هذه النواميس الإلهية المتحكمة في الكون وإن كفر بالله تعالى بقلبه ولسانه.كما يعني الظل مجازا التابع، فيقولون: السلطان ظل الله، أي تابع له ؛ من هنا فقد تعني الآية أن كل ذوي الأرواح ومن تحت حكم الكفار هم طائعون الله تعالى.وأما إذا اعتبرنا كلمة (الظلال) جمعًا للظلّة التي تعني لغةً: كل شيء يهيئ الظل للإنسان كالخباء ،وغيره والتي تعني مجازا السيد والسلطان، فالمراد أن عامة الناس أو أسيادهم الذين يعملون على راحتهم كلهم خاضعون الله تعالى.والرأي عندي أن لا بأس في اختيار كل هذه المعاني للظلال، ويكون المراد: أن كل شيء في الكون، وكل سيد ومسود خاضع لأمر الله تعالى، فإذا لم ترتدعوا أيها الكفار عن معارضة محمد م ل ل ا ل ل ا فسوف يجعل الله كل من هم فوقكم أو دونكم ينقلبون عليكم ويصبحون لكم أعداء.وهذا المعنى يتأكد من آية أخرى من هذه السورة نفسها حيث يقول الله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ (الرعد: ٤٢).أي أولا يرى الكفار أننا ننقص حكومتهم من الناحيتين كلتيهما، من ناحية علية القوم وكبرائهم، ومن ناحية عامة الناس وفقرائهم، حيث ينفصل عنهم البعض كل يوم وينضمون إلى صفوف محمد، وستكون النتيجة أنه لن يبقى في أعدائه إلا أئمة الكفر هؤلاء وحدهم، بينما أهل البلد جميعًا سينضمون إلى رسول الله.وقد قال بِالْغُدُوِّ وَالآصَال لأن الظل يطول في هذه الأوقات من النهار كثيرًا، كما أن تحول الشمس من هنا إلى هناك هو الذي يبرز الظل ويظهره.ثم إن التابع ينوب عن سيده ويمارس السلطة عند غياب السيّد، وذلك إذا كانت البلاد مترامية

Page 554

الجزء الثالث ٥٤٧ سورة الرعد الأطراف.فكأن الله بقوله وَظَلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ يقول إنه مهما كان ملككم واسعًا، فإنكم وأظلالكم أي أتباعكم ونوابكم تحت قبضة القدرة الإلهية.كما بين أنه سواء حاربتم رسولنا بأنفسكم أو بعثتم نوابكم وخدمكم لمحاربته فإن الله تعالى يكتب لكم الفشل أي لن تستطيعوا بمكائدكم إلحاق أي ضرر بمحمد.واعلم أن الظل يتطلب وجود الأصل كما أثبتنا في شرح الكلمات- إذ لولا الشمس لما كان هناك ظل.مما يدل على أنّ معارضي جماعتنا مخطئون في قولهم بأن مجيء نبي ظلي في الأمة الإسلامية مناف لكون سيدنا محمد خاتم النبيين.فالنبوة الظلية تؤكد على وجود النبوة الأصلية الحقيقية و لا تعني نسخها أبدًا.والحق أنها شهادة كبيرة عليها وليست منافية لها.قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَحَلْقَهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )) شرح الكلمات: أولياء: جمع ،ولي، وهو المحب؛ الصديق؛ النصير (الأقرب).لا يملكون مَلَكَهُ : احتواه قادرًا مَلَكَ على القوم: استولى عليهم.ملك على فلان أمره: استولى عليه.ومَلَكَ الخشفُ ولدُ) (الظبي أُمَّه : قوي وقدر أن يتبعها (الأقرب).الواحد بمعنى الأحد أي المنفرد الذي لا نظير له أو ليس معه غيره (الأقرب).:

Page 555

الجزء الثالث من ٥٤٨ سورة الرعد القهار: قهَرَه :قهرا غلبه والقهار فعّال للمبالغة (الأقرب).التفسير: إنه لمن عجائب القدر أن عباد الله الأبرار الذين رفعهم الناس بعد موتهم مكانتهم الحقيقية وجعلوهم آلهة، أقول إن جميع هؤلاء قد عاشوا عيشة حافلة بالمحن والآلام.فمثلاً اضطر المسيح الناصري الا للهجرة من وطنه، وأما الحسين الله فقد استشهد، وأما شندرجي " فقد ابتلي بشتى المصائب على يد قومه.وبقوله لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا بين الله تعالى أن هؤلاء ما قدروا على * حماية أنفسهم من أذى الأعداء، فكيف يمكن أن يغنوا عنكم شيئا.ثم قال هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ..أي أنكم مصابون بالغرور لكثرتكم، ولكن هلا فكرتم أن الكثرة العددية لا تنفع في كل حين.تُرى هل ينفع العميان اجتماعهم بعدد كبير ضد رجل واحد بصير.أليس صحيحا أن البصير الواحد غالب على ألف أعمى.هذا هو مثلكم ومثل محمد وأتباعه..إنهم مبصرون لأنهم مطلعون بفضل وحي الله إليهم على ما تحيكونه ضدهم من المكائد والمؤامرات، ولكنكم عميان، لأنكم لا تعلمون ماذا يجري ضدكم في المعسكر الإسلامي، لأن معظم خططهم تتم بتأثير خفي من السنن الإلهية التي يستحيل عليكم إدراكها.إذن فكيف تستطيعون مقاومة مثل هذا المعسكر والذين فيه؟ فلا ضير إذا كانوا قلة، فإنهم مبصرون وليسوا عميانا مثلكم.ثم قال هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أي لا وجه للمقارنة بين النور والظلمات، لأن النور وإن كان ضئيلاً قادر على تبديد ظلمة الغرفة وعلى إضاءتها.إن الظلام يعني انعدام النور، والنور يعني الوجود، فشتان ما بين الوجود والعدم.وكأنه تعالى يقول: * كان أحد الأنبياء المبعوثين إلى الأمة الهندوسية كما يبدو من أحوال حياته، ولكنهم اتخذوه فيما بعد إلها.(الناشر)

Page 556

الجزء الثالث ٥٤٩ سورة الرعد إن محمدا عنده كلام الله ،وتعاليمه وأنتم لا تملكون هذه الميزة، ثم إن تعاليمه مبنية على الحق والصدق وأما عقائدكم فلا تستند إلى أي برهان، بل أساسها الجهل والعناد، فما وجه المقارنة بين تعاليمه وبين تعاليمكم.ثم قال إفحاما للمشركين: أَمْ جَعَلُواْ الله شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْحَلْقُ عَلَيْهِمْ أي أنكم رغم اتخاذكم آلهةً من دون الله فإنكم لا تستطيعون الادعاء بأن هذه الآلهة قد خَلَقَتْ أي شيء مماثل لما خلقه الله من شتى المخلوقات.ولم يتجاسر مشركو مكة على أن يتفوّهوا بهذا الادعاء، وإن كان المشركون في بلاد أخرى تظاهروا بمثل هذه المزاعم والدعاوي.ومن المؤسف أن المسلمين اليوم أيضًا صاروا يزعمون أن المسيح الناصري ال كان يخلق الطيور وغيرها، وشط بعضهم في الخيال لدرجة أن قالوا: لقد اختلط ما خلق المسيح وما خلقه الله تعالى من طيور، فلا نستطيع الآن التمييز بينها! هذه القصص كان سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود اللي يحكي لنا قصة من وهو يقول: سألت مرة أحد المشائخ: تزعمون أن المسيح اللي كان يخلق الطيور، فماذا خلق منها؟ قال: الخفاش فقلت: أي من الخفافيش هي من خلق المسيح وأيها من خلق الله سبحانه وتعالى؟ قال : لقد اختلطت بعضها بالبعض، ولسنا بقادرين على التمييز بينها! (الخزائن الروحانية ج ۱۷، تحفة غولروية ص ٢٠٦).وإنه لمما يبعث على الأسف الشديد أن هؤلاء المسلمين قد قالوا بما لم يتجاسر على التفوه بمثله حتى مشركو مكة، دون أن يفكروا أن لا أحد في العالم سيقبل هذه المزاعم التي لا يدعمها أي دليل ولا برهان! 6 أما قوله تعالى (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فاعلم أن القرآن الكريم قد ذكر اثنين من أسماء الله الحسنى تعبيرًا عن وحدانيته سبحانه وتعالى، وهما: الأحد والواحد والأحد اسم تتزيهي أي يدل على انفراديته ووحدانيته حيث لا تفكر أذهاننا بعده في العدد الثاني والثالث.وأما الواحد فيشير إلى البداية وينتقل الذهن

Page 557

الجزء الثالث ٥٥٠ سورة الرعد بعده إلى الأعداد الثاني والثالث والرابع فصاعدًا.وقد أشار باستخدام صفته (الْوَاحد) إلى أنه منبع كل المخلوقات.فبالرغم من أن الخلق لا يشابهه سبحانه وتعالى في كمالاته لأنه غني عن العالمين جميعًا، إلا أن كل موجود يشير إليه.مثل عدد "الواحد" الذي يشير إلى الثاني والثالث والرابع وهلم جرا.فقد جاء بقوله هُوَ الْوَاحِدُ) تدليلا على كونه (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، حيث قال: إذا لم تعتبروا الله خالقا لكل شيء، فلن تثبت ،وحدانيته لأن بعض المخلوقات سوف تشير إلى منبع آخر دونه.وإذا لم تعتبروه واحدًا للزم أن تؤمنوا بوجود خالق آخر إلى جانبه.وبين بقوله الْقَهَّارُ أنه قد يخرج مخلوق على خالقه ويتمرد، فيحتاج الخالق إلى مساعدة الآخرين لتسخيره ليبقى تحت سلطانه، ولكن هذا لا يحدث مع الله عل، فكل شيء في قبضته وتحت تصرفه، بل بحاجة إليه، حتى إن آلهتكم الباطلة أيضا خاضعة لسلطانه ، ولا أحد منها يعدُّ خالقا لأي شيء، فعبادتكم لها عبث ولغو، إذ لا دليل على وجودها.أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءٍ فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ شرح الكلمات: ۱۸

Page 558

الجزء الثالث ٥٥١ سورة الرعد أودية: جمع واد.وَدَى الشيءُ وَدْيا: سال.والوادي: منفرج بين جبال أو تلال أو آكام يكون منفذا للسيل.وفي مفردات الراغب الوادي: الموضع الذي يسيل فيه الماء، ومنه سمي المنفرج بين الجبلين واديا (الأقرب).سالت سال الماء جرى السيل : الماء الكثير.والعرب تقول: سال بهم السيل وجاش بنا البحر..أي وقعوا في أمر شديد ونحن في أشد منه.(الأقرب).الزبد: ما يعلو الماء من الرغوة؛ الخَبَثُ.وقول الحريري: ثم أقبلنا على الحديث نخص زُبَدَه وتلقي زَبَدَه..كنى بالزبد وهي جمع زُبدة عن خيار الكلام، وبالزبد عمّا لا خير فيه (الأقرب) رابيا: ربا يربو المال: زاد ونما وربا فلان الرابية: علاها، وربا الفرسُ رَبِّوا: انتفخ من عدو أو فزع.وربا فلان السويق: صب عليه الماء فانتفخ.وربا في حجره ربوا وربوا : نشأ.وكلّمتُه فما ربا برأسه أي لم يعبأ بي.والرابية: ما ارتفع من الأرض.وأخذة رابية: شديدة (الأقرب).جفاء: الجفاء: ما نفاه السيل إذا رمى به قال ابن السكيت: وذهب الزبد جفاء أي مدفوعا عن مائه.والجفاء: الباطل تشبيها له بزبد القدر الذي لا يُنتفع (الأقرب).به التفسير: لقد وضح هنا الموضوع السابق أيما توضيح، بضرب هذين المثالين، إذ قال: عندما يُنزل الله الماء من السماء فيجري في مختلف الوديان والطرق، يولد بجريانه هكذا رغوةً كثيرة مشوبة بالأوساخ، حتى إن الرائي يتحير ويتساءل: هل كل هذه كانت موجودة في هذه الطرق.وتكون الرغوة كثيرة في البداية حتى يخيل الأوساخ للرائي أنه ليس هناك إلا الرغوة ولكنها لا تلبث أن تنكمش تدريجيًا وتقل حتى لا يُرى إلا الماء في الأخير.فَمَثَلُ الحق والباطل كمثل الماء والرغوة التي تعلوه في الظاهر، أنه عند بداية دعوى الأنبياء عندما يجد الناس أهل الباطل غالبين على أهل الحق يظنون خطاً أن الباطل في قوة وسيبقى غالبًا دائما، ولكن كما أن الزبد ينكمش بمعنى

Page 559

الجزء الثالث ٥٥٢ سورة الرعد وينمحي في آخر المطاف وتكون الغلبة للماء، كذلك سيتغلب أهل الحق على أهل الباطل في آخر الأمر.والمثال الآخر الذي ضربه القرآن هنا توضيحا لهذا الموضوع هو مثال الذهب وغيره من المعادن، حيث يقول إن الصائغ عندما يقوم بِغَلْي الذهب مثلاً لصنع الحلي فلا شك أن الرغوة تعلو حينذاك، ولكن الصائغ لا يحتفظ بالرغوة بل يرمي بها ويحتفظ بما يبقى بعدها من ذهب خالص نافع.فبين بذلك للكفار : لا جرم أنكم تعلون الآن على أهل الحق، كما تعلو الرغوة على الذهب وتحجبون ذهب الإسلام الخالص عن أعين الناس، ولكنا عندما نرسل رياح النصرة ستذهب ريحكم وتَمَّحون كما يَمَّحي الزبد، ولن يكون شيء غالبًا إلا الإسلام، ولن يقبل الناس إلا تعليم المصطفى.أو أن يكون هذا المثال عامًا فلا يخص المؤمنين والكافرين فقط، بل المقصود منه البيان أن الله تعالى قد خلق فطرة الإنسان طاهرة نقية، ولكن الإنسان يلطخها بأوساخ العادات والتقاليد الفاسدة الخاطئة فيفسدها.فيبعث الله رسله لإثارة ما في الفطرة البشرية من ملكات وقدرات فتحدث بمجيئهم ثورة وهيجان في طبائع الناس كالذي يكون في المعدن المغلي أو السيل المنهمر ، فتصحو في الناس فطرتهم الصحيحة النقية من ناحية، ومن ناحية أخرى يثور فيهم العادات والتقاليد، فيُصبح كل من المشاعر النقية الصافية والتقاليد الفاسدة الخاطئة، ويحمل لبعض واحد منهم خليطا حب الفترة هذه المشاعر ذات التيارين المتباينين.فإذا كان ذا فكر نقي خالص استطاع التخلص من أغلال العادات الخاطئة، أما إذا لم يكن صادقا في سعيه عادت مشاعره النقية إلى نفس الخمود والبرودة التي كانت مستولية عليه من قبل، فيختلط زبد التقاليد بذهب الفطرة النقية، فتصير مشوبة غير صافية مرة أخرى.وبين بقوله تعالى (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بقَدَرِهَا أن انتشار التعاليم السماوية يتم وفق حالة الطبائع البشرية.

Page 560

الجزء الثالث ٥٥٣ سورة الرعد كما أن الآية تشير إلى أن القرآن الكريم سوف يفرق بين الحق والباطل، ويميز الخير من الشر، وحينما ينكشف على الناس الفارق بينهما جليا سوف يطردون بأنفسهم الشر بعيدا مؤثرين الحق على الباطل.فمن كان أصح قلبًا وأوسعَ ظَرْفًا كان أوفر حظا من بركات الإسلام.لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ شرح الكلمات ۱۹ استجابوا استجاب له ومنه: قبل دعاءه (الأقرب).الحسنى ضدُّ السُّوءى؛ العاقبة الحسنة؛ الظفر (الأقرب).افتدوا: فداه وافتداه: استنقذه بمال ؛ وقيل أعطى شيئًا فأنقذه.وافتدت المرأة نفسها من زوجها: أعطته مالاً حتى تخلّصت منه بالطلاق.(الأقرب) جهنم دار العقاب بعد الموت ممنوعة من الصرف، قال صاحب الكليات: جهنم قيل عجمية (الأقرب).ولكني لا أرضى بنسبة الكلمات العربية إلى لغات أخرى.فلا أراه رأيا سليما، بل أرى أن (جهنم) كلمة عربية صيغت بحسب القواعد العربية، ولكن بما أنهم لم يجدوا لها الآن شاهدًا لذلك اعتبروها أعجمية الأصل الحق أنها مشتقة من: جَهَنَ جُهُونًا أي قرب ودنا، أو من (جَهَمَ) والنون هنا زائدة، وأمثلة زيادة النون في اللغة العربية كثيرة.معناه : استقبله بوجه مكفهر وتجهمه: استقبله بوجه وجهم 6 كريه (الأقرب).

Page 561

الجزء الثالث ٥٥٤ سورة الرعد المهاد : الفراش؛ الأرض، وجمعه أمهدة (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى: إن الذين يلبون نداء الله وعمل ستكون عاقبتهم حسنة..وسيفلحون في سعيهم، ويحظون برؤية الله، وستنار عقولهم.أما الذين لا يستجيبون لأوامر الله ولا يتبعون تعاليم القرآن سوف يحيطهم الخزي والهوان، وسوف تسوء حالتهم وتحل بهم النوائب والخطوب، بحيث سيتمنون إنقاذ أنفسهم مما هم فيه بأي طريق ولو بفداء الأرض وما فيها إن استطاعوا، لأن الله تعالى سيحاسبهم حسابا عسيراً مؤلماً جدًا، وسيكون مصيرهم جهنم حيث الآلام والبكاء والعويل.أما قوله تعالى أَوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ فليس المراد منه أن حسابهم سيكون فيه ظلم وإجحاف، بل المراد أن نتائج أعمالهم ستكون سيئة وخيمة، ولن يقدروا على أن يقدموا الحساب على المواهب والقدرات التي أودعها الله فيهم للرقي فأضاعوها.ووضح بقوله تعالى (وَبِئْسَ الْمِهَادُ أن جهنم - وإن كانت بمثابة المستشفى يبقى بها المرضى إلى أن يتماثلوا للشفاء من أمراضهم - ولكنها ستسبب لأهلها آلاما و كروبًا شديدةً للغاية.وباختصار، سيزداد المؤمن رقيا وشرفا، بينما سيستمر الكفار في التردّي والانحطاط فيا أيها الكفار، إلام ستظلون مغمضي العيون عن الواقع، مصرين على إنكار رسولي؟ اعلموا أنه لا بدَّ لكم أن تتخلوا عن العصبية القومية وتقبلوا الحق الناصع.أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يتذكرُ أُولُوا الألباب )

Page 562

الجزء الثالث شرح الكلمات: 000 سورة الرعد يتذكر: تذكَّرَ الشيء وذكره : حفظه في ذهنه وتذكر ما كان نسي: فطن له.وتذكر الله: تجده وسبحه (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ): ۱) إنما العقلاء هم الذين يفهمون القول.(۲) إنما العقلاء هم الذين يحفظون القول.إنما العقلاء إذا أخطئوا تنبهوا فورًا وتذكروا أوامر الله تعالى.التفسير: لقد بيّن في هذه الآية أن التعاليم الإسلامية السامية تحقق للناس الرقى بكل أنواعه، إذ من المحال لمن فهمها وانتفع بالعمل بها أن يكون مثل الأعمى، أي الذي ليس به علم ولا دراية بما في هذه التعاليم من منافع وفوائد.القاعدة عند المقارنة بين شيئين هي أن نقيس الشيء الأول بالثاني.فمثلاً إذا أردنا التأكيد على الشيء الأول بأنه نافع، فقولنا: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَان) يعني: هل يمكن أن يكون هذا ضارًا كما هو الثاني.أما إذا كان الشيء الأول سيئا فالمراد من قولنا هذا: هل يمكن أن يكون هذا نافعًا كمثل الثاني.كذلك إذا قلنا: هل يستوي الأعمى والبصير فالمراد أن الأعمى لا يتمتع بالنعمة أو الراحة التي يتمتع بها البصير: أما إذا قلنا: هل يستوي البصير والأعمى؟ فالمراد أن البصير لا يعاني كمعاناة الأعمى.إذن فقوله تعالى: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ من رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى تأكيد بأن المسلمين لا يمكن أن يقعوا في الأضرار والخسائر التي يمكن أن يصاب بها الكفار.أما قوله تعالى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَاب فقد بيّن فيه موضوعًا جديدًا، هو أن ما أشرنا إليه من قبل من مقارنة بين التعاليم الإسلامية الحقة وبين عقائد الكفار أو بين المسلمين والكفار، إنما يفهم هذه المقارنة وينتفع بها أولو الألباب..أي الذين عندهم ملكات عقلية لفهم أمور الدين، أما الذين يشوهون هذه الملكات ويضيعونها فلن يَعُوا من هذه المقارنة شيئا.فلكي يفهم الإنسان أمور الدين عليه أن يحافظ على الملكات العقلية ولا يدعها تتشوّه وتفسد بتأثير التقاليد الفاسدة.

Page 563

الجزء الثالث سورة الرعد وإنه لمما يؤسف له أن أكثر الناس يدفنون القدرات العقلية -هذه الجوهرة الثمينة- تحت غبار التقاليد والعواطف والأهواء، فيبقون بظاهرهم أناسًا، ولكنهم في باطنهم يصبحون حيوانات عجماء.فيا ليت أحدًا يتدبر كلمة الحكمة هذه وينتفع بها.الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ الكلمات شرح ۲۱ عَهْد: العَهدُ: الوصيّةُ؛ الموثقُ؛ اليمينُ يحلف بها الرجل؛ الذي يكتبه ولي الأمر للولاة إيذانًا بتوليتهم (الأقرب).التفسير: لقد وهب الله تعالى للناس كافة القوى العقلية، ولكنهم لا ينتفعون بها عموما، بل يشوهونها بتعطيلها وعدم استخدامها، ومع ذلك يدعون أنهم أهل ذكاء ودهاء، ولذلك شرع الله الآن في بيان علامات أولي الألباب، لكي يعرف الإنسان هذه الجوهرة الخفية بعلاماتها.وأولى.هذه العلامات أنهم يدركون لُب الأمر وحقيقته دون الإصرار على التمسك بالقشور وحدها، محاولين أن يفوا بالوعد الذي عقدوه مع الله تعالى.وذلك أن من واجب العقل أن يميّز بين الخير والشر ويختار الأفضل، ويرفض الذي هو أدنى.وبما أن أولي الألباب هؤلاء يدركون أن كل بركة وخير يكمن في وفائهم بما عاهدوا الله عليه، فلذلك يبذلون قصارى جهدهم للوفاء بهذا العهد، ساعين أن يجعلوا كل ما سواه من أمور في حياتهم خاضعا لهذا العهد مع الله، فإذا توافق هذا الأمر مع هذا العهد عملوا به، وإلا تجنبوه، ولا يدعون أحدا ينقض هذا العهد.

Page 564

الجزء الثالث ٥٥٧ سورة الرعد وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحساب ) ۲۲ شرح الكلمات: يصلون: وَصَلَ الشيء بالشيء: لَأَمَهُ وجمعه؛ ضدُّ فَصَلَهُ (الأقرب).يخشون: الخشية: خَوفٌ يشوبه تعظيمٌ وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما لا يُخشى منه، ولذلك خُص العلماء بها في قوله تعالى ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (المفردات).فالمراد من قوله تعالى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أنهم يخافونه خوفًا فيه توقير وتعظيم، وهم يعرفون سبب هذا الخوف.الله وبعد إنشاء التفسير: والعلامة الثانية لهؤلاء العقلاء، أنهم بعد الوفاء بعهدهم مع العلاقة الشخصية معه ، ينشئون صلتهم من أمرهم الله بالاتصال به بحسب درجته، الملائكة والرسل والخلفاء والأولياء والأبرار، ومروراً بالعاملين على النظام من القومي والأقارب والمحسنين والجيران والفقراء والمساكين وعامة أهل البلد والمسافرين والإنسانية جمعاء، حتى الحيوان الذي يستعينون به في متطلبات الحياة بل وغيره مما لا يستعينون به من بهيمة أو طير أو وحش أو حشرة أو نبات أو جماد.فكأنه تعالى عندما ذكر هذه العلامة لهم قد حتّنا على الشفقة على المخلوقات عامة، وعلّمنا كيفية الأخذ بالأسباب المادية حيث وضح أنه ليس العاقل من يحاول البحث عن الله تعالى عن طريق الخلق، وإنما العاقل من يصل إلى الله ثم يعود إلى خلقه بالعطف والحنان كما أمره الله تعالى، أي يكون حبه للخلق نابعا من حبه الله تعالى، وليس العكس.وإلى ذلك تشير الآية القرآنية التي جاءت وصفا للنبي ﷺ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم: (٩ - ١٠).يعني أن محمدا صعد واقترب أولاً من الله تعالى، ثم هبط بأمر الله من هذا المقام، ليشمل الخلق برحمته

Page 565

الجزء الثالث ٥٥٨ سورة الرعد وحنانه، وقدَّم للعالم أسوة حسنة في الشفقة على خلق الله تعالى، وصار وسيلة بين الخالق وخلقه، كمثل طَرَفَي وتر القوس حيث يكون أحدهما على جانب والآخر على جانب آخر.والآية بيان لطيف للجهود الجبارة الجليلة التي بذلها الرسول ﷺ لإيصال الخلق بالخالق ، ولكني لست بصدد تفسير هذه الآية، ولذلك تركت الأمور التفصيلية جانبًا مكتفيا بذكر النتيجة فقط.وباختصار فإن قوله تعالى وَالَّذِينَ يَصلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ به أَن يُوصَلَ يبين أن أولي الألباب يبلغون الذروة والكمال في طاعة الله ،وحبه ثم بأمر منه ول يتجهون إلى الخلق ويُنشئون معهم علاقة الأخوة والمودة والإحسان.الخشبة والعلامة الثالثة هي وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.وقد سبق أن بينت في شرح الكلمات أن هي خوف الإنسان من ضياع شيء غال وثمين يعرف قدره وقيمته.فهي ليست كخوفنا من وحش كاسر وإنما المقصود منها اليقين بأن المخوف شيء عظيم القدر غالي الثمن، وحرمان الإنسان منه بسبب غفلته وتهاونه يمثل خسارة فادحة.إن الإنسان حينما يحوز على مقام الوصال والقرب من الله تعالى، يدرك أن هذا الراحة الحقيقية والفضل الأصيل، فلا يستطيع حتى أن يتصور ضياعه من يده.فلا ينفك ساعيًا للحفاظ عليه، ويحاول جاهدًا ألا يقع في غفلة تحرمه من قرب الله ورضوانه.هي أهم والشق الآخر من علامتهم الثالثة يَخَافُونَ سُوء الحساب أي أنهم إذا كانوا يحافظون دومًا على ما تيسر لهم من الحظوة لدى الله، فإنهم يخافون أيضًا أن يقصروا فيما أحرزوه من درجة سامية في مجال الشفقة على خلق فيستوجبوا سخطه وعل.الله لقد بين من قبل عند ذكر العلامتين الأولى والثانية أن الوصال بالله هو الأصل، وأن الشفقة على خلقه تكون النتيجة لهذا الوصال ولذلك استخدم القرآن كلمة

Page 566

الجزء الثالث ٥٥٩ سورة الرعد الخشية عند الحديث عن التقصير في الوصال بالخالق، وكلمة الحزن عند الحديث عن الإهمال بالخلق، وهذا يكشف أن الأول هو المقصود بالذات.وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ۲۳ شرح الكلمات صبروا الصبرُ: تركُ الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله، فإذا دعا الله العبد في كشف الضر عنه لا يُقدَح في صبره.وقال في الكليات: الصبر في المصيبة، أما في المحاربة فشجاعة.وصبرَ الرجلُ على الأمر : نقيضُ جزع..أي جرؤ وشجع وتجلد.وصبر عن الشيء: أمسك.وصبر الدابة: حبسها بلا علف.وصبرتُ نفسي على كذا: حبستها، وتقول : صبرت على ما أكره وصبرت عمّا أُحب.(الأقرب) فالصبر معناه : ۱- تجنب الجزع والفزع عند الخطوب، ٢- الامتناع عن الشيء وكبح النفس عن الرذائل والمعاصي ٣- المثابرة على فعل الحسنات.يدرعون: دَرَأَه دفعه؛ وقيل: دفعه شديدا.(الأقرب) عُقبى: العُقبى: جزاء الأمر؛ آخرُ كل شيء؛ الآخرة.(الأقرب) التفسير: لقد ذكر هنا أربع علامات أخرى لأولي الألباب.فعلامتهم الرابعة أنهم صابرون..أي أنهم يجتنبون الجزع والفزع عند المحن، مثابرين على فعل الخيرات، كابحين أنفسهم عن إتباع رذائل الشهوات، ولا يرون الكفاية في ذلك بل يطهرون نياتهم، فيأتون هذه الأعمال ابتغاء مرضاة ربِّهم، وليس لمصلحة شخصية أو منفعة

Page 567

الجزء الثالث ٥٦٠ سورة الرعد قومية، أو بسبب ضعف طبيعي فيهم من عجز أو جبن بمعنى أنهم إذا كانوا لا ينتقمون من المعتدي رغم مقدرتهم على الانتقام منه فذلك امتثالاً لأمر الله الذي يريدون کسب رضوانه.لقد صرّح سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود اللة وقال: ليس العفيف من يتجنب المعصية لعدم قدرته على ارتكابها، وإنما العفيف من يقدر على ارتكابها ومع ذلك يرتدع عنها.فمثلاً هناك أحد لا يستطيع الخروج من بيته ليلاً الجبن فكيف يمكن لهذا الجبان أن يقول: انظروا أنا لا أقوم بالسرقة أو قطع الطرق على الناس.أو كيف يمكن لشخص نحيف ضعيف البنية لا يستطيع أن يرد على أحد إذا.بسبب ضربه أن يدعي أنه صابر، ولا ينتقم.كلا إنه ليس صابراً، بل هو عديم القدرة على الانتقام.ولكن الذي لا ينتقم من المعتدي عليه ابتغاء مرضاة الله فإنه يستحق بكل جدارة أن يُدعى صابرًا.(فلسفة تعاليم الإسلام الخزائن الروحانية ج١٠ ص ٣٤٠).وأما علامتهم الخامسة فهى وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ أي أنهم يؤدون الصلاة مواظبين عليها، مراعين شروطها كلها.بمعنى أن علاقتهم بالله تعالى تتسم بصفة المثابرة والدوام، فلا يتخللها انقطاع ولا فتور وبين علامتهم السادسة بقوله تعالى وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، فإنهم ينفقون مما آتاهم الله على الفقراء خفيةً، كي لا يعتبره المتلقي منة عليه.كما ينفقون أموالهم علانية حقًّا للآخرين ليتأسوا بأسوتهم، ويقوموا بإخراج الصدقات وفعل الخير لوجه الله تعالى.وأما علامتهم السابعة فأشار إليها بقوله تعالى: ﴿وَيَدْرَؤُونَ بالْحَسَنَة السَّيِّئَةَ ، وقد علمنا الله بذلك عدة طرق لدفع السيئة: الأولى: أن هؤلاء يعملون أعمالاً حسنة ليتأسى الآخرون بأسوتهم ويكفوا عن المساوئ وكأنهم في محاولتهم لقمع السيئات من المجتمع لا يكتفون بالوعظ باللسان وحده، بل يقدمون للآخرين نموذجًا عمليًا، لأن نصح الإنسان وحده أقل وقعا وتأثيراً

Page 568

الجزء الثالث ٥٦١ سورة الرعد من أن يعمل بما يدعو إليه الناس.الثانية: أنهم يدعون الآخرين إلى فعل الخيرات وهكذا تنمحي المساوئ من المجتمع تلقائيا، بمعنى أنهم لا يركزون على الحديث عن الفحشاء والمنكر، بقدر ما يركزون على بيان الصالحات إبرازًا لمحاسنها ونتائجها وهكذا يصرفون الأذهان عن التفكير في السيئة.الثالثة : أنهم يقضون على السيئة بالحسنى، أي بما يتلاءم مع الموقف، بمعنى أنهم لا يصرون على الانتقام ومعاقبة المعتدي في كل حال، كما تأمر التوراة (التثنية ۲۰:۱۹)، ولا يركزون على جانب العفو والرفق بالظالم دوما، ولا يدعون إلى إدارة الخد الأيسر بعد أن لطمهم أحد على الأيمن كما ينصح الإنجيل (متى ٣٩:٥)، بل يجعلون القضاء على الشر نُصْبَ أعينهم دائما، فيسلكون الطريق الأمثل لذلك، فيعاقبون المعتدي إذا كان العقاب سيردعه عن العدوان أو يعفون عنه إذا كان الرفق والعفو يصلحه، بل إذا اقتضى الأمر فإنهم يحسنون إليه ويصنعون به المعروف إلى جانب العفو عنه.الرابعة: أنهم لا يقاومون الشر بطرق شريرة غير مشروعة، وإنما يقاومونه متمسكين بمبادئ الحق والعدل.ثم قال أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.إن كلمة (العقبى) تعني عموما العاقبة المحمودة، فكأن الله تعالى يعلن هنا أن من كان مصيره سيئا فكأنه لا عقبى له في الواقع.و(الدار) تعني هنا الجنة، لأنها هي الدار الحقيقية، أما الدنيا فهي مقام مؤقت عابر.فالمراد من قوله تعالى لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أنهم سوف يَلْقون في الآخرة مصيرا حسنًا.جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب ) ٢٤

Page 569

الجزء الثالث الكلمات شرح ٥٦٢ سورة الرعد جنات: جمع جنة.أصل الجَنّ سَترُ الشيء.يقال: جَنَّه الليل: ستره.والجنة: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.وقد تُسمى الأشجار الساترة جنّةً.وسُميت الجنة إما تشبيها بالجنة في الأرض وإن كان بينهما بون، وإما لستره تعالى نعمها عنا المشار إليها بقوله تعالى ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةٍ أَعْيُنِ (المفردات) عَدْنٍ: عَدَن بالمكان عَدْنًا: أقام به عدن البلد: توطّنه؛ قيل: ومنه جنات عدن أي جنّات إقامة لمكان الخلود.(الأقرب) التفسير: قوله تعالى جَنَّاتُ عَدْن) بدل من قوله عُقْبَى الدَّار، والمراد أن أولي الألباب هؤلاء سيرثون جنات خالدة.وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائهم.....أي أن الصلحاء من آبائهم وأزواجهم وأولادهم معهم أيضًا سيرثون هذه الجنات.تتحدث هذه الآية عن إحدى الحقائق العظيمة التي ينفرد القرآن ببيانها بين سائر الكتب السماوية، ألا وهي أنه ما من خير وشر يصيب الإنسان إلا ويشاركه فيه الآخرون بطريق أو بآخر.الواقع أن نجاح التاجر في تجارته أو المزارع في زراعته يتوقف على التعاون بين آلاف الناس الآخرين، سواء بقصد منهم أم بدون قصد.ومن أجل ذلك فرض الشرع الإسلامي على أموال الناس الزكاة التي تؤخذ منهم وتُردّ على غيرهم من ذوي الحاجة كحق ثابت لهم والحال نفسه بالنسبة للأمور الأخرى خذوا مثلاً أحد الدعاة الذي يقوم بواجب التبليغ خارج ،وطنه بعيدا عن الأهل.فالحق أن زوجته أيضا تساهم في مهمته التبليغيّة، لأنها تسهر في غيابه على رعاية بيته وتربية أولاده، مما يسهل عليه أداء واجب الدعوة.كما أن والديه أيضًا يسهمان في إنجازاته، إذ لولا تربيتهما الحسنة لما توجه إلى مجال خدمة الدين، بل إن أولاده أيضًا مساهمون في تبليغه، لأنهم يهيئون له راحة البال ولا يضايقونه.فبما أنه يتمكن من أداء هذه الأعمال الصالحة بمساعدة أقاربه وتعاونهم..فقد جعل الله لهم نصيبا فيما يُعطَى هذا

Page 570

الجزء الثالث ٥٦٣ سورة الرعد الإنسان الصالح من أجر وثواب، كما أن أحدًا إذا تبوأ درجةً عالية في الجنة، فإن الله تعالى سوف يرفع درجات أقاربه في الجنة ليسكنوا معه شريطة أن يكونوا من الناجين.مع العلم أن كلمة وَأَزْوَاجِهِمْ هنا لا تعني الزوج والزوجة فقط، بل جاءت بمعناها الواسع أي أصحابهم وزملاؤهم ممن كانوا مساعدين لهم في صالح أعمالهم.من هنا نفهم لماذا لا تنال المرأة درجة النبوة؟ فالآية تقول إن الله تعالى سوف يسكن زوجة النبي أيضًا في المقام الذي يتبوأه النبي، وكأن المرأة وإن كانت لا تتولى منصب النبوة في هذه الدنيا، إلا أن الله تعالى سوف يشركها في نفس النعم التي سينعم بها على نبيه.كان رسول الله الله فردًا واحدا، وسيشرك معه في نعمه في الآخرة إحدى عشرة زوجة.ثم إن الصديقين هم أزواج الأنبياء أي زملاؤهم، ولم يحرم الله تعالى النسوة من درجة الصدّيقية، فاللاتي يكن حائزات على درجة الصدّيقية سوف يسكنهن الله تعالى حيث يكون النبي ، مثل جميع الصديقين الرجال، لأنهم وإياهن جميعًا زملاء للنبي كونهم حائزين على درجة الصدّيقية.ثم قال وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ، وهذا لا يعني أن الجنة تغطي مساحة شاسعة أو أن لها أبوابا كثيرة، بل المراد أن فاضل الأخلاق وصالح الأعمال التي تسببت في دخولهم الجنة سوف تتمثل لهم في الآخرة كأبواب عديدة للجنة يدخلون من أيها شاءوا.سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ۲۵ التفسير: أي أن الملائكة سوف يزورونهم قادمين من كل باب قائلين لهم: "سلام عليكم" بمعنى أنهم سوف يخبرونهم أنكم بسبب كذا من الأعمال دخلتم من هذا

Page 571

الجزء الثالث سورة الرعد الباب، وكذا من الأخلاق يتمثل لكم بصورة ذلك الباب وهكذا.ويسلمون عليهم تذكيرا لهم بأنكم سوف تتمتعون الآن بسلام شامل جزاء على حسناتكم، وكما أنكم أتيتم الحسنات من كل نوع، كذلك تنعمون بالسلام من كل خطر.وأما قولهم سَلامٌ عَلَيْكُم ففيه دلالة على دوام هذا السلام.وبقولهم بما بينوا لأهل الجنة سبب دوام هذا السلام حيث قالوا: بما أنكم داومتم على فعل الحسنات وثابرتم عليها رغم العوائق فجزاؤكم الآن أن تنعموا بسلام دائم.وتمثل الآية ردًا على قول الآريين الهندوس بأَنَّهُ ما دام عمل الإنسان محدودًا فكيف ينال عليه جزاء غير محدود في شكل الجنة الأبدية.ستيارث برکاش باب ۹ ص ۳۱۷.ذلك أن الله تعالى يقول هنا لأهل الجنة: إنكم لم تبرحوا متمسكين بالخير طوال الحياة، مؤدّين واجباتكم بكل وفاء وإخلاص، ثابتين على الحق، مداومين على الخير ما استطعتم إليه سبيلا إلى أن حال دونكم الموت الذي لم يكن أمره بيدكم، فمن واجبي الآن أن أهب لكم فلاحًا أبديًا وسلاما دائما.* كما تخبر الآية أن الذي يصيبه الهلع عند حلول المحن والاختبارات البسيطة ولا يبقى على الحق ثابتًا فإنه لا يستحق الجنة، وإنما يستحقها من لا يفزع لدى الابتلاءات، ولا يقطع صلته مع الله تعالى أبدا، مثابرًا على فعل الخيرات مداوما عليها.يقول الجكرالويون معترضين على المسلمين الآخرين بقولهم إن ما ورد في القرآن هو "سلام عليكم" فلماذا تقولون عند إلقاء التحية: "السلام عليكم"؟ والجواب هو أننا حينما نتبادل تحية السلام فلا نعني سلاما عاديًا، وإنما نقصد سلاما خاصا ذُكر في هذه الآية وفي أماكن أخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر :٧٤)، وقوله تعالى: لَهُمْ فِيهَا * فرقة إسلامية في الهند لا تأخذ بالسنة النبوية ولا بالحديث الشريف قائلة: كفانا ما ورد في القرآن الكريم فقط.(الناشر)

Page 572

الجزء الثالث سورة الرعد فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِن رَّبِّ رَّحِيمٍ) (يس :٥٨-٥٩).فإننا نقصد هذه الآية أن نقول لصاحبنا وفقك الله بدخول الجنة، وشفت الملائكة أذنيك من بتحية السلام وهم يدخلون عليك من كل باب فيها كما وَعَدَ الله المؤمنين.فهناك بون شاسع بين أن يقول أحد سلام عليكم وبين هذا الدعاء الرائع الجميل.فما دمنا نقصد بتحيتنا ذلك السلام الخاص، فعلينا أن نقول بحسب قواعد العربية أيضا : "السلام" "عليكم بدلا من "سلام عليكم".وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأَرْضِ أُولَئكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء الدار شرح الكلمات: اللعنةُ: لَعَنَهُ لعنا: طرده وأبعده من الخير وأخزاه وسبّه.واللعنة: اسم من اللعن؛ العذاب (الأقرب) التفسير: لقد أشار بقوله الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله...إلى أن هؤلاء الظالمين لا يمتنعون عن فعل الخيرات فقط، بل إنهم يرتكبون السيئات أيضا، ويقطعون صلتهم بمن أمر الله بإنشاء الصلة معهم.فبعضهم يخلّ بالنظام القومي، والآخر يعارض النبي بدلاً أن ينشئ معه علاقات التقرب والوداد والثالث يتهاون في الشفقة على خلق من والرابع يُعرض عن ربه.الله، أما قوله تعالى وَيُفْسِدُونَ في الأَرْض فقد جاء به إزاء قوله وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله به أَن يُوصَلَ ليبين أنهم إلى جانب قطع الصلة بهؤلاء يبدءون في ظلمهم، ولا

Page 573

الجزء الثالث سورة الرعد يكتفون بالإعراض عنهم فحسب، بل يناصبونهم العداء.ثم قال أَوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي حيث إنهم قطعوا صلتهم بالله تعالى، فإن الله تعالى أيضا سيطردهم من حضرته، ولن يحظوا بقربه.مع العلم أن كلمة اللعنة قد جاءت هنا بمعنى الإبعاد والطرد، و لم ترد هنا كسب وشتيمة بل جاءت لبيان حقيقة أن هؤلاء ما داموا قد قطعوا صلتهم مع الله، فكيف يمكن لهم بعد هامة، ألا وهي ذلك أن يكونوا من المقربين لديه عل.اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدرُ وَفَرحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ) شرح الكلمات: ۲۷ يقدر: قدر الله عليه الأمر: قضى وحكم به عليه.قدر عليه الرزق: قَسَمَه؛ ضيقه.وقدر على الشيء: جمعه وأمسكه.(الأقرب) التفسير: أي يقول هؤلاء الكفار : فلنتمتع بنعم هذه الدنيا ومتعها، لأن الآخرة أمر موهوم.إذ ليس هناك ضمان أن نحظى بنعم الآخرة إذا صدّقنا محمدًا، ولكنا سنخسر بالتأكيد ما بأيدينا الآن.وفي لغتنا البنجابية أيضًا يقولون هذه الدنيا حلوة لذيذة فلماذا نكدر صفونا من أجل الآخرة التي لم يرها أحد؟ إن الله تعالى يرفض هذه الوسوسة الشيطانية ويقول: إن النعم المادية من ملك أو مال أو رقي وازدهار ليست أيضًا في قبضتكم بل هي تحت تصرفنا وسلطاننا نحن، فإذا قررنا أن ننتزعها منكم ونعطيها محمدًا وأصحابه، فلن تستطيعوا الحيلولة دون مشيئتنا.بل سبق أن حذرناكم ونبأنا أنها سوف تؤخذ منكم.فالحق أن تصديقكم محمد ﷺ

Page 574

الجزء الثالث ٥٦٧ سورة الرعد لن يشكل أي خطر عليكم ولن يصيبكم بأي خسارة دنيوية، بل هناك أمل في أن تحافظوا على هذه المنافع المادية بتصديقكم إياه.وها قد بدأت الآثار تؤيد نبأنا هذا، فانتبهوا وعُوا.ولنفرض أن تصديقكم محمدًا سوف يلحق بكم ضررًا ماديًا فمع هذا فإنها ليست صفقة خاسرة، لأن تعليمه يشمل المبادئ الخالدة التي لا تساوي النعم المادية إزاءها شيئا.لقد بين بذلك أن التطور العقلي والفكري خير وأفضل من الرقي المادي، لأن الترقيات المادية تابعة للرقي العقلي والفكري دائمًا، شريطة أن لا يبقى الإنسان عاطلاً عن السعي والعمل مكتفيًا بالرقي الفكري وحده ، فيعطل قواه العملية ويدمرها.وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ شرح الكلمات : ۲۸ يهدي هداه الطريق وإليه وله بينه له وعرفه به هدى فلانًا: تقدمه.تقول: جاءت الخيل يهديها فرس أشقر..أي يتقدّمها.هداه الله إلى الإيمان أي أرشده إليه.(الأقرب) أناب: ناب وأناب إليه: رجع مرةً بعد أخرى.أناب إلى الله: أقبل وتابَ.ونابَ فلانٌ: لزِمَ الطاعة.(الأقرب) التفسير : لقد أنذرهم الله تعالى في الآية السابقة بأنه قادر على انتزاع ما في أيديهم من رزق ونعم، أما هنا فقد ذكر ردود فعلهم على هذا الإنذار، حيث لم يلبثوا أن

Page 575

٥٦٨ الجزء الثالث سورة الرعد قالوا: حسنًا، فليرنا الله آية قدرته وجبروته، وليترع هذا الرزق والمال من أيدينا.ثم يرد الله ولا على مطالبتهم بالآية فيقول : لقد أنزلنا كثيرًا من الآيات، ولكنكم لا تريدون الانتفاع بها، وتصرون على المطالبة بآية العذاب فقط، وكأن كل ما أنزلنا من قبل من آيات علمية وأخرى روحانية دالة على رحمتنا لا تساوي عندكم شيئًا، وكأنما الآية النافعة المرضية عندكم هي أن يحل بكم العذاب، مع أنه لا يبقى بعد حلول العذاب المدمّر أية فرصة للاهتداء، فكيف تنتفعون من آية العذاب إذن؟ فثبت أنكم تستوجبون الهلاك لكثرة المعاصي.أجل، لقد قررنا هلاككم لأنكم لو كنتم صادقي النية في مطالبتكم بالآيات لانتفعتم من آيات الرحمة والهداية.كان من المحتمل أن يعترض أحد على قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء فيقول: وكأنما الله نفسه يُكره الناس على الضلال، فـدحض هـــــذه الوسوسة بقوله (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ...أي أنه تعالى لا يضل أحدا ولا يهلكه دونما سبب، بل من سنته سبحانه وتعالى أن يهدي من ينيب ويميل إليه، ولا يهلك إلا الذي يتهرب منه معرضا عن الهذي السماوي.فالآية تهدم مزاعم أولئك الذين عندما يقرءون في القرآن كلمة (يَشَاء) منسوبة إلى الله تعالى يقولون: إن معناها أن الله نفسه يريد إغواء الناس، فإنها صريحة في إعلانها بأنه تعالى لا يُكره أحدًا على الضلال، بل يضل أو بتعبير آخر يعد منحرفًا عن سبيله من لا يريد الاهتداء إليه وعل.الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ شرح الكلمات تطمئن اطمأن إلى كذا سكن وآمَنَ له (الأقرب).۲۹

Page 576

الجزء الثالث ٥٦٩ سورة الرعد التفسير: يتمتع الإنسان في الدنيا بأنواع النعم، ويحقق الرقي في شتى المجالات، فيكسب مالاً وينال منصباً، ويظفر بزوجة جميلة، ويُرزق ذرية طيبة، و يجد أصدقاء ومع مخلصين وينعم بتجارة رابحة، ويزداد علمًا وثقافة، ذلك لا يجد طمأنينة القلب ولا سكينة البال بل كلما تحققت له أمنية تولدت في قلبه أمنية أخرى تقيمه وتقعده، فلا يزال قلبه يلتاع ويحترق بالإحساس بأنه لم يظفر بضالته المنشودة.شأنه شأن الرضيع الذي ينفصل عن أمه فكلما احتضنته امرأة يلتصق بثديها ظنًا منه أنها أمه، ولكنه لا يجد السكينة في حجرها، بل سرعان ما يتركها متجها إلى الأخرى باحثًا عن أمه الحقيقية.أو مثله كمثل الأم التي تفقد وليدها.فقد ورد في الحديث الشريف أن الرسول رأى في إحدى الغزوات امرأة فقدت رضيعا لها، فكانت تبحث عنه هنا وهناك.وكلما وجدت صبيا احتضنته..تلاطفه وتداعبه، ثم تركته في مكانه وتقدمت إلى غيره باحثةً عن ولدها المفقود، وفي الأخير وجدته فألصقته بصدرها، وجلست ترضعه باطمئنان وسكينة.فقال النبي ﷺ لأصحابه: لله أفرح بالعبد إذا تاب إليه من هذه المرأة بولدها.لقد لفت النبي ﷺ بذكر هذا الحادث الأنظار إلى عبرة أخرى، ولكن أود توجيه عنايتكم إلى جانب آخر من الصورة، وهو قلق المرأة واضطرابها قبل العثور على ولدها ثم اطمئنانها بعد الظفر بضالتها المنشودة.وهذا هو حال كل إنسان، حيث لا يطمئن إلا بعد الحصول على غايته الحقيقية.فالذين يذكرون الله حقا، يتم لهم الوصال به..فلا يبقى لديهم أي اضطراب ولا حرقة ولا قلق، بل يزدادون كل حين قربا منه وبالتالي سكينة وطمأنينة.أما الذين يجرون * * أقرب الروايات إلى هذا المعنى هي: عن عمر بن الخطاب قدم على النبي فإذا امرأة من السبي بسبي قد تحلب ثديها بسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته على بطنها وأرضعته.فقال لنا النبي : أترون هذه طارحةً ولدَها في النار؟ قلنا: لا وهي تقدر على ألا تطرحه.فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (البخاري:كتاب الأدب) (الناشر)

Page 577

الجزء الثالث سورة الرعد وراء متع الدنيا الفانية فقط، فإنهم كلما حققوا رقيًا ماديًا كلما ازدادوا اضطرابا والتياعًا.فثبت بذلك أن غاية حياة الإنسان هي البحث عن الذات الإلهية، ولذلك نرى أنه حينما يظفر بالوصال مع الله ،وقربه يعمر قلبه بالسكينة والطمأنينة.ولكن على النقيض من ذلك، ترون ما يعانيه الشخص الذي يجري وراء المادة من قلق واضطراب.خذوا مثلاً "راجات" الدويلات الهندية، فإنهم رغم كونهم محميين من قبل الحكومة الإنجليزية بالهند إلا أن الخوف على الحياة يستبد ببعضهم لدرجة أنهم لا يشربون الماء العادي خشية أن يسمّمه أحد، وإنما يستوردون المياه المختومة من إنجلترا، فتفتح أمام أعينهم، فيشرب منها الآخرون قبل الراجا.ونفس الحال بالنسبة لطعامهم، حيث يُطبخ تحت رقابة صارمة، ويؤمر الطباخ بتناوله أولاً، ثم الطبيب، ثم الراجا نفسه.ذلك أن هؤلاء رغم كونهم ملوكا يعيشون في خطر وقلق دائمين.ولكن انظروا إلى نبينا محمد ﷺ، لقد كان محاصرًا بين الأعداء طوال الحياة، ومع ذلك عاش مطمئنا هادئ البال قرير العين غير خائف ولا قلق على نفسه، حتى إذا دعاه العدو للطعام لبى دعوته دون تردد ولا خوف.يذكر التاريخ أن امرأة يهودية حاولت مرة قتله ، فأعدت له الطعام ووضعت فيه السّم الزعاف القاتل.ولكن الله تعالى أخبره عن ذلك بالوحى قبل أن يتناوله، وهكذا نجاه من الموت (السيرة لابن هشام، "أمر ومعنى خيبر") لماذا كان مطمئنا مرتاح البال إلى هذه الدرجة؟ ليس هناك أي سبب إلا أنه كان على صلة بالله الذي يعلم الغيب، ومن كان على صلة بالله آتاه الله نصيبا من غيبه بقدر الحاجة، فيعيش مطمئنًا.وهناك سبب روحاني آخر وراء اطمئنان الإنسان المتقدم روحانيا ووراء قلق المرء المتقدم ماديًا.ذلك أن الشخص كلما أحرز تقدمًا ماديًا وازداد مالاً كلما كان هناك احتمال أكبر لأن يتسرب المال الحرام إلى أمواله مما سلبه من أموال الآخرين.ولكن

Page 578

۵۷۱ الجزء الثالث سورة الرعد ليس الأمر هكذا في الأمور الروحانية.فمهما أحرز الإنسان تقدمًا روحانيا، فلن يأخذ إلا نصيبه دون أن يبخس الآخرين حقوقهم ولذلك يعيش مطمئنا مرتاح البال دون أن يؤنبه ضميره بمعصية الله وهضم حقوق الآخرين.وإلى ذلك تشير الآية وتقول بأن الجنة التي يدخلها المؤمن عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ (آل عمران:١٣٤).أي أن مساحة الجنة مثل السماوات والأرض مشتركة بين المؤمنين كافة على سواء، ولكن كلاً منهم سوف ينتفع بها وفق ملكاته وقواه الروحانية.الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبِ ) شرح الكلمات: طوبى: مصدر بمعنى الطيب، أصله طيبى قلبت الياء واوا.وطوبى جمع طيبة؛ تأنيث الأطيب؛ الغبطة؛ السعادة والحسنى؛ الخيرُ (الأقرب).مآب: المآب: المرجع؛ المُنقَلَبُ (الأقرب).التفسير : أي سوف يظفر المؤمن بالخير والسعادة وبما لا يخطر على البال من النعم، وستكون عاقبته محمودة حسنة جدا، والبديهي أن من كانت عاقبته محمودة فهو الناجح في الحقيقة.كذلكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّة قَدْ خَلَتْ من قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُو عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ

Page 579

الجزء الثالث تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابٍ شرح الكلمات ۵۷۲ سورة الرعد متاب: تاب إلى الله من ذنبه متابًا.رجع عن المعصية (الأقرب).وأصلُ (متاب) متابي.التفسير: لقد ذكر هنا أمرًا هو من اللطافة والشفافية بمكان؛ حيث قال للكفار إنكم تطالبوننا بالعذاب ونحن نؤخره عنكم بسبب رحمانيتنا، ولكنكم رغم ذلك تكفرون بكون الله رحمانًا، والواقع أنه لولا أنني رحمن لأهلكتكم منذ أمد بعيد لسوء أعمالكم.هل هناك أي عمل صالح لكم تظنون أنه يحول دون نزول العذاب عليكم؟ كلا، وإنما هي رحمانيتنا التي تقيكم من العذاب.وبين بقوله تعالى كَذَلكَ أَرْسَلْنَاكَ...أن غايتنا من بعثك هي أن تخرج من القوم أهل السكينة والطمأنينة والعاقبة الحسنة كأولئك الذين سبق ذكرهم، ممن يحرزون الدرجات العلى في الروحانية ويتحلون بالأخلاق الحسنة الفاضلة.وفي قوله تعالى قل هُوَ رَبِّي إشارة إلى أنه سيقول لك القوم: من المحال أن تحوّل قوما جاهلين كالعرب إلى أُناس ربانيين متحلين بهذه الأخلاق السامية.فقل لهم: هذا ليس من عملي، إنما هذا بيد الله الذي يتولى تربيتي، فعليه كامل ثقتي وإليه ضراعتي وابتهالي، ليحقق بقدرته الهدف الذي من أجله بعثني.فالآية تذكرنا أن الوسيلة الحقيقية لإصلاح القوم إنما هي التوكل على الله والدعاء والابتهال إليه.فالذين يسعون لإصلاح قلوب الناس بالأسباب الظاهرة لا يفلحون في مساعيهم أبدا، لأن الوسائل الظاهرة إنما تصلح الظاهر فقط، ولا تقدر على تسخير القلوب وعمرانها بالإيمان والاطمئنان ومن أجل ذلك نجد الغرب قد فشل رغم بذل جهود جبارة في تقديم نموذج عالي المستوى في مجال الأخلاق

Page 580

الجزء الثالث ۵۷۳ سورة الرعد والروحانية، كالذي قدمه الرسول الكريم الله في شكل أصحابه، رغم افتقاره للأسباب الظاهرة.وَلَوْ أَنْ قُرْآنَا سُيِّرَتْ به الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضِ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْلى بل لله الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصيبهم بمَا صَنَعُوا قَارعَةٌ أَوْ تَحْلُ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) شرح الكلمات ۳۲ سيرت: سيره: جعله سائرًا.سير الجُلَّ عن ظهر الدابة: ألقاه.سير المثل: جعله يسير بين الناس.سيره من بلده أخرجه وأجلاه (الأقرب) الجبال: جمع الجبل وهو : كلُّ وَتَد للأرض عظُمَ وطال؛ خلافُ السهل؛ سيد القوم وعالمهم، يقال: فلان جبل قومه (الأقرب).قُضِيَ فقوله تعالى سُيِّرَت به الْجِبَالُ يعني (۱) حُركت بالقرآن الجبال من مكانها، ٢) به على أسياد القوم وعلمائهم ( أطيح به الملوك من عروشهم، ٤) ويعبر بالجبل في الروحانيات عن العقبات والعراقيل، فالمراد: أزيلت به المشاكل والعوائق.قُطعت: قطعه قطعه قطعة قطعةً، شدّد للتكثير.قطَّع الله عليه العذابَ: لونه وجزاه (الأقرب) ييأس: يَئِسَ : قَنَطَ؛ عَلم (الأقرب) قارعة: القارعة: القيامة الداهية؛ يقال : قَرَعَتهم قوارعُ الدهر: أصابتهم نوازله الشديدة؛ النكبة المهلكة؛ سريّة لنبي المسلمين قارعة الطريق: أعلاه أو معظمه

Page 581

الجزء الثالث (الأقرب) ٥٧٤ سورة الرعد تَحُلُ: حلّ المكان وحلّ به: نزل به.حلّ به في المكان: أحلّه إياه.حلّ الرجلُ: عدا (الأقرب) التفسير : أي أنه لو نزل لهم قرآنًا مُتَصفًا بهذه الصفات لما آمنوا أيضًا.ولا يعني هذا أن القرآن الكريم لا يتسم بهذه المزايا وإنما هذا بيان لشقاء قلوب الكفار وتعنتهم.والمراد أنهم سوف يشاهدون ظهور هذه المزايا والتأثيرات من القرآن الكريم، ولكنهم لن يؤمنوا به أيضًا ونظير هذا الأسلوب هو الحديث النبوي الشريف: "لو كان الإيمان معلقًا بالثريا لناله رجلٌ من "فارس" (البخاري، التفسير).فلا يعني هذا أن الإيمان لن يرتفع إلى الثريا، وبالتالي لن يترل به رجل من فارس، بل المراد أنه سيأتي زمن سوف يرتفع فيه الإيمان إلى السماء حتمًا، ليعود به رجل فارسي إلى أهل الأرض مرة أخرى.وفيما يلي بيان هذه الميزات القرآنية: الميزة الأولى: هي سُيِّرَتْ به الْجِبَالُ).لو أخذنا (الجبال) بمدلولها الظاهري، فالمراد أن القرآن الكريم يتضمن أنباء عن الزلازل العنيفة التي تنسف قمم الجبال.وبالفعل هناك أنباء عظيمة في القرآن عن تقلبات وتغيرات في العالم كما تشير إليها سورة الزلزلة.أما إذا اعتبرنا كلمة (الجبال) استعارةً عن العقبات والمصائب، فالمراد أن القرآن سوف يساعد على إزالة العقبات الكأداء عن طريق تقدم الإنسانية.ويتسم القرآن الكريم بهذه الميزة أيضًا، حيث يقدم حلولاً منقطعة النظير لما يهدّد الإنسانية من مشاكل علمية وخُلقية وروحانية واجتماعية واقتصادية وسياسية وقومية.ولا بأس أيضًا لو أخذنا الجبال بمعنى أسياد القوم وعلمائهم.فالقرآن تسبب في القضاء على سيادة الحكام والعلماء السابقين، وغير مفهوم السيادة كلية، وأتى بالخلافة بدلاً من الملكية.كما بدل مفهوم العلم، إذ عارض "العلم" السائد قبله

Page 582

الجزء الثالث ٥٧٥ سورة الرعد وأسس العلم على أسس الخبرة والمعاينة والاطلاع على خواص الأشياء.وكل القرآن زاخر بهذا الموضوع حيث يدعو مراراً وتكرارًا إلى إعمال الفكر واستخدام العقل بدلاً من إتباع الأوهام والظنون فيحث على مشاهدة الأجرام الفلكية ومراقبة التغيرات الجوية ودراسة الجبال والأنهار، وعلى السير في أرض الله ومعرفة خواص الأشياء للاطلاع على حقيقتها، لأنه يقول: إننا قد خلقنا جميع هذه الأشياء من أجلكم ولمنفعتكم.وباختصار، فقد غير القرآن مفهوم السياسة والعلم كليةً، وقدّم حولهما وجهة نظر جديدة، وكأنما خلق عالما جديدا للعلم والمعرفة.الميزة الثانية: هي أَوْ قطَّعَتْ به الأَرْضِ.وقطعُ الأرض يُستخدم بمعنى طي المسافة بسرعة فالمراد أن الله تعالى سوف يكتب للقرآن انتشارا سريعا في العالم كله.كما أن قطع الأرض يعني أيضًا قطع أراضي الأعداء وضمها إلى أراضي المسلمين.وكلا الأمرين قد تحقق بالقرآن الكريم، حيث انتشر هذا الكتاب في الدنيا كلها عة فائقة، وشحن أتباعه بحماس وإخلاص الله تعالى، بحيث إنهم خرجوا إلى بسر أنحاء الدنيا حاملين نور القرآن الكريم، وتغلبوا على أهلها خلال جيل واحد.كما أن الأرض تلو الأرض من أراضي العدو قد قُطِّعت وضمت إلى أراضي المسلمين وفق جميع هذه الأنباء القرآنية.هي الميزة الثالثة: أوْ كُلَّمَ بهِ الْمَوْتَى) ويمكن تفسيرها بمفهومين: الأول: أن يجعل الله الموتى يتكلمون شاهدين على صدقه.وحيث إن الأموات لا يرجعون إلى هذه الدنيا بموجب نص القرآن الكريم، فالمراد أن الموتى سيزورون الناس في الرؤى والكشوف ليخبروهم بصدق.القرآن ونعلم بالخبرة أن الناس يقبلون شهادة آبائهم كثيراً ، لأجل ذلك نجد اتجاها متزايدًا في أوروبا إلى "الأرواحية" وهي مذهب أصحابه بمناجاة أرواح الموتى فالله تعالى يقول هنا: إن هؤلاء أيضا يحبون آباءهم يدعي حبا شديدا؛ ويقولون إذا وجدنا شهادة من آبائنا على صدق القرآن فسوف نؤمن به

Page 583

الجزء الثالث ٥٧٦ سورة الرعد 6 ومع ذلك ولكنهم لا يؤمنون.فمثلاً عندما تُعرض على أهل الكتاب شهادات آبائهم المتمثلة في أنباء واردة في التوراة والإنجيل تُبشرهم بمجيء نبي كمحمد فإنهم لا يقبلونها.أو حينما قدمت لأهل مكة روايات عن أبيهم إبراهيم ال عن بعث محمد ﷺ أنكروها أيضا.أو أن المعنى أنهم يقولون بأننا سوف نصدق القرآن إذا أخبرنا آباؤنا الموتى بصدقه في الكشوف والرؤى.وهذا يحدث في زمننا هذا أيضا، حيث نجد البعض يصدقون سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود الله بناء على الأدلة، يتمنون أن يزورهم النبي في الرؤيا ليخبرهم بصدقه.وقد صدقه كثير من الناس بسبب هذه الرؤى والكشوف.ولكن هناك آلافا آخرين زارهم النبي ﷺ أو بعض من أولياء الله الأسلاف في الرؤى والكشوف وشهدوا على صدق سيدنا الإمام المهدي، ومع ذلك ما زالوا مصرين على إنكاره يبدو أن ظاهرة الكشوف والرؤى كانت سارية في زمن النبي ، أيضًا، ولكن الناس كانوا لا يقبلون الحق رغم انكشافه عليهم في الرؤى، مثلما يحدث في أيامنا هذه أيضًا.والثاني: قد يكون المراد منه تكليم الموتى الروحانيين بالقرآن الكريم أي أن القرآن لا يحيبهم حياة روحانية فحسب بل سوف يجعلهم يتكلمون أيضًا.بمعنى أنه سوف تفيض ألسنتهم بمعارف روحانية سامية بحيث يصبحون قادة وهداة للعالم.لقد أطلق القرآن في أماكن عديدة اسم "الموتى" على المحرومين من الروحانية، وسمى أهل الروحانية أحياء كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال: (٢٥).فالحرمان من الروحانية موت والحصول عليها حياة في مصطلح القرآن الكريم.ونظراً إلى هذا المعنى فالمراد من تكليم الموتى أن القرآن سوف يجتذب حتى المحرومين روحانيا إلى حظيرة الإسلام، فيحققون ارتقاء مدهشا في الروحانية بحيث يصبحون قادة للعالم في مجال الروحانيات وهناك أمثلة كثيرة من فجر الإسلام تثبت صدق هذه الحقيقة.فسيدنا عمر الله كان من ألد أعداء الإسلام، خرج ذات يوم من بيته بقصد قتل النبي ، ولكنه أسلم على يده بدلاً من أن يقتله.

Page 584

الجزء الثالث OVV سورة الرعد وانظروا كم كان رصيد عمر أضحَمَ وأكبر في مجال التضحيات لنصرة الإسلام ونشره.ومنهم خالد بن الوليد لله الذي كان في البداية يعادي الإسلام عداوة شرسة، ولكنه أيضًا لم يستطع مقاومة تعاليم القرآن وأسدى خدمات جليلة في سبيل نصرة الإسلام.ومنهم عكرمة الله ولو كان ابنا لعدو الإسلام أبي جهل، وقد كان بنفسه عدوا لدودًا لدين الله ، ولكنه أسلم في آخر المطاف وضحى بحياته في سبيل الإسلام.ثم يقول الله تعالى بل لله الأَمْرُ جَمِيعًا أي أن زمام كل شيء بيد الله تعالى وسوف ترون كيف أن هذه الأنباء والوعود التي تبدو لكم مستحيلة سوف يحققها الله تعالى تصديقًا للقرآن الكريم.أما قوله تعالى (أَفَلَمْ يَيْأَس الَّذينَ آمَنُوا فقد سبق أن بينت أن (لم ييأس) جاءت بمعنى (لم يعلم )، لتبين أن الله تعالى قادر على هدي الناس جميعًا، وأن طريق اهتداء ء هو أن يتعرّضوا للعذاب تلو عذاب من الله ويزحف عليهم جيش بعد جيش – مع العلم أن القارعة هنا بمعنى الجيش - حتى تداهمهم جنود المسلمين في عقر دارهم.وعندئذ سوف يتحقق وعد الله تعالى بأنه يهدي الناس جميعًا.وهذا ما حدث بالفعل، حيث تتابعت الاشتباكات وتوالت الحروب بين الكفار والمسلمين، وهلك فيها من هلك ممن تنبأ القرآن بحرمانهم من الهدى إلى أن حلت جنود المسلمين بديار الكفار تقرع أبواب مكة وتم فتحها على يد الرسول.وهكذا أنجز الله وعده بهدايتهم، فآمنوا جميعا، بل أسلمت الجزيرة العربية كلها من أقصاها إلى أقصاها.الله الله ما أروعه من نبأ عظيم! انظروا كيف أن الله نَبَّاً عن ازدهار الإسلام قبل زمن طويل، ثم يتحقق النبأ حرفيًا بحيث شكل برهانًا عظيمًا على صدق القرآن الكريم.ولكن المؤسف أن الذين قد عميت قلوبهم لا يزالون إلى زمننا هذا مصرين هؤلاء على الكفر بالقرآن، بل إن المنتمين إليه أيضًا لا ينتفعون بتعاليمه ومعارفه.ثم قال إنّ اللهَ لا يُخلفُ الْمِيعَادَ ويتضح من ذلك أنه كان هناك وعد خاص قطعه الله على نفسه ل وهو نفس الوعد الذي قد أشار إليه في موضع آخر من

Page 585

الجزء الثالث ۵۷۸ سورة الرعد القرآن الكريم بقوله إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد) (القصص: ٨٦).أي أننا لا بد أن نرجع بك مرة أخرى إلى مكة التي هي معاد أي مرجع للناس يقصدونها حاجين مرة بعد أخرى.إن هذه السورة (الرعد) مكيّة، وهذه الآية فيها تضمنت عدة أنباء تحققت بكل جلاء، وهي: (۱ أن النبي ﷺ سوف يضطر للهجرة من مكة المكرمة.(٢) أنه سوف يرجع إليها بعد الهجرة.(۲ ۳) سوف تقع بينه وبين أعدائه حروب يشنها الكافرون.حتى إنه سوف يحل بجنوده في عقر دارهم "مكة".ه) وعندئذ يتحقق وعد الله تعالى بشكل كامل أي يتم فتح مكة المكرمة.وَلَقَدِ اسْتَهْزِيءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (7) شرح الكلمات: ۳۳ استهزِئَ استهزاً: هَزَأَ أَي سَخِر منه (الأقرب) أمليت: أملى له في غيه: أطالَ له أملى البعير: وسَّعَ له في قيده.وعبارة "الأساس": وأمليتُ القيد للبعير : أرخيته وأوسعته.(الأقرب) أخذتُهم : أخذه الله : أهلَكَه.أخذ فلانا بذنبه: عاقبه عليه.(الأقرب) التفسير : كان الكفار يكرّرون مطالبتهم: لماذا لا يعجل الله بإنزال العذاب علينا؟ فرد الله عليهم: إننا نريد هداية الناس لذلك لا بدّ من تأخير العذاب لإعطاء المهلة لمن

Page 586

الجزء الثالث ۵۷۹ سورة الرعد كان الهدى من نصيبه.والآن يبيّن أن إعطاء المهلة ليس بدعًا ولا خاصا بمن يكفرونك أنت، بل لم تزل هذه سنتنا مع كافة الرسل الذين خلوا من قبلك، إذ أمهلنا أعداءهم.فإذا كان هؤلاء يرون أن إتاحة المهلة لمن يكذب مدعي النبوة دليل على افترائه وكذبه فلا مناص لهم من تكذيب رسل الله الصادقين.ألم يكن أهل مكة يؤمنون على الأقل- بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانوا على علم بما تعرض له إبراهيم العلية من تعذيب واضطهاد على يد أعدائه الذين ألقوه في النار، ومع ذلك لم يتعجل الله بالبطش بهم، بل عاقبهم على مهل بعد فترة طويلة.وقال في آخر الآية فَكَيْفَ كَانَ عقاب ليلفت الأنظار إلى أنه ليس مهما أن يعرف الإنسان سبب المهلة، وإنما عليه أن يرى ماذا كان مصير الأمم السابقة عندما الله.ألم يجعلهم عبرة لمن يعتبر؟ فلا وجه للاعتراض على ما يمنح الله للكفار من مهلة، لأن هذه المهلة لا تعود بأي ضرر على أنبيائه، بل هي ضرورية لتحقيق الغرض من بعثتهم إذ تتيح لخلق الله فرصا للإيمان والاهتداء.بطش بهم أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ رين للذينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ٣٤ شرح الكلمات قائم: قامَ عليه: خرج عليه وراقبه.وقامَ على غريمه طالبه (الأقرب).قوله تعالى

Page 587

الجزء الثالث 01.سورة الرعد أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..أي حافظ لها.(المفردات) تنبئون: نبأه الخبر وبالخبر: خبره.ويُقال: نبأتُ زيدًا عمرًا منطلقا : أي أعلمته (الأقرب) التفسير : هناك محذوف بعد قوله تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ، والتقدير : كمن هو ليس بقائم.والشواهد على هذا الحذف كثيرة في اللغة العربية، حيث يحذفونه لفظا ويقدرونه معنى.والمراد أن الله تعالى يراقب ويرى كل صغيرة وكبيرة من أعمال البشر، ويسجلها ويرتب النتائج عليها، بحيث لا يمكن لأحد أن يفلت من المؤاخذة الإلهية على أعمالهم فإنه تعالى قائم بكل شيء ويراقبه بحيث إن كل الأشياء في قبضته سبحانه وتعالى.فهل يمكن لمثل هذا الإله أن يتساوى بمن لا يملك شيئًا من هذه القوى والقدرات وما دامت عنده هذه القدرة الهائلة فلماذا يتعجل في عذاب الناس؟ لأنه إنما يتعجل بالانتقام من لا يملك القدرة الكافية على عدوه، ويخاف أنه إذا لم ينتقم الآن فربما أنه ينفلت من يده فلا يتمكن منه.ولكن ما دام الله تعالى قادرًا على كلّ شيء وفي أي وقت فلماذا يتعجل الانتقام شأن الضعفاء في إنزال العقاب بالمجرمين؟ لذا عليكم يا أعداء محمد أن لا تستهزئوا أو تتعجبوا من تأخير العذاب عنكم، بل يجب أن تقوموا بمحاسبة أنفسكم وتفكروا ما إذا كنتم مجرمين في حق الله تعالى.فإذا كنتم مجرمين بالفعل فلا يليق بكم أن تضحكوا وتستهزئوا، غافلين عمّا أنتم فيه غير مكترثين بمآلكم.وبين بقوله تعالى ﴿وَجَعَلُوا لله شُرَكَاء أنهم لو تدبّروا في عقائدهم وأعمالهم لوجدوا أنهم قد ارتكبوا الجرائم في حق الله تعالى، إذ زعموا أن الله تعالى شركاء في أنه تعالى يقوم بنفسه وحده بتدبير كل أمر في ملكوته دونما حاجة إلى أحد، من وإنهم يستوجبون العقاب على ذلك، فكيف يظنون أنهم بخير وفي ملكوته، مع مساعدة مأمن من العذاب؟ ثم قال تعالى (قُلْ سَمُّوهُمْ.واعلم أنه من أسلوب القرآن أنه إذا تطرق الحديث

Page 588

۵۸۱ الجزء الثالث سورة الرعد إلى مسألة هامة ولو تطرقًا ضمنيًا - فإنه يُشبعها بحثا وتفصيلاً.وهذا ما فعله القرآن هنا أيضًا حيث قال (وَجَعَلُواْ الله شُرَكَاءَ شرحًا للموضوع الجاري وهو كون الله تعالى قائما ومراقبا على كل نفس.ولما كان الشرك يمثل قضية دينية هامة لذلك رأى القرآن لزامًا أن يترك الموضوع الأصلي جانبًا لبعض الوقت ليبرهن على تفاهة هذه العقيدة وضحالتها وفسادها.فقال دحضًا لمزاعم أهلها مشيرًا إلى شركائهم: سَمُّوهُمْ.وليس المراد منه أنه إذا كان الله شركاء فدلونا على أسمائهم، إذ كانوا قد أطلقوا على أصنامهم أسماء عديدة، كما قد ذكر القرآن بنفسه بعضا من أسمائها، بل المراد: أخبرونا بصفات شركائكم وأعمالهم.وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في موضع آخر من القرآن بقوله إنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ (النجم: (٢٤).أي أن هذه الأصنام التي تعبدونها إن هي إلا أسماء فقط، لا صفات لها ولا أعمال.وهذا دليل قوي للغاية وقادر على أن يفحم أي مشرك، لأنه لو زعم مثلاً أن هذا الصنم يهب الأولاد، لاضطر للإيمان بوجود كل الصفات الإلهية فيه، لأن إنجاب الولد يقتضي صلاح رحم المرأة من جهة، ومن جهة أخرى قوة الحيوانات المنوية عند الرجل.وهذا يتطلب أغذية نافعة وأدوية ناجعة مما يدفعنا للاعتقاد بأن هذا الصنم يملك التصرف في إنتاج الأغذية وفي تأثيرها وتأثير الأدوية بل وفي المصانع المنتجة لها.ثم إن الأعشاب التي تصنع منها الأدوية خاضعة لتأثير الأجرام الفلكية والتقلبات الجوية، فلزم أن نؤمن أن هذا الصنم يتحكم في هذه الأجرام والظواهر أيضًا.كما سنضطر للقول بكونه عالم الغيب، وإلا كيف عرف أن هذا هو الدواء الناجع المناسب لهذا المريض.كما لابد لنا أن نؤمن بكونه مُلْهما حيث يلقي في بال الطبيب أو المريض أو زوجته فكرة تناول هذا الدواء الناجع، وهلم جرا.و بالاختصار فإن الصنم لن يقدر على فعل أي شيء بدون اتصافه بجميع هذه الصفات لا بصفة واحدة.وإذا آمنا بوجود جميع هذه المزايا فيه فقد اعترفنا بوجود

Page 589

الجزء الثالث ۵۸۲ سورة الرعد أكثر من إله واحد، ولاضطررنا للتسليم بأن آلافا من الآلهة يديرون نظام الكون الذي يستطيع حتى واحد منهم فقط تدبيره ومثل هذا العمل الخاطئ مرفوض حتى من الناس، دعك من أن يُنسب هذا العبث إلى الإله الحق.سألت مرة أحد القساوسة: من الذي خلق الكون؟ قال: المسيح.قلت: هل كان الله قادرًا على خلق الكون؟ قال : نعم.قلت : فهل الله يجلس بدون عمل ولا يخلق؟ قال: لا، هو أيضًا يخلق مع المسيح.ثم وجهت إليه نفس الأسئلة عن روح القدس، فرد بنفس الرد.فقلت له لنفترض أن هناك قلمًا على تلك الطاولة، وتريد أن تأخذه، ولكنك تأمر خادمك أن يأتي به، فيذهب هو إلى الخارج ويصطحب شخصين آخرين، فيحمل الثلاثة إليك القلم، فما رأيك في هؤلاء يا ترى؟ قال: إنهم مجانين طبعًا.فقلت له: لما كان كل واحد من الأقانيم الثلاثة قادرًا بمفرده على خلق الكون فلماذا يقومون بخلقه جميعا؟ فقال القسيس مبهوتا : الواقع أن التثليث مسألة دقيقة يتعذر على العقل الإنساني استيعابها.فكنت استخدمت ضده نفس هذا الدليل المذكور بقوله تعالى (قُلْ سَمُّوهُمْ.وقد يكون لقوله تعالى (سَمُّوهُمْ) معنى آخر إذا اعتبرناه من قبيل قولنا لأحد تحقيرًا للشيء: (سمه ) بمعنى أن لا حقيقة لهذا الشيء، إذ يبلغ من الدناءة والحقارة بحيث يجب أن يخجل أحد من ذكره أمام الناس.فالمراد من قوله (سَمُّوهُمْ) أي سموا هذه الأشياء الحقيرة والدنية فسوف ترون كيف يصيبكم الذل والهوان.оя وساق القرآن دليلاً آخر على بطلان الشرك بقوله تعالى أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ أي لو كان الله تعالى شريك لأخبرنا الله بنفسه عنه.فمثلاً حين تُوَلّي الدولةُ أحدا ليكون حاكمًا على محافظة أو منطقة فهي التي تعلن عن تعيينه وليس سكان المنطقة بأنفسهم.كذلك يقول الله تعالى: لو أنني كنت أنا الذي اتخذت شركاء في ملكوتي لباشرت بنفسي الإعلان عنهم على لسان أحد الرسل، أو أنزلت الملائكة يعلنون عن ذلك، أو أنّ هؤلاء الشركاء أنفسهم على الأقل يخبرون

Page 590

الجزء الثالث ۵۸۳ سورة الرعد الناس بأن الله قد اختارهم شركاء له سبحانه وتعالى.ولكن لم يحدث أي شيء من هذه الأمور الثلاثة، ولذلك قال الله تعالى أمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ).أما قوله تعالى أم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ فيعني أنكم لا تقولون ما تقولون إلا بأفواهكم، بينما قلوبكم منكرة له وغير مقتنعة به، لأن القلوب إنما تقتنع بما يقوم عليه برهان ودليل.وكأن قوله تعالى أم بظَاهر مِّنَ الْقَوْل يمثل سؤالاً من فطرتهم الراقدة النائمة، لأن السؤال من الفطرة السليمة يكون وسيلة ناجحة للإقناع في بعض الأحيان.أو أن المعنى: أم تقولون هذا بناء على دليل ظاهر..أي هل عندك من دليل معقول يستند إلى كلام وحي سماوي مما نزل في كتب الأولين.فكيف إذا تستسيغون اتخاذ شركاء من دون الله سبحانه وتعالى.وباختصار، فقد أشار بقوله تعالى أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ إلى انعدام أي دليل عقلاني، ولا شهادة إلهية على وجود الشركاء.وأشار بقوله أم بظاهر مِّنَ الْقَوْلُ إلى انعدام أي دليل يستند إلى الكتب السابقة أو الفطرة الإنسانية على صحة عقيدة الشرك.وأما قوله تعالى بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ، فاعلم أن فاعل (زين) هو نفوسهم وليس الله تعالى والمعنى أن الإنسان عندما يعتاد خداع الآخرين يصبح هو وأولاده بالتدريج فريسةً للتأثيرات الهدّامة لمكره وخداعه.فمثل هؤلاء المخادعين يختلقون العقائد الوثنية خداعًا للناس ليستولوا على أموالهم باسم هذه الأوثان، ولكن بمرور الوقت يستحسنون بأنفسهم الأصنام تدريجيًا، أما أولادهم فيقعون فريسةً لهذه الأوهام كلية.وأضاف قائلا: وَصُدُّوا عَن السَّبيل) أي أنهم عندما يقطعون صلتهم بالله تعالى يبدعون في اتخاذ شركاء له ذلك أن الإنسان لا يستطيع في الواقع العيش بدون صديق ومعين، ولذلك عندما يبتعد عن الله تعالى يبحث عن السند والملاذ في أشياء أخرى.

Page 591

الجزء الثالث ΟΛΕ سورة الرعد وهكذا ينشأ الإشراك بالله تعالى.وهناك اختلاف في هذه المسألة بين القرآن الكريم وبين علماء مقارنة الأديان الغربيين.فالقرآن يؤكد على أن عقيدة التوحيد أسبق زمنًا من الشرك، ولكن هؤلاء يقولون بأن الناس كانوا مشركين في بداية الأمر، ثم بدءوا يفكرون في وجود إله واحد، فنشأت نظرية التوحيد الإلهي (موسوعة الأديان، كلمة Polytheism).ولكن التاريخ والواقع الحاضر يشهدان على صدق موقف القرآن الكريم.لقد كان اليهود والمسلمون موحدين في بداية الأمر، حتى إن المستشرقين أيضًا يعترفون بأن الرسول ﷺ علم التوحيد الكامل، ولكن انظروا كيف صار اليهود والمسلمون بمرور الزمن مشركين وثنيين عمليا.وهذا ما حدث بالناس في البداية كانوا موحدين ثم صاروا مشركين.وهذا ما يؤكده القرآن الكريم هنا بأنهم عندما قطعوا صلتهم بالخالق أخذوا يبحثون عن الملاذ في المخلوقات، وهكذا تسرب فيهم داء الشرك.وأما قوله تعالى (وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ فاعلم أن (أضل) لها ثلاثة معان: أغوى أحدا، أو اعتبره غويا، أو أهلكه.وبما أن الله تعالى لا يغوي أحدا، بل يهدي كما قال في هذه السورة نفسها: لَوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، فلا يمكن أن نأخذ قوله مَن يُضْلِلِ الله بمعنى الإغواء، بل المراد أن من اعتبره الله غويًا أو من أهلكه الله فلا أحد يستطيع أن يهديه والله تعالى عالم للغيب مطلع على بواطن الناس وسرائرهم فلذلك لا يمكن أن يعتبر أحدًا ظالما ما لم يكن قد سد هذا في وجهه طرق الهداية كلها.ويتأكد هذا المعنى بآية أخرى حيث قال الله تعالى ﴿وَمَا يُضِلُّ به إلا الْفَاسقين أي أنه تعالى لا يعد أحدًا ظالما إلا أن يكون من أهل السوء والعصيان.لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ

Page 592

الجزء الثالث ٥٨٥ سورة الرعد مِن وَاقٍ (٤) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ۳۵ أكلها دائمٌ وظُلْهَا تِلْكَ عُقبى الَّذِينَ القَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ 0 = (0 شرح الكلمات: أشَقُّ: شقَّ الشيء: صدَعه وفرّقه شقَّ عليه الأمرُ شَقًا: صَعُبَ.شَقَّ على فلان: أوقعه في المشقة (الأقرب) مثل: المثلُ: الشبه والنظيرُ ؛ الصفةُ الحُجَّةُ؛ يُقالُ: أقام له مثلاً أي حجة؛ الحديث؛ القولُ السائر؛ الآية.(الأقرب) التفسير : المراد من قوله تعالى تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أنه ستكون هناك أنهار جارية خلال بساتين الجنة.وفي هذا إشارة إلى توفر الماء على مقربة منهم، وإلى أن ملگا لهم.الأنهار سوف تكون واعلم أن "النهر" هو الماء الجاري في سهولة ويسر، وهكذا فكلمة (الأَنْهَارُ) تشير إلى أن أهل الجنة سوف يحققون الترقيات الروحانية بسرعة دون أي عائق.كما أن كلمة "النهر" تدلّ على الكثرة ،والسعة لأن النهر أو القناة لا يحفر ولا يشق من أجل عشرة أو عشرين فدانًا مثلاً، بل من أجل أراض شاسعة.وفي هذا إشارة إلى أن أعمال المؤمن تكون كثيرة ومتنوعة وأنه لا يكون ضيق الآفاق وقليل المعلومات كضفدع يعيش في ماء البئر ، ويرى أن البئر هي الكون كله.ثم باستخدام صيغة الجمع الأَنْهَارُ) أشار إلى أن المنافع والنعم المشار إليها بكلمة (الأَنْهَارُ) ستكون أقسامًا وألوانًا.وكلمة النهر تعني العمل في اللغة الروحانية، فالمعنى أن أعمال المؤمن المتنوعة

Page 593

الجزء الثالث ٥٨٦ سورة الرعد الكثيرة ستتمثل له يوم القيامة على شكل أنهار كثيرة، وسيكون له نهر جار إزاء كل عمل صالح تذكيرًا له أن هذا النهر جزاؤك على عمل كذا وكذا.وبين بقوله أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظَلُّهَا أن الخريف لن يهاجم بساتين الجنة أبدا، بل ستظل مخضرةً نضرةً على الدوام.بمعنى أنه لن يتخلل نعيم أهل الجنة وراحتهم انقطاع أبدا بل إنهم سينعمون بها إلى الأبد.أي كما أشار بقوله أكُلُهَا دَائمٌ وَظَلُّهَا إلى دوام النعم بنوعيها الظاهري والباطني، لأن ثمار الشجرة تنعش باطن الإنسان وأما ظلّها فيريح ظاهر جسمه.ووضح بقوله تعالى وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ أنهم لم يهتموا في الدنيا برقيهم الروحاني وإنما اتبعوا الآخرين دونما تبصر ووعي وقالوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنَا..وكأنهم لم يعيشوا لأنفسهم وإنما لغيرهم.وهذا ما يُفعل بهم في الآخرة أيضًا حيث يُلقون في النار التي لا ينفعها احتراقها شيئًا، وإنما ينتفع بها الآخرون.وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن ينكرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمَرْتُ أن أعبد الله وَلَا أُشرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ أَنْ مَآب ۳۷ شرح الكلمات: الأحزاب: جمع الحزب وهو: الطائفة؛ جماعةُ الناس؛ جُند الرجل وأصحابه الذين على رأيه؛ النصيب؛ كلُّ قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضُهم بعضًا.(الأقرب) التفسير : تؤكد هذه الآية على أن بعض أهل الكتاب كانوا قد آمنوا بالرسول ﷺ

Page 594

الجزء الثالث ۵۸۷ سورة الرعد خلال الفترة المكية أيضًا.وأرى أن قوله تعالى وَالَّذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ إشارة إلى النجاشي ملك الحبشة وأصحابه الذين آمنوا عند هجرة بعض المسلمين إلى بلده.فحينما قرأ عليه جعفر الطيار له آيات من القرآن الكريم قال: هذا ما أؤمن به أنا أيضًا.وبما أن إيمانه لم يكن قد انكشف بعد تماما، ولكنه كان هو وأصحابه يفرحون برؤية رقي المؤمنين الآخرين لذا وصفهم الله بقوله : (يفرحون بما أنزل إليك) و لم يقل بأنهم يؤمنون بهذا الكتاب.وقد يكون قوله تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ إشارة إلى المسلمين أنفسهم حيث كانوا يفرحون بأنباء تبشرهم بانتصار الإسلام وبعاقبتهم المحمودة.أما قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكرُ بَعْضَهُ فاعلم أن المراد من (الأَحْزَاب) هو جميع الأمم التي يخاطبها النبي ولكنها لا تؤمن به غير أن المراد من الأحزاب هنا اليهود والنصارى والمشركون وغيرهم من الملل.وقد جاء الإنكار هنا بمعنى الرفض أو الاستغراب.وقد قال القرآن الكريم (بَعْضَهُ) لأنهم كانوا يفرحون بما يتفق من القرآن مع عقائدهم ونظرياتهم ولكنهم كانوا ينكرون منه ما كان مخالفا لعقائدهم وأفكارهم.أما قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ فقد وضح به أن التوحيد هو خلاصة تعاليم كل نبي من الأنبياء السابقين، وهو المحور لتعاليمي أنا أيضًا، فكيف يمكن إذن أن أنحرف عن التوحيد؟ كما أن هذه الجملة تمثل ردًّا من النبي الله على مطالبة الكفار بإحداث تغيير في القرآن المشار إليها في قوله (مَن يُنكرُ بَعْضَهُ)، حيث قال لهم: لستُ إلا مطيعًا للأوامر الإلهية، ولا أقول لكم إلا ما أؤمر به من الله تعالى.فلو غيّرت القرآن من عند نفسى فكأنما ادعيتُ بكوني إلها.ولست لأفعل ذلك، لأنني مأمور أن أطيع الله وأعبده وحده.ثم قال إِلَيْه أَدْعُو أي أنني لم أزل أعلن منذ البداية أنني لست إلا داعيا إلى الله،

Page 595

الجزء الثالث ۵۸۸ سورة الرعد فكيف يمكن إذن أن أغير القرآن إرضاءً لكم.وبين بقوله (وَإِلَيْه مَآب أنه لما كانت معاملتي ليست إلا مع الله تعالى، وما دام مصيري ليس إلا إليه جل وعلا، فكيف أتجاسر على مخالفة أوامره؟ فلا يهمني رضاكم أو سخطكم، فإيمانكم لن ينفع إلا أنفسكم ورفضكم لن يضرني شيئا، فمن المستحيل أن أبدل كلام الله بغية رضاكم.وَكَذَلكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبيًّا وَلَئِن أَتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ من العلم ما لَكَ من الله من ولي ولا واق ) شرح الكلمات: ۳۸ عربيًّا : أعرَبَ الشيء: أبانه وأوضحه أعرب عن حاجته: أبان عنها.أعرب كلامه حسنه وأفصَحَ ولم يلحن في الإعراب.أعرب بحجته: أفصح بها (الأقرب) الإعرابُ: البيانُ (المفردات) (راجع أيضًا شرح الكلمات للآية ٤ من سورة يوسف).أهواء: جمع هوى.والهوى: إرادة النفس؛ ويُقالُ فلانٌ اتبع هواه..إذا أُريدَ ذمه (الأقرب) التفسير: إن وصف القرآن بكونه (عَرَبيًّا) لا يعني نزوله باللغة العربية فقط، إذ لا خصوصية للقرآن في ذلك لأن كل عربي يتحدث بها، إنما جاء هذا الوصف إشارة إلى ما تحتوي عليه كلمات القرآن من مفاهيم واسعة للغاية بحيث لا يقدر على الإتيان بها إلا الله جل شأنه، وأن أدنى تغيير فيها يَحُطّ من عظمة القرآن وشأنه.يقال إن أحد الأثرياء قال لأحد الأدباء أن يؤلف كتابًا ينافس به القرآن الكريم، فقال الأديب: هذا يتطلب راحة البال والوقت الكثير والبساتين الفيحاء الغنّاء، وقصرًا

Page 596

الجزء الثالث به ۵۸۹ سورة الرعد الخدم والمرافق كلها فأمر له الثري بتوفير التسهيلات كلها، وضرب له مدة ستة أشهر بحسب رغبته.فبدأ يقضي الأيام في عيش هني وطعام شهي وزي جميل ونزهة ممتعة.وبعد انقضاء المدة المضروبة سأله الثري: أرني ماذا أعددت إلى الآن؟ فقدم إليه كومة من الأوراق قائلاً: لم أجلس في هذه المدة عاطلاً، بل ما زلت عاكفا على العمل بكل أمانة، وهذه الأوراق شهادة على صدق ما أقول.ولكني عاجز عن تأليف كتاب مثل القرآن لأنني كلما أمر بآية من آياته أجدها تبشر محمد : سوف نهلك أعداءك وسنكتب الغلبة لأتباعك، فكيف أقطع في كتابي هذه الوعود لأحد، وكيف أفعل ذلك وأنا أعيش على ما تجود به أنت علي.فلا تتوقع مني أن آتي بمثل القرآن.هذا هو المراد من كون القرآن عربيًا، إذ يحتوي على معان واسعة ومعارف سامية ونبوءات عظيمة تفوق قدرة البشر.والخطاب في قوله تعالى وَلَئِن أَتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم...قد يكون موجها إلى كل إنسان، أو إلى الرسول.وإذا كان الخطاب موجها إليه الله فقد جاء الله به تأكيدا لعظمته وجبروته جل وعلا والمراد أنك لست بشيء في حد ذاتك، بل إنك كالناي الذي يُطلق ألحانًا جميلة لأن ملك السماء والأرض ينفخ فيه، ولو أنه ترك النفخ فيه عاد إلى سيرته الأصلية وصار قطعة خشب لا غير.وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) شرح الكلمات إذن: الإذن: الإجازة؛ الإرادة؛ العلمُ (الأقرب) أجل: الأحل: مدة الشيء والوقت الذي يحل فيه (الأقرب) ۳۹

Page 597

الجزء الثالث ۵۹۰ سورة الرعد :کتاب الكتاب: الحكمُ الفرضُ ؛ القدرُ (الأقرب) التفسير : هذه الآية تعيد نفس الموضوع الذي نوقش في بضع آيات سابقة (من الآية إلى ٣٧)، وهو أننا قد بعثنا الرسول في نفس الظروف التي بعثنا فيها الرسل من قبل.لقد كان الكفار يعترضون على النبي ﷺ بقولهم: كيف يمكن أن يُبعث هذا رسولاً.وهو قليل الحيلة وعديم الوسائل؟ فردّ الله عليهم بأننا لم نرسل الرسل من قبل إلا وكانوا لا يملكون الوسائل والأسباب، كما كانوا معرَّضين لكل ما يحتاج إليه الإنسان من ضروريات وحاجات من أهل ،وأولاد وكانوا يكدحون للإنفاق عليهم ويسهرون على رعايتهم، ولكنهم رغم لزوم الحاجات البشرية وفقدان أسباب الانتصار نجحوا في أهدافهم.وقد ذكر زوجاتهم وأولادهم خاصةً لأن الذي ليس عنده زوجة وأولاد يمكن أن يستعد للتضحية بالحياة بشجاعة أكبر، ولكن صاحب الأهل سيتردد كثيرًا في التضحية بالحياة ويعمل ألف حساب قبل الإقدام عليها وكأن العقبات التي يواجهها الأنبياء في سبيل الله تعالى تكون مضاعفة، إذ يكونون عديمي الحيلة قليلي الأسباب، ومعهم الأهل والأولاد الذين يمثلون عائقاً آخر في سبيلهم، ومع ذلك ينجحون في أهدافهم.كذلك سيحدث الآن أيضًا وسيكون النجاح حليف محمد.أما قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُول أَن يَأْتِيَ بِآيَة إلا بإذن الله فقد وضح به نحن الذين كتبنا لهم الغلبة وأظهرنا هذه الآية العظيمة تصديقا لهم، ولكن هذا لا يعني أننا أظهرنا لهم الآيات بحسب رغبة المعارضين كلا بل أريناهم من الآيات ما وجدناه ملائما ومناسبا.مع العلم أن القرآن الكريم كلما ذكر مطالبة الكفار بالآية عنى به العذاب دائمًا، إلا أن تكون هناك قرينة صارفة عن هذا المعنى.وهنا أيضًا جاءت الآية بمعنى العذاب.هنا سؤال يطرح نفسه: إذا كان الله تعالى يبعث الرسل لإصلاح الناس فلماذا لا يفوض إليهم أمرَ عقاب العُصاة أيضًا، حتى لا يتجاسروا على معارضة الحق، شأن أننا

Page 598

الجزء الثالث ۰۹۱ سورة الرعد الحكومات التي تمنح موظفيها السلطة لإنزال العقاب بالمجرمين إلى حد ما.فقال الله ردا على هذا السؤال: لكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ..أي أن الله تعالى لا يرتب الجزاء على الأعمال الإنسانية فحسب، بل أيضًا يراعي ما هو الجزاء المناسب في وقت معين، لصاحب العمل ولغيره.ولو أنه فوَّض أمر العقاب إلى الأنبياء -وهم لا يعرفون الغيب- فقد يخطئون في إنزال العقوبة بالناس فور مطالبتهم بالعذاب، وهكذا يبطلون الحكمة من وراء بعثتهم.هذا هو الفرق بين الحكومات الدنيوية وحكومة السماء.فالحكام الدنيويون يحددون عقوبة جريمة من الجرائم وينفذونها، ولكن الله لا يحدد عقوبة الجريمة فحسب، بل ويختار العقوبة المناسبة لكل موقف معين لأن إنزال العقوبة المناسبة في الموعد المناسب يلعب دورًا هامًا في تأثيرها ونتائجها.فالقرار الأفضل الذي لا عيب فيه هو أن لا تحدّد عقوبة جريمة ما فحسب، بل يجب أيضًا أن يحدد العقاب وموعد تنفيذه بحكمة.لقد أخطأ المفسرون في فهم هذه الآية وقالوا بأن فيها تقديما وتأخيرا، والتقدير عندهم هو: "لكل كتاب أجل".والحق أنه لا حاجة بنا لأي تقديم أو تأخير، وإنما الترتيب الصحيح هو كما ذكره القرآن بنفسه، والمعنى أن عند الله قرارًا خاصا لكل موعد ووقت.وهكذا بين معنى لطيفًا جديدًا ذكرته فيما سبق، وهو أن الله تعالى لا الأنبياء خيار العقاب لأنهم لا يعلمون الغيب، ولا يعرفون ما هو القرار المناسب في الموعد المعين، هل يكون العفو أم يكون العقاب أم أن تأخير العقاب هو الأنسب.والآية المقبلة تؤكد هذا المعنى.يمنح يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ٤٠

Page 599

الجزء الثالث شرح الكلمات ۵۹۲ سورة الرعد يمحو محا الشيء: زال وذهب أثره محا فلان الشيء: أزاله وأذهب أثره (الأقرب).يُثبت : أَثْبَتَهُ عرفه حق المعرفة حبسه وجعله ثابتا في مكانه لا يفارقه.أثبت الحق: أكده.أثبت اسمه في الديوان: كتبه (الأقرب).أمّ الأُمّ: الوالدة.وأُمُّ الشيء: أصله.أُمُّ الطريق: معظمه (الأقرب).التفسير: إن الله لا يعذب قوما قبل حلول الموعد المناسب فحسب، بل وقد يلغي العذاب لحكمة وإن حل موعده إذ بين هنا نوعين من سنته عن العذاب: أولهما: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء) أي أن من أنباء العذاب ما يمحوه الله نهائيًا، وثانيهما: (وَيُثْبِتُ) أي أنه يُبقي نبأ الوعيد كما هو.ولكنه لا يعذِّب قومًا دونما ذنب، كما لا يزيد عما استوجبوه، وإن كان من الممكن أن يعذبهم أقل مما استوجبوه.وعلى كل من أراد التخلق بأخلاق الله أن يضع هذا القانون في الحسبان دائما.فالذين يريدون أن يسحقوا العدو عند الغضب، أو لا يريدون أن يعفوا عمن إليهم..فليعلموا أن سلوكهم مناف للصفات الإلهية، ولا يمكن أن يسموا مسلمين صادقين.أساء أما قوله تعالى (وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ فاعلم أن أم الشيء يعني أصله وحقيقته.ونظرًا إلى هذا المعنى فيمكن أن تفسر الجملة كالآتي: الأول: إن الله تعالى هو الأعلم بحكمة الأحكام الشرعية، لذا لا يمكن أن يهتدي الناس إلى الطريق السليم إلا بهديه.ذلك أن الإنسان خاضع لأهوائه النفسية وأطماعه الشخصية، لدرجة أنه لا يستطيع أبدًا أن يتسامى عنها حتى يهتم بحاجات العالم كله.فلذا كل ما يقترحه من تعاليم وأحكام لا بدَّ أن تكون مشوبة بشوائب أهوائه وأطماعه.ولكن الله عالم بحاجات العالم كله كما أنه عليم بما يخفيه المستقبل، لذلك فإن أحكامه كاملة وهدايته صحيحة سليمة من النقائص.

Page 600

الجزء الثالث ۵۹۳ سورة الرعد والمعنى الثاني هو أن جميع أحكام الشرع تدور حول صفات الله تعالى لأنها نابعة من هذه الصفات الإلهية، وهكذا يُصبح أصل الشريعة عند الله تعالى.وقد أشار بهذا إشارةً لطيفةً إلى أنه ليس بمقدور أحد أن يتحلى بالأخلاق العالية الفاضلة الحقيقية ما لم يكن سلوكه تابعا للصفات الإلهية بشكل كامل فمن أراد تقييم الأخلاق -خيرها وشرها على ضوء الأعمال الإنسانية فقط فقد أخطأ.لأن الخير في الواقع ما يكون موافقًا للصفات الإلهية، والشر هو ما يكون مخالفًا لها.وهذا التعريف للأعمال يحل المشاكل التي يواجهها الفلاسفة في تعريف الخير والشر.والمعنى الثالث هو أنه ما دام الله تعالى هو العليم بحكمة الشرع فيجب أن يكون خيار العقوبة أيضًا في يده هو سبحانه وتعالى.إذ نجد أن البعض يعادون الحق في البداية عداءً شديدًا، ولكنهم يقبلونه فيما بعد.ومثال ذلك في تاريخ الإسلام هو عكرمة بن أبي جهل وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضوان الله عليهم.فالله وحده كان يعلم أن هؤلاء يستحقون النجاة من العذاب، رغم عدائهم، وأنهم سيوفقون في يوم من الأيام لخدمات جليلة للإسلام.وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ٤١ ) شرح الكلمات: نتوفّينك: (انظر شرح الكلمات للآية ٤٧ من سورة يونس).بعض: بعض كل شيء: طائفة منه؛ وقيل جزء منه، ويجوز كونه أعظم من بقيته كالثمانية من العشرة (الأقرب).التفسير أي يا محمد ما دام عقابنا يهدف إلى الإصلاح لا إلى الانتقام، فلا داعي

Page 601

٥٩٤ الجزء الثالث سورة الرعد للعجب إذا ألغينا بعض أنباء العذاب.فقد تشاهد بعض أنباء الوعيد يتحقق، بينما تجد بعضها الآخر يلغى، وليس في هذا ما يدعو إلى القلق، لأن الحساب النهائي في يد الله تعالى، وأن المعترضين على الأنباء التي تم إلغاؤها سوف يضطرون للمثول أمامه ، وعندئذ سوف تنكشف عليهم الحقيقة تماماً.إذن فيجب أن تخضع يا محمد، كل أمر بحيث يحقق هذا الهدف الأسمى وهو البلاغ، وبأن لا تؤثر الانتقام والعقاب في كل حال، غاضاً النظر عن الغاية الحقيقية.أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) شرح الكلمات ٤٢ نأتي: أتاه: جاءه.أتى الأمر: فعله.أتى المكان: حضره.أتى على الشيء: أنفده وبلغ آخره.أتى عليه الدهر: أهلكه (الأقرب).أطرافها : جمع طَرَف وطَرْف.والطرَفُ: حرف الشيء ونهايته؛ الناحية؛ طائفة من الشيء؛ الرجلُ الكريم.والطرْفُ: الكريم من الفتيان والرجال.الأطراف من الناس: خلاف الرؤوس الأطراف من الأرض : أشرافها وعلماؤها، هو من أطراف العرب..أي من أشرافها وأهل بيوتاتها (الأقرب).لا معقب لحكمه أي لا راد له ولا ناقض له (الأقرب).التفسير : لقد دأب الكتاب المسيحيون على قولهم بأنه ليس في القرآن ما يؤكد أن محمدا قد أتى بأية آية وإنما اكتفى بادعائه بأنه سيأتي بها.(تفسير ويري ج١، ص ۳۳۳).ولكن هذه الآية تشكل ردًّا حاسما على زعمهم الخاطئ حيث يعلن الله

Page 602

الجزء الثالث ۵۹۵ سورة الرعد فيها بأننا قد نريهم الآيات، ولكنهم لا يبصرونها إذ قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ، بمعنى أن آثار انتصار الإسلام بدأت تلوح في الأفق طبقًا لنبوءات الكتب السالفة، وقد شرع الإسلام يغزو بيوت الكفار حيث إن أولادهم بدءوا ينضمون إلى جماعة المسلمين، ويسلم العبيد وعامة الناس، بل وعدد لا بأس به من علية القوم.فترى المؤمنين يشكلون جميع طبقات المجتمع.و"الأرض" هنا قد تعني الجزيرة العربية، والمعنى أن رسالة الإسلام تكتسب انتشارا متزايدًا في مختلف أنحاء الجزيرة.فقد أسلم أهل اليمن، والثابت تاريخيا أن بعضهم كانوا من اليهود والنصارى.كما آمن الغفاريون الذين كان منهم أبو ذر الغفاري، وأسلم أهل المدينة المنورة.كما أن قوله تعالى نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا قد يكون إشارة إلى هلاك الكفار وفنائهم، لأن القرآن الكريم قد استخدم كلمة الإتيان بمعنى العقاب والهلاك، إذ قال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (الحشر:(۳).أي أنزل الله بهم العقاب بطرق لم يتصوروها فمعنى الآية إذن أن كبارهم وعامتهم يتعرضون لصنوف العذاب، أو أن شتى أنحاء الجزيرة العربية عرضة لأنواع العذاب مما يكفي ليدرك به الكفار أن الله تعالى يُري آياته تأييدا للإسلام وتمهيدا لانتصاره والمراد من قوله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَنكم ما دمتم ترون أن الله تعالى يؤيد وينصر رسوله، فكيف تظنون أن أحدا يستطيع الحيلولة دون انتصاره.هل من أحد يقدر على إلغاء حكم الله تعالى.وفي هذا درس للمؤمن بأن عليه أن لا ينفك في طاعة أوامر الله تعالى غير مكترث ولا قلق لمكائد الأعداء.وأما قوله تعالى (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فليس المراد منه أنه تعالى يتعجل في محاسبة الناس، وإنما المعنى أنه لا يستعجل بالعذاب، ولكنه إذا قرر إهلاك قوم فلا يستغرق ذلك زمنًا ولا يستطيع أحد الحيلولة دون تنفيذ قراره.

Page 603

الجزء الثالث ٥٩٦ سورة الرعد وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) شرح الكلمات ٤٣ مَكَرَ: مَكَرَهُ: حَدَعَه.مكر الله فلانًا: جازاه على المكر.قيل: المكر صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان محمود يُقصد فيه الخيرُ، ومذموم يُقصد فيه الشر (الأقرب).تكسب : كسب الشيء: جمعه.وكسب مالاً وعلما : طَلَبَه وربحه.كسب الإثم: تحمّله كسب لأهله طلب المعيشة (الأقرب).التفسير: أي كيف يمكن أن تنجحوا في مكائدكم مع أنه تعالى على علم بكل مكر تمكرونه.فلا بد أن يحبط خططكم أنتم جميعًا، شأن البصير الذي يكفي وحده لضرب جماعة من العميان.وأما قوله تعالى سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ فيعني به أننا نحيط علما بكل ما ينسجه الكفار من مكائد، ولكنهم لا علم لهم بالتدابير التي نتخذها ضدهم، وعندما نصيبهم بالخسائر سيدركون من الذي يملك زمام أمرهم ومصيرهم.والسين في قوله تعالى سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ للتأكيد والتقريب، فالمراد من الجملة أنهم سيعرفون حتمًا أن المسلمين هم المنتصرون في آخر المطاف.كما أن فيها إشارة إلى أن الكفر لن يموتوا إلا بعد أن يروا انتصار النبي ﷺ وازدهاره.رءوس

Page 604

الجزء الثالث ۵۹۷ سورة الرعد وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب ) النبي ٤٤ التفسير: إن أعداء أي نبي يرفضون كل دليل يسمعونه منه، ويسعون للتشكيك حتى في أعظم البراهين وضوحًا وجلاء، وهذا في حد ذاته يُشكل دليلاً على صدق وعلى فساد عقول الكفار وسوء نيتهم.وإذا فسدت عقول العلماء في أمة لدرجة أنهم لا يستطيعون فهم أبسط الأمور وأوضحها فما بال العوام؟ وهذا دليل على أنهم بحاجة إلى هاد من عند الله، إذ لو لم يُبعث نبي في مثل ذلك العصر الحالك فما هو الوقت الأنسب لبعثته يا ترى؟ إلى هذا المعنى يشير الله تعالى هنا موضحًا لرسوله أن الأعداء سوف يقابلونك بالرفض وإن رأوا كل آية وسمعوا كل دليل.فلا تتضايق من جهلهم هذا، بل قل لهم: إن ربي يؤكد صدقي بآياته المتجددة، فلن يضرني إنكاركم شيئا.كما ويشهد على صدقي من عنده العلم الصحيح بالكتب السماوية، فما قيمة إنكاركم إزاء هاتين الشهادتين العظيمتين؟ والحق أن هاتين الشهادتين تتسببان في انتصار الأنبياء..أعني الآيات السماوية المتجددة، والأنباء التي وردت في كتب الأنبياء الأولين، وليس هناك شهادة هي أقوى منهما، وإن التركيز عليهما اليوم أيضا يجعل الإسلام غالبًا منتصرًا مرة أخرى، إن شاء الله تعالى.

Page 605

الجزء الثالث ۵۹۸ سورة إبراهيم وهي مع البسملة ثلاث وخمسون آيةً وسبعة ركوعات سورة إبراهيم سورة إبراهيم مكية كلها عند الجمهور، غير أن ابن عباس وقتادة يريان أن قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا...إلى قوله...فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ نزل بالمدينة (البحر المحيط).وقد روى النحاس عن حبر أن هذه الآيات نزلت في قتلى المشركين عند موقعة بدر.وهناك رواية أخرى لأبي الشيخ عن قتادة بهذا المعنى.(روح المعاني) الترابط: إن سورة إبراهيم استمرار لنفس الموضوع الذي تحدثت عنه السور السابقة، ولكنها تبين هذا الموضوع على أساس الرؤية الإلهية.بمعنى أن الله تعالى قد ذكر فيها أحوال الأنبياء السابقين للتدليل على صدق نبينا محمد ، موضحا أن الأنبياء السابقين أيضًا مروا بنفس ما يمرُّ به محمد وواجهوا مثله ظروفا غير مواتية ومع ذلك نجحوا في مهمتهم.خلاصة محتواها : إن هداية الناس هي الغاية الحقيقية من نزول القرآن الكريم.لقد كان الناس في ضلال، فنزلت هذه الشريعة لتخرجهم من الظلمات إلى النور.لقد سبق أن بعثنا الرسل لتحقيق نفس هذا الهدف، ومنهم موسى الذي أعلن للناس أنه قد جاء من قبله الرسل لهذه الغاية نفسها.ثم بين الله تعالى سرّ نجاح رسله، ألا وهو أنهم كانوا على الحق، ولذلك كانوا هم الغالبين.ثم أوجز علامات الوحي الحق، ودعا الناس أن يروا ما إذا كانت هذه العلامات متوفرة في القرآن الكريم أم لا! ثم خاطب الذين أُخرجوا من الظلمات إلى النور أي

Page 606

الجزء الثالث ۵۹۹ سورة إبراهيم المسلمين وعلمهم الطرق التي تساعدهم على الانتفاع من هذا الكلام العظيم.كما وضح أن هذه الثورة الموشكة أن تتفجر في العرب ليست وليدة هذه الساعة وإنما سبق أن خططنا لها منذ القدم، فقد دعانا إبراهيم قبل آلاف السنين لإحداث هذه التطورات.بل الواقع أن مكة إنما أُنشئت لهذه التطورات نفسها، ولا نمد أهلها بالثمرات بشكل غير عادي إلا لهذه الغاية، فكيف يمكن إذن أن نتغافل عنها اليوم.ثم نبه المؤمنين بأننا قد بينا واجباتكم على لسان إبراهيم، فحذار من أن تتغافلوا عنها أبدًا.كما أنذر الكفار بأن إبراهيم إنما أسس مكة لتكون مركزا لتوحيد البارئ تعالى، فإذا لم تكفّوا عن الأعمال الوثنية فسوف تُطردون بعيدًا عنها، ليكون هلاككم دليلاً على صدق التوحيد.

Page 607

الجزء الثالث ٦٠٠ سورة إبراهيم والله الرحمن الرحيم الركتابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لتخرج النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور بإذن لِتُخْرِجَ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاط العزيز الحميد ) شرح الكلمات العزيز: المنيع الذي لا يُنال ولا يُغالَب ولا يُعجزه شيء ولا مثل له.(الأقرب) الحميد المحمود.(الأقرب) التفسير: كلمة "كتاب" في الآية خبر مبتدأه محذوف والتقدير : هذا القرآن كتاب أنزلناه إليك.لقد بين الله تعالى هنا أن القرآن الكريم نور يُخرج به محمد ﷺ الناس من الظلمات إلى النور.ثم شرح هذا النور بقوله إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ موضحًا أن صراطه ول هو النور الحقيقي.ذلك أن الجميع يحبّون النور، ولكنهم مختلفون في شرحه.فمثلاً نجد اليوم فئة من الناس يسمون أنفسهم أصحاب النور الحديث، ويقصدون بالنور الفلسفة العصرية والحضارة الحديثة والإباحية والعلمانية.بينما نجد المسيحيين يدعون بأن المسيحية هي نور الله.ويزعم الهندوس أن الهندوسية هي نور الله.ونحن المسلمين نعلن أن الإسلام هو نور الله فكل واحد يدعى أنه صاحب النور.ولكن هذه الآية تذكر بأن الطقوس الفارغة أو القشور الخالية من اللب لا يمكن أن تُسمّى نورا، بل النور اسمٌ لقرب الله تعالى.فالذي لا تقربه خُطواته من ربه باستمرار لا

Page 608

الجزء الثالث ٦٠١ سورة إبراهيم يمكن اعتباره من أهل النور أبدًا، وإنما صاحب هذا النور من يتقدّم إلى الله ويقترب منه فعلاً.لقد ذكر هنا صفتي "العزيز والحميد" من صفات البارئ تعالى تدليلاً على وجوده ، لأن إحداهما تشير إلى النور المتجلّي في أفعاله جلّ وعلا، والأخرى تشير إلى النور المتجلي في علمه الكامل سبحانه وتعالى.فمن حَظي بصحبة هذا "العزيز" صار غالبًا على أعدائه، ونجا من ظلمات الشدائد والمحن.ومن كان مع "الحميد" تغلب على عدوه الداخلي أي الشيطان، وخرج من ظلمات نفسه ومن وساوس وشبهات وجهل، واستحق الحمد.ولقد حقق الله هذين الأمرين كليهما على يد النبي ، إذ أخرج العرب من والهوان، كما طهرهم من ظلمات الجهل والشرك والضعف الخلقي.حضيض الذلة لقد صاروا ملوكًا يسوسون العالم كله كما أصبحوا أساتذة الدنيا بأسرها في مجال العلم والمعرفة.ويمكن تقدير حالة العرب البائسة قبل بعثة النبي ﷺ من الحادث التالي الذي سجله التاريخ.فقد ورد في التاريخ أن المسلمين عندما شنوا الحرب على بلاد الفرس في زمن عمر ، أمر ملكهم قائد جيشه أن يردّ المسلمين عن الحرب بإغرائهم بالمال.وكان المبلغ زهيدا جدا أي دينارًا أو دينارين لكل جندي مسلم.(السيرة الحلبية).وهذا يؤكد أن الشعوب المجاورة للعرب كانت تنظر إليهم بغاية الاحتقار والازدراء، وتعتبرهم فقراء مُدقعين قليلي الهمة جدًّا.ولكن انظروا إلى تأثير الإسلام فيهم، إذ لم يفتحوا دولة الفرس فحسب، بل تمكنوا أيضًا من بسط سلطانهم على الشام وفلسطين ومصر والأناضول وأرمينيا والعراق وإفريقيا الشمالية وأفغانستان والهند والصين وذلك قبل انتهاء القرن الأول من نشأة الإسلام.كان معظم الصحابة من الفقراء أو من متوسطي الحال اقتصاديًا، ولكنهم بفضل الإسلام حازوا على ثروات هائلة، حتى إن الصحابي عبد الرحمن بن عوف ترك لدى وفاته من المال ما

Page 609

الجزء الثالث ٦٠٢ سورة إبراهيم يساوي ٢٥ مليون روبية وهي ثروة هائلة جدا بمقاييس اليوم.والثورة الثانية أيضًا بينة ظاهرة في العرب.كانوا لا يحبذون القراءة والكتابة، ولم تكن لديهم آية علوم ولا معارف ، ولكنهم بفضل الإسلام صاروا أساتذة العالم في كلّ مجال علمي.لقد وضعوا الأسس لعلم التاريخ وعلم الجبر وعلم الصرف والنحو والمعاني والبيان واللغة.وهناك عشرات العلوم الأخرى التي اخترعوها أو أخذوها من حالتها البدائية وطوّروها إلى حد الكمال مثل : الفقه فلسفة الفقه، المنطق، الفلسفة، الطب، السياسة الهندسة الكيمياء والفلكيات وغيرها حتى إن الباحثين الغربيين قد اعترفوا أنه لولا المسلمون العرب، لما كان العالم كما هو عليه اليوم علمًا وثقافة.أما فيما يتعلق بالمجال الروحاني فقد حققوا فيه من الرقي ما لا نجد له مثيلاً في أي شعب منذ فجر الإنسانية.اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَديد شرح الكلمات ويل الويل حلول الشر؛ وقيل هو تفجيع والويل: كلمة عذاب.والويلة: الفضيحة البلية (الأقرب).التفسير: لقد وردت هنا كلمة "الله" بعد صفتي "العزيز، الحميد" كعطف بيان، والمراد أن صراط العزيز الحميد" يعني صراط الله الذي يملك الكون كله، وجميع المخلوقات شاهدة على كون الله حميدًا حيث لا تجد في خلقه أي عيب ولا فتور.ومن اهتدى إلى إله كهذا فلا بد من أن يلمس في نفسه تطورًا طيبًا غير عادي، وينال

Page 610

الجزء الثالث ٦٠٣ سورة إبراهيم سلطانًا على السماوات والأرض.وما أروع وما أعظَمَ ما حققه المسلمون من عز وغلبة بحسب هذا الوعد الإلهي، إذ كان خليفتهم يصدر الأوامر وهو جالس بالمدينة، فيهب العالم الإسلامي كله ويستجيب للخليفة بكل إخلاص.هل تجدون أي مثال في تاريخ العالم لحكومة كهذه.كذلك تحقق لهم "وعد الحمد" تحققا منقطع النظير، حتى أصبحت كلمة "المسلم" بمثابة ذمة وضمان لم يكن أحد يشك فيه.كما أن وعد المسلم كان يُعتبر بمثابة قضاء سماوي لا يُخلف بل لا بد أن ينجز.ولا نزال نسمع إلى اليوم صدى لمدائحهم يدوي في العالم.حتى إنك لتجدها مسجلة في قصص الغرب وقصائدهم.خذوا مثلا حادث الصحابي أبي ذر الغفاري الله يذكر التاريخ أن أحد المسلمين ارتكب جريمة وحكم عليه بالإعدام.وعندما عُرض على الخليفة توسل إليه قائلاً: عندي أمانات لأبناء عمي الأيتام، أرجوك أن تمنحني مهلة يوم حتى أؤدي هذه الأمانات والواجبات إلى أصحابها، وسأعود إليك غدًا في موعد كذا لتنفذ في عقوبة الموت.فقال الخليفة: من الذي يضمن لي ذلك؟ وكان أبو ذر الصحابي في المجلس، فقال الرجل مشيرًا إليه: هذا يقوم بكفالتي ويحمل ذمّتي.ولم يكن للصحابي أية معرفة سابقة بالرجل، ولكن مروءته دفعته إلى حمل ذمته، فإن أخاه المسلم يأمل فيه أملاً جسيمًا.فذهب الرجل ومضى اليوم واقترب الموعد المضروب، ولكن الرجل لم يرجع فقال الناس لأبي ذرّ في قلق: هل كنت تعرفه؟ فقال: لا، ولكني رأيت أن مسلمًا يسألني ذمتي فآتيته إياها، وما دام كان يثق بي فلم لا أثق به وعندما أوشك الموعد أن ينتهي خاف القوم على حياة أبي ذر، وبينا هم كذلك إذ رأوا عن بعد شبح فارس يحث حصانه المنساب تحته كأنه يسابق الريح، ولما وصلهم نزل عن جواده ووقع على قدمي أبي ذرّ من شدة الإرهاق، معتذراً إليه على التأخير، ووضح له أنه تأخر لكثرة الواجبات التي كان عليه أداؤها.فانظروا إلى روح الإيثار والتضحية التي عمل بها أبو ذر ، ثم انظروا كم كان هذا

Page 611

الجزء الثالث الرجل صادقًا ٦٠٤ سورة إبراهيم في قوله وفيًّا بوعده هل تجدون نظيرا لهذا الوفاء في تاريخ الأمم الأخرى؟ وكما ذكرت فإن الكتاب الإنجليز أيضًا قد دوّنوا حادث هذا المسلم العربي في قصصهم وروائعهم الشعرية.: وإليكم مثالاً آخر لقد سجل التاريخ أن المسلمين فتحوا الأراضي السورية أول الأمر، ولكن بعضها وقعت مرة أخرى في أيدي المسيحيين، فاضطر الجيش المسلم للانسحاب، فأمرهم سيدنا عمر له بإرجاع الضرائب لأهل المنطقة.فردوها إليهم معتذرين لهم بقولهم: ما دمنا لا نستطيع الدفاع عنكم فلا يحق لنا أخذ الضرائب منكم.وكان أهل المنطقة من المسيحيين، وكان الغزاة الجدد من إخوتهم المسيحيين أيضًا، إلا أنهم تأثروا من حسن معاملة المسلمين لدرجة أنهم جاءوا إلى خارج المدينة لتوديع المسلمين، وهم يبكون على مغادرتهم قائلين: لو كان الجيش المسيحي مكانكم لسلبوا ما بأيدينا بدلاً من أن يردوا إلينا الضرائب كما فعلتم.ثم إنهم دعوا الله بأن يعيد المسلمين إليهم حاكمين مرة أخرى.آه، ما أبعد الشقة بين مسلمي ذلك العصر وبين مسلمي اليوم.لقد كان المسلم عندئذ أكثر أهل الأرض أمانةً ووفاءً وسلما.أما اليوم فإن علماء المسلمين أنفسهم قد أفتوا بسلب أموال غير المسلمين واعتبروا الغدر بالحاكم غير المسلم من صميم الإيمان، كما أفتوا أن قتل غير المسلم ثواب ومكرمة.وبالاختصار، فما من حسنة كانت تعتبر مفخرةً وشرفًا للمسلم إلا وقد انعدمت اليوم في المجتمع الإسلامي.إنا لله وإنا إليه راجعون.يا ليت جماعتنا تدرك حجم المسئولية الملقاة عليها وتسترد للإسلام مجده الغابر حتى ترى الدنيا مرة أخرى غلمان محمد رسول الله ﷺ متحلين بالأخلاق المحمدية الفاضلة بحيث يجد الرائي في وجوههم تجليا لوجه الله تعالى.فيجب أن يكونوا أمناء للغاية بحيث يُؤثرون الموت لأنفسهم ولأهليهم جوعًا على أن يخونوا أمانات الآخرين؛ وأن يكونوا صادقين جدا بحيث يضحون بالحياة والمال والمنصب والوظيفة ولكنهم لا يتفوهون بكلمة كذب واحدة؛ وأن يكونوا أوفياء بحيث إذا عاهدوا عهدًا

Page 612

الجزء الثالث ٦٠٥ سورة إبراهيم أوفوا به ولو على حساب حياتهم ؛ وأن يكونوا ذوي همم عالية بحيث إذا عزموا على أمر نفذوه ولو بفداء أرواحهم.الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيد ) شرح الكلمات: يستَحبّون: استحبّه أَحَبَّه استحسنه.واستحب الكفرَ على الإيمان: آثَرَه (الأقرب).يبغون: بغاه يبغيه : طَلَبه.يقال: ابغني ضالتي أي اطلبها (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إن الذي يُعرض عن مثل هذا التعليم يكون مصيره واضحا، إذ كيف ينال العز والحمد من يُعرض عن العزيز الحميد ولكن قائل الله العناد، فإن الكفار المتعنتين يحرمون أنفسهم من أفضال الله تعالى كما يتسببون في حرمان الآخرين منها، ولا ينهون غيرهم عن الإسلام فحسب، بل يعرضون عليهم تعاليمه بشكل مشوه ممسوخ، ساعين لحرمان الآخرين من قبولها إلى الأبد.إن عناد الإنسان لسوء حظه - يدفعه إلى محاربة الحقيقة ومحوها، دون أن يدري أنه بذلك يرتكب جريمة قتل الآلاف قتلاً روحانيا.والمراد من قوله تعالى (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أهم يتمنون من جهة أن يعثروا على السبيل المؤدية إلى الله تعالى، ولكنهم من جهة أخرى لا يريدون التخلّى عن عاداتهم القبيحة وسلوكهم الخاطئ المشين.والنتيجة أنهم يسمون ما اخترعوه من طقوس وبدعات دينا ذلك لكي يخدعوا أنفسهم ويخنقوا صوت الضمير، فيطمئنون بهذه البدعات هم وأولادهم اطمئنانا موهوما باطلاً، فيُحرمون من نور الهدى.وبهذا

Page 613

الجزء الثالث ។ • ។ سورة إبراهيم " المفهوم سيكون سبيل الله" هنا بمعنى الحق مطلقا.فالآية تبطل زعم الذين يقولون بوجود الصلحاء المقربين عند الله حقا في كل ديانة وأمة.لأن الله تعالى يقول: إن صراطي المستقيم لن يهتدي إليه إلا من يتبع التعاليم التي أنزلت من لدنّي لا غير.ولكن الذي لا ينفك مصرا على إتباع ما وجد عليه آباءه، فلا يمكن أن يُعتبر باحثًا عن سبيل الله وعل، وإنما هو يبحث عن سبيل آبائه، وما دام متجها إلى غير سبيل الله فأَنَّى له أن يصل إلى الله جل شأنه؟ إن الذي يبغي عوجا، أي يتجه إلى جهة خاطئة سيصل إلى غاية خاطئة حتمًا.وقد تعني الآية أنه يبدو للرائي لأول وهلة أن الكفار يديرون حوارًا جادا الإسلام ليفهموا موقفه ويعرفوا الحق ،ويتبعوه، ولكن الحقيقة أنهم يجادلون أهل الإسلام تعصباً وعنادًا فقط، لا بحثا عن الحق.وبما أنه لا يمكن أن يعثر على سبيل الله إلا الذي يتمسك بالحق فسوف يبقى هؤلاء الكفار محرومين من الهداية.ونظرا لهذا المفهوم تكون كلمة "سبيل الله " بمعنى الإسلام.عن وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ شرح الكلمات : ليبين: بينه: أوضحه.(الأقرب) يُضِلُّ : أَضَلَّه: أهلكه.(الأقرب) التفسير: لقد قال البعض إن قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ليُبَيِّنَ لَهُمْ) يعني أنه لا ينبغي أن ينزل الوحي على أي رسول إلا بلسان قومه فقط.

Page 614

الجزء الثالث ٦٠٧ سورة إبراهيم ولكن هذا خطأ.والمعنى الصحيح هو أنه يجب أن يتزل عليه الوحي بلسان قومه، لأنه لو نزلت عليه الرسالة بغير لسان قومه لصعب عليه تبليغها.لهم.ولكن لا حرج في نزول بعض الوحي عليه بلسان غير لسان قومه كآية ومعجزة.لقد قمت بتوضيح هذا الأمر لأن بعض معارضي سيدنا الإمام المهدي والمسيح من الموعود اللي يعترضون على إلهامات لحضرته قائلين: كيف يمكن أن يكون صادقًا يدعي أن الله تعالى قد أوحى إليه بغير لسان قومه أيضًا؟ (محمديه باكت بك ص.(۱۷۹ والحق أن الوحي الذي نزل عليه بلغات أخرى غير العربية والأردية، لم يكن إلا آية ومعجزة من الله تعالى.لقد نزل عليه الوحي بالعربية لأنها لغة دينية ورسمية للإسلام ولغة قومية للمسلمين ونزل عليه الوحي بالأردية أيضًا لأن الناطقين بها كانوا أول من خاطبهم حضرته.والواقع أننا لو درسنا الوحى النازل عليه لوجدنا أن الجزء الأساسي والحيوي منه كان إما بالعربية أو بالأردية، وما نزل عليه بلغات أخرى ليس مما يحول فقدانه دون تبليغ ،دعوته ، وإنما كان بمثابة معجزة تدعم دعوته.لقد أثار النصارى وخاصة القسيس ويري اعتراضا على شخص النبي ﷺ، بناء على هذه الآية، إذ قال: هذه الآية تبين أن محمدًا بُعث للعرب فقط.وأضاف قائلاً: وفي هذا دليل على جواز ترجمة القرآن إلى لغات أخرى تفسير ويري للقرآن، تحت هذه الآية).وهناك تعارض في قوله هذا: إذا كان محمد رسولاً إلى العرب فقط، ولا علاقة لرسالته بالأمم الأخرى فلا ضرورة لترجمة الوحي النازل عليه إلى لغات الشعوب الأخرى.وإذا كان هناك جواز لترجمة القرآن فثبت أن رسالته كانت موجهة إلى الأمم الأخرى أيضًا.بيد أن الرد الحقيقي على اعتراضه هو أن الآية لا تعنى أبدا أن محمدا كان رسولاً إلى العرب فقط، لأن القرآن الكريم يصرح بكل جلاء ووضوح في أماكن عديدة منه بأنه كان رسولاً إلى الناس جميعًا.يقول الله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ

Page 615

الجزء الثالث 7+1 سورة إبراهيم شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَن الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الذي الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: (109-10V لقد ذكر الله هنا خمسة براهين على كون النبي الكريم ﷺ مبعوثًا إلى الدنيا كلها وهي كالآتي: أولها: لقد أمر الله أهل الكتاب هنا بتصديق هذا النبي، ووعدهم برحمة واسعة خاصة، فقال: (فَسَأَكُتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل).وهنا نسأل إذا كان محمد ﷺ مبعوثا إلى العرب فقط فلم وعد الله أهل الكتاب بالرحمة الخاصة شريطة أن يتبعوه.ثانيها: يؤكد القرآن أن هناك أنباء في التوراة والإنجيل عن بعثة النبي.وإذا كان محمد لم يبعث إلى أهل الكتاب فما الحاجة أن تسجل أسفارهم البشارات عن مجيئه، خاصةً وأن المكيين العرب ما كانوا يؤمنون بالتوراة والإنجيل، في حين أن الأنباء إنما تساعد الناس على معرفة صدق المدعي.فما دامت أنباء مجيئه مسجلة في التوراة والإنجيل فلا بد من التسليم بأن الإيمان بمحمد كان فرضا واجبًا على اليهود والنصارى، إذ لم يشر القرآن إلى هذه الأنباء إلا ليؤكد ضرورة إيمان أهل هذه الأسفار بالنبي الموعود.

Page 616

الجزء الثالث ٦٠٩ سورة إبراهيم ثالثها: تؤكد الآية أن هذا النبي يأمر أهل الكتاب بالمعروف وينهاهم عن المنكر.فلماذا يسدي إليهم هذا النصح إذا لم تكن رسالته موجهة إلى أهل الكتاب؟ ورابعها: تخبر الآية أن مَن يؤمن من اليهود والنصارى بمحمد فسوف ينال الفوز والنجاح.ونقول: لو كان محمد مرسلا إلى العرب دون غيرهم، للزم أن يعاقب الله من يصدقه من أهل الكتاب بدلاً من أن يشملهم بإنعامه وفضله.هذه الأدلة الأربعة تؤكد أيما تأكيد على أنه سواء كان سيدنا محمد ﷺ مرسلاً إلى أحد أم لا فإنه كان مرسلاً إلى اليهود والنصارى حتمًا.خامسها وهو برهان غاية في الوضوح والصراحة كما أنه نتيجة منطقية لما سبق ذكره، حيث يأمر الله رسوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا مما يؤكد أنه لم يبعث إلى اليهود والنصارى فحسب، بل إلى الإنسانية جمعاء.ثم هناك آية أخرى توضح الموضوع بجلاء: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (سبأ: ٢٩) كما أعلن النبي صراحة بقوله: (بعثتُ إلى الأحمر والأسود) (مسند أحمد ج ۳ ص (٣٠٤ وهم العجم والعرب.وفي رواية "بعثتُ إلى الناس عامة (مسند أحمد ج ٣ ص ٣٠٤).وفي رواية أخرى: "أرسلت إلى الخلق كافة" (مسلم، المساجد؛ الترمذي، السير).إن جميع هذه الآيات والأحاديث تدل دلالة واضحة على أن النبي الكريم كان مبعوثا للعالم أجمع، وأن اعتراض الكتاب النصارى باطل لا أساس له.كما تؤكد أن الوحي يترل على النبي بلسان قوم يخاطبهم أولاً ، فيقوم هؤلاء بنقل رسالته إلى الأمم الأخرى بعد أن يستوعبوها ويفهموها بأنفسهم.ويتضح من الآية التي نحن بصدد تفسيرها أن اللغة العربية هي أم اللغات كلّها، لأن الرسول المبعوث في العرب هو الذي عُهد إليه إصلاح الناس كافة.فجعل الوحي النازل باللغة العربية هداية للعالم كله يؤكد كون العربية أُمَّا للغات كلها بطريق أو

Page 617

الجزء الثالث ٦١٠ سورة إبراهيم بآخر، وأن اللغات الأخرى لغات مشتقة منها.كما أن الآية تمثل دحضًا للآريين وهم فرقة من الهندوس الذين يقولون بأن كلام الله يجب أن يتزل بلغة لا يتكلم بها ولا يفهمها أحد حتى تتم المساواة بين الناس (ستیارت بركاش باب ١٤ ص ٤٩٨.ولكن القرآن يعارض هذه الفكرة الرديئة قائلاً: يجب نزول الوحي بلغة يتحدث بها الناس حتى يشرحه النبي لقومه فيفهموه.فما الجدوى من إنزال الوحى بلغة لا يتكلم بها أحد ولا يفهمها أحد؟ ويمكن كشف فساد هذه العقيدة الآرية بطريق آخر أيضًا، وذلك أن شريعتهم "فيدا" وإن كانت قد نزلت بلغة غير مفهومة كما يزعمون- فإما أن الرشيين (وهم كبار صلحائهم الأوائل لم يفهموها لدى نزولها، وهكذا يصبح إنزالها عبثا، أو أن الله تعالى يكون قد فهمهم إياها فلم تعد إذن هناك أية مساواة يدعون بها! وإذا كان الناس العاديون موجودين عندئذ إلى جانب الرشيين، وشرح الله لغة الفيدا لهؤلاء جميعا فلا شك أنهم صاروا متساوين، ولكن لم تبق المساواة بين هؤلاء وبين الذين جاءوا بعدهم ممن يجهلون لغتها، بل الحق أن معظم زعمائهم الدينيين أنفسهم لا يفهمون اليوم لغة شريعتهم "الفيدا".وبما أن إمام هذا العصر الإمام المهدي والمسيح الموعود ال قد تلقى معظم الوحي باللغة الأردية بعد العربية - فلذا أرى بناء على هذه الآية أن الأردية ستكون اللغة السائدة في الهند في المستقبل، ولن تستطيع أية لغة الوقوف في وجهها.لقد أردف الله قوله ليُبَيِّنَ لَهُمْ بقوله فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء ليشير إلى أن الذي لا تتيسر عنده الوسائل لفهم الدين الحق لا يُدخله الله في عداد الضالين، بل الضال المجرم هو من قامت عليه الحجة وبلغه الأمر بشكل واضح صريح ومفهوم ومع ذلك يرفضه.ومعنى ذلك أن الله تعالى لا يصدر القرار بضلال أحد إلا بعد تبيين الأمر له، كما أنه لا يعاقب الذين حُرموا من الإيمان لأن رسالة دينه الحق لم تبلغهم بصورة واضحة نقية؟

Page 618

الجزء الثالث ٦١١ سورة إبراهيم إنني أود هنا إبطال التهمة التي يوجهها إلينا الأحمديون اللاهوريون" إذ يزعمون أننا نحن الأحمديين التابعين لنظام الخلافة نعتقد أن كل من لا يؤمن بسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود ال سوف يعاقبه الله تعالى سواء بلغته دعـــوته أم لم تبلغه.وها إني أقولها علنًا إنها تهمة باطلة وبهتان مبين.إذ كيف يمكن أن تفتي بهذا والقـــرآن الشريف يعلن صراحةً أن فتوى الضلال والهلاك ضد أي إنسان إنما تصدر بعد تبيين الأمر له وإقامة الحجة عليه.وأكد بقوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أنه غالب وقادر على إنزال العقاب على من يشاء، ولكنه ذو حكمة بالغة أيضا، فلا يعاقب أحدًا بدون مبرر.وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِن فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (3) شرح الكلمات: ذَكِّرْ: ذكر الناس وعظهم.ذكره إياه: جعله يذكر (الأقرب).صبار: صيغة المبالغة من الصبر.وانظر أيضًا شرح الكلمات للآية ٢٣ من سورة الرعد).شكور : صيغة المبالغة من الشكر.شكره وشكر له أثنى عليه بما أولاه من المعروف (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى لرسوله الله : لقد عهدنا إليك نفس المهمة التي عهدناها إلى موسى، فعلى الناس سواء الموافقين منهم أو المعارضين – أن يضعوا أحوال ― هم فئة أرادت إلغاء الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية، وانشقوا عنها تاركين مركزها قاديان ومتخذين مدينة لاهور مركزا لهم واشتهروا باسم الجماعة اللاهورية وكان أول رئيس لهم المولوي محمد علي المحترم.(الناشر)

Page 619

الجزء الثالث ٦١٢ سورة إبراهيم موسى في الحسبان عند مناقشة أمر نبوتك.والمراد من قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أن أمة موسى الصبروا على الشدائد فجنوا ثمارًا طيبةً لصبرهم.كذلك لا بد لكم أيها المسلمون من أن تواجهوا شتى المصائب والمحن ولا مناص لكم من أن تصبروا عليها وتثابروا حتى يكون النجاح حليفكم.كما يجب أن تتذكروا أن أمة موسى عندما تنكروا لنعم الله نزل عليهم الغضب والعذاب.فانظروا إلى نعم الله دائما نظرة تقدير وشكر، وحذار أن تجحدوها وإلا سيصيبكم ما أصابهم.وبقوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ علّمنا طريقين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور : الأول : الترغيب في نعم الله ،وأفضاله والثاني الترهيب من عقابه وعذابه، لأن "أيام الله" تعني الزمن الذي أنزل الله فيه نعمه وبركاته خاصة، وأيضًا تعني الزمن الذي صب الله فيه عذابه بشكل خاص.إن العلمانيين في هذا العصر يركزون على قولهم ما قيمة الإيمان الذي يكون نتيجة التخويف والترهيب؟ ولكن الواقع أن زعمهم هذا يتنافى مع الفطرة الإنسانية، لأننا نجد أن الخوف هو الذي يدفع القطاع الأكبر من الناس لاتخاذ الخطوة الأولى إلى الإيمان ولولا تذكيرهم مرة بعد أخرى بمؤاخذة الله وعقابه لبقوا محرومين من الخير كلية.فالشريعة الكاملة لا تهيئ الهداية للناس الذين هم كاملون في إيمانهم وفي حالتهم الروحانية فحسب، بل إنها تصف العلاج للذين هم دونهم أيضًا.وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَبْحَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ

Page 620

الجزء الثالث ٦١٣ سورة إبراهيم نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ شرح الكلمات: يسومون : سامَ فلانًا الأمرَ: كلّفه إياه، وأكثر ما يُستعمل في العذاب (الأقرب).السَّوْم: أصله الذهابُ في ابتغاء الشيء، فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والابتغاء، وأُجري مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل فهي سائمة، وبحرى الابتغاء في قولهم سُمتُ كذا ، قال : يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ (المفردات).يُذبحون: الذبح الهلاك (التاج).بلاء: البلاء: الاختبار يكون بالخير والشر (الأقرب).وفي القرآن الكريم: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ (الأعراف ١٦٩).التفسير: إن الذبح يعني الهلاك أيضًا كما ذكرتُ آنفًا.وبما أن التوراة تذكر أن فرعون كان يأمر بقتل مواليد الإسرائيليين بإلقائهم في النهر ، لذا فمن الأنسب تفسير كلمة "يذبحون" بمعنى يُهلكون.فقد ورد في التوراة "ثم أمر فرعون جميع شعبه قائلا: لكي كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها" (الخروج ٢٢:١).وقوله تعالى (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إشارة إلى المعاملة المخزية المهينة التي كان فرعون يعامل بها بني إسرائيل من فرض الضرائب الثقيلة عليهم أو تسخيرهم في أعمال شاقة دونما أجر.فقد ورد في التوراة : " فجعلوا عليهم رؤساء تسخير يُذلّوهم بأثقالهم.فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس" (الخروج ١١:١).كذلك جاء فيها: "ومرروا حياتهم بعبودية قاسية في الطين واللبن وفي كل عمل في الحقل.كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفًا" (الخروج ١٤:١).والبلاء هو الاختبار سواء كان بالإيلام أو الإنعام ولما كان بنو إسرائيل قد اختبروا بقتل مواليدهم الذكور وهو إيلام وبحياة مواليدهم الإناث وهو إنعام، لذلك

Page 621

الجزء الثالث ٦١٤ 110/ استخدم الله تعالى هنا كلمة البلاء التي تؤدي معنيي الاختبار كليهما.سورة إبراهيم وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَعن شكرتم لأزيدلَكُمْ وَلَئِن كَفَرْكُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَديدٌ شرح الكلمات: تَأَذَّنَ: تأذن الرجلُ : أقسم.تأذن الأمر: أعلمه تأذن الأمير في الناس: نادى فيهم يهدّد وينهى.كَفَرْتُمْ: كَفَرَ نعمة الله وبنعمة الله كفرانا: جَحَدَها وسترها، وهو ضدُّ الشكر.وفي الكليات: الكفرُ : تغطية نعم المنعم بالجحود (الأقرب).(راجع أيضًا شرح الآية ٦ من سورة إبراهيم).التفسير: تذكرنا الآية بقاعدة هامة رائعة ألا وهي أن الرقي بنوعيه المادي والروحاني منوط بالشكر.والشكر كما أسلفنا هو اعترافك بالصنيع وثناؤك على صانعه.وإنما يشكر الإنسان ربه على نعمه إذا أحسن استخدامها، لأن أحدًا إذا وهب لك شيئًا فأسأت استخدام هبته فمهما شكرته عليها وأثنيت عليه بلسانك فهو ثناء فارغ لا قيمة له بل الشكر الحقيقي أن تحسن استخدام هديته وفي محلها.هذه القاعدة نفسها سارية في المجالات كلها.إذا أحسنت استخدام علمك ازددت علمًا، وإذا أحسنت استخدام أعضاء جسمك من يد وعين وأنف وأذن وغيرها فلا بد من أن تزداد هذه نشاطًا وفاعلية.فهذه كما أسلفت- قاعدة عامة، وهي سرّ لكل نجاح ورقي، سواء فيها الهندوسي والمسلم والمسيحي.إن المسلمين اليوم يسيئون استغلال أموالهم فيتردّون اقتصاديًا، بينما يُحسن

Page 622

الجزء الثالث ٦١٥ سورة إبراهيم الهندوس استخدامها فيزدهرون ونفس الحال بالنسبة للأمور الروحانية.خذوا القرآن مثلاً، فلما كان المسلمون يعملون به عملاً صحيحًا فاقوا العالم كله بفضل تعاليمه ولم تستطع أية ملّة ولا طائفة الوقوف في وجههم، سواء الفلاسفة أو أهل المنطق أو اليهود أو النصارى أو غيرهم.ولكن انظروا اليوم كيف أن أهل الفيدا والتوراة والإنجيل يتباهون أمامهم كذبًا بفضل كتبهم على القرآن، ومن جهة أخرى أصبح القرآن هدفًا لهجمات العلمانيين وأهل العلوم العقلية، ولكن المسلمين لسوء أعمالهم لا يستطيعون الرد عليهم.لقد كان الإسلام في الماضي يبتلع الكفر، أما اليوم فإن الكفر يحاول أن يبتلع الإسلام.لقد أهان المسلمون أنفسهم "الإسلام" لدرجة أن بعضهم صاروا يقولون اليوم بأن كذا وكذا من أحكام القرآن أصبح عقيماً لا جدوى منه، وأن كيت وكيت من تعاليم الإسلام أصبح قديما لا يصلح للعمل به اليوم.هداهم الله، حتى لا يعزوا إلى الإسلام عيوبهم وتقصيراتهم فإنهم لا يعملون بتعاليم القرآن عملاً صحيحا، ومع ذلك ينسبون إليه سوء نتائج أعمالهم! وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ شرح الكلمات: غنيٌّ: غنِيَ فلانٌ غنى وغناء: ضدُّ فقَرَ، وكان ذا وفر.غني به عن غيره: اكتفى به.الغني: المكتفي من الرزق.وهو غني عنه أي مستغن (الأقرب).والغنى: عدمُ الحاجات.(المفردات)

Page 623

الجزء الثالث ٦١٦ سورة إبراهيم التفسير: يقول موسى العلية : يجب ألا تغتروا بما يهيئ الله لكم من أسباب الهدى ببعث الأنبياء فتظنوا أنه يفعل ذلك عن عوز وحاجة كلا، بل إنه يبعث الرسل لصالحكم أنتم لا لنفسه، لأنه غني عن العالمين.فالآية تقدم ردا حاسما لما يثيره العلمانيون في هذا العصر من اعتراض قائلين بأن الله تعالى يدعو العباد لقبول رسالته، وهذا دليل على كونه محتاجًا إليهم.ولكن الآية تعلن أن الله غني، ومتى يحتاج الغني إلى غيره؟! كما أنه تعالى "حَميدٌ" ، يريد إنقاذ الغرقى الروحانيين.لقد لفت القرآن الكريم هنا الأنظار إلى أمر هام ألا وهو أنه ليس من الضروري أن يقوم الإنسان بكل عمل لصالحه الشخصي، بل هناك أعمال يقوم بها الإنسان إحسانًا إلى الآخرين وسدا لحاجاتهم.ولكن المغرضين يقيسون أعمال الآخرين بجشعهم هم، فيظنون خطاً أن الإنسان لا يقوم بأي عمل إلا لنفسه وشتان بين ما يفعله أحد عن حاجة ولمصلحة شخصية وبين ما يفعله غيره إحسانًا وإكراما للآخرين.أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا الله مريب ) شرح الكلمات: نبأ: النبأ: الخبر، يُقال : أتاني نبأ من الأنباء.وقال في الكليات: النبأ والأنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم (الأقرب).أيديهم: اليد: الكف، أو من أطراف الأصابع إلى الكتف، والجمعُ أيد ويُدي.

Page 624

الجزء الثالث ٦١٧ سورة إبراهيم وجمع الجمع أياد وأكثر استعمال الأيادي في يد النعمة.واليد أيضا: الجاه والوقار، ويُقال: له يدٌ عند الناس أي جاه وقدْر؛ الطريق القدرة والسلطان والولاية، يُقال: ما لك عليه يد أي ولاية؛ الملك؛ الجماعةُ؛ الغياتُ النعمة والإحسان تصطنعه.يقال: هذا في يدي أي في ملكي، والأمر بيد فلان أي في تصرفه.ويد الريح: سلطانها (الأقرب).مُريب: أراب زيدا: أقلقه وأزعجه (الأقرب).التفسير: في قوله (وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ إشارة إلى بعثة الرسل في أمم أخرى، الذين لم يرد ذكرهم في القرآن والتوراة، إذ بدأ بعد عاد وثمود النسل الإبراهيمي الذي سجّل القرآن والتوراة تاريخ الأنبياء المبعوثين فيهم.فالمراد من قوله تعالى (وَالَّذِينَ من بَعْدِهِمْ الشعوب الأخرى التي لم تكن من نسل إبراهيم، والتي لا يعلمها إلا الله..أي لم تسجل أحوالهم في الكتب السماوية التي لا تزال محفوظة من يد التحريف إلى حد ما.فالآية تشكل دليلاً على أن الله تعالى لم يزل يبعث الأنبياء في هذه الشعوب في الفترة التي كان يبعث فيها أنبياء آخرين في النسل الإبراهيمي.وتقول بعض المصادر التاريخية أن النسل الإبراهيمي كان متزامنا مع النسل الثمودي.وإذا كان هذا القول صائبا فمعنى ذلك أنه حتى منذ الفترة الثمودية لم يزل الله يبعث الرسل في أمم أخرى أيضًا.لقد اختلف المفسرون كثيرًا في معنى قوله تعالى ﴿فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي بأن أَفْوَاهِهِمْ وقد وقعوا في هذه المشكلة بسبب حرف الجر "في".فقال بعضهم المراد أن المعارضين عندما سمعوا قول الأنبياء ردّوا أيديهم في أفواههم، تعبيراً عن حيرتهم الممزوجة بالازدراء والسخرية ابن) كثير.وهذه العادة شائعة بكثرة لدى النسوة في بلادنا.وربما هذا يماثل قولهم: فلان لطم وجهه أي تحير في أمره.وقال غيرهم: إن "في" قد جاءت هنا بمعنى "على".وهذا يجوز لغةً، والمراد أنهم عند سماع قول الأنبياء وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إليهم أن يكفّوا عن مثل

Page 625

الجزء الثالث ٦١٨ سورة إبراهيم هذا الحديث فتح البيان.أما أنا فأرى أننا نستطيع حلّ المشكلة بالنظر إلى معاني كلمة "الأيدي" التي تعني أيضا الصنيع والإحسان والنعمة.فنظرا إلى هذا المعنى سيكون المراد أنهم ردوا إلى الأنبياء صنيعهم هذا قائلين: لا نريد منكم أي وعظ ولا نصح، وهكذا قابلوا تعاليم الأنبياء بالرفض والاحتقار.وعندنا أيضا يقولون بهذا المعنى باللغة الفارسية: " عطاء تُو بَلْقاء تُو".والجزء التالي من الآية يؤيد هذا المفهوم حيث ورد: ﴿وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ ليَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مبين ) ۱۱ شرح الكلمات: فاطر: فطَر الشيء فَطْرًا: شقه.فطر العجين: اختبزه من ساعته ولم يُخمره.فطَرَ الأمر: اخترعه وابتدأه وأنشأه.(الأقرب) مُسَمًّى: المُسَمَّى: المعلوم المعيَّن.(الأقرب) سلطان السلطانُ : الحُجَّةُ التسلط؛ قدرة الملك.(الأقرب) التفسير : قال ابن عباس كنت لا أدري ما هو فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر.فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها.(الأقرب)

Page 626

الجزء الثالث ٦١٩ سورة إبراهيم يبدو من هذه الرواية أن كلمة "فاطر" تشير إلى المراحل الأولى من الخلق.وقد ذكر القرآن الكريم أربع مراحل للخلق كالآتي: المرحلة الأولى: وهي عندما لم يكن لأي شيء وجود سوى الله تعالى.المرحلة الثانية: وهي التي خُلقت فيها المادة.المرحلة الثالثة: وهي التي أخذت فيها هذه المادة في التفاعل والتشكل نتيجة الاجتماع، وبدأت تنشأ فيها طاقات مختلفة، وتترتب فيها قوانين شتّى يُسمّى اكتمالها السنن الطبيعية.المرحلة الرابعة وهي التي تكرّرت فيها عملية الخلق نتيجة هذه السنن الطبيعية، أعني بدأت سلسلة التوالد والتناسل وشَرَعَ الإنسان يولد من إنسان وأخذت الغلال تنبت من غلال.وبما أن كلمة الفطور تدل على خروج شيء من شيء، فلذا أرى أن كلمة (فاطر) هنا تشير إلى المرحلة الثانية للخلق.قال الرسل لأقوامهم: إننا نعظكم لأن الله تعالى أمرنا بهذا، ولا نقدم لكم هذا الوعظ من عند أنفسنا.ولم تشكون في قدرته ولا على إنزال الوحي على البشر؟ إن ظنكم هذا باطل، لأن الذي أتقن خلق السماوات والأرض على هذا المنوال، كيف يُتوقع منه أن يخلق البشر ثم يتركهم سدى دون هداية روحانية.هذا، وإنه من غير المعقول أن يخلق الله السماء والأرض الماديتين ولا يهتم بخلق السماء والأرض الروحانيتين.ثم قال الرسل: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى).ذلك أنه قد يقول الكفار بأننا لا نشك في قدرة الله على دعوتنا إلى الهدى، وإنما نقول إنه أسمى وأعظم من أن يدعونا نحن البشر المحتقرين مع العلم أن هذا التفكير المريض شائع أيضًا لدى العلمانيين اليوم.فرد الأنبياء على ظنون الكفار هذه وقالوا: لا شك أنه لا يليق بالعظيم أن يدعو من هم دونه لينصروه، ولكن أن يدعوهم العظيم

Page 627

الجزء الثالث ٦٢٠ سورة إبراهيم ليساعدهم فهذا لا يقدح في شأنه وعظمته شيئًا، بل إن هذا ما تقتضيه عظمته.إننا لا نقول بأنه تعالى يدعوكم لمصلحة له، وإنما بَعَثَنا إليكم لصالحكم، ليسد حاجاتكم ويغفر لكم ذنوبكم، ويهب لكم حياة جديدة حقيقية.فردّ عليهم الكفار: لو كان الأمر كما تعتقدون لاختار الله لرسالته رجلاً عظيما، أما أنتم فبشر مثلنا، ولا يمكن أن يبعثكم الإله العظيم إلينا رسلاً.فلا شك أنكم تلفّقون هذه الأمور من عند أنفسكم لتمارسوا الحكم علينا وتصرفونا عن طاعة آبائنا إلى طاعتكم فأتونا بآيات ومعجزات تؤكد فضلكم علينا وتزيل مخاوفنا هذه.قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلا بإذن الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) التفسير: فأجابهم رسلهم لا جرم أننا بشر مثلكم، ولكن ألا تفكرون أن كل من يختاره الله سيكون أحدًا من مخلوقاته، ولن تكون قواه وكفاءاته إلا هبة إلهية له.ولا يمكن أن يكون هذا المرسل شريكا الله أو من غير مخلوقاته، إذ لا شريك له ولا وجود لموجود إلا من خلقه وما دام الأمر هكذا فلا يليق بكم أن تعترضوا بالقول: لماذا اختار الله لرسالته بشرًا مثلنا؟ لقد اختار من شاء من عباده، ومن أنتم حتى تحدّدوا اختياره أو تسلبوا سلطة الخيار منه سبحانه وتعالى؟!.أما مطالبتكم بأن نأتيكم ببرهان على فضلنا عليكم، فهي أمر غير معقول،

Page 628

الجزء الثالث ٦٢١ سورة إبراهيم لأننا لم ندع قط بأننا أفضل من غيرنا من البشر، وإنما نعلن عن كوننا بشرا ورسلاً فقط، بمعنى أن الله تعالى قد اختارنا ليُظهر آياته على أيدينا، وتكمن قوتنا في التوكل على نصرته هو، ولا ندعي أبدًا بأننا قادرون على إظهار المعجزات من عند أنفسنا.بل من زعم لنفسه فضيلة ذاتية كهذه فلا يمكن أن يُعد مؤمنًا، بل هو كافر، وذلك وفق المبادئ التي ندعو إليها.وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكَّلُونَ ) شرح الكلمات ۱۳ هدانا راجع) شرح الكلمات للآية ٢٨ من سورة الرعد).التفسير وأضاف الرُّسُل : إنه من المستحيل علينا، وقد رأينا مشاهد القدرة الإلهية، أن نتوهم : أنه تعالى بحاجة إلى معونة منّا، بل إن رؤيتنا لقدرته نسخر في سبيله كل ما آتانا من مواهب وكفاءات كما آتاها غيرنا.هي التي دفعتنا لأن وفي قولهم قَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا إشارة إلى أن فضل النبي على غيره ليس فضلاً شخصيًا وإنما يكمن فضله في كونه يؤكد بأعماله على حاجة البشر لسند خارجي، وبالتالي على ضرورة المعونة السماوية لهم.كما أن كلمة (سُبُلَنَا ) تكشف لنا سرًّا عظيمًا ،آخر وهو أن الشريعة إنما تأمرنا بما فيه خيرنا وفلاحنا نحن لأنها تهدينا إلى ما نحن بحاجة إليه من أجل رقينا، وليس أن الله تعالى هو بحاجة إلينا.كما أشار الله باستخدام صيغة الجمع (سُبُل) إلى أن ما أنزله تعالى من شرائع من

Page 629

الجزء الثالث ٦٢٢ سورة إبراهيم وقت لآخر كانت تراعي شتى الحاجات البشرية، وأنها كانت تعاليم مكتملة نظرا إلى متطلبات تلك العصور.ثم يزداد الرسل اعترافا بضعفهم إذ يقولون : وَلَنَصْبرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا أَي أَننا لا ندعي بأي قدرة وتفوق في أنفسنا، بل على العكس فنحن نقرّ بتفوقكم علينا من حيث الوسائل والأسباب، ونعلم أنكم سوف تصبّون علينا أنواع الأذى، ولكننا نقوم بهذا الواجب بأمر من عند الله تعالى، لذلك سوف نتحمل أذاكم بصبر وجلد وعزيمة، لنؤكد لكم أننا لا نريد عليكم من فضل ولا نهدف إلى مصلحة شخصية.ثم قالوا: وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكَّلُونَ ) أي أن كلّ إنسان محتاج إلى سند يعتمد عليه، إذ لا أحد يستطيع سد حاجاته بمفرده.وما دام الأمر كذلك فلماذا نبحث عن سند عادي؟ بل سنتوكل على الله وحده، الذي تغني قدرته عن كل سند آخر.تعلّمنا هذه الآية عدة دروس منها: الأول: إنما يليق بالمؤمن أن يكون صبورًا على الأذى كاظما للغيظ، ولكن مع مراعاة التمييز بين الصبر وبين عدم الغيرة فعليه بالصبر فيما يمس بمصالحه الشخصية، ولكن عليه بإظهار الغيرة على دين الله تعالى بكل جرأة وحماس، إلا أن التعبير عن الغيرة الدينية يجب أن يتم أيضا بطرق مشروعة.الثاني: هناك سؤال يطرح نفسه : إن الناس في احتياج دائم إلى سند يعتمدون عليه في حياتهم، ومع ذلك لا يتوكلون على الله، لماذا؟ والجواب: ذلك لأنهم يكونون محرومين من اليقين الكامل بالله تعالى بينما يكون النبي قد اختبر الألطاف الإلهية و شاهدها، لذلك يتوكل هو وأتباعه على الله تعالى بكل قناعة وحماس.وهذه هي الغاية الحقيقية من بعث الأنبياء، بأن يخلقوا في قلوب الناس اليقين الكامل بالله تعالى، ويجعلوهم متوكلين عليه وعل.

Page 630

الجزء الثالث ٦٢٣ سورة إبراهيم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُحْرِ جَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ١٤ عنه شرح الكلمات: لتعودُنَّ: عاد إلى كذا وله: صارَ إليه ورجع؛ وقيل: ارتد إليه بعدما كان أعرض والعرب تقول: عاد علي من فلان مكروه أي صارَ منه إلي.(الأقرب) ملتنا : الملةُ : الشريعةُ أو الدين، وقيل: الملة والطريقة سواء، وهي اسم من أمليتُ الكتاب، ثم نُقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يُمليها النبي، وقد تُطلق على الباطل كـ "الكفرُ ملة واحدة"، ولا تُضاف إلى الله ولا إلى آحاد الأمة.(الأقرب) التفسير: إن الكفار يجادلون أنبياء الله وجماعاتهم سخطا على ادعائهم بالانتصار، ولكنهم يتمنون في قرارة أنفسهم يا ليت هؤلاء يبدون بعض المرونة واللين في موقفهم حتى لا تُمس كرامتنا فننضم إلى صفوفهم.وقد حدث ذلك في زمن النبي ﷺ أيضا، إذ جاء الكفار إلى عمه أبي طالب وقالوا له: لو أن محمدًا أبدى بعض الرفق واللين نحو آلهتنا فلا يذكرها بسوء، لتركنا معارضته وتصالحنا ولكن النبي ردّ على عرضهم بكل صراحة وقال: "والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله ، أو أهلك فيه، ما تركته".(السيرة معه.لابن هشام وبعد سماع ردّه هذا شنّ الكفار على ذاته الشريفة وعلى أصحابه الكرام الحملة الشرسة التي أدت إلى الهجرة.والحق أن كل نبي يواجه مثل هذه الأحداث.ولقد تمت الإشارة إلى مثل هذه الأماني والتهديدات من الكفار في الآية السابقة أيضًا، ولذلك ردّ عليهم الأنبياء مرة بعد أخرى بقولهم لا ضير فاصنعوا ما شئتم فإنا متوكلون على ربنا، ومستعدون للصمود أمام اضطهادكم وتعذيبكم.فأدرك الكفار بذلك أن هؤلاء الرسل لا

Page 631

الجزء الثالث ٦٢٤ سورة إبراهيم يتهاونون أبدًا في تبليغ رسالاتهم، ولا يبدون مرونة في موقفهم، فهددوهم بما هدد به المكيون نبينا الكريم حين خيَّروه : إما أن ينضم إلى دينهم الوثني أو يُطرد من أرضهم.و لم يكن الطرد عندهم مجرد نفي وإبعاد وإنما هو تهديد بالقتل أيضًا.والواقع أن قولهم إعلانهم عن قطع أي علاقة مع الأنبياء، وكأنهم يقولون لهم ما دمتم لا ترضون بتصالح مُرض معقول فمن المحال أن نعيش معا.والبلد بلدنا، ونحن الأكثرية، هذا يعني فإذا كنتم لا ترضون بقرارنا هذا، فلا حق لكم في العيش في أرضنا.هذا هو دأب أهل الباطل في كل زمن فإنهم يتباهون بما عندهم من قوة ومنعة، معلنين: يجب على الفريق الآخر إما أن يقتنع بما نرضى به من عقائد أو يخرجوا من بلدنا.وهكذا تمامًا يفعل معنا نحن المسلمين الأحمديين قطاعٌ من المسلمين، بحيث يؤذوننا ويعذبوننا ويهددوننا صرا قائلين: إما أن تتوبوا عن الأحمدية أو تخرجوا من بلدنا.احة ومن سخرية القدر أن بعض الكتاب الهندوس يوجهون هذا التهديد نفسه إلى مسلمي الهند.فيتحد هؤلاء الجهلة ليوسعوا شُقة الخلافات بين مختلف الطوائف بدون مبرر، إذ يُقحمون الدين في السياسة عبثا.نهلك فقط واعلم أنه تعالى لم يقل هنا لنهلكنهم بل قال لَنُهْلكَنَّ الظَّالِمينَ))، وفي هذا إشارة إلى أنه كان المقدر لبعضهم أن يؤمنوا فينجوا من الهلاك، لذلك قال إننا سوف منهم من يبقى مصرا على ظلمه.كما أشار الله بقوله لَنُهْلَكَنَّ الظَّالمين إلى أن الكفار بادعائهم بأن البلد بلدهم وسوف يُخرجون منها من لا يرضى بقرارهم قد صاروا بأنفسهم ظالمين في الواقع، لأن الأرض لله وليست ملكًا لهم، فلا بد أن نهلك هؤلاء الظالمين وفق قرارهم هم.أما قوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ في ملتنا فيمكن تفسيره كالآتي: أولاً: إن كل نبي يكون منذ الصغر محميًا معصوماً بعناية الله عن الشرك ولا يكون

Page 632

الجزء الثالث من ٦٢٥ سورة إبراهيم ملة المشركين، فالمراد من قولهم هو: ليس أمامك أي خيار سوى أن تنضم إلى ملتنا وتصير مشركًا مثلنا ذلك إذا اعتبرنا العودة بمعنى الصيرورة.ثانيا : لما كان قول الكفار هذا موجهًا إلى أتباع النبي أيضا، وكانوا قبل إيمانهم به من ضمن المشركين فلذا قال لهم الكفار : لا مناص لكم من الرجوع إلى ملتنا وملتكم السابقة.ذلك إذا أخذنا العودة بمعنى الرجوع.ثالثًا: لا شك أن النبي يكون منذ الصغر بريئًا من العقائد الفاسدة والأعمال الوثنية، ولكنه يُعتبر عُرفًا من الملة المشركة كونه قد وُلد بينهم، ولذلك خاطبوه وأتباعه: لا بدّ لكم من العودة إلى ملتنا التي كنتم فيها من قبل.وَلَنُسْكَنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وعيد ) ۱۵ شرح الكلمات مقامي: المقامُ : الإقامة وموضعُها وزمانها؛ المنزلة.(الأقرب) وعيد: أصله: وعيدي.قالوا في الخير: وعده وعدًا وعدةً، وفي الشرّ: وعده وعيدا.والخُلفُ في الوعد عند العرب كذب وفي الوعيد كرم.والوعيد: التهديد.(الأقرب) التفسير : هنا تساؤل: لماذا استخدم الله تعالى في هذه الآية والتي قبلها صيغ الجمع أن الذي يُهلك الكفار أو يُبقي ويُسكن أهل الحق في الأرض هو ربّ للمتكلم، مع واحد؟ الجواب: هذا أسلوب للتعبير عن عظيم قدرة الله وسلطانه وجبروته، إذ إن الجماعة تكون أكثر قوة وقدرة من فرد واحد وقد اتبع الله هذا الأسلوب دائما عندما قصد لفت الأنظار إلى جبروته وكبريائه أما إذا أراد إظهار غناه فإنه استخدم

Page 633

الجزء الثالث لنفسه صيغة المفرد.٦٢٦ سورة إبراهيم لقد قال بعض الصوفية: إنه تعالى يأتي بصيغ الجمع عند الحديث عن الأمور التي ينجزها بواسطة الملائكة، ويستخدم صيغ المفرد عند الحديث عما ينجزه بخالص أمره.عندما هدّد الكفار أهلَ الإيمان بطردهم من أرضهم وملكهم، ردّ الله على تهديدهم هذا: سوف نهلكهم لنُسكن رسلَنا والمؤمنين في أراضيهم وأملاكهم.ثم قال: ذَلكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ..أي أن وعد النجاح والغلبة إنما يتحقق في حق من يهاب عظمتي ويخاف إنذاري.وكأن إنجاز الوعد الإلهي في حق جماعة الأنبياء مشروط بشرطين بأن تبقى عظمة الله مستولية على قلوبهم دائمًا، وأن لا يبرحوا خائفين حذرين مما حذرهم الله منه.وهذا يؤكد خطأ الذين ينتظرون تحقق الوعود الإلهية في صالحهم.بمجرد كونهم أفرادا من أمة النبي.وَاسْتَفْتَحُواْ وَحَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ شرح الكلمات: ١٦ فلان: استفتحوا : استفتح الباب: فتحه.استفتح الشيء بكذا: ابتدأه به.استفتح طلب الفتح واستنصر، ومنه: (إنْ تَسْتَفْتحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ) أي إن طلبتم الظَّفَرَ.وكذا هو يستفتح علي بفلان.(الأقرب) خاب: خاب يخيب خيبةً: لم يظفر بما طلب؛ كفَر؛ انقطع أمله.خابَ سَعيُه: لم ينجح.(الأقرب) جبار : الجبار : من صفات الله تعالى أي الذي يُصلح ما فسد ويسد حاجات المحتاجين بكثرة.والجبارُ : كلُّ عات متمرّد ؛ الذي يقتل على الغضب.(الأقرب) عنيد: عَند عن الطريق والقصد: مالَ وعدل والعنيد: المخالف للحق الذي يردُّه

Page 634

الجزء الثالث ٦٢٧ سورة إبراهيم وهو يعرفه.(الأقرب) التفسير: اعلم أن ضمير الغائب في كلمة اسْتَفْتَحُوا يمكن أن يكون عائدا على المؤمنين أو على الكفار أيضا، ذلك بحسب قواعد اللغة العربية وبحسب السياق أيضا.فما دام الكفار قد هدّدوا المؤمنين بالطرد من أرضهم كان لا بد من أن يدعو الأنبياء رهم أن يحميهم من شرور الكفار ويكتب لهم النصر والغلبة عليهم.ولو سأل سائل: لقد سبق أن وعد الله المؤمنين بالفتح في قوله: ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ من بَعْدهم، فما الداعي لأن يبتهلوا إليه للغلبة؟ فالجواب: إن الله تعالى عندما يعد المؤمن بشيء فعليه أن يزداد دعاءً وابتهالاً لتحققه، لأنه إذا حرم من تلك النعمة رغم الوعد الإلهي فهذا دليل على تقصير فادح منه وعلى شقائه الشديد.وضرورة الدعاء طلبًا لأمر ما رغم وعد الله تعالى بإنجازه ظاهر بين بدليل قول المؤمنين في القرآن الكريم : رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلكَ)) (آل عمران: ١٩٥).فعلى المؤمن ألا يتكاسل في السعي ولا يتوانى في الدعاء ظنا منه أن الله تعالى ما دام قد وعدني بهذا فلا بد من أن يتحقق، بل عليه أن يشد أزره أكثر للدعاء والعمل والتدبير لما وعد به كيلا يؤدي تقصيره إلى الإساءة لما وعد الله تعالى.والحق أن الأنبياء ما زالوا يبتهلون إلى الله تعالى ويتخذون شتّى التدابير لإنجاز ما وعدوا به، وليس في هذا أي دليل على ضعف الإيمان فيهم وإنما هو دليل على قوتهم الإيمانية واستسلامهم لله ، كلّية.لقد وعد النبي الكريم بفتح مكة قبل أن يهاجر منها، في قوله تعالى: الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادِ﴾ (القصص: ٨٦)، إلا أنه لم يزل متوسلاً إلى ربه أن يكون فتحها وتطهيرها على يده، متخذا شتى الوسائل والتدابير حتى إنه خاص من أجل ذلك نحو عشرين معر فلو كانت مسألة اتخاذ التدابير لأمر قد وعَدَ الله به مسألة غير جائزة لجلس النبي عاطلاً دون أن يحرك ساكنا في سبيل فتح مكة، ولكنه فعل النقيض، مما يؤكد أن هذا ظنُّ الجهلة الذين ليس لهم نصيب في فهم حقائق الدين.كة.

Page 635

الجزء الثالث ٦٢٨ سورة إبراهيم أما إذا أرجعنا ضمير الغائب في وَاسْتَفْتَحُوا إلى الكفار، فالمراد من الآية أن الكفار لا يزالون يتمنون الغلبة والانتصار ويتخذون لذلك شتى الوسائل والحيل ولكن هؤلاء الحمقى لا يعتبرون بأمثلة الماضي، حيث خاب أعداء الرسل في كل مرة، بل يحلمون بالغلبة على من اصطفاه الله واختاره.مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيد شرح الكلمات ۱۷ من ورائه: الوراء أكثر ما يكون ذلك في المواقيت من الأيام والليالي، لأن الوقت يأتي بعد مضي الإنسان فيكون وراءه، وإن أدركه الإنسان كان قدامه.فهو وراء الإنسان على تقدير لحوقه بالإنسان، وهو بين يدي الإنسان على تقدير لحوق الإنسان به، فلذلك جاز الوجهان.وتكون بمعنى سوى نحو: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ أَي سوى ذلك.(الأقرب) صديد الصديد: ماء الجرح الرقيق المختلط بالدم قبل أن تغلظ المدة.وقيل: هو القيحُ المختلط بالدم.وقيل: الحميم أُغلي حتى حَثَر.(الأقرب) التفسير: المراد من قوله تعالى مِّن وَرَآئِه جَهَنَّمُ أن هذا الشخص مضطر لمواجهتها لأنها تحاصره وتلاحقه.أما قوله تعالى (وَيُسْقَى من مَّاء صَديد فقد يُراد بالصديد هنا الماء المغلي فعلاً.وكما أن الناس يتداوون في الدنيا بالماء المغلي فقد يكون في جهنم أيضًا ما يشابه الماء المغلى يُعالجون به من أسقامهم الروحانية.وقد يكون هذا مجازا، والمراد أنهم رغم تيسر الوسائل لن يقدروا على استغلالها، مثل الماء المغلي الذي لا يستطيع الظمآن شربه لإطفاء ظمئه، مع أنه ماء دون شك.

Page 636

الجزء الثالث ٦٢٩ سورة إبراهيم أما إذا كان صديد بمعنى القيح فالمراد أن معاصيهم كانت نتيجة شهواتهم الدنية الفاسدة التي هي بمثابة القيح المتكون في جروحهم الباطنية، لأنها نتاج لفساد القلب، ونفس هذه الأهواء الفاسدة سوف تتمثل لهم في الآخرة قيحا يتجرعونه ولا يكادون يُسيغونه.والقيح يشير أيضًا إلى علاجهم، إذ نجد أن أفضل طرق العلاج في هذه الأيام هي: "فيكسين" و "سبيرم" و"بيكتروفيج"، حيث يصنعون الدواء من جراثيم المرض نفسه، فقد تكون الآية إشارة إلى العلاج بالمثل، والمراد أن العُصاة سوف يعالجون من أمراضهم الروحانية بعلاج متكون من مادة أُخذت من شرورهم وآثامهم.أو المراد أن نجاساتهم وأدرانهم نفسها سوف توضع أمامهم فيكرهونها وينفرون من التطلع إليها فيما بعد ، وهذا كما يفعل أطباء النفس في العصر الحديث لمعالجة المجرمين كي يُبعدوا المجرمين عن الاندفاع والتقرب نحو الإجرام.يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتِ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) شرح الكلمات: ۱۸ يتجرعه: تجرع الماء: ابتلعه شيئًا بعد شيء، ومنه في القرآن يُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدِ يَتَجَرَّعُهُ أي يتكلّفُ جَرعَه.وتحرّعَ الغيظ: كظمه.(الأقرب) يُسيغه: ساغ الشرابُ في الحلق: هَنَّا وسلس وسهُلَ مَدخِلُه.وأساغَ الطعام إساعةً: سهل مدخله في الحلق وساغ له دخوله فيه.(الأقرب) غليظ : الغليظ : ذو الغلاظة؛ خلافُ اللين والسلس.وأمر غليظ: شديد صعب.

Page 637

الجزء الثالث ٦٣٠ سورة إبراهيم وعذاب غليظ : شديدُ الألم.(الأقرب) التفسير: أما قوله تعالى وَيَأْتيه الْمَوْتُ من كُلِّ مَكَان، فكما أن المؤمنين سيتلقون السلام في الجنة من كل باب (الرعد: ٢٤-٢٥ كذلك سيواجه الكفار الموت من كل طرف بمعنى أن أنواع الآثام التي وقعوا فيها سوف تتمثل لهم في أشباح الموت.ولكنه تعالى قد وضح أيضًا أنهم لن يموتوا بذلك، لأن العذاب يستهدف إصلاحهم، ولذلك سوف يتلقون في آخر المطاف السلام الذي قد خلقوا من أجله، ولن يموتوا إلا الموتة الأولى التي سبق أن ذاقوها في الدنيا.هناك أمر لطيف يجب ملاحظته هنا، فقد استخدم كلمة "باب" في وصف الجنة، حيث قال: وَالمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب سَلامٌ عَلَيْكُم (الرعد: ٢٤ - ٢٥)، بينما استخدم كلمة "مكان" في وصف الجحيم.ذلك أن السلام يأتي من الخارج أي من عند الله ،وبفضله، وأما الهلاك فيترتب على أعمال الإنسان نفسه.ولذلك قال إن السلام سوف يترل على أهل الجنة من كل باب، وإن الهلاك سوف ينبع من كل شبر من مكان إقامتهم.أما قوله تعالى وَمن وَرَآئِه عَذَابٌ غَلِيظٌ فقد يكون المراد منه أنهم سوف يُلقون في أنواع العذاب الأخرى كالحرمان من قرب الله تعالى والندامة، والحسرة وغيرها.وقد يعني أن عذابهم لن يزول بسرعة، بل سيلازمهم لزمن طويل.مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادِ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفَ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الصَّلالُ الْبَعيدُ شرح الكلمات: ۱۹ عاصف: عَصَفَ الزَّرْعَ يعصُفُ عَصفًا: جزَّه قبل أن يُدرك.عصفت الريحُ تعصف

Page 638

الجزء الثالث ٦٣١ سورة إبراهيم عصفًا وعصوفًا: اشتدَّت فهي عاصف وعاصفةٌ عَصَف فلانٌ عياله: كَسَبَ لهم.وعصفت الحربُ بالقوم: ذهبت بهم وأهلكتهم.وعصَفَ الدهر بهم إذا أبادهم.وعصفت الناقةُ براكبها: أسرعت السير به وعَصَفَ الشيءُ: مال.عَصَف الرجلُ: أسرع.العاصِفُ: المائلُ من كل شيء.ويوم عاصف أي تعصفُ فيه الريح، وهو فاعل بمعنى مفعول فيه مثل قولهم ليل نائم، وجمعُ العاصف العواصف.(الأقرب) التفسير: قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ لا يعني أن القوم كانوا منكرين وجود البارئ ،تعالى، وإنما المراد أنهم كفروا بنعم ربهم أو أنكروا وجود هذه القوى والصفات في الله تعالى.فيهم هناك كثير من الناس الذين يؤمنون بالله تعالى ولكنهم لا يوقنون بتصرفه وسلطانه على شؤون هذا الكون، ومثالهم في هذه الأيام العلمانيون عندنا، الذين أثرت الثقافة الغربية سلبيًا، فربما لا يوجد بين المئة منهم شخص واحد يؤمن بأن الله المتصرف المدبّر لهذا الكون، وإن كان هؤلاء يؤمنون بوجود الله تعالى.ولذلك تجدهم هو يعملون لأنفسهم، أو لكسب الصيت من أهل الدنيا، لا ابتغاء لمرضاة الله أو خوفًا من عقابه.وعن هؤلاء وأمثالهم يقول الله جل شأنه: إن أعمالهم لا تنفعهم منفعة روحانية، بل إنها عديمة الجدوى من المنظور الروحاني، شأنها شأن الرماد الذي تهب عليه الرياح والعواصف، فلا تبقي له من أثر، كذلك سوف يبطل الله أعمالهم في الآخرة.ذلك أن ما يقوم به المرء من أجل الدنيا فقط يجب أن ينحصر نفعه فيها فحسب.ولا ظلم ولا إجحاف في ذلك، لأن الجزاء الحقيقي لأي عمل إنما هو ذلك الذي يترتب عليه وفق النواميس الطبيعية، ويستوي في هذا الجزاء المؤمن والكافر.فمثلاً من تَفَقدَ الفقراء وساعدهم نال الجزاء في الدنيا؛ إذ يشكرونه ويقدمون له خدماتهم بشتى الطرق، بل ويفدونه بالأرواح أحيانًا.ومن كان صادق الحديث يثق به الناس، فينتفع بثقتهم بشتى الصور.إذن فما دام المرء ينال الجزاء الطبيعي على عمله في الدنيا فلا يبقى له أي حق على الله أن يجزيه عليه في الآخرة أيضًا.

Page 639

الجزء الثالث ٦٣٢ سورة إبراهيم ولكن الذي يعمل الخير ابتغاء مرضاة الله فكأنه يقوم بعملين: عمل ظاهري وعمل آخر باطني هو الإخلاص والطاعة لله تعالى، ولذلك يستحق عليه جزاء مزدوجا، أي النتيجة الطبيعية لعمله، إلى جانب جزاء إضافي آخر عند الله، وهو يسمى بالثواب في الآخرة والبديهي أن هذا الجزاء الإضافي لا يستحقه إلا الذي يكون عمله الظاهري مصحوبًا بعمل باطني هو الرغبة في الحصول على رضا الرب.أما غيره فليس له من الجزاء إلا ما ناله في الدنيا.وهناك معنى آخر للآية وهو أن الجهود التي يبذلها أعداء الحق ضد دين الله تعالى سوف تبوء بالفشل، لأن الله تعالى هو المسبب للأسباب وخالقها، فكيف يدع مكائدهم تنجح ضد دينه وعمل.غير أنه يجب أن نتذكر أن الله تعالى قد يهيئ لأعداء دينه أيضًا فُرصا للفرحة الكاذبة إذ يحققون أحيانًا انتصارات مؤقتة عابرة، ذلك لكي يتجلى الله بقدرته وجلاله بعد ذلك على صورة أكثر وضوحًا، ولكي يتيح لأصحاب الطبائع السليمة فرصة التوبة والإيمان.وأما قوله تعالى ذَلِكَ هُوَ الصَّلالُ الْبَعِيدُ فالمراد منه أنه ليس هناك هلاك أشدّ بشاعة وأكبر مقتا من أن تضيع جهود المرء كلية دون أي نتائج مرضية، بل تنقلب عليه مساعيه وبالاً وعذابًا.أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقِ جَدِيدِ شرح الكلمات:

Page 640

٦٣٣ سورة إبراهيم الجزء الثالث يُذهبكم: الذهاب: المضي، وهو كناية عن الموت أيضًا، قال الله تعالى: ﴿إِن يَشَأْ الله زمام يُذْهِبْكُمْ وَيَات بخَلْقِ جَديد.(المفردات) التفسير: أي أن الله تعالى لم يخلق الكون عبئًا، فكيف يمكن أن يضع الدنيا في يد هؤلاء الكفار الذين يأتون أعمالاً تبطل غاية خلقهم؟ فيجب أن يتذكروا أنهم في حالة خطر لأنهم يخالفون المشيئة الإلهية.ولا يظنّنّ هؤلاء أنه لا أحد يقدر على أن ينتزع منهم ما يملكون أو يقوم مقامهم كلا، بل إن الله قادر تمامًا على أن يُهلكهم ويأتي مكانهم بقوم آخرين والمراد من الآخرين" هم جماعة أتباع الأنبياء عليهم السلام و لم يقصد الله بهذا التأكيد على قدرته فقط، بل التأكيد أيضا على عزمه الأكيد على تجهيز قوم يأخذون مكان هؤلاء المكذبين.وَمَا ذَلكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزِ ) شرح الكلمات ۲۱ عزيز: يُقال: عزَّ علي كذا: صَعُب قال الله تعالى: عزيز عليه ما صَعُبَ.(الأقرب) التفسير: يا لغرابة أهل الدنيا ! فعندما تُصاب أُمَّة بالانحطاط تقول: إن نهوضنا مستحيل الآن، وعندما تحقق الرقي تقول: إن انحطاطنا محال الآن.مع أنهم يرون نهوض الأمم المنهارة وانحطاط الشعوب المتقدمة في كلّ عصر.فكم من أمة نهض بها الله بعد سقوطها، وكم من شعب وضعه الله وألقاه في الحضيض بعد رقي وازدهار.

Page 641

الجزء الثالث ٦٣٤ سورة إبراهيم وَبَرَزُوا لله جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءِ للذينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّعْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيص.شرح الكلمات ۲۲ مغنون : أغنى عنه : أجزأه ما يُغني عنك هذا أي ما يُجدي عنك (الأقرب) محيص: حاص عنه يحيص: عدل وحادَ المحيص: المحيد؛ المهرب.(الأقرب) التفسير: لقد استخدم الله تعالى في الآية صيغ الماضي بمعنى المستقبل، والدليل على ذلك أنه تعالى يتحدث هنا عن العذاب الذي لم يكن قد حل بهم.واستخدام الفعل الماضي مكان المضارع أسلوب قرآني للتأكيد، والمعنى أن هذا الأمر واقع لا محالة وكأنه قد وقع في الماضي.وهناك نظائر كثيرة في القرآن الكريم لهذا الاستخدام.وفي لغتنا الأردية أيضًا يقال لمن ينتظر قادمًا فيمل انتظاره: لا تقلق، فقد جاء.فالآية تعني أن الله تعالى حين يقرر هلاك قوم فلا بد أن يضطروا للبروز والمثول أمامه بمعنى أن عيوبهم ونقائصهم التي تكون خفيّة من قبل تنكشف للناس شيئًا فشيئا.لقد ذكر الله تعالى هنا سرًا عظيما لهلاك الأمم يجب أن نتذكره دائما.فإنه تعالى يذكرنا أن الأمم لا تهلك بسبب وجود العيوب فيهم بقدر ما يهلكون نتيجة انكشاف عيوبهم على العالم.فإنهم بالرغم من وجود النقائص فيهم يستمرون في إحراز التقدم والرقي ما دامت هذه النقائص خفية مستترة، وتهابهم الأمم وترتعب منهم.ولكن عندما يهتك الله سترهم ويكشف عيوبهم للآخرين يأخذون في الانحطاط باستمرار، رغم محاولاتهم المضنية للنهوض.وهذا يعني أن الصيت أهم وأكثر نفعا للإنسان من عمله أيضًا.وإلى هذا المعنى تشير الآية وتقول: إن الله تعالى عندما يريد إهلاكهم يفضحهم ويكشف عيوبهم للدنيا، وإلا فإنه تعالى عليم بكل صغيرة وكبيرة منهم في

Page 642

الجزء الثالث كل حين.٦٣٥ سورة إبراهيم أما قوله تعالى فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا فمعناه أنه عندما سيأخذ هؤلاء منهم الكفار في التردي والهلاك سيقول الضعفاء لكبرائهم: تعالوا لحمايتنا من الهلاك فإننا كنا خاضعين لكم نتبع أوامركم فيقول لهم الكبراء: لا نجد نحن أيضا الهلاك من مخلصا، فكل ما نبذله من جهود يبوء بالفشل، فكيف ننصركم ونحن الخاسرون، فما عليكم إلا أن تلتزموا الصبر.وهنا أيضًا يبيّن الله تعالى سرًّا آخر في هلاك الأمم.إذ أن الأقوام التي لم يحن وقت هلاكها بعد لا تزال – رغم تعرضها للانهيار - ساعيةً سعيًا حثيثا للخروج من المآزق التي هي فيها.ولكن الأمة التي كُتب عليها الهلاك تركن إلى القنوط واليأس صابرة فيه.مع أن هذا ليس من الصبر في شيء، وإنما الصبر أن يواجه مستسلمة لما هي الإنسان هذه الشدائد بجلد وعزيمة محاولاً التخلص منها، لا أن يرضى بها مطمئنًا.الله هم كما أن الآية تشير إلى أن الناس يحضون بعضهم بعضًا على ارتكاب الجرائم والمعاصي قائلين لهم افعل كذا ولا تبال، فنحن نتحمل المسئولية.ولكن عندما يُترل العذاب فلا أحد يتصدى لنصرتهم إذ لا أحد يقدر على ذلك.ونفس الحال بالنسبة للجرائم الدنيوية.فكبراؤهم يحثونهم على القتل وغيره من المعاصي ويعدونهم بأنهم سوف ينقذونهم من العقاب وعندما يُلقى القبض عليهم فلا أحد من هؤلاء الكبراء يتقدم لنصرتهم وإنقاذهم.وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ووعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى عَلَيْكُم مِّن سُلْطَان إلا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِحِكُمْ وَمَا

Page 643

الجزء الثالث ٦٣٦ سورة إبراهيم یک أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ۲۳ شرح الكلمات: الحق: (راجع) شرح الكلمات للآية ١٥ من سورة الرعد) أخلَفْتُكم: أخلَفَه ما وعده قال شيئًا ولم يفعله أخلَفَ فلانًا: وجد موعِدَه خِلْفًا.أخلَفَ الغيثُ: أطْمَعَ في التزول ثم نكَص.أخلف الدواء فلانًا: أضعَفَه (الأقرب).فالمراد من أخلفتكم: ۱- أنني أخلفتكم الوعد ٢- أنني أضللتكم بالوعود المعسولة الكاذبة.مُصرخ: أصرَخَ فلانًا: أغاثه ،وأعانه، تقول: استصرخني فأصرخته أي استغاث بي فأغثه، وقيل: الهمزة للسلب أي فأزلتُ صُراحه الأقرب).فالمراد من قوله (مَا أَنَا : ١- لا أقدر على نجدتكم كما لا تقدرون على مساعدتي، ٢- لا بِمُصْرِحِكُمْ أستطيع إزالة صراخكم كما لا تستطيعون إزالة صراخي.التفسير: إن الشيطان أو أظلاله من البشر يعلنون براءتهم ممن يتخذونه أداةً طيعة لارتكاب الإثم، إذ يقولون له لم نكرهك على ارتكابه وإنما كنت بنفسك شريرا لذلك رضيت بما أشرنا به عليك.لو كان فيك خير لما رضيت بقولنا.متى أكرهناك على ارتكاب المعصية؟ وهذا حق لا شك فيه.فإن الشيطان أو أظلاله من البشر لا يملكون في الواقع أي خيار على الإنسان، وإنما هم وسيلة لكشف عيوبه فقط، مثلما تكون الملائكة سببًا لظهور كفاءاته الحسنة والحق أن أهواء النفس البشرية هي التي تضله وتنحرف به، ولا دخل للشيطان في ضلاله، إلا أنه يمتحن الإنسان مشيرًا عليه باختيار السيئة.شأنه المعلم الذي يضع أمام الطالب أسئلة صعبة وقت الامتحان.فعند فشل الطالب في شأن

Page 644

الجزء الثالث ٦٣٧ سورة إبراهيم الامتحان لا يقول أحد بأن المعلم هو الذي تسبب في فشل الطالب وإنما يقولون: إنه فشل بسبب ضعفه العلمي، أما المعلم فقد كشف عليه الواقع.كذلك حال الملائكة والشيطان.فالملائكة يُظهرون للإنسان مستواه في الخيرات، بينما يكشف عليه الشيطان مستواه في السيئات ولا يعني ذلك أن الملائكة تجعل الإنسان بارا، أو أن الشيطان يجعله فاسدًا.والمراد من قوله فَلا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم أنكم رأيتم وعود الله تتحقق دائما ومع ذلك لم تكترثوا لها و لم ترضوا بها، وتقبلتم ما وعدتكم من وعود معسولة رغم انكشاف زيفها عليكم، فما ذنبي في ذلك.وقوله إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ، أوليس غريبا أن نجد الشيطان يدعي الإيمان بتوحيد الله تعالى، إذ يذكرهم قائلاً: أنتم بأنفسكم اتخذتموني شريكا مع الله بينما كنت أنكر ذلك.والواقع أنه على حق، لأن الشيطان الذي يقوم باختبار الناس وكشف عيوبهم إنما يقوم بواجبه الذي فرضه الله عليه.ولا شك أن جبروت الله وعظمته تكون جلية أمام عينيه، فكيف يمكن إذا أن يقع في الشرك؟ وإنما يتولد الشرك في الإنسان عندما يقبل الوساوس الشيطانية ويحولها إلى معصية.هناك سم اسمه "الزرنيخ" يستخدمه الأطباء كترياق ناجع في بعض الأمراض، ولكن إذا أساء أحد استخدامه وتناول كمية أكبر من اللازم صار هذا الترياق سما قاتلاً.هذا هو مثال الشيطان، فإن تأثيراته كالزرنيخ أو هي بمثابة اختبار المعلم للطالب، فإذا تصرّف تجاهها تصرفًا سليما نجا وفاز وإلا فشل وهلك.وقد يتساءل هنا أحد قائلاً: فلماذا يلقي الله بالشيطان في الجحيم إذن؟ والجواب: لقد سجل القرآن قول الشيطان الله تعالى خَلَقْتَني من نار (الأعراف:١٣).فالذي خُلق من النار لن يتعذب بدخوله فيها، فمثلاً لو ألقيت جمرةً ملتهبة في الموقد فلن يحدث لها شيء.ولذلك نجد الصوفية يميلون إلى الاعتقاد بأن أظلال الشيطان من

Page 645

الجزء الثالث ٦٣٨ سورة إبراهيم البشر سوف يعذبون، ولكن الشيطان نفسه لن يعذَّب، لأنه إذ يختبر الناس فإنه يؤدي واجبه الذي فرضه الله عليه.وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ) شرح الكلمات : ٢٤ إذن: الإذنُ: الإجازة؛ الإرادة؛ العلم.(الأقرب) تحيتهم التحية: السلام؛ البقاء السلامة من الآفات والتحيّة من الله : الإكرام والإحسان.(الأقرب) التفسير: لقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى (خَالِدِينَ فِيهَا بإِذْنِ رَبِّهِمْ إِن الإنسان لن يدخل الجنة إلا بفضل الله ورحمته لا كحق ثابت له.كما ورد في الحديث الشريف أيضا: "عن عائشة عن النبي ﷺ قال : سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عمله.قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة " (البخاري، الرقاق) الواقع أن أعضاءنا وملكاتنا كلها عطاء من الله الرحمن، وهكذا تصبح أعمالنا أيضًا الله، لأننا إنما نؤديها بفضل هذه القوى الموهوبة من عنده سبحانه وتعالى.فما هبة من يؤتينا الله من جزاء على أعمالنا إنما هو عطاء وفضل منه، وليس حقا لنا في الواقع.وأرى أن للآية معنى آخر أيضًا وهو أن المؤمن لا يريد بأعماله الجنة، بل ينشد بها رضوان الله.فلو أقام في الجنة فإنما لأنه تعالى قد أمره بهذا.وهذا المعنى يتأكد من حديث شريف قال فيه النبي : إن العاملين ثلاثة فمنهم من يعمل الحسنات طمعًا

Page 646

الجزء الثالث ٦٣٩ في الجنة، ومنهم من يعمل خوفًا من النار، ومنهم من يعمل لوجه الله سورة إبراهيم ومرضاته.فلا شك أن الصنف الأخير منه سوف يظفر بالجنة أيضًا، ولكن كهدية لا كهدف منشود.قوله تعالى (تَحيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ يعني أنهم سوف يتبادلون هناك فيما بينهم تحية السلام؛ أو أنه لن يصيب هناك أحدًا شر من أحد، بل سيعيشون في سلام تام؛ أو أن أفضل تحية يتلقونها من الملائكة أو من الله في الجنة أن الملائكة السلام.بمعنى هي يثيرون ما فيهم من ملكات دقيقة خفية لتقوى الله، كما أن الله وعمل سوف يخصهم بأفضال ونعم خاصة.أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ شرح الكلمات : ٢٦ ضَرَبَ : ضَرَبه بيده أصابه وصدمه بها ضربه بالسوط : جَلَدَه.(الأقرب) مَثَلاً: المثَلُ: الشبه والنظير ؛ الصَّفةُ الحُجّةُ، يُقال: أقام له مثلاً أي حُجَّةٌ؛ الحديث؛ القولُ السائرُ؛ العبرة؛ الآيةُ (الأقرب ).ضَرَبَ له مثلاً: وصفه وقاله وبينه.فالمراد من قوله تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً أنه تعالى قد بين مثال الكلمتين الطيبة والخبيثة أيما تبيان، ليعرف كل إنسان حقيقتهما.طيِّبةً: طابَ الشيءُ يطيب طابا وطيبا وطيبةً وتَطيابًا : لذ وزكا وحسن وحلا وجلّ

Page 647

الجزء الثالث ٦٤٠ سورة إبراهيم وجاد.طابت الأرض: أكلات طابت به نفسي انبسطت وانشرحت.طابَ العيش لفلان فارقته المكاره.وطابت نفسى عليه وافَقَها.والطيِّبُ: ذو الطيبة.(الأقرب) التفسير: هذه الآية تُعَدُّ من تلك الآيات الصعاب التي فسرها سيدنا المهدي والمسيح الموعود ال تفسيرًا رائعا وبالتالي دلّنا على الطريق الذي نستطيع به حل الآيات من الصعبة الأخرى.ولكن قبل الخوض في تفسير هذه الآية أود توضيح إعرابها.لقد ذكر النحاة في لفظة (كلمةً) وجهين للإعراب، فقال أبو البقاء: إن (كَلمَةً) بدل (مَثَلاً)، والمراد: ضرب الله مثلاً أي كلمةً طيبةً.بينما يرى ابن عطية والزمخشري أن (مثلاً) و(كلمةٌ) مفعولان لـ ( ضَرَبَ) أي: ضرب الله كلمةً طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً.و(كشجرة طيبة) خبر لمبتدأ محذوف، بمعنى: هي كشجرة طيبة.والآن أتوجه إلى تفسير هذه الآية فأقول: لقد بين الله هنا حقيقة الكلمة الطيبة أعني حقيقة وحيه الصافي الحي المصون من تلاعب البشر وعبثهم.مما يعني والداعي لضرب هذا المثال هو أن الله تعالى قد أشار في الآيات السالفة إلى أن الذين يتبعون خطوات الشيطان يكون مصيرهم الهلاك، وأما الذين يؤمنون ويعملون الصالحات فيرثون جنات النعيم.فكان طبيعيًا أن يهتم الإنسان بسلوك الطريق الذي ينجيه من العذاب ويجعله وارثًا لنعم الله وجناته.بيد أن هناك أمراً يهمه ويُقلقه، وهو أن هذه السورة تذكر أيضًا أن الله تعالى قد بعث كثيرًا من الأنبياء في مختلف الأزمان أنه تعالى قد نسخ شرائع بعض الرسل بشرائع جديدة أنزلها على غيرهم، فكيف يعرف الإنسان أي من هذه الشرائع لا تزال تمثل وحيًا إلهيا صافيًا صالحاً للعمل به، وأيها ليست كذلك، أو أي من التعاليم والمبادئ السائدة هو من وحي تعالى، وأيها من افتراء البشر واختلاقهم؟ فيجب أن يكون هناك مقياس للتمييز بين الصالح وبين الرديء.وقد بين الله هذا المقياس هنا ليسهل على الإنسان معرفة كلام الله الذي لا يزال صافيا طيبا صالحًا للعمل.فيقول الله : إن مثال الوحي الإلهي الذي لا يزال صافيًا مصونًا من عبث البشر هو كَشَجَرة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا الله

Page 648

الجزء الثالث ٦٤١ سورة إبراهيم في السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلِّ حِينِ بِإِذْنِ رَبِّهَا لقد ذكر هنا خمس مواصفات لهذا الكلام وهي: (١) أن يكون طيبا، أي حسنًا جميلاً في ظاهره.(۱ (٢) أن يكون أصله ثابتا.أن يكون فرعه في السماء.٤ أن يؤتي ثماره في كل زمان.ه أن يؤتي ثماره بإذن الله تعالى.فإذا توفرت هذه المزايا الخمس في كتاب سماوي فإنه منهج كامل للناس في ذلك الزمان وصالح للعمل به.أما إذا انعدمت هذه المواصفات في سفر من الأسفار أو في كلام يُنسب إلى الله ع فإنه لا يعدو أن يكون أحد الاثنين؛ فإما أنه مما قد تم نسخه وإلغاؤه بيد الله تعالى، أو أنه ليس من عنده عل بل هو من اختلاق البشر.والآن أتناول كل هذه المزايا الخمس بالشرح والتفصيل.الميزة الأولى: (طيبة).ومعنى الطيب: الحسن المنظر؛ المصون من العيب والنقص؛ ذو الطيب؛ اللذيذ؛ النقي الصافي؛ الحلو؛ العالي الجودة؛ العظيم؛ الموافق.فالوحي الصالح للعمل هو ما يكون (أولاً) كالشجرة الطيبة مصونا من العيوب والنقائص، بمعنى أنه ليس فيه ما يتنافى مع روحانية الإنسان أو مروءته أو مشاعره وعواطفه الطبيعية (ثانيا) أن يكون هذا الكلام حسن الديباجة ذا طلاوة وروعة تأخذ بمجامع القلوب.ثالثًا) أن يجد العامل به متعة ولذة وسروراً.(رابعا): أن يكون حلوا عذبًا (خامسا ) : أن يكون عالي الجودة.و(سادسًا) أن يفوق كل كلام آخر في مزاياه.الميزة الثانية أصلها ثابت أي قوي راسخ وإن لثبات أصول الشجرة في الأرض عدة معان منها: 1) إنها شجرة حية طرية تمتص غذاءها من الأرض باستمرار.كذلك حال

Page 649

الجزء الثالث ٦٤٢ سورة إبراهيم الوحي الحي فإنه يتلقى غذاء ودعمًا من الله باستمرار، أما الوحي الذي تم نسخه فيفقد السعة والشمولية وينضب معين معارفه، فلا يعود قادرًا على تلبية الحاجات المتجددة للبشر.ولكن الوحي الحي الثابت يظل يسد كل حاجة من حاجات الفطرة البشرية.فما من قضية يواجهها الناس في حياتهم إلا ويجدون حلّها في ذلك الوحي على الفور، ويجدون فيه معارف جديدة، كشجرة تمتص غذاءها من الأرض متى دعت إليه الحاجة.مما لا شك فيه أن هذه المعارف تكون مكنونة فيه، ولكن ظهورها عند الحاجة إليها، إنما يتوقف على فضل الله المتجدد باستمرار.فكأن هذا الكلام لا يزال يتلقى من الله تعالى غذاء ودعمًا من وقت لآخر.(۲) ورسوخ أصول الشجرة إشارة إلى صلابة جذعها ومتانتها.بمعنى أنها تقف صامدةً ولا تخضع للهزات والصدمات وهذه أيضًا إحدى مزايا الوحي الحق، فإنه صامدًا في وجه المطاعن والاعتراضات، ومهما قسا عليه الأعداء بالنقد فإنهم لا يقدرون عليه، بل إنه يبقى ثابتا شامخًا رغم عدائهم اللئيم.يبقى (۳) ورسوخ الأصول يشير إلى ثبوت الشجرة أيضًا فلا تتزعزع من مكانها.فالمراد من قوله تعالى: أَصلُهَا ثَابت أن أصول الكلمة الطيبة ومبادئها صلبة بحيث إنها لا تتغير ولا تتبدل وإن تغير الزمن، بل تبقى تعاليمها الحقة ثابتة على ما عليه.أما إذا مست الحاجة إلى تغيير الوحي فاعلموا أنه قد فقد الطلاوة والحيوية وصار كشجرة قد جنّت أغصانها واجتُنَّتْ من أصولها.هي ٤) ورسوخ أصل الشجرة إشارة أيضًا إلى طول عمرها، لأن الأشجار التي تضرب جذورها عميقًا في الأرض تعمر طويلاً.وهذه أيضا من مزايا الكلام الإلهي فإنه يخدم الإنسانية لمدة طويلة، وليس أنه يتزل اليوم ويُنسخ غدا.والمراد من كلام الله هنا: التعاليم الأساسية الجوهرية التي هي كالأصول، وإلا فمن الممكن أن يلغي الله بعض الأمور الفرعية من الوحى بلاءً واختبارًا للناس، بيد أن المبادئ الجوهرية لا تتغير أبدًا.خذوا مثلاً التوراة، فقد نسخها الله بالقرآن الكريم ولكن بعد أن

Page 650

الجزء الثالث ٦٤٣ سورة إبراهيم خدمت الإنسانية لمدة ألفي سنة.لقد أرسل الله أنبياء كثيرين في هذه الفترة، ولكنهم ما جاءوا لنسخ التوراة وإنما لتطبيقها.ه وكما أن جذور الشجرة الطيبة تشق طريقها في الأرض كذلك يجب أن يأخذ كلام الله الحي طريقه في أرض القلوب المؤمنة، فتنعكس تأثيراته الطيبة في سلوكهم وأعمالهم.فيجب أن تكون هناك جماعة من المؤمنين العاملين بالكلام الإلهي حتى يُكتب له الازدهار وتُعرف نتائجه وتأثيراته.فإن قلوب جماعة المؤمنين هي بمثابة الأرض لكلام الله تعالى، فيترك هذا الكلام تأثيرًا عميقا في القلوب المؤمنة حتى يتأصل فيها؛ أي أنهم يعملون بالأحكام الواردة في كلام الله ويكشفون للعالم محاسنه وكمالاته.(٦) أن يكون مصدر غذاء هذا الكلام واحدًا بمعنى أنه لا يتغذى كالحيوانات من هنا وهناك، بل يمتص كالشجرة- غذاءه من منبع واحد هو الله تعالى.وفي هذا إشارة إلى أن ما يخترعه البشر من مبادئ وتعاليم تكون مستقاة من مصادر شتى، فيكون بعضها مقتطفا من الفلسفة، وبعضها من الطبيعيات، وبعضها من التقاليد والعادات، وبعضها من القوانين السائدة حينذاك، ولذلك تجدون في هذه التعاليم المصطنعة بأيدي البشر شتى أنواع التعارض.ولكن منبع كلام الله تعالى واحد وجذوره عميقة بمعنى أن أحكامه وتعاليمه لا تكون متعارضة فيما بينها، كما تتناول كل قضيّة إنسانية ببحث تفصيلي عميق.ولا يكون هذا الكلام بحاجة إلى مساعدة من البشر للدفاع عن مبادئه، بل إن مورد غذائه وبقائه –أي الأدلة والبراهين يكون من أصل واحد هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يتولى الدفاع عنه.الميزة الثالثة: ﴿وَفَرْعُهَا في السَّمَاء، وقد أشار القرآن بذلك إلى المواصفات التالية لكلام الله الصافي الحي: 1) إن الإنسان إذا عمل بهذا التعليم تمكن من الوصول إلى الله تعالى.ذلك أن الذي

Page 651

الجزء الثالث ٦٤٤ سورة إبراهيم يتسلق شجرة وصلت فروعها إلى السماء فإنه لابد أن يصل إلى السماء، التي يُراد بها في لغة الروحانيات القرب من الله تعالى.إن ذلك الكلام الإلهي يبين أحكام الشرع بكل تفاصيله.ذلك أن وصول الشجرة إلى السماء تشير إلى كثرة الفروع أيضًا.فالمراد أنه ما من حاجة بشرية إلا ويسدها هذا التعليم، وما من قضية روحانية أو أخلاقية إلا ويبحثها بالتفصيل.وكأن هذه الشجرة الروحانية الباسقة تغطي بأغصانها رقعة السماء الروحانية.) إن تعاليمه مبنية على أسس مكارم الأخلاق ذلك أن ارتفاع أغصان الشجرة الروحانية يشير إلى أن هذا الوحي لا يحتوي على أخلاق سطحية ومبادئ عادية، بل يدعو إلى المبادئ العليا والأخلاق السامية.) إنه نافع للناس كافة على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم، بدليل أن الشجرة الباسقة الوارفة الظلال تظل كثيرًا من الناس.فالجملة إشارة إلى أن هذا الكلام قادر على استقطاب الناس من كافة المجالات ،والطبقات ونافع لهم على حد سواء.الميزة الرابعة: تُؤتي أُكُلَهَا كُلَّ، والمراد من ذلك: (۱) أن من علامات الوحي الطاهر الحي ظهور شخصيات روحانية عظيمة من بين العاملين به بين حين وآخر، وكأن هذه الشخصيات ثمار لهذه التعاليم.بمعنى أن هؤلاء يكونون نموذجًا مثاليا لتأثيرات هذا الوحي.كذلك (٢) أنه يضمن لمن يعمل به النجاة الأبدية من الآثام.ذلك أن قوله تعالى (تؤتي أكلها كل حين كما يعني ظهور الشخصيات الروحانية على الدوام، فإنه ينص على ضرورة أن يتزوَّد الإنسان من ثمارها دائما.وهذا الغذاء المستمر من تلك التعاليم الطيبة لن يتيسر لأحد ما لم تتيسر له الطهارة الأبدية التي لا يتخللها فتور ولا تقصير.الميزة الخامسة: بإذن رَبِّهَا أي أن هذه الشجرة الطيبة تعطي الثمار بإذن ربها لا بحسب النواميس الطبيعية العادية.وهنا قد تميزت الشجرة الطيبة الروحانية عن الشجرة العادية، لأن الأشجار الطبيعية تثمر وفق النواميس الطبيعية، ولكن الشجرة

Page 652

الجزء الثالث ٦٤٥ سورة إبراهيم الطيبة تثمر بإذن إلهي خاص وفي هذا إشارة إلى أن نتائج كلام الله تعالى لا تكون طبيعية فحسب، بل تكون له نتائج شرعية أو روحانية أيضًا.وعلى سبيل المثال، إذا كان الإنسان صادق الحديث فلا شك أنه سيجني ثمرا طبيعيًا لعادته المباركة هذه، إذ يزداد ثقةً واحتراما لدى القوم، ولكنه سيجني ثمرا آخر شرعيا إذ يرث أفضالاً أنه الله تعالى.أو إذا كان يؤدي الصلاة، فثمرها الطبيعي هو من يُدرك المصلي أهمية الطاعة والنظام لإحراز المصالح القومية، إلا أنه يجني لصلاته ثمرا آخر شرعيًا وهو أنه سيزداد قربًا من الله ويحظى برؤيته وعل وبر ركات خاصة عند هذه هي العلامات التي ذكرها القرآن للشجرة الطيبة، والحق أنها تحدد هوية الوحي الإلهي الصافي الحي بحيث لا يبقى هناك أية صعوبة في التمييز بين الكلام الحق وبين الكلام الباطل.وعندما ننظر إلى القرآن الكريم نجده متحليا بكل من هذه المواصفات بشكل مثير للإعجاب، حتى إنه لن يسع الأغبياء أيضًا إلا أن يعترفوا بكون القرآن زاخرا بمحاسن منقطعة النظير، وبطاقات روحانية خارقة بحيث يستحيل أن يباريه أي مصدر آخر، سواء أكانت الكتب السماوية السابقة أو كلام البشر من الفلاسفة أو غيرهم.إنني ميزات الشجرة القرآنية الطيبة: لا أستطيع أن أتناول هنا هذه الأمور كلها تفصيليًا إلا أنني سوف أقدم لكم أمثلة لتعرفوا منها كيف أن هذه المواصفات تنطبق على القرآن الكريم بصورة تبهر العيون.أولاً : قوله تعالى (طيبة) وهي كلمة تشير إلى كون الشيء بريئًا من كل عيب أو ضرر ظاهرا وباطنا، ونجد هذه الميزة متوفرة في القرآن الكريم بصورة مميزة كالآتي: أ فبرغم أنه قد تطرق إلى أمور ومسائل هي غاية في الحساسية من حيض ونفاس وعلاقات زوجية وعواطف مرهفة يتبادلها الزوجان إلا أنه قد أدى هذه المعاني بكلمات مهذبة وتعابير فاضلة وبأسلوب جميل لطيف للغاية بحيث لا يثقل بيانه حتى على أصحاب الطبائع المرهفة.لقد استخدم لبيان هذه المعاني لغة راقية شريفة تخلو

Page 653

الجزء الثالث تماما ។។ سورة إبراهيم من كلمات ثقيلة وتعابير ركيكة وأساليب معقدة وأخيلة يجري وراءها الشعراء عبثا.بل إنه مهما كان الموضوع صعبًا فإن القرآن قد عبّر عنه بكلام واضح سهل لا يثقل على الآذان ولا يشتت الأفكار.وإن تعاليم القرآن في هذه الأمور بسيطة وجميلة بحيث لا يشعر العامل به أي خطر من ضرر أو خسارة.ب- ثم إن قوله تعالى (طيبة) يشير أيضًا إلى كون الشيء جميلا في مظهره، ونجد القرآن الكريم يمتاز عن سائر الكتب السماوية بهذه المزيّة أيضًا.إن حسنه الظاهري - أي الفصاحة والبلاغة - جلي وواضح لدرجة أنه لا يستطيع أي كتاب آخر الصمود أمامه، سواء من ناحية اختيار الكلمات الفاضلة أو تركيب الجمل المحكمة أو التعابير الراقية أو تسلسل العبارة أو سمو الموضوع أو سعة المعاني، بل ستجده فريدا في كل هذه المزايا والمحاسن وكثير غيرها.لقد استخدمت في القرآن تلك الكلمات العربية نفسها التي وردت في مئات الآلاف من الكتب الأخرى، ولكن هيهات هيهات أن يبلغ أي منها شَأْوَ القرآن أو يشق غباره.كان العرب مشهورين بتفوقهم على الشعوب الأخرى في رقة خيالهم، وسمو أدهم، وكثرة المفردات في لغتهم.وقد بلغ شغفهم بالأدب والفصاحة درجةً بحيث كانوا لا يقيمون لما يُبهر العالم من غلبة ومال وعزة وزنًا ولا قيمةً إزاء الأدب.كانوا يعظمون شعراءهم وكأنهم رسل، ويوقرون خطباءهم وكأنهم آلهة.ولكن هؤلاء العرب البلغاء الذين ازدهر بينهم الأدب والأدباء على هذا النحو المحيّر، عندما سمعوا القرآن أخذوا بالدهشة والانبهار، وأُصيبت ألسنتهم الطليقة بالعي والحصر.ذلك على الرغم من أن القرآن قد نزل في نفس الفترة التي بلغ فيها الأدب العربي أوج كماله وذروة مجده، إذ كان بعض من أدبائهم الكبار الذين كانوا فرسان الفصاحة والبلاغة في تاريخ الأدب العربي كله قد خلوا قبل نزول القرآن بزمن قصير وبعضهم كانوا لا يزالون على قيد الحياة.فهؤلاء البلغاء عندما سمعوا القرآن وقفوا حياله مبهورين حتى سموه "سحرا".

Page 654

الجزء الثالث ٦٤٧ سورة إبراهيم أليست الكلمة التي كذبوا بها القرآن نفسها تشكل دليلاً على إجماع بلغاء العرب على أن هذا القرآن لهو أسمى من أن يصطنعه البشر؟ لقد أبدع العقل العربي أجمل المقالات الأدبية ،وأروعها، ولكنه لم يستطع إزاء القرآن إلا الاعتراف بعجزه عن الإتيان بكلام جميل مثله فتبارك الله أحسن الخالقين.ثم إن مواضيع القرآن أيضًا تتسم بهذه السمة، سواء من ناحية سمو المعاني أو سعة المعارف، أو شمولية المواضيع، أو تنويرها للعقل، أو تأثيرها في النفوس ونفوذها إلى أعماق القلوب.فعندما يتحدث القرآن عن الرفق واللين يكاد يذيب القلوب المتحجرة الفرعونية، وحين يدعو إلى الشجاعة والبسالة تكاد القلوب "الإسرائيلية" تغمر بالغيرة الإيمانية الإبراهمية، وإذا حث على العفو والمحبة يكاد النبيُّ.العليا يصاب بالحيرة والانبهار، وإذا أكد على ضرورة العقوبة تكاد روح موسى ال تأتي لتسلم على صاحب القرآن.وبالإجمال، فإن الإنسان يستطيع – بدون الخوض في سعة المضامين القرآنية – أن يدرك بكل سهولة أن القرآن مُحيط لا شاطئ له وجنةٌ لا حد لثمارها.لقد بهر العالم بحسنه وجماله لدرجة أن الناس كانوا ولا يزالون يقولون : إن هذا الكلام ليس من محمد، وإنما أعانه عليه قوم آخرون! أليس زعمهم هذا اعترافا بجمال القرآن وفضله يا ترى؟! منهم ج- وقوله تعالى طيبة يشير إلى معنى المتعة واللذة أيضا.والقرآن الكريم يفوق الكتب الأخرى أيضًا لذة ومتعة.ترون أتباع كل ملة وطائفة اليوم محرومين من الطمأنينة الحقيقية رغم عملهم بتعاليمها، ولكن لن تروا من يعمل بالقرآن بصدق في هذا الضيق والاضطراب، بل إنه يجد في العمل به متعة ويزداد إليه شوقا.وخلاصة القول: إن هناك لذة عجيبة فيه، من تذوقها مرة حق التذوق لا يستطيع أن يفارقه أبدا.د- وقوله تعالى طيبة يشير إلى معنى الزكاة والنمو والطهارة أيضًا.والقرآن

Page 655

الجزء الثالث ٦٤٨ سورة إبراهيم الكريم فريد في هذه الميزة أيضًا خذوا مثلاً الطهارة الظاهرة، فإن القرآن هو الوحيد من بين سائر الديانات الذي يعدّ النظافة من الإيمان بينما كانت النظافة الظاهرة والطهارة الباطنة قبل نزوله تُعتبران ضدين يستحيل اجتماعهما.فكان الرهبان المسيحيون يتفاخرون بما يعيشون فيه من أوساخ وأدران ظاهرة، كما كان الكهان الهندوس يتباهون بأسمالهم المتسخة القذرة.فجاء القرآن وأوضح مبادئ الطهارة أيما إيضاح.لقد لفت أنظار الناس بكل براعة إلى أن الجسم الطاهر السليم يساعد على طهارة الروح وسلامتها، وأن استخدام الطيبات التي خلقها الله لعباده لا يدنس الروح بل يطهرها.فإذا رمى بها المقربون عند الله عرض الحائط، فكيف يعرف غيرهم قيمة هذه النعم.بيد أن القرآن صرّح أن استخدام الطيبات أيضًا يجب أن يتم بطريق طيب سليم، إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالِحًا (المؤمنون:٥٢).وقد أشار بذلك إلى وجود صلة بين الجسم والروح يتطلب بيانها مجلدات ومجلدات.ه- وكلمة (طيبة) تشير إلى معنى الحلاوة أيضًا.والقرآن الكريم ليس لذيذا فحسب، بل هو حلو أيضًا.مع العلم أن اللذة تعني رغبة النفس البشرية في شيء، أما الحلاوة فتشير إلى انسجام و تلاؤم بين النفس وبين هذا الشيء.فالمراد أن تعاليم القرآن حلوة خالية من أية حدّة أو شدَّة، ولذلك يستسيغها حتى أصحاب الطبائع الحساسة المرهفة ويجدونها منسجمة مع طبائعهم، فيقبلونها وينتفعون بها.و - وكلمة (طيبة) تشير إلى العُلُوّ والسُّمُو.وبالفعل، فإن معارف القرآن ومطالبه سامية للغاية بحيث يستحيل أن يباريه فيها أي كتاب آخر.إنه يتحدث عن صفات البارئ تعالى ويدلل على حكم الله على الكون ويؤكد سلطانه على كل موجود بأسلوب رائع أخاذ ترقص الروح لبيانه، ويُخيّل للإنسان وكأنه قد بدأ يحلّق في السماوات العُلى متحررًا من كلّ العلائق الأرضيّة الدُّنيويّة.هل من كتاب يقدر على أن ينافس القرآن في هذا الشأن؟ وهل من كلام يستطيع أن يباريه في هذا الحسن

Page 656

الجزء الثالث والجمال؟! كلا ثم كلا.٦٤٩ سورة إبراهيم ز - كما تشير كلمة طيبة إلى كون الشيء عالي الجودة.وإن المزايا المذكورة أعلاه لتكفي لإقناع أي امرئ شريف بكون القرآن الكريم ممتازا على كل كلام آخر، سواء أكان من الأسفار السالفة أو من صنع البشر، حتى يبدو وكأن القرآن من عالم، وما سواه من عالم آخر.ثانيا : قوله تعالى أَصْلُهَا ثَابت.لقد سبق أن ذكرنا لهذه الجملة ستة معان أي ست مسألة مزايا والحق أنها كلها متوفرة في القرآن الكريم على أكمل وجه، وإليكم بيانها : (۱) إن القرآن الكريم كتاب حي كالشجرة الحية.وكما أن الشجرة المتأصلة الجذور تمتص غذاءها من الأرض باستمرار فتبقى مخضرة نضرة، كذلك فإن للقرآن الكريم حيوية ونضارة، ولا ينضب معين معارفه أبدًا.فمنذ ثلاثة عشر قرنًا والمفسرون يكتبون تفسيره، وقد بلغ تفسير بعضهم مائة مجلد، ومع ذلك ما نفدت كلمات الله و لم تنته مفاهيم القرآن الكريم، بل لا يزال يزوّدنا القرآن بمطالب جديدة باستمرار، وكأن هناك أحدًا من وراء الغيب يفيض بهذه الكنوز علينا دون توقف.فكلما نواجه ونتدبرها في آيات القرآن الكريم فإنه يلبي حاجتنا ويكشف علينا معانى جديدة.وقد أعلن الله ل بنفسه عن هذه الميزة في القرآن الكريم حيث قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق: ۱۷).فالوحي الإلهي الصالح للعمل يجب أن يبقى حيًّا نضرًا كالشجرة المخضرة، أي أن يتلقى هذا الوحي الدعم من منبعه سبحانه وتعالى.فكما أن الشجرة تبقى ولكنها تمتص رحيق الحياة من الأرض باستمرار، كذلك يبقى الوحي كما هو ولكن مفاهيمه المكنونة لا تزال تنكشف باستمرار وفق مقتضى كل عصر وزمان.بيد أن الله هو الذي يتولى كشف هذه المعارف على من يشاء من عباده، كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة : ٨٠).كما هي ٢) والعلامة الثانية للشجرة التي (أَصْلُهَا ثَابِتُ) هي أنها لا تخضع للصدمات بل تتحمل

Page 657

الجزء الثالث ٦٥٠ سورة إبراهيم اللہ وطأتها في شموخ وصمود.كذلك لا يمكن أن يُسمَّى كلامًا إلهيًا حقا إلا الكلام الذي يصمد في وجه المطاعن ويرد عنه الهجمات بنجاح.وهذه أيضا من خصوصيات القرآن الكريم؛ فإن مبادئه متينة وواضحة للغاية بحيث يستحيل أن يتصور أحد أن القرآن سيخضع أمام المطاعن إن القرآن لا يسمح لأحد بإحداث أي تغيير لفظي أو تحريف معنوي فيه، إذ إن كلماته نفسها تهب للدفاع حفاظًا عليه نصا وروحًا.فمن حاول التغيير في أي تعليم قرآني فإنه يشوهه ويخربه ولن ينتفع منه شيئًا.شأنه شأن البناء الذي إذا نزعت منه بعض اللبن خرَّ على الأرض.كذلك فإنه من المحال من الناحية الروحية أن يختار أحد بعض القرآن ويترك بعضه الآخر وهو يريد أن ينتفع من بركاته حق المنفعة، فإما أن يتبعه كله أو يتركه كله تجدون مسلمى اليوم يخسرون الرهان ويتخلفون، بينما يحرز غيرهم كسب السبق ويتقدمون، والسبب أنهم يعملون ببعض القرآن ولا يهتمون بالبعض الآخر.والقرآن الكريم لا يقبل مثل هذا الضيم والخطأ، فمن حاول الضغط عليه خسر بنفسه خسرانًا مبينا.إذا كان هذا المسلم لا يريد العمل به فهو حرّ في أن يتركه ويختار كتابًا ،آخر بمعنى أن هذا الإنسان إذا كان يريد رقيًا ماديًا بترع أصل شجرة القرآن من قلبه فليفعل، فلربما يحقق رقيا ماديًا، مكانها ولكنه لن يستطيع إحراز الرقي الحقيقي بإحداث تغيير في القرآن الكريم نفسه.كذلك يعني قوله تعالى أَصْلُهَا ثابت أن القرآن لا يتأثر بتقلب الزمان.فمهما اخترع الإنسان من علوم وحقق من تقدم فإنه لا يستطيع الهجوم على القرآن الكريم ولا يقدر على انتقاده.والعلامة الثالثة للشجرة التي أصْلُهَا ثابت هي أنها لا تتزعزع من رغم العواصف الهوجاء.كذلك فإن أُصول القرآن الكريم متينة وثابتة لأنها لا تتغير أبدا.وإن تعاليمه مبنية على أصل واحد لا تعارض فيها، بعكس ما فعلوه في الإنجيل، إذ حاولوا تأسيس المسيحية الحالية على مبادئ متعارضة كعقيدة التوحيد مع الثالوث والإيمان بالله مع عقيدة الكفارة.كذلك فعل الآريون الهندوس إذ يقولون من ناحية:

Page 658

٦٥١ سورة إبراهيم الجزء الثالث إن الله خالق وكريم ومن ناحية أخرى يقولون بأنه سبحانه وتعالى لا يقدر على خلق المادة ولا الأرواح، مع أنهما مبدءان متعارضان متناقضان تماما.ولكن تعاليم القرآن كلّها مبنية على أصل واحد دائمًا.خذوا مثلاً قضية التوحيد، فكل ما يذكره القرآن الكريم من تفاصيل دقيقة في هذا الصدد يدور حول التوحيد نفسه وتؤكد على التوحيد فقط لا غير.وإذا كان القرآن يصف الله بكونه (الرحمن الرحيم) تجد تعاليمه التفصيلية كلها أيضا تؤكد على هاتين الصفتين، ولا يمكن أن تجده يعلم التوحيد بينما تكون تعاليمه التفصيلية مشوبة بالشرك، أو أن يصف الله بكونه (الرحمن الرحيم) ثم يعود فيذكر في التفاصيل ما يدل على عدم رحمته.٤) والعلامة الرابعة للشجرة التي (أَصْلُهَا ثَابت) هي أنها تكون طويلة العمر، لأنه كلما كانت عميقة الجذور عاشت فترة أطول.لقد مضى على نزول القرآن الكريم ثلاثة عشر قرنًا، ومع ذلك لا تزال أحكامه وتعاليمه صالحة للعمل، وسيبقى هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.ولكن الكتب التي لا تكون من مصدر سماوي لا تتسم بهذه الميزة، بل إنها تُكتب اليوم وبعد فترة يعارضها مؤلفوها أنفسهم، فلا يعمل بها أحد.ولكن العمل بالقرآن جار وسار منذ نزوله، بل إن المسلمين الذين كانوا قد هجروه منخدعين ببريق الحضارة الغربية قد بدأوا اليوم يعودون إلى تعاليم القرآن الصلبة مرّةً أخرى، بعد أن ذاقوا الأمرين بإتباع تلك الحضارة الفاسدة.وهناك عشرات القضايا التي اضطر العالم أخيرًا للاعتراف بفضل تعاليم القرآن بشأنها، كتحريم لحم الخنزير والخمر، وأخذ الحيطة والحزم في اختلاط الجنسين، وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث وغيرها.وهكذا اعترف الأعداء بطول عمر الشجرة القرآنية التي نرى أن عمرها سيمتد إلى يوم القيامة.٥) والعلامة الخامسة للشجرة التي أَصْلُهَا ثابت أنها تنبت في أرض خصبة لا في تربة عادية، لأن جذورها لن تمتد بعيدًا إلا في تربة خصبة للغاية.كذلك حال الوحي الإلهي الحق، فإنه لا يمكن أن يُثبت كفاءته إلا إذا تيسر له قوم تكون أرض قلوبهم

Page 659

الجزء الثالث ٦٥٢ سورة إبراهيم جماعةٌ جاهزة لاستقبال شجرة التعليم الإلهي.وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾) (فاطر : (١١)..أي أن الإيمان بمثابة الشجرة التي لا يمكن أن تزدهر إلا في تربة العمل الصالح فمهما كان الوحى السماوي ساميًا نافعا فإن محاسنه لن تنكشف للعالم ما لم يعمل به قوم من الأقوام.لذلك من الضروري أن تتأصل شجرة التعليم السماوي في قلوب صالحة لتزدهر فيها هذه الشجرة السماوية الطيبة، وإلا فلا يمكن أن يُكتب لأي وحي سماوي الازدهار والبقاء.ولقد تهيأت هذه الوسيلة للقرآن الكريم على أكمل صورة.إذ تيسرت له عند الترول من المخلصين الذين زرعوا الشجرة القرآنية في قلوبهم وسقوها بدمائهم.ولا يزال القرآن يتحلى بهذه الميزة إلى يومنا هذا مما لا شك فيه أن الناس في الماضي عملوا بصدق بالفيدا والتوراة والإنجيل وغيرها من الأسفار السماوية السابقة، ولكن قلما نجد اليوم من يعمل بها.غير أن العاملين بالقرآن وجدوا في كل زمان ومكان، وكلما قلّ عددهم خلق الله آخرين مثلهم، وهكذا لم تزل جذور الشجرة القرآنية تزداد عمقًا الأرض، وما انفك حسنه وجماله متألقًا متجليا في العالم.أما الكتب الأخرى فإذا كانت لا تزال تتحلى بنصيب من الحسن والجمال فمَثَلُ جمالها كمن يأخذ بذرة في يده ويبدأ في وصفها قائلاً: هذه بذرة شجرة تحتوي على مزايا كذا ومواصفات كذا، بينما تكون هذه الشجرة قد جفت وامحت ولم يبق لها من أثر.أما القرآن فيمكن التدليل على جماله للناس بتقديم شجرته الحية الخضراء الموجودة في كل حين.وشتان أن تقدّر حسن الشيء بالقياس والتخمين وبين أن تشاهده بعينك، إذ ليس الخبر بين كالمعاينة.في (٦) والعلامة السادسة للشجرة التي أصْلُهَا ثَابت) هي أن مصدر غذائها واحد، فهي لا تمتص غذائها كالحيوان من هنا وهناك.لا شك أن الأشجار الصغيرة الضعيفة أيضًا تأخذ غذاءها من مصدر واحد إلا أنني أعقد المقارنة هنا بالذات بين الشجرة والحيوان فقط..أعني بين كلام الله وبين كلام البشر.فإن الأسفار السماوية الأخرى مهما

Page 660

الجزء الثالث ٦٥٣ سورة إبراهيم كانت قاصرة عن مجاراة القرآن في كماله ،وجماله إلا أنها تشارك القرآن في هذه التي أن يعني الميزة..بمعنى مصدرها واحد وهو الله تعالى، ولكن كلام البشر يخلو من هذه الميزة كلية.إن تعاليم القرآن كلها من عند الله ، ولا دخل للإنسان فيها بتاتا.لقد أنزل الله القرآن على قلب رجل واحد في وقت واحد، على عكس الكتب البشرية الجيدة، فهي نتاج تجارب الناس وأفكار الفلاسفة على مر التاريخ الإنساني، وتنعكس فيها تيارات الزمن.ولكن القرآن على النقيض منها، فإنه يعارض معظم التيارات والميول كانت سائدة في زمن نزوله، وإنه يشق له طريقًا جديدًا مستقلاً.مما أن القرآن يأخذ غذاءه من مكان واحد كالشجرة.ولكن مثال الكتب البشرية كالحيوان الذي يتغذى من هنا وهناك لأن أساس هذه الكتب هو الاقتباس والاستفادة من هذا وذاك وكذلك التجسس والتدبر، إذ قد يكون مؤلف الكتاب شخصا واحدا ولكن المعلومات التي ذكرها فيه تكون مستقاة من شتى المصادر، وتكون معرفته حصيلة تجارب الآلاف من الناس، إلا الذين يتخذون القرآن الكريم أساسًا لمؤلفاتهم، فكتبهم تكون انعكاسا للقرآن الكريم ولا تكون منفصلة عنه.ثالثًا: والميزة الثالثة للشجرة الطيبة هي فَرْعُهَا فِي السَّمَاء.ولقد سبق أن ذكرنا قبل قليل سبعة معان لارتفاع غصون الشجرة، وكلها تنطبق على القرآن الكريم بأسلوب لم يسبق له نظير.وإليكم بيان ذلك: ۱) تشير كلمة فَرْعُهَا فِي السَّمَاء إلى أن من تسلق هذه الشجرة وصل إلى السماء.وهذه الخصوصية متوفرة في القرآن بشكل لا لَبْس فيه، بل لا يقدر أي كتاب آخر على منافسة القرآن في هذا المجال، إذ لا أحد من هذه الكتب يعلن -كالقرآن بأنه يوصل العامل به إلى الله تعالى فيحظى بقربه سبحانه، ويُشاهد الأمور السماوية بأم عينه.وبالفعل لم يزل بين العاملين بتعاليم القرآن حقًا في كل عصر أناس أعلنوا للعالم أنهم تمكنوا بإتباع القرآن من الرقي الروحاني حتى وصلوا إلى الله تعالى وورثوا أفضاله الخاصة.

Page 661

الجزء الثالث ٦٥٤ سورة إبراهيم (٢) كما تبين كلمة فَرْعُهَا فِي السَّمَاء أن الكلام الإلهي الصافي يعلم الأخلاق السامية للغاية، لأن ارتفاع الشجرة إشارة إلى علو التعاليم وسمو الأخلاق.والقرآن متسم بهذه الميزة أيضًا بشكل رائع كامل فإنه يعلم مكارم الأخلاق.وقد تدرّج القرآن في تعليم الأخلاق بدءًا من الخلق الأدنى إلى الأعلى، كأغصان الشجرة تماما التي ترتفع شيئًا فشيئًا.وهذه الميزة لا نجدها في أي من الأسفار السماوية الأخرى.فبعض ما ورد فيها تعليم رديء جدًا وكأنه غصن ساقط على الأرض، وبعضها عال جدا، ولكن دون أن يكون له علاقة بأصله، وإنما مثله كمثل غصن تربطه بخيط وترفعه.لا شك أن هذا الغصن سيبدو في الظاهر مرتفعًا، ولكن لا يستطيع أحد أن يتشبث به لأنه لا قرار له ولكن تعاليم القرآن الأخلاقية فريدة، فهي كشجرة تبدأ أغصانها من الأرض كي يستطيع الضعفاء خُلقًا أن يتعلقوا بها طلبا للنجاة، أما السابقون منهم فسلم الارتقاء أمامهم منصوب إلى أعلى السماء.وهناك بعض المعترضين الذين يعترضون على هذه الميزة القرآنية جهلاً منهم، فيقولون مثلاً بأن القرآن يعلّم الانتقام من المعتدي أحيانًا وهذا ليس بخلق سام؟ ولكن هؤلاء لا يفكرون أن صاحب الأخلاق الرديئة لا يمكن إصلاحه إلا بما يناسب حالته.فليس كل واحد يصلح بالعفو، بل إن البعض يصلحون بالعفو عنهم وبعضهم لا يرتدعون عن العدوان إلا بالعقاب.لذلك يعلّم القرآن أن نصلحهم بما يناسبهم وإلا فلن ينجوا من شرورهم.ثم هناك من لا يعرفون إلا العدل فقط..يؤتون الناس شيئًا ليأخذوا منهم مقابلاً، ولا يعرفون الإحسان إلى الآخرين، كما هناك من يعرفون الإحسان ولكن لا يعرفون أن يؤتوا الناس كإيتائهم لذوي القربى كأنه حق لهم، ولا يعتبروا عملهم هذا إحسانًا ومنة على الآخرين.وكل ديانة لا تراعي في تعليمها اختلاف الطبائع البشرية هذا فإنها إما أن تنفّر الناس من الأخلاق الفاضلة كليةً، أو تكون سببًا في حرمان قطاع كبير من القوم من الإصلاح والنجاة.(۳) كما تشير كلمة وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء إلى كثرة فروع هذه الشجرة، لأنها إذا

Page 662

الجزء الثالث سورة إبراهيم حتى إنه كانت فروعها في السماء ومنتشرة فيها فلا بد أن تكون كثيرة أيضًا.مع العلم أنه تعالى لم يقل "وفرعها إلى السماء بل قال وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء مما يدل على ارتفاع الأغصان وكثرتها معًا.والقرآن الكريم فريد في هذه الخصوصية أيضًا فإن تعاليمه تحتوي على معارف ومطالب وحكم بشكل محيّر للعقل الإنساني.إن القرآن كتاب مختصر ܥܐ أقل حجما من الإنجيل أيضًا، ولكنه قد جمع بين دفتيه من المفاهيم والمعارف ما يستحيل العثور عليه حتى في كتب هي أضخم من القرآن آلاف المرات.لقد تحدث عن شتى القضايا والمسائل التي تهم الإنسان كالعبادات والمعاملات والأخلاق والتمدن والسياسة والاقتصاد والإلهيات والقضاء والتصوف وعلم المعاد وعلم الكلام وغيرها، وقد ذكرها بشكل كامل مفصل مقرون بفلسفتها بحيث لا تبقى بنا أية حاجة لأي كتاب آخر (راجع أيضًا "فلسفة تعاليم "الإسلام" و "مرآة كمالات الإسلام" لسيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود اللة وكذلك كتابي "الأحمدية أي الإسلام الصحيح").) ومن خصوصيات الشجرة التي فَرْعُهَا فِي السَّمَاء أنها تكون وارفة الظلال.فشجرة الوحي الصافي الحي هي تلك التي تظل بظلها خلقا كثيرًا.بمعنى السكينة لكل البشر على اختلاف طبائعهم وأمزجتهم.وهذه الصفة أيضًا متوفرة في القرآن بصورة كاملة فإنه يراعي ضرورات الطبائع البشرية على اختلاف ميولها وقدراتها ودون القضاء على أية عاطفة طبيعية.فبينما نجد الأديان الأخرى قد اعتبرت هذه العواطف الطبيعية والرغبات الفطرية إنما وحاولت القضاء عليها..نجد القرآن الكريم يعلن أن هذه العواطف البشرية وسائل لتكميل الإنسانية، فلا يقضي عليها بل يحث على حسن استخدامها فقط، ويقول: شأنها شأن الحصان الذي يجر العجلة.فمن أراد السير في هذه العجلة فعليه بترويض الحصان على جرها، لا أن يذبح الحصان أو يطلق سراحه كليةً وهذا ما فعله القرآن الكريم، فإنه يقوم بتعديل ما في الإنسان من عواطف طبيعية ويروّضها بحكمة لتجلب له الراحة أنها تجلب

Page 663

الجزء الثالث سورة إبراهيم والاطمئنان إنه لا يقول لصاحب الطبع اللين أن يتخلى عن طبعه كلية، كما لا يأمر صاحب الطبع الحاد أن يتخلى عن حدته تماما، وإنما يأمر كُلاً منهما أن يستخدم ميله الطبيعي هذا في حدود ملائمة وفي محله وبمقتضى الحال.إن القرآن لا ينهى الناس عن الأكل ولا اللبس ولا الزواج ولا كسب المال ولا بناء البيت، وإنما يأمرهم أن يراعوا الاعتدال ولا يتجاوزوا الحد المناسب.ومن أجل ذلك نجد الإسلام قادرًا على إصلاح كل النفوس البشرية على اختلاف ميولها ورغباتها، فما من أحد إلا وتستطيع شجرة القرآن أن تهيئ له الظل وتجلب له الراحة والطمأنينة.رابعا : والعلامة الرابعة للكلمة الطيبة أنها تُؤتي أُكُلَهَا كُلِّ حين)، وهذا يعني: أ- أن من صفات الوحي الإلهي الطيب أنه يؤتي ثماراً عالية الجودة في كل عصر دون انقطاع بمعنى أنه لا يزال يوجد بين العاملين به أناس يمكن اعتبارهم كنموذج مثالي لتأثيراته مع العلم أنه تعالى قد قال هنا تُؤتي أكلها ولم يقل "توتي الأكل" بمعنى أن الشجرة الروحانية ليشير إلى وجود صفات هذه الشجرة في ثمارها أيضًا..طيبة متأصلة فارعة كذلك تكون "ثمارها الروحانية".كما هي وهذه الميزة أيضًا متوفرة في القرآن الكريم، بل هو الوحيد الذي ينفرد بها اليوم بين سائر الكتب، إذ إن العاملين بالقرآن يحوزون على الدرجات العلى في سلم الروحانيات وكأن القرآن يتجسد فيهم.وإلى ذلك يشير الحديث الشريف: "كان القرآن" بمعنى أنك - أيها المخاطب - إذا أردت معرفة أخلاق النبي ﷺ فانظر إلى القرآن، لأن ما ورد فيه من تعاليم سامية وصفات حسنة ستجدها متجسدة في محمد خلقه وإلى ذلك يشير أيضًا إلهام تلقاه سيدنا الإمام المهدي والمسيح ال الذي هو بمثابة ثمرة طيبة للقرآن في هذا العصر.وهذا الإلهام هو بنصه : " ما أنا إلا كالقرآن، سيظهر على يدي ما ظهر من الفرقان" (جريدة الحكم، ه شعبان ١٣٢٤هـ / عدد يوم ٢٤ سبتمبر ١٩٠٦م، ص١).وكأن هذا الإلهام يبشره بأنه قد جاء مصداقا لقوله

Page 664

الجزء الثالث ٦٥٧ سورة إبراهيم تعالى: تؤتي أكلها كل حين.ب والمعنى الثاني لقوله تعالى تؤتي أكلها كل حين هو أن هذا الوحي الصافي يكسب من يعمل به نجاةً أبديةً.ذلك أن كلام الله عندما يتأصل في أرض قلب المؤمن ويتحول إلى شجرة طيبة فإنها لا يمكن أن تثمر إذا لم يتعهدها المؤمن بماء صالح الأعمال باستمرار.واعلم أن النجاة الأبدية أمر يعرف في الآخرة ولا شك، وبالتالي يختص هذا المعنى بالآخرة.إلا أننا نعرف أن الكتب السماوية هي وحدها التي تضمن النجاة الأبدية، أما ما اخترعه البشر من كتب ومبادئ فإنها لا تعد بذلك، بل هي غير قادرة على قطع هذا الوعد، إذ لا أحد يستطيع منح الحياة الخالدة الأبدية إلا الذي هو حي بنفسه إلى الأبد ولا يأتي عليه الفناء، وهو الله وحده سبحانه وتعالى.فلا شك أنه لا يستطيع الصادقين.أيُّ كلام أن يضمن لأحد الحياة الخالدة، إلا الكلام الذي ينزل من عند الله تعالى.والقرآن يمتاز عن الكتب السماوية في هذا المجال أيضًا.إذ قد بين موضوع الحياة الخالدة أيما بيان مع أدلة وبراهين، بحيث لن تجد عُشر معشار هذا الموضوع في الأسفار الأخرى، وإذا كان أحد يشك في قولنا هذا فليأت ببرهانه إن كان من خامسا: والميزة الخامسة للكلمة الطيبة هي أنها تؤتي ثمارها بإذن رَبِّهَا ، وفي هذا إشارة إلى أن ذلك الوحي الطيب لا يأتي بنتائج طبيعية عادية فحسب، بل يأتي بنتائج خارقة للقوانين الطبيعية.ذلك أن العمل بكتاب ما إذا أتى بالنتائج الطبيعية، فهذا يعني أن هذا الكتاب صَوَّرَ النواميس الطبيعية أحسن تصوير ولكن هذا لا يدل على أن صاحب هذا الكتاب يتحكم ويتصرف في هذه النواميس، وإنما يتأكد ذلك إذا جاء الكتاب بنتائج خارقة للعادة إلى جانب النتائج الطبيعية.وأضرب لتوضيح ذلك مثالاً: هناك كتاب يأمرك بأكل شيء، أو ينهاك عن أكله، فإذا كان الشيء نافعا وأكلته فسوف تزداد قوةً وصحةً، أما إذا كان الشيء ضارًا وأكلته فسوف تتضرر صحتك.وتكون هذه نتيجة طبيعية، وتأثير تعاليم الكتب الإنسانية لا يعدو هذا القدر من

Page 665

الجزء الثالث чол سورة إبراهيم النتائج.ولكن الكتاب الإلهي يكون أكثر من ذلك تأثيراً ونتيجة، لأننا عندما نعمل بتعاليمه فإننا نقوم في الواقع بعملين لا بعمل واحد، وهذا العمل الإضافي هو ابتغاؤنا مرضاة الله.وهكذا يصبح عملنا طبيعيًا وروحانيًا في وقت واحد، فلا بد من أن تكون نتائج عملنا أيضًا مزدوجة طبيعية عادية وأخرى روحانية..أي خارقة للنواميس العادية، وذلك أن نرى من آثار رضوان الله عنا ما يجعل نتائج أعمالنا تمتاز عن النتائج الطبيعية العادية.والقرآن الكريم ليس له نظير في هذا المجال أيضًا.فقد أظهر الله للنبي ﷺ وأصحابه من الآيات الخارقة للطبيعة ما لا نجد له مثيلاً في أية ديانة أخرى، بل لم يزل الله ل يُري هذه الآيات عبر تاريخ الإسلام لمن يعملون بالقرآن بصدق.وليس صعبًا على أي عاقل أن يدرك بذلك أن القرآن نزل من الله الذي يملك السلطان والتصرف على النواميس الطبيعية، إذ ينصر أحبّاءه بطرق غير طبيعية.وقد رأينا في هذا العصر أيضا مصداقية قوله تعالى بإذن رَبِّهَا في شخص سيدنا الإمام المهدي ال، الذي ببركة علمه انكشفت علينا مفاهيم هذه الآية بهذه السعة والكثرة.ولا يزال الله تعالى يخص جماعة سيدنا الإمام المهدي بالرعاية والعناية، ويعاملهم بهذه السنن غير العادية، ولذلك تجدون هذه الجماعة في ازدهار وانتشار مستمرين بالرغم من العداوة الشرسة من قبل المعارضين.فسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر.وفي الأخير أشار الله تعالى بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إلى أن ما ذكر في الآية من أمور ووعود ليس من قبيل المبالغة ولا الأوهام، بل هي أمور واقعية سوف تختبرونها بأنفسكم في الحياة.وَمَثَلُ كَلمَة حَبِينَة كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةِ احْتُلْت مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا

Page 666

الجزء الثالث مِن قَرَارٍ ۲۷ ٦٥٩ سورة إبراهيم شرح الكلمات : خبيثة: الخبيث: النجس؛ الرديء المستكره؛ كلُّ حرام.وفي "التاج": الخبيثُ نَعْتُ كل شيء فاسد، ومنه: كلام خبيث.والحرامُ السُّحتُ يُسمى خبيئًا، والمالُ الحرام والدم وما أشبههما مما حرمه الله.يُقال في الشيء الكريه الطعم خبيث مثل الثوم والبصل والكُرّاث، ولذلك قيل : مَن أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مجلسنا (الأقرب).فالمراد من كلمة خبيثة : ١ كلام قبيح رديء لا يستطيع الإنسان سماعه.كلام يولد النفور في النفس.كلام يأمر الله باجتنابه.كلام لا يأتي بنتائج جيدة.ينفع القوم.ه كلام اختلط فيه الحسن بالقبيح، بحيث ينفع الفرد ولكن لا اجتنت: اجته: اقتلعه، ومنه وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ احْتُتْ مِن فَوْقَ الأَرْض أي استؤصلت.(الأقرب) : قرار قَرَّ بالمكان قراراً ثَبَت وسكن والقَرارُ ما قُرَّ فيه؛ المستقرُّ الثابت (الأقرب).التفسير : لقد ذكر الله هنا علامات الديانات الباطلة أو غير الصالحة للعمل بها وهي كما يلى: (۱ (١ أنها تكون قبيحة المنظر.تخلط بين التعاليم السامية والتعاليم الرديئة.(۳) لا تأتي بنتائج مُرضية سامية، بمعنى أنها غير قادرة على أن تمكن العاملين

Page 667

الجزء الثالث بمبادئها من الوصال بالله تعالى.٦٦٠ سورة إبراهيم خذوا مثلاً "البهائية" التي قد مضى على تأسيسها ما يقارب ٩٠ سنة، وذلك بدءًا من دعوى "الباب"، ولكن ليس بين أتباعها شخص واحد يمكنه أن يُعلن بأنه استطاع عن طريق العمل بمبادئ البهائية أن يصل إلى الله تعالى وأن الله تعالى يشرفه بالحديث بينما على النقيض من ذلك نجد مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية الا الذي بعثه الله إمامًا مهديًا ومسيحا موعودًا للأمة الإسلامية، فإنه لم يمض على بعثته إلا وقت قصير جدا، وها نحن اليوم يمكن أن ندل على مئات الأشخاص من أتباعه الذين يتشرفون بكلام الله تعالى.معه.إن فعل اجت) جاء لبيان علامات الكلمة الخبيثة أي الديانة الباطلة على النحو التالي: 1) إنّ كتاب تلك الديانة يتحدث عن أمور سطحية جدا مما يعرفه الناس عمومًا، وليس عن أمور روحانية دقيقة.إنّ تعاليمه تكون مؤقتة لا تعرف الدوام والثبات.وهذا هو حال تعاليم البهائية.لقد أجاز "البهاء" الزواج بامرأتين (الأقدس ص١٨)، ولكن جاء "عباس" بعده وألغى هذا الحكم.إن أحكامه لا تصمد أمام النقد.فإذا اعترضت على مبادئه ترى أتباعه لا يجدون الجواب عليه، فيضطرون للانسحاب من موقفهم لاتخاذ موقف مغاير.وهذا هو حال التعاليم البهائية أيضًا إنهم لا يتمسكون بموقف واحد، بل يغيرون موقفهم دائما عند مواجهة النقد والاعتراض.٤ إن تأثير تعاليمه قصير الأمد وتنفر منه القلوب سريعًا.لكن التعليم الحق هو ما يُكتب له الخلود بسبب تأثيره البعيد.ومثال هذا التعليم الباطل في فجر الإسلام ما عرضه مسيلمة الكذاب وغيره من تعاليم ومثاله في هذا العصر ما علمه "البهاء"، لأن أتباعه أنفسهم لا يعملون بتعاليمه، حتى إنه لا يوجد في أي من القرى البهائية جماعة

Page 668

الجزء الثالث ٦٦١ سورة إبراهيم من البهائيين تعمل بحسب تعاليم البهاء.ه إنه لا يتلقى دعما سماويًا؛ بمعنى أن أتباعه لا يتشرفون بالوحي السماوي.إن فروع شجرته الروحانية لا تكون عالية باسقة، بمعنى أنه لا يعلم الأخلاق السامية الفاضلة، ولا يتحدث عن كل القضايا الحيوية التي تهم الإنسانية جمعاء.أما قوله تعالى مَا لَهَا من قَرَار فقد أشار به إلى مزيد من العلامات للدين الباطل وهي: أ- إنه لا يتمكن من تثبيت جذوره في أية أرض بمعنى أنه تعالى لا يسمح لمثل هذه الديانات بأن تتوطد في أي بلد فيختبر الناس تعاليمها بالعمل بها، بل تموت هذه الديانة دونما تجربة واختبار.مغاير ب- إن أهل هذا الدين يضطرون لتغيير مبادئه وأصوله من حين لآخر.إن الإسلام قد أعلن منذ البداية أن "لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ولم يحدث فيه أي تغيير ولا تبديل بعد ذلك أبدًا.ولكنّ الديانة الباطلة تضطر دائمًا لإحداث التغيير في مبادئها.فلو أخذنا البهائيين مثلاً فإنهم يغيرون أصول البهائية من بلد إلى آخر.فإذا زرت البهائيين في إيران بلاد الشيعة تجدهم يقدمون لك مبادئ البهائية وتعاليمها بشكل تماما لما يقدمونه إلى أهل بلاد إسلامية أهلها من السنيين.كذلك تختلف مبادئهم في أمريكا عما هي عليه في إنجلترا، ذلك لكي يجتذبوا أهل هذه البلدان إليهم ولو على حساب أصول البهائية.فعندما زرت إنجلترا جرى حوار بيني وبين سيدة بهائية في أحد المجالس فسألتها: ما هو الجديد الذي قدّمه "البهاء؟ قالت: إنه أمر بالزواج من امرأة واحدة فقط.قلت: ولكنه نفسه تزوج باثنتين؟ فقالت: لقد تزوج بالأخرى قبل إعلان دعواه.قلت: ما دام "البهاء" كان يدّعي بكونه إلها، فلا فرق بين أن يتزوجها قبل الدعوى أو بعدها، لأن الإله العليم يجب أن يعرف منذ البداية ماذا سيعرض على الناس من أحكام وتعاليم فيجب ألا يخالفها بنفسه ثم إن البهاء قد سمح لابنه عباس بالزواج بسيدة أخرى، لأن زوجته الأولى لم تقدر على الإنجاب!

Page 669

الجزء الثالث ٦٦٢ سورة إبراهيم وكانت هناك سيدة بهائية إيرانية، فهمست هذه في أذن صاحبتها الإنجليزية بأن "البهاء" كان اتخذ زوجته الأخرى أختا له بعد الدعوى، فأعادت السيدة الإنجليزية نفس الكلام فقلت لها ولكن "البهاء" رُزق الأولاد من المرأتين كلتيهما، وذلك بعد دعواه أيضًا.فهل تظنين أنه كان ينجب الأولاد من أخته ؟! فأخذتها الدهشة واتجهت إلى صديقتها الإيرانية تسألها: هل هذا صحيح؟ فقالت : نعم.فضحك الحضور جميعًا.وبالاختصار، فإن البهائيين يُغيّرون أصولهم ومبادئهم في كل بلد جديد.ونفس الحال بالنسبة للمسيحية، حتى إن المسيحيين ينشرون كتبًا يوصون فيها دعاتهم كيف يجب أن يقدموا المسيح الله أمام شعب معين في بلد معين.وقد حدث في أوائل تاريخ المسيحية أن الرومان عندما طالبوا القسس المسيحيين أن يجعلوا "سبتهم" يوم الأحد بدل يوم السبت، رضخوا لطلبهم وجعلوا سبتهم يوم الأحد.أما الإسلام فإن جميع تعاليمه ثابتة قائمة على أصلها الواحد دونما زيادة ولا نقصان.يُنبتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء شرح الكلمات: ۲۸ يُثبت : ثَبَتَ الأمرُ عند فلان تحقق وتأكد.ثَبَتَ فلانٌ على الأمر: داوَمَه وواظَبَه.ثبته وأثبته : جعله ثابتا في مكانه (الأقرب) يُضل: أضلَّه: أهلكه.(الأقرب) التفسير : القول الثابت الذي يثبت به الله المؤمنين هو ثمرة الكلمة الطيبة، بمعنى أن الله تعالى يؤيدها بالإلهام إلى العاملين بها.

Page 670

الجزء الثالث ٦٦٣ سورة إبراهيم لقد وصف الله هذا القول بالثابت لأن هذا الإلهام يتلقاه هؤلاء اليوم وسيتلقاه أجيالهم غدًا، ولن تنقطع سلسلة الإلهام هذه أبدًا.وهناك سبب آخر أيضًا لوصف هذا القول بالثابت وهو أن هذا الوحي ينفع العاملين به في هذه الدنيا، وكذلك سينفعهم في الآخرة، ولكن ما يخترعه المدعون كذبا لا ينفع أحدا بعد الموت.وقوله تعالى وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالمين فاعلم أن الظالمين هم أولئك الذين يريدون إحداث العوج في كلام الله تعالى، ويصدون عن سبيله.ويعني قوله تعالى: (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء أن الله تعالى لا بد أن ينجز وعده فيما يتعلق بنشر رسالة القرآن الكريم وتوطيدها في العالم وهلاك أعدائه.۲۹ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار شرح الكلمات البوار: بارَ يبور بَوْراً وبَوارا: هَلَك بارت السوقُ والسلعةُ: كسَدَت.بارَ العملُ : بطل.بارت الأرضُ بَوْرًا : لم تُزرع بارَ زيدٌ عمرًا جرَّبه واختبره، ومنه: كنا نبورُ أولادنا بحب علي.والبوارُ : الهلاك؛ الكساد.(الأقرب) فالمراد من دَارَ الْبَوَار : دار الهلاك والخراب؛ دار الاختبار والامتحان؛ دار الكساد والخسران.التفسير: المراد من قوله تعالى بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا هو أن الله تعالى خصهم بالنعم ولكنهم جحدوها ، وصنع بهم معروفًا بإعطائهم "الكلمة الطيبة" ولكنهم تنكروا

Page 671

الجزء الثالث له وتسببوا في هلاك القوم.٦٦٤ سورة إبراهيم جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ شرح الكلمات : القرار: (راجع) شرح الكلمات للآية ٢٧ من هذه السورة) التفسير: أي أن إنكار الكلمة الطيبة يؤدي بصاحبه إلى الهلاك حتما، وأن هذا الهلاك مؤلم يحرق قلب المنكر دائما.النَّارِ وَجَعَلُواْ لله أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبيله قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى شرح الكلمات أندادا: جمع الند وهو : المثل، ولا يكون إلا مخالفًا، يُقال: ما له ند أي ما له نظير.(الأقرب) التفسير : اعلم أن كلمة (أَندَادًا لا تعني هنا كما يُوهم معناها اللغوي أن هؤلاء الشركاء يخالفون الله في الواقع أو أن المشركين يزعمون أن هؤلاء الشركاء يعادون الله تعالى، وإنما المراد أن وجود شركاء الله يتنافى مع عظمة الله تعالى، لأن الإنسان إذا اعتقد بوجود شركاء مع الله ،، لم يعد الله إلها.وكأنه تعالى يقول لهم: لماذا تعرضون عن الكلمة الطيبة وتقعون في هذه الأعمال العابثة التي لا معنى لها.

Page 672

الجزء الثالث سورة إبراهيم قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلالٌ شرح الكلمات: ۳۲ خلال جمع خُلة.خاله مُخالةً وخلالاً وخلالاً: صادقه وأخاه الخلة: المحبة والصداقة لا خلل فيها.(الأقرب) التفسير : أي قل يا محمد للمؤمنين بأنهم إذا كانوا يودّون أن تسرع لهم الكلمة الطيبة بثمارها فعليهم أن يؤدوا الصلاة دومًا، مراعين شروطها كلها، وأن ينفقوا أموالهم في سبيل الله سرا وعلانية.وأرى بناء على هذا الأمر الإلهى أن من ترك الصلاة متعمدا ولو صلاةً واحدة، فلا يمكن أن يسمّى مُصليا حقيقيًا.الله الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ به منَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلكَ لتَحْرِي فِي الْبَحْر بأمره وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبِينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ الكلمات: ٣٤ شرح دائبَين: دَأَبَ في عمله يَدأَبُ دأْبًا ودأَبًا جدَّ وتعب واستمرّ عليه.(الأقرب) التفسير: لقد تحدث الله هنا عما مَنَّ به على العباد من نعم وبركات ليذكرهم أنه

Page 673

الجزء الثالث ٦٦٦ سورة إبراهيم خلق هذه الأشياء والظواهر المنفعتهم، ولو أنهم بدأوا في عبادتها جهلاً منهم، بدلاً من أن يسخروها لمصالحهم، فسوف يُعتبرون ناكرين للجميل وسوف تترع هذه النعم من أيديهم.كما بين لهم إن هذه النعم ملك لنا، فلذا سوم رف نُمَتّع بها الآن الذين يتبعون كلمتنا.وبالفعل فقد سخر الله هذه النعم لخدمة الإسلام والمسلمين حتى ملكوا الأيام ولياليها والبحار وسفنها.لقد ورد في الآية السالفة أمران هما: يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ، وعلاقتهما بهاتين الآيتين هي أن إقامة الصلاة تعني نفي الشرك، وكأن الله تعالى حذر المسلمين سلفًا بأننا سوف نمنحكم عن قريب نعما كثيرة، فحذار من أن تتوانوا في الصلاة بسببها وتقعوا في الأعمال الوثنية.كما أمرهم في الآية السالفة وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ وكأنه حذرهم أن لا يكونوا كالذين يتخذون بعض هذه النعم آلهة ويعتبرون بعضها ملكًا لهم فقط.بل لقد سخرناها كلّها لخدمتكم ومنفعتكم جميعًا، فلا تتخذوها آلهةً، كما لا تحرموا الآخرين منها، ظانين أنها ملك لكم فقط، بل شاركوا فيها كل المخلوقات، وآتوا كل واحد نصيبه منها، لأننا قد خلقناها لمنفعة الجميع وليس لطائفة معينة.وآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ۳۵ ) التفسير: قوله تعالى (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ يعني أن الله تعالى قد هيّاً للفطرة الإنسانية كل ما كانت بحاجة إليه، وليس المراد منه أنه تعالى آتى الناس كل ما

Page 674

الجزء الثالث ٦٦٧ سورة إبراهيم سألوه، لأن الله تعالى لا يحقق للإنسان دائما ما يريده منه، ولكن كل ما تقتضيه الفطرة الإنسانية فإنه يهيئه لها دائما.فمثلاً إذا كان الله تعالى قد أودع في فطرة الإنسان مَلَكَة التأثير فإنه تعالى قد خلق هناك في الخارج أشياء تؤثر في الإنسان، وإذا الله كان خلق فيه ملكة التأثير فإنه قد جعل هناك أشياء تقبل تأثيره.فإذا جعل للإنسان العين ليرى بها، فإنه قد جعل إزاءها النور الخارجي الذي تبصر به، والمناظر الخلابة التي تتمتع بها.وجعل له الأذن ليسمع بها، وخلق إزاءها الهواء الذي يوصل الأصوات إلى الأذن، كما خلق ألحانًا جميلة عذبة يتمتع بها.وخلق في المرء الحيوانات المنوية القادرة على الإخصاب، وجعل إزاءها في المرأة ما يقبل هذه المادة فتنجب.وخلاصة القول إن الله قد لبى كلَّ مقتضى للفطرة الإنسانية.وهذا هو المراد من الآية.وأما إذا قلنا إن الفعل الماضي في قوله تعالى (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ قد جاء بمعنى المضارع تأكيدًا، فالمراد أن ما نعدكم به اعتبروه وكأنه قد تم الوفاء به..بمعنى أيها المؤمنون المضطهدون بأيدي الكفار في مكة - مع العلم أن هذه السورة مكية - تتمنون أن نعطيكم أرضًا لتتمكنوا من نشر تعاليم القرآن فيها بحرية، وتُرسوا رسالته فيها دون عائق، فها قد حققنا لكم هذه الأمنية، وسوف نسخّر لخدمتكم كل ما في السماء وما في الأرض، ونهيئ لكم كل سبب وسهولة.سوف نعطيكم أرضًا تتمتعون فيها بحرية، وتعملون فيها بتعاليم دينكم، لنكتب للإسلام الازدهار.وإننا نعيش اليوم أيضًا في عصر قد تعذر فيه العمل بتعاليم القرآن الكريم بصورة كاملة وبحرية تامة.بل إن هناك بلادًا كالبلاد الروسية التي لا يُسمح فيها للمسلم أن = يعيش حياته بحسب الشرع الإسلامي.وهناك مناطق أخرى في العالم يصعب فيها تبلیغ رسالة القرآن بل أرى أنه من المستحيل أن ننشر الحق الخالص..أعني الإسلام بدون الشوائب..في أي مكان من العالم، إذ إن علماء المسلمين وأعيانهم وأسيادهم وأتباعهم كلهم قد غيّروا أحكام الدين بحسب رغباتهم وأهوائهم، ولو أردنا نشر الإسلام مترها عن هذه الزيادات والشوائب والبدع التي أدخلها هؤلاء في التعاليم

Page 675

الجزء الثالث ٦٦٨ سورة إبراهيم الإسلامية لما استطعنا إلى ذلك سبيلاً في أي بلد.ولذلك فعلى كل مؤمن أن يعمل بالوصية الربانية القائلة: "ويقيموا الصلاة"، ويدعو الله تعالى إلى أن يتيح له الفرص لتبليغ رسالة القرآن وتوطيد الإسلام في العالم.واعلموا أن الله تعالى إنما يتقبل هذه الأدعية من الذين يقيمون الصلاة..أي الذين يواظبون على أدائها دون انقطاع، أما الذين يتخلفون عن أداء الصلاة بالجماعة دون أي عذر حقيقي شديد فلا يُستجاب دعاؤهم إلا قليلاً.كذلك لن يستجاب الدعاء لنشر الإسلام إلا من الذين يقومون بالتضحيات المالية أيضًا في سبيل نصرة الإسلام.لا شك أن جماعتنا تؤدي التضحيات المالية في إطار التبرعات العامة، ولكن يجب أن تعلموا أن هناك بونا شاسعا في هذا الشأن بيننا وبين صحابة الرسول.فإنهم كانوا يؤثرون الفقر لينفقوا من أجل الدين.وما لم ننفق بهذه الروح فإن رقينا مستحيل.لقد أمرنا الله تعالى بالإنفاق، وقدّم كلمة سرًّا على علانية ليبين لنا أن الإنفاق الحقيقي إنّما يتم بشكل طبيعي تلقائي لا تشوبه شائبة من الرياء والسمعة وغيرهما.والمعلوم أنه في حالة الإنفاق الطبيعي التلقائي لا يحتاج الإنسان لإرغام نفسه، بل يتم ذلك بطريق تلقائي، بل وقد يحاول الإنسان إخفاء ما ينفق.فالآية تدعونا إلى هذا الإنفاق الطوعي التلقائي، وليس إلى أن ننفق على أنفسنا ومن أجل راحتنا بكل شوق ورغبة، بينما تنقبض نفوسنا ونحتاج إلى حث الآخرين لكي ننفق في سبيل الله.وتذكروا أنه عندما سيجد أبناء الجماعة الإنفاق على أنفسهم صعبا، بينما يجدونه في سبيل الدين سهلاً وكأنه عاطفة طبيعية..أقول عندما يحدث هذا ستنفتح على جماعتنا أبواب الرُّقي والازدهار.وقوله تعالى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا لا يعني أنكم لا تستطيعون أن الظاهرة المتوفرة لديكم، لأن هذا المعنى بسيط يعرفه كل إنسان، حتى تحصوا نعم الله إن النّعَم المتمثلة في أجسامنا أيضًا تخرج عن حد الإحصاء.الحق أن الآية إشارة إلى النعم والأفضال التي سيمنحهم إياها الله في المستقبل، ويقول الله تعالى: سوف نمطر

Page 676

الجزء الثالث ٦٦٩ سورة إبراهيم عليكم نعما وبركات تفوق توقعاتكم وتصوراتكم.وأشار بقوله تعالى إنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ إلى أن من تهاون في خدمة الإسلام بعد التمتع بهذه النعم يكون ظلومًا وكفّارًا.سيكون ظلومًا لأنه يتسبب في خراب العالم الروحاني الطاهر الذي خلقناه عن طريق الإسلام، وسيُعتبر كفّارًا لأنه يتنكر لنا بعد أن آتيناه كل هذه النعم والأفضال والبركات.وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (2) شرح الكلمات: واجنبني جنبه جنبا : دَفَعه.وجَنَبَ زيدًا الشيء: نحاه عنه، ومنه في القرآن وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ أي نَحني وإياهم.(الأقرب) الأصنام: جمع الصنم وهو: الوَثَنُ، وهو صورة أو تمثال إنسان أو حيوان يتخذ للعبادة؛ أو كلُّ ما عُبد من دون الله.وهو مُعَرَّبٌ.(الأقرب).إنني لا أقبل هذا الرأي بل الكلمة عندي عربية من مادة (صنم) فيُقال: "صَنَمَت الرائحةُ: خَبُثَت.وصَنَمَ العبدُ : قوي.وصنَم الرجلُ : صوَّت.والصَّمةُ: قصبة الريش كلُّها؛ الداهية".(الأقرب) التفسير: لقد سبق أن بين الله تعالى قبل آيات أن أنبياءه الأولين لم يملكوا أية أسباب ووسائل ظاهرة للنجاح، ولكنهم نجحوا بأسباب غير مرئية، كذلك سيفوز محمد ﷺ بأسباب غير مرئية، قد ذُكرت بعضها في تمثيل الكلمة الطيبة.أما في هذه الآية فبين الله تعالى أن الأساس لنجاح محمد ﷺ قد وضع منذ آلاف السنين،

Page 677

الجزء الثالث ٦٧٠ سورة إبراهيم وبالأخص بيد إبراهيم ال وكان حقا علينا أن ننجي أهل مكة من ظلمات الشرك ونخصهم بكتاب من عندنا، لأننا سبق أن قطعنا وعدًا مع إبراهيم لصالحهم ونحن لا نخلف الميعاد.يبدو من دعاء إبراهيم الا هذا أنه كان يعلم بناء على الوح وحي أنه سيسود الشرك في مكة في يوم من الأيام، ولذلك دعا ربه قائلا: "وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ"، وذلك عندما لم يكن للشرك أي أثر في مكة.إذ لم يكن يسكن مكة عندئذ إلا إسماعيل أو بعض من المؤمنين به العليا.ونكتشف بهذا الدعاء أن التوحيد والشرك يتناوبان دائما.فتأتي على الدنيا أيام يزدهر فيها التوحيد ثم تليها أيام ينتشر فيها وباء الشرك ويسود، وتصبح الأمم الموحدة بعد فترة مشركة وتصير الطوائف المشركة موحدة أيضا.ولا يملك الإنسان أن يقول بأن الذين يصلون إلى الذروة في التوحيد قد أصبحوا في مأمن من الشرك إلى الأبد.وهذا يشكل دحضًا لما يزعمه علماء "مقارنة الأديان" من أن عقيدة التوحيد نشأت من عقيدة الشرك.إن القرآن يعلن أن التوحيد والشرك ظاهرتان متناوبتان، وأن التوحيد يسود أولاً على الدوام، ثم يأتي الشرك ليحل محله.وهذا يعني أن عقيدة التوحيد عقيدة سماوية إلهامية، وأن الشرك لا يعني إلا التردي والانحطاط من مقام التوحيد.ولكن علماء مقارنة الأديان يزعمون أنه في البداية تولدت فكرة وجود الآلهة في الإنسان نتيجة خوفه وحيرته من الظواهر الطبيعية، فتطورت هذه الفكرة لتسفر عن الاعتقاد بوجود إله واحد.هذا الاختلاف بين النظريتين يبدو عاديًا للوهلة الأولى، ولكنه بناء على الاختلاف نفسه يصرح أهل الدين بأن الله هو الذي خلق الإنسان، بينما يدعي هؤلاء العلمانيون بأن الإنسان نفسه هو الذي خلق إلهه.أي أن الاعتقاد بوجود الإله هو وليد أفكار الإنسان وتوهماته ليس إلا.وقد يتساءل الإنسان هنا قائلاً: هل كان بإمكان إبراهيم أن يقع في الشرك حتى

Page 678

الجزء الثالث ٦٧١ سورة إبراهيم ه اسیک يدعو ربه قائلا: واجنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن تَعْبُدَ الأَصْنَامَ ؟ والجواب: أن قوى الإنسان وقدراته نوعان؛ منها ما يتعلق بخلقه وبنيته مثل الرأس وغيره، فلا يمكن أن يدعو في شأنها ويقول مثلاً: يا رب لا تدع رأسي يتحول إلى رأسين، إذ لا تبديل لمثل هذا الخلق.ولكن هناك نوعًا آخر من قدرات الإنسان المكتسبة أو الموهوبة، بمعنى أن الإنسان يمكن أن يطور قواه هذه بالجهد والتمرين، أو يعطيه الله إياها فضلاً وهبةً، ليميزه عن غيره من البشر.وبما أن مثل هذه المواهب معرّضة للانحطاط والزوال لذلك كان على الإنسان أن يستمر في الابتهال إلى الله كي يساعده في الحفاظ عليها، رغم وعد الله له بذلك، فإن ابتهاله هذا يمثل اعترافًا منه بأن هذه النعم أو المواهب ليست ملكا له بل هي إنعام وهبة من الله الكريم.وبناءً على هذا المبدأ نفسه لا يبرح الأنبياء في الدعاء والابتهال لكي يمنّ الله عليهم بالنعم المنوطة بالنبوة، ومثاله هذا الدعاء من إبراهيم ال أو دعاء النبي ﷺ: قُل رَّبِّ زِدْنِي علمًا.وانطلاقا من المبدأ نفسه يقوم الأنبياء عليهم السلام بالاستغفار والتوبة، فينخدع الذين لا يعرفون هذا المبدأ ويظنون خطاً أن الأنبياء أيضًا يقعون في الفواحش أن والمعاصي فيقومون بالاستغفار والتوبة.والحق أن استغفارهم وابتهالهم إنما يعني يمكنهم الله تعالى من الحفاظ على مقام الطهارة والعصمة الذي يتبوءونه كهبة من الله تعالى، لأن الحفاظ على هذا المقام السامي أيضًا لا يتم إلا بفضل خاص من الله عل.ومن أجل ذلك ذكرنا القرآن مرة بعد أخرى بقوله (وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكَّلُونَ (إبراهيم: (۱۳.أي أنه يجب على الإنسان رغم رقيه وتفوقه على الآخرين، أن يستعين بالله تعالى دائما، إذ لم يحرز هذا الرقي إلا بفضل الله ورحمته.وإذا فعل ذلك ضمن هدايته وهداية الآخرين.

Page 679

الجزء الثالث ٦٧٢ سورة إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ۳۷ التفسير : ما أروعه من مشهد لحب الله تعالى.فإبراهيم اللي يقول عن أولاده: يا ربِّ سأعتبرهم أولادي ما داموا سيجتنبون الشرك وإلا فلا.ونستنبط من هذه الآية أن حب الأولاد بطريق خاطئ يوقع الإنسان في كثير من المعاصي والآثام.إذ يعلّمنا إبراهيم الهنا أنه يجب على المرء أن يحب أولاده حبا لا يكون سببًا لفساد سلوكهم، لأن الحب الذي يفسد الأولاد ليس حبا وإنما هو عداوة.فيجب أن يكون اهتمامنا بمصالحهم الأخلاقية والروحانية أكثر من اهتمامنا براحتهم الدنيوية.وإذا لم تصلح حالة الأولاد رغم تذكير الآباء ونصحهم لهم، يجب أن تأتي مرحلة يضطرون فيها لقطع الصلة عن الأولاد، لأنهم إذا شعروا بأن آباءهم يغضون الطرف عن تقصيراتهم انحرفوا بعيدا عن المنهج السليم ولكنهم إذا أدركوا أن آباءهم لن يدعوهم دون تأنيب على تقصيراتهم فلا بد من أن يصلحوا سيرتهم.فمن واجبنا أن نؤثر حبّ الله على حب الأولاد، فهذا لا يُكسبنا رضوان الله فحسب، بل أجيالنا من الهلاك أيضًا.ثم قال إبراهيم وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )..ذلك أنه أعلن من قبل: أن من يرتكب الشرك من أولادي فإنه ليس مني ولن أعتبره ولدي.ولكن أنبياء الله يكونون رحماء أيضًا.وأن يؤثر الإنسان حبَّ الله على حب الأولاد شيء، ولكن أن يتوسل إلى ربه طالبًا الرحمة لأولاده فهذا شيء آخر تماما.ولذلك يبتهل إبراهيم ال: يا رب، أرجوك أن تحمي ذريتي من الشرك دائما، أما إذا خالف أحد منهم أوامرك فإنني بريء منه ولا أعتبره أبدا، ورغم ذلك فإني أتضرع إليك يا أيها الغفور مني الرحيم أن تغفر لهم وتصلحهم وتحقق لهم الرقي والازدهار.

Page 680

الجزء الثالث ٦٧٣ سورة إبراهيم أن لقد وضح هنا إبراهيم أن سخط الآباء على الأولاد لا يعني العلمية يصبحوا قساة القلوب نحوهم، بل الطريق الأمثل هو أن يعاقبوا الأولاد في الظاهر بينما يجب أن يدعوا لهم من الصميم بالهداية ولا يبرحوا ساعين لإصلاحهم، لا أن يتمنوا هلاكهم.رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقُهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ شرح الكلمات: ۳۸ واد راجع) شرح الكلمات للآية رقم ١٨ من سورة الرعد) أفئدة: جمع فؤاد والفؤادُ: القلبُ لتوقده، وقيل لتحرُّكه.وقيل هو باطنُ القلب وقيل غشاؤه.وقال جماعةٌ من المفسرين: يُطلقُ الفؤاد على العقل.(الأقرب) تَهوي: هَوَت العُقابُ: انقضت على صيد أو غيره وهَوَتْ يدي له امتدت وارتفعت.وهوت الريحُ : هبَّت وهوت الناقةُ براكبها: أسرعت.وهوى الشيءُ هَوِيًّا وهويا: سقط من عُلُو إلى أسفل.(الأقرب) الثمرات: جمع الثمرة، وهي حِملُ الشجر ؛ النَّسلُ والولد.والثمرة من اللسان: طرفُهُ وعَذَبَتُه.وثمرة القلب : المودّةُ ؛ خلوص العهد (الأقرب).فالمراد من قوله تعالى وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَات ) أي أعطهم الرزق من الثمار أو : لا تدع أعمالهم التي قاموا بها بخلوص النيّة تضيع.التفسير: يؤكد هنا إبراهيم لله تعالى خلوص نيته في ترك ذريته في تلك البرية..لكي يستدرّ بهذا الطريق فضل الله ورحمته وذلك أن الله تعالى ينظر إلى النيات ولا

Page 681

الجزء الثالث ٦٧٤ سورة إبراهيم يضيع أي عمل قام به إنسان بخلوص النية.فيتضرع إبراهيم إلى الله بقوله: إلهي، لقد تركت أولادي هنا لخدمة بيتك ولعمرانه.لقد تركتهم عند بيتك المحرم ليعبدوك ويذكروك دائمًا.وقد تركتهم في هذه البرية رغم علمي بأنه لا يتيسر فيها أي شيء من المتع المادية.فيا ربِّ ارحم ضراعتي وتقبل ابتهالي، وحقق لي الهدف الذي أتركهم من أجله هنا.فاجعل قلوب الناس تميل إليهم شوقا ومحبة وتستمع لنصحهم وتنصاع وأن ينجح أولادي في إقامة عبادتك في هذه البرية.وأرجوك يا رب، أن تتولى رعايتهم من الناحية المادية أيضا، فإني أتركهم في برية أعرف أنه لا زرع فيها ولا خضرة، ومع ذلك أتوسل إليك أن تمدهم ليس بالرزق العادي فحسب، بل بأجود أنواع الثمار، كي يدركوا أن من يضحي في سبيلك فإنك لا تضيعه أبدا بل تكفل حاجاته المادية أيضًا.أنظروا إلى التأثير العميق الواسع لدعاء إبراهيم ال، كيف أن العالم الإسلامي اليوم كله يقف فداء لاسم مكة المكرمة، وكيف أن القلوب تهفو إلى الكتاب الذي نزل فيها بكل إجلال وإكرام.بل لقد أتاح الله ببعث الإمام المهدي والمسيح الموعود العلم الآن مزيدًا من الوسائل والفرص لنشر هذه التعاليم المباركة.هذا هو الجانب الروحي من تأثير هذا الدعاء.أما الجانب المادي منه فعجيب جدًا أيضًا.إذ تجد في هذه البرية التي كانت تفتقر إلى الماء والزرع أنواع الفاكهة والثمرات.لقد أكلتُ في مكة عنبًا ورمانًا لم أذق مثلهما لا في الهند ولا في الشام ولا في إيطاليا ولا في فرنسا.تصل إلى مكة الفواكه من كل أنحاء العالم، لتؤكد على استجابة دعاء إبراهيم العليا.(من) أما قوله تعالى فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ فقد قال بعض المفسرين بأن للتبعيض بمعنى اجعل بعضًا من قلوب الناس تهوي إليهم.ولكن هذا المعنى البطلان، لأن من يدعو ربه لا يطلب منه شيئًا قليلاً.فلا شك أن (من) هنا زائدة جاءت للتأكيد.واعلم أن كلمة (الناس) جاءت معرفة ب"ال" التي هي بديهي للكمال

Page 682

الجزء الثالث ٦٧٥ سورة إبراهيم والخصوصية، ولو قرأنا الجملة بدون "من" أي" أفئدة "الناس" فالمراد: قلوب خواص الناس وكامليهم، وإذا أُضيفت إليها (من) التأكيدية يكون المعنى: أن يا رب، اجعل هؤلاء الذين يتوقون إلى مكة من أكثر الناس إخلاصا وأطهرهم قلوبًا.وقد يكون لقوله تعالى: ﴿وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) معنى آخر – إلى جانب المعنى الذي سبق ذكره وهو أن لا تضيع عبادات أولادي ولا تضحياتهم لتقصير منهم، بل رتب عليها يا رب نتائج طيبة برحمتك وفضلك.أرى أن دعاء إبراهيم الي هذا يختص ببعثة النبي ﷺ وإلا فإن قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ لم يتحقق قبل بعثة الرسول.إذ كان العرب وحدهم الذين يحجون البيت الحرام في مكة قبل ذلك، ولكن بعد بعثته بدأ الناس يأتون ساعين إلى مكة من كل أنحاء الدنيا فلا شك أن إبراهيم ال قد دعا بذلك ربه أن يبعث في مكة رسولاً يحمل رسالة موجهة للعالم أجمع، حتى يجتمع الناس من كل أرجاء المعمورة للحج في مكة ملبين نداء هذا المبعوث، وتصبح مكة مركزا للتوحيد، ويتم تطهيرها من الشرك والمشركين.وأرى أن الرؤيا التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه إسماعيل، كان تأويلها أن يترك ابنه في واد غير ذي زرع، إذ إن تركه إياه في مثل هذا المكان كان بمثابة ذبح له ولا ريب.لم يستطع إبراهيم فهم الرؤيا بمفهومها الصحيح تأثراً بالتقليد الشائع في ذلك الزمن، إذ كان الناس يقدمون حينئذ قرابين إنسانية، فظنّ إبراهيم أن الله يريد منه ذبح ابنه ذبحا ماديًا.ولم يخبره الله تعالى بتأويل الرؤيا الصحيح لكي يلغي على يد إبراهيم تقليد الذبائح الإنسانية هذا.فلما استعد فعلاً لذبح ابنه كي يحقق الرؤيا تحقيقا حرفيًا، أوحى الله إليه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا وخرجت ناجحًا من الاختبار، فيجب الآن أن لا يُقتل أي إنسان قربانًا لله على هذا النحو، اللهم إلا الذي يُقتل في الحرب أو في القصاص.وأعلن أنه يجب أن يأخذ القربان الإنساني من الآن طابعًا من

Page 683

الجزء الثالث ٦٧٦ سورة إبراهيم معنويا.فلا تقدموا لله لحومكم ودماءكم، بل ضحوا في سبيله بوقتكم وعلمكم ومالكم لتنالوا به قربه سبحانه وتعالى.فاذبَحْ الآن يا إبراهيم كبشا من الكباش دفعًا للبلاء، وجهز نفسك لتضحية ابنك بطريق آخر وهو أشق وأشد من هذا الطريق.ر املاک ربَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُحْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ.صالحا التفسير: لقد بين الله تعالى هنا أن إبراهيم ترك ابنه في تلك البرية معتبرا إياه عملاً وبنية صالحة جدًا.وهكذا فإن هذه الآية تمثل ردًّا ضمينا على ما اتهمت به التوراة إبراهيم اللي فقد ورد فيها أن إبراهيم أخرج ابنه إسماعيل وزوجته هاجر من البيت وتركهما في تلك البرية النائية إرضاء لزوجته سارة التكوين ۳۱: ۸-۱۲).ومعنى ذلك أن هذا النبي العظيم ظَلَمَ بعض الأبرياء إرضاء لزوجته! ولكن القرآن يخطئ التوراة في ذلك مبرئًا ساحة إبراهيم من هذا الاتهام بلسانه ال، إذ يسجل دعاءه هذا الذي يقول فيه: يا ربِّ، إنك تعلم نيتي وأنا أترك زوجتي وابني في هذه البرية.إنني لا أتركهما هنا لغرض دنيوي، وإنما أريد به كسب رضوانك فقط.ثم قال الله تعالى (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِن شَيْءٍ ردًّا على قول إبراهيم: إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ، وكأن الله تعالى يقول: نعم يا إبراهيم، إننا على علم بنيتك الخالصة، ونعرف أنك لا تفعل ذلك إرضاءً لزوجتك، وإنما ابتغاء لمرضاتنا فقط.الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكَبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي

Page 684

الجزء الثالث لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ شرح الكلمات : ٦٧٧ وَهَبَ : وهب له مالاً : أعطاه إياه بلا عوض.(الأقرب).سورة إبراهيم التفسير: يتحدث القرآن في هذه الآيات عن أحداث الفترة التي كان إبراهيم يرفع فيها قواعد الكعبة المشرفة، لأن القرآن سجّل أدعية إبراهيم هذه عندما رفع القواعد (البقرة: ١٢٥ -١٣٠).وقد يسأل سائل هنا فيقول : إذن فما الداعي أن يشكر إبراهيم ربه بهذه المناسبة على أنه وهب له إسماعيل وإسحاق عليهم السلام.الواقع أن إبراهيم ال لا يشكر الله فرحًا على ولادة الابنين، وإنما يفرح ويشكر ربِّه على أنه مكنه في حياته من وضع الأساس لعبادة الله في العالم عن طريق هذين الابنين.وهذا يعني أن إبراهيم كان قد نذر إسحاق أيضًا لله تعالى، لأن شمله في دعائه.الله إبراهيم قد توضح لنا هذه الآية قوة إيمان إبراهيم ال.فإنه يترك ابنه البكر في البرية التي يصعب وصول الماء والطعام إليها، وهكذا يدمر مستقبل ابنه في نظر أهل الدنيا، ولكن يقينه بوعد قوي وراسخ لدرجة أنه يتجه إلى شكره تعالى إِذْ وَهَبَ له على الكبر إسماعيل وإسحاق استجابة لتضرعاته فيهما.وكأن إبراهيم ما كان يريد من الأولاد حتى في سن الشيخوخة إلا إذا كانوا سيضحون بأرواحهم في سبيل الله تعالى، وتوطيد دينه في العالم.والحق أنه لا يحظى بمثل هذا الإيمان والفداء والإخلاص إلا ذو حظ عظيم كإبراهيم وأمثاله.اللهم صل عليهم وارفع درجاتهم.الله

Page 685

الجزء الثالث ٦٧٨ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء شرح الكلمات سورة إبراهيم ٤١ مقيم الصلاة: قامَ الأمرُ : اعتدل قام على الأمر : دام وثبت وأقامت السوق: نفقت.وأقام الصلاة: أدام فعلها وأقام للصلاة نادى لها.وأقام الله السوق: جعلها نافعة (الأقرب).فقوله رَبِّ اجْعَلْني مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) يعني وفقنا لإقامة الصلاة واجعلنا الداعين إليها والمروجين لها.التفسير : هناك سؤال يطرح نفسه: لماذا يقول إبراهيم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي بعد أن تشرّف بالنبوة ورزق أولادًا شبّوا وكبروا ونذرهم الله تعالى؟ هل بعد كل هذا كان يشك في أنه ربما لن يستطيع إقامة الصلاة؟ والجواب: إنه لم يقصد هذا بالدعاء، وإنما كان يقصد أن يصبح هو وأولاده وسيلة لإقامة الصلاة وترويجها في العالم.ذلك أن إقامة الصلاة تكون فرديةً وقومية أيضًا.من وإبراهيم العلم يقصد هنا أن يبارك الله في جهوده بحيث لا تزال هناك معه جماعة مقيمي الصلاة خلال حياته، وكذلك مع أولاده في كل زمن، كي يساعده هؤلاء في إقامة الصلاة وترويجها على المستوى القومي في كل زمن، وذلك بحث الناس على الصلاة، وبهذا يصبح داعيًا ومروّحًا للصلاة إلى يوم القيامة.هذا المقام أرفع وأعلى بكثير من مقام الذين يقيمون الصلاة بشكل ذاتي، لأنهم يقيمون صلاتهم فقط، أما إبراهيم ال فيدعو ربه أن يوفقه ليكون وسيلة لإقامة صلوات الناس جميعا.الواقع أن قول إبراهيم وَمِن ذُرِّيَّتِي ) يمثل نبأ ودعاء لبعث الرسول ﷺ، إذ يقول: كما وفقتني يا رب أن أكون سببًا يساعد الناس على إقامة صلواتهم، كذلك أخرج من ذريتي شخصاً يجعل الناس مقيمي الصلاة.

Page 686

الجزء الثالث ٦٧٩ سورة إبراهيم و رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ شرح الكلمات ٤٢ غَفَرَ اغفر لي: غفَرَ الشيءَ غَفْرًا: ستَرَه غَفَرَ المتاع في الوعاء: أدخله وستره.الشيب بالخضاب: غطّاه.وغفر الله له ذنبه غَفْرًا ومغفرةً وغُفرانا: غطّى عليه.غَفَر الأمر بغُفْرته: أصلحه بما ينبغي أن يُصلح به (الأقرب).فالمراد من قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي: ۱ - يا ربّ، استرني أي امحُ وجودي لينكشف وجودك للناس، أي اجعلني تجليا من تجليات وجهك الكريم.۲- غط يا رب بَشَرِيَّتي برداء ألوهيتك..أي لتكن نتائج جهودي لائقةً بعظمتك وشأنك.- أصلح لي الأمور كلها واستر تقصيرات أولادي وحقق لهم الرقي كما وعدتني.التفسير : ثمة سؤال يجب الرد عليه وهو أن النبي يكون معصوما من المعاصي فلماذا يقول إبراهيم: رَبَّنَا اغْفِرْ الجواب: هذا كلام من فم العارف بالله تعالى ذلك أن الإنسان الذي لا يكون عارفا بالله يكون أضيق أفقًا ،ونظراً، فلا يرى ولا يفكر إلا في الناس حوله.ولكن العارف بالله تعالى يكون بعيد النظر واسع التفكير وينظر إلى الله دائما.إنه يدرك جيدًا أن الإنسان لا حقيقة له أمام الله رب العالمين، إذ شتّان ما بين الذرة والشمس.أليس هو مما خلقه الله بيده؟ أليست حياته هبة من الله؟ أليس الله هو الذي يمكنه الاهتداء.ولنعم ما قال الشاعر غالب بالأردية ومعناه : لقد قدّمتُ نفسي الله تعالى، ولكنها أيضًا كانت هبة منه.فالحق أنني لم أستطع أن أقدم إليه شيئا.وبما أن النبي يكون عارفًا بالله حق العرفان، لذلك يدرك كل الإدراك أنه ما من من

Page 687

٦٨٠ سورة إبراهيم الجزء الثالث عمل ولا إنجاز يحققه إلا ويحققه بتوفيق من الله وبحوله وقوته فقط.كذلك يبتهل إبراهيم ال إلى ربه قائلاً: يا ربّ، استر وجودي ولتتجل ذاتك أنت للعالم أكثر فأكثر.وكأن المراد من قول إبراهيم ال اغفر لي هو: إنني أتوسل إليك باسم حبك لي، أن استرني بردائك.أي..امحُ وجودي حتى تتجلى ذاتك عن طريقي.والبديهي أنه كلما تجلّت ذات البارئ تعالى عن طريق العبد كلما كان النجاح حليفه.أما إذا استُخدمت كلمة "الغفران" في حق أناس غير الأنبياء تغير معناها بحسب درجات صلاحهم.فإذا دعا أحد من المؤمنين الكُمّل قائلاً: رَبَّنَا اغْفِرْ لي فالمراد، يا رب ارحمني من التقصيرات التي تحول دون إحراز الكمال الروحاني.أما إذا دعا به مؤمن متوسط الدرجة، فالمراد: يا ربّ، استر أخطائي ووفقني للرقي العالي.وإذا دعا به مؤمن عادي فالمراد يا ربّ، ثبت قدمي على الإيمان، حتى لا تملكني ذنوبي.وإذا دعا به من يبحث عن الدين الحق فالمراد يا ربّ اغفر لي ذنوبي حتى لا تقف عقبة دون اهتدائي إلى صراطك الحق.فالحق أن معاني هذه الكلمة تختلف من شخص إلى آخر ككلمة الجبار، فإذا وصف بها الله فتعني: الذي يجبر القلوب ويصلحها، وإذا وُصف بها أحد من البشر فتعني: الطاغية المستبد المتجاوز للحدود.ثم اعلم أن الله تعالى يعلن عن أنبيائه اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ (آل عمران:۱۸۰)..وما دام الله يختارهم ويصطفيهم فكيف يمكن أن يقتربوا من المعاصي؟ وإذا كان الله يفصلهم عن أهل الدنيا ويقربهم إليه فكيف يمكن أن يقترب منهم الشيطان الذي يتهرب من قرب الله تعالى كما صرّح الله بذلك في موضع آخر إذ قال للشيطان: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان (الحجر: ٤٣).فما دام الله يحمي حتى الإنسان الذي يحظى بأدنى درجة في العبودية والروحانية من هجمات الشيطان، فما بالك بالأنبياء الذين يحظون بحماية خاصة من الله تعالى.كلا، لا يستطيع الشيطان الاقتراب منهم.6

Page 688

الجزء الثالث ٦٨١ سورة إبراهيم وقال إبراهيم ال يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ، لأن هذا الحساب يتم في الدنيا وأيضا : في الآخرة! فالمراد من دعائه نظرا إلى الحساب الدنيوي- عندما تظهر نتائج الأعمال، فاستر يا ربِّ، بَشَريتي برداء ألوهيتك، وغط على تقصيراتي، فلا تكون الثمار بحسب الجهود بل تكون عظيمة بحسب شأنك العظيم.وإذا أريد به الحساب الذي يتم في الآخرة فالمعنى: يا رب عاملني عندئذ بما يليق بشأنك لا بما يكون بحسب جهودي ،البشرية، كما أرجوك أن تعامل والدي وأولادي بالمغفرة بحسب درجاتهم الروحانية.وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ( مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ ٤٣ هو ٤٤ شرح الكلمات تشخص: شخص الشيء شخوصاً : ارتفع.وشَخَصَ بصرُه: فتح عينيه وجعل لا يطرف مع دوران في الشحمة.وشخص الميت بصرَه وببصره: رفعه.وشخص من بلد إلى بلد ذهب.وشخص الرجلُ : سار في ارتفاع وشخص السهم: ارتفع عن الهدف (الأقرب).مُهطعين: هطَعَ الرجلُ : أسرع مُقبلاً خائفًا؛ أقبل ببصره على الشيء فلم يرفعه وأهطَعَ البعيرُ : مدَّ عنقه وصوَّب رأسه وأهطع في السير: أسرع وأقبل مسرعًا خائفا، لا يكون إلا مع خوف؛ وقيل: نَظَر بخضوع.(الأقرب) مُقنعي رءوسهم: أقنَعَ رأسه : نَصَبَه ، وقيل : لا يلتفت يمينًا ولا شمالاً، وجعل طرفه عنه.

Page 689

الجزء الثالث ٦٨٢ سورة إبراهيم موازيًا لما بين يديه.أقنع الصبي: وضع إحدى يديه على فأس قفاه وجعل الأخرى تحت ذقنه وأماله إليه فقبله.وأقنع حلقه وفمه : رَفَعَه لاستفاء ما يشربه من ماء أو لبن أو غيرهما.وأقنع بيديه في الصلاة: رفَعَهما في القنوت.وأقنع رأسه وعنقه: رفعه و شخص ببصره نحو الشيء لا يصرفه عنه.(الأقرب) هواء: الهواء: الشيء الخالي؛ الجبانُ خُلُو قلبه عن الجرأة.(الأقرب) منه التفسير : يخاطب الله هنا رسول الله قائلا : إن تأخر العذاب عن المكيين لا يعني أننا غافلون عن أعمالهم، بل إننا نمهلهم لأسباب أخرى ولم يصرح بهذه الأسباب لفظًا لأنه قد ذكرها في الآيات السابقة قبل قليل عند الحديث عن دعاء إبراهيم العل، إذ تضرع إلى ربه قائلاً: لو خرج من أولادي من يرتكب الشرك فإنني أتبرأ كلية، ولكنك يا رب غفور رحيم، فإذا عاملتهم برفق مما يحقق لهم الرقي الروحاني فأنت أحق به.ودعاؤه هذا يعني أنه كان يتمنى لهم الهداية، ولذلك أعطى الله سبحانه وتعالى المهلة لأهل مكة الذين كانوا من ذريته لكى يهتدي منهم من يشاء.ولكن الأشقياء منهم كانوا يتمردون نتيجة هذه المهلة بدلاً من أن يهتدوا لذلك كان لا بد أن تنقلب هذه المهلة إلى العقاب.لقد قال تعالى: عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) و لم يقل "عما يعمل أعداؤك من مكة"، وذلك لبيان أمرين؛ الأول : أن يؤكد على أن الظالم مهما أُعطي من مهلة فإنه يلقى المحتوم في آخر المطاف.والثاني: أن يُطَمئن رسوله وأصحابه إذ يقول: نحن نعلم أن هؤلاء ظالمون، ولسنا بغافلين عمّا يصبون عليكم من ظلم وعذاب، ولكننا نمهلهم لأن إبراهيم تضرّع إلينا بأن نعامل أولاده برفق وغفران إذا ما صاروا ظالمين.وكنا مصيره قبلنا دعاءه ذلك امتنعنا وبسبب عن إنزال العذاب عليهم إلى الآن.وبعد توضيح سبب تأخير العذاب أخبر الله رسوله بقدوم العذاب.فأشار إلى علامات هذا العذاب قائلاً: إنه سيكون عذابًا مفاجئًا.يصيب الكفار بالدهشة والذهول، فيرفعون رءوسهم لرؤية ما حل بهم، وسوف تنبهر عيونهم وستطير قلوبهم

Page 690

الجزء الثالث شَعاعًا.٦٨٣ سورة إبراهيم هذا ما حَدَثَ بالضبط يوم فتح مكة.فعندما نقض المكيون صلح الحديبية، زَحَفَ النبي بالجيش الإسلامي على مكة دون أن يشعر أهلها بقدومه.وكان أبو سفيان حينذاك قد رجع من المدينة قبل يومين بعد مفاوضات فاشلة مع المسلمين.ففاجأه جيش المسلمين، قبل أن يصل إلى مكة.وعندما رأى أبو سفيان وأصحابه نيران المسلمين المعسكرين حول مكة بالليل أخذوا بالدهشة وقالوا: ما رأينا كالليلة نيرانا قط ولا عسكرًا.وبدءوا يخمّنون قائلين: هذه نيران قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ولم يخطر بخلدهم أنها نيران جنود المسلمين.وعندما مرت بهم طلائع الجيش الإسلامي عرفوا الحقيقة.وبينما أبو سفيان في حيرته إذ جاءه العباس له على بغلة وكان صديقا لأبي سفيان في الصغر، وقال له: اركب ورائي وإلا ستقتل فتردّد في الركوب، فأركبه العباس وراءه على البغلة عُنوةً، وأخذه إلى خيمة النبي ، وقال له: يا رسول الله، هذا أبو سفيان يريد أن يُسلم فذعر أبو سفيان وتردّد.فقال له العباس: ألم ينكشف عليك زيف دينك؟ لا تملك نفسك وأسلم.وأخذ يد أبي سفيان ومَدَّها إلى رسول الله ليأخذ منه البيعة.لكن الرسول ﷺ تردّد لحظات خوفا من أن يكون العباس يُكرهه على الإسلام، ولكنه عندما وجد أبا سفيان مصرًا على البيعة أخذها منه.فقال أبو سفيان: يا رسول الله، إني رئيس مكة وحديث الإسلام، أرجو أن تشرفني شرفًا خاصا.فقال النبي : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.فقال أبو سفيان: داري ليست بكبيرة! فقال : من دخل الكعبة فهو آمن.فقال: إنها أيضًا لا تسعهم! فقال : من أغلق عليه باب داره فهو آمن.فقال أبو سفيان: يكفي هذا.ثم أسرع إلى أهل مكة وأخبرهم بزحف النبي ، وأعلن للقوم عن الأمان الذي منحه النبي إياهم.(السيرة الحلبية).ليس من الصعب على المرء أن يقدر معاناة قلوب أهل مكة..الذين كانوا مغرورين بقوتهم ومنعتهم بحيث لم يتصوروا زوال حكمهم وعلى هذا النحو.فكم

Page 691

الجزء الثالث ٦٨٤ سورة إبراهيم - كانت معاناتهم لما سمعوا زعيمهم – الذي ذهب إلى المدينة قبل أيام لعقد اتفاقية مع المسلمين - :يعلن يا أهل مكة! ادخلوا مساكنكم وأغلقوا عليكم الأبواب إن كنتم تريدون الأمان والحياة فإن محمدًا الذي أخرجتموه قبل عشر سنوات وحيدا طريدًا..قد جاء يقرع أبواب مكة بجيش جرّار عرمرم لا شك أنهم عندما سمعوا الخبر شخصت عيونهم ومدّوا أعناقهم وهم ينظرون إلى الجيش المسلم القادم إليهم.لم يكن أي شيء آخر يشغل بالهم عندئذ لا جَرمَ أن قلوبهم صارت هواء وطارت شعاعًا..عندما أغلقوا عليهم الأبواب وقبعوا في البيوت، وصاروا يطلون من الشبابيك على الجيش الإسلامي وهو يمر بأزقة مكة.ألم يقدّم القرآن هنا أصدق تصوير لحالتهم هذه يا ترى؟ كم تجرّع المكيون الغصص عندئذ.لا شك أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: كنا أجبرنا محمدا لله أن يترك مكة تحت ستار الليل حينما كانت أبوابها مغلقة، وها قد فاجأنا الآن في وضح النهار فاتحا منتصراً وأبوابها مغلقة أيضا.لقد كانت الأبواب مغلقة في ليلة هجرته لأننا لم نرد أن نعطيه الأمان وأما اليوم فالأبواب مغلقة مرة أخرى، لأن محمدا أعطانا الأمان.اللهم صل على محمد وبارك وسلم.الواقع أن التدبير الإلهي الخفي هو الذي جعل المكيين لم يشعروا بزحف جاءهم بالطريق العادي الذي يمر به الناس ذهابًا وإيابًا، و لم يكن خبر مسيرة النبي ﷺ إلى المكيين أمرًا صعبًا، ولكن الله تعالى أعماهم عن أخبار النبي وصول مع أنه المسلمين.وهكذا تحقق النبأ العظيم عن فتح مكة.وأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخَّرْنَا إِلَى أحَلٍ قَرِيبٍ تُحِبْ دَعْوَلَكَ وَالتَّبع الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ

Page 692

الجزء الثالث مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ٤٥ ٦٨٥ سورة إبراهيم التفسير: اعلم أن الحديث هنا عن عذاب الآخرة مع العلم أن القرآن الكريم كلما ذكر عن عذاب الدنيا أردَفَه بذكر عذاب الآخرة دائما، لأن عذاب الدنيا يشكل دليلاً على عذاب الآخرة.وَسَكَنَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ شرح الكلمات: ٤٦ ضربنا لكم الأمثال: راجع شرح الكلمات للآية ٢٥ من هذه السورة) التفسير : أي أن معظم الناس يسكنون في نفس المناطق والقرى التي أقام فيها قبلهم قوم آخرون ذوو منعة ونفوذ، ولكنهم رفضوا رسالة السماء فأهلكوا بالعذاب.ومع ذلك فإن هؤلاء الساكنين الجدد لا يتعظون بمصير الذاهبين، وإنما يصرون على أن يختبروا عذاب الله بأنفسهم.وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ منه الحبال الْجِبَالُ εν شرح الكلمات

Page 693

الجزء الثالث ٦٨٦ سورة إبراهيم الجبال: راجع) شرح الكلمات للآية ٣٢ من سورة الرعد) التفسير : لقوله تعالى وعندَ الله مَكْرُهُمْ مفهومان: الأول: أنه تعالى هو الذي يحدد النتائج على كل عمل، لذا فإنه لا بد أن تبوء مكائدهم ضد رسول الله ﷺ بالفشل، لأن الله تعالى سوف يحبطها.والثاني: أن مكرهم مسجل ومحفوظ عند الله تعالى، بمعنى أنه و قد أحبط مكائدهم في الدنيا فلن يستطيعوا أن يلحقوا بها الضرر بمحمد ، ولكنها محفوظة باقية عنده سبحانه وتعالى ليعاقبهم عليها.وقوله تعالى ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ..اعلم أن كلمة الجبل تعني مجازا رئيس القوم ومليكهم كذلك المصاعب والعقبات.ونظرا للمعنى الأول تعني الآية أن تدابيرهم لم تكن قوية بحيث تنسف الجبال أي تقلب الحكومات وتخلع الملوك كما يستطيع القرآن الكريم ذلك، فما دام ضعفها أمرًا ثابتًا فكيف يمكن أن يحاربوا هذه الحكومة السماوية ويضروا بها محمدا.ذلك إذا اعتبرنا كلمة (إن) نافية.والمعنى الثاني هو أنه بالرغم من أن مكائدهم كانت قوية محكمة بحيث تزيل جميع العقبات من طريقهم، ولكنهم كانوا يبارزون الله الذي يفوق كل كائن قوةً وقدرةً، لذلك لم تنفعهم مكائدهم إزاءه شيئًا.وذلك إذا اعتبرنا كلمة (إن) شرطية.فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) ٤٨ مَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ شرح الكلمات:

Page 694

الجزء الثالث ٦٨٧ سورة إبراهيم ذو انتقام: نَقَمَ منه يَنقَم ونقم ينقَم نقما: عاقبه.ونَقَمَ عليه أمره ونقَمَ منه: أنكره عليه وعَابَه وكرهه أشدَّ الكراهة لسوء فعله.وانتقم منه : عاقبه.(الأقرب) التفسير : تبين لنا هذه الآية أن نعم الآخرة تختلف عن نعم هذه الدنيا تماما، لأنه تعالى يصرح هنا بأنه سيبدل هذه الأرض والسماوات ويأتي مكانها بغيرها.فلو كانت نعم الآخرة هي نفس نعم الدنيا فما الداعي لأن يبدل الله هذه السماوات والأرض.فلا جرم أن قياس نعم الآخرة على نعم الدنيا أمر يخالف العقل والمنطق.وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ شرح الكلمات: 0.مُقرَّنين: قُرِّنت الأسارى في الحبال أي جُمعت، وشدّد للكثرة، ومنه: (مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد ).(الأقرب) الأصفاد: جمع الصفد: وهو العطاء؛ والوثاق.(الأقرب) التفسير: قد يتساءل هنا أحد فيقول: ما الحاجة أن يتم تقييد المجرمين بالحبال يوم القيامة؟ والجواب: إن حياة الإنسان في العالم الآخر ستكون ظلاً لحياته في الدنيا.وبما أن هؤلاء المجرمين يتعاونون على ارتكاب الجرائم ويحث بعضهم بعضًا عليها، لذلك سوف يتمثل لهم هذا التعاون الشرير على شكل سلاسل يُصفدون فيها معا.والمعنى أن الاتحاد على السوء والتعاون على الإثم لا يزيد صاحبه شرفا وقوة، وإنما يؤدي به إلى الخزي والضعف ولكن معارضي الأنبياء لا يستوعبون هذه الحقيقة، فيتحدون على الإثم والعدوان، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا ويزدادون قوة وعزة.مع أن الاتحاد على الخطة الشريرة مثله كأن يقيّد أحد نفسه بسلسلة صفد بها محرم آخر.لا

Page 695

الجزء الثالث ٦٨٨ سورة إبراهيم شك أنه كان في السلسلة شخص واحد والآن صار فيها اثنان، وازداد العدد، ولكن هذا لن يزيدهما قوة، بل سوف يزيدهما ضعفًا وعذابًا لأنهما مقيدان في سلسلة واحدة، وتقييد الاثنين في سلسلة واحدة أشد إيلاماً.هذه الحقيقة سوف يكشفها الله يوم القيامة حيث يجمع معارضي الأنبياء في سلسلة واحدة؛ ليخبرهم أن عصاباتكم واتحاداتكم كانت بمثابة تصفيد المجرمين في سلسلة واحدة.سَرَابِيلُهُم مِّن قَطرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ! شرح الكلمات: ۵۱ سرابيلهم: السربالُ: القميص الدّرعُ؛ وقيل : كلُّ ما لبس، والجمع السرابيل.(الأقرب) قطران: سيّالٌ دُهي يؤخذ من شجر الأبهل والأَرز.(الأقرب) : التفسير هذه الجملة تعني أن لباسهم هو النار نفسها لا غير، لأن القطران يحترق في النار فكأنه النار نفسها.وبما أن اللباس يحمي الإنسان من الأضرار فتعني الآية أيضًا أنهم لن يجدوا هناك معينًا ولا نصيرا، لأن أصدقاءهم وأولياءهم سوف ينقلبون أعداء لهم.وهذا المعنى يتأكد من آيات أخرى في القرآن حيث ورد فيها أن شركاءهم الذين يتخذونهم آلهةً من دون الله تعالى سوف يتبرأون منهم يوم القيامة ويتخلون عنهم.

Page 696

الجزء الثالث ٦٨٩ سورة إبراهيم لِيَجْزِي اللهُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ٥٢ التفسير: أي سوف يجزي الله الناس جميعًا بحسب أعمالهم.وقوله تعالى ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ لا يعني أنه تعالى يتعجل في الحساب، لأنه نفسه يصرح في القرآن أنه يُمهل المجرمين ولا يعاقبهم في عجلة، وإنما المراد من الجملة أنه تعالى عندما يقرر محاسبة أحد يسوي حسابه بسرعة دونما تأخير.هَذَا بَلاغُ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أولوا الألباب ) شرح الكلمات بلاغ: البلاغ: الكفاية.(الأقرب) التفسير: قوله تعالى (هَذَا بَلاغُ لِّلنَّاسِ) يعني أننا قد أقمنا بذلك الحجة على الناس.أما قوله تعالى وَليُنذَرُوا به فاعلم أن القرآن الكريم كسيف ذي حدين، فإن آياته إذ تحذر أهل الضلال بأن لا يعبدوا إلا الله، فإنها من ناحية أخرى تزيد أهل الإيمان سدادًا وثباتًا على الحق والصدق.وقد أشار الله بقوله هذا إلى أن تعاليم القرآن وليست هدّامة، فإنه لا يركز على نقد الديانات السابقة وأتباعها الكريم بناءة فحسب، بل يقدم أيضًا تعاليم هي أفضل مما في الأسفار السابقة، كما أنها مقبولة لدى العقل السليم.وإذا كان القرآن يقضي على النظام السائد فإنه يقدم عوضا عنه نظاما جديدا هو أفضل وأبقى من أي نظام قديم كان.

Page 696

← Previous BookNext Book →