Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 2)

Arabic Tafseer-e-Kabeer (Vol 2)

جلد ۲

Author: Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad

Language: ARABIC

ARABIC
Holy Quran

Arabic translation of Tafseer-e-Kabeer by Hazrat Mirza Bashir-ud-Din Mahmud Ahmad (ra)


Book Content

Page 1

بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم مقدمة الناشر (للطبعة الأولى باللغة الأردية) نقدم المجلد الثاني من التفسير الكبير، وهو يشتمل على تفسير الآيات من ٨٤ من سورة البقرة حتى آخرها.وقد نشر قبله المجلد الأول مشتملا على سورة الفاتحة وسورة البقرة حتى الآية ،۸۳ ، الذي كتبه أمير المؤمنين – أيده الله تعالى بنصره العزيز، وهكذا يكون تفسير سورة البقرة بكامله بين يدي القراء الأعزاء.ويحتوي هذا المجلد على دروس قرآنية مليئة بالمعارف ألقاها حضرته في قاديان - الهند..خلال الفترة الأولى من خلافته.وكان حضرته قد تناول تفسير الأجزاء العشرة الأولى من القرآن الكريم مرتين في سنوات خلافته: المرة الأولى في يونيو عام ۱۹۱۷م، والمرة الثانية في أغسطس عام ۱۹۲۲م.وقد تم تحرير هذه الدروس القرآنية عندئذ في حينها.ثم جُمعت كلها بأمر من أمير المؤمنين في نسخة واحدة، استفاد منها الذين قاموا - من جماعتنا - بالترجمة الإنجليزية للقرآن المجيد ،وتفسيره ونقدمها للقراء في هذا المجلد.ونرى من الضروري أن نذكر هنا أن حضرته لا يستطيع بسبب مرضه مراجعة المسودات، كما لا يمكن أن تُقرأ على مسامعه الموضوعات الطويلة كهذا التفسير.وقد أذن حضرته بنشر خطبه وخطاباته وملفوظاتـــــه وغيرها دون أن تُعرض عليه أو يراجعها.وتنشر الشركة الإسلامية هذا المجلد على مسئوليتها بـإذن مـــن حضرته.هي وما دام أمير المؤمنين لم يراجع هذا التفسير قبل نشره..لذلك نرجو من القراء الكرام أنه إذا وجد أحــــدهـم شيئا يخالف ما كتبه أمير المؤمنين في أحد تصانيفه فليتفضل مشكورا بإخطار الشركة الإسلامية بما وجده.ولا يغيبن عن البال أن القاعدة وفي الختام تشكر الشركة الإسلامية المولوي الفاضل محمد يعقوب - المسئول عن مكتب التحرير السريع (الاختزال بالجماعة، الذي جمع – علاوة على هذه الدروس – المعارف المتفرقة في كتــب وخطـــب وملفوظات أمير المؤمنين، وأضافها بإذن من حضرته إلى هذه الدروس.وهكذا جعل من هذا الكتاب مرآة صادقة لحقائق التفسير التي ذكرها أمير المؤمنين.أن ما كتبه حضرته بيده هو الأصل المقدم والمعتبر والأصح سندا.-

Page 2

كما نشكر المولوي الفاضل أبا المنير نور الحق، الذي راجع المسودات قبل الطباعة، وراجع تجارب الطباعة (البروفات).فجزى الله كلا منهما خير الجزاء، ووفقهما دائما لإنجاز المزيد من الخدمات الدينية أكثر وأكثر.وإذ تُهدي الشركة الإسلامية هذا الكتر النادر لقرائها الأعزاء..تبتهل إلى الله – جل شأنه – أن يجعل هذا التفسير سببا لانتشار البركات والأنوار القرآنية انتشارًا متزايدًا، وأن يمتع بمعارفه العالم أجمع.آمين.ربوة (باكستان) ديسمبر ١٩٦٢ الخادم المتواضع جلال الدين شمس

Page 3

بسم الله الرحمن الرحيم كلمة الناشر الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات.نحمده حمدًا كثيرًا طيبًا إذ وفقنا بعونه تعالى لإخراج المجلد الثاني من هذا التفسير القيم بلغة حبيبه محمد المصطفى.ولقد كان شرف نقله إلى العربية من نصيب الداعي إلى الله الأستاذ عبد المؤمن طاهر، وراجعه معه الأستاذ محمد حلمي محمد الشافعي، تقبل الله سعيهما، وجعله خالصا لوجهه الكريم، وأعانهما على إخراج الأجـزاء المتبقية من هذا التفسير.ثمة أمور ينبغي توضيحها عن هذه الترجمة: أولا - هذا المجلد من التفسير لم يكتبه سيدنا المفسر بيده لمرضه الشديد ،وقتئذ، وإنما هو تأليف المعارف قرآنية مقتبسة من خطب ومحاضرات ودروس قرآنية ألقاها حضرته في مناسبات شتى باللغة الأردية.وعند جمعها في كتاب حدث تكرار في بعض الأماكن، وحاولنا تحاشيه في هذه الترجمة قدر الإمكان.ثانيا – في الأصل الأردو لم تذكر معظم الإقتباسات من الحديث النبوي والسيرة وغيرهمــا مــــن المراجــع بنصوصها، وإنما ذكرها المفسر بألفاظه وأسلوبه..ولكن في الترجمة رأينا من المناسب نقلها بنصها.وهـذا مــا فعلناه قدر المستطاع.بيد أن هناك أماكن لم نستطع ذلك فيها، لأن مضمونها مقتبس من أكثر من مصدر، فترجمنا المضمون مع الإشارة إلى مراجعه ومصادره.ثالثا هناك مواضع في الأصل أشير فيها إلى أحداث إشارةً لا تعتبر كافية لبعض القراء، فقام المترجم بتوضيحها في الهامش.رابعا - ذكرنا أرقام الآيات باعتبار البسملة أول آية من كل سورة، وهذا بخلاف ما يوجد عند غيرنا.وأخيرا، نقدم خالص الشكر لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب، وخصوصا الأستاذ سيد مير محمود أحمد ناصر، عميد الجامعة الإسلامية الأحمدية معهد تأهيل الدعاة بربوة باكستان لتفضله بالإشراف على مجموعات الطلاب الذين قاموا بتخريج أو توثيق معظم المراجع لهذا التفسير.وكذلك للسيد عبادة بربوش الذي كتبه علــــى الحاسب الآلي، والآنسة تحية الشافعي التي قامت بالتصحيح الإلكتروني.فجزاهم الله جميعا خيرًا في الدارين.كما ندعو الله العلي القدير أن يجعل هذا التفسير سببا لشفاء غليل كثير من عباده علميًّا وعمليا وروحيا، وذريعة لفهم كلامه سبحانه وتعالى.آمين! المحرم ١٤١٦ ، يوليو ١٩٩٥ الناشر

Page 4

الجزء الثاني سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصلاة وَأَتَوا الزكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٤) شرح الكلمات: ميثاق-الميثاق عقد مؤكد بيمين وعهد (المفردات).التفسير: ذكر الله تعالى في آيات عديدة سابقة ما ارتكبه اليهود من أفعال شنيعة ضد أنبيائهم، وبين أنه بسبب معاصيهم المتواترة نقل وعد النبوة في ذرية إبراهيم من بني إسحاق إلى بني إسماعيل.النبي وس والواقع أن إجرام اليهود ما كان قاصرًا على موقفهم المعاند من الدؤوب للقضاء على الإسلام والمسلمين.وإنما كانت هنالك سلسلة طويلة لجرائمهم أدت في آخر المطاف إلى انتقال نعمة النبوة من بني إسحاق إلى بني إسماعيل.ولقد عدّد الله جرائمهم المتكررة حتى لا يقال إن النبوة انتزعت منهم لجريمة واحدة فقط، وقال إن معاصيكم المتوالية هي التي جلبت عليكم هذه العقوبة.بين الله أن حظ بني إسرائيل من النبوة لم يكن لفضيلة ذاتية فيهم، وإنما تشرفوا بها لوفائهم بالوعود الإبراهيمية، ولكنهم بعد ما ألقوها وراء ظهورهم وتنكروا لهـا لم يعودوا مستحقين لنعمة النبوة لمجرد كونهم من بني إسحاق.ثم ثم نبههم القرآن الكريم : إن جرائمكم اليوم ليست بأقل من الأمس، فها أنتم أولاء لا تنفكون تقترفون ضد هذا الرسول ما كان شعبكم يقترفه في الماضى.ولو أن الله تعالى بعث فيكم اليوم نبيا من شعبكم لفعلتم به الشيء ذاته.فقولكم أن تعاليم هذا الرسول ليست حجة علينا لأنه من بني إسماعيل قول باطل، ذلك لأن دأبكم في

Page 5

الجزء الثاني سورة البقرة الماضي مع أنبيائكم السابقين شاهد على أنه لو بعث أحدهم اليــــوم فـــيكم نبيـــا العاملتموه بمثل ما عاملتم به هؤلاء.وفي هذه الآيات ينبههم الله تعالى قائلا: دعوكم من هذا التعليم السامي الذي تختلفون فيه مع هذا الرسول، وتعالوا تحققوا معنا فقط في الأعمال التي ترونها أنتم أيضًا ضرورية للرقي القومي والأخلاقي، وأخبرونا أتقومون بها أنتم؟ لقد سبق أن أخذنا عليكم عهدا مؤكدا يترتب على الوفاء به ثواب وعلى نقضه عقاب، فهل وفيتم به؟ وإذا لم تعودوا عاملين بدينكم، ومع ذلك تكفرون برسولنا هذا، فبوسعكم أن تقدروا مدى خطورة جريمتكم هذه عندنا.أخذها والميثاق المشار إليه في هذه الآية ليس عهدًا معينًا ، وإنما المراد به عدة عهود الله تعالى من بني إسرائيل في مناسبات مختلفة ، وأوصاهم بالعمل بها؛ ولذلك لم تذكر هذه الوصايا في موضع واحد من التوراة وإنما توجد في مواضع متفرقة منها، وها هو القرآن الكريم قد جمعها في مكان واحد، تنبيها لهم بأنهم قد ابتعدوا عـــــن دينهم بعدا شاسعا، فضلا عن أنه عرضها بأروع ترتيب مما يبرز حسنه وجماله.أولا - ورد النهي عن عبادة ما سوى الله في أماكن عديدة من التوراة، بل جــــاء في الوصايا العشر لموسى عليه السلام: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي.لا تصنع لـك تمثالا منحوتا ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض.لا تسجد لهن، ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور.أفتقد ذنوب الأباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، واصنع إحسانا إلى الألوف من محبي وحافظي وصاياي " (خروج ٣:٢٠-٦).ثانيا- وجاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين أيضًا في هذه الوصايا العشر حيث قيل: "أكرم أباك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهـــك"(خـــــروج ٢.(۱۲: كذلك جاء: "إذا كان لرجل ابن معاند ومارد لا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمــــه، ويؤدبانه فلا يسمع لهما، يمسكه أبوه وأمه ويأتيان به إلى شيوخ مدينته وإلى بـاب مكانه، ويقولان لشيوخ مدينته ابننا هذا معاند ،ومارد لا يسمع لقولنا وهو

Page 6

الجزء الثاني سورة البقرة مسرف وسكير، فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت.فتنزع الشر من بينكم، ويسمع كل إسرائيل ويخافون"(تثنية ٢١ :١٨-٢١) ثالثا- جاء الأمر بحسن معاملة ذوي القربى فقيل "لا تسع في الوشاية بين شعبك.لا تقف على دم قريبك أنا الرب لا تبغض أخاك في قلبك.إنذارا تنذر صاحبك ولا تحمل لأجله خطية.لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك، أنا الرب" (لاويين ۱۹ : ١٦-١٨).علما بان كلمة أخ وردت في التوراة عموما بمعنى الأقارب جميعا.رابعا أمروا بحسن معاشرة زوجة الابن فقيل وان خطبها لابنه فبحسب حـــق البنات يفعل بها (خروج ۲۱: ۹) خامسا-أمروا بحسن معاملة الجيران فقيل: "لا تغصب قريبك ولا تسلب " (لاويين ۱۹ : (۱۳) ورد في الطبعة الأردية: لا تغش جارك ولا تسلب منه سادسا - قد أمروا بحسن معاملة اليتامى فقيل"...والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك، ويأكلون ويشبعون لكي يبارك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل" (تثنية ٢٩:١٤).يدك شيئا.سابعا أمروا بشأن المساكين فقيل " لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض لذلك أنا أوصيك قائلا افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك"(تثنية ١١:١٥).ثامنا - كما أمروا بحسن معاملة الناس جميعا فقيل: "ولا تقبل خبرا كاذبا ولا تضع مع المنافق لتكون شاهد ظلم.لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر.ولا تُجب في دعوى مائلا وراء الكثيرين للتحريف.ولا تُحاب مع المسكين في دعـوى.إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردا ترده إليه.إذا رأيت حمار مبغضك واقعا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد وان تحل معه.لا تحرف حق فقيرك في دعواه.ابتعد عن الكلام الكذب.لا تقتل البريء والبار لأني لا أبرر المذنب"(خروج ٢٣: ١- ۷).وقيل أيضًا "لا تخاصم إنسانا بدون سبب إن لم يكن قد صنع معك شرا" (أمثال٣٠:٣).

Page 7

الجزء الثاني ٤ سورة البقرة تاسعا جاء الأمر بإقامة الصلاة فقيل: "وراء الرب إلهكم تسيرون، وإياه تتقون ووصاياه تحفظون وصوته تسمعون وإياه تعبدون وبه تلتصقون"(تثنية ٤:١٣).وكذلك جاء: "الرب إلهك تتقى وإياه ،تعبد وباسمه تحلف" (تثنية ٦: ١٣).6 عاشرا- أمروا بأداء الزكاة فقيل: "وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها، وأما في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك، وفضلتهم تأكلها وحــوش البريــة.كذلك تفعل بكرمك وزيتونك"(خروج ۲۳: ۱۰-۱۱) ورغم هذه الوصايا الواضحة فان اليهود لم يعملوا بها بل، ساءت معاملاتهم يومــا فيوما مع الأقارب والأباعد على السواء.وحي من الله، وقد قال بعضهم عن سيدنا عزير إنه ابن الله، ومن هؤلاء الذين اقترفوا هذا الشرك الفرقة الصدوقية التي كانت تقطن اليمن الملل والنحل وقد كان بعضهم يعتبر كل ما يأمر به علماؤهم.كأنه أنهم في نفس الوقت قد ألقوا مع تعاليم كتابهم وراء ظهورهم.وكانت معاملاتهم لليتامى والمساكين غاية في السوء، و لم يبق في قلوبهم أثر للعطف على بني الإنسان وكانوا كسالى في أداء العبادات، ويتهربون من أداء الزكاة.وهذا هو حال المسلمين اليوم فانهم يدعون الإسلام من ناحية، ومن ناحية أخرى منهم يقعون في نفس المعاصي التي وقع فيها اليهود.أما اليهود فقد أخذ الميثاق ألا يعبدون إلا الله، ولكن الله تعالى قد منَّ على المسلمين حيث أسس الإسلام على" لا اله إلا الله" أي أن لا معبود سوی الله تعالى الذي هو القادر المطلق، والذي يقدر على فعل كل شيء ولا يحتاج لأي مساعدة.فرغم أن الإسلام بني على "لا اله إلا الله" فإن الشرك اليوم في المسلمين يربو على ما في الأمم الأخرى منه.فالمسلمون يسجدون للقبور بدون أدنى حرج..حتى لا نكاد نجد أي فرق بين الساجدين الله تعالى وبين هؤلاء الساجدين للقبور كنت أتعجب دائما وأقول : كيف يمكن لمسلم أن يسجد لقبر، وكنت لا أصدق هذا الأمر رغم شهادة الشاهدين حتى رأيت ذلك بعيني.كنت ذات يوم مع بعض الإخوة في جولة ببلاد الهند لزيارة المدارس الإسلامية، ولقد سرني ما رأيت في مدرسة(افرنجي محل) ببلدة لكناو...من كفاءة

Page 8

لم سورة البقرة الجزء الثاني المعلمين وثقافتهم، ومن نشاط الطلاب وذكائهم.ولكن أثناء رجوعنا في المساء أدهشني رؤية شخص يسجد لقبر كسجودنا في الصلاة.فإذا به أحد الأساتذة بهذه المدرسة.فتعجبت من هذا المعلم الذي لم يستفد من علمه ولم يقدره حق قــــدره وسجد لقبر !...مع أن الله لم يسرد حال اليهود للمسلمين إلا تنبيها لهم بأنهم لقبر!...سيقعون يوما فيما وقع فيه اليهود.ومن المواثيق التي أخذها الله من اليهود أن يحسنوا إلى الوالدين، فنسوه.وكذلك اندرست هذه الحسنة بين المسلمين في هذه الأيام.يرون أن من واجــب الآبـاء الإحسان إلى أولادهم وتربيتهم والأنفاق عليهم، ولكن لا يرون ضرورة إحــسـان الأولاد إلى الآباء والبر بهم.ومما عهد إلى اليهود أيضا أن يحسنوا معاملة ذوي القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس كلهم حسنا وما أحسنه وأروعه من تعليم لا يثقل على النفس ولا يخالف العقل في شيء.وكما أن اليهود تركوا العمل بهذه التعاليم كذلك تركهـــا المسلمون.ثم أمروا بالصلاة، ففرطوا فيها، كذلك أهمل المسلمون.فانظروا كم هو عدد المصلين من المسلمين اليوم ثم أمروا بأداء الزكاة، ولكن ما أقل عدد الذين يواظبون على أدائها.ويقول الله تعالى إن اليهود سمعوا هذه التعاليم وأعرضوا عنها ولم يعملوا بهــا..وكذلك فعل معظم مسلمي اليوم وتولوا عنها، وجعلوا القرابة سببا للعداوة، فيخاصمون ويعادون ذوي قرباهم الذين أمرهم الله تعالى بحسن معاملتهم.لقد أمروا أن يترحموا ويتلطفوا باليتامى، ولكنهم تجاسروا على أكل أمـــوالهم بصفاقة بالغة، وأمروا برعاية المسكين ولكنهم ينظرون إليهم نظرة تحقير ونفــــور.وأمــــروا بحسن القول لجميع البشر ولكنهم أهملوا هذه الوصية.هؤلاء المسلمون يتهموننا بأننا نكفرهم، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم عناء النظر في حالهم، وهل هم يعملون حقا بالإسلام.لقد تحدثت مع كثير من المسلمين غــــير الأحمديين، وكلما دخلنا في مثل هذا النقاش سألتهم : ما هى عقيدتكم ؟ فيقولون: نحن مسلمون.فأقول لهم: إنني أيضًا اعتبركم من المسلمين، ولكن بـالله علـيكم

Page 9

سورة البقرة الجزء الثاني أخبروني..هل يعمل المسلمون بحسب تعاليم الإسلام؟ فيضطرون إلى الاعتراف بأنهم لا يعملون بها، فأقول: هذا هو ما نقول عنكم : مسلمو اليوم لم تعـــد فـيهم حقيقة الإسلام.وإلا فهم يقينا مسلمون بالاسم، ولا يسع أحد إنكار ذلك.فكما أن المسلمين يدركون أن السرقة حرام، وان الكذب والافتراء حرام، وان غصب حقوق الناس حرام.ومع ذلك يرتكبون هذه المعاصي؛ كذلك تماما صــــار اليهود في زمن النبي للمشركين عابدين أهواءهم، ومع ذلك كانوا يجادلون المسلمين الذين يعملون بهذه التعاليم بل بما هو أكثر منها.فيخاطب الله هؤلاء اليهود ويقول : قد تتعللون بالفرار من العمل بتعاليم محمد وعيسى عليهما السلام لأنكم لا تؤمنون بصدق نبوتهما..فما عذركم لمخالفة تعاليم التوراة وهي كتابكم؟ فإعراضكم عن هذه التعاليم إعراضا تاما رغم إيمانكم بها...إن دل على شيء فإنما يدل على أنكم لم يعد فيكم صدق.غير أن القرآن كما هو أسلوبه - عندما يعدد على اليهود سيئاتهم لم يعتبر أمت كلها في الإجرام سواء، وإنما استثنى منهم الصالحين فقال: (إلا قليلا منكم).ويجب أن يلاحظ أنه كما روعي الترتيب في القرآن الكريم كذلك لوحظ ترتيب الكلمات بكل جمال في هذه الآية أيضًا.فقد أمر أولا بالإيمان بإله واحد وعبادته وحده حيث قال: لا تعبدون إلا الله..ذلك لأن التوحيد هو أصل أصول الدين، أو هو أصل أساسي مشترك في دعوة جميع الأنبياء.والذي يفهمه يمكن أن يفهـــم باقي مسائل الدين ثم حث على حسن معاملة الآباء بقوله: (وبالوالدين إحسانا)..ذلك لأن العناية والعطف الذي يبديه الآباء نحو الأولاد إنما هو بمثابة الرعاية الإلهية.إن عطف الله تعالى هو العطف الحقيقي، أما عطف غيره فهو ظلي.ولما كان الآباء في معاملتهم لأولادهم مظهرا لصفات الله إلى حد ما..لذلك ذكر معاملة الآباء بعد ذكر التوحيد.ويجب ألا أحد ينخدع بقول (وبالوالدين إحسانا فيظن أن حسن معاملة الآبـاء يعني إحسانا بالمعنى المعروف لأن كلمة إحسان لم ترد هنا بمعناها العام..وإنما وردت بمعنى آخر.فمن أساليب البيان في اللغة العربية أنهم يعبرون عن جزاء الفعل حسن

Page 10

V سورة البقرة معه مــ من الجزء الثاني باستعمال نفس الفعل، كما يسمون جزاء الظلم ظلما...ولا يراد به الظلم، وإنما يراد به الانتقام من الظالم كما قال الله في هذه السورة نفسها: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (۱۹٥).والواضح أن الانتقام من الظالم بقدر ظلمه لا يعتبر ظلما فكلمة "اعتدوا" لا تعني هنا الظلم والعدوان وإنما يعني الانتقام.وبالمثل عندما يقال إن فلان أحسن إلى من أحسن إليه فإن معناه أنه فعل المعروف ما هو نظير معروفه، ولا يعني أنه أحسن إليه فعلا.أما إحسانك إلى من لم يحسن إليك من قبل فيعتبر في الحقيقة إحسانا بالمعنى المعروف.ثم أمر بحسن المعاملة مع ذوي القربى، ذلك لأن كل إنسان بطبعه يميل إلى الإحسان إلى ذويه وأقاربه بعد إحسانه إلى والديه؛ ولأنهم في غياب الوالدين يعتبرون كالآباء.ثم يأتي دور عامة الناس اللذين لا يحسنون إليهم بالمعنى الحقيقي وإنما بمعنى أنهم من شعبهم، وقد ذكر منهم اليتامى أولا و لم يأمر الإنسان بالإحسان إليهم لأنهم فعلوا به معروفا..وإنما لأنهم لا يقدرون بأنفسهم على أخذ حقوقهم لقلة حيلتهم وصغر سنهم، فتغتصب منهم بجسارة.ثم إنهم يستحقون المحبة وحسن المعاملة أيضًا لأنهم قد حرموا من حنان الأبوين منذ طفولتهم، ولذلك يكونون أمانة ثمينة عند القوم.ولو عني الشعب بتعليمهم وتربيتهم وحماهم من الانحراف لصاروا جزءا مفيدا من القوم، ولن يتمكنوا مر إصلاح حياتهم أو من العيش عيشة ناجحة فقط، وإنما يصلحون حياة الآخرين أيضًا.ثم ذكر المساكين وهم أولئك الفقراء اللذين رغم فقرهم لا يشعرون أحدا بفقرهم عن طريق السؤال.وبذكر المساكين وجه الله نظرنا إلى ألا نكتفي بمساعدة من يمد إلينا يده ونغض النظر عمن يبقى صامتا، بل علينا أن نهتم بأولئك الذين رغم فقرهم يتحلون بالوقار ويؤكدون على سمو أخلاقهم.ثم ذكر العطف على كل بني نوع الإنسان وقال: وقولوا للناس حسنا).وهنــاك قراءة أخرى تقول وقولوا للناس حَسَنا).وقال البعض إن المراد: قولوا للناس قولا حسنا.بينما قال الآخرون: قولوا للناس قولا ذا حسن وقد أخر هنا ذكر عامـــــة

Page 11

الجزء الثاني سورة البقرة الناس لأن هؤلاء لا يكونون محتاجين للغير كاليتامى والمساكين وإنمـا يقــدرون بأنفسهم على سد حاجاتهم.فبالجملة، قد راعى القرآن في بيان كل هذه التعاليم ترتيبا رائعا.فبعد أن نبه الخلق على ضرورة عبادة ربهم وحده صنف الناس صنفين، صنف تجب معاملته بالعطف كحق مستحق لهم، وصنف يجب الإحسان إليهم رحمة وشفقة بهم.وقد قدّم الصنف الأول لأن فعل الخير بهم صار دينا علينا لا بد من أدائه وســـــداده، وأخــــر الصنف الثاني لأن إسداء المعروف إليهم يعتبر رحمة وشفقة عليهم.ثم تناول ذكر هؤلاء بالترتيب الذي يستحقونه.ثم تناول العبادات وقدم الصلاة والزكاة علــى غيرهما لكونهما ذروة العبادات البدنية والمالية وأخرهما عن الإحسان إلى خلق الله لكونه أول خطوة إلى عالم الروحانية، ولأن الإنسان بفطرته وبدون أي توجيه من الشرع كثيرا ما يميل إلى فعله أما القيام بالعبادات مفصلا فهو خطوة ثانية، فالذي يخطو الخطوة الأولى هو الذي سوف يتمكن من اتخاذ الخطوة الثانية.وليكن معلوما أن القرآن أحيانا يقدم ذكر حقوق الله نظرا إلى علو شأنه وسمـــو مقامه، فهو سبحانه هو الأعلى والعبد هو الأدنى...لذلك ذكر حقوقه هنا قبـ حقوق العباد بينما يقدم القرآن ذكر حقوق العباد في أحيان أخرى، وذلك نظرا لضعف حيلتهم..كما فعل في نفس الآية عندما ذكر اليتامى قبل المساكين نظرا لضعفهم وقلة حيلتهم.وحيث إن الله تعالى ليس بضعيف بل قوي قادر، لذلك أخر ذكر حقوقه.أما في قوله تعالى و أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فقد قدم على حقوق العباد.وقوله تعالى (أقيموا الصلاة) يتضمن معنى المداومة على الصلوات المفروضة بـدون أي انقطاع، كما يدخل فيها أيضًا النوافل.وقوله تعالى (وءاتوا الزكاة) يعني الزكاة المفروضة إلى جانب الصدقات التابعة لها.فكأن الله تعالى قد جمع في قوله (وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة) العبادتين البدنية والمالية كلتيهما.

Page 12

الجزء الثاني سورة البقرة جميع وفي قوله تعالى (وقولوا للناس حسنا حث على أمرين: الأول -حسن معاملة بني الإنسان بدون تمييز بين دين أو شعب والثاني - إعمال الفكر في رقى الإنسان وحث الآخرين على العمل لذلك.على أي حال، فإن القرآن الكريم تناول التعاليم المبعثرة في التوراة هنا وهنــاك وقدمها بترتيب رائع كشف عن عظمتها أكثر.ثم زجر اليهود قائلا: ما دمتم لا تؤدون حقوق الله وحقوق عباده ولا تبالون بأوامره مطلقا مع أنكم تعترفون بصدقها وصحتها، فكيف يصح القول بأنكم مع كل هذا مؤمنون..وأن الأمة التي تسعى لإصلاح العالم كافرة؟ بل الحق أنه لم يبق بينكم وبين الله تعالى أي علاقة...وإنما ابتعدتم عن الحق كل البعد.ويجب هنا الرد على تساؤل طبيعي : لقد قال الله لا تعبدون إلا الله بدل أن يقول: (لا تعبدوا إلا الله) فما السر في اختيار صيغة النفي بدل من صيغة النهي هنا؟ من أساليب القرآن وكذلك اللغة العربية أنه في بعض الأحيان يستخدم صيغة النفي بدل النهي تأكيدا لمعنى النهي نفسه، كقولنا للصبي مثلا أرجو أنك لن تفعل كذا.أو قولنا: ما كنت لأتصور أنك سوف تفعل هذا.والواضح أن هذا الأسلوب أبلغ من قولنا : لا تفعل هذا.وهنا اختار الله نفس هذا الأسلوب وقال لا تعبــدون إلا الله..بدلا من قول لا تعبدوا إلا الله إظهارا لثقته فيهم واعتماده عليهم، وكأنه يقول: ما كنا نتوقع أبدا أنكم ستشركون بنا أحدا، وإنما أملنا أنكم دائما وأبــدا الله وحده؛ أي لا تشركون بي....لا لكون الشرك إثما فحسب وإنما سوف تتجنبونه أيضًا بسبب العلاقة التي بيني وبينكم ما أشد هذا الأسلوب وقعــــا في النفوس وإثارة لعواطف الحب! فمن خالف أمر الله بعد كل هذا الحث كان أشد تعبدون جرما، لأنه خالف الأمر من ناحية، كما خيب فيه الأمل من ناحية أخرى.لقد أبدى المفسرون في تعليل هذا الأسلوب عدة آراء أخرى، منها أن الفقرة كانت هكذا على أن لا تعبدوا إلا الله وحذفت "على" الجارة و "أن" الناصبة، فصارت (لا تعبدون إلا الله) تفسير (إملاء) ما من به الرحمن ولا بأس بهذا التأويل..إلا إنني أفضل الرأي الذي ذكرته فهو جميل من حيث الظاهر ومن حيث المعنى أيضًا.

Page 13

سورة البقرة الجزء الثاني يقول الله تعالى: إننا توقعنا من بني إسرائيل أنكم تعبدون الله تعالى وحده، وتحسنون إلى الآباء، وترعون اليتامى والمساكين وتقولون للناس حسنا، وتصلون وتؤدون الزكاة..وهذه الأحكام لا تختلفون فيها مع المسلمين.أنتم تختلفون معهم في صدق محمد، وتختلفون معهم في صدق المسيح الناصري، ولكن هذه أمــــور لا تختلفـــون فيها، بل إنكم تسلّمون بها.لقد قيل لكم أن تتمسكوار بالتوحيد، وأنتم تعترفــــون بأن هذا ما أُمرتم به من قبل؛ ثم قيل لكم أن تحسنوا إلى الآباء، وأنتم تسلّمون بأن هذا هو التعليم الذي وجه لكم ؛ ثم قيل لكم أن تعاملوا الأقــــارب واليتــــامي والمساكين معاملة حسنة، وأنتم تعترفون بأن هذا صحيح؛ ثم قيل لكم ألا تؤذوا الناس، ويجب أن تراعوا مشاعرهم وتعاملوهم بالحسنى، وأنتم تعترفون بأن هذه هي الأحكام التي أمرتم بها.فالسؤال الآن هل تعملون بهذه التعاليم؟ لـو درستم أحوالكم لأقررتم أنكم لا تعملون بها..لا شك أنه رغم تفشي الفساد عموما فإنه لا يزال في كل أمــــة أفـــراد يتمتعــــون بالصلاح والتقوى، ولكنها ككل تعتبر أمة ميتة، لأن الأكثرية منها تعرض عـــن أوامر الله تعالى، وهذا، بالضبط، كان حال اليهود.وقد يتساءل أحد لعل اليهود أعرضوا عن هذه التعاليم في الظاهر فقط بسبب أمر اضطراري أو لجهلهم بها، وإلا فإنهم كانوا يكنون لها تقديرا وتعظيمًا كما هو حال المسلمين اليوم.فكم منهم لا يصلون وكم منهم لا يصومون، وكم منهم لا يؤدون الزكاة، وكم منهم لا يحجون رغم قدرتهم على أدائه ولكنهم مع ذلك يعترفون من الصميم بأهمية الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويرجعون سوء أعمالهم إلى الكسل والمعصية! ولإزالة هذه الشبه قال الله تعالى (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون فبكلمة (ثم توليتم أشار إلى إهمالهم هذه الأعمال في الظاهر.وبكلمة (وأنتم (معرضون أشار إلى أن قلوبهم أيضًا لا ترغب فيها..بل أهملوا الشريعة الموسوية كليا فكأنه يقول فأما في الظاهر فقد تفشت فيكم الإباحية واللادينية، وأما من حيث الباطن فقد متم موتا روحانيا.

Page 14

الجزء الثاني ۱۱ سورة البقرة وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٥).أن التفسير: في هذه الآية أيضًا جه يو الله أنظار اليهود إلى عيبين آخرين من عيوبهم الاجتماعية التي كانت متفشية فيهم على وجه الخصوص في عهد النبي.والمراد من تسفكون دماءكم هو قتلهم أفرادا من شعبهم، وقد جاء بهذه الكلمات لبيان أحد أفراد شعبه فكأنما قتل نفسه لأن هلاك أو قتل أفراد من الشعب قتل من يؤثر على الشعب ككل.كذلك كلمة (تخرجون أنفسكم من دياركم) لا تعني خروجهم هم من بيوتهم، وإنما تعني إخراجهم أفرادا من شعبهم من بيوتهم كما الآية التالية أيضًا، نفسه أحد يخرج من بيته بنفسه.ولقد جيء هنا بكلمة أنفسهم وديارهم أيضًا لنفس الغرض...أي لتبين حمقهم وجهلهم.ومعنى الآية أننا لهيناكم عن أن يقتل بعضكم بعضا، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره...ولكنكم خالفتم أيضًا هذا الأمر.والآية التالية تبين نفس المعنى.يتبين من وإلا فليس استهل سبحانه وتعالى هذه الآية بكلمة (وإذ أخذنا ميثاقكم) بينما في الآية السابقة بدأها بقوله تعالى (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل)....مع أن العهدين كليهما أخذا من بني إسرائيل أنفسهم، فما الحكمة في ذلك؟ إن من فضائل القرآن وهناك آلاف الشواهد على كونه منقطع النظير - أنه - تغير عنه يعبر بسيط في الكلمات يأتي بمفاهيم مختلفة واسعة، ويعبر ببضع كلمات عما لا إلا في جمل.هنا أيضًا، جاء القرآن بالضمير (كم) بدلا من بني إسرائيل ليوجــــه الأنظار إلى أمر هام..هو بيان أن المساوئ المذكورة في الآيات السابقة كانت متفشية في بني إسرائيل كلهم في ذلك الزمان، ولكن المعاصي المذكورة في هذه الآية والتي بعدها كانت متفشية بصفة خاصة في القبائل اليهودية التي كانت تقطن المدينة وما حولها.فجاءت كلمة بني إسرائيل عامة، ووردت كلمة كم للتعبير عــن اليهود في جزيرة العرب فقط لأنهم منغمسون في تلك المعاصي خاصة.

Page 15

۱۲ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى ثم أقررتم وأنتم تشهدون يوضح بأن المرء في بعض الأحيان يقبل شيئا بسبب الاحترام..ولكن قلبه يبقى غير مطمئن فيما يتعلق بسموه وأهميته، أمـــا أحكامنا هذه فقد كانت من السمو والأهمية بمكان، فصدقتموها بألسنتكم و اعترفت أيضًا قلوبكم بصلاحها وجودتها...ومع ذلك لم تبالوا بهذا الاعتراف و لم تكترثوا بشهادة قلوبكم ، وبدأتم الحرب ضد إخوانكم.ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدَّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٦).شرح الكلمات: خزي- الخزي ،الهوان العقاب البعد، الندامة (أقرب الموارد) التفسير : تبين الآية أن اليهود فسدوا لدرجة أن الشريعة كانت نهتهم عن هاتين السيئتين..ومع ذلك كانوا يقتل بعضهم بعضا ويخرج بعضهم بعضا من بيته.والمراد من الإخراج من الديار إما نفي الناس من البلاد أو استعبادهم وحيث إن العبد يكون تابعا لصاحبه يذهب به حيث يشاء..لذلك أرى أن الإخراج مـــن يعني الديار هنا الحرب، وهي التي تؤدي إلى أسر الناس وتعبيدهم.ولقد ورد النهي عن قتل بعضهم البعض حيث قيل "لا تقتل" (الخروج ١٣:٢٠)..وجاء النهي عن إخراج الناس هكذا: " ومن سرق إنسانا وباعه أو وجد في يديـــه يقتل قتلا" (الخروج ١٦:٢١).الاستعباد خاصة وقد ذكر قبله سفك الدماء الذي يشير إلى كما ورد النهي عن اتخاذ أي إسرائيلي عبدا حيث قيل "وإذا افتقر أخوك عندك لك فلا تستعبده استعباد عبد كأجير كنزيل يكون عندك.إلى سنة اليوبيل وبيع

Page 16

الجزء الثاني ۱۳ سورة البقرة يخدم عندك.ثم يخرج من عندك هو وبنوه ويعود إلى عشيرته.وإلى ملـك آبائــه يرجع".(لاويين ۲٥ : ۳۹ (٤۱) وأيضًا جاء "وان لم يفك بهؤلاء يخرج في سنة اليوبيل هو وبنوه "معه لاويين ٥٤:٢٥ وما فهمه اليهود من هذه التعاليم ظاهر في سفر النبي نحميا، حيث أعتق العبيد الإسرائيليين سواء أكانوا تحت الأمم الأخرى أو في أيدي الإسرائيليين أنفسهم.(نحمياه :٨) وفي زمن التلمود أجمع اليهود على أنه لا يجوز استعباد يهودي.فقد ورد: "ادخل في الدستور التلمودي قرار أنه لن يتخذ أبدا أي من اليهود عبدا، حتى أن السارق الذي كان يباع بسبب جريمته أيضًا لم يكن يعتبر عبدا.وعندما أسر كثير مــن اليهود في حرب السلوقيين والبطالسة فقد اعتبر تحريرهم فرضا عليهم وعملا يثابون عليه (الموسوعة الكتابية ج ٤ تحت كلمة Slavery).ويتبين من هذه التعاليم أن استعباد اليهود، وهو كإخراج الناس من ديارهم، كـــــان أمرا منكرا بحسب التوراة.وكانت هناك أحكام بتحرير الأسرى بأسرع ما يمكن.كان ثمة طريقان لاستعباد اليهودي: الأول - أن يبيع أحدهم نفسه لغـــيره.وهـذا الأمر لا تجيزه الشريعة الإسلامية ولكنه كان جائزا في شرعهم، فكان لهم أن يبيعوا أنفسهم بسبب ديون أو جناية أو ضائقة مالية.والثاني: أن تبيعه المحكمة لأحد نظير دين عليه أو جناية أدت إلى إلحاق الخسارة بالمجني عليه..مثل السرقة والسطو على أموال الناس وغير ذلك.وكانوا في كلتـا الحالتين يكرهون جدا أن يقع أحدهم عبدا في أيدي غير اليهود، حتى أن المحكمــة نفسها كانت لا تبيع أحدا من اليهود لمن ليس يهوديا.في هذه الآية يقول الله تعالى لليهود: إنكم رغم هذه التعاليم تقتلون أنفسكم أي يحارب بعضكم بعضا، كما أنكم تخرجون فريقا منكم من ديارهم...أي أن فريقا منكم يتخذون عبيدا بسبب هذه الحروب، وهكذا تناصرون الأعداء ضد بعضكم البعض ظلما ،وإثما، مع أن شرعكم يحرم عليكم القيام بمثل هذه الأنشطة التلمود: مجموعة كتب تضم التقاليد المتداولة بين علماء اليهود إلى آخر القرن الثاني الميلادي.

Page 17

١٤ سورة البقرة الجزء الثاني ضد إخوانكم.ثم إذا يؤتى بهم إليكم أسارى تحررونهم بالفدية..مع أنه محرم عليكم إخراجهم من ديارهم.أي أن الأمر الأول وهو الحرب التي تسبب أســـرهـم فتضطرون لتحريرهم بالفدية أيضا، هذه الحرب نفسها كانت حرامــا علـيكم، ولكنكم ترتكبون هذا الحرام أيضًا، مما يعني أنكم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.النبي في هذه الآيات يشير الله إلى نشاطات اليهود التي كانوا يقومون بها بالاشتراك مــــع قبائل المشركين القاطنين في المدينة المنورة.كان في المدينة قبل هجرة النبي ﷺ إليها فريقان من المشركين هما الأوس والخزرج ، وكانت بينهما حرب نشبت قبل بعثة بفترة قصيرة.وكان اليهود قد هاجروا إلى المدينة واستوطنوها بنية الإيمان بالنبي الموعود عند ظهوره في هذه البلاد) السيرة النبوية لابن هشام، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو قينقاع، وبنو النضير.وكان الانحياز والتحزب إلى أي فريق هو مدار الأمن بحسب دستور ذلك الزمان..وبدونه ما كان الناس يعتبرون أنفسهم في أمان.ولما كان الأوس والخزرج في حرب فإنهم تحالفوا مع قبائل اليهود، فصارت بنو قريظة وبنو قينقاع حلفاء الأوس بينما انحازت بنو النضير إلى الخزرج، وعند نشوب الحرب بينهما كان اليهود يشتركون فيها لمساندة حلفائهم بموج المعاهدة.وهكذا كانت كل قبيلة يهودية بعملها تضطر نظيرتها أو أختها للخروج من الديار للحرب، وعندما كان اليهود المنهزمون يقعون أسرى مع الآخرين في يد الفريق المنتصر..كانوا يلتمسون من الفريق المنتصر إطلاق سراح أسراهم..لأن لا باستعباد أي يهودي، ويؤدون الفدية في مقابل ذلك، وكانوا دينهم يسمح يجمعون المال بالتبرعات لتحرير إخوانهم من ربقة المشركين (المرجع السابق).فالله تعالى يدين اليهود بعملهم هذا ويقول: كنا لهيناكم عن الأمرين كليهما عن التحارب، وعن استعباد إخوانكم ولكنكم تتحاربون فتتسببوا في وقوع إخوانكم أسرى في أيدي أمم أخرى ولا تفكرون وأنتم تدفعونهم للأسر أنكم تخالفون أمــــر الله.ثم إنكم بعد أسرهم تتظاهرون بالصلاح فتحاولون تحريرهم بالفدية..محتجين بأن الله قد حرم في شر عنا استعباد اليهود فما أشنعها من جريمة..تؤمنون ببعض.

Page 18

١٥ سورة البقرة الجزء الثاني الكتاب وتكفرون ببعض ! تُحررون إخوانكم من الأسر بعدما دفعتموهم بأيديكم دفعا إلى هذا الأسر..مع أنه ليس هناك أي خلاف بينكم وإنما تفعلون كل ذلـــك ولاء للقبائل المشركة ! وتذكر كتب التاريخ أن قبائل العرب عندما كانوا يعيرون اليهود بذلك..كانوا يردون عليهم قائلين: لا شك في حرمة التحارب فيما بيننا.ولكن الخجـــل مـــن حلفائنا يدفعنا إلى الحرب في صفهم..لذلك نحررهم بعد الحرب بالفدية (تفسير البحر المحيط تحت قوله وتخرجون فريقا منكم من ديارهم فقوله (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض يبين أن العامل ببعض الكتـــاب يعترف عمليا بصدق كل الكتاب فتركه للبعض الآخر لا يدل إلا على فساد باطنه.من وقوله فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب..أي قد أتيحت لكم فرص للإصلاح مرارا، كما أنكم كنتم على علم بأوامر الله تعالى..فليست عقوبة أمثالكم على هذه الجرائم إلا الخـــزي والهوان في الدنيا، وأما في الآخرة فسوف تذوقون عذابا أشد هذا.الواقع أن هناك مرضا شديدا وخطيرا ومدمرا لروح الإنسان..ألا وهو أن كثيرا من الناس يرون الكفاية في العمل بما يجدونه من التعاليم الدينية موافقا لأفكارهم وأهوائهم وميولهم؛ ولا يبالون مطلقا بأن هناك الكثير من التعاليم التي هم معرضون عنها بكل جسارة.ولما كان المرء تتغير عاداته بتغير الظروف والبيئات المحيطة به..لذلك فإن لكل واحد ذوقا خاصا، فيعمل بما يوافق ذوقه ويهمل مالا يتناسب معه.فمثلا لو نظرنا إلى أهل المناطق المختلفة من بلادنا لرأينا أهل منطقة يواظبون على أداء الصلوات بكل حرص ولكنهم كسالى في الصوم.بينما يهتم أهل منطقة أخرى اهتماما خاصا بأداء الزكاة ولكنهم لا يبالون بالصلاة والصوم.وفي منطقة ثالثة يداومون على الصلاة والصوم ولكنهم غافلون عن أداء الزكاة.وفي منطقة رابعــــة نجدهم لا يحجون وان استطاعوا إلى الحج سبيلا.وفي منطقة خامسة نجدهم يذهبون إلى الحج ولكنهم قلما يصلون حتى أثناء سفرهم للحج.ومثل هذه الصلاة والزكاة

Page 19

الجزء الثاني 17 سورة البقرة والصوم والحج لا يمكن أن تسمى طاعة لأوامر الله..ذلك لأنهم لـو أطاعوا الله بصدق لأدركوا أن الذي أمرهم بالصلاة هو الذي أمرهم بالصوم، وأن الذي أوصاهم بالزكاة هو الذي أوصاهم بالحج..ولكن عملهم بأمر وإعراضهم عن أمر آخر لدليل على أن ما يسميه هؤلاء انقيادا وطاعة الله ليس في الحقيقة كذلك، وإنما هو خداع في نفوسهم..لأن الطاعة الله والانقياد له سبحانه إنما يتحققان إذا انقــــاد المرء لكل أمر من أوامر الله انقيادا تاما..سواء أكان هذا الأمر موافقا لأهوائــــه وأفكاره وتقاليده أو مخالفا لها..الله كما أن هناك كثيرا من الناس الذين لا يوجد في طباعهم شيء كالغضب، فإذا كلمهم أحد بما يثير الغضب يتلقونه بكل هدوء وانبساط.وإذا كان هؤلاء في موقف يتطلب منهم الغضب في سبيل الله تعالى لم يغضبوا، بل عفوا وصفحوا.ويتبين عندئذ أن عفوهم وصفحهم ليس من طاعة في شيء، ء، ذلك أنه لو كـــان عفوهم نابعا من طاعتهم لأمر الله ومشيئته لما عفوا في موقف يمنع الله فيه من العفو.فليست الطاعة أن يتبع المرء من أمر الله تعالى ما يحلو له ويتناسب مع ذوقه، وإنمــــا الطاعة أن يعمل الإنسان بكل ما أمر الله به وان كان يتنافى مع ذوقه وعاداته.هنا أيضا يخبر الله عن اليهود أن هذا هو حالهم.فأما الكبائر فكانوا يأتونهــا غــير مكترثين، وأما الصغائر فكانوا يتجنبونها قائلين لقد نهانا الله عنها.يقول الله تعالى: كيف نرضى بطاعتهم هذه يتبعون من الأوامر ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولا يتبعون ما ليس كذلك؟ إننا سوف نخزي هؤلاء...لأنهم عندما يرون من أوامري الهامة ما لا يتناسب مع أهوائهم يضربون به عرض الحائط، وعندما يجدون ما يتفق مع أهوائهم ينفذونه...مع أن المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي لا يريد إلا وجه الله ورضاه في كل صغيرة وكبيرة.كان الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام- يقـــــول أنه كان ذات مرة يعظ أحد الزناة بالامتناع عن هذه المعصية فقال: لقد وعدت هذه المرأة أن أبقى وفيا معها....فهل تريدني أن أرتكب جريمة إخلاف الوعـــــد؟! فكأن الرجل رأى إخلاف الوعد ذنبا ومعصية، ولكنه لم ير في الزنا أي معصية!

Page 20

مع ۱۷ سورة البقرة الجزء الثاني فعلى المؤمن أن يكون على الدوام حذرا يقظا، فلا يسخر كاليهود بأوامر الله فيعمل بما يشاء منها ويهمل ما يشاء.لقد أنبأ النبي الله أنه سيأتي على المسلمين زمـــان يتبعون فيه آثار اليهود شبرا بشبر وذراعا بذراع (صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وفي رواية يشبهون اليهود حذو النعل بالنعل.وقد تحقق قوله ﷺ حيث رأينا انه لما أخذ المسلمون في الانحطاط تسربت إليهم كل تلك المساوئ اليهودية معصية تلو معصية؛ فقد قيل لليهود (لا) تسفكون دماءكم أي لا تحاربوا ضد فريق من أمتكم ولا تسفكوا دماءهم فتذهب ريحكم.وقد وجه نفــــس هـذا النصح للمسلمين أيضًا..ولكن تاريخ زمن انحطاط المسلمين شاهد على أنهـــم بأيديهم سفكوا دماء إخوانهم المسلمين ولجئوا للقضاء على الحكومات الإسلامية إلى كل نوع من المكائد السرية والمؤامرات الخفية وتعاهدوا وتآمروا مع الدول المسيحية للإطاحة بعروش الدول المسلمة، فقد اتفقت الدولة المسلمة في الأندلس ملك روما المسيحي للقضاء على الحكومة العباسية، وتم الاتفاق بين العباسين وبين الإمبراطور الفرنسي لإسقاط الملوك المسلمين في الأندلس.لقد لطخوا أيديهم بدماء إخوانهم غير مكترثين بما يصيب الإسلام من أضرار فادحة بسبب إقحامهم المسيحيين في السياسة الإسلامية.وكذلك عندما كان صلاح الدين الأيوبي يتصدى لهجمات أوروبا كلها تآمر المسلمون مع الدول المسيحية لاغتياله، بل اختاروا لقتله رجلا مسلما عليه ليغتاله وهو يصلي، ولكن عناية الله تداركته فنجـا مـــــن القتل.ثم إن الله ذم سياسة اليهود المزدوجة وقال إنكم من ناحية تحاربون إخوانكم ومن ناحية أخرى تحررونهم بأداء الفدية.وهذا ما فعله المسلمون أنفسهم حيث إنهم أبان الحرب العالمية الأولى انضموا إلى صفوف أعداء الأتراك إخـوانهم في الدين وحاربوهم ولكنهم حينما أُسروا سعوا إلى تحريرهم بالفداء.فالمسلمون أيضًا ساروا على نفس الدرب الذي سار فيه اليهود مع أن الله تعالى لم يسرد هذه الأحداث عن اليهود إلا تحذيرا للمسلمين حتى لا يسمحوا لهذه المساوئ أن تتسرب إليهم.وفيما يتعلق بمصطلح أهل الكتاب...فلا شك أن اليهود والنصارى هــــم أهـــل الكتاب ولكن من ينكر أن المسلمين أيضًا من أهل الكتاب؟ بل لا أحد يستحق هجم

Page 21

سورة البقرة الجزء الثاني اسم أهل الكتاب حقيقة سوى المسلمين...لأن الله تعالى قد كتابا كاملا وهبهم في حين أن الأمم الأخرى ليس لديها أي كتاب كامل مبرء من كل عيـب مثــل القرآن.لذلك كان من واجب المسلمين لكونهم أهل الكتاب الحقيقيين – أن ينظروا بعيون مفتوحة حذرة إلى مفاسد اليهود والنصارى حتى لا تتسرب إليهم.أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفِّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (۸۷) التفسير : ذكر في هذه الآية أن اليهود أثروا الدنيا على الدين، وعقابا على ذلـــك سينتزع منهم السلطان الدنيوي، ولن يخفف عنهم هذا العذاب إلا إذا آثروا الدين مرة أخرى.وقد يعني قوله (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون)، أنـــه لا العذاب السماوي كما أن أمم العالم أيضا لن ترحمهم في الدنيا؟ إن من أساليب القرآن في ترتيبه أنه يعيد في آخر الموضوع ذكر ما بدأ بـه إيذانا بانتهائه وبداية موضوع جديد، فكان ذكر في البداية زَعْمَ اليهود (لن تمسنا النار إلا يخفف عنهم أياما معدودة والآن جاء هنا بقوله (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون).ذلك ليشير أن الآيات السابقة أيضًا تبحث في نفس الموضوع، وقد انتهى الآن بهذه الآية فحذر اليهود أنكم بسبب اتخاذكم أحكام الشرع لعبة لن تبرحوا هدفا لعذاب الله في مختلف الصور ولن ينصركم أحد.فادعاؤكم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) ادعاء باطل، وسوف تعذبون عذابا لن يخفف عنكم بمعنى أنكم سوف تلتاعون وتتألمون من شدته لزمن طويل.كما كانوا يزعمون أيضًا أنهم من أولاد الأنبياء فهم سوف ينصرونهم، فأبطل الله زعمهم هذا أنه وبين أحد.لن ينصرهم والعهد الذي ذكره القرآن قبل هذه الآية كان عهدا عاما، أما العهد الذي تناولــه فيما بعد فهو عهد خاص باليهود المقيمين في المدينة وحولها زمن النبي.ثم ذكر اثنين من المساوئ الاجتماعية التي وقع فيها اليهود خصوصا المعاصرين للنبي ،

Page 22

الجزء الثاني ۱۹ سورة البقرة فذكر منها أولا تلك المساوئ التي تفشت فيهم نتيجة تركهم للحسنات، ثم ذكـــــر التي تعتبر في حد ذاتها إثما وظلما.وليكن معلوما أن السيئات نوعان: نوع يتعلق بالإنسان نفسه، ونوع آخر يتعلق ببني جنسه.ثم إن النوع الأول أيضًا :قسمان: أولهما - هو تلك السيئات التي يشعر الإنسان بالإثم عند ارتكابها فيحاول إخفاءها، وثانيهما هو تلك السيئات التي لا يشعر وقت اقترافها أنه يرتكب إثما.وفي قوله تعالى (تقتلون أنفسكم وتخرجـــــون فريقا منكم من ديارهم يضرب الله تعالى مثالا لاثنتين من سيئات اليهود التي كان من المفروض أن يخافوا لومة الناس على ارتكابها، ورغم كونهما سيئتين واضحتين واجتماعيتين..إلا أنهم ما زالوا يقترفونهما بكل جسارة ومن دون أدنى خوف من اللوم وهكذا استمروا في هتك حرمة شريعتهم.وَلَقَدْ أَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرُّسُل وَأَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ برُوح الْقُدُس أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (۸۸).شرح الكلمات: قفينا- قفى فلان زيدا: تبعه وقفاه أتبعه إياه القفا مؤخر العنق.فالأصل في قفاه أن يكون التابع وراء المتبوع وقريبا منه، ولكنهم توسعوا فقيل لمن تبع أحــدا وإن كان على مبعدة: قفاه (الأقرب).بينات هي تلك الأدلة التي في حد ذاتها تشكل برهانا على صدق النبي.فالأدلة على نوعين: الأول ما يستنبط منه صدق نبي، فمثلا نستدل بفساد أهل زمان مــا على ضرورة مجيء نبي، فنقول: قد عم الفساد في العالم ونسي الناس الشرع وتركوا العمل بتعاليمه فلذلك لا بد من نبي...وهذا المدعي هو النبي الموعود.فكل هذه الأمور يستنبط منها ضرورة ظهور نبي.إنها أدلة بلا شك، ولكنها ليست بينــــات.ويندرج في هذا النوع أيضا تلك الأنباء التي تدل على قرب ظهور نبي، ولكنها لا

Page 23

الجزء الثاني ۲۰ سورة البقرة تحدد زمن ظهوره فهي ليست بينات ومنها على سبيل المثال الآيات والأحداث التي ظهرت قبيل مبعث محمد ﷺ، والتي يمكن أن نستنبط منها صدقه.إنها أدلة على صدقه ولا شك، ولكنها لا تؤكد بصورة قطعية على أنه النبي ، فلا تسمى بينات.سه هو والنوع الثاني من الأدلة تسمى بينات، وهي التي تشكل بحد ذاتها برهانا مباشرا على صدق النبي، وهي التي تجعل صدقه مشهودا، والتي تبين الصدق من الباطل تبيانا..مثل الطاعون الذي أنبأ بتفشيه المسيح الموعود، وكذلك أنبأ النبي الكريم بذلك من قبله.فظهور الطاعون في زمنه ليس دليلا على صدقه فقط، بل إنما هو بينة، لأن تحقق هذا النبأ لا يعين زمن ظهور المسيح المنتظر، وإنما يبين أيضا أنه المسيح المنتظر.إذن فالبينة ما يدل على صدق النبي دلالة واضحة لا غبار عليها، وغيرها هو ما يثبت صدقه بالإشارة والتلميح فحسب.وأدلة صدق المسيح الموعود عليه السلام - بعضها من نوع الإشارة والتلميح، وبعضها من البينات والواقع أن كل نبي قد أوتى كلا النوعين من الأدلة، لان الأدلة الواردة في شكل الإشارة والتلميح وحدها لا تكفي لإثبات صدقه، بل لا بد إلى جانبها من البينات ليتضح صدقه لعامة الناس وإلا لن يعلموا أنه هو الشخص المنتظر الموعود.لقد بين أبو حيان معنى البينات في تفسيره فقال: البينات الحجـــج الواضحة الدالة على النبوة (تفسير البحر المحيط).روح القدس - الروح الكلام والقدس: المقدس أو المبارك (لسان العرب).فروح القدس يعني كلام الله المقدس المبارك.ويتضح بمطالعة قواميس اللغة أن كلمة التقديس لا تستخدم إلا للأشياء التي لها علاقة بالله تعالى.لا شك أن هناك كلمات عديدة تعطي معنى الطهارة، لكنها لا تتقيد بهذا الشرط، وإنما افترض في التقــديس وحده أنه لا يطلق إلا على ما يتعلق بالشرع والأمور الروحانية..مما يعني أن الطهارة المقدسة إنما هي ما تكون مرتبطة بالشرع.فمثلا لا يسمى أي مكان مكانا مقدسا إلا إذا كان له شرف في الدين ودرجة من حيث الروحانية.فكلمة النظافة

Page 24

الجزء الثاني أيضًا تعني ۲۱ سورة البقرة الطهارة، ولكنها لا تختص بالنظافة الدينية والروحانية.فالكافر يمكن أن الله يكون نظيفا، لكن لا يسمى رجلا مقدسا إلا الذي نال شرفا روحانيا وعزة من تعالى.فلا يمكن أن تسمى الأفكار النبيلة وحدها كلاما مقدسا ومباركا..وإلا فان أفكار فيلسوف أيضا يمكن أن تكون نبيلة لأنه هو الآخر لا ينفك يأتي بنكـــات جديدة عن طبيعة الأشياء، ولكنه لا يكون مؤيدا بروح القدس، ولا مشرفا بالوحي الإلهي.إنه لا يحظى بتلك الأفكار التي تأتى من الله.فالكلام المؤيد بروح القدس إنما هو ذلك الذي ينزل من الله ويكون مباركا وطاهرا من كل النواحي.وتعني الروح أيضا الملك، فيكون معنى روح القدس: ملك التقـــدس والبركــات.والملائكة نوعان: نوع ينزل بكلام الله ونوع آخر يقوم بتنفيذ كلام الله تعالى أو قضائه في الكون.فالملائكة الذين ينزلون بكلام الله يسمون روح القدس.وتطلق كلمة روح القدس على جبريل عليه السلام سيد الملائكة النازلين بكلام الله.فيعني قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس) أن الله نصره بملاك التقديس والبركـــــات الـــذي ينزل بكلامه، أو أنه عز وجل شرّفه وأعزه بكلامه المقدس المبارك.التفسير : فقوله تعالى وقفينا من بعده (بالرسل يعني أنه عز وجل أرسل بعد موسى أنبياء كثيرين.ليس ذلك فحسب، وإنما يبين أيضا أن هؤلاء الأنبياء لم يأتوا بشرع جديد بل كانوا تابعين لموسى وعاملين بشرعه - عليهم السلام.لقد استدل سيدنا المسيح الموعود عليه السلام من هذه الآية وقال: قد جاء بعد موسى العديد من الأنبياء الذين لم يكن معهم شرع جديد، وإنما كانوا يدعون الناس إلى تعاليم التوراة وينشرون أحكامها (شهادة القرآن، ص ٤٤).إن عامة المفسرين يظنون أن كل نبي يأتي بشرع جديد، ولكن الله تعالى قد صرح هنا بكل وضوح أن الأنبياء المبعوثين بين موسى وبين النبي الكريم-عليهم الصلاة والسلام-كلهم كانوا تابعين لموسى وعاملين بشرعه.ولقد اعترف بذلك العلامة أبو حيان في تفسيره لهذه الآية وقال: ويحتمل أن تكون التقفية معنوية، وهي كونهم

Page 25

الجزء الثاني ۲۲ سورة البقرة يتبعونه بالتوراة وأحكامها ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها (تفسير البحر المحيط).قوله اتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)..إن كون عيسى بـن..مريم محظوظا بالبينات ومؤيدا بروح القدس ليس مما يختص به عيـــسـى وحـــده.حتى يستدل بذلك على أفضلية له على غيره من الأنبياء؛ فقد ذكر القرآن في هذه السورة نفسها أن موسى أيضا قد أعطي البينات، فقال (ولقد جاءكم موس بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (۹۲).كما قال الله تعالى للرسول الكريم : (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون) (١٠٠) كذلك ذكر الله هلاك الأمم السابقة للنبي ﷺ وبـــيـن ســـ هلاكهم قائلا: ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب) (غافر :۲۳) ويوضح هذا جليا أن سائر الأنبياء المبعوثين للخلق قد أتوا بالبينات أيضًا وإلا كان من المستحيل أن يتبين للناس صدقهم.فلم يذكر الله هنا البينات وروح القدس لبيان خصوصية للمسيح الناصري، وإنما ذكرها ليبين لليهود أن المسيح أيضًا قد أوتى البراهين الدالة على صدقه كما أوتيها غيره مـــن النبيين الذين تؤمنون بصدقهم.كما ذكر هنا روح القدس لبيان أن المسيح كان يتلقى الوحي من الله كالأنبياء الآخرين وليس لأن له أفضلية على غيره مــــــن الرسل أو أنه صاحب شرع.ولو أخذنا الروح بمعنى الملك وكان روح القدس بمعنى القدس بمعنى الملك المقدس..لكـــان المعنى أن الله تعالى أمر جبريل وغيره من الملائكة بتأييد المسيح، فيجعل له القبول في قلوب الناس أو يثبت قلوبهم.ويتأكد هذا المعنى بقوله تعالى (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي (المائدة : (۱۱۲).والبديهي أن وحي عموما بواسطة الملائكة.فمن معاني الآية أن الله تعالى أيد المسيح بجبريل وهذا ليس خاصا بالمسيح وحده وإنما سائر الأنبياء وكبار المؤمنين أيضًا يؤيدون من الله تعالى.كما ذكر القرآن أصحاب النبي الله أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح الله ين أيضاً ول

Page 26

الجزء الثاني ۲۳ سورة البقرة ٩٨)..منه) (المجادلة: (۲۳)..أي أن الله تعالى قد رسخ الإيمان في قلوبهم ونصرهم بإرسال الروح أي الملائكة.لم يرد هنا (روح القدس)، بل قال (روح منه) ولكن الواضح أن الروح التي تكون من الله لا تكون إلا مقدسة وأيضا قال الله تعالى لنبيه (قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) (النحل: (۱۰۳) : أي قل للناس إن روح القدس قد نزل هذا القرآن من ربك بالحق والحكمة لكي يجعل به المؤمنين ثابتين على الإيمان للأبد، ولكي يزيدهم به هــدى ويبشرهم بالخير.وقال أيضا فإنه نزله على قلبك بإذن الله..((البقرة : ۹۸)..أي نزله روح القدس على قلبك بإذن الله.فكون المسيح قد أوتي البينات ونصر بـروح القدس لا يضفي عليه أي فضيلة خاصة دون سائر الأنبياء.وعلاوة على القرآن فان أقوال الرسول الله تؤكد أن نزول روح القدس ليس خاصا بالمسيح، بل يمكن أن ينزل على غيره من الأنبياء، أو حتى غير الأنبياء.إن حادث بن ثابت خير شاهد على ذلك.فقد كان الأشرار في زمن النبي ﷺ يهجونه وأزواجه المطهرات في أبيات من الشعر هجوا فاحشا، وتحمل الصحابة كل ذلـــك لفترة من الزمن بسبب تعليم النبي الله لي باب المسلك كما بالصبر.ولكن لما تجاوز خبثهم الحدود طلب بعض الصحابة من سيدنا حسان أن يرد عليهم، فجاء النبي ﷺ يستأذن في هذا قائلا: لقد أكثر هؤلاء هجوك، فدعني أرد عليهم وأكشف مثالبهم للناس.فقال النبي : كيف تهجو آباءهم وهم آبائي أيضا؟ قال: يا رسول الله، كن مطمئنا "لأسلنك منهم كما يسل الشعر من العجين وقوله هذا دليل على تصرفه بأعِنَّة الكلام، لأن الشاعر المتمكن هو الذي يستطيع أن يهجو عدوه بحيث لا يقع في ذم آبائه.على أية حال، أذن له الرسول ﷺ قائلا: "اهج قريشا وروح القدس معك"(البخاري، المناقب).وفي رواية أن النبي ﷺ قال لحسان: "اهج قريشا وجبريل معك"..حتى أن حسانا قال في شعره: حسان وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء أي أن رسول الله جبريل موجود بين ظهرانينا، وليس لروح القدس هذا مثيل..مما يدل على أن روح القدس كان يؤيد الصحابة كلهم.وفي رواية ثالثة أن الرســـــول

Page 27

الجزء الثاني بروح ٢٤ "اللهم أيـده بروح سورة البقرة أمر حسان بالرد على هجاء الكفار ودعا له: "اللهم القدس" (مشكاة المصابيح، باب البيان والشعر).وفي رواية أنه قال: "اهج المشركين فإن جبريل معك" (البخاري).فكيف يحق للمسيحيين بعد كل ذلك أن يستدلوا بكون المسيح الناصري مؤيــــدا بروح القدس على أنه إله أو ابن الإله.فليس في ذلك أي خصوصية له، بل كان سائر الرسل والصالحون مشتركين في هذه الميزة، وكان كل واحد منهم مؤيــدا القدس بحسب مكانته عند الله تعالى، حتى إن الخواجة معين الدين الجشي وهو من كبار أولياء الله في الأمة الإسلامية- يقول في ديوانه ما تعريبـه: إن روح القدس ينفخ الروح في نفسي كل لحظة، حتى خيل إلي أنني صرت مسيحا ثانيا (ص) ٥٢.وإذن ليس في كون المسيح مؤيدا بروح القدس مــا يدعو إلى الاستغراب والإعجاب ولا بد هنا من الرد على تساؤل : إن صح القول بأن قوله تعال:" وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس" لا يشير إلى ميزة خاصة في المسيح..فلماذا خصه القرآن هنا بالذكر وبمثل هذه الكلمات بعد الحديث عـــــن موسى ثم الأنبياء ككل؟ يستنتج النصارى من ذلك أنه لما كان المسيح أفضل من غيره من الأنبياء وأسمــــى منهم درجة..لذلك ذكره القرآن على حدة، ولو كان مجرد رسول مــا ذكــــره هكذا.فأما المفسرون فيقولون: كان الأنبياء الآخرون تابعين للشرع الموسوي ولم يكن لهم شرع جديد مستقل، لذلك ذكروا جماعة، ولكن عيسى لم يكن تابعـا للـشرع الموسوي..بل جاء بشرع جديد فجاء ذكره على حدة.وهذا الرأي غير صحيح، لان المسيح نفسه يقول : " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء؛ ما جئت لأنقض بل لأكمل.فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حــتى يكون الكل " (متى ۱٧:٥ ، ۱۸).فالقول بأن المسيح قد ذكر على حدة لأنه جاء

Page 28

۲۵ سورة البقرة الجزء الثاني بشرع جديد قول خاطئ ولا شك.ولكن يبقى السؤال كما هو: ما السر في ذكره على حدة؟ ليكن معلوما أن اليهود بشكل أو بآخر كانوا يعظمون سائر الرسل المبعوثين في بني إسرائيل قبل المسيح الناصري.لا جرم أنهم عارضوهم في البدايــة، ولكنهم اعترفوا بصدقهم آخر الأمر؛ فلا تزال كتب أنبيائهم إلى النبي "ملاخي" موجودة في التوراة، يقرءونها ويرونها صالحة للعمل، حتى أن داود وسليمان عليهما السلام اللذين رموهما بالارتداد في آخر العمر قد جاء ذكرهما في التوراة، ولا يزال اليهود يعظمون أقوالهما بغض النظر عن أعمالهما.ثم إنهم يعتبرون زكريا ويحى من علمائهم وصلحائهم وإن أنكروا نبوتهما.فكل هؤلاء يعظمهم اليهود وإن كانوا يعدون بعضهم من الصلحاء والعلماء فقط.أما المسيح فكان اعتقادهم فيه اعتقــــادا فاسدا ونجسا للغاية، فيرمونه بتهم شنيعة خطيرة، ويعتبرونه مفتريا وملعونا والعياذ بالله.فكان ضروريا عند الحديث عن معارضة اليهود للأنبياء أن يذكر المسيح ذكرا خاصا مستقلا لأنهم أساءوا إليه أكثر من غيره، وكانوا حتى إلى زمن نزول القرآن مصرين على الاعتقاد أنه والعياذ بالله من المفترين و لم يكن من الصادقين.وكان ضروريا أيضًا أن يصرح القرآن عند الحديث عن عداء اليهود للمسيح أن الله أعطاه من البراهين على صدقه مثلما أعطى غيره من الأنبياء الذين يصدقهم اليهـود أنفسهم.فذكر من هذه البراهين الساطعة على صدق الأنبياء برهانين.أولهما أنــــه أوتى البينات..أي الحجج الواضحة التي يظهر بها صدق النبي، وثانيهما التأييــــد بروح القدس الذي لا غنى لأي نبي عنه.ولقد تناول ذكر البينات وروح خاصة عند الحديث عن المسيح أيضًا لأن اليهود إنما كانوا يعترضون عليــه لأنـه أولا - لم يرهم آية معجزة، وثانيا - لأنه معاذ الله نجس، وأن روحا شيطانية تنزل عليه.وقد ورد اعتراضهم بأنه لم يرهم آية معجزة فيما يلي: "حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين يا معلم نريد أن نرى منك آية.فأجاب وقال لهم: جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان (يونس) القدس

Page 29

٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني النبي.لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالي..هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالي" (متى ١٣: ٣٨-٤٠).أما اعتراضهم بأن الشيطان ينزل عليه فقد جاء فيما يلي: "وكان يخرج شيطانا وكان ذلك أخرس.فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس، فتعجب الجموع.وأمــــا قوم منهم فقالوا: ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين "(لوقا ١١: ١٤ ،١٥).بل إنهم سموا المسيح بعلزبول، وذكر هو ذلك وهو ينصح تلاميذه قائلا: "إن كانوا قد لقبوا رب البت بعلزبول فكم بالحري أهل بيته"(متى ٢٥:١٠) فبقوله "آتينا عيسى بن مريم البينات يدحض الله اعتراض اليهود الأول ويقول: لقد أريناكم على يد المسيح آيات عظيمة.هذا مع العلم بأن الإنجيل – للأسف الشديد لا يذكر من معجزاته ما يكون حجة على اليهود كانت له معجزة واحدة هامـــة في هذا الصدد، ولكن النصارى لجهلهم قد جعلوها موضع شبهة.إنها تلك التي تحدث عنها المسيح نفسه حيث قال: لا تعطى لهم إلا آية يونس النبي.وكانت آية أنه مكث في بطن الحوت حيا لثلاثة أيام وثلاث ليالي، وخرج منـه حيــا.ولكن النصارى يقولون إن المسيح مات على الصليب ودخل القبر وهو ميت، ثم قام من الموت وصعد إلى السماء.لقد كان لهذه المعجزة شقان: شق يتعلق بالناس، وجعله النصارى أنفسهم مشتبها فيه باعتبار المسيح مات على الصليب ودخل القبر ميتا، وشق آخر يتعلق بقيامه من الأموات وهذا ما لا يصدقه اليهود فكأن الآية الوحيدة التي قدمها المسيح لليهود أيضًا لم تتحقق طبقا للإنجيل؛ لأن أحد شقيها لم يتحقق حسب قول النصارى، بينما الشق الثاني ليس حجة على اليهود.فقد ذكر الله البينات هنا خاصة ليفند اعتراض اليهود على المسيح، و لم يكن هناك لذكرها في حق الأنبياء الآخرين..لأنهم لم يعترضوا بمثل هذا الاعتراض، وإنما كان المسيح هو الوحيد الذي قوبل به ولذلك مست الحاجة لدفع زعم اليهود والنصارى بان المسيح لم ير أية آية فقال كلا بل آتيناه العديــد مـــن الآيـــات يونس أي البينات.

Page 30

۲۷ سورة البقرة الجزء الثاني وكان اتهامهم الثاني أن روحا شيطانية تنزل على المسيح، فأبطلـه الله تعالى بقوله:"وأيدناه بروح القدس".إن النصارى كما أبطلوا معجزة المـ المسيح الوحيــدة بقولهم إنه مات على الصليب ودخل القبر وهو ميت..كذلك فإنهم أيدوا موقف اليهود في قولهم إن المسيح كان على صلة في الشيطان إذ قالوا في الإنجيل: إن الشيطان امتحنه (متى: (٤).والحق أنه لا يمكن للشيطان أن يتجاسر على اختبار نبي، بل إنه لا يجرؤ على الاقتراب منه..ولكنهم مع ذلك ذكروا هذه الأشياء في الإنجيل وبالتالي ساندوا اليهود في موقفهم وحيث إن الأنبياء الآخرين لم يتعرضوا لمثل هذه التهمة..لذلك الله المسيح خص وحده بهذا التصريح، وبرأه من تهمة اليهود وقال "وأيدناه بروح القدس".إلى هنا كنت أوضح سبب ذكر المسيح منفصلا للرد على موقف اليهود، أما الآن فأتناول الموضوع في ضوء موقف المسيحيين القائل إنه ذكر منفصلا عـن بـاقي الأنبياء لأنه أرفع منهم مكانة، بل هو إله أو ابن اله.والجواب أولا - الأنبياء المذكورون في قوله"وقفينا من بعده بالرسل" ما كانت لهم أمة منفصلة في عهد الرسول ﷺ فمثلا لم تكن لداود أمة خاصة، ولا لسليمان، ولا ليحى، ولا لإلياس ولا لزكريا، ولا لدانيال ولا حزقيال عليهم السلام.فمـا كان هناك أي داع لذكر كل واحد منهم ذكرا منفصلا.ولكن عيسى كانت لـــه أمة منفصلة عن اليهود فكان من الضروري ذكره منفصلا...وثانيا- إن أمة عيسى نزعت عنه رداءه الحقيقي وهو النبوة، وخلعوا عليــه مـــن عندهم رداء البنوة الله تعالى فكان لا بد من ذكره منفصلا لنزع هذا الرداء..رداء الألوهية الكاذبة.أما باقي الرسل المبعوثين في بني إسرائيل من بعد موسى فكانوا لا يفرقون بين أحد منهم، وإنما كانوا يعتبرونهم سواسية كأسنان المشط لذلك لم يذكر كل واحد منهم على حدة.الواقع أن الله تعالى قد نزل هذه الآية لإبطال عقيدة النصارى في المسيح، موضحا لهم أن زعمهم بكونه إلها أو ابن إله جهل منهم..إذ لم يكن إلا رسولا مـؤيــــدا بالبينات وروح القدس، وليس في هذا أية خصوصية له..لأن جميع الرسل بـدون

Page 31

الجزء الثاني ۲۸ سورة البقرة استثناء قد أيدوا بالبينات طبقا للنظرية الإسلامية.كما أن النصوص القرآنية البينــــة والأحاديث النبوية الشريفة تصرح بإمكان نزول روح القدس حتى على غير الأنبياء.وإذن فكون المسيح قد أوتي البينات وأيد بروح القدس ليس بدليل على أنه نبي ذو شرع مستقل أو أنه إله أو ابن إله.إن أول كلمة في الآية تبطل كونه أحد الأقانيم الثلاثة: حيث قال الله تعالى "وآتينا عيسى بن مريم البينات"..فهل يعطي أحد شيئا للإله؟ كلا، إنه في غنى عن كـــل شيء، وإنما هو الذي ينعم على الآخرين...ثم إن كلمة البينات أيضًا تبطل عقيدة بنوة المسيح الله تعالى إذ لا يمكن أن يكون إلها من يحتاج لإثبات صدقه إلى بينات تعطى له من غيره الأشياء في الدنيا على نوعين مادية وغير مادية والمادية تحصل بالسبب والمسبب، وتحتاج لإثبات وجودها إلى دليل خارجي.وأما غير المادية فليست بحاجة إلى سبب ومسبب ودليل خارجي، وإنما تشكل بنفسها دليلا على وجودها..كما قيل بالفارسية: "آفتاب آمد دليل آفتاب"..أي الشمس نفسها دليل على وجودها.وحيث أن المسيح عليه السلام احتاج لإثبات صدقه إلى أدلة خارجية فثبت أنه مخلـوق ولـيـس بخالق، والمخلوق لا يمكن أن يكون إلها.ثم إن قوله تعالى: "وأيدناه بروح القدس" أيضًا يوضح أن المسيح المسيح كان بحاجة إلى مساعدة الآخرين، ومن احتاج مساعدة من غيره كيف يكون إلها؟ إنما يحتاج إلى مساندة الآخرين الضعيف؛ ومن المستحيل أن يسمى الضعيف إلها أو ابـن إلـه.فكلمة "أيدناه" تنفي وجود شيء كالألوهية في ذات المسيح، موضحة أن الله تعالى هو الذي زكى المسيح ،وقدسه، وبدونه فلم يكن المسيح إلا مجرد مضغة من اللحم.وإذن فهذه الكلمات ليست دليلا على ألوهية المسيح..وإنما هي ضربة قاضية على الزعم بألوهيته.ويبين الله في قوله "أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم..ففريقا كذبتم وفريقا "تقتلون أن الأنبياء يبعثون عند انحراف الناس عن جادة الحق، ولذلك لا بد أن تكون تعاليمه بخلاف ما عند القوم من اتجاهات وآراء.ولكن من عــــادة

Page 32

۲۹ سورة البقرة الجزء الثاني اليهود رفض كل ما يتنافى مع آرائهم ومن أجل ذلك عاملوا كل نبي باستكبار.وإذا كانوا قد كذبوا بعضهم باللسان فقد خططوا لقتل البعض الآخرين.فالله تعالى يذكر اليهود بشقاوتهم هذه ويقول ما دمتم مصممين على الإنكار والرفض.فكيف نصدق قولكم أنه لو بعث نبي من بني إسحاق لصدقناه؟ فقولكم هذا كذب صريح ولا شك.وقوله تعالى "ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون قد يعني أنه كذبتم بعضا منهم وقتلــتم بعضهم كما استشهد سيدنا يجى عليه السلام.ولكن حيث إن الله قد فرق بــين صيغتي "كذبتم" و "تقتلون" لذلك قد يكون في هذه إشارة إلى محاولة اليهود لقتل النبي لله والمعنى: أما الأنبياء الصادقون فكذبتموهم وأما هذا النبي فتحاولون قتله أو قتاله فتكون تقتلون بمعنى تقاتلون ومهما يكن فإنكم لم يتحسن حالكم ، بل زدتم سوءا، ولم تدخروا وسعا في معارضة رسل الله تعالى.وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (۸۹).شرح الكلمات: غُلف : جمع غلاف وأغلف.وهو الذي لم يُختن بعد.ويقولون: قلب أغلف أي لا يعي شيئا وسيف أغلف: أي أنه في غلاف لا يمكن أن يدخل فيه شيء (الأقرب).التفسير: إذا ما يفشل الإنسان في دحض حقيقة من الحقائق بالأدلة والبراهين، ولا ينوي قبولها..فانه يتهرب منها ويتشبث بأعذار سخيفة.وتسوق هذه الآية عذرا من أعذار اليهود السخيفة..حاولوا به التهرب من قبول الإسلام.وفي هذا الزمن أيضا يحاول المتعندون اللجوء إلى مثل هذه المعاذير تهربا من قبول الحقائق التي بعث بها سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إلى العالم.إذا اعتبرنا كلمة غلف جمع غلاف..كان مرادهم من قولهم "قلوبنا غلـــف أن الله تعالى قد غطى قلوبنا كما تغطى الأشياء النفيسة الثمينة بغلاف يحفظها كي لا تتسخ..فلا تظنوا أننا سنتأثر من كلامكم كأنهم يقولون: ماذا تظنون بنا؟ إننا

Page 33

الجزء الثاني سورة البقرة أصحاب قلوب طاهرة مبرأة من كل دنس فلم نتأثر من كلامكم السخيف، ولقد جعلنا الله في مأمن من تأثيراتكم النجسة.ولو اعتبرنا كلمة 'غلف جمع أغلف وهو الذي لا يفهم شيئا..كان المراد من قولهم "قلوبنا غلف" أنهم حينما يعرض عليهم المسلمون الأدلة والبراهين فإنهم يتهربون منهم قائلين : قد يكون صحيحا ما تقولونه، ولكننا قوم جاهلون فلا نقدر على فهمه.فيعني بعضهم بهذا القول أننا لا نريد أن نتناقش معكم، فاذهبوا إلى علمائنا تناقشوا معهم واتركونا بينما يكون هذا القول من بعضهم علــى سـبيل السخرية، أو بتعبير آخر نحن لا نفهم هذه الأمور مع أننا ذوو عقل وفهم، فكيف يمكن أن تفهموها أنتم؟ أو أنكم تظنون بنا أن الله قد عاقبنا فجعل قلوبنا في غطاء، فلماذا تأتوننا بعد ذلك وتشرحون لنا هذه الأمور ؟ وإذا اعتبرنا غلف’ بمعنى كنوز العلم..فالمراد أن قلوبنا كنوز العلم ولسنا بحاجة إلى معارف جديدة.وقد يعني قولهم "قلوبنا غلف" أن قلوبنا نجسة.وهذا يعني أنهم عندما يعجزون عن الجواب يتهربون قائلين: نحن قوم نَجَس، فاتركونا وشأننا وناقشوا أحدا غيرنا.ذلك بالرغم من أن هدى الله لا ينزل إلا ليهتدي به الذين هم نجس.وقد يكون قولهم هذا نفورا من المسلمين، بمعنى: لماذا تنصحوننا ما دمتم تروننا نجسا غير طاهرين.بل لعنهم الله" يقول الله سبحانه وتعالى سواء أكان قولهم قلوبنا غلف تهربا من النقاش، أو سخرية بالمسلمين، أو تفاخرا بما لديهم من علم..فإن لعنة الله قد صبت عليهم فعلا وهي التي سببت حرمانهم من قبول الحق.وكلمة" بكفرهم" تبين أن نزول اللعنة عليهم يرجع إلى كفـرهـم برســــل الله ومعارضتهم إياهم..فما هم بأغبياء حتى لا يفقهوا قولكم ولا هم عقلاء جدا حتى يستغنوا عن أي نصح وإرشاد؛ وإنما السبب الحقيقي هو أن الله تعالى قد لعنهم، مما جعلهم الآن يصرون على إنكار تعاليم الإسلام رغم كونها أفضل من التعاليم الأخرى، وتقبلها الفطرة الإنسانية ويطمئن إليها العقل السليم.

Page 34

الجزء الثاني كما أن قوله " لعنهم الله بكفرهم " ۳۱ يكشف سورة البقرة عن حقيقة..هي أن الله تعالى لا يلعن أحدًا دونما سبب، وإنما السبب الحقيقي لذلك هو كفرهم وإلا فإن الله الرؤوف الرحيم بعباده لا يحرمهم من حبه ورحمته إنه -تعالى- لا يسد أبـواب قربـه في وجوههم إلا إذا أغلقوا بأيديهم أبواب رحمته لهم.ويمكن أن يفهم قوله تعالى" فقليلا ما يؤمنون" بطريقتين: أولا أنهم يؤمنون إيمانًــــا قليلا ناقصا بمعنى أنهم يؤمنون ببعض الأمور ويكفرون ببعض..كما سبق أن حكى الله عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.وثانيا - أنهم لا يؤمنون أصلا..لأن لفظة قليلا تأتى للنفي أيضا..فقد كتب العلامة أبو البقاء أنه يمكن اعتبار ما نافية، والتقدير أنهم لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا (إملاء ما من به الرحمن ، أي أنهم محرومون من الإيمان كل الحرمان.وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (9.) شرح الكلمات: يستفتحون - استفتح فلان : طلب الفتح واستنصر.استفتح الباب: فتحه (الأقرب).التفسير : قوله تعالى "مصدق لما معهم "..التصديق على نوعين: الأول- كقولنــا مثلا: زيد صادق، بمعنى أنه لا يمكن أن نعزوه إلى الكذب، والثاني-مثلا يقول زيد إن بكرا سوف يحضر..فيحضر بكر ؛ فقد صدَّق بكر زيدا..حيث حقق ما قال.وهنا لا يعني قوله "مصدق لما معه" أن القرآن الكريم يصدق ويقبل كل ما ورد في فقط أنه حقق بنزوله نبوءات التوراة الواردة في شأنه وشأن التوراة، وإنما يعني النبي الكريم.ولإقامة الحجة على اليهود..بين الله هنا أن القرآن هو ذلك الكتاب الذي تنبأت بظهوره كتب اليهود، ولو لم ينزل القرآن للزم تكذيب نبوءات التوراة، ولكـــن

Page 35

۳۲ سورة البقرة الجزء الثاني جاء فصدقها.فإذا كانوا حقا مؤمنين صادقي الإيمان بكتبهم..لوجــب عليهم تصديق القرآن حتى يتم تصديقهم الفعلي بالتوراة.وقوله تعالى وكانوا" من قبل يستفتحون على الذين كفروا" يمكن تفسيره على وجهين: الأول - أنهم كانوا يعيشون تحت سلطة الكفار، فكانوا يدعون الله أن ينصرهم عليهم ربنا ابعث النبي الموعود، وهيئ الأسباب لانتصارنا عليهم.والثاني - أنهم كانوا لا يزالون يكنون لكتبهم حبا واحتراما، ولذلك كانوا يفتحون على الكفار أبواب النبوءات الواردة في كتبهم، ويخبرونهم أن الله قد وعدنا بـنبي صفته كذا وكذا، وعندما يبعث سنتغلب على الكفار جميعا (السيرة النبوية لابـــن هشام، إنذار اليهود برسول الله الله وهذا ما حدا بأهل (يثرب) المدينة المنورة إلى تصديق النبي.فلقد هاجرت إلى يثرب قبائل يهودية واستوطنوها لأنهم علموا من آباءهم أن النبي الموعود سوف يبعث فيها أو في ضواحيها.وكانوا يذكرون هذه الأنباء لأهل يثرب ويخبرونهم أن سوف يبعث فينا نبيا يمحو به الكفر، ويظهر الدين الحق على غيره من الأديان.وفي بعض الأعوام ذهب سكان المدينة إلى مكة المكرمة للحج..فسمعوا أن أحد أهلها يدعي النبوة، فتشاوروا فيما بينهم وقالوا يقول اليهود أن نبيا سوف يبعث، ومن لم يصدقه يهلك، واليهود قوم أذكياء، ذوو مال وقوة..عسى أن يؤمنوا بــه فيتغلبوا علينا، فتعالوا نؤمن به وننج من الهلاك.وعندما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بدعوة النبي ﷺ فآمنوا به كلهم تقريبا (المرجع السابق، بدء إسلام الأنصار).ولكن اليهود بدءوا يسمون المؤمنون به الا الله ، كفارا ، مع أنهم كانوا من قبل يأتونهم بكتبهم ويقرؤون عليهم النبوءات المتعلقة ببعثة نبي موعود، ويتباهون أمامهم أننــــا سوف نسوي حسابنا معكم عندما يبعث هذا النبي الموعود.فلما جاءهم الـ كفروا به، وجعلوا يؤولون هذه الأنباء.وهذا هو واقع المسلمين اليوم كانوا ينتظرون المسيح والمهدي الموعود ليأتي ويحقق انتصارهم على الكفار، فلما جاءهم بدءوا يؤولون أنباء مجيئه ويقولون: ليس هناك أي نبأ كهذا..إن هي إلا أفكار خاطئة تسربت إلينا من المجوس.

Page 36

الجزء الثاني } سورة البقرة قوله تعالى: "فلعنة الله على "الكافرين" يمكن أن يكون قولا عاما، ولكنـــه عنـدي خاص بهؤلاء الكفار الذين كانوا قبل بعث النبي يبتهلون إلى الله تعالى أن يبعث رسوله الذي يظهر دينه على الأديان الباطلة كلها، ولما جاءهم ورأوا بالآيات أن الحق بدأ يغلب الباطل، وأن غلبته الكاملة وشيكة..كفروا به.فكفرهم به برغم رؤية الحق واضحا، وبعد قيام الحجة عليهم وبعد ابتهالاتهم إنما يدل على أن لعنة الله قد حلت بهم، وإلا كيف يمكن أن يكفروا بالحق الذي حصحص وتبين هكذا من دون أي مبرر؟ الواقع أننا حين ننظر إلى العرب الذين كانوا يحسبون موسى وغيره من أنبيـاء إسرائيل كذابين مفتريين كيف بدءوا بسبب إيمانهم بالنبي - يحبونهم ويحترمونهم كالصادقين..حينما نرى هذا نتعجب من سلوك اليهود مع فماذا أصابهم حتى سبقوا كفار العرب في عداوتهم وإيذائهم لهذا المحسن إليهم ؟ 鹦 بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ.(۹۱) شرح الكلمات : اشترى- يأتي بمعنى الشراء والبيع كلاهما (الأقرب).التفسير : قوله تعالى "بئسما اشتروا به أنفسهم يتضمن موضوعا واســـعـا جــــدا، وهاك بيانه بإيجاز.يتبين من القرآن الكريم أن إيمان العبد بربه عز وجل صفقة بينهما بحسب قوله تعالى : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" (التوبة: ١١١)..ولا ينال العبد الجنة إلا بعد مماته، لذا لابد –كما يحدث في المعاملات المالية من تقديم الإيصال أو الصك كمستند يدل على حصول هـذه الصفقة.وقد أتى الله هذا الصك للعبد في قوله "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية.فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" (الفجر: ٢٨-٣١).وكـــــان

Page 37

الجزء الثاني رضوان الله ٣٤ سورة البقرة عن العبد، ورضا العبد عن ربه في الدنيا..هو الصك، لأن التراضي بين البائع والمشتري هو الدليل على صحة أي صفقة.وكان مقام العبودية المذكور في قوله تعالى فادخلي في عبادي هو تلك التذكرة التى يدخل بها المؤمن جنة الله.وأيضًا قال الله" فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام "(الأنعام: ١٢٦)..أي من يرد أن يكتب له النجاح ويدخله الجنة يشرح صدره لقبول الإسلام.والإسلام يرادف الإيمان هنا..فكان انشراح الصدر أيضًا تذكرة لدخول الجنة.والحق أن العبودية وانشراح الصدر شيء واحد، لأن التعبد يعني التذلل والانقياد وقبول نقش الآخر.والعبد الكامل من يقبل نقش الله، وهذا هو معنى انشراح الصدر أيضًا.الله الجنة مقابل وإذن، فمن المتحقق أن المؤمن يعقد صفقة الإيمان بالله ومن جانبه يسلم إليه كل ماله ونفسه فيؤتيه ذلك.وحيث إنه لا يحصل على الجنة إلا بعـد الممات، لهذا يعطى في هذه الدنيا بطاقة دخولها وكيف يعرف أنه سوف يدخلها أم لا؟ البطاقة الدالة على الدخول هي انشراح الصدر للإسلام والعبودية.وهنــا قــد يتساءل بعضهم : ما هو طريق فسخ هذه الصفقة لمن أراد ذلك ؟ والجواب أن الله تعالى سوف يقول له رد إلي تذكرة الجنة وخذ مالك.إن قوم موسى عندما آمنوا بالله تمت صفقتهم مع الله وحصلوا على بطاقة دخـــول وكذلك تمت هذه الصفقة بين الله وأتباع عيسى عندما آمنـــوا بـــه و كـــان الشعبان مؤمنين في زمنهما.وكذلك فعل المسلمون وعقدوا مع الله الصفقة وأتاهم بطاقة الجنة.ولكن اليهود لحماقتهم فسخوا هذه الصفقة وردوا بطاقة الجنــة الــتي أعطاهم الله إياها.ردوا الإيمان والإسلام واستردوا أموالهم وأنفسهم، فقال الله تعالى " بئسما اشتروا به أنفسهم.".الصفقة الأولى كانت صفقة مباركة، ولكـــن الثانية خاسرة ومهلكة جدا.لقد كان ما أتاهم في الصفقة الأولى خيرا مما أخذ الجنة.و منهم.

Page 38

٣٥ الجزء الثاني سورة البقرة فما هو السبب في فسخ صفقتهم يا ترى ؟ تفسخ الصفقات لسببين: إما أن يكون المال المأخوذ أسوأ من المدفوع، أو يكون الثمن المدفوع أكثر من القيمة الحقيقية للبضاعة المشتراة.والآن، إذا بحثنا عن سبب فسخ اليهود بيعهم مع الله تعالى..وجدنا أنه ليس ثمة سبب من هذين السببين وراء فسخهم البيع، وإنما فعلوا ذلـــك بغيا وشرا، حيث قالوا: لماذا أعطى الله الآخرين من هذه البضاعة؟ فما أدل قـــولهـم هذا على حمقهم وغبائهم هل يجوز لأحد أن يعترض على تاجر ويقول له: لمــــاذا تتاجر مع أحد سواي؟ وقد ذكر الحديث هذا التفكير اليهودي الخاطئ، حيث ضرب النبي مثلهم كمثل الذي استأجر عمالا..فعمل بعضهم من الصبح إلى الظهر، وبعضهم مـــن الظهر إلى العصر، وبعضهم من العصر إلى المغرب..و أعطى الجميع أجرة متساوية.فقال الذين عملوا من الصباح إلى الظهر أو من الظهر إلى العصر لصاحب العمـــــل: إن الذين عملوا ما بين العصر والمغرب لم يبذلوا مثل جهدنا، ومع ذلك أعطيتهم مثل أجرنا هذا ليس عدلا فقال أنا حر في ذلك ما انتقصت حقكم، فعـــلام تعترضون؟ وقال النبي إن هذا هو حال اليهود والنصارى والمسلمين.(البخاري، مواقيت الصلاة فما أن رأى اليهود والنصارى أن الله تعالى قد تفضل علــى المسلمين بالنعم التي أوتوها من قبل..قالوا حسدا وغيظا : لماذا أوتي المسلمون هذه النعم مع أنهم جاءوا بعدنا؟ ولماذا نالوا الجنة التي كان من المفروض أن ننالها وحدنا؟ بل وفتح أبواب النجاة والجنة لكل أمة تدين بدينهم وتبين الآية أنهم هكذا جلبــــوا على أنفسهم غضبا مضاعفا..حيث رفضوا الإسلام وآثروا الكفر وحرمـــــوا مـــــن الإيمان من ناحية، ومن ناحية أخرى ماتوا حسدا وكمدا.وكأنهم فسخوا البيع بغيا وحسدا، صارفين النظر عن مصلحتهم." و باعتبار اشتروا" بمعنى باعوا..يكون بيع النفس لشيء" بمعنى الانهماك فيه.ويكون المراد من قوله تعالى "بئسما اشتروا به أنفسهم" أنهم انهمكوا في بشكل خطير، وكل ذلك حسدا على نيل المسلمين النبوة.

Page 39

٣٦ الجزء الثاني سورة البقرة قوله تعالى "فباءوا بغضب على غضب" يبين أن الله صب على اليهود غضبه متواليا كأنما صار الغضب خاصا بهم.فقد ورد في الحديث الشريف أن النبي ﷺ لما سئل عن " المغضوب عليهم المذكورين في سورة الفاتحة قال : هم اليهود الترمذي اليهود"الترمذي ومسند أحمد "..ذلك لأنهم عارضوا الأنبياء باستمرار فنزل عليهم الغض باستمرار.وكلمة غضب" على غضب" تشير إلى غضب مضاعف، حيث إنهم جعلوا غضب الله عليهم المرة الأولى بكفرهم بالمسيح الناصري، والمرة الثانية بإنكارهم النبي.ويبين قوله تعالى وللكفرين عذاب "مهين أن لا بد أن يكون مصير الحاسدين الخزي والهوان فمعارضة الإنسان لدين ما بنية صالحة شيء وارد، أما اليهود فقد عرفوا صدق النبي ﷺ بناء على النبوءات الواردة في كتبهم، ومع ذلك أصروا على إنكاره.والذي يكفر بالحق متعمدا فلا بد أن يلقى الخزي والهوان، بل لو آمن فيما بعد فلا مفر له من أن يخزيه الناس ويعيروه بأنه آمن وقد كان يكفر من قبل.وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمَنوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.(۹۲) التفسير : هنا يؤكد الله تعالى أن سبب كفر اليهود هو غضبهم لأنه أرسل رسوله من غيرهم، فإذا قيل لهم آمنوا بما نزل في القرآن الكريم قالوا: لا نؤمن إلا بما نزل علينا.وهم كاذبون في قولهم هذا، لأنهم لو كانوا صادقين في إيمانهم بكتاب موسى عليه السلام ما رفضوا النبوءات الواردة في كتبهم بشأن النبي.فإنكارهم لنبوءات كتبهم دليل قاطع على أنهم كاذبون في دعواهم "نؤمن بما أنزل علينا ".لو كانوا أمناء لفكروا أنهم بكفرهم بالنبي الله لقد أساءوا إلى دينهم هم، لأن كتبهم تنبئ بمجيء نبي جديد وكتاب جديد، وأن علامات ذلك الرسول وذلك الكتـــاب تنطبق حرفيا وتماما على النبي الكريم وعلى القرآن المجيد.وإذا فليس كفرهم إلا

Page 40

۳۷ سورة البقرة الجزء الثاني كفرا بكتبهم وسلوكهم يبين أن تلك العلامات المذكورة علامات باطلة عندهم، ويمكن أن توجد أيضا في مدع كذاب، أو أن الشيطان أيضا-والعياذ بالله- يظهــر الناس على الغيب، وأنه ذكر للأنبياء السابقين في شأن ظهور ذلك النبي الموعود علامات يمكن تحققها في الكذابين أيضًا.ومن قولهم: نؤمن بما أنزل علينا يستنبط أيضا أن الله عندما يتكرم على أحد بنعمة يتمتع بها كل القوم..فكأنه تكرم بها على القوم جميعا.فنرى أن التوراة لم تنزل على اليهود بل على موسى عليه السلام، ولكنهم يقولون: "ما أنزل علينا"..ذلك لأن اليهود كلهم استفادوا منها كشعب.وللأسف الشديد أن المسلمين اليوم يقولون: لماذا نقبل الإمام المهدي والمسيح الموعود..بعد إيماننا بالقرآن؟ فكأنهم قد أصبحوا مصداقا لقول " نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه".ويعني قوله "وهو الحق مصدقا لما "معهم أن ما أنزلنا على هذا النبي (القرآن الكريم) حقيقة أبدية لن تزول، بل لا بد أن تتحقق هذا لأن الكلمات التي تعبر عن الصدق في العربية كلها تتضمن معنى الدوام.فقوله هو الحق يبين أنه حقيقة أبدية لا مناص من تحققها..فما الذي يجديكم إنكارها ؟ لماذا لا تؤمنون بها الآن؟ الحق أن النبوءات الواردة في التوراة في شأن النبي الكريم قد تحققــت كلـها بالقرآن الكريم وبوجوده ثبت صدقها.ويحاول المسيحيون تطبيق بعــض هــذه النبوءات على المسيح الناصري، ولكن العلامات المذكورة فيها تبين خطـأهم.فالنبوءة الأولى وردت في سفر التثنية، وهي من الوضوح والجلاء بحيـث يتعــذر تطبيقها على المسيح بأي صورة تذكر التوراة أنه عندما ذهب موسى ببني إسرائيل إلى جانب الطور طفق البرق يلمع في السماء في صورة مستمرة، وصاحبه أصوات شديدة فخاف بنو إسرائيل وقالوا لموسى: "اذهب أنت وتكلم مع الرب، أما نحـــــن فلا نريد سماعه ولا نسمعه أولادنا".فقال الله تعالى لموسى عليه السلام: "قل لهـــ إني سمعت كلامهم، وسوف أعاملهم حسبما يريدون"..أي لن أبعث فيهم بعـــد ذلك نبيا صاحب شريعة، بل سوف أبعثه من بين إخوانهم (تثنية ۱۸ ، ۱۷ - ۱۹).

Page 41

۳۸ سورة البقرة الجزء الثاني ومن المستحيل أن ينطبق هذا النبأ على المسيح الناصري عليه السلام، إذ لو حاولنا ذلك لوجب أن نسلم بأنه مثيل موسى عليه السلام، وهذا خطأ..لأن موسى نبي ذو شرع جديد، بينما عيسى ليس له شرع جديد ؛ والدليل على ذلك قوله: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء.ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم..إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحـــدة من الناموس حتى يكون الكل "(متيه: ۱۷ ،۱۸).ولو سلمنا جدلا أن المسيح نبي ذو شرع جديد لما كان أيضا مثيلا لموسى، لأنــــه عقيدتهم- اعتبر الشريعة لعنة، وهو بنفسه صار ملعونا- معاذ الله! ثم إن النبوءة الواردة في سفر التثنية تقول إن النبي الموعود سوف يبعث مــن بـين إخوتك، ولكن الإنجيل يقول إن المسيح من نسل داود ولو طبقنا النبوءة على المسيح لوجب أن نقول إنه ليس من نسل داود، ويكون بوسع المسلمين أن يخطئوا إنجيلهم.والتاريخ أيضا يؤكد أنه عليه السلام كان من بني إسرائيل وليس من بـــني إسماعيل إخوة بني إسرائيل، فليس بنو إسرائيل مصداقا لنبأ "من إخوتك" وإنمــــا إخوتهم بنو إسماعيل.وأيضًا لو كان المسيح هو المراد من النبوءة..للزم أن يعلن أنه هو مصداقها، ويدعي أنه مثيل موسى.ولكن الإنجيل لا يذكر أبدا أن عيسى قد ادعى بمثــل هـذه الدعوى..في حين أن القرآن أعلن أن محمدا لله هو مثيل موسى حيث قال: "إنــــا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا" (المزمل:١٦).وذكر مثيل موسى هذا في قوله تعالى: "قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم بــه وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم.إن الله لا يهدي القــوم الظالمين " (الأحقاف: ۱۱)..أي قل يا من لا تتدبرون القرآن، أخبروني؛ إذا كـــان هذا الكلام من عند الله وكفرتم به من دون تدبر فماذا تكون النتيجة، مع أن شاهدا من بني إسرائيل –وهو موسى- قد شهد على مثيل له، فآمن هو، ولكنكم استكبرتم ؟ ألا فاعلموا أن الله لا يهدي القوم الظالمين طريق الفلاح.

Page 42

۳۹ سورة البقرة الجزء الثاني تشير هذه الآية القرآنية إلى نفس نبوءة موسى الواردة في التثنية ١٨، وقد ذكرهــا القرآن هنا تدليلا على صدق النبي ، وبين أنه مثيل لموسى.ولكن عيسى لم يقل أبدا بكونه مثيلا لموسى بل إنه أنكر كونه مثيلا له حيث جاء: فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم لكي تأتى أوقات الفرج من الرب.ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم من قبل.الذي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم الرب إلهكم من إخوتكم.له تسمعون في كل من يكلمكم به.ويكون أن كل نفس لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب.وجميع الأنبياء أيضا من صموئيل فمـــا بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبئوا بهذه الأيام أنتم أبناء الأنبياء والعهد الذي عاهد به الله آباءنا قائلا لإبراهيم وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض.إليكم أولا إذ أقام الله فتاه يسوع أرسله يبارككم برد كل واحد عن شروره (أعمال ١٩:٣-.(٢٦ أن يتضح من هذا أنه لن يأتي يسوع المسيح مرة ثانية ما لم تتحقق جميع النبوءات التي تنبأ بها موسى.كما أن كلمات ويرسل المسيح المبشر لكم قبل الذي ينبغي السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسيين منذ الدهر، فإن موسى قال للآباء إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم..هذه الكلمات تؤكد أن مثيل موسى كان ليبعث بعد البعث الأول للمسيح وقبل نزوله ثانية.وقد بعث المسيح أولا قبل مبعث مثيل موسى، ولن ينزل مرة ثانية ما لم يتحقق كل ما تنبأ به موسى في شأن مثيل له.

Page 43

٤٠ الجزء الثاني سورة البقرة كذلك ورد في سفر الثنية بلسان موسى فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران وأتى مع عشرة آلاف قدوسي،* وعن يمينه نار شريعة لهم (تثنية ٢:٣٣).الله نبي في مكان عنهم ورضوا وتشمل هذه النبوءة التوراتية عدة علامات تختص بالنبي الموعود وهي: أولا-أنه تلألأ عليهم من جبل فاران.ويقع هذا الجبل في منطقة مكة المكرمة.ثانيا - أنه يأتي مع عشرة آلاف قدوسي وهو إشارة إلى حادث فتح مكة حيث كان مع التي عشرة آلاف ،صحابي و لم يجتمع هذا العدد الكبير مع أي واحد.ويدل على كون الصحابة قدوسين قول الله تعالى "رضي عنه (التوبة: ١٠٠)..في حين أنه لم يتجاوز عدد حواربي المسيح الناصري اثني عشر، ورغم ذلك العدد القليل فإن أحدهم باع المسيح بثلاثين دينارا وساعد أعداه في القبض عليه (متى ٤:٢٦-١٦).أما أصحاب النبي الله فكانوا من الوفاء والفداء بحيث إنهم لم يخذلوه أبدا حتى في أحلك الظروف، بل دافعوا عنه بأرواحهم.ثالثا أن يكون في يمينه نار شريعة.ولو اعتبر المسيح مثيل موسى للزم بطلان هـذه النبوءة..لكون المسيح لم يأت بشرع جديد.وقد سمي الشرع القرآني هنا نار" شريعة"..لأن في النار فائدتين: الإحراق والإنارة.فالماء الحار أو الحديد الحار يمكن أن يحرق ولكن لا ينير أما النار فتحرق وتضيء أيضًا.فكان في تسمية القرآن نار" شريعة " إشارة إلى كونه نارا ونورا.فهو نــــار لأنه يحرق كل السيئات والمفاسد، وهو نور يستنير به الخلق.فهذه النبوءة تنطبــــق على النبي الذي كان في رفقة عشرة آلاف صحابي يوم فتح مكة، وهو وحــــده الذي جاء بشرع جديد بعد موسى.حرفوا هذه الكلمات في بعض الطبعات الجديدة خاصة العربية، ولكنها موجودة في الطبعة الأردية British And Foreign Bible Society لاهور ۱۸ و ۱۹.وفي الطبعة الإنجليزية ".Oxford Univ Press London New york, Toronto "و" هناك صورة لها في آخر الكتاب

Page 44

٤١ سورة البقرة الجزء الثاني وهناك علاوة على هاتين النبوءتين أنباء أخرى أيضًا تصدق تماما على النبي ، وقد وردت في الأسفار التالية: اشعيا ٨ : ١٤ - ۱٦ ، ۱۳:۹-۱۷ ،۹:۲۸-۱۳ ،٣:٣٥-٤٠،٨:۹ - ۱۲، ۱۹:۱۲ - ۱۳ ۶۲۹-۰:۴۹: ٢-٤، نشيد الإنشاد ١٠:٥ - ١٦ ، متى ٤٢:٢١، ٤٤.ودانيال ٧.فخلاصة القول أن الله تعالى يبين أن تعليم القرآن صدق وحق من ناحية، والإيمــــان به تصديق لنبوءات الكتب السابقة، وكفر أهل الكتاب به يؤدي إلى كفرهم بكثير مما ورد في كتبهم.لقد قدم الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على صدق هذا التعليم القرآني: أولا - أن الله تعالى هو الذي أنزله ثانيا - لا يمكن للعالم ،مقاومته بل لا بد أن ينتشر ويسود الدنيا.ثالثا- أنه يصدق ويحقق ما ورد في كتبكم من نبوءات في شأن النبي الموعـــود وكتابه، ولئن كفرتم به كفرتم بكتبكم أيضًا ولن تعودوا مؤمنين بها.ولكن انظروا كيف أن اليهود كانوا ينتظرون النبي الموعود حتى أنهم كانوا يسمون أولاد هم باسم محمد، رجاء أن يبعث النبي الموعود فيهم (أسد الغابة، ذكر محمــد بن أحيحة).ولكن لما بعث النبي الموعود كفروا به قائلين: كيف يمكن أن يبعث من بين بني إسماعيل..وكان المفروض أن يأتي ويزيدنا نحن قوة وشوكة؟ وقال النصارى بل المراد به قوة الكنيسة وهكذا جعلوا يؤولون نبأ مجيئه بتأويلات سخيفة شتى، مع أنهم لو آمنوا بالرسول لازدادوا قوة ونجوا من الدمار.وفي قوله تعالى "فلم تقتلون أنبياء الله من قبل" تأنيب لليهود بأنكم لو كنتم حقــــا صادقين في قولكم بأنه لو بعث النبي من بيننا لآمنا به، فلماذا لم تؤمنوا بالأنبيـاء الذين بعثوا من بينكم، بل عارضتموهم وحاولتم قتلهم.فلا شك أنكم تكذبون.والحقيقة أن المرء يكفر بالحق لفساد إيمانه وهذا هو السبب لكفركم بهذا الكلام إذ يدل سلوككم أنكم دائما وأبدا عارضتم وعاديتم الرسل.وقد أشار المسيح الناصري عليه السلام إلى هذه العادة القديمة في اليهود فقال: "يا أورشليم يا قتلـــة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها " (متى ٣٧:٢٣).

Page 45

الجزء الثاني ٤٢ سورة البقرة وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (۹۳) التفسير: كان قوله تعالى فلم تقتلون أنبياء الله من قبل "ردا وجيزا على قول اليهود: لو كان هذا النبي من بني إسرائيل لآمنا.والآن بدأ به.يرد عليهم مفصلا بأنكم تدعون الإيمان بموسى عليه السلام، وقد رأيتم معـه البينـات والبراهين ذلك لما ذهب إلى الطور ليتلقى البركة اتخذتم عجلا أشـــــركتموه في الله تعالى..فكيف تدعون أنه لو كان هذا النبي مــن بــني إسرائيل لصدقناه؟ وما دمتم قد عاملتم ذلك النبي الذي تتفاخرون بـه هـذه المعاملـة الواضحة، ومع العبادة مع موسی السيئة..فكيف يصدق قولكم لو كان هذا النبي من بني إسرائيل لآمنا به؟ هنا أيضًا ذكر الله أن موسى قد جاء بالبينات كما ذكر من قبل أنه تعالى أتـــى عيسى البينات، ورغم ذلك يستدل المسيحيون بكلمتين "البينات والمعجزات" على ألوهية المسيح وبنوته.ولو كانوا مصيبين في استدلالهم..فلماذا لا يؤمنون بألوهية أيضًا؟..وهذا يكشف أنهم مخطئون في استدلالهم هذا.قوله "وأنتم ظالمون إن غصب الحقوق (أي الظلم على نوعين: غصب حقوق الله تعالى، وغصب حقوق العباد.ولقد نبه الله اليهود بقوله "وأنتم ظالمون" إلى غصبهم حقوق الله..أي أنكم مشركون حيث تعتدون على حقوقي.علما بأن الظالم يعني أيضا المشرك..لأن الظلم لغويا يعنى وضع الشيء في غير محله، وحيث إن المشرك يعزو صفات الله تعالى إلى غيره لذا ظالما.يسمى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٤).شرح الكلمات: اسمعوا سمع له : أطاعه وأصل اسمعوا هنا: اسمعوا له، فحذفت له والمعنى: أطيعوه، لأن مجرد السماع بعد اتخاذ العهد والميثاق لا يعني شيئا.

Page 46

٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني أشربوا الإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، وقالوا: وأُشربتُ البياض حمرةً أي خلطته بالحمرة البحر المحيط].وأشرب فلان حــب فلان استولى حبه على قلبه يقول الشاعر: إذا ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عنه انصرافا معنا " اشربوا في قلوبهم العجل أن حبه استولى على كل ذرة من كيانهم.التفسير : لقد بين الله هنا مثالا آخر لإخلاف اليهود العهد، حيث يقول: تذكروا حينما أُخذ منكم عهد في زمن موسى، وتم ذلك في مكان مقدس بجانب الطــــور، ولكنكم أخلفتموه، ولم تكترثوا لحرمة المكان وقداسته.الحق أن العهد الذي يتم في مكان مقدس يتفوق على غيره من العهود أهمية وحرمة حتى أن القرآن الكريم أيضا يأمر بأخذ بعض الإيمان المعينة بعد أداء الصلاة (المائدة: ١٠٧)..ذلك لأن القلوب في ذلك الوقت تكون عامرة بخشية الله وخوفه.أما ذلك العهد الذي أخذ من بني إسرائيل فقد بينه وقال: "خذوا ما أتيناكم بقوة واسمعوا "..أي أطيعوا ولكنهم بدلا من الطاعة قالوا: " سمعنا وعصينا"..أي لقد سمعنا ما قلت ولكننا لن نطيعك.ويمكن أنهم لم ينطقوا بقول سمعنا وعصينا، وإنما عبر بهذه الكلمات عن عصيانهم العملي: أي أن حالتهم الروحية ساءت لدرجة أنهم ما كانوا يسمعون أمر الله وكانوا يعصونه.فكلمة (قال) قد ترد مجازا للتعبير عن حال الشيء، كمـا قــال الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني أي بلسان حاله قال: لم يبق في مكان فارغ وقد يكون المراد أنهم قالوا الكلمتين في وقت واحد.ذلك أن الإنسان يجيب بطريقتين : باللسان أو بالقلب، فقالوا سمعنا بأفواههم، بينما كانت قلوبهم لا تنفك مصرة على رفض هذه الأوامر قائلة: وعصينا.أما مسألة إشراب العجل في قلوبهم فقد تمت على النحو التالي بحسب التوراة: فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها.فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وآتوا بها إلى هارون.

Page 47

الجزء الثاني ٤٤ سورة البقرة فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا.فقالوا هذه آلهتك من أرض مصر.فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه.ونادى يا إسرائيل التي أصعدتك هارون وقال: غدا عيد للرب سفر خروج ٢:٣٢-٥).والمراد من إشراب العجل في القلوب إشراب حب العجل فيها..أي استيلاء حبه عليها، ذلك لأن الذهب لا يشرب.ويرد الله لعدة أيام؟ على اليهود بقوله "قل بئسما يأمركم به إيمانكم "..أي إن كنتم حقـــا مؤمنين صادقي الإيمان فكيف سوغ لكم إيمانكم الشرك في غياب موسى فالكفر أحسن من إيمان كهذا.وقد اختار الإمام المهدي والمسيح الموعود هذا الأسلوب القرآني في بيت من الشعر بالفارسية فقال: بعد از خدا بعشق محمد مخمرم گر کفر این بود بخدا سخت کافرم أي إني نشوان بعد عشق الله تعالى بعشق محمد..فإذا كان هذا كفرا فو الله إني كافر أشد الكفر (إزالة أوهام ص ۱۸۱).فالله تعالى يقول: إن كنتم تدعون بالإيمان فإن إيمانكم هذا يأمركم بأمور سيئة للغاية، حيث كنتم ولا زلتم تكفرون بالأنبياء.وسواء كان ذلك باللسان أو بالفعل فإنه لا يأتي بخير أبدا فكيف تدعون بالإيمان مع كل هذا؟ الأحسن أن تسموا إيمانكم هذا كفرا، لأن الإيمان ومعارضة الأنبياء ضدان لا يجتمعان.قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٥).التفسير: إن كل أمة تدعى بحصر النبوة فيها لا بد أن تحدد دائرة النجاة أيضًا.ولما كان اليهود يزعمون بكل شدة وقوة أن النبوة منحصرة في بني إسرائيل، لذا ظنــــوا أنهم وحدهم يحظون بنعم الله تعالى وينجون من عذابه في الآخرة، ولن تكتب النجاة لأمة سواهم.وهذا الزعم في بادئ الرأي أمر بسيط، ولكن نتائجه خطيرة

Page 48

٤٥ سورة البقرة الجزء الثاني بالغة الخطورة.وللأسف أنه لم يفطن لهذه الحقيقة قبل القرآن.إنه أمر سخيف يرفضه العقل تماما.ثم لم يكن اليهود وحدهم أصحاب هذا الزعم، بل كانت هناك أمم أخرى تزعم مثل زعمهم.فالهندوس مثلا يحصرون النجاة فيهم دون سواهم.والمسيحيون مع أنهم بدءوا اليوم يدعون عامة الناس إلى دينهم، ويقولون بأن كل من آمن بكفارة المسيح نجا من النار - ولكنهم أيضًا كانوا قبل بعث الم الناصري يقصرون النجاة عليهم وحدهم.ودعوتهم الناس إلى دينهم اليوم أيضًا ليست موافقة لتعليم المسيح نفــــســه فقـــــد قال : " لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة "متى ٢٤:١٥).ولما جاءته امرأة كنعانية غير إسرائيلية تستهديه قال لها في صرامة : ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب "(متى ٢٦:١٥).ثم إن الحواريين أيضًا لم يجيزوا دعوة الأمم الأخرى إلى أناجيلهم، فقد قيل: "أمــا الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس فاجتازوا إلى فينيقية وقبرص وأنطاكيا وهم لا يكلمون أحدا بالكلمة إلا اليهود فقط"(أعمال الرسل.(۱۹:۱۱ وعندما سمع الحواريون أن بطرس دعا غير الإسرائيليين في بعض الأماكن إلى المسيحية غضبوا جدا.وعند رجوعه إلى أورشليم خاصمه أهل الختان (أي بنو إسرائيل) قائلين: "إنك دخلت إلى رجال غير مختونين وأكلت معهم "أعمال الرسل ۲ ، ۱۱ : ۱).إذن، فالأناجيل تمنع من دعوة عامة الناس إلى المسيحية.ولما كانت المسيحية محدودة في أمة معينة، فلا بد أن تكون النجاة عندهم محصورة فيمن يؤمن بالمسيح.ولكـــن الإسلام يرفض بشدة الزعم بأن باب النجاة خاص بأمة معينة، بل إنه منح لكــــل إنسان حق النجاة وقال: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"..أي لم تكن الغاية من خلق الإنسان إلا ليكون عبدا لله، ويتصف بصفاته حتى تترأى في مرآة قلبه.لقد أبطل الله في هذه الآية اثنتين من دعاوى اليهود هما: أن الجنة حق مستحق لهم، وأنه لن يدخلها أحد سواهم، مبينا لهم أنكم تدعون أن الجنة تخصكم وحدكم وأن

Page 49

الجزء الثاني ٤٦ سورة البقرة النبوة قاصرة عليكم دون سواكم..فتعالوا تمنوا الموت حتى نحسم هذه المسألة إن كنتم صادقين.ولقوله تعالى" فتمنوا الموت إن كنتم صادقين " معنيان: الأول - تعالوا باهلوا المسلمين بالدعاء إلى الله تعالى أن يهلك الكاذبين؛ فإن تكونوا صادقين ينجكم الله وتزدهروا ويهلك المسلمين، والعكس بالعكس.وهكذا يتضح جليا من هم المقربون إليه ومن المغضوب عليهم، ويتبين أي الفريقين أقرب إلى الصدق في دعواه حــــول الجنة والنجاة..ذلك لأنه ليس هناك في الدنيا أي طريق آخر لاختبار صدق الأديان المختلفة إلا بتأييد الله لها ونزول الآيات السماوية للصادق منها.وجدير بالملاحظة أن الله تعالى لم يقل هنا فتمنوا موتكم بل قال (فتمنوا الموت) ذلك لأن من شروط المباهلة أن يدعوا كلا الفريقين بنزول عقاب الله على الكاذب منهما ولا يجوز تعيين فريق واحد.وذلك طبقا لما جاء في آية المباهلة (فنجعل لعنة الله على الكاذبين)(آل عمران ٦٢).والمعنى الثاني لقوله تعالى (فتمنوا) (الموت) هو : إذا كنتم صادقين في دعواكم أنكـــــم أنتم وحدكم أهل النجاة..للزم أن يكون كل فرد منكم متفانيا في حب الله قائما على قمة الصلاح والطهارة وقلبه مورد للأنوار الإلهية والبركات السماوية: فلم لا تقضون على حياتكم الدنيئة، ولماذا يجرف سيل حب الدنيا أمة تستحق الجنــة وحدها دون سواها، إنما كان عليها أن تتفانى في حب الله ورضاه، وتتحمل المشاق وتبذل النفس والنفيس في سبيله والاستسلام التام له، لأنه خصها بالجنة.ولكن الله عز وجل يخبر مسبقا:( ولن يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم)..أي أنهم لن يسلطوا هذا الموت على نفوسهم..لأنهم قد تعودوا على حياة البذخ والتمتع هم بالملذات، ونسوا نصرة دينه، وفقدوا الإخلاص والحماس للبذل في سبيله، لذلك غير متيقنين بأنهم يدخلون الجنة..فضلا عن أن تكون لهم وحدهم دون سواهم بل عادوا لا يؤمنون بها..لأن حب الدنيا قد سرى في كل ذرة من كيانهم، مما يدل دلالة واضحة على أنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.

Page 50

٤٧ سورة البقرة الجزء الثاني وإذا تساءل أحد أنه ذكر من قبل ادعاء اليهود (لن تمسنا النـــار إلا أيامـــا معدودة)...وهنا يذكر قولهم إن الدار الآخرة لهم وحدهم دون سواهم..فلماذا هذا التعارض، وكيف يصح نسبة القولين إليهم في وقت واحد؟ فلنعلم أن اليهود ،فرقتان وبينهما اختلاف في الآراء والعقائد، فإحداهما تزعم أنهــا تدخل النار أياما معدودة ثم تخرج منها؛ والأخرى تقول : لن ندخل النار إطلاقــــا.فالآية السابقة تحدثت عن مزاعم الفرقة الأولى، وأما هذه الآية فتحدثت عن الفرقة الثانية التي تزعم أن النجاة مخصوصة لهم دون سواهم، وأن النبوة أيضًا وقف عليهم وحدهم.وقد ورد عنها أنه يؤتى بعصاة اليهود إلى باب جهنم، فيتوبــون هنـاك فيرجعون بدون عذاب ويدخلون الجنة (ه.Every Man Talmud ودائرة المعارف اليهودية تحت كلمة Gehenna).والواقع أن سائر الأديان الأخرى تقريبا كانت تحصر النجاة في اتباعهـا فقـــط.وتشدد الهنادك حتى أنهم أمروا بصب الرصاص المغلي في أذن (الشودر) وهم أحط طبقة في نظام الهنادك - إذا سمع شيئا من كتابهم الديني (الفيدا)..لأنهم لا يستحقون في نظرهم سماع كلام الله وإن كانوا من خلقه.والبوذيون، مع أنهم أقل عصبية من غيرهم، وبرغم دعوتهم العامة إلى دينهم..إلا أنهم أيضًا زعموا بحصر النبوة فيهم دون غيرهم.لذا فإن نظريتهم لم تكن آفاقيـــة وعالمية كالإسلام.ويمكن هنا أن يعترض قائل بأن المسلمين أيضًا يعتقدون كاليهود – بأن النبوة الآن انحصرت فيهم، ولا نجاة إلا في الإسلام، فأي فضل في ذلك لهم على غيرهم؟ ونرد على ذلك أولا - بأن الإسلام لا يقول إن كل مسلم يدخل الجنة بالضرورة وإن كان مسلما ،بالاسم كما أنه لا يغلق باب النجاة على أمة دون أمة.فمثل هذا الاعتراض لا ينطبق على الإسلام لأنه نزل لهداية كل شعب وكل أمة ورسالته موجهة إلى كل فرد من الإنسانية، ولو صدّق بنو إسرائيل هذا النبي لنالوا النجاة و كذلك فإن هذا الباب مفتوح أيضا أمام الأمم الأخرى.

Page 51

ΕΛ سورة البقرة الجزء الثاني ثانيا- الإنسان يعطى بعض الأشياء كحق له، وبعضها رحمة وكرما.ومن صدق دين الحق صارت النجاة حق له ؛ بمعنى أن الله تعالى يعده بالنجاة، وإن لم تكن النجاة حقا مستحقا له.ومن هنا فالذي يؤمن بأن الإسلام دين الحق أصبحت النجاة حقا له.لنفس السبب فإن كل من اتبع أي دين حق نال النجاة كحق له.إلا أن هناك أناسا تكتب لهم النجاة رحمة بهم وتكرما من الله تعالى، ورحمته واسعة للغاية كما قال الله عز وجل ورحمتي وسعت كل شيء"(الأعراف: ١٥٧).قد عمت هذه الرحمة اليهود والنصارى والهنادك من دون تمييز، ونظرا لهذه الرحمة الواسعة يمكن لكل أحد أن يدخل جنة الله وينال رضاه.وإنما يصح الاعتراض على الإسلام إذا كان يمنع الآخرين من الدخول فيه، ولكن ما دام قد فتح بابه على سعته لكل شعب ولأتباع أي دين، ودعاهم للانضمام إليه برحابة صدر..فكيف يصح هذا الاعتراض؟ وإنما الاعتراض على الملل التي أغلقت أبوابها في وجوه أتباع الملل الأخرى ولا تسمح لهم بالانضمام إليها.وخلاصة القول أن الإسلام لا يحصر النجاة في أتباعه، لأن رحمة الله العامة ليست خاصة بالمسلمين وإنما تعم غير المسلمين أيضًا.ولا يقول الإسلام إن دخول الجنة منوط بالنطق بشهادة الإسلام، وإنما يعلن أنه إذا تفوه أحد بكلمة الإسلام ولكن لم يجتنب السيئات لم يستحق الجنة.كما يمكن أن يدخل الجنة دون أن يكون مسلما..لأن الجنة لا تنال فقط بمجرد الإقرار باللسان، وإنما تنال بالقيام بواجبات عديدة.كما أن دخول الجحيم ليس مداره على مجرد الإنكار باللسان، وإنما هـو نتيجـة لأسباب شتى.لا يمكن أن يدخل أحد النار وإن كان منكرا لحقائق كبرى ما لم تقم عليه الحجة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يؤاخذ الله مـــن مـــات في الصغر، أو من بلغ أرذل العمر فصار كالمعتوه ، أو المجنون، أو الأصم، وإنما يبعــــث لهم نبي من جديد وتتاح لهم الفرصة للتمييز بين الحق والباطل فمن قامت عليه الحجة أدخل النار، ومن اهتدى أدخل الجنة.روح المعاني تفسير قوله تعالى (ومــــا

Page 52

٤٩ هي سورة البقرة الجزء الثاني كنا معذبين حتى نبعث رسولا.فالنظرية الإسلامية حول النجاة أن الله تعالى إنما يؤاخذ من لا يقبل الحق، أو يتهرب من سماعه حتى لا يضطر لقبوله، أو مـــن قامت عليه الحجة ولم يؤمن.ولقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي والمسيح الموعود قائلا: "إذا علم الله تعالى أن أحدا لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله، ولسنا ندخل في ذلك.وأما اللذين جهلوا أمر الإسلام تماما وماتوا كالصغار الذين يموتون قبل سن الرشد أو المجانين أو الذين يسكنون في أرض لم تصل إليها دعوة الإسلام فهــم معذورون) (حقيقة الوحي، (۱۸۷.وقال في مكان آخر : (وإن قلتم : ماذا تقول في نجاة الذين لم يصل إليهم كتاب إلهامي؟ قلنا: إذا كان هؤلاء همجا لا يعقلون شيئا فإنهم لا يحاسبون على شيء، ويجري عليهم ما يجري على المجانين ومسلوبي الحواس.ولكن الذين يتمتعون بشيء من العقل والشعور فإنهم يحاسبون بقدر عقولهم وشعورهم ) (البراهين الاحمدية مج ۳ ص ۲۰۳ ).وإن تساءل أحد إذا أمكن أن ينال أحد النجاة بدون قبول الإسلام فماذا يعني قول الله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (آل عمران (٨٦)؟ نقول: إن هذه الآية تبحث في النجاة التي هي حق كَتَبَهُ الله على نفسه لمن يدخل في دين الإسلام، فلن ينالها إلا المسلمون.ولكن كما أسلفنا ليست هذه النجاة حقا أوجبه الإنسان على ربه، أيضًا وإنما هي من ونعمه تعالى..لأن الإنسان لا يملك أي حق على الله عز وجل.فالمسلم ينال النجاة بعمله بالقرآن أما الآخرون فتكتب لهم النجاة رحمة بهم.فمثلا الصغار الذين يموتون قبل البلوغ ،والصم والمجانين، والمعتوهون، فيتاح فرصة للإيمان، أو يحكم الله فيهم حسب إيمانهم الفطري، ويرى هل عملوا بحسب إيمانهم ذلك أم لا..وإلا فمنذا الذي يمنع الله تعالى إن أراد أن يغفر لأحد؟ إنه مالك يغفر لمن يشاء.أما قوله تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منــــه)..فإنما جاء ليبين أن من أعرض عن الإسلام حرم من النجاة بحسب القانون العــــام، لأنه بنفسه سد في وجهه باب النجاة، وحرم نفسه من أخذ هذا الحق.ثم إن هناك أسبابا أخرى للنجاة ولا مانع إطلاقا من نجاة أحد لسبب منها.أفضاله -

Page 53

الجزء الثاني ٥٠ سورة البقرة وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٦) التفسير: لهذه الآية تفسيران بالنظر إلى معنى قوله تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين).فإذا كان المراد بتمني الموت هو المباهلة..يكون المعنى أنهم لن يدخلوا معكم في المباهلة ،أبدا وهروبهم من المباهلة دليل على أنهم يعرفون في قرارة نفوسهم أنهم لم يفعلوا ما يرضي الله تعالى، بل أسخطوه بأعمالهم، وأنهم إن باهلوا المسلمين لعاقبهم الله عليها..وإلا فما المانع من الإقدام على المباهلة؟ وإن عنينا بقوله فتمنوا الموت الاستسلام الله لكسب رضاه، والقضاء على أهــواء النفس وهو أول خطوة إلى الحياة الأبدية، فمعنى الآية أنهم لن يستعدوا أبدا للموت الروحاني الذي يهبهم الله به الحياة الأبدية، لأن كثرة المعاصي قد طوقتهم و مسخت روحانيتهم.فلن يفكروا بعد ذلك مجرد تفكير للقضاء على أنفسهم لمرضاة الله تعالى.ويبين قوله تعالى (والله عليم (بالظالمين أن علامة الكاذبين أنهم لا يُقدمون علــــى المباهلة أبدا، بل لا يزالون يتهربون منها بشتى الأعذار..ولكن إلام الفرار؟ لا بد أن يعاقبوا حتى يتبين الصادق من الكاذب.فالويلات التي تكالبت وتوالت على اليهود توضح للناس حقيقتهم ومصيرهم.وَلَتَجدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (۹۷).شرح الكلمات: يود يعني يحب.ولكن إذا أضيف إليها لو فيعني التمني (المنجد).التفسير : يمكن تفسير هذه الآية بطريقين: أولا أن اليهود حريصون جدا على طول العمر حتى أنهم أكثر حبا للحياة من المشركين المنكرين للبعث بعد المـوت الــذين يحبون أن يعمروا حياة طويلة.

Page 54

الجزء الثاني ۵۱ سورة البقرة حبهم وثانيا - تجدهم أحرص الناس على الحياة، كما أن بعض المشركين أيضا يحبون الحياة أكثر.وكأنه سبحانه وتعالى ذكر المشركين بعد الناس خاصة لإبراز شدة للحياة، وهذا كما يقال: جاء القوم وزيد وعمرو..مع أنهما من القوم الذين جاءوا، وذُكرا بالاسم للتأكيد.والمشركون صنفان صنف يكفر بالبعث بعد الموت، ويعيش في الدنيا في رفاهية وراحة، وهم بالطبع يحرصون على طول الحياة الدنيوية وصنف ثانٍ يُنكر البعث، ولكنه لا يجد معينًا هَنيَّا ذا رفاهة وراحة، فيتمنون انقضاء الحياة هروبا من مشاقها ومشاكلها..ظنا منهم أن في انقضائها راحة لهم، ومن أجل ذلك قـــال الله تعالى (ومن الذين أشركوا)..أي ليس كل المشركين كذلك..وإنما بعضهم من يتمنى حياة ألف سنة.ويستنبط من الآية مجرد استنباط، لا كنص صريح أن فكرة عيش أحد من البشر ألف سنة مخالفة للقياس في رأي القرآن وأذكر أن الإمام المهدي والمسيح الموعود أثناء تصنيف كتابه (جشمه معرفه أي ينبوع (المعرفة كان أحيانا يذكر مضامينه لبعض الإخوة..فقال مرة "إنني رددت على اعتراض الآريين على أن نوحا عـــــاش ٩٥٠ سنة، وقلت إن القرآن عندما يذكر نبي فلا يراد به عمره نفسه، وإنمـــا أمته".وبينما هو يذكر ذلك حضر جدنا المير ناصر نواب، وقال: صحيح تقولون، ولكن الناس بسبب هذه الآراء يتجهون إلى الدهرية.فقال: "فليتجهوا، ولكننا لن نتردد في عرض أي حقيقة تبين صدق الإسلام وإن اتجه الناس بسببه إلى عمر الدهرية".عمر فالقرآن عندما يذكر طول عمر نبي من الأنبياء فليس المراد عمره وإنما عمر أمته.وفي قوله تعالى"وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر" يرجع الضمير (هــو) إلى (أحد) في قوله ( يود أحدهم..والتقدير : وما أحدهم بمزحزحه تعميره من العذاب.الله تعالى أن التمني بعمر طويل لن يجديهم شيئا، لأن الساعات الطويلـــة مـــــن الراحة لا تساوي شيئا أمام لحظة قصيرة من العذاب، فما الفائدة من العمر المديــــد يبين

Page 55

۵۲ سورة البقرة الجزء الثاني الذي لن ينجيهم من العذاب؟ وتدل هذه الأماني على حمقهم وجهلهم، ولكنهم يرتكبون هذه الحماقة كما ارتكبوا الحماقة السابقة..حيث زعموا أن الله لن يتكرم أحد سواهم بنعمة النبوة.فهؤلاء الحمقى لا يدعون بكشف العذاب، وإنما يتمنون تأجيله لبعض الوقت، مع أن تأجيله لن يجديهم شيئا.كان عليهم أن يقبلوا الإسلام الذي يفتح لهم باب النجاة، ولكنهم بدلا من طلب النجاة من الـعـــذاب والفوز برحمة الله بقبول الإسلام يسعون لتأجيله.على الترتيب والربط: لقد كان الله تعالى قد نبه اليهود في الآية (رقم (۸۸) أنكم كنتم ولازلتم تعارضون الأنبياء من زمن موسى إلى عيسى.لا شك أن آباءكم هم الذين عارضوهم و لم يكن لكم ضلع مباشر في هذه المعارضة، ولكن لما كان سبب المعارض واحدا وهو كون تعاليم النبي مخالفة لأهوائكم..لذا اعتبرتم من معارضيهم أيضًا؛ إذ لو أنكم عاصرتم أولئك الأنبياء لعاملتموهم بمعاملة آبائكم.وفي الآية(۸۹) قال لليهود ونبههم أنكم مثل هذه الأقوال كنتم تستهزئون بأنبيائكم وتتكبرون عليهم.وفي الآية (رقم ۹۰) بين أن حلول الغضب الإلهي بكم وعاداتكم المتوارثة القبيحـــــة هي التي شجعتكم على الكفر بالنبي الموعود الذي كنتم تنتظرونه.وفي الآية (رقم (۹۱) ذكر ما برروا به..كفرهم ألا وهو قولهم: لماذا بعــث هــذا الموعود في أمة غير أمتنا؟ وفي الآية (رقم (۹۲) صور الله - عز وجل استكبارهم وتمردهم الداعي إلى (رقم٩٢) الإنكار..حيث بين أنه عندما يعرض عليهم دعوى النبي صلى الله عليــــه وســـلم يردون على الفور وبدون تردد: لن نؤمن إلا بما أنزل على أنبياء بني إسرائيل ونكفر بما وراءه..مع أن هذا النبي قد أتى بحسب ما تنبأ به أنبياء بني إسرائيل أنفسهم.ثم أخجلهم سبحانه بذكر معارضتهم لأنبيائهم من حين لآخر، وقال: إنكم عندئذ لم تؤمنوا بهم.

Page 56

٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني وفي الآية (رقم ۹۳) بين أنكم لم ترتدعوا حتى عن معارضة موسى فضلا عن غــــيره من الأنبياء.وفي الآية (رقم ٩٤ ذكر أنكم قمتم بهذه المعارضة فور رجوعكم من الطور بعد أن آتاكم الله العهود.وفي الآية رقم (٩٥ صرح بأنهم كاذبون في قولهم بأننا نؤمن بما ينزل على أنبياء بني إسرائيل، وإنما يرجع إنكارهم إلى أنهم يزعمون أن النجاة قاصرة عليهم.إذن، فليباهلوا المسلمين إن كانوا صادقين.وفي الآية رقم (٩٦) أعلن أنهم لن يتجاسروا على المباهلة، لأن قلوبهم تشهد أنهم كاذبون.أنهم أسوأ حالا من المشركين ،أيضًا، وبين أنهم يخافون وفي الآية (رقم٩٧) صرح الموت لأنهم يعلمون أن مصيرهم النار في الآخرة ، ولكنهم لن يذوقوا في الدنيا طعم الراحة والهناء.فما الفائدة من هذه المعاذير؟ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (۹۸) شرح الكلمات: جبريل اسم مركب من "جبر" و"إيل".و" جبر" في العبرية تعني: الخادم، الغـــــلام.و "إيل" تعني: الإله.فمعنى جبريل: خادم الإله أو غلامه و"الجبر" في العربية إصلاح الشيء من كسر، وإكراه الآخر على فعل شيء، والرجل الشجاع.قال ابن عمــــر الشاعر : " وأنعم صباحا أيها الجبرا".فمعنى الجبر بالعبرية مشابه لمعناه في العربية.أما "إيل" فهناك بون شاسع بين اللغتين في صدد معناها.فهي في العـ ـرية تعـ عموما الإله، ولكنها لا توجد في العربية لفظا ولا معنى إلا أن هناك في العربيـــة "آئل"..اسم الفاعل من "آل" يقال آل الملك رعيته ساسهم ودبر أمورهم، وآل

Page 57

٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني على القوم: ولي عليهم وآل رجع.فالآئل: المدبر ؛ الحاكم؛ الملــك؛ الراجــع (الأقرب).وكل هذه المعاني تناسب الله تعالى.فمعنى جبريل إذن : (۱) خادم الملك الشجاع المدبر ، (۲) غلام شجاع مخلص لذات مدبرة، (۳) غلام شجاع مخلص لله الذي يرجع على عباده برحمته مرة بعد أخرى.وتعني "إيل" في العبرية معاني أخرى مشابهة لمعاني "آئل" في العربية، فيرى بعض كبار علماء العبرية أن "إيل" تعني القوي دائرة المعارف التوراتية، ج۳)، وهــذا المعنى قريب من الحاكم والمدبر.في حين يقول البعض الآخرون أن معناها الذات التي هي مرجع جميع الناس.وهذا المعنى يشابه معنى الراجع أو التواب..ولكن بفرق بسيط، وهو أن جبريل يعني بالعربية "خادم الإله التواب"..أي الذي يرجع على عباده بوحيه مـــرة بعـــد أخرى، ويتوجه إليهم برحمته عند ندمهم كرة بعد أخرى.ولكن "إيل" العبرية تعني الذي يرجع إليه الناس جميعا.فكلتا اللغتين تذكر معنى الرجوع.العربية تقول: هو يرجع إلى عباده والعبرية تقول الناس يرجعون إليه ويرجع هذا التغير في الحقيقة : إلى أن اليهود لا يؤمنون بكون الله توابا.وكيف يؤمنون بذلك وهم يعتقدون أن النجاة حق مستحق لهم على الله عز وجل، إنما يؤمن بكونه- سبحانه- توابا من لا يرى نجاته حقا على الله تعالى بل يراها متوقفة على رحمته وفضله.ومن أجل ذلك غير اليهود معنى "إيل".وقالوا هو الذي يرجع إليه الخلق كلهم، وليس الذي يتوب عليهم رحمة بهم مرة بعد أخرى.ولذا لا نجد في اللغة العبرية أي اثر لصفة إلهيــة كالتواب.ولكن الأصح أن نأخذ المعنى الأصلي فنقول في جبريل: الخادم الشجاع الله، الذي يرجع إلى عباده مرة بعد أخرى، أو الخادم الشجاع المخلص المخلص للذات المدبرة.التفسير: يتفق القرآن والتوراة على أن جبريل هو سيد ملائكة الله المقربين، ومهمته تبلیغ کلام الله إلى عباده.ولكن اليهود في زمن انحطاطهم اعتقدوا أن جبريل ملك حرب وعذاب دائرة المعارف التوراتية كلمة (جبريل.واعتبروه عدوا لهم.فقد

Page 58

الجزء الثاني روی أحمد ٥٥ سورة البقرة في مسنده وابن كثير في تفسيره أن المسلمين لما كانوا يفحمون اليهـود بإثبات صدق النبي ﷺ بالحجج والبراهين..كانوا يسألونهم: حسنا، من ينـــــــزل عليه بالوحي؟ قالوا :جبريل قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا(تفسير ابن كثير تحت قوله تعالى قل من كان عدوا لجبريل).لقد تسرب هذا الاعتقاد الخاطئ في اليهود عن طريق الروايات التلمودية وتفاسير " (تارجم)..وإلا فإن التوراة تعتبره ملكا ينزل بوحي الله حيث قيل: وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال يا جبرائيل، فهم هذا الرجل الرؤيا.فجاء إلى حيث وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي.فقال لي افهم يا ابن آدم إن الرؤيا لوقت المنتهى " (دانیال ١٦:۸، ١٧).وورد أيضاً: "وأنا متكلم يعد بالصلاة إذا بالرجل جبرائيل الذي رأيته في الرؤيا في الابتداء مُطارا واغفا لَمَسَى عند وقت تقدِمة المساء.وفهمني وتكلم معي.." (دانیال۲۱:۹، ۲۲).وورد في الإنجيل " فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا" (لوقا ١٩:١).وقال أيضًا: "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينتـــه ومـــن الجليل اسمها الناصرة إلى عذراء.." (لوقا ١ : ٢٦).ولكن فيما بعد اعتبر اليهود جبريل ملك العذاب واعتبروا ميكائيل ملك الوحي.كانوا إلى عهد النبي دانيال يؤمنون بأن جبريل ملك الوحي وأن ميكائيل ملـــك الرقي الدنيوي، لكنهم شيئا فشيئا خصوا الوحي بميكائيل والعذاب لجبريل.لذلك بدءوا يكرهونه حتى زعموا في زمن النبي ﷺ أنه ملك الرعد والعذاب (دائرة المعارف التوراتية، تحت كلمة جبريل).ويبدو أنه لما كان اليهود قوما مغضوبا عليهم وكان كل نبي ينذرهم بالعذاب والدمار عندما يكفرون به..فظنوا - بسبب توالي نزول العذاب عليهم- أن جبريل عدو لهم، فهو الذي ينزل بوحي الله المنذر لهم بالعذاب، فاعتبروه عـــــدوا لهــــم،

Page 59

سورة البقرة الجزء الثاني وقالوا لسنا بحاجة إلى الإيمان به؛ وإنما الملك الحقيقي الذي يجب قبول ما ينزل به من وحي هو ميكائيل.واليوم أيضًا..عندما يشهد الناس العذاب نازلا بحسب ما تنبأ به الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام يعترضون : ما هذا النبي الذي جاء ليهلك الخلق؟ وهذا مثلما كان اليهود يعترضون على جبريل.فهنا دحض الله اعتراضهم على جبريل.وقوله " فإنه نزله على قلبك ورد هنا بمعنى أنهم يعادون جبريل لأنه أنزل عليك هذا الكتاب، مع أنه كتاب جامع لميزات عديدة جديرة أن يحبه الإنسان لا أن يبغضه.لقد رد الله سبحانه على اعتراض اليهود بأربعة طرق: أولا - أنه لا يمكن لملك أن ينزل الكلام من عنده إنما ينزل بإذن الله.وأيا كان الملك النازل بالكلام..جبريل أو ميكائيل الذي تعتبرونه صديقا لكم..فإن صاحب الكلام هو الله تعالى، لذا فإن كراهيتكم هى لكلام الله تعالى، وليست للملك..لأن الكلام هو هو..ولن يتغير بتغير الملك الذي يأتي به.فكيف ترفضون هذا الكلام بسبب بغضكم الذي تكنونه الجبريل تأثرا بروايات قومية، لأن الكلام كلام الله ولا بد من قبوله.أما قولكم لماذا نزل به جبريل و لم لم ينزل به ميكائيل، فهذا أيضًا مردود، لأن جبريل لم ينزل به من نفسه، وإنما بأمر الله تعالى..وما دام الله سبحانه قد أمـــــر بذلك، فلماذا تعادونه أنه مع لا بد أن ينفذ ما يأمر به؟ وبرهن على أفضلية هذا التعليم بأنه تعالى أنزله على قلبه ، فصارت عواطفه متشربة هذا التعليم.وهنا بين الله الفرق بين أفكار الفلاسفة والكلام المنزل على الأنبياء، ووضح أن هذا الكلام ينزل على قلب النبي، ولكن أفكار الفيلسوف تنزل على دماغه.لا شك أن الفيلسوف أيضًا يقول قولا جميلا، ولكن عواطفه لا تكون تابعة لأفكاره ولا يعمل بما يقول.ولكن النبي يعمل بما ينزل عليه من الكلام.لقد مضى العديد من الفلاسفة اللادينيين الكبار الذين تمتلئ كتبهم بأقوال جميلة في الأخلاق ولكن الإنسان يصاب بصدمة حين يطلع على سيرتهم.ذلك لأن فلسفتهم إنما تنزل على دماغهم، وكلام الله تعالى ينزل علـى القلـب،

Page 60

الجزء الثاني OV - سورة البقرة ولذلك يهب الإنسان حياة طهارة ونزاهة ولكن فلسفة الفيلسوف لا يمكن أن تطهر قلبه.وإلى هذا يشير الله بقوله (فإنه نزله على قلبك) أي جعلـه يسري في كيانك وروحك حتى صرت قرآنا ،مجسما، كما روى أن السيدة عائشة الله عنها سئلت عن خلق النبي ﷺ فقالت: "كان خلقه القرآن "..أي اقرأ القرآن، وكل ما تجده فيه كان موجودا في شخصه.فبقوله تعالى فإنه نزله على قلبك بإذن الله رد من ناحيته على اليهود أن جبريل قد نزل بهذا بأمرنا وليس من عنده حتى لا يقال إنه لعداوته لكم نزله على رجل من بني إسماعيل وليس من بني إسرائيل.ومن ناحية أخرى أشار بذكر القلب المطهر للنبي ﷺ إلى أن جبريل بأمر الله تعالى – قد أدى الأمانة المطهرة إلى من كان أحق بها وأهلها، وليس الأمر كما تظنون أنه لعداوته لكم و بدون أي سبب آخر أنـــزل الكلام على رجل من بني إسماعيل.وثانيا-بين بقوله (مصدقا لما بين يديه أن الكلام المنزل على هذا النبي مـــصدق للنبوءات الواردة في كتبكم.وهذا دليل صداقة لا عداوة.حيث نزل بكلام يبين صدق كتبكم، إذ لو لم ينزل جبريل بهذا الكلام، ولم يبعث هذا النبي في هـذا العصر، أو لم يأت من بني إسماعيل لوجب تكذيب التوراة واعتبار نبوءاتها باطلـــة.فجبريل لم يعادكم وإنما نصح لكم.لو كان حقا عدوا لكم ما صدق كتبكم.فاقبلوا هذا الكلام ولا تردوه ، فهو خير لكم وفيه شرفكم.وثالثا- إن هذا الكلام، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، يتـسـم بكونـه هـاديـا،أي يهديكم إلى سبيل الحق ويبين لهم طريق النجاة من الضلال.إذا كان القرآن لا يأمركم إلا بالتقوى والصلاح والعفاف..فيجب أن تدركوا ضرورة قبوله لتصبحوا من المتقين الأطهار.أما إذا كان يؤدي إلى الباطل والضلال فلكم أن تكفروا بـه، ولكنكم تعلمون أنه لا يهدي إلى الباطل وإنما إلى الحق.وإنكار الشيء أو قبولــه يتوقف على كونه حقا أو باطلا وما دام هذا الكلام حقا ولا يأمر إلا بما فيه خير الإنسانية وفلاحها..فيجب ألا ترفضوه لأي سبب آخر.

Page 61

ол سورة البقرة الجزء الثاني ورابعا أنه كلام يبشر العاملين بحسب تعاليمه بجوائز كثيرة.وكأنـه ســبحانه وتعالى يقول: إذا كان أحد لا يقبل الحق لأنه في حد ذاته حق، بل يريـ أيضا المكافأة على قبوله..فليعلم أن من عمل به بصدق النية نال جوائز كبيرة، ومن أعرض عنه فلن يضر إلا نفسه.فقوله تعالى وبشرى للمؤمنين) أي يدحض قول اليهود إن جبريل ملك العذاب إذ كيف يكون ملك العذاب من لا ينزل عليهم إلا بكلام ملؤه البشارات.يقول : لا منطق في قولكم.فما يتنزل هو من الله تعالى ولا فرق أن ينزل به جبريل أو ميكائيل.فإذا كان الكلام هو مصدر العداوة، فعادوا الله وليس جبريــــل الذي هو فقط الوسيط بينكم وبين الله جل علاه.ولكن أمركم عجيب تزعمون أنكم أحباء الله وتسبون رسوله جبريل الذي يأتيكم بكلامه.ثم تناصبون العــــداء للرسول محمد و وتقولون : لماذا نزل عليه جبريل بالوحي، ولا تفكرون أن كلامه يصدق كتبكم.فكيف يمكن أن يصدق كتبكم بكلام فيها هدى ورحمة من يكون عدوا لكم؟ يجب إذن ألا تضيعوا الفرصة قائلين: لماذا جاء به جبريل و لم يأت بــه ميكائيل، بل عليكم بقبول محمد رسول الله.قد ذكرت هذا المعنى باعتبار كلمة " فإنه" تعني "لأنه" أما إذا اعتبرنا "الفاء" بمعناها العام فلا بد من تقدير محذوف، وتكون العبارة هكذا قل من كان عدوا لجبريل فلا وجه لعداوته، فإنه نزله على قلبك..الخ الآية.ولقد جاء جواب (قل من كان عدوا لجبريل) في قوله تعالى(فإن الله عدو للكافرين)..وكان قوله تعالى(فإنه نزله على قلبك..هدى وبشرى للمؤمنين) جملة معترضة.ولما كانت الجملة الاعتراضية طويلة فقد أعيد مضمون قوله (قل من كان عدوا لجبريل) في الآية القادمة، فأضيف ذكر جبريل إلى ذكر الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فقيل: كان عدوا الله..) وجاء الجواب: (فإن (من الله عدو للكافرين).وقد أضيف ذكر ميكال في الآية لأن عداوة جبريل تعتبر عداوة لميكائيل أيضًا.وتعني الآية أن العداوة لجبريل تعتبر عداوة لميكائيل أيضًا.فالذين يعادون جبريــــل

Page 62

الجزء الثاني ۵۹ سورة البقرة وجه يجب أن يعرفوا أن ما أنزل على قلب هذا الرسول إنما أنزله بأمر الله تعالى، فلا لعداوته، ولا تعني عداوته إلا عداوة الله جل علاه.ثم إن كلامه يصدق ما ورد في كتبكم من نبوءات فلو كان عدوا لكم لما نزل بما يصدق كتبكم، مما يعني أنكم لا تعادون جبريل وإنما تعادون كتبكم.ثم نزل هـذا الكلام حال كونه هاديا ومبشرا، ومن عادى هاديا فكأنما عادى نفسه، ومن عادى من يبشره فكأنه عادى أجياله المقبلة..إذ إن الهدى يتعلق بالإنسان نفسه، أمــا البشارات فتختص بالأجيال المقبلة.وإن الهدى لا يورث، ولكن النعم الدنيويـــة يتوارثها الأجيال عموما.فقد ذكر الله أن اليهود يعادون منبع الهدى- وهو الله تعالى.ثم يعـــادون وســـائل الهدى وهم الأنبياء الذين هم أظلاله في الدنيا.ثم إنهم يعادون أنفسهم وأجيالهم القادمة حيث يحرمونهم من الأفضال والنعم التي ينالها المؤمنون.فعداوة جبريل ليست بأمر هين، بل من عاداه فقد عادى الله تعالى ونفسه وأجياله.وإن عــــداوة أحد محمدا ليست إلا عداوة الله تعالى، والكفر بما نزل على محمد هو في الحقيقة إنكار لموسى الذي بشر به..ففكروا..أمصيبون أنتم أم مخطئون في عداوتكم له ؟ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ.(۹۹) التفسير : لقد بين الله هنا أن الملائكة مجرد وسائط كما أن الهواء واسطة لإيصال الصوت إلى الأذن.فمن يعاديهم إنما يعادي من يرسلهم ويتهمه بالخطأ في انتخاب الوسيط.فتبين من هذه الأفكار أن اليهود أعداء الله تعالى، لأن إهانة السفير هي في الحقيقة إهانة للملك.ومن رفض أحد الملائكة فكأنه اتهم الله بعـــدم التوفيق في اختيار سفير مناسب، ومن ثم ففي عداوة جبريل عداوة الله.كما أن عداوته تثير عداوة الملائكة كلهم لأنه واحد منهم.ثم إن عداوته تثير عداوة الأنبياء كافة، لأنه الذي نزل عليهم بالوحي منذ الأزل.

Page 63

سورة البقرة الجزء الثاني وتكرر ذكر جبريل مرة أخرى ليحذر اليهود من عداوة جبريل، وإلا أدت عداوتهم له إلى عداوة الله والذي يعترض على الله – جل علاه – لا بد أن يعترض علـــى الملائكة كلهم وعلى الأنبياء أيضًا ، لأن تعظيم هؤلاء كلهم يدخل في طاعة الله تعالى.فاتهام فرد من أفراد السلسلة الروحانية وعداوته يبعد المعادي عن الهــدى، ويصيره عدوا الله تعالى، فيحرم من نيل تلك البركات والأفضال التي تتنزل على أحباء الله جل علاه، كما يجعل نفسه هدفا لعذاب الله الذي لا يصيب إلا الذين يخالفون عن أمره.وخص ميكال بالذكر بعد جبريل لظن اليهود أن ميكال ملك عطوف عليهم، فكانوا يسمونه الملك المحافظ أو المؤيد (دائرة المعارف البريطانيـــة تحت كلمة ميكال.ومعنى ميكال مثل الإله، ويبدو أنه سمي بذلك لأنـه يـدبر الأمور التي تختص بصفة ربوبية الله تعالى؛ أي أنه يدبر أرزاق الخلق.فجبريل يدبر الأمور الروحانية، فيأتي بالوحي من الله سبحانه، فعمله مختص بالهدى.وأما ميكال فعمله مختص بالبشرى..أي تدبير الأمور لرقي الخلق والبشرى تكون دائما تاليــــة للهدى، ذلك أن الإنسان إذا عمل بهدي جبريل وصار مهديا نال أيضا البشرى بالنعم الدنيوية.أما إذا أعرض عن هدي جبريل وصار عدوا الله..أعـــرض ميكال تلقائيا وصار له عدوا.لذلك حذر الله اليهود أنهم إذا عادوا جبريل صـــــار ميكال أيضا عدوا لهم، وهكذا يخسرون الدنيا والآخرة.وقد خــص الله جبريل وميكال بالذكر للتوكيد أيضا، كى يتذكر عدوهما أن عداوته لهما عداوة الله تعالى وملائكته والنبيين أجمعين.وخصهما بالذكر أيضا لبيان أن الملائكة في حد ذاتهــــم ليسوا بشيء، وإنما هم وسائط.وقد شبههم سيدنا المهدي والمسيح الموعـــود بالهواء(توضيح المرام، ص٤٦)؛ فكما أن الهواء واسطة توصل صوت المتكلم إلى أذن السامع..كذلك الملائكة واسطة توصل كلام الله إلى العباد فمــن عـــادي هــذه الواسطة فكأنه يعادي من صنعها، ومن اعترض عليهم فكأنـه يخطئ الله في اختيارهم.فالعداوة الجبريل هي في الحقيقة عداوة الله تعالى، ومن عادى السيد عاداه أتباعه أيضا.ومن أجل ذلك قال الله إن ميكال أيضا يكون عدوه.لأن الله والملائكة اتباعه، وهم كحلقات السلسلة، إذا انكسرت حلقة منها انكسرت عنه هو سيده

Page 64

། ད سورة البقرة الجزء الثاني السلسلة كلها وهكذا فعداوة جبريل تؤدي إلى عداوة الملائكة كلهم.ونظرا لأن اليهود سموا ميكال صديقا وأميرا ومحافظا لهم..خصه الله هنا بالذكر ليبين أنه أيضًا عدو لهم نتيجة عداوتهم الجبريل.ومن أسباب ذكره أيضًا أن من عادة بعض الناس أنه إذا سب أحد شخصية ذات قداسة وتقدير لديهم سبوا الشخصيات المقدسة عنده تعصبا.ولما كان من المحتمل أن يأتي على جهلاء المسلمين زمان يسبون فيـــه ميكال تعصبا ضد اليهود، وينحازون إلى جبريل كما انحاز اليهود إلى ميكـــال، زاعمين أن جبريل محافظ لنا كما كان ميكال محافظا خاصا لكم..أقول: لما كـــــان هذا محتملا..خص الله ميكال أيضًا بالذكر منعا للمسلمين من التورط في هـذا الخطأ، وبين أن الملائكة كلهم مقربون عند الله ، فلا داعي لعداوتهم، ولا تسبوا ميكال إن سب اليهود جبريل عدوا بغير علم.يتبين من التوراة أن ميكال ملك يدبر الأرزاق ويحفظ من الأخطار..حيث قيل: وهو ذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي وأنا أقيم هناك عند ملوك فارس "(سفر دانيال:١٣:١٠).وورد أيضا : "..أخبرك بالمرسوم في كتاب الحق.ولا أحد يتمسك معي على هؤلاء إلا ميخائل رئيسكم سفر دانيال (۲۱:۱۰ وقيل أيضا : " وفي ذلك الوقت يقــوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت، وفي ذلك الوقت ينجي شعبك كل من يوجد مكتوبا في السفر" سفر دانيال (۱:۱۲.وفي قوله تعالى: (فإن الله عدو للكافرين)..جاء بلفظ الجلالة بدلا من الضمير كي لا يظن أن الضمير راجع إلى ميكال نفسه، ويبين لهم: أنكم إذا لم ترتدعوا عن عداوة جبريل فلا بد أن تجلبوا على أنفسكم عداوة الله أيضا.وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (١٠٠).التفسير: يستدل المسيحيون من قول الله في سورة البقرة (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية الآية (۱۱۹) على أن محمدا لله لم يؤت أية معجزة.

Page 65

٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني إنهم من ناحية لا يرون حكمة البينات في شأن المسيح – كما ذكر قبل بضع آيات، ويستدلون بها على أن المسيح لم يكن نبيا كغيره من الأنبياء فحسب، بل كان ابن إله وإلها، ولكن من ناحية أخرى حينما يرون كلمة البينات في حق النبي يمرون عليها متجاهلين بل يقولون انظروا إن معارضيه كانوا يقولون له: لولا يكلمنا الله أو تأتينا آيه..مما يعني أنه لم يرهم أية معجزة! ولو جاز هذا الاعتراض على النبي الله لأن الكفار طالبوه بالمعجزات..لجاز أيضا على المسيح عليه السلام] حيث قيل: " حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم نريد أن نرى منك آية فأجاب وقال له جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطي له آية إلا آية يونان النبي.لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال " (متى ۱۲ : ۳۸ ، ۳۹)..والمعنى إذن أنه عليه السلام] لم ير اليهود أية معجزة إلى وقت جوابه هذا.ويتضح من جوابه كذلك أنه لم ير اليهود أية آية أخرى طــــول عمره، ذلك أن معجزة المسيح المشابهة لمعجزة النبي يونس هي تلك التي ظهرت حين وفاته، وكان طلب اليهود أن يريهم آية وقت المحاورة، ولكنه رد عليهم فيما يرويه إنجيل متى: لا يعطى أشرار وفساق هذا الزمن أية آية إلا آية يونس النبي.وكأنه أظهر عجزه عن الإتيان بالمعجزة المطلوبة.وهذا يوضح جليا أنه لم يرهم أية آية قبل ذلك الحين.نعم، إنه وعد بمعجزة واحدة فيما بعد، ومع ذلك فقد أخلف هذا الوعد أيضًا..حيث يزعم المسيحيون أن المسيح مات على الصليب، ودخـــــل القبر جثة ميتة..في حين أن النبي يونس [يونان] ألقي في البحر وهو حي والتقـمـه الحوت وهو بعد حي، ومكث في بطنه حيا، وخرج من بطنه حيا..في حين أن المسيح في زعم المسيحيين مات على الصليب.وكأنهم بقولهم هذا قد اعترفوا أن المسيح لم يأت بالمعجزة التي وعد بها اليهود وهكذا أقروا أنه لم يأت بأية معجزة.ولكن موقف القرآن على عكس ذلك، فهو يبين أن النبي الكريم قد قد أعطي المعجزات بكثرة.يمكن للمسيحيين أن يقولوا إننا لا نعتبر ما ينسب إلى محمد ﷺ من الآيات معجزات؛ أما قولهم إن القرآن ينكر وجود معجزات للنبي فهو ظلـ

Page 66

٦٣ سورة البقرة الجزء الثاني مجحف، لأنه يعلن هنا بكل صراحة وجلاء أنه قد أعطي معجزات كبرى حيث قال: " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات.وتعني آيات بينات كل ما أظهره الله تعالى لبيان صدق محمد من آيات ومعجزات لا يمكن أن يوجد مثلها..لا في معجزات موسى ولا عيسى عليهم السلام ثم اتبع ذلك بقوله (وما يكفر بها إلا الفاسقون).فبالرغم من غزارة مطر المعجزات السماوية فإن الفاسقين الذين خلعوا عن أنفسهم ثوب الطاعة مصممون على الكفر.بيد أن كفرهم لن يغنيهم شيئا، وسيهلكون كمن كفروا أنبياءهم من قبل وهلكوا؛ ولا بد أن الله خطته التي لم يزل ينبئ بها بلسان الأنبياء في كل زمن.يتم أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (۱۰۱).التفسير : يقول الله تعالى إن الناس في كل زمن يعطون العهود والمواثيق، ولكن لا يمر وقت طويل حتى يغدر بعض منهم بوعودهم، فيكون حالهم أسوأ من ذي قبل.وهذا المرض لم يصب اليهود وحدهم، وإنما أصاب الأمم كافة.والله أعلم إذا كان الناس سينجون من هذه الآفة أم لا.والحق أن بعث نبي ليس بالحدث الهين، وإنمــــا هو حدث جليل وخطير جدا.ففي ذلك الوقت تحدث ثورة في كل ذرة من السماء والأرض، وتمر كل ذرة بكيفية من الألم والاضطراب كالتي تمر بها الحامل وقـــــت المخاض.ففي مكان تقع الزلازل، وفي آخر تنشب الحروب، وفي الثالث تتساقط الشهب، وفي رابع تتفشى الأمراض، وفي خامس ينتشر المحل والجدب.فيكون العالم كله في ثورة واضطراب..بحيث يخيل أنه قد ساده الموت والفناء.وأخيرا، بعد هذه الحالة المشابهة للمخاض يولد مولود جميل في القوم، يتربى ويترعرع في كنف الله تعالى.ولكن لا تمضي فترة من الزمن حتى يسعى بعض الناس به شـــرا وفسادا، ويحاول الشيطان الكيد له بأنواع المكر والحيل.وعلامة هؤلاء الشياطين أن أكثرهم لا يؤمنون..بمعنى أن معظم هؤلاء يكونون محرومين من الإيمان الحقيقي، ويريدون أن يخرجوا الآخرين أيضًا منه، ويضيعوا الهدف الذي بعث الله رسوله لتحقيقه.

Page 67

الجزء الثاني ٦٤ سورة البقرة وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَدَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (۱۰۲) التفسير: يقول سبحانه وتعالى أنه عندما يطلق مناديه نداءه يجعل فريق من القــــوم أصابعهم في آذانهم ولا يعيرون نداءه آذانا صاغية..رغم أن نداء الله لـيـس نـــداء عاديا.عندما ينادي الإنسان من قبل موظف عادي يطير فر.في ثير من الأحيان، ولكن عندما يناديه ربه يتولى عنه كأن لم يسمعه..مع أنه لو كان في قلب الإنسان نور الإيمان لأوشك على الموت فرحا بهذا النداء.أيـن العــزة الدنيويــة والشرف المادي من هذا الشرف والتكريم؟! إن الله بنفسه يذكر عباده، ويرســــــل إليهم رسوله..ولكنهم لجهلهم لا يولونه أدنى اهتمام، مع أن في تلبية نداء الله فخرا وأي فخر فكان على اليهود أن يفرحوا بأن أظهر الله صدق كتبهم ببعـــث نـــبي يصدق كتبهم وأنبياءهم، ولكن أنى ذلك من قوم انحرفوا عن الصراط المستقيم؟! وقوله تعالى (مصدقا لما معهم إنما يعني أن بعث هذا النبي قد حقق صدق ما أنبأ الله به في كتب اليهود.وكأن مجيء هذا النبي دليل على صدق أنبيائهم.فالإيمــــان بــه ليس إلا تصديقا لكتبهم السماوية وعملا بها، وإذا لم يؤمنوا اعتبروا مكذبين لما أنبأ به رسلهم وكتبهم.فإن محمد ا ل و مصدقا لموسى وللتوراة ولأنبياء بني إسرائيل كلهم.ولكن لا يعني مصدق) لما معهم أن التوراة بوضعها الحالي كلام الله تعالى أو كلام موسى أو كلام عيسى وأن الإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء الإسرائيليين يغني عن الإيمان بمحمد..وإنما يعني أنه حقق ببعثته تلك النبوءات، وأثبت صدق موسى وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام.وهم مخيرون الآن في أن يؤمنوا بمحمد مصدقين كتبهم..أو يكفروا به مكذبين إياها.ولكن اليهود كما ذكر فيما بعد لم يكترثوا لهذه النبوءات و لم يستفيدوا منها، وإنما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لأنهم لا يؤمنون.والمراد من كتاب الله هنا التوراة، ويعني نبذه وراء ظهورهم أنهم أهانوه بدلا من أن يعظموه إن إهانة كلام الأنبياء يدمر الإنسان..فما بالك بتحقير كـــلام الله

Page 68

سورة البقرة الجزء الثاني تعالى.لقد مزق كسرى بجهله وغبائه الكتاب الذي أرسله إليه النبي يدعوه فيه إلى الإسلام؛ فلما بلغ ذلك النبي قال: "مزق الله ملكه " (البخاري كتاب العلم).وبعد زمن قصير جدا دمر الله ملكه تدميرا.فإذا كان تمزيق كتاب للرسول يستوجب العقاب..فما بالك بمن ينبذ كتاب الله وراء ظهره ويحقره تحقيرا؟ هذا وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُم لَوْ كانوا يَعْلَمون) (۱۰۳) شرح الكلمات : تتلو - تلا يتلو تلوا تبعه.وذلك يكون بالجسم تارة، وتارة بالاقتداء في الحكــ أما بالجسم فقوله تعالى (والقمر إذا تلاها) (الشمس : (۳).وأما في الحكــم فقـولــه تعالى: (الذين) آتيناهم الكتاب يتلونه حق (تلاوته (البقرة : ١٢٢) أي يتبعونه حق اتباعه (تاج العروس).على تأتى بمعنى في كقوله ( إن كنتم على سفر أي في سفر (مغني اللبيب).الملك - العظمة والسلطان واحتواء الشيء والقدرة على الاستعلاء به (اللسان).السحر - السحر كل ما لطف مأخذه ودق ؛ الفساد ؛ إخراج الباطل في صورة الحق؛ الخداع التمويه بالذهب أو الفضة سحره عن كذا: صرفه عنه (الأقرب).الملكين- الملك معروف، وقد يطلق مجازا على الرجل الصالح.وفي قراءة "الملكين"..(تفسير البحر المحيط تحت هذه الآية.وحيث إن القراءة الثانية توضح المعـ الصحيح تبين أنه ليس المراد هنا الملكين وإنما رجلان صالحان.

Page 69

الجزء الثاني ٦٦ سورة البقرة وقد أطلق القرآن " الملك " على الصالح التقي حيث ورد في شأن يوســف عليـه السلام: (إن هذا إلا ملك كريم (يوسف : (۳۲)...أي رجل صالح ذو محاسن.فالمراد من الملكين هنا رجلان صالحان كأنهما ملكان ويؤيد رأينا ما ذكر من المهمات التي قام بها هذان الملكان فقد ذكر أنهما كانا يلتقيان بالناس ويعلمانهم.ويصرح القرآن أن الملائكة لا يأتون كالناس بحيث يعيشون بينهم ويعلمونهم، وإنما يرسل لهداية الناس أناس أمثالهم.يقول الله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا.قل لو كان في الأرض ملائكــــة وصرح الله يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (الإسراء: ٩٥-٩٦).عز وجل: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم.فاسألوا أهــــل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء: (۸).كل هذه الآيات تدل صراحة على أن الله تعالى لم يرسل لهداية الناس وإرشادهم أو لاختبارهم رسلا ملائكة.وإنما يبعث رسلا أناسا، وأن الملائكة إنما تنزل علـى أنبياء الله تعالى وأوليائه فقط..أما غيرهم فقد يرونهم كشفا.وحيث إن الآيـة تصرح أن هذين الملكين كانا يتعايشان مع الناس ويعلمانهم..فلا بد أن نعتبرهما رجلين صالحين، وقد أطلق عليهما اسم ملكين لصلاحهما وتقواهما، وكانا يفعلان كل ما يأمرهما به الله تعالى.فالذين يظنون أن هاروت وماروت كانا ملكين يعلمان الناس السحر في بابــل ويختبرانهم في إيمانهم..غير مطلعين على معارف القرآن فما دام الملائكة لا يعيشون على الأرض فكيف تبعث إلى الناس؟ إنه من المستحيل تماما أن تأتي الملائكة بدلا من الناس لهداية الخلق.تصفحوا التاريخ تجدوا أن الرجال هم الذين بعثوا أنبياء.وليس ثمة امرأة أو أي مخلوق آخر غير الإنسان بعث إلى الناس.فليس هناك إلا طريقان اثنان : إما أن نقول بأن هاروت وماروت صفتان أطلقتــا علـــى رجلين صالحين كأنهما ملكين..كما سمي يوسف ملكًا، أو إذا كان ملكين حقيقين فإنهما نزل على نبيين و لم يبعثا للناس عامة..لأن الملائكة لا تتنزل هكذا.وإنما تتنـــزل

Page 70

٦٧ سورة البقرة الجزء الثاني على رجال مطمئنين كما جاء في القرآن (الإسراء (٩٦) والمطمئنون هم الصلحاء والأطهار المقربون، المبرءون من كل نوع من المعاصي والرذائل، والحائزون علــــى البركات الإلهية والأفضال السماوية.وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية.فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر).فالمطمئنون هم أصحاب النفوس المطمئنة، وليس الذين يعيشون على الأرض في رفاهية إنهم يمشون في هدوء لا يتشاجرون ولا يتخاصمون.والحقيقة أن هؤلاء المطمئنين هم الذين تتنزل عليهم الملائكة، ولم يحدث أنهم نزلـوا عـلــى الكفار وبلغوهم رسالة الله تعالى.هاروت - من هرت الثوب مزقه (المنجد).هرت الشيء: شقه (المعجم الوسيط).فهاروت كثير التمزيق والشق.ماروت - من مرت أي كسر.فماروت كثير الكسر." - فتنة – الفتنة اختبار المرء ليتبين خيره من ،شره وطيبه من خيره (المنجد).التفسير : توفي سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام في مايو ١٩٠٨م، وبعد وفاته بشهر تقريبا أوحى الله إلي الآية القرآنية "اعملوا آل داود شكرا".ومع أن الله تعالى لم يستخدم في هذا الوحي اسم "سليمان"..إلا أنه وعدني بقوله "آل داود" ما خص به سلیمان عليهما السلام، واعتقد أن من نعم الله تعالى- حسب هذا الوعد أنه عز وجل قد فهمني معنى الآية التي طالما حار واضطرب العلماء في تفسيرها، كما أعتقد أن هذا الوحي كان يتضمن أيضًا نبأ أنني سوف أصبح خليفة للإمام المهدي، ويشير إلى الصعاب التي سوف تعترض طريقي.ولما كان الإنسان بفطرته يقلق من مواجهة الأخطار، ويضيق ذرعا باعتراضات المعترضين..لذا نبهني بعض " لم نعثر على هذا المعنى في القواميس المتوفرة لدينا، إلا أنه ورد هناك مرت الشيء: ملسه.وملس الشيء: انتزعه واستأصله؛ ملس الرجال بلسانه داهنه؛ ملس الإبل : ساقها بشدة ؛ ملس الأرض: سوّاها (المنجد).فكان هاروت من يمهد بكسر شوكة العدو واستئصاله.

Page 71

чл سورة البقرة الجزء الثاني ربي-عز وجل- إلى أن الأخطار والاعتراضات ليست بدون جدوى..فاستعد لمواجهتها دون قلق واضطراب.وهذه الآية أيضا تتناول ذكر بعض ما واجه سليمان من صعوبات وأخطار.ورغم أن معناها واضح وصريح..إلا أن المفسرين القدامى قد عانوا كثيرا في تفسيرها.وقالوا في آخر الأمر إن الآية تشير إلى حادثين تم فيهما تعليم الناس السحر.الحادث الأول وقع في زمن سليمان..حيث اختلط الشياطين بالناس وعايشوهم وعلموهم السحر.والثاني حدث في بابل حيث أنزل الله ملكين هاروت وماروت كانا يعلمان الناس السحر قائلين: إنما نحن فتنة وامتحان لكم.كما كانا يقولان للذين يعلمانهم : أن تعلم السحر كفر ، وسوف نعلمكم هذا الكفر إذا أردتم.وقد نسج خيال هؤلاء قصصا غريبة جدا حول الحادثة شاعت بين العوام، وكنــــا نستمع إليها في الصغر.فحكوا أنه كان بحوزة سليمان خاتم "الخاتم السليماني"..يدبر بفضله كل الأمور؛ فسلبه الشيطان من سليمان فحرمه عرشه واضطره أن يهيم على وجهه، واستولى على ملكه وقد أُلقي عليه شبهه.وبعد مدة مديدة عثــــر شخص على الخاتم وسلمه لسليمان، فاستعاد عرشه أما عن قصة هاروت وماروت فزعموا أنهما كانا ملكين فسقا عن أمر ربهما، وقالا إن الأيام قد صدقت قول الملائكة عند خلق آدم أتجعل فيها مـن يفــــسد فيهـا ويسفك الدماء)..وبطلت دعوى الله تعالى" إني أعلم ما لا تعلمون"..إذ استولى الشيطان على ذرية آدم في الأرض؛ ولو كنا نحن الملائكة فيها ما ظهر هذا الفساد.فأرسل الله تعالى هاروت وماروت إلى الأرض قائلا حسنا، اذهبا أنتما ننظر كيف تعملان.فجاءا إلى الدنيا وتعايشا مع الناس، وكانا يعلمـــان اســـــم الله الأعظم والسحر.فجعلا يعلمان الناس السحر، ويدعيان أمام الله تعالى أن الناس بأنفسهم يكفرون.وكانا ينبهان الناس وقت تعليم السحر أن تعلمه حرام يؤدي إلى الكفر، ويخيرانهم يتعلمون أو لا يتعلمون ولكن الناس رغم ذلك كانوا يتعلمون.كما تحكي القصة أنهما كانا يعلمانه الرجال فقط، مما كان يؤدي إلى التفريق بـــين الرجال ونسائهم.وفي أثناء هذا جاءت بغي اسمها (زهرة) لتتعلم الاسم الأعظـ

Page 72

الجزء الثاني ٦٩ سورة البقرة فعشقاها.وفي يوم من الأيام سقتهما الخمر فزنيا بها.فخيرهما الله بين أمرين: إما أن يمكثا في الأرض معلقين من أقدامهما في البئر، وإما أن يعذبا في الآخرة..ففضلا عذاب الدنيا على الآخرة لعلمهما بشدة عذاب الآخرة، فعلقا من أقدامهما في بئر قديمة ببابل، ولا يزالان بها.أما (زهرة) التي تعلمت منهما الاسم الأعظم فصعدت وتحولت إلى نجم مشرق يعرفه القوم باسم (الزهرة (تفسير محاسن التأويل للقاسمي).وقد بالغ أهل كشمير وقالوا: إن هاروت وماروت في كشمير، وكأنهما فرا مـــن بابل إلى بلدهم! وبعد سرد هذه القصة والأقوال الخرافية..يقولون إن الملائكة أصابوا في اعتراضهم حيث إن الله تعالى بعث آدم أولا ولكن نسله فسدوا ثم أرسل هذين الملكين ولكنهما أيضًا تأثرا من الناس وفسدا.وهذا غير صحيح، لأن الله تعالى يقول في صراحة إن الملائكة كلهم مجبولون على الطاعة والصلاح وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (التحريم: (٧) ، أما الناس فمنهم الأبرار ومنهم الأشرار.إذا كان الناس قد فسدوا فالملائكة أيضًا فسدوا كما يزعم هؤلاء المفسرون..وهذا لا يدفع الاعتراض وإنما يقويه ويزيد الطين بلة، لأن قصتهم تقول إن الملائكة قد أن الله تعالى صرح أنهم لن يفسدوا..وقد عصوا الله عصيانا صريحا، فسدوا، مع فعلقوا في بئر عقابا لهم..حتى حكي أن البعض قد رآهم معلقين في البئر ببابل! وعندي يسمى أن قولهم هذا خطأ تماما.فالزعم بأن ملكين كانا يعلمـــان السحر، وأن سليمان أيضا كان يمارس السحر ويعلمه الناس يعرض الملائكة والأنبياء للطعن، كما أن شهادة التاريخ تكذبه تكذيبا.فلا وجود إطلاقا لما سحرا بأن ينفخ الساحر ويوجد شيئا في لمح البصر.أما التنويم المغناطيسي فشيء آخر تماما.الأمر الواقع أن هذه الآية تذكر بعض ما دبر اليهود المعاصرون للنبي مــــن مكائــــد ومؤامرات ضده، وتبين أنهم في عدائهم له الله واتبعوا الطرق التي سلكها أعداء سليمان للقضاء على ملكه كما تنبه اليهود إلى أنهم لن يفلحوا أبدا في نواياهم الخبيثة.

Page 73

۷۰ سورة البقرة الجزء الثاني وإذا افترضنا صحة ما ذكره المفسرون من قصص..وقد توخيت الإيجاز الشديد في سردها..لم يبق أي علاقة لهذه الآية بما قبلها.ولكن المعنى الذي علمني الله بفضله لا يدع أي خلل في ربط الآيات من ناحية، ولا يجعل الملائكة هدفا للاعتراض من ناحية أخرى، ثم إنه لا ينافي تاريخ سليمان من ناحية ثالثة، كما يشكل برهانـــا عظيما على صدق النبي ﷺ من ناحية رابعة.والآن أبين لكم معنى الآية تفصيلا.ولكي لا يصعب فهم المعنى..أتوخى في الشرح التعامل الفكري الطبعي الذي يوصل إلى هذه النتيجة.يتبين من الآية أنها تتكلم أولا : عن حدوث فعل ثلاث مرات في مختلف العصور.وثانيا: أن هذا الفعل الحادث ثلاث مرات تعلق بجمعية سرية، أو بمؤامرة خفية.وثالثا: أنه حدث في المرات الثلاث التالية: - في عصر سليمان واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.في بابل: (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت).في عهد النبي : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقال في موضع آخر في هذا المعنى نفسه ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة مـــن عنـد الله خــــير لو كانوا يعلمون) (البقرة: ١٠٤).ورابعا أن هذا الحادث المتكرر ثلاث مرات صدر عن اليهود.وإذا فهذه الأمور الأربعة سوف تحدد معنى الآية، وكل معنى لا يتوفر فيـه هــذه الشروط الأربعة كلها أو بعضها يكون مردودا.في وإذا فحصنا القصص التي ذكرها المفسرون وجدناها ينقصها واحـد مــن هـذه الشروط: إما لكونها لا تخص اليهود، أو لكونها لم تقع ثلاث مرات، أو لم تحدث هذه العصور الثلاثة، أو لا تكون لها علاقة بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية.وإذا أمعنا النظر في هذه الشروط أو الأصول الأربعة وجدنا أن أوضحها هو كون هذا الحادث مرتبطا بالجمعيات السرية والمؤامرات الخفية التي تفرق بين الرجال والنساء..أي لا تكون المرأة عضوا فيها.فهذا الأصل يسهل ويضمن لنا المضي في

Page 74

الجزء الثاني ۷۱ سورة البقرة التحقيق في اتجاه سليم.هلموا الآن نر هل هناك أي جمعية تفرق بين الرجل والمرأة، ولها صلة بهذه العصور.إذا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ العالم كله لم نجد فيه إلا جمعية واحدة تفرق بين الرجل والمرأة، وما زالت آثارها موجودة في عصر النبي ، الله، بل لم تزل موجودة حتى قبل عشر أو عشرين سنة..ألا الجمعية الماسونية، وهي جمعية سرية، لا تضم في عضويتها النساء.هذا، مع العلم وهي بأنه لا علاقة للماسونية الحالية بهذه الأحداث، وإنما تتعلـق هــذه الأحداث بتلك الجمعية الماسونية السرية التي كان لها علاقة بهذه العصور الثلاثة، وشواهد التاريخ تؤيد ذلك.كما أن الجمعية الماسونية لم تكن موجودة وجـودا متصلا إلى الآن..وإنما تأسست بهذا الاسم عدة جمعيات في مختلف العصور..عاش بعضها أربعمائة سنة، ثم جاءت أخرى وعاشت لخمسمائة سنة، وبعضها حــتى القرن الخامس عشر الميلادي، ثم تأسست أخرى في القرن الثامن عشر وانمحت في نفس القرن، وتأسست من جديد في القرن التاسع عشر.لذلك لا نستطيع تخصيص إحدى هذه الجمعيات الماسونية، ولكن إذا وجدنا لإحداها علاقة باليهود وصلنا إلى الهدف، لأن الشروط الثلاثة الأخرى أيضًا تخص اليهود.والآن تعالوا نتحقق.هل كان لإحدى هذه الجمعيات الماسونية علاقة باليهود؟ فليكن معلوما أن مؤلفي دائرة المعارف اليهودية قد حاولوا قطع أية صلة بين اليهود والماسونية، حيث قالوا إنه لا علاقة لهم بالماسونية (انظر تحت كلمة الماسونية)، وهذا يشكل في حد ذاته دليلا واضحا على أنهم كانوا على صلة بها، وإلا لم تكن بهم حاجة لذكر ذلك.ثم إن المقال نفسه يؤيد رأينا، فقد قالوا فيه: إننا نسلم بوجود آثار يهودية في أصول الجمعيات الماسونية.وهذه تربط اليهود بالماسونية، لأن هذه الآثار تخص في أول الأمر أولئك المعماريين الذين بنوا معبد سليمان عليه السلام..حتى إن هذه الجمعية

Page 75

الجزء الثاني ۷۲ سورة البقرة نفسها تعترف أن بدايتها كانت حينما بنى سليمان معبده الأول، بل يقول بعض أعضائها إن موسى عليه السلام هو أستاذهم الكبير.كما ورد في دائرة المعارف اليهودية أن الروايات الماسونية تذكر صلتها بالنبي"حورام أبي " الذي بنى المعبد، والذي تذكره التوراة على النحو الآتي: (وأرسل الملك سليمان وأخذ حورام من صور..وكان ممتلئا حكمة وفهما ومعرفة لعمل كل عمل في النحاس (الأخبار الثاني ٢ : ١٣ و ١٤) ويضيف صاحب الكتاب أن الروايات الماسونية تذكر أنه بعد أن تم بناء المعبد قتل ثلاثة بنائين حورام أبي.ويعتبر موته للآن سرا كبيرا من الطقوس الماسونية.كما أن البنائين الآخرين أيضًا قتلوا ( الجمعيات السرية في العالم ج ۵ ص ١-١٠) ثم يقدم الكاتب حلا لهذا اللغز قائلا: يبدو من الروايات الإبية أن البنائين قتلوا بعد بناء المعبد خوفا من أن يحولوه إلى معبد للأوثان فيهتكوا حرمته.وتذكر هذه الروايات أنهم قتلوا البنائين الآخرين أيضًا، ولكن حورام أبي صعد إلى السماء، وهو جالس فيها الآن بجانب حنوك.ويعقب المؤلف على ذلك ويقول: لا يوجد عندي أي أثر لذلك في كتب التاريخ الأخرى.ويضيف أيضًا ليس من المستبعد أن يكون الماسون بأنفسهم قد نقلوا من التوراة المصطلحات والآثار والأفكار والروايات اليهودية التي توجد في الماسونية بدون أي دخل لليهود في ذلك، بيد أن الكثير من الروايات قد أخذت من اليهود بلا شك، وتذكر في أحوال وعلامات أصدقائهم الماسون.وعلى سبيل المثال..فإن للعمودين Braze-Jachin أهمية كبرى في علامات الماسون (الجماعات السرية والحركات الهدامة ص ۱۰۱ - ۱۱۰).ثم إن من البراهين على صلة الماسونية باليهود أن أسماء الشهور والأعوام القمرية التي تستخدمها الجمعية الماسونية الأسكتلندية هي نفس الشهور والأعوام التي كان اليهود الأوائل يستخدمونها.ولكن صاحب دائرة المعارف اليهودية يعلق على ذلك

Page 76

الجزء الثاني ۷۳ سورة البقرة قائلا: من يدري لعل هذه الأسماء راجت فيهم عن طريق المسيحيين؟ ثم يذكر المؤلف قائمة لهذه الأسماء المتداولة في الماسونية التي يبلغ عددها ما بين ثلاثين وأربعين اسما.هذا، وقد جاء حورام أيضًا في هذه المصطلحات..وكل هذه المصطلحات والطقوس يهودية، وصاحب دائرة المعارف اليهودية معترف بذلك ( ج ٥ ص ٥٠٣).وعلاوة على ذلك فإن الروايات الماسونية تذكر أنه كان هناك بين الماسون وبين سلیمان صراع، حيث جاء أنه كان في عهد سليمان بناء اسمه حورام، فعشقته بلقيس وعشقها، فاشتعل سليمان حسدا على حورام وتآمر مع ثلاثة من مساعدي حورام الحاقدين عليه، فقتله وتزوج بلقيس قسرا وأنه لا تزال الماسونية منذ ذلك الحين، وتوجد فيها أيضًا آثار تخص البنائين، بل أن كلمة الماسون نفسها Free Massons & Accepted Massons تعني (البنائين الأحرار)(الجمعيات ۱۰۱) السرية في العالم Secret Societies of the World ج ۲، ص ۱ - ۱۰).هذه فيتضح من الرواية أن الماسونية كانت على صلة وثيقة بأعداء سيدنا سليمان، حتى أن الناس أيضًا كانوا على علم لهذه العداوة بينه وبينهم.وهناك رواية أخرى تؤكد وجود جمعية سرية في عهد سليمان، كانت تعمل ضده.وهذه الرواية كانت شهيرة في قدامى الماسون، وتقول إن سليمان كان قبل حادث بلقيس أيضًا يحسد ويحقد على حورام لما أوتي من ذكاء عال ونفوذ كبير، فحاول سليمان قتله سرا، وألقاه في حوض به زيت مغلي، ولكن روح جده قابيل أنقذته، إلا أنها أخبرته أن عدوه سوف ينتصر عليه آخر الأمر.وتم ذلك حيث أغرى سليمان بعض حساد حورام بالمال لقتل ثلاثة بنائين، كان حورام أحدهم.ويقولون إن حورام هذا كان قد اخترع رموزا وإشارات سرية ليتفاهم بها مع أصحابه، فكانوا باستخدامها يجتمعون على الفور(المرجع السابق).

Page 77

الجزء الثاني ٧٤ سورة البقرة ويضيف صاحب هذا الكتاب أنه قبل "الماسون" "المقبولين كانت الجمعيات الماسونية كلها تستخدم نفس الرموز التي استخدمت في زمن حورام.وكانوا يُعلمون أعضاءها الجدد بعض الأسرار الخفية للقيام بالمهمات، ويذكرون لهم حادث حورام، وكانوا يحكمون للعضو الجديد شيئا من الحادث بالكلام وشيئا بالتمثيل.ويذكر صاحب دائرة المعارف اليهودية أيضًا أن اسم حورام يتكرر في رموز الماسونية، وحاول أناس أن يعثروا على تلك الرموز، ولكنها كانت معلقة في عنقه، ولما قتله سليمان أتلفها.وإذا فقد تبين من ذلك كله أنه كان هناك في زمن سليمان جمعيات سرية تعاديه وتتآمر عليه، فقتل سليمانُ زعيمها.وكان بعض أتباع هذا الزعيم يقدسونه لدرجة أنهم ظنوا أنه لم يقتل وإنما رفع إلى السماء وكان هؤلاء من اليهود حيث وجدت في هذه الجمعيات آثار وطقوس يهودية تنسب إلى حورام.ثم نرجع إلى التوراة لنجد فيها أيضًا ذكرا الجمعيات معادية لسليمان.وبرغم أن التوراة لم تذكر حورام إلا أنها تؤكد عدواة اليهود لسليمان واتهامهم إياه بالكفر والشرك، وهذا ما ذكره القرآن ههنا.فأولا جاء اتهامهم سليمان بالكفر والشرك في التوراة هكذا: من نساؤه قلبه.(وكانت له سبعمائة من النساء السيدات ثلاثمائة السراري.فأمالت وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه..فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخرى.فلم يحفظ ما أوصى به الرب) (الملوك الأول ٣:١١ ،٤ ،٩، ١٠).مما يبين أن اليهود كانوا يتهمونه بالكفر والشرك بالله كما كانوا يقومون بنشر هذه التهم بين الناس ويشير أيضًا قول الله في القرآن على ملك سليمان) أن تكفيره كان شغلا شاغلا بين الناس.

Page 78

Vo سورة البقرة الجزء الثاني وثانيا- يتضح مما سبق أن الذين كانوا تحته في الظاهر هم الذين كانوا يتآمرون عليه.وبحسب التوراة فإن سليمان صار مشركا بالله..لذلك أقام الله ثلاثة أعداء له هم: (۱) هدد الأدومي، (۲) ملك دمشق رزون بن أليداع، (۳) يربعام الذي أثاره أحيا الشيلوني النبي ضد سليمان.فقد ورد: "وأقام الرب خصما لسليمان..هدد الأدومي" (الملوك الأول ١٤:١١ ).وكان هدد هذا من نسل الملوك الأدوميين، وهرب إلى مصر في عهد ،داود، ولكنه رجع ثانية في عهد سليمان ليتآمر عليه.وورد أيضا : "وأقام الله له خصما آخر..رزون بن أليداع الذي هرب من عند سيده هَدَدَ عَزَزَ ملك صوبة.فجمع إليه رجالا، فصار رئيس غزاة عند قتل داود إياهم.فانطلقوا إلى دمشق وأقاموا بها وملكوا في دمشق" (المرجع السابق: ٢٤،٢٣).أمه صروعة وهي وورد: "وير بعام بن ناباط أفرايمي من صردة عبد لسليمان واسم أرملة.رفع يده على الملك"(المرجع السابق: ٢٦).الملك يتضح من هذا أنه صار لسليمان أعداء كثيرون من داخل ملكه يتآمرون عليه.تقول التوراة: (ولما سمع يربعام بن نباط وهو في مصر حيث هرب من وجه سليمان رجع يربعام من مصر.فأرسلوا ودعوه.فأتى يربعام وكل إسرائيل وكلموا رحبعام قائلين إن أباك قسى نيرنا، فالآن خفف من عبودية أبيك القاسية ومن نيره الثقيل الذي جعله علينا، فنخدمك (أخبار الأيام الثاني ٢:١٠-٤).مما يدل على أنه ما أن مات سليمان إلا أرسل بنو إسرائيل إلى أكبر أعدائه يربعام في مصر.وقبل أن يجلس ابن سليمان رحبعام على العرش جعلوا يطالبونه بقبول بعض شروطهم إن أراد كسب طاعتهم.وتبين التوراة كذلك أنهم كانوا يستخدمون بعض رموز سرية، حيث قيل: (وكان في ذلك الزمان لما خرج يربعام من أورشليم أنه لاقاه أخيّا الشيلوني النبي في الطريق هو لابس رداء جديدا وهما وحدهما في الحفل، فقبض أخيّا على الرداء الجديد الذي

Page 79

الجزء الثاني ٧٦ سورة البقرة عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعة وقال لير بعام: خذ لنفسك عشر قطع.لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل.هأنذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط.ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي من كل أسباط إسرائيل) (الملوك الأول ۲۹:۱۱-۳۲).ويبدو الله أخذتها أن اليهود قد دسوا اسم في هذه العبارة من عندهم.والحق أن يربعام كان رجلا جريئا، بل حائزا على منصب الحاجب أي رئيس الحراس.ويبدو أن أعداء سليمان قاموا بشراء هذا الرجل.أما لغة الإشارات والتصوير فتشير إلى ميلهم إلى الماسونيين.فكان في تمزيق الرداء إلى اثنتي عشرة قطعة إشارة إلى اثنتي عشرة قبيلة لبني إسرائيل وكان في تقديم عشر قطع لير بعام تحريض للثورة ضد سليمان فإن عشرة قبائل إسرائيلية سوف تسانده.وبالفعل حدثت الثورة بعد ذلك، ونصبته القبائل العشر ملكا لها.إنهم من ناحية سلیمان بالكفر، ومن ناحية أخرى بمجرد اتهموا أن تولي يربعام زمام الحكم ارتكب الشرك بالله وبنى معابد لمختلف الأصنام، فقد "..لأن يربعام وبنيه رفضوهم من أن يكهنوا للرب، وأقام لنفسه كهنة للمرتفعات وللتيوس وللعجول التي عمل (أخبار الأيام الثاني ١٤:١١ و ١٥).فاتضح مما سبق من العبارات والمراجع أن أعداءه كانوا ينصحون أصحابهم باستخدام الرموز لإخفاء نواياهم عن سليمان كما كانوا يلجئون إلى إغراء الناس بالمال والمناصب والرشاوى للتآمر عليه.وبالاختصار فإن قول الله تعالى ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، ومـــا كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..) كأنما يتحدث عــن المؤامرات السرية التي قام بها اليهود ضد سليمان عليه السلام، كما يبين أن اليهود المعاصرين للنبي أيضا كانوا يكدون له كيدا مثلهم، ولكنهم سوف يفشلون في مراميهم الخبيثة.

Page 80

VV سورة البقرة الجزء الثاني والحادث الثاني الذي يذكره القرآن هنا حدث ببابل، فهناك لجأ بنو إسرائيل إلى تشكيل جمعيات سرية، ولكن كان زعماؤها حينئذ اثنين من أنبياء الله تعالى، حاولا تحرير اليهود بأمر من الله تعالى، وذلك بكسر شوكة عدوهم وتشتيت شمله، كانا يستميلان الناس لتحقيق هدفهما قائلين: إنما نحن فتنة..إذ سوف يختبركم الله تعالى ليميز الأبرار من الأشرار، فلا تكفروا ولا ترفضوا ما ندعوكم إليه.وكان يخفيان خطتهما عن النساء ولا يشر كانهن في نشاطهما..شأن الجمعيات السرية منذ القدم، حيث لا تقبل المرأة عضوا بها.كما كان هذان النبيان اللذان سميا هنا هاروت وماروت لا يضرون نشاطهما السري هذا إلا الذين أمرهما الله بالكيد لهم.- والآن بقي أن نرى ما حدث في ببابل.ليكن معلوما أنه بعد سليمان ببضع سنين قام نبوخذنصر ملك بابل بغزو أورشليم وأسر عشر قبائل من اليهود وذهب بهم إلى بابل وترك في فلسطين قبيلتين منهم فقط (الملوك الثاني (١:٢٥-١٣) وانتشرت هذه القبائل اليهودية العشر واستوطنوا ما بين كشمير وغيرها من الأماكن.وقد تم أسرهم وإجلاؤهم هذا بحسب نبأ للنبي إرمياء الذي أنذرهم قائلا: إن لم تعطوا يوم السبت حرمته تدمرون (إرمياء.(۲۷:۱۷ ثم طال مُكثهم في منفاهم ببابل، ولم يجدوا سبيلا إلى النجاة..حتى أنبأ الله على لسان أنبيائهم أنه تعالى سوف يعيدهم إلى وطنهم ومركزهم.وتحقق هذا بعد سبعين سنة عندما جلس على عرش ميديا وفارس ملك اسمه "كورش"، وشاء الله تعالى أن تنشب بينه وبين ملك بابل حرب لما رأى هذا وغيره من الملوك نجم کورش في صعود، ولكنه كان أدهى منهم، فأخذ يقضي عليهم واحدا واحد إلى أن شن الهجوم على بابل نفسها.وتمت بين كورش وبين النبيين اليهوديين "هاروت و ماروت " اتفاقية سرية تقضي بأن يناصره اليهود من داخل المدينة نظير السماح لهم بالعودة إلى وطنهم؛ بل وعدهم كورش بدعم مالي لإعادة بناء المعبد.وبالفعل

Page 81

VA سورة البقرة الجزء الثاني احتل المدينة من داخلها بمساندة اليهود، ووفى لهم بوعده، فسمح لهم بالعودة إلى الوطن، وأمدهم بمال كثير وخشب لبناء المعبد، فعمرت أورشليم من جديد في عهد النبي عزرا تأريخ المؤرخين للعالم ج ٢ ص ٢٦ Historians History of (the World فهاروت وماروت إذا نبيان إسرائيليان قاما بأمر الله بإرجاع شعبهما إلى الوطن، وذلك بمساندة كورش ملك ميديا وفارس وقد أطلق القرآن على أحدهما اسم هاروت أي كثير التمزيق، وعلى الآخر اسم ماروت’ أي كثير الكسر..لما كانا يقومان به من كسر شوكة بابل وإضعاف قوتها وتمزيق وحدتها وتشتيت شملها.وبالنظر في التوراة يمكن القول إنهما النبي حجي و النبي زكريا بن عدو..فقد ورد أن النبيين حجي وزكريا هما اللذان سعيا لتحرير اليهود بمساندة كورش سرا (عزرا ه).وإلى هذا أشار القرآن بقوله: (..وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.فيتعلمون منهما " ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله).الآن ننظر إلى الأصل الثالث ألا وهو هل يوجد أي اثر لمثل هذه النشاطات من جانب اليهود في عهد النبي ؟ والجواب: نعم، تذكر كتب التاريخ أن اليهود تآمروا على النبي، وتزعمهم كعب بن الإشراف الذي طاف الجزيرة العربية وأشعل نار العدواة، وأوغر صدور العرب ضد النبي ، وبلغت به الوقاحة أن هجا نساء المسلمين، وتناول نساء بيت النبوة أيضًا بهجوه الفاحش السيرة النبوية لابن هشام مقتل كعب بن الأشرف).ولما رأى اليهود أن دولة الإسلام في تقدم مستمر وازدهار متزايد رغم عواصف المعارضة هذه..تآمروا مع دول أخرى للقضاء عليه.

Page 82

۷۹ سورة البقرة الجزء الثاني كان لليهود قبل بعث النبي الله و علاقات قوية بملك الفرس ، وتذكر كتب التاريخ أن اليهود مالوا إلى ملك الفرس بسبب اضطهاد المسيحيين الرومان لهم.كانت في ذلك الزمن دولتان عظيمتان: الدولة الفارسية المجوسية والدولة الرومانية المسيحية؛ ولما كان الفرس يعادون الرومان، وكان اليهود أيضًا يعادونهم بسبب مسيحيتهم واضطهادهم الشديد لليهود في دولتهم..لذا مالوا إلى الفرس طمعا في مساندتهم لهم، وأنشئوا معهم علاقات قوية حتى صار لهم نفوذ في نفوس الفرس.وأيضا فر بعض اليهود من اضطهاد الدولة المسيحية إلى بلاد فارس وتمتعوا بالحرية الدينية تحت حكم الفرس.وهناك أعدوا كتابهم (التلمود) ونبع هناك أحبار كبار منهم نالوا إكراما وتعظيما خاصا لدى ملوك الفرس، وخاصة لما اشتدت وطأة التعذيب المسيحي على اليهود في عهد جستنتين (٥٢٧ - ٥٦٧ م)، لم يجدوا ملجأ لهم إلا في فارس، حتى تحول مركزهم الديني من يهوذا أو أورشليم إلى ببيلونيا (هتشنسن- تاريخ الأمم ٥٥٠، ودائرة معارف التوراة).وصار بهم في عهد النبي ﷺ أن ضيق قيصر الروم عليهم الخناق، وكان لا يدخر وسعا في القضاء عليهم، وكان لا يكتفي بتعذيبهم..بل يكرههم على الارتداد عن دينهم، وينفيهم من البلاد وإذا فقد كانت الدولة الفارسية هي الوحيدة التي يمكن أن يستعين بها اليهود لما كان يتمتع به دينهم ورهبانهم من احترام ونفوذ كبيرين في نفوس الفرس، حتى أن الملوك كانوا يقربونهم إليهم.والآن، إذا ثبت وجود أي مؤامرة فارسية للقضاء على الإسلام فلا بد لنا من عزوها إلى اليهود..لأن مشركي العرب لم يكونوا على علاقة طيبة مع الفرس، وإنما كان اليهود هم المقربون إليهم.هلم الآن نتحقق أدبر اليهود مع الفرس مؤامرة للقضاء على الإسلام أم لا؟ يخبرنا التاريخ أن الملك الفارسي خسرو الثاني كتب إلى واليه على اليمن قائلا: أن رجلا من العرب قد ادعى النبوة، فاقبض عليه وابعث به إلينا لنعاقبه.فأرسل والي اليمن سفيرين إلى النبي..أبلغاه الخبر، وحتّاه على الذهاب معهما بلغني

Page 83

۸۰ سورة البقرة الجزء الثاني على ألا يرفض حتى لا يغضب الملك..فيشن الغارة على العرب كلهم.فأمرهما النبي ﷺ بأن يعودوا إليه في الغد.فلما جاءا قال لهم: لقد أخبرني ربي أنه قد أهلك بكم البارحة.فظنا لجهلهما أن النبي الله يماطلهما.فنصحا له أن يصحبهما إلى الملك حتى لا يثور فيدمر العرب جميعا.وكرر النبي ﷺ قوله: ارجعا إلى بلدكما وبلغا صاحبكما بما أقول فرجعا وأخبراه الخبر.فقال الوالي: لننتظر بضعة أيام، فإن تحقق ما قال فإنه نبي صادق، وإن كذب فويل للعرب من كسرى.ني وبعد أيام وصلت اليمن سفينة فارسية، جاء عليها مكتوب إلى والي اليمن عليه خاتم الملك الجديد، ولما رآه الوالي شك في الأمر، وقال في نفسه: يبدو أن العرب صادق ولما فض الرسالة وجدها من " شيرويه SIROES " يقول فيها: كان أبي ملكا مستبدا فقتلناه بعد أن طفح الكيل من مظالمه، وقد خلفته في الملك، من الرعية عهد الطاعة لي.وكان قد أمر بإرسال نبي العرب ظلما..ونحن نلغي هذا الأمر، وانتظر حتى يأتيك منا أمر جديد (تاريخ الطبري ج۳، أحداث فخذ السنة ٦هـ).فتحقق ما أنبأ به النبي.وقتل الابن أباه هو الآية الإلهية..إذ لا يتجاسر أي ابن على رفع يده ضد أبيه.الناس يتحيرون ويتساءلون: لماذا أصدر كسرى الأمر بالقبض على النبي ؟ ولكن هذا الحادث يدل على أن هناك من أغراه بالنبي.والواضح أن النصارى لم يكونوا ليفعلوا ذلك.فالرومان النصارى والفرس على عداء فيما بينهم.ثم لم يكن العرب كذلك ليثيروه لأن الفرس كانوا يحتقرون العرب احتقارا شديدا..ويتبين هذا عندما قال الملك الفارسي للمسلمين حين ذهبوا لغزو فارس في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه: (ليأخذ كل واحد منكم دينارين وارجعوا إلى أرضكم..أنتم أكلة الضب فما لكم وللملك؟! (المرجع السابق، أحداث السنة ١٤ هـ

Page 84

۸۱ سورة البقرة الجزء الثاني فما دام العرب محتقرين في أعين الفرس المجوس لهذه الدرجة فكيف يعقل أن يتجاسروا على إثارة ملكهم ضد النبي..وأن يستجيب هو أيضًا بهذه السهولة ويأمر بالقبض عليه؟ مطلقا..فكيف هذا بالإضافة أن العرب كانوا أشتاتا متفرقين تماما..لا يجمعهم نظام مطلقا..فكيف يعقل أن يؤثر على ملك عظيم يحكم نصف العالم تقريبا..قوم متخلفون منعزلون عن الدنيا ولا صلة لهم ،به ولا حول ولا قوة لهم على ذلك الملك.الواقع أن اليهود كانوا يتمتعون في دولة الفرس بمناصب عالية جعلت لهم نفوذا في الدولة..حتى أن زعماءهم كانوا يجلسون في الصدارة عند ملوك الفرس.واليهود الذين كانوا ألد أعداء الإسلام ونبيه فلما استيأسوا من كل جهة، جعلوا يثيرون ملك الفرس بمختلف الطرق ضد النبي ﷺ حتى بعث الملك بالمكتوب المذكور آنفا.هم وقد قال بعض المؤرخين: ربما كان كتاب النبي ﷺ الذي أرسله إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام هو الذي أثاره فأمر واليه على اليمن أن اقبض على هذا الرجل وابعث به إلينا لأنه تجاسر علينا (المرجع السابق أحداث السنة ٦ هـ).ولكن هذا لا يصح تاريخيا..ذلك لأن أمر كسرى هذا كان قبل أن يدعوه النبي إلى الإسلام بكتابه الذي أرسله إليه يقول الزرقاني: (لأن بعثه للملوك إنما كان بعد العودة منها أي من الحديبية في غرة المحرم سنة سبع).(شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، ج ۲، أمر الحديبية).وغرة المحرم هذا توافق ١٢ إبريل عام ٦٢٨م التقويم الذي أخرجه صاحب تاريخ المؤرخين Historians History في المجلد۸ صفحة ١١٨.أما كسرى خسرو الثاني فقد قبض عليـه في ٢٥ فبرايـــر أن ٦٢٨ واغتيل في آخر فبراير ٦٢٨م (المرجع السابق، ص ٩٥).وذلك يعني الرسول دعا الملوك إلى الإسلام بعد اغتيال خسرو الثاني بشهر واثني عشر يوما..مما يبطل الزعم بأن كتاب الرسول له إلى كسرى خسرو الثاني هو الذي دفعه إلى إصدار الأمر بإلقاء القبض على النبي ﷺ ، لأن سفير النبي ﷺ توجه بكتابه

Page 85

النبي ۸۲ سورة البقرة الجزء الثاني من المدينة إلى المدائن عاصمة فارس آنئذ بعد اغتيال كسرى (حياة محمــد لمــوير صفحة ٣٨٤).ولو افترضنا أن كتابه الله هو السبب وراء ثورته..للزم أن يكون قد كتب إليه قبل ذلك بثلاثة أو أربعة أشهر..أي في ديسمبر سنة ٦٢٧م..ولكنه كتب إليه في غرة المحرم سنة ٧ هـ الموافق ١٢ أبريل ٦٢٨م.وذلــك بحسب التقويم الذي أخرجه صاحب تأريخ المؤرخين، أما بحسب تقديرنا فهـو ٤ مارس ٦٢٨ ، وفي كلتي الصورتين لا يمكن أن يكون كتاب النبي ﷺ وراء ثــــورة كسرى، وإنما هي التقارير الكاذبة التي أرسلها اليهود إليه لإثارته.وحيث إنه قبض عليه في ٦٢٨/٢/٢٥ وأعدم في آخر نفس الشهر..فلن يكون خطاب النبي ﷺ موجها إلى كسرى خسرو الثاني وإنما إلى ابنه كسرى شيرويه الذي خلفه من بعده.والذين أرجعوا ثورة كسرى إلى كتاب النبي.هم أنفسهم قد اعترفوا آخر الأمر أنه لم يصدر هذا الأمر بمشورة عربية لأنه لم يكن له أي نفوذ على العرب، وإنما قام بما قام بإثارة خارجية..أصحابها هم اليهود الذين أرادوا القضاء على دولة المدينة بمساندة ملك الفرس، كما قضوا من قبل على دولة بابل بنفس الطريقة.النبي.وقد اعترف بالمؤامرة اليهودية هذه سير وليم موير فقال : إن رجال كسرى توجهوا بأوامره قبل أن يصله كتاب النبي..وأن اليهود كانوا يثيرون كسرى على أما العرب فلم يكن لهم شأن عند كسرى، وأما النصارى فكانوا أعداء له (المرجع السابق).ومما يؤيد موقفي هو تصرف اليهود مع النبي لا لا لا لا لو فكل المحاولات لاغتياله كانت من تدبير اليهود.فمثلا من الثابت تاريخيا أن امرأة يهودية حاولت مرة قتله بإطعامه طعاما مسموما (البخاري، الجهاد والسير؛ السيرة النبوية لابن هشام، أمر خيبر).ثم دعوه إلى بيت لهم وحاولوا اغتياله بإلقاء حجر كبير عليه (المرجع السابق، أمر إجلاء بني النضير.كما انحط هؤلاء لدرجة أنهم لم يكونوا يرون أي عار في القيام بنشاطات سرية..في حين أن الأحرار الشجعان يرون ذلك عارا ويفضلون الثأر وجها لوجه.وحينما فشل اليهود في تنفيذ ما أرادوا..أغروا كسرى بقتل النبي.

Page 86

الجزء الثاني ۸۳ سورة البقرة تبين مما سبق من البحث ما يلي: أولا - أن الجمعيات السرية كانت بدايتها من اليهود.وثانيا - أن هؤلاء كانوا من أعداء سليمان.ثالثا- أنهم دبروا نشاطات سرية ثلاث مرات مرة ضد سليمان، وثانية ضد ملك بابل، وثالثة ضد النبي.وما دمنا قد رأينا أن حلقات هذه الأحداث قد اتصلت بعضها ببعض..فتحقق أن هذه الآية تتحدث عن أعداء سليمان، ثم عمّا حدث بين الملك الفارسي كورش وبين ملك بابل، ثم كل ما دبره اليهود من محاولات لقتل محمد.وعلى ضوء هذه الأحداث..يكون معنى الآية كما يلي: إن هؤلاء اليهود يتبعون ما كان الشياطين - أي رؤساء الشر والفساد يأتونه في زمن حكم سليمان عليه السلام..حيث كانوا يتهمونه بالكفر والشرك والإلحاد، وكانوا يشيعون عنه الإشاعات بأن النساء قد مَلَكن قلبه ودفعنه إلى عبادة آلهة غير الله أو أن يأمر بما ينافي الدين.والحق أن سليمان كان مرسلا من ربه؛ ولم يكفر ولم يشرك قط، وإنما أولئك الشياطين..رؤوس الفتنة والشر هم الذين كفروا.بقي الآن مسألة لم أتناولها من قبل، وهو أن الله قد أعلن: أولا أن أعداء سليمان كانوا يتهمونه بالكفر؛ وثانيا أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين الثائرين على ملکه هم الذين كفروا.وهنا قد يقول أحد من الممكن أن يكون معارضوه قد اتهموه بالكفر عن أمانة منهم وصدق نية أو عن سوء فهم، أو أنهم قد اتهموه بالكفر بغيا وشرا..ولكنهم كانوا أهل صلاح.فرد الله على هذا الفرض بقوله : إن أعداءه لم يتهموه لا عن أمانة وصدق نية، ولا عن سوء فهم و لم يتهموه وهم أهل بر وصلاح..وإنما فعلوا ما فعلوه نتيجة لسوء أعمالهم وفساد دينهم.

Page 87

الجزء الثاني ΛΕ سورة البقرة ولقد سبق أن ذكر اتهامهم سليمان بالكفر في سفر الملوك الأول صح٣:١١-١٠، ثم ذكر في نفس المرجع (۲۹ ،۳۳) أن (يربعام) الذي بغى فيما بعد حارب ابن سليمان وضم إليه عشرة ،قبائل وكان أكبر من الهموا سليمان، حيث قام هو وصاحبه (أخياه)-الذي زعموه نبيا باتهامه أنه عبد آلهة غير الله وأشرك وكفر.فرد الله سبحانه عليهم وقال إنهم كاذبون..لأنهم هم الذين كفروا وكانوا يريدون كاذبون..لأنهم نشر الشرك وضم الناس إليهم.والآن تعالوا نتحقق أأشركوا فعلا أم لا ؟ ورد في التوراة أنهم أشركوا بالله حيث أقام الله أبيا ضد يربعام، فخرج بجنوده لمبارزة يربعام وقال: (..والآن أنتم تقولون إنكم تثبتون أمام مملكة الرب بيد بني داود، أنتم جمهور كثير ومعكم عجول ذهب قد عملها يربعام لكم آلهة...وأما نحن فالرب هو إلهنا ولم نتركه أخبار الأيام الثاني ١٣: ٨-١٠).يظهر من هذا أنهم عبدوا العجل.وهروب هؤلاء إلى مصر ورجوعهم منها أيضًا دليل على ذلك..لأن مرض عبادة العجل تسرب إليهم من مصر من قبل أيضا..أن المصريين كانوا يغرون الناس بالمال ليعبدوا آلهة المصريين وهكذا كانوا ويبدو يوطدون تعظيم آلهتهم.مع أن فيبين الله تعالى أن هؤلاء اتهموا سليمان بالشرك وأثاروا عليه شعبه الموحد، المتهمين أنفسهم كانوا مشركين حيث صنعوا أصناما وعبدوها وروجوا لها.وقوله تعالى (يعلمون الناس السحر يبين أنهم كانوا يخدعون الناس بكلام معسول ذي وجهين..مما يعني أنهم كانوا مشركين في قراره أنفسهم، ولكنهم تظاهروا بالتوحيد لاكتساب تأييد الشعب، وقالوا نحن موحدون، ولكن سليمان مشرك، وذلك كقول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (البقرة: ١٢).فينخدع ضعاف الإيمان بكلامهم قائلين: هؤلاء يدعون إلى شيء جميل وعلينا أن نقف إلى جانبهم.ويمكن فهم عبارة (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت بطريقتين :

Page 88

٨٥ سورة البقرة الجزء الثاني أولا أنه عطف على ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)؛ والمعنى أن ما حدث في زمن سليمان حدث مرة أخرى فيما بعد أيضًا.وكما تأسست جمعية سرية ضد سليمان كذلك تشكلت جمعية مشابهة لها ضد ملك بابل.أي أن الشبه بين الحادثتين كان ظاهريا فقط..لأن أصحاب الجمعية المضادة لسليمان كانوا كافرين، في حين أن أعداء ملك بابل كانوا مؤمنين.وينشأ هنا تساؤل: إن الجماعة الإسلامية الأحمدية كانت ولا تزال تتمسك بعدم الثورة على الحكومة، وهذه الآية تبين أن الثورة أمر سليم مستحب! ويبدو هذا السؤال في ظاهره ذا ،وزن، ويخيل للمرء أن تعليم جماعتنا استثنائي، ولكن لو أمعنا النظر لرأينا أنه ليس في ذلك جديد؛ بل إن الإسلام يمنح الإنسان حق المقاومة للحكومة التي تضطهده، وتمنعه من الهجرة إلى بلد آخر..ويسمح له أن يثور عليها ثورة سرية أو علينة يصرح الإسلام بأنه إذا غضب عليكم الحاكم واضطهدكم فانتظروا واصبروا حتى يأتي فرج الله تعالى.وإذا اشتد الاضطهاد بحيث لم تعودوا تستطيعون الصبر فاهجروا تلك الأرض إلى أخرى.فإذا منعكم من الهجرة و لم ينفك عن الاضطهاد فلكم أن تقاوموه وأنتم في بلده (النساء: ٩٨).والواقع أن اليهود كانوا أسرى في بابل بعيدا عن وطنهم، وكان ملك بابل قد حظر عليهم العودة إلى وطنهم الملوك الثاني ١٥:٢٣-١٦)، ويعتبر هذا نوعا من التدخل في دينهم، لذلك أجاز الله لهم أن يثوروا على الحاكم سرا أو علنا..مما يعني أن المؤمنين يصبرون على ما يستطيعون عليه صبرا، أما إذا رأوا أنهم لا يستطيعون الصبر صرحوا بأننا لا نستطيع صبرا..فخذوا أموالنا وأرضنا وديارنا وخلّوا سبيلنا.ولكن إذا منعتهم الحكومة من ذلك أيضًا فلهم الحق في مقاومتها..لأنهم ضحوا بأموالهم وديارهم و لم يخلوا بالأمن، ولكن الحاكم هو الذي يخل بالأمن إذ يمنعهم من الهجرة ويدعوهم لمقاومته.وهكذا كان حال اليهود عندئذ؛ فما كان الملوك يتركونهم ليهاجروا إلى وطنهم ولا كانوا يسمحون لأخوتهم بتعمير مدينتهم أورشليم من جديد..إلى أن هيا الله الظروف المواتية لذلك..حيث قيل (وفي السنة

Page 89

٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني الأولى لكورش ملك فارس عند تمام كلام الرب بفم إرميا نبّه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداء في كل مملكته وبالكتابة أيضًا قائلا: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها إلى الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا.من منكم من كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا، فيبني بيت الرب إله إسرائيل.هو الإله الذي في أورشليم (عزرا ۱: ۱-۳).صداقة هذا هو كورش نفسه الذي ناصره اليهود، فسمح لهم بالعودة إلى أورشليم، وهو نفسه الذي جاء ذكره في سورة الكهف (٨٤-٩٩) باسم (ذي القرنين)، فأنشأ معهم، وهزم ملك بابل بمساندتهم بأمر الله تعالى.كانت الحكومة البابلية مستمرة من قرون وكانت مملكة كورش ضئيلة ،أمامها وأرادت بعض الحكومات بما فيها بابل القضاء على حكمه، ولكنهم عرف نيتهم فعقد اتفاقية سرية مع اليهود، وهزم البابليين.وقد بين الله بذكر هذه الأحداث أن اليهود المعارضين للنبي ﷺ هم أيضا يكيدون له كما الشياطين رؤساء الشر يكيدون لسليمان، ويتبعون نفس الطريق الذي اختاره هاروت وماروت بأمر من الله تعالى، ولكنهم لا يفكرون أن الذين تآمروا على سليمان كانوا أهل شر وسوء، في حين أن هاروت وماروت قاما بتلك النشاطات بأمر الله لإنقاذ بني إسرائيل من ربقة ملك بابل..وكانا يقولان للناس: هلموا انضموا إلينا ولا ترفضوا ولا ترتدوا كافرين تعالوا نحارب من داخل المدينة سرا..عندما يهاجمها كورش بجيش من الخارج، ولا تخبروا بذلك نساءكم لأن فيهن ضعفا وجبنا ولا يستطعن كتمان السر.فهناك بون شاسع بين ما يقومون به وبين ما قام به هاروت وماروت من نشاط خفي..فهل يمكن أن يدعوا بأن ما يفعلون بمحمد يفعلونه بأمر الله ولإرضائه تعالى؟ هل يعد كافرا من يرفض الانضمام إليهم؟ وما داموا لا يمكنهم قول ذلك فإنهم يشبهون الثائرين على ملك سليمان، وليسوا كثائرين على ملك بابل.

Page 90

۸۷ سورة البقرة الجزء الثاني ويبين قوله تعالى: (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) أن الثوار المشبهين بالملائكة لم يكونوا يغرون أحدا إلا بوحي من الله تعالى..فهل يدعي اليهود أن الله يوحي إليهم أن يعادوا محمد ام لا ؟ وبرغم أنهم لم يتلقوا أي وحي كهذا..فهم الله عليهم عندما يقال لهم: لا تكيدوا هذه المكائد..يقولون : لقد سمح الله لنا بذلك..وقد قمنا بمثل هذه النشاطات في بابل أيضا.فيرد أن الأحوال والأسباب قد تغيرت الآن تماما..لأنكم الآن تحاربون رسولي الذي تلقى الوحي مني..ولستم إلا أعداء سليمان كما كان أعداؤه يتهمونه بالكفر فأنتم أيضا تتهمون محمدا بالكفر؛ وكما أشاعوا ضده الإشاعات فأنتم أيضًا تشيعون الأقاويل ضد هذا النبي، وصرتم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.مثل كتبنا أما ما قام به رسولان من رسلي في بابل فقد قاما به بأمر مني، ضد قوم عليهم الدمار والهلاك وقمتم عندئذ بما قمتم به لمساندة رسلي وليس لمعارضتهم.وأما الآن فتظنون أنكم سوف تقضون على دعوة محمد كما قضى رجلان صالحان على ملك بابل.لن تفلحوا في ذلك أبدا، لأنكم تشبهون أعداء سليمان..ووقتها قمتم بنشاط سري ترتب عليها نفيكم من البلاد والآن أيضا سوف تلقون نفس المصير.ثانيا- تكون جملة (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت جملة مستأنفة..والمعنى أنه شتان بين ما فعل أعداء سليمان ضده، وبين ما قام به هاروت وماروت يبابل..فلا يحق لهم أن يقولوا نحن نفعل كما فعل هاروت وماروت ببابل.والمعنى الثاني أنهم يشبهون في نشاطهم السري أعداء سليمان وأعداء ملك بابل.وأما شبههم بأعداء سليمان فحقيقي؛ وأما شبههم بأعداء ملك بابل فهو شبه ظاهري فقط وليس حقيقيا.هو وقوله (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم يشير إلى حقيقة أن اليهود يحسبون أنهم كما تحرروا من ربقة ملك بابل بمساندة ملك الفرس..فسوف يتحررون الآن أيضًا من حكم رسول الله محمد له بالتآمر عليه من دولة خارجية؛ وهذا لن يحدث أبدا.

Page 91

۸۸ سورة البقرة الجزء الثاني ذلك لأن نجاح هاروت وماروت يكمن في أنهما فعلا ما فعلا بأمر الله تعالى، ولكن هؤلاء يخالفون الله عن أمره فلن ينفعهم.فاتهامهم النبي بالكفر كالهام أعداء سليمان إياه وتآمُرُهم عليه مع كسرى ومقاومتهم له بمساندة خارجية، كما حدث في غزوة خيبر، كل ذلك لن يغنى عنهم شيئا، وإنما مصيرهم الهلاك ولن يضروا محمدا شيئا.وكأن الله تعالى ببيان هذين الحادثين يوعدهم ويدعوهم للمقارنة بين ما فعلوا في زمن سليمان وما فعلوا في بابل حتى يعرفوا مصيرهم، حيث أدت مؤامرتهم ضد سليمان إلى إضعاف قوة إسرائيل وانحطاطهم وهوانهم فأسرهم ملك بابل وأجلاهم عن وطنهم حتى أن أكبر أعداء سليمان يربعام أيضًا لم يجد بدا من الهروب إلى مصر (الملوك الأول ٤٠:١١).ولكنهم لما قاموا بالنشاط السري بأمر من الله تعالى وتحت قيادة نبيين قضوا على عدوهم وعادوا إلى وطنهم من جديد.فكأن في ذلك نباً أنهم لتآمرهم مع الفرس سوف يُطردون من المدينة ثم من خيبر أيضًا حتى تطهر أرض العرب من نجسهم..وعندئذ يتبين جليا أنهم كاذبون.وبالفعل أدّت مؤامرتهم هذه إلى هلاك كسرى، ثم إلى نفيهم من الجزيرة العربية، تماما كما حدث بالمتآمرين على سليمان عليه السلام أن وقوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق)..يوضح رؤساءهم يدركون جيدا أن من يعادون أنبياء الله تعالى ويأتون بهذه المنكرات لا يكون لهم أي نصيب من نعم الآخرة؛ ولكنهم مع ذلك لا يرتدعون عن القيام بمثل هذه النشاطات، فذات مرة جاء حبران يهوديان إلى النبي ، ولما رجعا سأل أحدهما الآخر : ما رأيك فيه؟ قال: إني أراه صادقا فقال الأول: وأنا كذلك.قال: فهل نؤمن به؟ قال: لن أصدقه ما حييت.فقال: وهذا بالضبط ما نويته.(السيرة النبوية لابن هشام، عداوة اليهود شهادة من صفية)

Page 92

۸۹ سورة البقرة الجزء الثاني ويظهر من هذا أن قلوب اليهود كانت تشهد بصدق النبي ﷺ مما رأوا من أدلة صدقه، ومما تحقق من الأنباء التوراتية، ولكنهم كانوا يكفرون به بأفواههم.ويشير قوله تعالى: (ولبئس ما شروا به أنفسهم إلى أنهم يحسبون بفعلهم هذا أنهم قد اشتروا أنفسهم..أي أنقذوها من الدمار، ولكن الحقيقة عكس ذلك..حيث إنهم بسبب ذلك سوف يهلكون، فيعاقبهم نبينا في الدنيا، ونعذبهم في الآخرة.وقوله (لو كانوا يعلمون) يعني من يدريهم أن محمدا سوف ينال من القوة والسلطان ما لا قبل لهم به..وينفيهم من الجزيرة العربية؟ هذا، وتبين الآية أيضًا أن الإسلام لا يرضى بالنشاطات الخفية والجمعيات السرية وما حدث ببابل كان استثناء تم بأمر من الله تعالى.* ويجدر بنا أن نوضح هنا إشكالين: الأول أن الله تعالى استخدم صيغة الماضي فقال: "واتبعوا "في حين أن الأوفق استخدام صيغة المضارع "يتبعون ".الواقع أن الأمر الذي أشير إليه هنا هو النشاط اليهودي السري الذي أثاروا به کسری خسرو الثاني ضد النبي.ولكن لما خلفه ابنه شيرويه توقف هذا النشاط، لذلك استخدمت صيغة الماضي، لأنه لو استخدمت صيغة المضارع "يتبعون " لظن أن الملك الجديد أيضًا لم يزل سائرا سيرة ،أبيه، وهذا خلاف الواقع.والإشكال الثاني أن الله تعالى استخدم صيغة المضارع "تتلو "مع أن الأنسب هو استخدام صيغة الماضي "تلا ".وقد أجاب المفسرون على ذلك بأن هناك محذوفا قبل الفعل "تتلو"..وتقدير العبارة كانت تتلو (البحر المحيط).وأسلوب الحذف من السمات الخاصة باللغة العربية دون اللغات الأخرى.فبينما تلجأ اللغات إلى أدوات خاصة للتأكيد والتنبيه..فإن العربية تؤدي معنى التوكيد بالحذف فقط.فحذفت ( كانت ) لتأكيد أن أعداء سليمان قاموا بالنشاط ضده..وأن أعداء محمد أيضا يسلكون طريقهم تماما، ولا يألون جهدا للقضاء على الإسلام.

Page 93

سورة البقرة الجزء الثاني وعلاوة على ذلك فهناك سبب آخر لاختيار هذا الأسلوب..وهو أن من أساليب العرب أنهم يستخدمون صيغة المضارع للتعبير عن عادة قديمة، ومثال ذلك قول الله تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل (البقرة: (۱۹۲.وهنا أيضا جيء بصيغة المضارع للإشارة إلى النشاطات اليهودية المستمرة التي لم يزالوا يقومون بها منذ زمن سليمان ورسخت فيهم حتى كأنها صارت طبعا فيهم.** وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٤) التفسير : تبين الآية أنهم لو آمنوا بمحمد ﷺ ، وتمسكوا بالتقوى لازدهروا روحيا وماديا، ولكنهم عادوه ، تعصبا، فقالوا: لماذا لم ينزل الوحي على أحدنا ونزل على واحد من بني إسماعيل.ولكنهم لو علموا ما قدر الله لهم من عذاب شديد، وكتب للمسلمين من فضل عميم، ولو علموا ما سيواجههم من صعاب وظروف قاسية وما سيناله محمد من سطوة وشوكة..لأسرعوا إلى الإيمان به والانقياد له.ولكنهم لا يعلمون ما أخفى لهم المستقبل..وإنما يعيشون طلابا للملذات الدنيوية، ولذلك يعارضونه ويعادونه.انظروا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه..فإنه لما أسلم قال الناس: كان رئيسا من رؤساء مكة، ولكنه أصبح الآن ذليلا بيد أن ما حدث هو أن من كانوا يحترمونه ويثنون عليه خيرا قبل إسلامه لم يتجاوزوا مائتين أو ثلاثمائة..ولكن الله تعالى أنعم عليه ببركة الإسلام بالخلافة والملك، فنال شرفا دائما وعزا أبديا في العالم كله.فلما لحق النبي الله وبالرفيق الأعلى وانتخب أبو بكر الصديق خليفة للمسلمين بلغ الخبر أهل مكة..وكان أبو قحافة والد الصديق في المجلس فسأل من أبو بكر هذا؟ قال: ابن أبي قحافة.فسأل في حيرة ومن أبو قحافة؟ قال: أنت.فلما سمع ذلك قال من ٤ الجزء المحصور بين النجمتين جاء في الأصل الأردو تحت تفسير الآية القادمة (١٠٤)، ونقلناه هنا لربط الموضوع.

Page 94

۹۱ سورة البقرة الجزء الثاني جديد: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.ثم أضاف: اليوم تبين لي صدق محمد جليا تاريخ الخلفاء للسيوطي، أبو بكر الصديق).فأين رئيس قبيلة واحدة من خليفة للمسلمين كافة وملك للعرب جميعا..اصطدم به الفرس والرومان فهزمهم.فالله تعالى يقول: إن التضحيات التي سوف يبذلونها في سبيل الإسلام تكون ضئيلة جدا بالنسبة لثمارها التي يجنونها.ليتهم يدركون هذه الحقيقة! الترتيب والربط: أن نبههم أن لقد سبق بينت في تفسير الآيات السابقة أن الله ذكر أولا تلك النشاطات التي ما زال اليهود يقومون بها ضد أنبيائهم السابقين و لم ينفك يسرد عليهم معاصيهم إلى أنهم الآن يعادون النبي ﷺ كما عادوا أنبياءهم من قبل.وفي هذه الآيات يواصل الله ذكر بعض الحلقات الأخرى من سلسلة معاصيهم، وبين أن معارضتهم للنبي ليس جديدا منهم، لأن معارضة الأنبياء ظلت شغلهم الشاغل منذ القدم.كما بيّن أن عداوتهم هذه تشجعهم على عداوة الله جل علاه.فقد سبق أن نبّه في الآية (۹۸) أن العداوة لهذا القرآن ليست إلا عداوة لمن أنزله.وفي الآية (۹۹) حذرهم من أن عداوة الله تعالى تعني عداوة كل الأسباب الروحانية والمادية لرقي الإنسان.فلا تظنوا الكفر بالقرآن أمرا هينا كلا بل الكفر به يعتبر حربا على خالق الأسباب الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء.وبين في الآية رقم (۱۰۰) أنهم يكفرون بالقرآن بلا مبرر لأن هناك براهين ساطعة على صدقه.ثم ذكر في الآيتين (۱۰۱ ، ۱۰۲ ) أن اليهود كانوا عاهدوا أنبياءهم أنهم سوف يصدقون النبي الموعود لهم، ولكنهم مع ذلك لا يؤمنون به.وفي الآية (۱۰۳) صرح أنهم لا يكفرون بالنبي ﷺ فحسب، وإنما يخططون لقتله بأنواع الحيل..ومنها أنهم يكاتبون سرا الملوك خارج جزيرة العرب، ظانين أنهم

Page 95

۹۲ الجزء الثاني سورة البقرة سوف يفوزون في القضاء على هذه الدعوة، ولكن هذا خطأ لأنهم لن يفلحوا أبدا في هذه النوايا الخبيثة.وهذا هو نفس الموضوع الذي سبق ذكره في منهم..قوله تعالى (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم) (البقرة: ۸۸).ثم بيّن أن معارضة الأنبياء عادة راسخة فيهم منذ القدم، وضرب لذلك مثلا يتعلق بثلاثة عصور: عصر ازدهار حينما كانوا على قمة الازدهار..وذلك في عهد داود وسليمان وعصر وسط أي في عهد النبيين حجي وزكريا؛ وعصر انحطاط..وكأنهم لم يتخلوا عن عادة المعارضة في أي عصر من العصور.وفي الآية (١٠٤) بين أن الإيمان الصادق والتمسك بالتقوى، والخوف من سخط الله عمل ثوابه عظيم وخيره كبير.يَا أَيُّهَا الذين آمنوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1.0) شرح الكلمات : راعنا راع: فعل أمر من راعي، و"نا"ضمير الجمع للمتكلم.وراعاه مراعاة: لاحظه محسنا (الأقرب).حيث إن راعى من باب المفاعلة الذي يقتدي مشاركة الفريقين في العمل على السواء..لذا فأن راعنا تعني عاملنا بإحسان والتفت إلينا برفق نعاملك بإحسان ونلتفت إليك برفق.انظرنا أصغ إلينا؛ تأنَّ علينا وانتظرنا (اللسان).وكأنه أيضًا بمعنى (راعنا) ولكن ليس فيه شرط المشاركة.التفسير: كان اليهود يمكرون بالمسلمين مكرين مكر خارجي ومكر داخلي.وتتحدث هذه الآية عن مكرهم داخل المجتمع الإسلامي.فكما كانوا يغرون القبائل

Page 96

۹۳ سورة البقرة الجزء الثاني والدول الأجنبية بالقضاء على الإسلام من الخارج..كانوا يلجئون لأنواع الحيل والمكر لتنفير المسلمين من الإسلام وتقليل حبهم وإجلالهم للرسول.فكانوا إذا رأوا أحدًا قد أصيب بضرر أسرعوا يتظاهرون بالعطف عليه.وكانوا يستخدمون في مجلس النبي ﷺ كلمات ذات وجهين..حسن وسيئ (البخاري، كتاب الاستئذان)، بقصد أن يستخدمها المسلمون أيضًا في حديثهم مع النبي..فيزول من قلوبهم الحب والتقدير له، ويحل محله قلة الأدب ونقص الاحترام شيئا فشيئا.وعلى سبيل المثال: كانوا يسألونه سؤالا لا طائل منه استهزاء وسخرية، لكي تخف من قلوب المؤمنين هيبته ويضعف إخلاصهم له، أو كانوا يسألونه سؤالا عن العبرية استخفافا به..مع أنه ليس في ذلك ما يشين المرء في الحقيقة.وكان النبي إذا لم يعرف شيئا يصرح بأنه لا يعرف روي أن النبي ذات مرة رأى بعض ﷺ أصحابه يقومون بتلقيح النخل، فسألهم عن سبب ذلك.فقالوا: هكذا نفعل يا رسول الله قال: لعلكم إذا لم تفعلوا كان أكثر ثمرا.فتركوا التلقيح ظنا منهم أن النبي لم يستحب ذلك.ولكن حينما لم تثمر النخيل جيدا شكوا إلى النبي قلة الثمر فقال : أنتم أعلم بأمور دنياكم.إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر (مسلم، الفضائل).فكان الرسول ﷺ إذا لم يعلم بالشيء اعترف أنه لا يعلمه، ولكن اليهود كانوا يحاولون بهذه الطريقة إحراجه أمام أصحابه ولكن الله تعالى كان يحميه من شرورهم بالوحي.النبي كلمات ومن شرور اليهود هذه أنهم كانوا يستخدمون في الحديث مع تحمل في طيها تحقيرا واستهزاء، وإذا نهاهم أحد عن استخدامها قال قائلهم: ما فهمت قصدي، لأن نيتي لم تكن كما تظن ورد في الحديث أنهم كانوا يسلمون عليه بقولهم: السام عليكم، بدلا من السلام عليكم.فكان السامع يظن أنهم سلموا عليهم، ولكنهم في الحقيقة دعوا عليه..لأن السام يعني الهلاك والدمار.ومرة فطنت إلى ذلك السيدة عائشة الله عنها فردت على اليهودي: عليكم السام - رضي

Page 97

الجزء الثاني فقالت: يا نبي ٩٤ سورة البقرة واللعنة ولكن النبي الله قال لها مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله الله، أو لم تسمع ما يقولون؟ قال: أو لم تسمعي أرد ذلك عليهم فأقول: عليكم.(البخاري، الدعوات).وهذا يدل على عادة بغض اليهود وعداوتهم واستخفافهم بالنبي.وهنا ضرب الله مثلا لمكر اليهود داخل المجتمع الإسلامي.ونصح المسلمين قائلا: أيها المؤمنون، لا تقولوا للنبي راعنا، ولكن قولوا انظرنا.وقد ذكر القرآن سبب هذا الأمر الإلهي في مكان آخر، حيث صرح بأن اليهود كانوا عندما يحضرون إلى النبي يسترعون انتباهه وعطفه إليهم قائلين راعنا.وهذه الكلمة تعني: التفت إلينا بإحسان وعاملنا بلطف ويبين القرآن أنهم لم يكونوا ينطقون بهذه الكلمة نطاقا عاديا، وإنما كانوا يلوون ألسنتهم بحيث يظن السامع أنهم يقصدون المعنى العادي، ولكنهم في الحقيقية يقصدون سب النبي ﷺ وتحقيره.فقد قال الله تعالى (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون: سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) (النساء: (٤٧).أي أن بعض اليهود يقومون بتحريف كلام الله تعالى، ويقولون سمعنا وعصينا؛ واسمع قولنا لا أسمعك الله كلامه.ويقولون: راعنا، أي عاملنا بلطف.ولكنهم ينطقون بهذه الكلمة وهم يلوون ألسنتهم ويطعنون في الدين.ولو أنهم تركوا عادة الفساد والشر هذه وقالوا بدل ذلك سمعنا وأطعنا وانظرنا..أي سمعنا قولك فالتفت إلينا بلطف وإحسان لكان خيرًا لهم وأدعي إلى تحسين حالتهم.يقول المفسرون إن النبي ﷺرعى الغنم في صغره، ولذلك أشرار اليهود يقولون له راعنا "، وكانوا يلوون ألسنتهم في نطق الكلمة بحيث تصبح " راعينا" ويقصدون أنك كنت راعيا لنا..فكيف صرت الآن نبيا ؟ (البحر المحيط).ولكن العلامة الراغب الأصفهاني يقول: "كان ذلك قولا يقولونه للنبي ﷺ على سبيل التهكم، يقصدون

Page 98

۹۵ سورة البقرة الجزء الثاني به رميه بالرعونة ويوهمون أنهم يقولون راعنا أي احفظنا، من قولهم: رعن الرجل يرعن رعنا فهو رعن وأرعن المفردات: تحت كلمة (عن).وهذا يعني أن راعنا " يمكن أن تكون من ،رعن أي رجل أناني متكبر مغرور؛ فهم كانوا ينسبونه إلى الرعونة والكبر والغرور باستخدام كلمة يوهمون بها الآخرين أنهم يبجلونهم ويحترمونهم، ولكنهم في الحقيقة كانوا يفرحون بأنهم قد سفهوا المسلمين."I ولكنني أرى هناك سببا آخر لنهي الله المسلمين عن قول " راعنا "وهو أن "راع فعل أمر من باب المفاعلة الذي يقتدي الاشتراك في العمل من الطرفين..كقولنا: باهله وقاتله، ويعني: عاملنا بإحسان ورفق حتى نعاملك نحن أيضا كذلك، وإلا فلا.أما كلمة "انظر "فأنها تعني فقط : التفت إلينا بعناية ورفق.ففي قول "راعنا "من سوء الأدب والوقاحة ما لا يليق بعظمة النبي ومكانته ، وليس المراد فقط تحاشى التشبه باليهود، لأن الإنسان إذا كان حسن النية فلا معنى لتشبهه باليهود، وإنما نهى الله المسلمون عنه كيلا يصابوا شيئا فشيئا بمرض سوء الأدب وقلة الاحترام مع أنه لا بد من النبي لم وهذا يعني أنه أخذ الحيطة والحذر في صغار الأمور أيضًا.والواقع يُصب المسلمون ما أصابهم من انحطاط وفساد ودمار إلا لأنهم أساءوا استخدام كلمات لها حرمتها وقداستها.فقد دمرت حكوماتهم لأنهم استخدموا كلمة "الملك بمعنى سفيه.فإذا سمي الملك سفيها..فكيف يحترمه الناس؟ ومتى فقد الملك احترامه ضاعت هيبة الحكم أيضًا.كما انعدم احترام العلماء من نفوس المسلمين حتى أخذوا يطلقون كلمات التوقير مثل "حضرة " المختصة بالصلحاء والأولياء على الأشرار والأوباش..حتى إنهم أساءوا استخدام لفظ الجلالة: فجعلوا يقولون عما لا يملك شيئا أنه "ليس معه إلا الله "..يريدون أنه صار صفر اليدين، ولا يعنون بقولهم هذا ما أراده النبي ﷺ أو سيدنا أبو بكر الصديق حين سأله الرسول مرة وقد تصدق بكل ما يملك ما أبقيت

Page 99

الجزء الثاني الله ٩٦ سورة البقرة لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله الترمذي، أبواب المناقب).حقا شتان بين قوله –رضي عنه وبين ما يقول هؤلاء؛ لأنهم يقصدون أنه عاد لا يملك أي شيء.وكان نتيجة انتهاكهم لحرمة لفظ الجلالة أنهم فقدوا الإيمان بالله تعالى وصاروا ملحدين.فإياكم واستخدام كلمات ذات حرمة وقداسة فيما لا تليق به..وإلا فقدتم الاحترام والأدب نحوها، وجلبتم على أنفسكم الهلاك والدمار.كما يجب أن تحملوا غاية التقدير والاحترام لكلمات مثل آية ،معجزة كرامة، نبي، رسول، شهيد..،وغيرها، وإلا فقدتم احترام الشخصيات التي تختص بها هذه الأسماء، ومن ثم تنتشر فيكم الإباحية واللادينية.لقد كان الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) يقول دائما: الطريقة كلها أدب (ملفوظات ج۳ ص ٤٥٥)..أي أن الروحانية أساسها الأدب.فإذا لم يراع الإنسان الأدب واستخدم كلمات ذات وجهين جلب عليه الهلاك أحيانا.كان إنشاء الله خان شاعرا مجيدا، وكان يحاول دائما أن يسبق غيره من الشعراء في مدح الملك.وذات يوم مدح أحد الشعراء الملك فوصفه أنه نجيب، فأسرع (إنشاء الله) قائلا : بل إنه أنجب يريد أنه أنجب الناس؛ ولكن (أنجب) تعني أيضًا ابن الأمة ومن المصادفات الغريبة أن الملك كان ابن أمة، فساد السكوت المجلس، لأن الحاضرين فكروا في هذا المعنى.وكانت النتيجة أن غضب الملك غضبا شديدا وأمر بحبس الشاعر..وقد جن ومات في السجن تاريخ الأدب الأردو، ص ٢٤٧).الله -جل وعلا – المؤمنين ألا يقولوا راعنا، بل يقولوا: انظرنا: ويتجنبوا لقد نصح كل ما يتسبب عنه سوء أدب ويمس كرامته.وقوله "ليا" يعني أيضا الإخفاء والكتمان مما يدل على أن اليهود عندما كانوا يقولون راعنا "كانوا يخفون ما لا يبدون للآخرين كانوا يعنون: أنت أحمق مغرور -والعياذ بالله ويخدعون المسلمين ويفرحون بخداعهم هذا، ويريدون أن يوقعوا المسلمين أيضًا في قول يحطون به من شأنه.

Page 100

الجزء الثاني ۹۷ سورة البقرة وكلمة "انظرنا"تعني أيضًا: التفت إلينا برفق؛ انتظرنا أعطنا فرصة للكلام.فهي كلمة أدب، ومن الضروري للمؤمن أن يستعمل مثل هذه الكلمات إبداء للاحترام والتقدير الذي يكنه في قلبه للنبي.النبي، و(اسمعوا): قد أمرناكم فاقبلوا ما نقول ويعني أيضًا: اصغوا جيدا إلى حديث فلا تحتاجوا للسؤال مرة أخرى ولا تضطروا إلى استخدام مثل هذه الكلمات الركيكة، وإن لم تفعلوا كما نقول فاعلموا أن صغار الأمور هذه تصبح كبائر، وسوف تفقدون حبكم للرسول الله.لأن للظاهر تأثيرا كبيرا على الباطن.إلا أن الأدب والاحترام الظاهري لا يعني أن يفعل الإنسان ما يجعل منه عبدا لغيره كلمس الركبة أو القدمين..لأن في ذلك إذلالا للمؤمن أي إذلال، ولا يجوز بأي حال.إنه بمقدور الإنسان أن يحترم غيره بدون إذلال نفسه، وينبغي ألا يختار الإنسان ما فيه مذلة لنفسه..لأن الإسلام لا يأمر بذلك.(وللكافرين عذاب أليم) والمراد من الكافرين هنا شرار اليهود المفسدون الذين يمارسون هذه الشرور والمنكرات لأهانه النبي ﷺ وبث النفاق في نفوس المؤمنون، وتقليل حبهم وتقديرهم للنبي ﷺ يقول الله تعالى : إذا لم يرتدعوا عن هذه الشرور فسوف يلقون عذابا أليما.مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٦) التفسير : يقول الله عز وجل إن أهل الكتاب والمشركين يريدون ألا ينزل عليكم أيها المسلمون أي فضل ولا نعمة من الله، ويحاولون أن يقللوا من احترام النبي ﷺ في نفوسكم، ويوقعوا بينكم النفاق والشقاق والفساد وأن تفقدوا الوحدة التي تزيدكم قوة..فاحذروهم جيدا.واعلموا أن عدوكم يريد أن يسخر منكم

Page 101

الجزء الثاني ۹۸ سورة البقرة ويستهزئ بكم..ولكنه في قرارة نفسه يعلم جيدا أن أعماله المنكرة هذه تكشف عن خبثه وخسته هو ولا تضر بمحمد رسول الله شيئا.(والله يختص برحمته من يشاء)..أيها اليهود إن أعمالكم السيئة هذه لن تغني عنكم شيئا لأن الله يختص برحمته من يشاء، وقد اختص الآن محمدا برحمته، ومهما حاولتم سبّه وإهانته فالنصر حليفه دائما وأبدا..لأن غيرة الله قد ثارت لنصرته.(والله ذو الفضل العظيم)..يوجه أنظارهم إلى أن أنظارهم إلى أن رحمة الله واسعة لا تُحد، وتعم الجميع، فإن تبتم وآمنتم لوجدتم أنتم أيضًا نصيبكم منها.مَا نَنْسَحْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (۱۰۷) شرح الكلمات ننسخ – نسخ الشيء: أزاله؛ أبطله؛ مسحه (الأقرب) ننسها أنسى الرجل الشيء: حمله على نسيانه (الأقرب).فمعنى ننسها أي ننسيك إياها ونمحو أثرها من الذاكرة آية - الآية: الرسالة.التفسير : إن هذه الآية من الأهمية والحيوية بمكان وعندي أنه لو أن الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام قد اكتفى فقط بإزالة ما علق بأذهان المسلمين من خاطئة مفاهیم عن هذه الآية لكان هذا وحده دليلا قاطعا على صدقه..ذلك لأن ما شاع ع ما بين المسلمين من معان خاطئة حولها كان يشكل عقبة كبيرة في طريق الإيمان بأن الإسلام دين حق وسبيل للسكينة القلبية والطمأنينة الحقيقية، لأن المسلمين في ذلك العصر كانوا يفهمون من هذه الآية ويستدلون بها على وجود النسخ في القرآن بمعنى أن الله قد نسخ بعض الآيات القرآنية أي ألغى حكمها،

Page 102

۹۹ سورة البقرة الجزء الثاني وأنه سبحانه قد أنسى بعضها أصلا والنسخ عندهم أنواع؛ الأول أن هناك آيات نسخت لفظا وبقيت حكما ويقدمون مثلا لذلك: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم (روح المعاني): أي إذا زنى رجل عجوز وامرأة عجوز فارجموهما يزعمون أن هذه الآية المنحولة باقية حكما ومنسوخة ولا بد من تطبيق هذا الحكم..وإن كانت كلماته قد رفعت من القرآن ولا لفظا، تتلى ! ويقدمون مثلا آخر لذلك في زعمهم وهو لو) كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا.ولا يملأ جوفه إلا التراب) (تفسير فتح البيان).والنوع الثاني: أن هناك آيات نسخت حكما وبقيت لفظا ومثال ذلك عندهم قول الله تبارك وتعالى (لا إكراه في الدين) (البقرة : ٢٥٧)..فيزعمون أن آية السيف قد نسخت حكم هذه الآية، ولا مانع من نشر الإسلام بالقوة والعنف.قد.١٣)..خبير كما يقدمون مثلا آخر لذلك وهو أن قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يديه نجواكم صدقة.ذلك خير لكم وأطهر) (المجادلة: ۱۳)..نسخ حكمه بقوله تعالى: (ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله.الله بما تعملون) (المجادلة: ١٤).والنوع الثالث: ما نسخ لفظا وحكما.ومثال ذلك عندهم الأمر بالاتجاه نحو القبلة الأولى بيت المقدس في الصلاة أول الأمر (التفسير الكبير للرازي).فكان المسلمون في البداية يتجهون نحو القدس، ولكن هذا لا يجوز الآن..فليس في القرآن الكريم أي أثر للآية التي أمر الله فيها بذلك، ولا هم يتجهون نحو القدس في الصلاة ويرون أن كلمة (ننسها) تعني أن ينسى الناس تلك الآيات، ويضربون لذلك مثالا أن اثنين من الصحابة تعلما سورة من الرسول..فأرادا أن يذكراها ويراجعاها ولكنهما لم يقدرا على حفظ لفظ منها.فلما جاءا النبي ﷺ وذكرا له ما حدث، قال الله إنهما مما نسخ ونسي (القرطبي وفتح البيان.

Page 103

سورة البقرة الجزء الثاني وقرأ البعض (ننساها) بدل (ننسها)، بمعنى أننا نبقيها في القرآن ولا نغيرها.وقرأ البعض الآخر (تنسها) ولكن بمعنى ،ننسها، أي نذهب بها ونمحو أثرها من الأذهان (المرجع السابق).ولكن لو تدبر الإنسان قليلا لوجد أن التسليم بوجود النسخ في القرآن يؤدي إلى الشكوك في القرآن نفسه.فلو زعم أحد أن الله نسخ حكم الآية الفلانية ومحا أثرها من القرآن أيضًا..فربما لا يترتب على هذا شك في القرآن كما كان من المعقول أن لا يذكر في القرآن تلك الآيات التي أريد تبديلها بحكم دائم؛ ولكن أي جدوى في حفظ الآيات المنسوخة حكما في المصحف إذا لم يرد استبدالها بحكم دائم آخر؟ لا شك أن الأحكام المؤقتة تنسخ بأحكام أخرى، كما نسخت صحف إبراهيم، وكما نسخت صحف موسى بالقرآن الكريم..فلا غرابة في نسخ بعض الأحكام الدينية المؤقتة بالبعض الأخرى، ولكن ما لا نقبله هو أن يعزى إلى القرآن الكريم – وهو الشريعة الدائمة الأبدية – أن بعض آياته قد كتبت فيه ثم نسخت منه.وإذا كان الأمر قاصرا على الحذف فقط لم يكن بالغ الخطورة، ولكن أن تبقى بعض الآيات المنسوخة حكما موجودة فيه لفظا..ثم لا يأتي عليه بدليل من الوحي الإلهي وإنما من قياسهم الفارغ فهذا أمر خطير أشد الخطورة، يعرض القرآن للشك والريبة، ذلك أن الناس متفاوتون في الذكاء، فبعضهم يفهم شيئا ولا يفهم شيئا آخر.وإذا تركنا الأمر للعقل الإنساني يحكم كما يشاء في القرآن ليرى آية سارية الحكم، وآية أخرى منسوخة الحكم..لأدى بنا ذلك إلى التسليم بنسخ القرآن كله؛ لأن فيه آيات تفهمها بعض العقول بينما لا تفهمها عقول أخرى.ولذلك نرى الاختلاف عندهم في عدد الآيات المنسوخة.إذ يبدأ هذا العدد من خمس آيات ويصل إلى ألف ومائة آية..وكأن الذي لم يتمكن من فهم خمس آيات زعم أن المنسوخ خمس آيات، ومن لم يفهم مائة قال إن المنسوخ مائة، ومن لم يقدر على فهم ألف ظن المنسوخ ألفا..وهلم جرا.

Page 104

۱۰۱ سورة البقرة الجزء الثاني ولكن سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود جاء وأعلن أن القرآن من أوله إلى آخره..من (باء) البسملة إلى (سين) (الناس) قابل للعمل ولن ينفك هكذا إلى أن رث الله الأرض ومن عليها.ولا أزال أتذكر جيدا قوله : إذا سلم أحد بأنه لا تزال في القرآن آيات منسوخة..فلماذا يكلف نفسه عناء التدبر فيه والعمل به؟ سيقول في نفسه: لماذا أضيع جهدي ووقتي في ذلك؟ من يدري أن الآية التي أعمل فكري فيها يتبين لي فيما بعد أنها كانت منسوخة؟ ولكن الذي يؤمن أن هذا الكلام بتمامه وكماله منزه عن النسخ، وأن كل لفظ منه جدير بالعمل به..لا بد أن يتدبر القرآن وهكذا يزيده القرآن علما ومعرفة.لقد نبغ من خلق الله تعالى أناس كثيرون في العلم والمعرفة، ولكن من المستحيل أن أحد أنه قد أحاط بكل ما في القرآن من علوم ومعارف، لقد فتح يدعي علي - - الله جل شأنه بكثير من معارف القرآن..ولكني لا أستطيع أيضا الادعاء بهذه الدعوى.والحق أن استيعاب أحد الجميع معارف القرآن لا يعني إلا قيام القيامة..ذلك أن القرآن ساري الحكم إلى ذلك اليوم، ولا ينزل بعده أي كتاب آخر، فعندما يتوقف ينبوع المعارف القرآنية المتجددة عن الجريان قامت القيامة.لذلك فلا آخر لمعارفه وإنما لن يزال هذا الينبوع يتدفق بماء المعارف المتجددة للدين.هذا كان الأجدر بالمفسرين على الأقل إن كانوا لا يقدرون على فهم القرآن ألا يعزوا إليه ما لا يقبله العقل السليم.إنني عندما أتصفح وأقرأ ما ورد في كتب التفسير في شأن النسخ لا أجد آيه واحدة منسوخة.ولكن الأدهى والأمر من أيضا أن التسليم بوجود النسخ يبطل جدوى القرآن.لذلك أرى أن معنى النسخ الذي أراده المفسرون في هذه الآية معنى خاطئ تماما لا يقبله القرآن الكريم..لأن الله قال في موضع آخر: (سنقرئك فلا تنسى (سورة الأعلى..أي أننا نقرئك القرآن بحيث لا تنساه.فإذا كان الله تعالى قد قال (ننسها) في موضع فإنه قال (فلا تنسى) في موضع ثان وعلى ضوء تفسير هؤلاء لا بد من التسليم بنسخ إحدى

Page 105

۱۰۲ سورة البقرة الجزء الثاني هاتين الآيتين.وإذا سلمنا بنسخ (سنقرئك فلا تنسى فهذا يعني أن القرآن لا بد أن ينسى دائما ولا تذكره أبدا.وهذا لا يقبله أحد.ومن عجيب قدرة الله أنه لم يفكر أحد بنسخ قوله (فلا تنسى مع أنه كان على أصحاب النسخ أن يقولوا بنسخه أولا وقبل كل شيء.ثم يعلن في موضع آخر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: ١٠)..فقد ألزم الله نفسه بحفظ القرآن الكريم على مر العصور.وما دام الله بنفسه قد تكفل بحفظ القرآن فمن المحال نسيان أو نسخ آية من آياته.الواقع أنه لم ينسخ من القرآن شيء، بل كل كلمة من كلماته جديرة بالعمل.إنه شرع دائم باق إلى يوم القيامة.لقد رأيتني مرة في الرؤيا أقول لأحد الناس: ليس كل لفظ فقط..بل كل حركة وسكون في القرآن لا يخلو من معنى، وأن القرآن بتغير طفيف يغير معانيه، وأنه مليء بالحكم؛ فلا نجد أبدا له مثيلا في فحواه من الحكم والحقائق.ولكن ليس من الضروري أن يطلع كل شخص على كل تلك الحكم والمعارف.الله نعم، يفتح من معارفه الجديدة في كل زمان ومع ذلك لا تزال فيه معارف مكنونة لتنكشف على أجيال قادمة وتمضي هذه العملية إلى أن تقوم القيامة.وليس لدى القائلين بالنسخ في القرآن أي برهان في السنة النبوية بحيث يقال إن النبي ﷺ قال بنفسه: إن آية كذا قد نسخت، أو روى عنه أناس حضروا مجلسه فقال لهم: لقد أخبرني الله البارحة أن آية كذا قد نُسخت، وإنما دليلهم على النسخ أن مفهوم آية كذا يتنافى مع مفهوم آية كيت..ويبدو أن إحداهما ناسخة للأخرى.كيت..ويبدو وكأن كل آية لم يتمكنوا من فهمها صارت منسوخة في رأيهم.وليس في هذا دليل إلا على عدم العلم فقط.ولكن العجب كل العجب أنهم من ناحية يقولون إن حديث الآحاد لا ينسخ القرآن، وهذا صحيح تماما..فنحن أيضا نقول إنه لا يمكن أن ينسخ واحد ولا

Page 106

۱۰۳ سورة البقرة الجزء الثاني مليون حديث آحاد شيئا من القرآن الكريم ولكنهم من ناحية أخرى يقولون بنسخ آيات القرآن بناء على ظنونهم وقياساتهم.إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه.ثم إنهم لا يقدمون أي مثال لآية نسخت حكما ولفظا، وإنما يذكرون حادث تحويل القبلة ويقولون إن الله تعالى كان قد أمر بالتوجه نحو القبلة الأولى..ولا يذكرون على أي كلمات لهذا الأمر المنسوخ لفظا وحكما.إذا فلا اعتبار لدعواهم وهم يزعمون أيضًا أن هناك آيات نسيها الصحابة، مع أن نسيانها في حد ذاته يشكل معجزة عظيمة، وكان لا بد أن تكون لهذا الحادث ضجة كبرى بين الصحابة كلهم..لأن عدد الذين كان النبي لا يعلمهم ويحفظهم القرآن يبلغ المئات.فالثابت تاريخيا أنه في موقعة واحدة استشهد سبعون قارئا (البخاري، كتاب المغازي)..ومن هذا نستطيع تقدير العدد الهائل من الحفاظ المسلمين.هؤلاء المئات من الحفاظ هم غير أولئك الخمسة الذين كان النبي الله يعلمهم ويحفظهم ما ينزل عليه من الوحي فور النزول (البخاري، كتاب العلم)..فهؤلاء الخمسة حفاظ خصوصيون.ثم كان لهم مئات التلاميذ الذين يحفظون القرآن عن ظهر قلب.فلو كانت بعض الآيات قد أنسيت لحدثت ضجة كبرى بين المسلمين، ولا بد من وجود عشرات الرواة لهذا الحادث، ولزم أن يروي كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.أننا كنا نحفظ سورة كذا ولكننا أنسيناها فجأة.كما لا بد أن يأتي الآخرون إلى أبي بكر مثلا ويذكروا له ما حدث..فيقول لهم: وأنا أيضًا قد نسيتها ويأتوا عمر فيقول لهم ما قال أبو بكر..ثم يأتوا عثمان وعليا..ويذهب الجميع إلى النبي ﷺ ويذكروا له الحديث العجيب..فيقول: نعم قد رفعتها الملائكة وأصبحت أنا أيضا لا أتذكر منها شيئا.رجلان فقط، لم يُذكر أبواهما نسيا سورة والأغرب من ذلك أن كليهما باتا معا، واستيقظا للصلاة ،معا ونسيا السورة معا، وفي الصباح أخبرا النبي بالخبر معا.ثم امتدت سلسلة النسيان حتى أن الرواة لم يضبطوا اسمى هذين الرجلين!!(فتح البيان والقرطبي)

Page 107

الجزء الثاني 1.2 سورة البقرة الحق أنه لا يمكن أن يصدق أسطورة النسيان هذه إلا غبي من الأغبياء..ولا يمكن أن يصدقها أبدا رجل سليم العقل.وأما فيما يتعلق بالآيات التى يزعمون أنها منسوخة لفظا وباقية حكما..كالآية المزعومة: الشيخ والشيخة إذا زنيا الخ..فنسأل : مادام حكمها قائما..فما الحكمة في نسخ ألفاظها؟ أيضًا مما لا يقبله العقل والمنطق السليم.ثم إن كلمات الآيات المنسوخة في زعمهم أيضا عجيبة.فمثلا قولهم: الشيخ والشيخة إذا زنيا..الخ).فالشيخ يعني: العالم الكبير أو سيد القوم؛ الرجل المتزوج..من قولهم: شيخ المرأة أي زوجها؛ الرجل العجوز المسن (الأقرب).وفي ضوء هذه المعاني يكون معنى عبارة: (الشيخ والشيخة الخ): ١ - إذا زنى عالم كبير أو رجل ذو شرف وسؤدد فارجموه، أما إذا ارتكب الفاحشة رجل من العامة فلا ترجموه.أو ٢- إذا زنى الزوج بزوجته فارجموهما فالشيخ والشيخة بمعنى الزوج والزوجة..وكأن الزوج يرتكب الزنا مع زوجته!.أو ٣-إذا زنى رجل عجوز بامرأة عجوز مع أنهم لا يقدران على الجماع أصلا – فارجموهما.وكل هذه الصور الثلاث من المحال، ولا يستطيع أحد قبول هذه العبارة على أنها آية قرآنية.وما يدعو للعجب أكثر أنهم يزعمون نسخ آية أخرى تقول بكون الإنسان حريصا للمال، مع أن هذا خبر وليس بحكم، ومن المتفق عليه أن الخبر لا ينسخ حيث ورد: "أما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ " (تفسير ابن كثير).فنسخ الحكم أمر مفهوم، ولكن لا يعني نسخ الخبر إلا أن الله أخطأ في بيانه وحاشا لله.فكل هذه الأقوال في حد ذاتها مدعاة للضحك والسخرية، ولا يقبلها إنسان عاقل.

Page 108

الجزء الثاني 1.0 سورة البقرة وعلاوة على ذلك فأي داع لذكر النسخ في القرآن هنا؟ إن الله تعالى يتناول هنا ذكر كتب اليهود، ويبين أنهم يقولون لا نصدق إلا بما أنزل علينا من الكتاب.فإذا لم يكن بد من التسليم بأن الآية تتحدث عن النسخ فمعنى ذلك أنها تتحدث عن النسخ في الصحف السابقة أي التوراة..وليس في القرآن كما يقول المفسرون، لأن ذلك لا يمت بصلة إلى الموضوع المذكور سالفا وكأن المفسرين يقولون إنه لما قال اليهود: نحن ورثة أفضال إلهية خاصة، فلا نصدق إلا ما ينزل على أنبيائنا؛ رد الله عليهم: حسنا، آمنوا بالقرآن فهو كلامي، وإنه أيضًا يُنْسَخ ويُنسى !! الحق أن قول الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)لا يذكر إطلاقا نسخ أي آية من القرآن لأن السياق أيضًا لا يُسوّغ هذا المعنى، ولا يجوز لنا قبول ما لا يقبله السياق أيضًا إن ما يتبين من السياق هو أن اليهود لا يودون أن ينزل على المسلمين أي فضل من الله تعالى، ولكن الله يمن على من يشاء، فمَنَّ على المسلمين بأكبر أفضاله..وهو الوحي الإلهي، وأعطاهم القرآن.ولما كان من الممكن أن يتساءل متسائل: ما الحاجة إلى كتاب جديد مع وجود شرائع سماوية سابقة..رد الله على هذا التساؤل وقال: كان في هذه الشرائع أحكام جديرة بالنسخ فنسخت.وكانت هناك أمور نسيها الناس بمرور الزمن وانمحى أثرها من الكتب السماوية شيئا فشيئا فمست الحاجة لإعادتها إلى ذاكرة الناس.وهكذا نسخنا جزءا من هذه الكتب واستبدلناه بأفضل منه في هذا الكتاب، وأوردنا ما نسيه الناس كما هو في الكتاب مرة أخرى.ولا يحق لأهل الكتاب أن يعترضوا على ذلك..لأن كتبهم نفسها تخبرهم بمجيء شريعة جديدة، فقد قيل (ها) أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا.ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم.(أرمياء ٣١:٣١ و ۳۲) وقيل: (لأنه يقول لهم دائما هو ذا أيام تأتي يقول الرب حين أكمل مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا لا كالعهد الذي عملته مع آبائهم يوم

Page 109

الجزء الثاني 1.7 سورة البقرة أمسكت بيدهم لأخرجهم من أرض مصر.لأنهم لم يثبتوا في عهدي وأنا أهملتهم.يقول الرب) (الرسالة إلى العبرانيين ٨:٨و٩).فهذا هو المعنى المتلائم مع السياق، والمتناسب مع مضمون القرآن.وأما ما ذكرناه من رأي المفسرين فلا صحة ولا وزن فيه مطلقا..فلا القرآن الكريم يصدقه، ولا السياق يسانده، ولا المنطق يقبله، وليس هناك في حديث النبي ﷺ ما يؤيده.وإنما الحق أن القرآن كله جدير أن يعمل به؛ فقد عمل به النبي ﷺ إلى حين وفاته، وكان يأمر بالعمل بالقرآن كله، كما أن القرآن نفسه يشهد بصراحة على كونه محفوظا، حيث قال الله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر: ۱۰) فمع كل هذه الشواهد لا يمكن أن يتصور المرء وجود النسخ في القرآن.وليس في القرآن الذي بين أيدينا أية آية منسوخة، كما لا يوجد فيه إطلاقا أي اختلاف حتى نلجأ إلى نسخه بالقياس إنه في وضعه الحالي كامل لا عيب فيه.ولئن اجتمع أعداء الإسلام كلهم ليثبتوا وجود أي اختلاف فيه ما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.ها نحن نتحدى بفضل الله تعالى ونعلن أن أهل العلم جميعا، فردا أو جماعة، لن يقدروا على إثبات النسخ في القرآن ولو حاولوا لدحضنا موقفهم من القرآن نفسه.أما قوله تعالى (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)..فيعني أننا نقوم بكل ذلك لإحداث انقلاب عظيم وإيجاد سماء جديدة وأرض جديدة.الحق أن الكفار لم يكونوا حاقدين على رسول الله الله لأنه يعارضهم في آرائهم فحسب، وإنما لأنه أعلن أنه سوف يقيم حكومة القرآن.فالله تعالى ينبه المعارضين في الآية التالية أيضًا: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)..فما دام قد أراد إقامة ملكه على نحو خاص فمن ذا الذي يقدر على منعه من تنفيذ إرادته؟ وخلاصة القول : أن الله تعالى يبين في هذه الآية أن كل ما نزل في سالف الزمان وما سينزل في المستقبل من رسالة وكلام فهو خاضع لقانون سماوي، وهو أنه إذا

Page 110

۱۰۷ سورة البقرة الجزء الثاني صارت رسالة ما عديمة الجدوى واقتضت نزول رسالة سماوية جديدة..نسخناها واستبدلناها بأحسن منها.وأما إذا كانت لا تزال رسالة عظيمة الجدوى ولكن أهملها الناس ونسوها..أقمناها كما هي من جديد ونحن قادرون على هذين الأمرين.وتصير الرسالة عديمة الجدوى بطريقتين، فإما أنها تفسد بتحريف الناس فيها، أو أنها لا تعود تصلح لتلبية متطلبات الزمان المتطور.ومثال ذلك كمثل لباس الصبي، فإما أنه يبليه ويشقه ويفسده فيحتاج إلى لباس جديد، أو أنه يكبر فلا يعود اللباس صالحا له بجسمه النامي..فيحتاج أيضًا إلى لباس جديد.وهذه هي الحال بالنسبة للرسالة السماوية..فإنها تستبدل أما لحدوث الفساد بأيدي الناس، أو لحدوث التطور في الحياة البشرية والواقع أن الفساد لا يتطرق للرسالة السماوية إلا إذا صارت غير صالحة للعمل، وإلا فإن الله تعالى يحفظها ما دامت صالحة مفيدة.نعم، عندما لا تعود صالحة للعمل يسحب الله يده من للناس بالعبث بها ويسمح وإفسادها، ويظن الناس أنهم يفسدون دين الله، في حين أن الله بنفسه يكون قد ترك حفظ ذلك التعليم، مثلما لا نبالي شيئا إذا عبث الأولاد بلباس بال فيمزقونه ويفسدونه.حفظها، وقد استخدم الله هنا كلمة (نأت بخير منها ليشير إلى أنه يأتي بتعليم جديد حينما يصير التعليم القديم عديم الجدوى وجديرا بالنسخ، ذلك لأنه إذا كان التعليم القديم صالحا كافيا لما مست الحاجة إلى تعليم جديد خير منه أي أحسن منه.والصورة الأخرى أن يكون التعليم صالحا لهم، إلا أن الناس أصبحوا لا يعملون به، ويبتدعون من عندهم ما يخالف تعاليمه وفي هذه الصورة لا يكون هناك داع لإنزال تعليم جديد..وإنما يكفي تقرير التعليم القديم نفسه، ولذلك قال الله تعالى (أو مثلها).وبهذا القول أشار إلى أن التعليم القديم يكون كالميت بسبب غفلة الناس عنه، ولكن تنفخ فيه الروح من جديد..وهكذا يصبح مماثلا للقديم.

Page 111

۱۰۸ سورة البقرة الجزء الثاني ثم إن قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) يبطل نظرية النسخ في القرآن..إذ لا علاقة بين القدرة الإلهية وبين النسخ في القرآن.أما المعنى الذي ذكرته آنفا فهو وثيق الصلة بالقدرة الإلهية.ثم إن الآية التالية (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) تؤيد موقفي، ففيها إشارة إلى أن نزول تعليم إلهي جديد أو إحياء الكلام الإلهي القديم يتطلب انقلابا يكون مستحيلا في نظر الناس، ولكن الله قادر على إحداثه، إما بنـزول كلام جديد أو بإحياء كلام قديم.هذا المعنى الذي قدمته..وإن كان جديدا إلا أنه وحده يساعد على فهم كل من الآية.أما ما ذهب إليه المفسرون الآخرون من وجود النسخ في القرآن كلمة الله نفسه فما هو إلا دعوة للازدراء والاستهزاء بالقرآن حيث قال: لم ينسخ حكما بعد نزوله في القرآن؟ ألم يعلم سبحانه - قبل نزوله أنه غير صالح للناس؟ - وما معنى قوله تعالى: إن الله على كل شيء قدير..إذا أخذنا برأي المفسرين الذي ينسب إلى الله سبحانه الضعف لا القوة؟ ولكن المعنى الذي ذكرته ففيه إظهار أيما إظهار للقدرة الإلهية العظيمة..حيث إنه ليس من السهل إقامة نظام مكان نظام قديم قد صار في قلوب الناس كالنقش في الحجر، لا يقبلون تركه بصورة من الصور؛ كما ليس من السهل أن يُبعث في قوم قد ماتوا معنويا، ونسوا نظامهم تماما، واتخذوا تعليمهم ظهريا..أفراد ليشيدوا ذلك النظام، ويحيوا ذلك التعليم من جديد.إنه بالتأكيد عملية صعبة جدا، تدل على القدرة الإلهية العظيمة، ولأجل ذلك قال بعد هذه الآية: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)..أي أنه قادر على إحداث مثل هذا الانقلاب بمنتهى السهولة.ولو نظرنا إلى التاريخ وجدنا أن الجزء الثاني من الآية (أو مثلها) ينطبق على سيدنا عيسى عليه السلام لأنه لم يأت بشريعة جديدة، وإنما جاء ليقدم بعض تعاليم التوراة من جديد وبصورة واضحة كما في زمننا هذا عُهد إلى سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام إحداث مثل هذا الانقلاب..حيث بعث لتجديد دين

Page 112

۱۰۹ سورة البقرة الجزء الثاني الإسلام وإحياء تعاليم القرآن نفسه من جديد.وإلى ذلك يشير قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم) (الجمعة)..فقوله وآخرين منهم يعني أنه سبحانه وتعالى سوف يبعث النبي محمدا في الآخرين مرة أخرى، ويقيم بواسطته جماعة تكون كالصحابة..طاهرة القلوب عليمة بأسرار القرآن وحكمه.فكأن مهمة المهدي والمسيح الموعود هي القيام من جديد بما قام به النبي ﷺ من قبل.ولا بد من الرد على تساؤل وارد ما دامت سنة الله تعالى أنه عندما يحقق كتاب سماوي هدفه المنشود فإنه ينسخه ويأتي بخير منه، فهل ينسخ القرآن الكريم أيضًا في يوم من الأيام بكلام أفضل منه ؟ والجواب: لا، لأن الله تعالى قد صرح في القرآن الكريم نفسه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإناله لحافظون) (الحجر: (۱۰)..أي نحن الذين أنزلنا هذا الكتاب، ونحن الذين سوف نتولى حفظه.والواضح أن حفظ الله لكلام إنما يعني كونه أفضل من أي تعليم آخر في المستقبل..فقوله تعالى (ما ننسخ من آية..نأت بخير منها) يعني أيضا أنه ما لم ينسخ كلام ما فمعنى ذلك أنه لا يكون هناك كلام آخر أفضل منه.فتبين أن القرآن ليس بأفضل من الكتب السماوية فحسب، بل سوف يبقى الأفضل إلى الأبد، ولا مجال لنسخه أبدا.من جديد.فمنذا وقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير..أي ألا تعلمون أن الله قادر تماما على أن يأتي بكلام أفضل، ويقيم ما اندرس من أحكامه الذي قدر على المجيء بما اندرس من تعاليم التوراة التي يعترف أصحابها اليهود أن سائر الصحف القديمة دمرت أثناء هجوم نبوخذنصر على القدس؟ (دائرة معارف التوراة ودائرة المعارف اليهودية تحت نبوخذنصر).ثم منذا الذي قدر على إحياء ما صار نسيا منسيا من تعاليم كونفوشيوس؟ ومنذا الذي استطاع إحياء ما اندرس من تعاليم الفيدا؟ ومنذا الذي قدر على إقامة تعاليم الزندافستا من جديد؟ إنما هو الله

Page 113

۱۱۰ الجزء الثاني سورة البقرة الذي قدر على كل ذلك بلا شك بإنزالها في القرآن..وإلا فلم يكن اليهود ليستعيدوا ما انعدم من كتبهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.كما أن اتباع كونفوشيوس وغيرهم ما كانوا قادرين على إحياء تعاليمه من جديد.فمعنى قوله تعالى (إن الله على كل شيء قدير إشارة أن الناس سوف يعترضون قائلين: منذا الذي يقدر على أن يأتي بكل هذه التعاليم من جديد، فرد – سبحانه: أننا نحن الذين نحيي هذه التعاليم من جديد.يعني فهذه حجة أخرى أقامها القرآن على اليهود قائلا: إن كتبكم كانت قد اندرست وانمحت، ولكن محمدا جاءكم بها من جديد، ورفضكم لتعليمه رفضكم لكتبكم.وما دام قد جاءكم بما هو أفضل مما عندكم، وفي كتابه ما يلبي حاجاتكم تماما في مجالات الحياة من مشاعر وعواطف وحضارة وسياسة وغيرها..فكان عليكم أن تسرعوا إلى ما جاءكم به.وإذا لم تؤمنوا به وتقبلوه..فاعلموا أن ما عندكم من أحكام ناقصة لم تُلب متطلبات الحياة.الواقع أن اليهود غضبوا وقالوا: لماذا حول الله النبوة منهم إلى بني إسماعيل، وأنزل شريعة القرآن بدل التوراة؟ فرد الله عليهم قائلا: إننا قادرون على أن ننسخ التوراة ونأتي بكتاب أفضل في صورة القرآن كما أننا قادرون على بعث نبي أفضل من عليه..وهو محمد عليهما السلام.موسی - وكما سبق أن اليهود أنفسهم يعترفون بأن التوراة قد دمرت تماما أثناء هجوم نبوخذنصر على القدس، بل لم تكن بأيديهم حتى زمن النبي عزرا المبعوث قبل المسيح بحوالي أربعة قرون أي نسخة من التوراة ولا من صحف الأنبياء الآخرين.فدعا النبي عزرا ربه قائلا: ربي، الدنيا مظلمة، والناس يعيشون فيها بدون نور، لأن ناموسك قد أحرق فلا يعلم أحد ما يفعل ولا ما سوف يحدث.فلو تكرمت أنزلت على روح القدس لأكتب شيئا مما حدث في الدنيا من الأزل وما كان مسطورا في ناموسك، لكي يهتدي الناس إلى صراطك.فأوحى الله إليه أن اعتزل

Page 114

الجزء الثاني ۱۱۱ سورة البقرة الناس أربعين يوما، وخذ معك خمسة كتاب، فسوف أشعل في قلبك شمعة العقل ما تبدأ كتابته.فأخذ النبي عزرا خمسة كتاب، واعتزل التي لا تنطفئ إلا أن يتم الناس أربعين يوما، وأتم كتابة تلك الكتب بالوحي الإلهي.nd (The APOCRYPHA, The American Translation 19-0) Book of ASDRAS E ففي الآية توبيخ لليهود أنكم كنتم نسيتم تعاليمكم ولكن الله من عليكم بأحيائها، ولكنكم بدل أن تشكروا نعمة الله هذه تنكرون الجميل، ولا ترتدعون مطلقا عن الاعتراض على كتبكم أيضًا.أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير (۱۰۸) التفسير : عبارة (ألم تعلم ليست موجهة إلى النبي الكريم ، وإنما إلى كل فرد من الناس كافة..قارئ للقرآن أو سامع له أو غيرهما.والدليل قوله (وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير والمراد ألا تعلم أيها الإنسان أن الله هو صاحب ملك السماوات والأرض..أي كما أن الله ينتزع الملك الدنيوي من أيدي أهل السوء ويؤتيه أهل الجدارة، كذلك ينزع الملك الروحاني أحيانا من قوم ويؤتيه آخرين.وما دامت السماء والأرض كلتاهما خاضعة لحكم ملك واحد..فلزم أن يخضعا لقانون واحد، ولا بد من قياس القانون السماوي بالقانون الأرضي وبالعكس.فتوجه الآية أنظارنا إلى أنه يجب علينا عند انعدام النص أن نقيس القانون الشرعي وهو قانون سماوي بالقانون الطبيعي، وهو قانون أرضي، إذ لا يمكن أن يوجد أي اختلاف في قانونهما لأن كلتيهما من حاكم واحد..هو الله جل جلاله.لقد كان الإمام المهدي والمسيح الموعود دائما وأبدا يبين هذا الأصل ويقول إن القرآن

Page 115

الجزء الثاني ۱۱۲ ومن سورة البقرة يوجد بينهما الكريم كلام الله تعالى، والقانون الطبيعي هو فعله، المحال أن اختلاف في الأصول وصانعهما واحد (الملفوظات ج ١ ، ص ١٤٥).فكما نرى في سنة الله الجارية في الأرض أي شعب يتمتع بالحكم ما دام أهلا له ومؤيدا لواجبات الحكم، وحينما يقصر في أداء واجباته نحو ملكه ينتزع منه الملك..كذلك تماما عندما لا يعود أي دين صالحا لتلبية متطلبات الزمن فإنه ينسخ.فاعتراضكم على اصطفاء الله محمدا بالنبوة متعارض مع القانون الطبيعي.لم لا تقيسون القانون السماوي بالقانون الطبيعي؟ ألا ترون أنه عندما يصير شيء ما الفائدة يفنى ويدمر، كما قال تعالى: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد (۱۸)..أي أن ما لا ينفع الناس يفنى.فنفس هذا القانون جار على الشرائع أيضًا، فإنها تُنسخ عندما لا تفي بمتطلبات العصر.فما دامت الكتب السماوية السابقة فقدت صلاحيتها لإصلاح الخلق، وما دام لا بد الآن من نزول كلام سماوي لهداية الناس فإنه وإن لم يأتِ به محمد لأتى به غيره لا محالة.وإلى هذا المبدأ نفسه أشار سيدنا المهدي والمسيح في بيت شعر معناه: كان الزمن يقتضي بعث مصلح، ولو لم أبعث لبعث الله سواي.عديم قوله تعالى (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير الجزء الأول من الآية موجه للناس عامة، أما في هذا الجزء فيخاطب الله المسلمين فقط..أن ليس لكم ولي ولا نصير سوى الله تعالى.فما دمتم قد اعتبرتم الكتب السماوية الأخرى كلها منسوخة.فمن يواليكم إذن؟ كان عيسى قد نسخ كتب اليهود فعاداه اليهود ولم يعاده الهندوس.ولو نسخ أحد كتب الهندوس لعاداه الهندوس، ولا يعاديه غيرهم؛ ولو نسخ أحد كتب الزردشتيين لعاداه الزردشتيون ولا يعاديه اليهود..أما كتابكم أي القرآن فقد أعلن نسخ جميع الكتب، وما دام كتابكم ينسخ بعض ما ورد في كل كتاب من الكتب السابقة، ويُذكّر أهلها بما نسوه منها..فإنه قد أقام القيامة في أهلها، لذلك صارت الأمم كلها أعداء لكم مع أن محمدا يريد خيرهم وهم لا يفقهون، فلن يكون لكم صديق منهم.

Page 116

۱۱۳ سورة البقرة الجزء الثاني الواقع أن قول الله هذا تحقيق لنبأ التوراة الوارد في حق إسماعيل-عليه السلام —لما أبلغه الله إلى مكة.يقول النبأ : ( يده على كل واحد ويد كل واحد عليه)(تكوين ١٢:١٦)..أي أن سيفه يبقى مسلطا ضد إخوته جمعيا، وسيوف إخوته مسلطه ضده.يمعنى أن الدنيا كلها ستعاديه.وهذا هو حال سيدنا المهدي والمسيح الموعود أيضًا، لأنه مبعوث للأمم، لذلك تعاديه الأمم كلها.فنحن عرضة لطعنات الكل.لا شك أن منهم أفرادا لا يعاملوننا بالسوء، ولكنهم يفعلون هذا كأفراد وليس كجماعة.وأغرب من هذا أن الهندوس والمسيحيين والمسلمين كلهم يتحدون على عداوتنا..ويتعجب المرء ويقول متى كان الهندوس والمسيحيون أصدقاء لأهل الإسلام وليس ذلك إلا أن المهدي والمسيح الموعود بعث لإصلاح جميع هذه الشعوب.لقد أخبر الله المسلمين قبل هذه الآية أن اليهود يتربصون بكم الدوائر، لذلك لا تنخدعوا بظاهر أعمالهم..فإنهم ليسوا أصدقاء لكم، والآن ينبههم إلى أن اليهود ليسوا وحدهم أعداءكم...وإنما ليس لكم من بين كل شعوب العالم من ولي ولا نصير.وتؤكد هذه الآية أيضًا أن الآية السابقة لم تذكر النسخ في القرآن، وإنما ذكرت نسخ كتب الأديان الأخرى، وإلا فكيف يعقل أن يغضب اليهود والنصارى لنسخ آيات قرآنية؟ فعداوتهم دليل قاطع على أنهم غضبوا لأن القرآن نسخ كتبهم هم.تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (۱۰۹) شرح الكلمات : يتبدل تبدل استبدل (الأقرب).

Page 117

الجزء الثاني ١١٤ سورة البقرة ضل-ضل الطريق وضل عنه : فقده؛ نسيه (الأقرب).واء السبيل : الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه (المنجد).سو التفسير: اعترض الجهلة من الكتاب المسيحيين على النبي بأنه كان يأمر أصحابه بالكف عن السؤال لقلة علمه معاذ الله.الأسئلة - ولكن هذه الآية توضح أن الصحابة لم يُنهَوا عن مجرد السؤال، وإنما نهوا عن تلك التي كان أصحاب موسى يسألونه إياها والواقع أن وراء كل سؤال غرضا ونية، فمنه ما هو للاستزادة من العلم، ومنه ما هو للمحاجة والجدال أو إساءة الأدب أو التحقير والاستهزاء؛ والعاقل لا يسمح أبدا بتوجيه سؤال غير معقول.فمثلا إذا قام طالب في الصف بتوجيه سؤال بعد سؤال إلى الأستاذ فلا بد أن يؤنبه، ويقول له : إنك تضيع وقتنا ولا يدل هذا التأنيب أبدا إلى قلة علم الأستاذ.فالقرآن يمنع من طرح الأسئلة السخيفة التي لا طائل منها.ويشير إلى ذلك قوله تعالى (كما سئل موسى).وقد ذكر الله نوعية الأسئلة الموجهة إلى موسى عليه السلام فقال: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) (النساء: ١٥٤).وكذلك يتبين من التوراة أن بني إسرائيل كانوا يسألون موسى عن كل صغيرة وكبيرة.ولكن أصحاب النبي ﷺ كانوا لا يفعلون ذلك، بل كانوا من الوقار والأدب وضبط النفس بمكان كانوا ينتظرون حتى يأتي أحد الأعراب فيسأل النبي ، فيغتنموها فرصة لسماع حديثه (البخاري، العلم.فالله تعالى قد نهى المسلمين فقط عن سؤال يتعارض مع الشريعة ويضيع إيمان السائل، أو فيه سوء الأدب والوقاحة والكسل، أو فيه مضيعة للوقت، ولكنه لا ينهى عن أسئلة توجه لطلب العلم.

Page 118

١١٥ سورة البقرة الجزء الثاني أذكر أنني والحافظ روشن علي وبعض الإخوة الآخرين كنا نتلقى دروسا في الحديث من سيدنا الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود.وكان الحافظ روشن علي يكثر السؤال ويناقش ويجادل على كل صغيرة وكبيرة لدرجة أن الخليفة الأول –رضي الله عنه مل من عرقلة الدرس بكثرة السؤال؛ وكما يقال إن للصحبة اعتبارها..فلما رأيت كثرة سؤال الحافظ وددت أن أسبقه في السؤال، وكنت عندئذ فتى في العشرين..ذا حماس ونشاط، ففي اليوم الرابع أخذت أنا أيضًا أوجه الأسئلة.فسكت أستاذنا الخليفة الأول في ذلك اليوم، ولكن في اليوم التالي عندما وجهت إليه السؤال قال لي أنا أسمح للحافظ المحترم بالسؤال، ولكني لا أسمح لك.ثم أضاف: أنت معي منذ مدة طويلة وتعرف طبعي.أتظن أني أبخل عليك بالعلم وأكتم عنك شيئا؟ كلا، بل إنني لم أبخل بعلمي قط، وإنما أخبرك بكل ما عندي، ومهما ناقشتني فلن أستطيع أن أزيد على جوابي.وكل ما أبدي من رأي لا يخلو من أحد اثنين: فإما أن أكون صائبا ومعقولا، ولكنك لم تفهمه واعترضت، أو أنه غير صائب واعتراضك صحيح.فإذا كان رأيي خاطئا..فأنت تعلم أني لا أخون في قولي ولا أخدعكم به؛ وإنما كل ما أقوله عن أمانة وظن أنه هو الصحيح.فمهما جادلتني واعترضت علي فلن أزال أتمسك برأيي وأكرره.وإن كان رأيي الصحيح فعلا..فيعني اعتراضك أنك لم تفهمه.وفي هذه الصورة يولد الاعتراض العناد في طبعك، ولا تحني منه شيئا فنصيحتي لك اجتناب السؤال، والتفكر والتدبر في كل مسألة بنفسك.فإذا فهمت ما أقول فاقبله.أما إذا لم تفهمه فالجأ إلى الدعاء ليلهمك الله العلم والمعرفة من لدنه.هو وبعد هذه النصيحة لم أوجه إلى حضرته أي سؤال قط.وبعد بضعه أيـ الحافظ الفاضل أيضا على كثرة السؤال أثناء الدرس، وبذلك زادت سرعتنا في الدرس، وكنا ندرس قسطا كبيرا من صحيح البخاري يوميا، إلى جانـــب مـواد أخرى، وهذا لا يتسنى إلا إذا كان الطلاب ممتنعين عن السؤال مكتفين بسماع قول الأستاذ.مهما يكن من أمر فإنني على أثر نصيحة سيدنا الخليفة الأول بدأت

Page 119

الجزء الثاني 117 سورة البقرة التدبر في القرآن بنفسي، وازددت بفضل الله فهما للقرآن لدرجة أنني أصبحت ألقي دروس القرآن على الملأ وأنا طالب وكأن الخليفة الأول عندما كف السؤال..وجه نظري إلى التدبر في القرآن بنفسي.وكذلك فإن الله عندما ينهى المسلمين عن السؤال فإنه يريد رفع مستواهم النظري والفكري.لا شك أن الإنسان يحتاج أن يسأل غيره.ولكن يجب عليــــه الـتفكير والتدبر بنفسه في أكثر الأحيان.لقد رأيت الناس يكثرون السؤال عن ذكر قصة آدم في القرآن مع أنهم لو تدبروا بأنفسهم في الأمر بدلا من سؤال الآخرين..لتمكنوا من فهم القضية.وقوله تعالى (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل..يبين أن الغرض الحقيقي من السؤال هو الاستزادة من العلم ولكن الذي لم يسأل للعلـــم، بــل استهزاء بالرسول وإساءة إلى كلام الله تعالى..فإن السؤال لن يزيده إيمانا بل يؤدي به إلى هوة الكفر؛ ولو سأل للعلم ما لقي هذا المصير.فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه دائما، ويتجنب المناقشات غير المجدية والأسئلة التي لا طائل تحتها.لقد حدث مرة أن جاء شيخ لمناظرة ولي الله عبد الله الغزنوى – الذي كان قد رأى في الرؤيا أن نورا قد أشرق من قاديان..ولكن أولاده حرمـــــوا منه".فقال حضرته للشيخ: إنني أناظرك بشرط أن تكون صادق النية.ويبدو أن الشيخ كان ممن يخشون الله ، ويخافونه، فما أن سمع قوله هذا إلا وانسحب مـــن المناظرة قائلا: أنا لا أناظرك فالخصوم عموما لا يكونون حسني النية في المناظرة، وإنما يقصدون الجدال وكسب الصيت وإهانة الخصم والنيل منه، ولأجل ذلك المؤمنين عن مثل هذه الاعتراضات والأسئلة.ينهى الله وبالفعل عندما ادعى سيدنا المهدي وكان ذلك بعد أن توفي هذا الولي الله ، عارضه أولاده معارضة شديدة، ومنهم المولوي عبد الحق الغزنوي.

Page 120

الجزء الثاني ۱۱۷ سورة البقرة وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (۱۱۰ شرح الكلمات : فاعفوا – العفو المحو لغة، ويعني محو آثار الذنب شرعا (الأقرب).اصفحوا - صفح ولّى صفحة وجهه (المنجد).فعندما يريد الإنسان مقاومة أحد فإنه يقابله وجهًا لوجه ولكن عندما لا يريد المقاومة يولي وجهه، ومنه الصفح أي الاعتراض عن ذنب الغير.التفسير : لقد رزق إبراهيم في أواخر عمره بابنه البكر إسماعيل من زوجته السيدة هاجر، ثم رُزق بإسحاق من زوجته الأولى السيدة سارة (تكوين١٦و١٨).ولمــــا كانت سارة بنت خال إبراهيم فقد رأت نفسها أفضل من هاجر التي لم تكن مـــــن أسرته.وتصادف أن ضحك إسماعيل وهو صغير من إسحاق، فرأت سارة في ضحكه إهانة لولدها.ولعلها ظنت أنه يضحك ظنًا منه أنه الوارث لأبيه لكونــــه البكر، فغضبت وطلبت من إبراهيم إخراجه وأمه بعيدا لأنها لا تريد أن يرث إسماعيل إبراهيم مع ابنها إسحاق.أما إبراهيم فقد استاء من قولها في أول الأمــــر ثم خضع لرغبتها أخيرا.ولكن الله كان يريد بعث الرسول ﷺ من مكة..فأوحى إلى إبراهيم أن افعل ما تقوله لك زوجتك سارة تكوين) (۲۱.فبأمر من الله أوصل إبراهيم زوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى مكة وبقيت أرض كنعان لسارة وإسحاق.وبدأ نسل إسماعيل يكثر في مكة، حتى ولد محمد رسول الله ﷺ في آل إسماعيل بمكة.و لم يتوقف هذا التنافس بين بني إسماعيل وبني إسحاق عند هذا الحد، وإنما تحقق ما أوحى الله إلى أم إسماعيل وقت ولادته يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه) (تكوين ١٢:١٦) أي سيكون بنو إسماعيل إلى زمن ما أقل عددا من بني إسحاق، وسوف يعارض كل بني إسحاق معا بني إسماعيل ويسعون لهدمهم.

Page 121

۱۱۸ سورة البقرة الجزء الثاني هذا الموضوع يذكره قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعـــد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم)..أي أن كثيرا من أهل الكتاب يريدون أن - يرتد بنو إسماعيل – أي أتباع محمد.عنه ويخذلوه.ولا يريدون ذلك لذنب أو تقصير من الرسول الله أو لحسن نية فيهم..وإنما حسدا وبغضا ومنافسة.إنهم يريدون أن تمتد منافسة سارة وهاجر إلى ألفي عام.ويتحرقون حسدا وكمـــــدا أن سبقهم أصحاب محمد إلى الإيمان به..وازدادوا صلاحا وهـــدى، ويريدون أن ينتقموا منهم بأن يحرموهم هم أيضا من الزيادة في كل خير، مع أنهم لو آمنوا كما آمن المسلمون لازدادوا مثلهم صلاحا وتقوى وما أرادوا ذلك إلا حسدا وبغضا للمسلمين.وكلمة (من عند أنفسهم) تشير إلى أن هذه المشاعر السيئة ترجــع إلى فساد نفوسهم، وليس أي تصرف من المسلمين وراء حسدهم.ذلك أن الحسد نوعان: أحدهما ما يكون سببه حَسَنا، والثاني ما يكون سببه سيئا.مثلا لو ازداد - كافر ما مالا وغنى وحسده مسلم، فقد يكون حسد المسلم إما بنية كسر شوكة يريد الكفر؛ وإما لأن نفسه هو لا تتحمل أن يكـــون كـــافر ذا الكفر لأن ربه لا ثروة.ثم قد يكون الحسد بدون عاطفة دينية بسبب أهواء نفس الحاسدين فقط.فالله تعالى يبين أن حسد اليهود ناشئ من أنفسهم..أي لفساد وخلل في نفوسهم، وليس وراءه أي تصرف من المسلمين.فلو أن المسلمين أثاروا حفيظتهم باستهزائهم واستخفافهم لكانوا هم السبب ولكنهم ناصحون أمناء يريدون لهم الخير.إذن فحسدهم نابع من فساد نفوسهم.قوله تعالى من بعد ما تبين لهم.قد يظن أحد أن أهل الكتاب يريدون رد المسلمين كفارا إما لأنهم يظنون خطاً أن المسلمين صاروا أسوأ حالا من الكفار المكيين..فمن الأفضل أن يرجعوا إلى الكفر مرة أخرى، وإما أنهم يرون على وجه اليقين والبصيرة أن المسلمين صاروا أسوأ حالا من الكفار، فلو رجعوا إلى حالتهم الأولى كان أفضل لهم.ولكن الله يعلن أنهم لا يودون للمسلمين ذلك لخطأ في الفهم أو نصحا منهم للمسلمين..وإنما يودون ذلك حسدا منهم ليس إلا، فإنهم يدركون جيدا أن كفار مكة أسوأ من المسلمين وأن دين هؤلاء أفضل مما عليــــه

Page 122

الجزء الثاني ۱۱۹ المشركون.وكانوا يعلمون جيدا أن الهدى إنما يأتي من عند الله تعالى، ومع سورة البقرة ذلك فإنهم أرادوا انتشار الكفر وتقلص الهداية.إذن فهم ليسوا أعداء للمسلمين فحسب، بل هم أعداء الله أيضا.لقد جاء ذكر أماني أهل الكتاب نحو المسلمين في مواضع أخرى من القرآن الكريم حيث قال الله تعالى (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم..وما يضلون إلا أنفسهم (آل عمران (۷۰) وقال: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) (آل عمران ۱۰۱).قوله تعالى.(فاعفوا).ليكن معلوما أن الذنب يُعفى عنه ويمحى بثلاث طرق: أولا - بمحو نتائجه الدنيوية، كوقاية المذنب من عقوبة جسمانية، وثانيا – بمحو نتائجــــه الأخروية، كوقايته من عذاب الآخرة، وثالثا - بإزالة صدأ الذنب من لوح القلب والقضاء على الرغبة فيه.وهذا الأخير هو أفضل أنواع العفو.وحيث إن الخطاب هنا موجه جه إلى المسلمين..لذلك فلا يراد من العفو من العقوبة الأخروية وإنما المراد هو العفو عن العقوبة الدنيوية.فقد أمر الله المسلمين: لا تحاولوا معاقبتهم، بل اتركوهم.وتشير (الفاء) السببية في قوله (فاعفوا) أن الأمر الإلهي جاء نتيجة لفعل من جانب أهل الكتاب، وهذا الفعل إنما هو محاولتهم رد المسلمين كفارا.فليس المراد من قوله (فاعفوا) أنهم يحاولون أن يردوكم كفارا لذلك فاعفوا عنهم..ذلك لأن العفو يترتب على فعل حسن، ولكنهم لم يأتوا بأي خير، بل بالعكس قاموا بأمر خطير..حيث خططوا للقضاء على وحدة المسلمين وتشتيت شملهم.فليس هناك أي خــــير لهم يستحقون به العفو عنهم.وهذا ينشأ تساؤل : ما داموا لم يفعلوا أي خير بل على العكس حاولوا رد المسلمين إلى الكفر واحدا فواحدا..فلماذا أمر الله بالعفو والصفح عنهم؟ فليكن معلوما أن الله قد أراد بالعفو هنا النوع الأول فقط من العفو؛ أي لا تحاولوا معاقبتهم بهذا الخصوص، وإنما نحن الذين سوف نتولى بأنفسنا عقابهم.وأتبع العفو بالصفح، ومعناه إدارة الوجه إلى جانب آخر، ليقول بذلك: لا تعاقبوهم، بل ولا

Page 123

۱۲۰ سورة البقرة الجزء الثاني تعاملوهم بقسوة وجفاء، بل أعرضوا عنهم.لذلك قال بعدها: (حتى يأتي الله بأمره)، أي أعرضوا عنهم حتى ينفذ الله أمره..أي إهلاكهم بإنزال العذاب.فالذين ارتكبوا الجرائم المادية والجسدية والروحانية الخطيرة كهذه، وأرادوا رد المسلمين كفارا..مع علمهم أنهم أرفع منهم قدرا و شأنا ، وذلك فقــــط لحــسـدهـم الناشئ عن فساد قلوبهم وخسة نفوسهم..فلا يقدر على عذابهم حق العـــذاب إلا الله تعالى.لأن الإنسان يقدر فقط على تعذيب الجسم، ولا يستطيع تعذيب العقل والضمير والروح.ولكن الله هو الذي يملك ذلك بلا شك وبكل تأكيد.فجــــســم الإنسان وقلبه وعقله وروحه تحت تصرفه لذلك قال الله تعالى: اتركوهم لنا، فنحن نعذبهم عقليا وفكريا، ونعذبهم نفسيا وروحيا.وهذا هو بالضبط ما حدث فلما تجاوز اليهود حد مضايقة المسلمين باللسان إلى إيذائهم بالمكائد السياسية ومؤامرات القتل..أذن الله للمسلمين بقتال اليهود، وألحق بهم على أيدي فئة مسلمة شر خزي وأسوأ ذلة.وَأَقِيمُوا الصلاة وَآتُوا الزكاة وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (۱۱۱) التفسير : قوله تعالى (وأقيموا الصلاة لما كان أمر الله بالإعراض عن هؤلاء اليهود وتفويض أمرهم إليه شاقا على المسلمين لذلك قال لهم: إذا تضايقتم من حالكم أمام العدو، وغضبتم وشق عليكم الصبر..فعلاج ذلك هو التضرع والابتهال إلى الله، والدعاء في الصلوات أن يهديهم بنفسه، أو إذا كتب عليهم الحرمان من الهدى فيحميكم من شرورهم، ويدفعهم عن طريقكم.(وآتوا الزكوة والعلاج الثاني هو مساعدة الفقراء بالصدقات، وحسن العشرة مع اليتامى والمساكين والأرامل والنهوض بالطبقة الفقيرة من القوم، وتأليف قلــوب أولئك الكفار الباحثين عن الحقيقة بحسن النية.وفي هذا إشارة أيضا إلى أن فيهم

Page 124

۱۲۱ سورة البقرة الجزء الثاني أناسا نريد لهم النجاة من العذاب، فضموهم إليكم بحسن المعاملة، حتى إذا خرجوا من بين ظهرانيهم دمرنا الباقين بالعذاب.(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه تجدوه عند الله).لما كان الصبر أمرا صعبا جـــــدا، لذلك قال: لاتظنوا أن التمسك بالصبر يضركم..كلا، بل إن الصبر في حد ذاتــــه حسنة كبيرة، وسوف يندرج في أعمالكم الحسنة كالصلاة والصوم وغيرهمـــا، وسوف تثابون عليه يوم القيامة ثوابا كبيرا جدا حتى أنكــم تـتحيرون عندئـــذ وتقولون: لم نفعل حسنة ذات شأن حتى ننال كل هذا الجزاء.ولكن هذه الحسنة تستحق عند الله هذا الجزاء الكبير.الواقع أن أهل الدنيا يعتبرون الصبر جبنا، فيحرمون من هذه الحسنة، مع أن هناك بونا شاسعا بين الصبر والجبن.فالصبر يعني البقاء داخل نطاق الأمور التي حددها الشرع، ولكن ليس من الصبر أن يترك الإنسان حقوقه ويصرف النظر عن مقاصده وأهدافه.فالفارق بين الصابر الحقيقي والجبان أن الصابر يتحلى بالصبر مــا دام الشرع يأمره بالصبر، ولكنه عندما يغار على شرف دينه وعزته فإنه يظهر للعالم أن لا نظير له في الشجاعة، وأنه لا يخاف من تقديم أي تضحية.ولكن علامة الجبــــان أنه لا يصبر اتباعا لأحكام الشريعة، وإنما يسمى سلوكه التلقائي صبرا، وتدل العواقب أنه لم يكن صابرا بل كان جبانا.الصبر يعني إذا سبّك أحد فلا تسبه، وإذا ظلمك أحد فلا تنتقم على ظلمه حتى يأذن لك الشرع بذلك.ولا يعني الصبر أن تغفلوا الدفاع عن أنفسكم، وتدعوا الناس يسومونكم خسفا في أمر الدين، لأن ذلك لا يبعث على الشجاعة والبسالة وإنما يخلق الجبن والجبن ليس جمالا وإنما هو دمامة.فمن صفات المسلم أن يقوم بالتضحية عنـدما يدعوه الشرع بالبـذل والتضحية..وإن كان العالم كله خلافه؛ وأن يتحلى بالصبر إذا أمــــره الشرع بالسكوت والصبر.ولا يعني ذلك أنه يسكت خوفا من قوة العدو، وإنما لأن الله تعالى قد أمره بالصبر عندئذ والذي يصبر ويسكت ولو للحظة واحدة خوفا من قوة العدو فإنه جبان والجبان لا يستحق البقاء بين صفوف حزب الله المقدس.

Page 125

۱۲۲ الجزء الثاني سورة البقرة فالصبر أن يداوم الإنسان على مقاومة المنكرات التي تعترض طريقه حاليا، وأن يكون مستعدا لمقاومتها في المستقبل.كما يعني الصبر أن يداوم على الحسنات التي يفعلها الآن.ومن البصر أيضا ألا يضيق الإنسان ذرعا عند حلول المصائب، ولا يفقد الهمة عند نزول الخطوب..من موت قريب، أو نقصان مال أو ما إلى ذلك؛ بـل عليـه بالسكينة والوقار، متذكرا أن ما عنده ليس ملكا له، وإنما هو وهذا الصبر على نوعين أولهما - هو الصبر على ما يأتي ابتلاء عند من عطاء الله من من الله تعالى ولا دخل للخلق فيه، وثانيهما - هو الصبر على ما يبتلى به من قبل الخلق.ومثال على النوع الأول موت قريب أو مرض أو قحط ومجاعة، أو نقصان في المـال لنشوب الحرب أو غير ذلك..فهذا مما لا قبل للإنسان به، والرضا بقضاء الله في استقامة وثبات هو الصبر في مثل هذه الأحوال.أما فيما يبتلى به بالمعاملات مع المخلوق فإنه يستطيع في بعض الأحيان مقاومة المخلوق.فمثلا لو لطمه أحد أو آذاه فبوسعه أن يرد عليه باللطم إن كان اللطم هو الأصوب، أو بالكلام المناسب إن كان الرد باللطم منافيا للمصلحة العامة أو كان يفسد المعتدي أكثر.ولكنه لو امتنع عن الانتقام كان صابرا..شريطة ألا يكون امتناعه جبنا وخوفا بأنه لو لطمه لضربه أكثر.فصبره على ما يُبتلى به من عند الله تعالى يعنى عدم الجزع عند عجزه عـــــن إزالــــة الخطب.وصبره فيما يختص بالمخلوق يعنى امتناعه عن الانتقام رجاء مصلحة عُليا.بشرط مقدرته على الانتقام، أما لو كان أحد مقيدا في غرفته ولا يجد منفذا للفرار ثم قال: أنا صابر، فليس ذلك من الصبر في شيء، لأنه لو استطاع الفرار لفر.

Page 126

الجزء الثاني ۱۲۳ سورة البقرة وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (۱۱۲).بمثابة التفسير: وقد ورد مضمون هذا الآية بصورة مختلفة في ثلاثة أماكن.ثلاثة أماكن مــن القـــرآن الكريم، أولها قوله تعالى: قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) (البقرة (۸)..أي يزعم أهل الكتاب أنهم يدخلون النار، ولكن الله سوف يعاملهم برفق ولين فيخرجهم منها بعد اثني عشر شهرا بل قبل تمام السنة، وذلك ما تذكره كتبها (الموسوعة اليهودية).وثانيها قوله تعالى (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (البقرة: ٩٥).وهـذا رد على مزاعم بعض اليهود أنهم لا يذوقون النار أصلا، بل كلهم يدخلون الجنة ولا يدخلها غيرهم مطلقا.فأمر الله محمدا لله أن يقول لهم: إن كنتم حقــا أصحاب الجنة من دون الناس فلم لا تسعون لذلك وتقدمون التضحيات التي الموت، أو لماذا لا تباهلوننا على الموت؟ وثالثها هذه الآية.والحق أنها إدماج جملتين مستقلتين تقدير هما: وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا؛ وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كانوا نصارى؛ ذلك لأنه لن يقول أحد من اليهود أنه لن يدخل الجنة إلا اليهـود والنصارى، كما لن يقول ذلك أحد من النصارى.إن أهل الكتاب الذين بزعمهم يُحرم غيرهم من الجنة مختلفون فيما لدرجة أن بينهم بعضهم يحرم الآخر من الجنة.فريق منهم يدعي أن اليهود يدخلون النار لكنهم يخرجون سريعا.فقد ذكر سيل SALE أيضا أن من الحقائق المسلم بها عند اليهود أن أي يهودي – مهم كثرت ذنوبه - لا يمكث في النار أكثر من أحد عشر أو اثنى عشر شهرا، ما عدا يهوديين دائن وإيبي ،رام باستثناء الدهريين، فهم يعذبون فيها للآن (ترجمته للقرآن تحت قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة).كما

Page 127

١٢٤ سورة البقرة الجزء الثاني أن صاحب دائرة المعارف اليهودية قد أثبت هذه العقيدة اليهودية بنصوص مـــــن الكتاب التلمود تحت كلمة Gehenna).أما الفريق الثاني من اليهود فيزعم أن اليهود لن يدخلوا النار أصلا.بينما هناك فريق ثالث من اليهود والنصارى يُضيّق نطاق النجاة أكثر من ذلك، فيرى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود دون سواهم.أما النصارى فيرون أنه لن يدخل الجنة إلا النصارى فقط.ثم إن بعض النصارى يعتقدون أن الجحيم على نوعين دائم ومؤقت.فإن دخــــل النصراني الجحيم دخل الجحيم المؤقت ثم يخرج منها.في حين يعتقد بعضهم أن أي نصراني يُكن في قلبه حب المسيح ولو بقدر ذرة فلن يدخل النار مطلقا.ولقد أدت مثل هذه العقائد بأهل الكتاب من يهود ونصارى إلى أن بدءوا يخطئون بعضهم البعض، وتشددوا في ذلك لدرجة أن قال اليهود لن يدخل النصارى الجنة وإن كانوا مؤمنين بالتوراة ؛ وقال النصارى لن يدخل اليهود الجنــة وإن كانوا مؤمنين بالتوراة.وحسب ترتيب مضمون الآيات فقد كان سياق أولى هذه الآيات - (وقالوا لـــن تمسنا النار إلا أياما (معدودة أن ذكر الله دعوى النبي ، وبين أن اليهود يعارضونه.ولكنهم لا يعارضونه عن أمانة وحسن نيه.لاشك أن المعارضة ليست محرمة، لأن لكل واحد الحق في أن يعارض رأيا إذا لم يفهمه ورآه غير صائب، لكنه لو فهمه ورآه صوابا ثم عارضه فلن يعتبر أمينا في معارضته.فالمعارضة أمر جائز شريطة أن يكون مبنيا على حسن نية وأمانة وليس عن تعصب وعناد، كما يجب مراعاة أسلوب شريف في إبدائها..إذ لولا المعارضة الإيجابية لتوقف ازدهار العلم، جميع التطورات العلمية مدارها الاختلاف ولكن الله يقول: إن هؤلاء يعارضون تعصبا ،وعنادا ويقلبون حقائق القرآن أمام الناس، لذلك فلا أمانة ولا صدق في أقوالهم وأعمالهم.إنما تكون معارضتهم إيجابية مبنية على صدق وأمانة إذا وجدوا المسلمين على خطأ حقا..ثم برهنوا على خطئهم.إنهم يخفون الحقائق، ولا يأتون بدليل على ما يقولون..فلا شك في سوء نياتهم، وليس ذلك إلا لزعمهم لأن

Page 128

سورة البقرة الجزء الثاني أنهم لن يدخلوا النار.وحينما ترى أمة أن النجاة حكر عليهم وإرث لهم..خلــت قلوبهم من التقوى.ذلك أن الناس على نوعين منهم من يطيع خوفا، ومنهم مـــــن يطيع حبا.فالطبقة السفلى في الإيمان تتجنب المنكرات خوفا من العذاب، أم الطبقة العليا منهم فإنها تتورع عنها حبا الله تعالى وشكرا على نعمه.يقول الله إن هؤلاء القوم قد انحطوا لدرجة أنهم ما كانوا ليجتنبوا الإثم إلا خوفا من العذاب، ولكـــن أصحابهم قالوا إنكم لن تدخلوا النار أبدا.فزال عنهم خوف العـــذاب وتشجعوا على فعل المنكرات.يمكن للدهري أن يتحرر كما يشاء، ولكن هؤلاء بالرغم مــــــن انتسابهم إلى دين سماوي يأتون ما لا يأتيه الدهريون أيضا.أما الآية الثانية (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة مـــن دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين فتبين أن الأمم التي تحسب النعم الإلهية حكرا عليها..لا ترغب في البحث عن الهداية، إذ إنما يبحث عن الهداية من أيقن أن بــاب الهداية السماوية والنعم الإلهية مفتوح للجميع.أما الشعب الذي يعتقد أن الهدايـــة مخصوصة به فلن يصدق إلا بما ورد في كتبه ولن يبحث عن الحقيقة في مكان آخر على الإطلاق، وبالتالي يُضيّق نطاق الهداية بقصر النجاة عليه دون غيره، ويلجأ إلى التعصب ويخلو من التقوى.أما آيتنا هذه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان (هودا فمضمونها أن مثل هذا شأنها أن من تؤدي حتما بأصحابها إلى تضييق نطاق النجاة شيئا فشيئا حتى يحرم بعضهم على البعض النجاة، ويختفي عن أنظارهم عنصر التقوى الذي هو المدار الحقيقي للنجاة..في حين أنه يجب ألا يظن أحد في أي زمان أن باب الهداية المعتقدات مغلق، بل عليه أن يكون مستعدا لقبول كل ما ينزل الله من كلامه.ليكن معلوما أن قول اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا..ليس في حد ذاته بالأمر القبيح، ذلك لأن أتباع كل دين يحسبون أنهم الناجون؛ والمسلمون أنفسهم يحسبون أنه لن يدخل الجنة سواهم.فليس معنى الآية أن اليهود أو المسيحيين لماذا يحصرون النجاة في دينهم وإنما المراد أنهم يحصرون النجاة في اليهودية أو المسيحية،

Page 129

١٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني ثم يضيقون دائرة فيضان الله الواسع، ويحرمون بزعمهم هذا جزءا كبيرا من النـــاس من رحمة الله الواسعة.أنهم لا شك أن الإسلام يدعي بأنه لا نجاة لبني البشر إلا فيه، ولكنه مع ذلك لا يغلــــق باب الهداية السماوية، بل يقول وبالآخرة هم يوقنون..أي من علامات المؤمنين كلّما يأتيهم كلام جديد من الله تعالى يؤمنون به من فورهم.إنهم يربطون النجاة بالإيمان بكلام الله، سواء كان قد نزل في الماضى أم سينزل في المستقبل.ولكن اليهود على عكس ذلك يزعمون أن لا نجاة إلا لشعب بني إسرائيل، وهم لا يُدخلون أحدا في دينهم..لأنهم لا يؤمنون بنجاة أحد هو ليس من شعبهم.إنهم لا يربطون النجاة بدينهم وإنما بشعبهم فقط.أن أما النصارى فهم لا يربطون الخلاص بشعبهم بل بدينهم، ويقولون: يمكن لكــــل واحد مهما كان شعبه أن ينجو من النار بالإيمان بالمسيحية.وكأن هناك تشابها ظاهريا بين المسيحية والإسلام في دعوة الشعوب الأخرى للإيمــــان بـه وكــسب النجاة.وهنا ينشأ تساؤل : إذا كان ادعاء النصارى بألاّ نجاة إلا في النصرانية محـــل اعتراض، فلم لا يعترض على ادعاء المسلمين ألا نجاة إلا في الإسلام؟ ليكن معلوما أن هذا التشابه الظاهري بينهما ليس له ظل من الحقيقة، وإنما هو وهم وخيال.ذلك أن سائر النصارى - رغم أنهم يدعون كل الشعوب إلى دينهم - إلا لا دينهم لهم بذلك، حيث ترفض أناجيلهم بكل صراحة..فقد قيل لهم: (لا تعطوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم (متى (٦:٧ فقد شبه المسيح هنا تعليمه المقدس باللآلىء والدرر وأمر أن تبقى هذا الدرر منحصرة في أيدي الإسرائيليين..ولا توهب لغيرهم، لأن الشعوب الأخرى - حسب ما جاء في الإنجيل - كالكلاب والخنازير التي لا تقدرها حق قدرها، بل تشن عليها الهجوم بالاعتراض عليها وبتحريف معانيهـا وهتك سترها.وقيل أيضا (هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: إلى طريق أمم لا تمضوا.وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل (الضالة متى ١٠ (٥ و ٦).ويستدل المسيحيون من كلمة (بالحري)

Page 130

الجزء الثاني ۱۲۷ سورة البقرة أنهم أمروا بحصر دعوتهم إلى النصرانية في بني إسرائيل في البداية فقط، أما فيما بعد فكان لا بأس من نشرها في الشعوب الأخرى.ولكن يبطل استدلالهم هذا في نفس الإصحاح حيث قيل: (...فإني الحق أقول لكم لا تكلمون مدن إسرائيل حــتى يرجع ابن الإنسان متى ۲۳:۱۰).وهنا يخبرهم المسيح أن لن تبدأوا دعوة الشعوب الأخرى إلى المسيحية قبل مجيء ابن الإنسان.نعم عندما يأتي ابن الإنسان يسمح لكم بنشر المسيحية في الشعوب الأخرى أيضا.ولقد فسرت هذا الفقرة كلمـــة (بالحري) تفسيرا جيدا.وقيل أيضا: (فأجاب وقال : لم أُرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة)(مـــــى ١٥: ٢٤).وهنا اعترف المسيح أنه لم يرسل إلى أحد سوى بني إسرائيل فلم يبق محــالا لنشر المسيحية في غيرهم من قبل ومن بعد.وكذلك ورد: (وأما يسوع فقال لها: دعي البنين أولاً يشبعون، لأنه ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب (مرقس (۷،۲۷).وهذه الفقرة تتضمن نفس ما جاء آنفا في (متى٦، ٧).ولكن الإسلام على عكس ذلك..لا يحدد دعوته في شعب معين، فأمر الله نبيه في القرآن قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا) (الأعراف: ١٥٩).وفي مكان آخر قال جل شأنه (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشرا ونذيرا، ولكن أكثــــر الناس لا يعلمون) (سبأ: (۲۹).كما أن الرسول بنفسه أعلن: (كان) كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود)، وقال أيضا أرسلت إلى الخلق كافة) (مسلم، المساجد).فقد بين القرآن المجيد والرسول الكريم أنه لم يكن خاصا بشعب أو بلد، وإنما رسالة الإسلام للعالم أجمع.فعلى الرغم من التشابه الظاهري بين المسيحيين والمسلمين فإن المسيحيين يقولون ما يرفضه دينهم.ما دام الله تعالى لم ينزل تعاليم المسيحية للشعوب الأخرى، فكيف ينالون النجاة باعتناقها؟ وكما أن الحكومة إذا أمرت

Page 131

۱۲۸ سورة البقرة الجزء الثاني أحدا بالذهاب إلى مكان فذهب غيره إلى ذلك المكان فلا بد أن يعاقــب هـــذا؛ كذلك إذا تنصر أحد من غير الإسرائيليين فلا ينال ثوابا وإنما عقابا.ثم إن الإسلام مختلف من ناحية أخرى وهي أن اليهود والنصارى قد ادعوا أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى و لم يذكروا هنا أن غيرهم لن يدخلها في بداية الأمر ولكن فيما بعد يدخلها، بل ذكروا أنه لن يدخلها أحد سواهم..ولو بعد آلاف بل ملايين السنين.وهنا أيضا يختلف الإسلام بصدد هذا النظرية، فهو لا حتى وإن كان ملحدا يقول بدوام عذاب النار، بل يقول إن كل إنسان - - - لا بد وإذا أن يدخل الجنة في آخر الأمر، لأن الهدف من خلق الإنسان أن يصير عبدا لله، لم يتحقق هذا الهدف فخلقه عبث.يقول الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات (٥٧).وقال أيضا فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر)..أي يا ذا النفس المطمئنة - ادخل في عبادي وفي جنتي.وهذا يثبت أن الله قدر لكل إنسان أن يدخل الجنة، ولولا ذلك لبطل الغرض من خلقه؛ وقام الاعتراض على الله تعالى بأن الهدف الذي خلق الإنسان من أجله لن يتحقق.ثم هناك فرق بارز آخر بين نظرية الإسلام والمسيحية للنجاة، في الإسلام يعترف بأن سلسلة الوحي من الله سارية للأبد، ولا بد من الإيمان بكل ما ينزل الله من وحي.ولكن المسيحية لا تقول بذلك، وإنما تحدد الوحي إلى زمن المسيح فقــط، وتقول إنه لا يمكن الآن نزول الوحى ولو كان شرحا وتفصيلا لما سبق من الكتاب.لذلك لو أنزل الله أي وحي كشرع جديد أو بيانا لشرع سابق لرفضوه بناء على عقيدتهم.هذه ولكن المسلمين لابد أن يقبلوه لأن الله تعالى قد ذكر علامة المسلمين الصادقين بقوله (وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة: (٥)..أي أنهـ يؤمنون بكل هدي جديد من الله تعالى كما آمنوا بما سبق.فالمسيحيون يضيقون دائرة النجاة ويحرمون البشر من هدي بزعمهم انقطاع أي نوع من الوحي، ولكن الإسلام قد فتح هذا الباب..وقال إنه لا بد من الإيمان بالوحي الذي ينزل لتقوية الإيمان وزيادة علم الإنسان.وأخبر اليهود والنصارى الله

Page 132

الجزء الثاني ۱۲۹ سورة البقرة أن الله ليس إلههم وحدهم فحسب، وإنما هو إله للناس كافة، وأنه كان منذ خلــــق الكون يهيئ الأسباب لهداية خلقه كلهم، ولن يزال يهديهم في المستقبل أيضا..فلا تحددوا فيضان رحمة الله الواسعة ولا تجعلوا من هذا البحر الذي لا شاطئ له ينبوعا قد جف ماؤه، ولا تجعلوا الله إلها قوميا بتخصيص النجاة لكــــم دون ســــواكم.وقصارى القول: إن الله - بكل صراحة قد قرن النجاة بالإيمان الذي صــاحبه مستعد عن طيب خاطر لقبول ما يأتي من الله تعالى من هدي، وإلا لما نعى الله هنا على المسيحيين الذين قالوا بفتح باب النجاة للآخرين أيضا.ما عابهم الله تعالى إلا لأنهم ليسوا على استعداد لقبول أي وحي بعد كتابهم.ولو اعتقد المسلمون أيضا بمثل اعتقادهم لعدّوا عند الله من المجرمين.ويبين قوله تعالى (تلك أمانيهم أنه عندما تبدأ أمة بالتقهقر بدل التقدم والرقـــي..فإنها بدل أن تقدم فعالا من عمل صالح وسلوك نبيل..تصبح صورة مجسمة للحسرات والأماني.وبينما يحدث غيرها انقلابات في العالم بالجد والكدح وتحمل المشاق وبذل التضحيات..فإن هؤلاء المتقاعسين عن تحمل المشاق، الخائفين مـــن بذل التضحيات المتطفلين على موائد الآخرين تطفل ابن آوى علـــى فـضـلات الأسد..يبنون قصورا في الأحلام.فماذا يغني الإنسان قوله : كان أبي كذا وكذا، ونحن أمة موسى أو عيسى أو آل محمد؟ إنما ينفع الإنسان انتسابه إلى أمته إذا عمل عملهم.وقوله تعالى (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين يعني إئتونا بدليل على ألا نجاة إلا لليهود والنصارى إن كنتم صادقين في زعمكم هذا.وهذا هو نفس الدليل الذي ذكرته أنفا..أعني إذا كنتم حقا أصحاب الجنة دون سواكم فيجب أن تحظــوا بأفضال ونعم سماوية، وتتشرفوا بكلام الله تعالى.إذا كان اليهود هم الناجون فوجب أن يثبتوا وجود هذه الأفضال فيهم.وإذا كان النصارى هم الناجون فلا بد أن يدللوا على أن الله تعالى يوحي إليهم ويؤيدهم بآياته.ذلك لأن الله تعالى قــــد ذكر في القرآن الكريم أن للمؤمنين جنتين إحداهما دنيوية والثانية أخروية (ولمن خاف مقام ربه جنتان (الرحمن: (٤٧.فإن كانوا صادقين في دعواهم فليخبرونا أين

Page 133

الجزء الثاني جنتهم الدنيوية، وليثبتوا أن الله ينعم ۱۳۰ سورة البقرة عليهم بأفضاله وبركاته، أو يؤيدهم بكلامـــــه، ويقربهم وينصرهم عند الملمات بآيات خارقة للعادة.فإن كانوا كذلك فإنهم ناجون بلا مراء..وإلا فليعلموا أنهم محرومون من بركات الله في الدنيا، وسوف يحرمهم من النجاة في الآخرة.بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (۱۱۳).شرح الكلمات أسلم - سلم نفسه إلى غيره كلية (الأقرب).وجهه – الوجه له معانٍ عديدة منها : العناية والاهتمام ؛ نفس الشيء، صفحة الوجه (الأقرب).وكل هذه المعاني تنطبق هنا.فيكون معنى العبارة: أولا من وجه كــــل الاهتمام والعناية إلى الله.ثانيا – من سلّم نفسه وذاته الله كلية ووضع يده في يـــد الله.ثالثا - من صوَّب وجهه إلى الله ولم ينظر و لم يلتفت إلى غيره.محسن الإحسان يقال على وجهين: أحدهما الإنعام على الغير..يقال: أحسن إلى فلان والثاني إحسان في فعله، وذلك إذا علم علما حسنا أو عمل عملا حسنا، وعلى هذا قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الناس أبناء ما يُحسنون عنه): (المفردات)..أي منسوبون إلى ما يعلمون وما يعملون من الأفعـــال الحـسنة، ويكرمون بسبب ما يتقنونه من علم أو عمل.فالنجار – مثلا – يمكن أن يكـــــون قادرا على شيء من الزراعة أو الحدادة..ولكنه يسمّى بجارا لكونه يتقن النجارة أكثر من أي عمل آخر.وهكذا الحال بالنسبة للكاتب أو الطبيب وغيرهما.فالمحسن من يكون متقنا في معرفة شيء أو في عمله.ولذلك قالوا: أحسن الشي: جعله حسنا.وفي القرآن الذي أحسن كل شيء خلقه) (السجدة ) أي الذي خلق كل شيء، وأودعه أفضل القوى للقيام بعمله.

Page 134

۱۳۱ سورة البقرة الجزء الثاني والإحسان أعم من الإنعام إذ إن الإنعام إنما يكون على الآخرين فقط، ولكن الإحسان يكون للإنسان نفسه ولغيره أيضا.فالإحسان هو صنع المعروف لكــــل البشرية بلا استثناء.والإحسان أفضل من العدل أيضا، لأن العدل أن يعطي الإنسان ما عليه لا أكثر ، ولكن الإحسان أن يعطي أكثر ممـا عليـه ويأخـذ أقـــل ممـا له(المفردات).أحسنه، وأحسن أتى بالحَسَن، أي قال قولا حسنا، أو علم علما حسنا، أو عمـــل عمـــلا وهو ضد أساء.وأحسنه : علمه جيدا.يقال فلان يحسن القراءة أي يعلمها جيدا وأحسن له وبه: صنع به معروفا.(الأقرب) ومعنى العبارة (من أسلم وجهه وهو محسن) أنه يسلم نفسه الله تماما ويطيع رســـــوله حق الطاعة فقد روي عن عائشة (رضي الله عنها قول النبي : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (البخاري، كتاب البيوع)..أي من عمل ما لم نأمر بـه فعمله مردود مرفوض؛ لأن الرسول الذي جاء بكلام الأجدر بفهـم هـذا الكلام.الله هو وقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ سئل مرة : ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تراه فإنه يراك (البخاري، كتاب الإيمان والحق أن النبي ﷺ قد ذكـــــر هنا معيارا لمعرفة المكانة الروحانية التي يتمتع بها أي إنسان.فقد بين أنه يجب على الإنسان إتقان عبادة ربه لدرجة يستطيع بها رؤية الله تعالى، أو تستولي عليه الخشية لدرجة الشعور أنه واقف أمام ربه.إن الإنسان عندما يوجه عنايته إلى ربه ترتفـــع معنوياته وتتقوى..كالجيش المنهزم عندما يرى مليكه فيتشجع ويثبت في مكانه.(رضي الله ولكن الإنسان إذا لم يحصل على إحدى هاتين المكانتين فلا يعد محسنا.فقوله تعالى (من أسلم وجهة الله وهو محسن) يعني على ضوء ما روته السيدة عائشة عنها أن من وجه كل عنايته إلى الله واتبع النبي حق الاتباع ومعناه على ضوء ما جاء في الرواية الأخرى من وجه كل عنايته إلى الله وبلغ من حيث الروحانية درجة كأنه يرى الله تعالى؛ أو انقاد لأوامر الله كأنه من ناحية يطيع أوامره، ومن ناحية أخرى يصل علمه إلى درجة الكمال، وعمله إلى درجة العرفان.

Page 135

الجزء الثاني ويبين ۱۳۲ سورة البقرة أن التفسير : هذه الآية جواب لقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، الله هنا أن الإسلام يعني إنشاء علاقة وطيدة بالله، وحب خلقه والعطف عليهم، وإنما الناجي من يسلم نفسه إلى ربه كل التسليم من ناحية، ولا يمد يده للسؤال إلا إليه، ومن ناحية أخرى يكون من غنى النفس بحيث يعف عن السؤال من غيره، بل ويعطي الجميع بسخاء.وقد أشرت إلى نفس الموضوع في بيت من شعري، ومعناه: أعط كل الخلق ولكن لا تمدن يديك إليهم للسؤال.فهذه هي ميزة المحسن أن يسأل الله ما يحتاجه، ثم يسخو به على الخلق.والواقع الانقياد لله والتوجه إليه والشفقة على خلقه هي خلاصة تعاليم الإسلام.ولقد اعترض البعض كيف أن سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) يقول في كتبه أن تعاليم الإسلام تتلخص في الانقياد لله تعالى والشفقة على خلقه (البراهين الأحمدية ج ۵ ص ۲۹.والحق أن هذه الآية هي التي تقرر ذلك.فقوله تعالى (مـــن أسلم وجهه لله) تتضمن معنى الانقياد لله، وقوله تعالى (وهو محسن) يعني على خلقه.وقوله (بلي) يشير إلى أن النجاة تكون لمثل هؤلاء وليست لكم يا أهل الكتاب، فإن لهم أجرا عظيما عند ربهم.فقول الله هذا يتضمن نكتة لطيفة وهي أن أهل الكتاب ادعوا بأن النجاة مخصوصة بهم، ولكن الله يبين أن النجاة ليس مدارها اعتناق على دين معين، وإنمـا هـي في الانقياد التام لكل ما يأتي من عند الله تعالى..وهذا هو الإسلام الحقيقى وإنكاره يحرم من النجاة.الشفقة أما فيما يتعلق بمسألة: من هو الناجي، ومن ليس كذلك؟..فليكن معلومـــا أن الله (من أسلم وجهه الله الإسلام إنما يحكم بالنجاة كقاعدة للذين هم مصداق قول وهو محسن)..وإلا فالله مالك يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء..فمنذا الذي يمنعه إن أراد أن يغفر لهندوسي أو سيخي أو مسيحي أو يهودي؟ وقوله تعالى (بلى، من أسلم وجهه الله يشير كذلك إلى أن من واجــب المـؤمن الصادق أن يسلم نفسه تماما لله تعالى، ويجعل حاجاته الدنيوية تابعة لحاجاته الدينية.

Page 136

۱۳۳ سورة البقرة الجزء الثاني وقد يبدو هذا الأمر تافها في بادئ الأمر، ولكن الحقيقة أن هذا هو الفارق بــين الإسلام والأديان والأخرى.فالإسلام لا ينهى عن طلب العلم، ولا عن كسب المال أو التجارة أو الصناعة أو الحرفة، ولا عن توطيد دعائم الحكم، وإنما يريد لـه ذلك بوجهة نظر معينة..فلكل عمل في الدنيا وجهتا نظر : إحداهما تقــــوم علـ كسب اللب من القشر، والثانية تقوم على كسب القشر من اللب.فالذي يريـــد سب القشر من اللب ليس من الضروري أن ينال ،مرامه، وإنما يمنى بالفشل في أكثر الأحيان، ولكن الذي يحاول الحصول على اللب يجد اللب والقشر أيضا.فكل ما بذله النبي ﷺ وأصحابه من جهود كانت لنشر الدين، ولكنهم لم يحرموا من نعم الدنيا.والحق أن الذين يطلبون الدين تتبعهم الدنيا كأنها أمة لهم، ولكن ليس مـــــن الضروري لطالب الدنيا أن ينال الدين أيضا فأحيانا لا ينالون الدين، وأحيانا أخرى يحرمون مما تبقى في أيديهم من الدين.وقوله تعالى (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون: الخوف يكون مما يخفيه المستقبل، وأما الحزن فيكون على ما حدث في الماضي.يقول الله تعالى: إن مستقبل المسلمين مصون محفوظ، فلن يضرهم كيد الكائدين، كما أنهم لا يقلقون مما صدر عنهم في الماضي..ذلك لأن الله لو لم يغفر لهم ما اقترفوه لطاردهم التفكير فيما ارتكبوا من الأخطاء في السنين الماضية من عمرهم.ولكن المسلم ما أن يسلم وجهه لله ويدخل في الإسلام إلا ويغفر الله له ما تقدم من ذنوبه فماضى المؤمن لا يقلقه ولا يحزنه يصير بعد الإيمان كما ولدته أمه.لا شك أنه لو ارتكب أي ذنب بعد الإيمان فلا بد أن يدرج بقائمة أعماله ولكن فيما يتعلق بالذنوب السابقة فإن التوبة تمحوها تماما.فخلاصة القول أن الله قد أوضح هنا أن كان ذا صلة متينة بالله، من وأحسن إلى خلقه..فلا خوف عليه ولا حزن، لأنه يحفظ نفسه في كنف الله جل وعلا.إنما يطارد الخوفُ مَن لا يؤمن بالآخرة أصلا، فيخاف من الموت متمنيا طول زمن الملذات؛ إذ يعلم أنه يصير بالموت ،ترابا، فلن يتمتع بملذات العيش، أو يطارد الخوف من يؤمن بالآخرة ولكنه لا يعمل طبقًا لإيمانه..فيخاف من الموت لعلمه أن لأنه

Page 137

١٣٤ سورة البقرة الجزء الثاني الله تعالى سوف يحاسبه.ولكن المؤمن الصادق في إيمانه العامل بحسب هذا الإيمان فلا يخاف ولا يخشى.ثم يقول الله تعالى إن العلامة الثانية للمؤمنين الصادقين أنهم لا يحزنون.علما بأن هناك فرقا بين الحزن وبين الصدمة التي تصيب الإنسان عند ضياع شيء ما لشدة علاقته به ومحبته له فالله لا يمنع من الشعور بالصدمة أو إظهاره.أما الحزن الذي يُنفى عن المؤمن فهو قلقه على ما صدر منه من تقصيرات في الماضي، وظنـــه أنـــه سيحرم من تأييد الله بسببها.ينفي هذا الحزن لأنهم يؤمنون بحــب الله الله عنهم وقدرته إيمانا كاملا..ويدركون أن الله لن يضيع عباده المخلصين.الترتيب والربط: قبل الآيتين رقم ۱۰٥ ورقم ١٠٦ ذكر الله المخططات اليهودية التي دبروها بالتآمر مع القوى الخارجية.ثم بدأ من هاتين الآيتين في ذكر مخطط يهودي آخر..وهـو أنهم يحاولون تثبيط همم ،المسلمين، ويريدون أن يوقعوهم في خطيئة إهانة رسولهم بطريق أو آخر؛ فيحرموا هم أيضا من النعم الإلهية.ثم بين في الآية رقم ۱۰۷ أننا عندما ننسخ أي كتاب سماوي نأتي بأفضل منه، فعلى اليهود أن يفكروا جيدا هل يجدون أي مثال لأمة نجحت من قبل في إيقاف نشر وتأثير رسالة سماوية لموسى أو لغيره من الأنبياء حتى يظنوا أنهم سينجحون الآن ضد محمد.وتناولت الآية رقم ۱۰۸ أن هذا الكتاب أنزله ملك السماوات والأرض، فلا شك في أن عواقب معارضتهم له خطيرة للغاية.وفي الآيتين رقم ۱۰۹ ، ۱۱۰ ذكر كيدا ثالثا لليهود كادوه ضد الرسول ﷺ حيث كانوا يوجهون إليه أسئلة سخيفة، لكي يقلدهم المسلمون فيسألوا رسولهم أسئلة مثلها ويصابوا بهذا المرض، وتزول عظمة دين الله من قلوبهم شيئا فشيئا.ويحذر الله المؤمنين بأن هؤلاء قد هلكوا بسبب توجيههم أسئلة هذا القبيل إلى موسى، من ويريدون أن يجعلوكم غافلين متوقحين كافرين.

Page 138

الجزء الثاني ۱۳۵ سورة البقرة وفي الآية رقم ١١١ بين الله طريق الوقاية من شرهم ومكرهم..وهو التوجـــه إلى عبادة الله والشفقة على خلقه.وفي الآية رقم ۱۱۲ ذكر مع اليهود المسيحيين أيضا - وهم فـــرع مــن الـــدين الموسوي، ولكنهم انفصلوا عنه كلية – وبين أنه إذا كان الله قد عهد عهدا جديدا لقوم جديد، وكتبكم تنبئكم بهذا العهد الجديد، فكيف يمكن الآن نيل النجاة بمجرد القول إننا يهود أو نصارى؟ وفي الآية رقم ۱۱۳ دحض مزاعمهم، وأخبر أن طريق النجاة هو الانقياد الكامل الله تعالى والشفقة على خلقه.وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٤) التفسير : يقول الله تعالى إن هؤلاء الذين يعتبرونكم غير ناجين..قد ساءت حالهم لدرجة أن اليهود يقولون إن النصارى لا خير فيهم، ويقول النصارى إن اليهود لا خير فيهم..مع أن كلتا الفئتين تقرأ كتابا واحدا، وتدعي أنها تؤمن بالتوراة.ومن المعلوم أن اليهود لا يعدون الإنجيل كالنصارى- من الكتاب المقدس.لقد ذكر الله قبل ذلك ثلاث دعاوى لليهود، والآن ذكر الرابعة.والحق أن هنــاك شبها بين الأولى والثانية وبين الثالثة والرابعة فقد ذكر أولا أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، ثم ذكر دعواهم الثانية بأن الدار الآخرة لهم عند الله من دون الناس.فهذه الثانية أكبر من الأولى، وقد دحض الله كلتيهما.وكانت الثالثة أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، والرابعة أكبر من الثالثة إذ ينفون بها وجود أي خير في غيرهم حيث يدّعون ألا خير في النصارى، والنصارى أيضا يدعون مثل دعواهم.والحق أنه حتى من يستحق النار يمكن أن يكون فيه بعض الحسنات، ولكن وجود بعض الحسنات فقط لا يكفي ليستحق الإنسان الجنة، وإنما يدخلها

Page 139

الجزء الثاني ١٣٦ سورة البقرة الله من رجحت كفة حسناته كفة سيئاته.أما هؤلاء فقد تشددوا وغلوا في القــول بحرمان الناس من الجنة لدرجة أن نفوا وجود أي خير في سواهم..فيرد عليهم قائلا: دعوكم من الحسنات الأخرى.وأخبروني: أليست تلاوة التوراة من الحسنات؟ وما دام النصارى يتلونها فلماذا تنكرون وجود أي حسنة فيهم؟ وفي الواقع أنه ما من دين إلا ويتضمن بعض الحقائق والمزايا، وإنما يعني قولنا (دين الحق) أنه أكثر الأديان شمولا للمزايا والكمالات ونزاهة عن النقائص..وإلا فكل دين لا بد وأن يشتمل على بعض الحقائق.ولكن الأسف أن الناس عموما لا يفهمون هذه الحقيقة الأصلية، مما يؤدي إلى العداوة الدينية الشديدة.إن الإسلام يعارض بشدة هذه الظاهرة..ظاهرة ضيق الصدر هذه بين أهل الكتب، فهو – إلى جانب دعواه بصدقه – يعترف أن كل دين يتسم ببعض المزايا، وينصح أتباع الأديان المختلفة بألا يهاجم بعضهم بعضا هجوما أعمى، بل عليهم أن ينظروا إلى مزايا الآخرين أيضا، وألا يتعاموا ويظنوا – تعصبا بدون تحقيق وتدقيق أن دين غيرهم كله عيوب ونقائص وأنه خال من أي خير وكمال.وقد لام الله اليهود والنصارى في هذه الآية على عداوتهم الشديدة وتعصبهم الأعمى.والحق أن الناس لو عملوا بتعليم القرآن هذا لتغيرت خريطة العالم وانمحى أي أثر للخصومات والفسادات، واستتب الأمن والاستقرار حقا.ذلك أن أساس الخصومات الدينية إنما هو سوء الفهم هذا فالناس يندفعون إلى مهاجمة دين آخر بــدون أدنى تـدبر في تعاليمه، مما يثير ثائرة البغض والانتقام في نفوس أهل ذلك الدين ضد دين المهاجمين، وهكذا يُحرمون من فرصة التدبر في دين الآخرين في هدوء وبعد عن التعصب.كل واحد يهاجم دين الغير بدون أدنى تدبر بناء على روايات أعداء ذلك الدين، ويعد عقائده غير منطقية ومجموعة أوهام غير قابلة للعمل، بل مخلة بأمن الدنيا..ويتنفـــــر من ذلك الدين.مع أنهم لو تدبروا في أديان أخرى بصدر رحب لوجدوا في كـــل دين بعض المزايا وبعض النقائص، ماعدا دين" الحق " الذي يكون منزها من كل عيب ومنقصة.ولا بد أن يؤدي بهم هذا التدبر الهادئ إلى أمن وأمان وحب ووئام.

Page 140

۱۳۷ الجزء الثاني سورة البقرة لقد تفشت ظاهرة الاعتداء على أديان الآخرين في عصرنا هذا لدرجة أن أصبحت شغلا شاغلا بين الناس.مع أن نتائجه خطيرة جدا للعالم كله.وقد نبــه القـــرآن الكريم في هذه الآية إلى التخلص من هذا العيب بصفة مبدئية.والأسف أن الفرق الإسلامية في هذه الأيام أيضا مصابة بهذا المرض.فرغم أنهـا تؤمن بإله واحد وبكتاب واحد وبرسول واحد إلا أنها تتبادل فتاوى التكفير على أدنى اختلاف.ومع وفي قوله تعالى (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)..يبين أنه ليس اليهـود والنصارى وحدهم الذين أصابهم المرض، وإنما سائر الجهال الذين لا يعلمون علما حقيقيا يهاجم بعضهم بعضا بمثل هذه الهجمات..أي يتناسون تماما محاسن الغــــير، ولا يذكرون مساوئ أنفسهم، في حين أنه لا يمكن أن يكون أحد مؤمنا بالله ذلك يكون خاليا من أي خير.كيف يمكن أن يوجد في الدنيا شيء لا جدوى ولا خير فيه والقرآن يعلن أن الله تعالى لم يخلق أي شيء من دون فائدة وجدوى؟ بـــــل لقد اعترفوا الآن بفوائد سموم الحيات والعقارب أفليس من الظلم في حـــق الله ألا نتوقع في الإنسان أي خير.قلت قوله تعالى فالله يحكم بينهم يوم القيامة..يعني أن الذين قالوا إن اليهود لا خير فيهم أو أن النصارى لا خير فيهم..لم يصيبوا في قولهم.نعم، فيهم بعض النقائص، ولأجل ذلك بعث الله نبيه محمدا لله ليصلح عوجهم.والحق أن حسناتهم وسيئاتهم كثرت، ومن سنة الله عند كثرة السيئات وقلة الحسنات وتفشي الفساد في العالم أن يبعث نبيا من عنده...لتقليل السيئات وتكثير الحسنات وليوثــق العبـاد صلتهم بربهم من جديد.

Page 141

الجزء الثاني ۱۳۸ سورة البقرة وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ : عَظِيمٌ (١١٥)..التفسير ما أروعه وما أسماه من تعليم لا يمكن لأي دين أن يباري الإسلام في مثل هذا التعليم.دعوا سلوك المسلمين جانبا، وانظروا إلى ما يأمر به الله هنا.يقول عزَّ من قائل: ليس لأحد أن يمنع أحدا من ذكر الله أو عبادته في المسجد بطريقتــــه.لا الله يحق لمسلم أن يمنع مسيحيا أو سيخيا من أن يدخل مساجد المسلمين ويعبــد تعالى بطريقته؛ أما الموسيقى والرقص التي يستخدمونها أثناء عبـادتهم فيمكن أن يقوموا بهما خارج المسجد، أما العبادة وذكر الله تعالى فلهم أن يقوموا بـه في المسجد.لقد حرّم الله هنا - بجرّة قلم واحدة أي ظلم واعتداء يقوم به أتباع ديـــن ضـــد معابد أو عبادات أهل دين آخر، وأمر أتباع سائر الأديان أن يتحلـوا بتسامح ورحابة صدر فيما يتعلق بمعابد وعبادات ،الآخرين لأن منهجهم الحالي نحو معابد و عبادات الآخرين يقوم على عنت وظلم كبيرين..عاقبتهما وخيمة.ومنهج الظلم والاعتداء الذي اختاره الناس في زمن نزول القرآن، أو الذي يسلكونه اليوم والذي يمنعه القرآن :هو : أولا - الفريق الغالب يهدم أو يغلق معابد الفريق المغلوب، أو يحصر عليه العبادة فيه، وثانيا – أتباع كل دين يمنعون أتباع الأديان الأخرى من العبادة في معابدهم أو حتى الدخول فيها.وكانت هذه الأمور في عهد النبي شائعة بين أتباع الأديان، وترسخت فيهم بقوة حتى اعتادوها فكانوا لا يرونها عيبا ولا ،منقصة بل ضرورية وحقا لهم.وتدل شواهد التاريخ أن هذه الأمور لم تكن وليدة ذلك العهد، بل كان الناس يأتونها منذ القدم، لذلك لم يكن أحد يبدي أي استياء نحوها.بل ولا تزال كل هذه الأمــــور موجودة في عصرنا الحاضر بشكل أو آخر.فرغم أن ثقافة الإنسان قد حالت إلى حد كبير بين هدم المعابد أو إغلاقها، ولكن عدم سماح الناس بالعبادة في معابدهم

Page 142

الجزء الثاني ۱۳۹ سورة البقرة يتعبد لأتباع دين آخر لا يزال إلى الآن أمرا عاديا.فالمسيحي لا يسمح للمسلم أن في كنيسته، واليهودي لا كذلك لا للمسيحي أن يتعبد في بيعته، والهندوسي يسمح لهذا ولا لذلك أن يتعبد في معبده.ولو قام أحد بعبادتـــه في معبــد غـيـره لاستعدوا للحرب.ولا يستثنى من ذلك بلاد أوروبا المتحضرة ولا قبائل أفريقيا يسمح المتخلفة.أن ولكن القرآن يمنع من كل هذه الممارسات الجائرة، ويقول إنه – رغم الاختلاف في العقيدة – لا يجوز بأية حال منع أحد أن يعبد الله ويتغنى باسم الملك الحقيق الحقيقي، أو يدخل المساجد، كما لا يجوز أن يسعى أحد الخرابها..فإن هذا ظلم عظيم.يجب يتمتع كل واحد - غالبا أو مغلوبا - بحرية كاملة لاستعمال المعابد.ولا يجوز لقوم أن يمنعوا أحدا من أتباع دين آخر أن يذكر الله تعالى أو يعبده في معبدهم..لأن المعابد تنسب إلى الله تعالى.فعلى الناس أن يخافوا في المعابد، ولا يوسعوا نطاق خلافاتهم إلى أماكن العبادة..وإلا فالذين لا يعملون بحسب أوامر الله تعالى..بل يلجئون إلى التشدد والغلو..فإنهم يلقون العذاب في هذه الدنيا، كما أنهم لـــن ينجوا من عذاب الآخرة.تحط 6 الله هذا هو تعليم القرآن الكريم عن صيانة حرمة المعابد وحرمة عبادة الأديان الأخرى.قارنوا هذا التعليم القرآني بتعليم أي دين ،آخر ثم بينوا أي التعاليم أقرب إلى العقل والمنطق وأدعى لإقامة الأمن والاستقرار في العالم.ولكنهم رغم وجود هذا التعليم السامي يعترضون على الإسلام بأنه دين عصبية وتشدد هذا الاعتراض لن يستقيم إلا إذا دلونا على دين يقدم تعليمات أفضل من تعليم القرآن.إن الدعوى بـدون دلیل شأن من المدعي وتخزيه عند العقلاء بدل أن ترفعه.إننا نتحدى ونقول: لا يمكن أن يباري الإسلام أي دين آخر في تعليم التسامح ورحابة الصدر.وإن أول إنسان عمل بهذا التعليم هو سيدنا ومولانا محمد ، فإنه سمح لوفد نصارى نجران بالعبادة في مسجده على طريقتهم.فقد جاء في زاد المعاد: (لما قدم وفد نجران على رسول الله ﷺ دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم.فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله ﷺ : دعوهم.فاستقبلوا المشرق

Page 143

الجزء الثاني ١٤٠ سورة البقرة الله وصلوا صلاتهم (زاد المعاد، فصل في قدوم وفد نجران.ويبدو أنهم كانوا في يـــوم الأحد.فعلى المسلمين أن يفكروا ما إذا كانوا عاملين بتعليم القرآن وسنة النبي..أم أنهم على عكس ذلك يتبعون قواعد ابتدعوها من عند أنفسهم؟ وعندي فإن هذه الآية قول فصل بيننا نحن المسلمين الأحمديين – وغيرنا من المسلمين..فقد استخدم القرآن الكريم كلمة (من) أظلم لثلاث فئات من الناس: أولا - من يدعي النبوة كذبا ثانيا - من يكذب النبي الصادق.قال الله تعالى فمن أظلم ممن افتــــى علـــى كذبا أو كذب بآياته) (یونس: ۱۸) ثالثا من يمنع الآخرين من عبادة الله في المساجد، كما جاء في هذه الآية.فالآن..إما أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية قد افتري على الله كذبا وادعى النبوة الكاذبة، أو أنه صادق وأن المسلمين غير الأحمديين يكذبون بني صـــادق..فأحد الفريقين يدخل تحت كلمة (أظلم).وهذا الآية تحسم القضية تماما، فبينما لا يمكن لأحد أن يقدم مثالا واحدا منع فيه المسلمون الأحمديون أحدا من غيرهم من العبادة في مساجدهم..نجد عديدا من الأحداث التي مُنع فيها المسلمون الأحمديون من الصلاة في مساجد غيرنا من المسلمين، وتعرضوا للتشدد بشتى الأساليب.فدلت هذه الآية دلالة واضحة على أن المعارضين لمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية قد أثبتوا بسلوكهم أنهم مصداق قول الله فمن أظلم، وأنهم يخالفون المشيئة الإلهية.(أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين.يقول الله: من الغريب حقا أن تحدث بين الناس هذه الخلافات والمصادمات الشنيعة بسبب بيوت الله.فما كان لائقا بهم أن يمارسوا هذه الأعمال الجائرة، ولم يكن يحق لهم أن يمنعوا الناس من العبادة في المساجد، بل كان عليهم أن يدخلوا بيوت الله وقلوبهم وجلة خائفة..لا أن يشتغلوا بإثارة الفتنة والفساد.لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم)..يقول جل من قائل: لما كـــان هؤلاء يريدون تخريب بيوتي فإنني أيضا سوف أخرب بيوتهم، وأذلهم وأخزيهم في

Page 144

الجزء الثاني ١٤١ الدنيا، ثم أعذبهم في الآخرة عذابا عظيما.ذلك لأن الجنة بيت تعني سورة البقرة والمسجد ظله..الله وما داموا قد خربوا المساجد فكيف يعيشون في الآخرة في أمن ودعة؟ بيد أن الآية لا أن المساجد بحسب الشريعة الإسلامية تحمي الخارجين عن القانون إذا هم لاذوا بها.فقد ذكر الله بعض القوم الذين بنوا مساجد للتآمر على الحكومة - أي على الرسول الله وأصحابه - ثم سألوا النبي نفسه أن يأتي مسجدهم ليصلي فيه ويباركه، ولكن الله تعالى أخبره بالأمر، وأطلعـه أنهم لم يؤسسوا هذا المسجد إلا إخفاء لنفاقهم وكيدا بالإسلام وضرارا بالمسلمين (التوبة: ١٠٧).فأمر بهدمه وجعل مكانه مزبلا.فالمسجد بنفسه لا يحمي مجرما ، وإذا ارتكب فيه عمل سيئ عُدَّ سيئا، وإذا عُمل فيه عمل حسن اعتبر حسنا، حتى أن الرسول ﷺ قال عن حرم الكعبة أنه لا يحمـــي محرما ولا باغيا ولا قاتلا ولا سارقا؛ بل يجب أن يقبض على هؤلاء ويعاقبوا.وعند فتح مكة بلغ النبي الله أن ابن الأخطل - المدان والمحكوم بقتله من قبل لائـــذ بأستار الكعبة قال : اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا فقتل (السيرة الحلبية ج٣، فتح مكة).فما دام الرسول الله قد قتل المجرمين وإن كانوا في الكعبة نفسها، فما بالك بالمجرمين الخارجين على القانون الذين يلوذون بمساجد أخرى؟! ما أسست المساجد إلا لإقامة التقوى لا للخروج على القانون.وإذا صارت المساجد نفسها مراكز الخروج على القانون..لم يعد أي بيت مغلقا في وجه الشيطان.فالبيوت التي أسسها الله تعالى لإقامة الأمن والأمان وإقرار السكينة والطمأنينة والروحانيــة والتقــــوى، وجعلها رمزا للتعاون والوحدة..إذا اتخذها المسلمون مراكز لإثارة الفتن والفساد بين المسلمين أو للخروج على الدولة، فذلك ظلم عظيم لا يسمح بــه الإس ــه الإســلام مطلقا.لقد ذكر الله في هذه الآية عقابين للذين يمنعون الناس عن مساجد الله وعن ذكـــــره وعبادته أحدهما - أن لهم الذل والخزي في الدنيا، وثانيهما - أنهم يعذبون في الآخرة عذاب عظيما.والسر في ذكر الخزي في الدنيا هو أن الغرض من بناء

Page 145

١٤٢ سورة البقرة الجزء الثاني المساجد والمعابد ليس إلا عبادة الله تعالى، فمن يمنع الناس من العبادة فيها فإنه يهين ويُخزي نفسه أمام العالم، وهذا عقاب طبيعي لهذا العمل.وهذه الكلمات كانت تحمل في طيها نبأ عظيما يخص مشركي مكة الذين كانوا منعوا المسلمين من الدخول في المسجد الحرام، ولما فتحت مكة تعرض هؤلاء العذاب الخزي والهوان وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (١١٦).شرح الكلمات: وجهه – الوجه يعني: ذات الشيء؛ التوجه والعناية؛ صفحة الوجه (الأقــــرب).ويعني قوله فثم وجه الله أولا أنكم تجدون الله في نفس الجهة، ثانيا – تجــــدون هناك العناية الإلهية ثالثا – ترون هناك وجهه.واسع - صاحب سعة عظيمة أو مانحها (الأقرب).الله الحرام التفسير: النصارى الذين يتحينون الفرص دائما وأبدا للطعن في الإسلام - يستدلون من هذه الآية على أن القرآن بدَّل قبلة المسلمين شيئا فشيئا (ترجمة سيل للقرآن، تحت هذه الآية.ومما يؤسف له أكثر..أن بعض المفسرين قد شهدوا لهذا الطعن جهلا منهم، مع أن هذه الآية عندهم من الآيات المنسوخة.يقول هؤلاء أن الله في أول الأمر أخبر المسلمين أن المشرق والمغرب الله، فصلوا متجهين إلى أية جهة شئتم، ثم أمرهم أن يتجهوا إلى القدس، وأخيرا أمرهم بالاتجاه نحو بيت في مكة وكأن هذه أول آية عندهم أمر فيها المسلمين بأن يصلوا نحو جهة غير معينة، ولكن الله نسخ هذا الأمر بعدئذ.ومع أنه ليس هناك أي علاقة بين هذه الآية وبين القبلة، إذ لم يرد أي ذكر للصلاة لا في هذه الآية ولا في التي قبلها، وإنما ذكرت المساجد فقط، ولكن لا يستقيم بعدها ذكر المشرق والغرب إذا كان قد ذكر في معنى القبلة..لأن ذكر المساجد يتطلب تحديد جهة معينة يتجه إليها المسلمون في الصلاة كي لا تختلف اتجاهاتهم ولكن الله تعالى يقول بعد ذكر

Page 146

١٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني المساجد أينما) تولوا فثم وجه الله.ثم إنه لم يرد في الآية التالية أي ذكر للصلاة ولا للقبلة إذا فلا يستقيم المعنى الذي أراده هؤلاء.الواقع أن عدة آيات سابقة تبحث في أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنه لا نجاة إلا في أديانهم، وأن المشركين الذين لا دين لهم أو الملحدين المنكرين لوجود الله تعالى..كل هؤلاء يحاولون بلا مبرر تخريب مساجد المسلمين، ويحولون بينهم وبين عبادة ربهم الذي لا شريك له، ولكن الله تعالى سوف يخزي كل هؤلاء ويهينهم، لأنهم يريدون تخريب بيت الله.ومن سنة الله أنه حينما ينزع من قوم شيئا يؤتيه قوما يستحقونه، وحيث إن الله تعالى قرر أن ينتزع منهم أموالهم وممتلكاتهم أموالهم وممتلكاتهم بسبب أفعالهم الشنيعة، ويذلهم ويخزيهم..لذلك خفف على المسلمين ضعفهم وقلة حيلتهم بقوله: الله الشرق والغرب – أي لا تقلقوا، فلله المشرق والمغرب..ينتزع منهم ملكهم ويملّكُكم المشرق والمغرب.فخلاصة القول أن هذه الآية تشير إلى موضوع الفتوحات الدنيوية فقط..وليس إلى موضوع الصلاة.فهو يقول : لما كان المشرق والمغرب لنا فأينما تولوا فثم وجه الله.أينما توجهتم بجنودكم تحدوا هناك العناية الإلهية أو وجه الله تعالى أو الله نفسه جل وعلا..لأنكم جميعا تسعون لتحقيق هدف واحد.ولقد رأيت مرة في الرؤيا أنني أخطب أمام جماعتنا حول موضوع هذه الآية وأقول لهم: إنها تشير إلى أنه لو كان هدف جماعتنا واحدا..فهما تعددت الجهات التي نتوجه إليها..واضعين هذا الهدف نصب أعيننا..فلن يحصل فيها شقاق أو خلاف، وإنما سنعمل بروح الجماعة الواحدة.ولكن لو لم يكن لنا هدف واحد فلن نتخلص من الانشقاق والتفرقة وإن توجهنا إلى جهة واحدة فلا تظنوا أنه لا بد أن تتجهوا إلى جهة واحدة، بل إذا توجهتم إلى جهات مختلفة بهدف واحد..فأنتم متحدون، وسوف يكون معكم أينما حللتم ويريكم وجهه أينما اتجهتم.وبالنظر إلى معاني (وجه الله) التي ذكرت من قبل يكون المراد من قوله (أينما تولوا فثم وجه الله) هو: عند الله

Page 147

١٤٤ سورة البقرة الجزء الثاني أولا أينما توجه المسلمون فسوف تشملهم العناية الإلهية وتهيئ الأسباب لغلبتهم فيحققون نصرا تلو نصر.الله وثانيا- أينما توجهوا يرون وجه الله تعالى، أي أنه يرعاهم ويحفظهم.وثالثا- أنهم يجدون ذات الله في كل مكان، بمعنى أن هذه الانتصارات انتصارات دنيوية في الظاهر، ولكنها كانت دفاعا عن مساجد الله ومعابده..لذلك تعتبر دينية، وسوف يكسب بها المسلمون حب ورضاه.وكأنهم لا ينالون بها الدنيا فقط، وإنما ينالون أيضا حب الله ورضاه.وهذا كقول النبي ﷺ أنه إذا وضع الرجل اللقمة في فم زوجته يبتغي بذلك وجه الله تعالى كانت له حسنة (البخاري، كتاب النفقات).مع أنه يفعل هذا حبا لزوجته ولكن لما كان يفعل هذا ابتغاء مرضاة الله لذلك ينال عليه الثواب ولو حقق غير المسلمين أي انتصار كهذا نالوا به الدنيا فقط، ولكن المسلمين ينالون به الدنيا والدين معا.فهم سوف يفتحون الدول كما ينالون ثواب الله أيضا.لقد أخبر الله بهذا النبأ عندما كان المسلمون قلة قليلة، يمرون بظروف صعبة، ويتعرضون لأنواع الإبتلاءات والمصائب، ويبدو المستقبل أمامهم جد حالك، ولكن النبأ تحقق بسرعة حين فتحت مكة، واجتمع العرب جميعا تحت راية الإسلام، ولم يمض قرن من الزمان حتى ارتفعت ترفرف خفاقة عالية في كل البلاد تقريبا.كما تشير عبارة (والله المشرق والمغرب إلى أن الله قد قدّر للإسلام أن ينتشر أول الأمر في البلاد الشرقية، وأنه سوف ينتشر في الغرب أيضا آخر الزمان عندما يُبعث المأمور الموعود.لذلك على الغرب أن يستعد فذلك الزمن ليس ببعيد الآن: فقــــد طلعت الشمس وأخذت أشعتها توقظ أهل الغرب.(إن الله واسع عليم).هذه العبارة أيضا تؤيد موقفي بأنه لا علاقة بين الآية وبين القبلة.فالله تعالى واسع..إنه يبسط لمن يشاء في المال، ثم إنه عليم..يعلم من أولئك الذين سوف يحققون للناس الأمن والراحة، فيجعل فيهم مُلكه، لأن الملك إنما يستحقه من يجد الناس عنده الأمن والراحة.

Page 148

١٤٥ سورة البقرة الجزء الثاني لیکن معلوما أن هناك نبوءات تفيد أن جماعتنا أيضا سوف تحقق الرقـــي المــــادي، ولكن لنعلم أن الله يؤتي ملكه لمن يعمل لراحة الناس أكثر من غيره.فعليكم أن تكونوا مصدر نفع للناس أكثر من غيركم، لأن الناس إذا لم يجدوا منكم الأمن والراحة فلا تستحقون أن يوليكم الله زمام زمام أمورهم، وهل يبعث ظالما مكان ظالم آخر.وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ فَانتُونَ (۱۱۷) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (۱۱۸) شرح الكلمات: قضى - لها عدة معاني منها : ۱.خلق، كقوله تعالى (قضاهن سبع سماوات (فصلت: (١٣)..أي خلق الكون في صورة سبع سماوات.٢.أعلم.كقوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب)(الإسراء:٥) ٣ أمر : كقوله تعالى (وقض ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (الإسراء: (٢٤).أقام عليه الحجة وأدانه كقولهم: قضى عليه القاضي.ه.أتم، كقوله تعالى: (فلما قضي موسى الأجل) (القصص: ٣٠) ٦.أراد، كقوله تعالى (إذا قضي أمرا)(البقرة: ١١٨)- (الأقرب) أمرا الأمر: الدين يقال ظهر أمر الله : نزلت أحكامه وشريعته.والأمر: الشيء، كقوله تعالى (إذا جاء أمرنا) (هود: ٤١) والأمر: العذاب، كقوله تعالى (قُضي الأمر) (البقرة: (۲۱۱) (قضى أمرا) تعني في ضوء القرآن نزول الإلهام الإلهي.التفسير : رغم أن ادعاء اليهود أن لا نجاة إلا لبني إسرائيل ادعاء خاطئ..إلا أنهم كانوا لا يدعون الناس إلى دينهم، ولكن المسيحيين رغم زعمهم الخاطئ أن لا نجاة

Page 149

١٤٦ سورة البقرة كما الجزء الثاني إلا للنصارى، فإنهم يقعون في خطأ آخر..ذلك بدعوة الآخرين إلى دينهم.يبنون خطأهم هذا على عقيدة خاطئة تقول إن المسيح ابن الله، ولا نجاة إلا لمن آمن بابن الله تعالى.وقد دحض الله زعمهم هذا بعدة أدلة، فقال إنه لا تجوز نسبة البنوة إلى الله تعالى، لأته منزه عن العيوب ونسبة الولد إليه اعتراف بوجود العيوب في ذاته جل وعلا عن ذلك..ومن هذا العيوب: أولا - إنجاب الابن يقتضي الشهوة، التي تدل على صرف الفكر إلى شيء وعلـــى الاحتياج إليه..والله متعال عن هذه العيوب.وثانيا الابن يقتضي وجود الزوجة، وهذا أيضا احتياج ونقص، والله منزه عـــــن كل منقصة.وثالثا - الابن يقتضي الجزئية، بمعنى أن الولد جزء من أبيه حيث يتولد من جسمه وذاته.ولو سلمنا بوجود ابن الله تعالى لاضطررنا إلى الإيمان بإمكان أن يتجزأ الله -سبحانه —إلى أجزاء.ورابعا وجود الابن يقتضي الفناء..لأن الكائنات الفانية هي التي تحتاج إلى ذرية، أما الأشياء التي لا تفتي حتى تحقق الهدف من وجودها فلا تحتاج إلى مــا يقــوم مقامها، ومثال ذلك الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض وغيرها، فلن تزال هذه الأشياء تعمل كما هي إلى ما شاء الله..لذلك لن تفنى ولن تحتاج إلى ما يقوم مقامها.ولكن لما كان الإنسان يفنى لذلك يحتاج إلى من يحل محله.فإذا سلمنا الله..فلا بد أن نسلم بفنائه أيضا.والله منزه عن هذه العيب وعـــــن بوجود ابن أي عيب سواه.وقوله تعالى (له ما في السماوات والأرض) يبين أن الملك في بعض الأحيان يحتــاج إلى ولد أو وزير يساعده في توسيع نطاق ،ملكه ولكنه - تبارك وتعالى – لا يحتاج لأي مساعد..لأن الإنسان يحتاج إلى مساعد عندما يصعب عليه تحقيـق مطلبــه بنفسه، كفتح قطر جديد وضمه إلى مُلكه ولكن ما دام الله خالق كـــل شـــيء ومالك كل شيء فأي حاجة دعته لاتخاذ ولد؟

Page 150

الجزء الثاني ١٤٧ سورة البقرة الله ثم إن الملك يحتاج لمساعد مثلا لقمع ثورة في بعض مناطق ملكه النائية، أو لإخضاع أهلها تحت حكمه، ولكن الله - جل وعلا - ليس أحد بخارج عن ملكه، بل كلّ له قانتون..فكيف والحال هكذا..تصح عقيدة أن الله اتخذ له ابنا؟ ثم من الممكن أن يقول قائل: لا شك أن مُلكه قد استتب الآن، ولكن لا بد أنه كان بحاجة ابن حين خلق السماوات بسبب كثرة العمل وضغوطه؛ ورد على هذه الظن قائلا بديع السماوات والأرض..أي أنه بنفسه خلق السماوات والأرض ولم يواجه أي صعوبة في خلقه حتى يشعر بحاجة إلى ابن.فقوله (بديع السماوات والأرض)..ترد على زعم بعض الفرق المسيحية التي تزعم أن المسيح ابن مريم كان شريك الله تعالى في خلق السماوات والأرض.ونحن نسأل أولئك المسيحيين: ما هو الدور الذي لعبه الابن في خلق العالم؟ فإذا قالوا: إنه لا دور له، قلنا: فقد ثبت ألا جدوى من وجود الابن.وإذا قالوا إنه خلق العالم، قلنا: ألم يكن الإله الأب بنفسه قادرا على خلقه؟ فإذا قالوا: لا، قلنا: قـــد أقررتم بالمنقصة في حق الإله الأب.وإذا نزَّهوه عن نقصه قلنا: فقد كان الإله روح الأب قادرا على خلقه، فثبت أن المسيح لم يلعب أي دور في عملية الخلق.ثم نسألهم: هل كان القدس قادرا على حَلْقه أم لا؟ فإذا قالوا: لا، قلنا: فقـــــد أقررتم بالمنقصة في روح القدس.أما إذا قالوا: إنه لعب دورا في خلقه، قلنا: فقـــــد اعترفتم بالنقصان في الإله الأب وما دام كل واحد من الإله الأب والإله الابن وروح القدس قادرا على خلقه بمفرده أيضا فلماذا خلقوه جمعيا؟ ومثال ذلك أن يكون هناك قلم يستطيع الإنسان رفعه بدون حاجة إلى مساعد، ولكنه لو نـــادى الجميع لمساعدته في رفع القلم لاعتبروه من الحمقى الأغبياء.ومـا دام الله بمفــــرده قادرا على خلق السماوات والأرض، فلا شك أن النصارى بقولهم إن المسيح أيضا عمل في خلق الكون ينسبون الله سبحانه إلى الحمق والغباء..لأنـــه بــدون داعٍ أشركه في عملية الخلق مع أنها لم تكن صعبة عليه.وأرى أننا لو استخدمنا هذا الدليل في ردّ أي مسيحي لعجز عن الجواب كما عجز قسيس كبير في مناظرة جرت بيني وبينه في دِلْهَوْزي (الهند).فقد اعترف هذا آخر.

Page 151

١٤٨ سورة البقرة الجزء الثاني الأمر أن مسألة التثليث في التوحيد والتوحيد في التثليث، مسألة يتعذر على أي إنسان فهمها.ومن المعلوم أن كلمة (بَدَع) تعني : أَوْجَد مِن عَدَم (المفردات).فقوله هنا (بديع السماوات يدل على أن الروح والمادة كلتيهما حادثة.وبذلك يُبطل الإسلام النظرية الهندوسية بأن الروح والمادة أزليتان ستيارت برکاش، بانــــدت دياننـــد،.(۲۲۱ ثم قال (وإذا) قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون..أي أن الله تعالى عندما يريد أمرا فليس هناك ما يحول بينه وبين إرادته؛ وإنما بقول كُن يتم تنفيذ مشيئته.وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى قادر على خلق العالم كما أن إفناءه أيضا في يده، لذلك فهو لا يحتاج لأي ابن.وسبب ذكر هذا الأمر أنه كان من الممكن أن يتوهم البعض أن الله تعالى قد خلق الأشياء وأنها كلها خاضعة لنواميسه، ولكن ربما يحتاج لإفناء هذا العالم الموجود إلى مساعد ومعاون.فرد الله على هذا الوهم قائلا إن الفناء أيضا في يده، ولا حاجة له في ابن لإنجاز هذه العملية.كما أن قوله تعالى وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) يتضمن تعريضا لطيفا بعقيدة المسيحية القائلة بموت المسيح على الصليب، فهو يقول: إن الله الذي أمات على الصليب ابنه الذي تتخذونه إلها..أي صعوبة أمامه ليفني العالم كله؟ كـــان يستطيع أن يهلك الأعداء جميعا بكل سهولة ولا يمكن أن يرد أمره شيء.كما ينبه قوله تعالى وإذا قضى أمرا إلى أن إنزال الوحى أيضا في يده سبحانه؛ فإذا أراد إنزال وحي جديد إلى العالم فليس في الدنيا قوة تحول دون إرادته.إذن فهذه العبارة تدحض زعم النصارى أن الوحي السماوي الأخير قد نزل علــى المسيح (عليه السلام)، ولن ينزل بعده أي وحي.لقد سمي المسيح في الكتب المسيحية (الكلمة)، وسماه القرآن أيضا (كلمة الله) فاستدل المسيحيون منه خطأ أنه قد انقطع نزول الكلام الإلهي بعد ذهاب الكلمة وكلمة الله.ولكنه – عز وجل خطأهم وقال إنه كما كان ينـــــــزل كلامــــه في

Page 152

الجزء الثاني ١٤٩ سورة البقرة الماضي فإنه سوف يُنزله في المستقبل، وكما أنه لم يكن محتاجا إلى أي مساعد لتدبير العالم الروحاني من قبل فإنه لن يحتاج إلى ابن أو مساعد للقيام بهذه المهمة في المستقبل.وليكن معلوما أن جملة كن فيكون لا تعني أبدا أن الله عندما يريد عمل شيء فإنه يحدث على الفور دفعة واحدة، وإنما المراد أنه عندما يريد فعل شيء فإنـه لـيس كالإنسان بحاجة إلى حركة أو انتقال من وضع إلى آخر، وإنما يريده فيحدث دون أن يحول بينه وبين إرادته أي حائل.كما أن هذه الجملة لا تدل على وقت محــــدد لحدوث ذلك الشيء، وإنما يحدث بعد إرادة الله في زمن قصير أو طويــــل قـــدره لحدوثه.أنه أنه وخلاصة القول: إن الله قد دحض هنا عقيدة بنوة المسيح بخمسة براهين، وبين سبحانه وتعالى لا يحتاج لابن بل هو في غنى عن كل حاجة.ليس من شك في قد أطلق على المسيح في الأناجيل كلمة (الابن)، ولكن كل من له إلمام بسيط بالتوراة يدرك جيدا أن ابن الله تعني عند اليهود حبيب الله أو نبيه.وقد أطلقت هذه الكلمة في عدة مناسبات على أشخاص آخرين، ولا خصوصية للمسيح في ذلك..فقد قيل: فأجاب وقال لهم يسوع: أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون، ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون.إذا لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة) (لوقا ٣٤:٢٠-٣٦).فقد أطلق هنا أبناء الله على كل من يقفون حياتهم على خدمة الدين.وقيل أيضا (طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يُدعون)(متى ٩:٥).وقد حث المسيح كل المؤمنين لاكتساب هذا اللقب فقال: (لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات).وقال (فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو کامل) (متى ٤٥:٥ ٤٨)

Page 153

الجزء الثاني ١٥٠ سورة البقرة وفي كتب موسى أيضا أُطلقت هذه التسمية على المؤمنين فقيل: أنتم أولاد للرب إلهكم) (تثنية ١٤: ١).وقيل : (إسرائيل ابني البكر (خروج ٢٢:٤) إذن فسيدنا يعقوب أولى وأحق من المسيح بأن يكون ابن الله تعالى..لأن يعقوب كان ابنا بكرا لله في حين كان المسيح ابنا فقط، فكيف يجوز لابن أن يرث أباه والابن البكر موجود.فالمؤمنين كلهم أبناء الله بحسب العهدين القديم والجديد كليهما، وليس للمسيح أية خصوصية في ذلك.وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (۱۱۹).التفسير : من الناس من يظنون لغبائهم أن الله تعالى يختار أصفياءه بدون حكمــة، وبغض النظر عن أهلية فيهم واستعداد عندهم.ثم يؤدي بهم ظنهم إلى قول: لم لا يأمرنا الله بما يريد مباشرة حتى لا يحدث أي خلاف؟ لماذا لا يكلمنا مباشرة؟ وإذا كنا لا نستحق التحدث معه فكان المفروض أن يأتي ببرهان ودليل على كلامه مع النبي حتى نؤمن به.لقد توصلتُ في تحقيقي ودراستي للقرآن أن كلمة (آية) عنـدمـا تـرد في القـــرآن منسوبة إلى الله جل وعلا أو إلى الرسل أو المؤمنين فإنها تأتي بمعناها العام..أي علامة تثبت صدق شيء سواء كانت العلامة عذابا أو إنعاما أو غيرهما من دليــــل.أما إذا وردت في حق الكفار كان معناها العذاب.والآية هنا بهذا المعنى..فقــــد قالوا: كان يجب أن ينزل الله كلامه علينا حتى نقبله لأننا أيضا عباده كما هـو عبده، فلماذا يميز بيننا وبينه؟ وإذا قيل لنا: إنكم عباده ولكنكم أصبحتم أشـــــرارا العذاب..فلم لا ينزل الله علينا عذابه؟ وما دام لا يهلكنـــا بعذابـــه واستوجبتم فذلك يعني أننا لسنا أشرارا..فلماذا إذا لا يكلمنا ويفضل محمدًا علينا؟ فقوله تعالى كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم يبين بجلاء أن سائر الأنبياء قد واجهوا اعتراضات متشابهة.وعندما كان الإمام المهدي والمسيح

Page 154

١٥١ سورة البقرة الجزء الثاني الموعود ينصح معارضيه بقياس صدقة على منهاج النبوة المحمدية، كانوا يضيقون بذلك كثيرا ويقولون: لماذا تذكر النبي محمد ال ؟ وكان المولوي محمد علي محرر مجلة الجماعة (مقارن (الأديان وقتئذ يرد على هذه الاعتراضات قائلا: إن حضرته نبي من الأنبياء، ولو لم نذكر النبي محمدا لله كمثال فماذا نفعل؟ ولكن الأسف أن المولوي محمد علي هذا نفسه غير موقفه فيما بعد، وبدأ يقول بأن حضرته لم يدع بالنبوة قط، وأن هذه عقيدة اخترعتها جماعة قاديان.على أية حال يقول الله إنه لو صح اعتراضهم هذا لبطلت رسالات الأنبياء كلهم.فعندما ادعى موسى بتلقي الوحي من الله تعالى لم يتلق الآخرون الوحي مثله.ثم إن الله تعالى لم يُهلك أعداءه دفعة واحدة، وإنما أهلكهم بعد إقامة الحجة عليهم شيئا فشيئا.كما أن المسيح عندما تلقى الوحي لم يشاركه في ذلك غيره، و لم يهلك الله الباقين مرة واحدة.فيجب أن تطبقوا معياركم هذا على الأنبياء السابقين حتى تعرفوا صحة قولكم أو فساده.فإذا لم ينطبق عليهم معياركم هذا ثبت أن قولكم خلاف منهاج النبوة.الواقع أن المرء عندما لا يجد جوابا يتشبث بعذر يخلّصه من النقاش.وطالما لجأ أعداء الأنبياء إلى هذه الحيلة، فكلما فشلوا في النقاش أسرعوا إلى مطالبة أنبيائهم بـأمور مستحيلة، وهم يعلمون جيدا أن تحقيقها مستحيل لسبب أو لآخر.فهـــم مــرة يطالبون بما يكون مخالفا لسنة الله تعالى، وتارة يطالبون بتحقيق شيء على الفور وهم يعلمون أنه سوف يتحقق ولكن بعد مدة، وتارة أخرى يطالبون بما يتنافى مع عظمة الله جل شأنه.وعلاوة على ذلك يقولون: لولا يعذبنا الله إن كنا كاذبين.والنبي المصطفى الله أيضا مثل الأنبياء الآخرين في هذا الشأن، بل رغم كونه أسماهم مكانة وأعلاهم شأنا عامله أعداؤه بجهل أكثر ، فكانوا لا يقدرون على معارضته بالدلائل ويطالبونه بشتى الأمور، وقد ذكر هنا أمران منها: ។ المولوي محمد علي هو رئيس المجموعة الذين أرادوا إلغاء الخلافة في الجماعة الإسلامية الأحمدية، فانشقوا عن الجماعة التابعة للخلافة وتركوا مركزها واشتهروا باسم الجماعة اللاهورية.

Page 155

١٥٢ سورة البقرة الجزء الثاني أحدهما - إذا كان نبيا صادقا فلم لا يكلمنا الله بشأنه، ويقول لنا إن هذا الرجل صادق فآمنوا به.مع أنه لم يحدث أبدا في زمن أي نبي أن أخبر الله الناس جميعــــا بالوحي أنه نبي صادق فآمنوا به حقا أن الله يخبر بعضا من الناس بصدقه بالرؤى والكشوف، ولكن إخبار الجميع خلاف لسنته عز وجل.ثم إن الناس لا ينتفعون بشهادة من يشهدون على صدقه بإخبار من الله..وإنمــــا يتهمونهم أيضا بأن لهم ضلعا في هذا الأمر.ثم إن إخبار الجميع بصدق نبي بالإلهام غير محد، لأن الإيمان ينفع صاحبه إذا نالــــه بجهد وسعي.وإذا آمن كل الناس بإلهام من الله تعالى فأي فائدة في هذا الإيمان؟ هذا الأسلوب يتنافى مع الهدف من خلق الإنسان ولا يبقى هناك أي فــرق بــين الإنسان وغيره من المخلوقات.فالله يخبر أن هؤلاء لا علم لهم بسنة الله، ولا يعرفون أي إيمان ينفع صاحبه إنهم يطالبون أن يكلمهم الله، مع أنهم يعلمون أن الرســــل السابقين الذين هم بهم مؤمنون..قد طولبوا بذلك و لم يتحقق هذا المطلب، ورغــــم هذا المثال فإن مطالبتهم هذا النبي بنفس المطلب الأول لدليل على أن قلوبهم تشبه قلوب أعداء الرسل السابقين.والمطالبة الثانية منهم: يجب أن تأتينا آية، فردّ الله بأننا قد أريناكم آيات ينتفع منها الإنسان إذا أراد، ولكن الذين أصيبوا بداء التعصب والعناد فلا دواء لهــــم.كمـا أسلفت أن(الآية) هنا تعني العذاب، فالمراد من قولهم (أو تأتينا آية): ليعذبنا الله بعذاب من عنده فيرد الله أنه لا غرابة إذا وجهتم مثل هذه الاعتراضات، لأن من خلفتموهم ما زالوا يفعلون كما تفعلون.وكما أن الرسول يكون مثيلا لرســـــول آخر..كذلك يكون أعداء النبي أشباها لمن كفروا بالأنبياء السابقين.فإذا ادعى أعداء محمد أنه لم آية فلا جديد في ذلك، لأنهم أشباه أعداء عيسى.وإذا كان أعداء عيسى قد اعترضوا عليه أنه لم يُرِهم آية فلا غرابة في ذلك لأنهم كانوا أشباها لأعداء موسى.وإذا كان أعداء موسى قد وجهوا نفس الاعتراض فلم يكن بدعا منهم لأنهم كانوا أشباها لأعداء إبراهيم.وإذا قال أعداء إبراهيم نفس الكلام فقد فعلوا ذلك لأنهم أمثالُ أعداء نوح.قد تشابهت قلوبهم وقلـــوب الـسابقين..

Page 156

١٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني لذلك يقولون اليوم لولا تأتينا بآية، مع أن هناك آيات عديدة للذين يريدون الإيمان، أما الذين لا يريدون الإيمان فلا يبصرون أية آية.وبين قوله تعالى (تشابهت قلوبهم أن أتباع كل نبي يسيرون على نهج أتباع الأنبياء الآخرين، كما أن الكافرين بني يتبعون سنن الكفار السابقين.فالأنبياء يشبهون الأنبياء من قبلهم، وجماعتهم تشبه الجماعات السابقة، والكفار يتشابهون مع الكفار السابقين..ولا سيما الأنبياء الذين يكونون في المهمات المنوطة بهم مشابهين لأنبياء آخرين فتكون أحوالهم شديدة الشبه.وبقوله تعالى قد بينا الآيات لقوم يوقنون يعني أنكم تطالبون بالعذاب لتعرفوا صدق هذا النبي..والواقع أننا أريناكم آيات عديدة وبراهين كثيرة تتيح لكم معرفة صدقه..شريطة أن تكونوا صادقي النية بعيدين عن التعصب والعناد.فإذا كنتم أمناء في مطالبكم فلم لا تُعملون فكركم في هذه الآيات والبراهين، ولماذا تصرون على نزول العذاب.لو كان الغرض من بعث الأنبياء إهلاك العباد لما بعث الله نبيا إلا وأهلك سائر الكفار على الفور.ولو كان الأمر كذلك لم يؤمن به أحـــــد.جرت سنة الله أنه عندما يبعث نبيا يُري في أول الأمر آيات رحمته..كي يؤمن من يريد الإيمان، ثم يهلك الله بعذابه الكافرين المطبوعين على التعصب لذلك والعناد.وفي قوله تعالى لقوم يوقنون إشارة لطيفة إلى أن الله قد أظهر آيات كثيرة، ولكن كيف يؤمن الذي يتشكك ويرتاب في كل شيء؟ فإن كنتم تريدون الهداية فاتركوا عادة التشكك والارتياب، وتحلوا باليقين.كيف يستطيع رؤية الآيات من يرفض كل آية ثم لا ينفك يردد قوله: أرني آية أرني آية؟ وفي بلدنا يقولون إنك تستطيع أن توقظ النائم، ولكنك لا تقدر على إيقاظ من ليس بنائم! وليس المراد هنا من الآيات آيات القرآن وإنما المراد الأدلة والبراهين التي لا بد منها لإثبات صدق نبي.فقوله تعالى يدحض اعتراض المسيحيين أن النبي ﷺ لم ير أيـــة آية، لأنه يقول: قد أرينا كل أنواع الآيات بكل وضوح لقوم يوقنون.

Page 157

الجزء الثاني ١٥٤ سورة البقرة إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (۱۲۰).شرح الكلمات: بالحق حال للفاعل أو المفعول به، وتعني مع الحق (إملاء ما من به الرحمن – تحت هذه الآية).التفسير: يجب أن نتذكر دائما قاعدة هامة في بيان معاني القرآن، وهي أنه إذا كانت آيه ما تحتمل عدة معان لا يتنافى منها أي معنى مع آية أخرى..فيمكن اختيار تلك المعاني كلها، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا.وكلمة (بالحق)هنا تحتمل أربعة معان: فإذا اعتبرناها حالا للفاعل كان المعنى إنا أرسلناك والحق معنا.ولهذه الجملة معنيان: الأول - إنا أرسلناك وكنز الحق والصدق عندنا دون سوانا، فلا يستطيع أحد سوى الله أن يقدّم مثل هذا التعليم الصادق الحق؛ لأنه لو حاول ذلك لما تجنب الكذب فيه، وارتكب فيه - عمدًا أو سهوا - أخطاء كثيرة فادحة تجلب على العالم الخراب..فكنا أولى بإنزال هذا التعليم الذي يهدي إلى الحق.والثاني إنا أرسلناك ونحن أحق بإرسالك.كأنه عز وجل يقـول: نحــن بـديع السماوات والأرض فنحن صاحب حق في إنزال هذا التعليم.نحن خـــالق هـذا الكون ومالكه..وبديهي أن واضع نظام العالم هو صاحب الحق في الحكم، وليس لأحد سواه أن يتدخل في ذلك.يقول الآريون الهندوس إن الله لم يخلق الروح والمادة (ســــتيارث بركــــاش، ص ۲۲۱).هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يقولون : إن الله هو الذي يسن قوانين الكون.وهذا خطأ، لأن الذي لم يخلق لا حق له في سن القوانين، وإنما يحق ذلك لمن كان خالقا ومالكا..لأنه أعلم بحاجات خلقه.أما الذي لم يخلق فأنى يكون له اطلاع على ما يختلج في قلوب خلقه من مشاعر وأحاسيس، وأنى له العلــم بمــا ينفعهم وبما يضرهم؟ فلا بد أن يسن قوانين تسبب لهم العثار والهلاك.ثم إذا اعتبرنا كلمة (بالحق) حالا من المفعول به يكون لها معنيان آخران

Page 158

١٥٥ سورة البقرة الجزء الثاني المعنى الأول - إنا أرسلناك حال كون الحق والصدق معك.فلو كان ما عندك من تعليم هو من وضع الإنسان لكان هناك احتمال كبير لوجود الخطأ أو الكذب أو أي عيب آخر؛ ولكن ما أوتيت من تعليم فهو منزّه عن كل عيب.وما دام كذلك..فلا بد من الاعتراف بأنه من عند الله تعالى.والثاني - إنا أرسلناك حال كونك أحق بالرسالة والتشرف بكلام الله.وبذلك ردّ الله على اعتراضهم لولا تأتينا آية وقال حيث إنك كنت أحق بالرسالة لذلك أرسلناك ولو كان هؤلاء أصحاب هذا الحق لآتيناهم إياه وأرسلناهم لهداية الناس.وهنا سؤال: ما هو موقف باقي الناس؟ فردّ الله بقوله (بشيرا ونذيرا).إن النـــاس :نوعان فمن آمنوا بكلامنا الذي أنزلناه على هذا الشخص وقد كان أحق الناس به..فإن لهم بشارات وأخبارا سارة.وأما الذين يرفضون فيدخلون في الكاذيين وينالون نصيبهم من العذاب.(بشيرا ونذيرا) يعني: أنك تحمل للبعض أخبارا سارة، وللبعض الآخـر وعيـــدا وإنذارا.فهذه الآيات نوعان: منها ما ينجي البعض، ومنها ما يهلك البعض الآخر.والآيات التي تحمل البشرى تأتي أولا، ثم تليها الآيات التي تحمل إنذارا: لأنك أولا بشير ثم نذير؛ فمن سنة الله تعالى أنه إذا أراد نجاة فريق وهلاك آخر فإنه يُظهر الآيات المنجيات لينجو من أراد.وخلاصة القول أن الآية تقول : يا محمد إنك تتصف بصفات أربع: أولا – إنك مرسل بالحق.ثانيا - إنك بشير للذين سوف ينجون من العذاب بالإيمان بك.ثالثا- إنك نذير للذين سوف يهلكون بسبب الكفر بك.رابعا تنزل عليك الآيات لأنك أرسلت بالحق.وبقوله تعالى (ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم يعلن الله أن رسولنا مكلف بتبليغ الرسالة، لا بإجبار الناس على قبولها فإذا ما استحق البعض عذاب النار نتيجة كفرهم برسالتنا فليس عليه من شيء.وكأن الله تعالى يقول: إنا أرسلناك بالحق، فمن آمن بك بجا ،وأفلح، ومن كفر بك خسر وهلك.وهذه هي الآيات والعلامات

Page 159

سورة البقرة الجزء الثاني التي أظهرنا لإثبات صدقك.ولكن الدليل إنما ينفع من يريد الحق، أما من أصرّ على الإنكار في كل حال فلن ينفعه الدليل شيئا..كما حدث لحبرين يهوديين زارا النبي ذات يوم، وعند رجوعهما سأل أحدهما الآخر ما رأيك فيه؟ قال: أرى أنه على الحق، ولكني لن أصدقه ما حييت.فقال الأول: وهذا عين ما انتويته أنا أيضا السيرة) لابن هشام عداوة اليهود، شهادة صفية).يقول الله: إننا قد خلقنا كل إنسان حرا، وخيّرناه تماما في قبول الحق أو رفضه، وما دام هناك فئة من الناس لا تنفك تصر على الإنكار على كل حال..فكيف يمكن يا محمد، أن تُلام على إنكارهم؟! وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير (۱۲۱) الكلمات : شرح أهواء يطلق الهوى لغة على أمنية رذيلة ،منحطة، وهو من الهوء: أي ما سقط في مكان عميق القعر (الأقرب).وفي ذلك إشارة إلى أن أمانيهم تحط من شأنهم وتذلهم.إن من ميزة القرآن الكريم أنه يراعي المعاني الحقيقية والمجازية في استعمال الألفاظ.ولي الولي الذي يدبر أمور أحد.ويُطلق على صديق يكفل تدبير أموره.ومن معاني الولاية الحكم (المنجد)، فالولي هو من يكون وكيلا وكفيلا لأحد.نصير - النصير هو المساعد.والفرق بين الولي والنصير أن الولي يتولى تدبير أمــــور الغير كلية أما النصير فيساعد صاحب العمل في تدبيره..ذلك لأن العون على نوعين: الأول أن يتحمل الإنسان عبء مسئولية عمل بالتمام نيابة عن صاحبه، والثاني - أن يتحمل جزءا من المسئولية.

Page 160

١٥٧ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير: تبين الآية السبب الحقيقي للخلاف، موضحة أنه لـن يرضــى اليهـود والنصارى عنكم حتى تقبلوا قولهم.ولكن هذا مستحيل..لأن الله تعالى قد هداكم بنفسه إلى الحق.وما دام هؤلاء لا يتضعضع إيمانهم..مع أن إيمانهم تقليدي لا يتأسس على أدلة وبراهين، وإنما يقوم على العصبية، ولا يؤمنون بالحق بعدما تبين لهم، فكيف يمكن لمن هداه الله إلى الحق أن يتركه بعد ما تبين له.(قل إن هدى الله هو الهدى أي قل لهم : اتركوا هذا الإيمان التقليدي، واتبعوا بدلا منه هدى الله الذي تحقق صدقه..لأن الهدى الحقيقي هو ذلك الذي يأتي من عند الله تعالى.أما أن يختلق الإنسان من عنده معايير ومقاييس للهدى ثم يعتبرها مدارا عند الله، من للنجاة..فهذا كذب ليس من الحق في شيء، وإنما تُكتب النجاة لمن يتقبل الهدى الذي يأتي قوله تعالى (ولئن اتبعت أهواءهم وإن كان يخاطب الرسول ﷺ إلا أنه في الحقيقية ويعمل به.موجه إلى أتباعه فإن الرسول أسمى وأرفع من أن يظن أنه يعصي الله ء، فقد في شيء، أوضح الله في القرآن الكريم شانه فقال (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم (الله) (الأحزاب: (۳۲).وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كـــان الله واليوم الآخر) (الأحزاب: (۲۲ ،إذن لا يمكن أن يكون الخطاب موجها يرجو إلى الرسول ، وإنما هو لمتبعيه.و تشير كلمة (أهواءهم إلى أن الأماني السيئة تهوي بالمرء من المكانة السامية إلى السفلى، بينما تحدوه الأماني الحسنة إلى الرقي والازدهار.إذا تعثر أحد في الظلام وسقط عَذَرَهُ الناس، ولكن إذا سقط أحد وهو يعلم فلا يُعفى عنه.كذلك إذا أخطأ أحد لجهله بالحقيقة استحق العفو، ولكن الذي كفر بالحق بعدما تبين له فلا يستحق العفو ولا الصفح.وقوله تعالى (ما لك من الله من ولي ولا نصير..يبين أنه لن يجد أحدا يتحمل المسئولية كليا أو جزئيا.

Page 161

الجزء الثاني ١٥٨ سورة البقرة وأشار بقوله من الله إلى أن الله تعالى إنما يمد بعونه من لا يكون تابعا لأهوائه النفسانية، بل يتبع الله هدی جل علاه.الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (۱۲۲) شرح الكلمات : يتلون – من تلا يتلو: قرأ.فمعنى (يتلونه حق تلاوته):يقرءونه كما ينبغي أن يقرأ، أو أنهم يعملون فكرهم ويتدبرون فيه أثناء قراءته كما يجب.تلا: اتبع (الأقرب)، كقوله تعالى (والقمر إذا تلاها) (الشمس:۳)..أي تبع الشمس.فالمعنى أنهم يتبعونه حق اتباعه ويعملون به كما ينبغي.التفسير: لقد انخدع الناس وظنوا أن المراد بالكتاب هنا هو التوراة، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا.لأن ذلك يعني أن الذين آتيناهم التوراة يتبعونها كما يجب الاتباع، ويؤمنون بها حق الإيمان والحال أن اليهود لا يعملون بالتوراة، ولا النصارى يعملون بالإنجيل.فلا يكون المراد من الكتاب إلا الكتاب الذي يعمل به أهله.ثم أن الله أخبر بأن التوراة والإنجيل لم يبقيا محفوظين في حالتهما الحقيقية، بل قد عبثت أيدي المحرفين بهما إلى زمن النبي ﷺ حيث قال عن اليهود (..يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله (البقرة: (۸۰)..أي أنهم يضيفون من عندهم بعض الأمور إلى التوراة، ثم يقولون إنها من وحي الله.وبعد هذا التحريف الشديد لا يمكن الإشادة بهؤلاء والثناء عليهم..وإلا فلم يبق هناك أية حاجة لتزول القرآن واعتبر تعليم التوراة والإنجيل كافيا لهداية الناس.فالواقع أن المراد من (الكتاب) هنا هو القرآن الكريم، وليس التوراة.

Page 162

١٥٩ سورة البقرة الجزء الثاني وقد انخدع المفسرون هنا لأن الله تعالى قد سمى اليهود في مواضع أخرى (أهل الكتاب، ولكن كان على المفسرين أن يراعوا دائما القرائن في تحديد ماهية الكتاب.لو لم يكن هذا اللفظ مشترك المعنى لما كان هناك أي نقاش، ولكن ما دام اللفظ مشترك المعنى بين هؤلاء والمسلمين..كان من اللازم مراعاة القرائن ومراعاة الفريق الذي يصدّق عليه معنى الآية.وقد قال قتادة الذين آتيناهم الكتاب) هم أصحاب رسول الله ﷺ تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية).الحقيقة أن الله تعالى يدين اليهود في هذه الآية ويقول لهم: إنكم نبذتم التوراة وراء ظهوركم، ولكن الله أعطى المسلمين القرآن الكريم، فهم يعملون به كاملا، ويمتثلون لكل أمر من أوامره لتوطيد دين الله تزعمون أن ما عندكم هو الكتاب الحق الصادق، مع أنه لو كان كذلك لعملتم به، ولصرتم أهل صلاح، ولكنكم بأنفسكم تعترفون أنكم فسدتم فكان لا بد من أن يأتي الله الآن بقوم يقيمون دينه من جديد ويظهرونه ببذل مالهم وراحتهم وأرواحهم فما دام هؤلاء يُضحون بكل ذلك للإسلام فثبت أن هؤلاء هم أهل الحق، وأن الكتاب الذي يؤمنون به هو من عند الله، لأن الكتاب الذي يهب الهدى ويقيمه في الدنيا هو الذي يعتبر من تعالى.عند الله وقوله تعالى (أولئك يؤمنون به يذكر إيمانا ليس تقليديا.الحق أن هناك نوعين للإيمان الأول - ما يتم ،بالدليل، ولكن هذا النوع من الإيمان لا يصل بالإنسان إلى مقام الشهود والعيان، وإنما مثله أن يطيع الإنسان أوامر الملك أو الحاكم.والنوع الثاني هو إيمان الانكشاف والعيان وعندما يحصل الإنسان على مثل هذا المقام في الإيمان يتم له وصال بالله تعالى، ويتحول إيمانه التقليدي العادي إلى إيمان حقيقي يصبح جزءا من نفسه، ويكسبه البشاشة القلبية، فلا يبقى بعده أي خطر للارتداد أو العثار.وقوله تعالى (ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون أيضًا يؤكد أن الكتاب هنا هو القرآن الكريم، وليس..التوراة لأن المؤمن بالقرآن المنكر لما يقدمه اليهود على أنه

Page 163

17.سورة البقرة الجزء الثاني التوراة لم يكن من الخاسرين..وإنما العاملون بتلك التوراة والرافضون للقرآن الكريم كانوا هم الخاسرين.إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي إذا رفضه الإنسان صار من الخاسرين ولكن المؤمن به والرافض لما سواه مما يقدم على أنه كتب سماوية لا يكون من الخاسرين، وإنما من المنتفعين والحائزين على رضوان الترتيب والربط: الله تعالى.في الآية ١١٤ بين الله سيئة أخرى لدى اليهود والنصارى..أنهم تعصبا وعنادا يرمون بعضهم البعض بالشر والفساد، ولا يعترفون بأي خير في الفريق الآخر، مع أنهم لا بد مشتركون في بعض الأمور الحسنة..لاشتراكهم في الإيمان بكتاب واحد.وفي الآية ۱۱٥ بين أن هذه البغضاء قد اشتدت وتأصلت بينهم لدرجة أنهم لا يطيقون رؤية بعضهم البعض وهم يتعبدون ولا يسمحون للفريق الآخر بأداء عبادته في معابدهم، مع أن الواجب عليهم أن يكونوا حذرين محتاطين تماما في شأن أماكن عبادة الله تعالى.الله وفي الآية ١١٦ نصح الله المسلمين بعدم الخوف من معارضتهم وعداوتهم، لأن هؤلاء المعارضين صاروا محط غضب الله، فأينما اتجه المسلمون فلسوف يهيئ الأسباب لنجاحهم وفلاحهم.وفي الآية ۱۱۷ نبه المسيحيين - وهم فرع من اليهود - إلى معاصيهم ليعرفوا لماذا لم يولد فيهم النبي الموعود، ولماذا حُرِموا من نعمة كلام الله تعالى.وفي الآية١١٨ دحض بثلاثة أدلة العقيدة المسيحية الخاطئة ببنوة المسيح : الله.وفي الآية ۱۱۹ رد على اعتراضين منهم أولهما إذا كنا على خطأ فلماذا لا يخبرنا الله بالإلهام والوحى وثانيهما: إذا كنا خاطئين فلماذا لا يعذبنا الله على معارضتنا لهذا النبي.

Page 164

١٦١ سورة البقرة الجزء الثاني وفي الآية ١٢٠ بين أن كل رسول يكون بشيرا ونذيرا، فلا بد أن يأتي العذاب ولكن على مهل.وفي الآية ۱۲۱ بين السبب الحقيقي لمعارضتهم المسلمين، وهو أن تعاليم القرآن لم تنزل بحسب أهواء هؤلاء المعارضين ورد على ذلك بأن الصراط المستقيم هو ما عليه..فالذي يرى طريق الهدى ذلك يركن إلى الضلال فلا بد أن ومع يقيمه يعاقب.الله وفي الآية ۱۲۲ بين أن المسلمين الذين أعطيناهم القرآن ويعملون به تماما سوف يحققون الفلاح في آخر المطاف، ولن يكون من الخاسرين إلا الذين يرفضون هذا الكتاب ولا يؤمنون به.يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.(۱۲۳) کلام التفسير: الموضوع الذي انتهى بالآية السابقة كانت بدايته بقوله تعالى (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة حيث ذكر قصة آدم ليشير إلى أن نزول الله قد بدأ واستمر منذ بداية الإنسانية.ثم تناول النعم التي أنعمها على بني إسرائيل، وقال يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي (فارهبون) (البقرة: (٤١)..ليبين أن النبوة قد بدأت بآدم واستمرت إلى زمن موسى ثم استمرت بموسى ووصلت إلى زمن عيسى عليهم السلام فما دامت النبوة قد استمرت وبدون انقطاع إلى زمن قريب منكم أيها اليهود..فكيف تظنون أن هذه السلسلة – التي بدأت منذ بداية الإنسانية قد انتهت الآن، وترفضون بهذا رسالة محمد ؟! إن من أسلوب القرآن الكريم أنه عندما يُنهي موضوعا فإنه يضع هناك قرينة وعلامة إيذانا بانتهائه وبداية موضوع جديد.وهنا أيضًا قال الله (يا بني إسرائيل اذكروا

Page 165

١٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين.أي بعد كل هذه الأمور التي ذكرناها أمامكم..تذكروا كيف أكملت عليكم نعمتي، وفضلتكم على الأمم الأخرى..أي أنزلت عليكم نوعين من الإنعامات :أولا وهبت لكم نعمة النبوة وثانيا: بهذه النعمة فضلتكم على الأمم كلها.فالله تعالى يذكرهم هنا مرة أخرى بنعمه المتواترة المتوالية ليقول لهم : لا حق لكم في الشكوى إذا وهبنا نعمة النبوة لبني إسماعيل.لقد وفّى الله وعده معكم، والذي وفّى بوعده لكم لابد أن يفي بوعده أيضا لبني إسماعيل..لأن الله قد وعد إبراهيم أنه سوف يعامل ابنيه معاملة حسنة (تكوين ١٥،١٧)، وما دام قد وفّى بوعده أحدهما فلا بد أن يتم الوفاء الآخر؛ ولا محل للشكوى من ذلك.مع مع الله قوله تعالى (وأني فضلتكم على العالمين..من أسلوب القرآن أنه إذا بعث الله في قوم نبيا، وشرفهم بنعمة وحيه..فإنه يعبر عن ذلك بقوله (فضلتكم)، لأن علم الوحي أفضل من جميع العلوم العلوم الأخرى معرضة لاحتمال الأخطاء، أما علم الوحي فلا يمكن أن يتسرب إليه الخطأ، ولذلك فالأمة التي تصبح مهبطا لو.تفضل على الأمم الأخرى.مع العلم بأن كلمة (العالمين) لا تعني أمم العالم كلها وإنما المراد فقط الأمم التي لم تفز بنعمة النبوة والوحي..لأن الله تعالى يبين هنا أن وحي النبوة هو سب الأفضلية.فالأمم التي تلقت وحي النبوة من الله لا تدخل تحت كلمة (العالمين) هنا؛ فلا يمكن القول بأن اليهود أفضل من الأمم الأخرى، أو أن غيرهم أفضل منهم..لأن الله تعالى استخدم هذه الكلمات لأمم كثيرة، فقد قال: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (آل عمران: (٣٤).فإذا كان آدم أفضل من العالمين فلا يمكن أن يكون نوح أفضل من العالمين.وإذا كان نوح أفضل من العالمين فلا يمكن أن يكون آدم أفضل من العالمين في وقت واحد.وإذا كان نسل موسى أفضل من العالمين فلا يمكن أن يكون آل إبراهيم أفضل العالمين وهلم جرا..فإما أن الآية تعني أن هؤلاء القوم كانوا من معاصريهم، أو أن من من

Page 166

الجزء الثاني يتشرف بوحي ١٦٣ سورة البقرة الله أفضل ممن لم يتشرف به إن الوحى له عالم واحد، لأن الطريق إلى الله واحد، ولكن الكفر ،عوالم وأفراد هذه العوالم ينسون وحي الله النازل وينسبون أنفسهم إلى أمور باطلة..وبدلا من أن ينتموا إلى نبي ينتمون إلى فلاسفة، كما فعل كثير من النصارى حيث انتسبوا إلى الفلاسفة واتبعوهم، و وكما مال بعض المسلمين شيئا فشيئا إلى الفلسفة اليونانية.مع أن كل أمة كانت بدايتها بالدين، ولكن من حيث الأفراد فإن الملايين لا يتبعون أي كتاب كذلك المسلمون فإنهم رغم ادعائهم اتباع الوحي السماوي، إلا أن الملايين منهم غافلون عن الدين ويتبعون الفلسفة وباختصار في كل الأمور العلمية والأخلاقية والعقائدية تجدون أن الوحي أفضل مما يقوله أصحاب الفلسفة..أقوالهم أضعف وقول الله هو الأقوى والغالب.فقوله تعالى فضلتكم على العالمين) شرح لمعنى النعمة، حيث بين أن المراد منها بعث سلسلة من الأنبياء والرسل في بني إسرائيل.كما علم الله في سورة الفاتحة المؤمنين دعاء (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، ثم فسر المنعم عليهم بقوله تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (النساء: ٧٠).فما دام كمال النعمة يتوقف على الوحي لذلك قال الله: إنني قد فضلتكم بإنزال الوحي وبعث الأنبياء على الأمم الأخرى التي لم تحظ بالوحي.هذه الفضيلة تمت لم لكم بنعمة الوحى فقط، والآن فضَّلتُ المسلمين عليكم بنعمة الوحي، فإذا رفضتموه فسوف تلقون نفس المصير الذي تلقته الأمم التي لم تحظ بالوحي أمامكم.كان بنو إسرائيل رأوا وجربوا أن كبار الفلاسفة جاءوا أيام موسى ليوجهوه، ولكنهم انهزموا أمام التوراة.لذلك يقول تعالى : إنكم إذا واجهتم القرآن الكريم فلن تنفعكم عقولكم، ولا بد أن تخسروا هذه المواجهة.

Page 167

الجزء الثاني ١٦٤ سورة البقرة وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (١٢٤) التفسير: لقد سبق أن وردت مثل هذه الآية باختلاف بسيط في الكلمات حيث قال تعالى (واتقوا) يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون) (البقرة: (٤٩.وهناك ثلاثة فروق بين هاتين الآيتين: الأول: أن الشفاعة ذُكرت قبل العدل في آية ٤٩، بينما ذكر العدل أولا ثم الشفاعة في الآية الحالية.الثاني: وردت عبارة ولا يؤخذ منها عدل في الآية ٤٩ بينما قيل (ولا يقبل منها عدل) في الآية الحالية.والفرق الثالث أنه قيل ولا يُقبل منها شفاعة في الآية ،٤٩، أما في هذه فقيل (ولا تنفعها شفاعة).ذلك أن الآية الأولى جاءت قبل أن يعدد الله على بني إسرائيل عيوبهم ومفاسدهم، ومن الأمور الطبيعية أن الإنسان إذا لم تنكشف عيوبه فإن آماله تكون واسعة كبيرة، ويكون اعتماده كبيرا على نصرة آبائه وكباره لذلك قدم الله في الآية الأولى الشفاعة على العدل كان اليهود يأملون أن ينقذهم إبراهيم من العذاب بشفاعته، والذي يرجو شفاعة كباره لا يكون مستعدا لتقديم العدل والبديل.يظن أنه سينال بغيته دون ذلك.ولكن هذه الآية جاءت بعد أن عدد الله على اليهود عيوبهم من عصيان ومعارضة للأنبياء بداية من الآية ٤٨ إلى آيتنا هذه، فكان لا بد أن تنكشف عليهم حالتهم الفاسدة، وتزول عنهم آمالهم في شفاعة أنبيائهم.فكان الترتيب الطبيعي يقتضي أن يقدَّم العدل على الشفاعة هنا، لأنهم الآن لا يمكن أن يركزوا على الشفاعة بعد أن تضاءلت آمالهم كثيرا، وإنما بقي أمامهم العدل، لعلهم ينجون من العذاب بتقديم الفدية والبديل.

Page 168

الجزء الثاني سورة البقرة يعني أما السبب وراء الفرق الثاني فهو أن كلمة "القبول " أشرف من كلمة "الأخذ"، لأن في القبول نوعا من التكريم.مثلا نقول : قَبلَ المَلِكُ الهدية، ولا نقول: قبل الفقير عطية الملك.ولكن هذا الشرف لا يوجد في كلمة "الأخذ"..لأن الأخذ تناول الشيء سواء كان أدنى أو أعلى أو مساويا.فكلمة "أخذ" تشير إلى أن الآخذ مضطر للأخذ ليسوّي الحساب، بينما كلمة القبول تشير إلى أن المعطي يعطي بالإصرار، بينما يتردد المتلقي في الأخذ.وهذا يحدث في حالة القنوط من جهة المعطي.عندما كانت آمال اليهود كما هي ولم تعدد عليهم عيوبهم قال الله (ولا يؤخذ منها عدل، أما هنا فإنهم يكونون في حالة القنوط واليأس الشديدين، لذلك قال الله (لا) يُقبل منها عدل أي أنهم سيحاولون تقديم الفدية، ولكن لن تقبل منهم.أما الفرق الثالث فهو أيضًا ضروري ومناسب للحال حينما لم تكن عيوب اليهود قد عُدِّدت عليهم كانوا يأملون أن يلتمسوا من أنبيائهم فيشفعوا لهم فتقبل شفاعتهم، فرد عليهم عندئذ أن شفاعتهم لن تقبل.والآن بعد أن انقطعت آمال اليهود هذه وكسرت هممهم، كان من الممكن مع ذلك أن يأملوا في شفاعة أنبيائهم..بمعنى أنهم يرحمون حالهم ويشفعون بأنفسهم لأجلهم، فدحض الله زعمهم هذا وقال لا تنفعها شفاعة)..أي أن شفاعة الشافعين سوف تنفع غيرهم، ولكن هؤلاء اليهود والعصاة فلن تنفعهم ،شفاعة، لأنه لن تتم في حقهم أي شفاعة من أي شفيع.وقوله تعالى (لا تنفعها شفاعة لا يعني هنا أن هناك شفاعة تتم في حقهم ولكنها لا تقبل، وإنما المراد أنه لن يتشفع أحد في حقهم بدون إذن..لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن..منذا يشفع عند الله بدون إذنه؟ فما دام الله لن يأذن لأحد فيشفع لهم..فلن تتم أي شفاعة، وإذن لن يستفيدوا من باب الرحمة هذه.فكل هذه التغيرات في الكلمات والأسلوب في الآيتين كانت بحسب الحال وإنها دليل عظيم على كمال القرآن في ترتيبه أيضًا.

Page 169

177 سورة البقرة الجزء الثاني الحقيقة أن الأمم في زمن انحطاطها..عندما يضعف جانب العمل الصالح فيها، تركز على شفاعة الأنبياء في حقها.مثلا..إننا لا نجد في أقوال الصحابة أي ذكر بأننا ننال النجاة بشفاعة من النبي..وإنما نجد عندهم التركيز على العمل ﷺ بالقرآن وبذل التضحيات والتمسك بالبر والتقوى.ولكن كلما بعد الزمن عن عصر الأنبياء ركز الناس على شفاعة الأنبياء ويقولون إنهم سيدخلون الجنة بها.ولما كان اليهود قد اعتمدوا وارتكنوا على شفاعة أنبيائهم في حقهم، ردَّ الله عليهم أن ظنهم هذا لن ينفعهم شيئا.الذين يظنون أنهم سوف ينجون من النار لأنهم أولاد إبراهيم أو موسى وأنهما سوف يشفعان لهم..إنهم على خطاً.وبقوله تعالى ( ولا تنفعها شفاعة قد لام اليهود وأخجلهم قائلا: بأي وجه ترجون شفاعة أنبيائكم في حقكم؟ هل أطعتم موسى وسليمان وعيسى وغيرهم من الأنبياء؟ لقد رفضتم الجميع وخالفتم كل واحد واليوم تقولون لمحمد إنه ليس منا ولذلك لن نصدقه السؤال : من هو ذلك النبي الذي لم تعارضوه؟ لقد خاصمتم كل نبي، وكذبتم كل رسول؛ وما دام التكذيب دأبكم فمنذا الذي يشفع لكم؟ هل هو موسى..الذي قلتم له فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) (المائدة : ٢٥) ؟ أم سليمان..الذي كفرتموه ونسبتم إليه الشرك؟ أم عيسى الذي اعتبر تموه ملعونا ؟ منذا الذي ترجون في شفاعته؟ وللعلم، إن الشفاعة إذا تمت في حق أحد نال نجاة كاملة ودخل الجنة، ولكن الأعمال تنفع الإنسان جزئيا..أي تنفع فقط أعماله الصالحة.فالله تعالى يقول: لن ينتفعوا نفعا قليلا..حيث لا أعمال صالحة لهم، ولا نفعا كاملا بالشفاعة.كانت الصورة الثالثة أن يعفو الله عنهم بفضله، ولكنه يقول (ولا هم يُنصرون)..أي لن يتلقوا نصرة من الله تعالى.فقد نفى كل السبل الثلاثة لنجاتهم: فلا تقبل في حقهم شفاعة أنبيائهم..أي لا تتم لهم، ولن تنفعهم أعمالهم، كما لن يتلقوا نصرا من الله كل الطرق مسدودة أمامهم.

Page 170

الجزء الثاني ١٦٧ سورة البقرة وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٥).شرح الكلمات : ابتلى الابتلاء يتضمن أمرين: أحدهما تعرف حال أحد والوقوف على ما يُجهل من أمره والثاني كشف جودته ورداءته.وإذا نُسب هذا الفعل إلى الله كقولنا: ابتلى الله فلانا، فلا يراد إلا المعنى الثاني..أي أنه أظهر كفاءات خفية في فلان...لأن الله هو عالم الغيب ولا يحتاج ليطلع على شيء خفي في أحد (المفردات).كلمات – الكلمة تعني الحكم، والحكم يشمل الأوامر والنواهي (المفردات).إماما - الإمام: المؤتم به ؛ الذي يُجعل أسوة وقدوة في قوله وأفعاله.والمعنى الثاني للإمام هو الكتاب (المفردات)، لأن فيه من الأحكام ما يُتَّبع.التفسير: يقول الله تعالى : تذكروا عندما أردنا أن نبرز الخير والتقوى في إبراهيم، ليطلع إبراهيم على كفاءات روحية خفية فيه.أمره الله بعض الأوامر لإظهار كفاءاته فأطاع إبراهيم ما أمر الله به، وهكذا علم الناس أن الكفاءات والطاقات العالية للطاعة في إبراهيم هي نادرة المثال ولا توجد في أحد.فمثلا أمره الله أن يذبح ابنه البكر في سبيله، وعندما استعد للعمل بهذا الأمر ظاهرا قال الله له: ليس هذا هو ،مرادنا، بل مرادنا غير ذلك ثم ظهرت إرادة الله هذه حين أمره أن يترك هاجر وإسماعيل في واد غير ذي زرع.فذهب بهما إلى هناك وتركهما، وهكذا نجح في هذا الامتحان، وعرف العالم أن إبراهيم يلبي كل ما يأمره الله به..مهما كان هذا الأمر في بادئ النظر مروعا ومخيفا.مع قيل هنا (وإذ ابتلى إبراهيم ربُّه بكلمات)، و"كلمات" صيغة جمع تدل على الكثرة، أن المشهور عنه حادث واحد، وهو حادث الإقدام على ذبح ابنه.ولكن التلمود يكتب أن إبراهيم قد ابتلي عشر مرات التلمود Babylonian.(Talmud, Vip۱۰۸

Page 171

١٦٨ سورة البقرة الجزء الثاني وفي قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما)..لا يراد بالإمامة النبوة، لأن إبراهيم كان قد نال النبوة من قبل.وإنما المراد أنه سيكون نموذجا وأسوة للعالم، وسوف يتبعه الناس بكثرة.وكلمة (للناس) تشير إلى مجموعة كبيرة من الناس.والحق أن هذا وعد لإبراهيم يتعلق بالمستقبل، وإلا لم يكن معه في ذلك الزمن إلا قليل من الناس.انظروا اليوم فإنه يعتبر إماما ومقتدى في معظم العالم، ويذكره الناس بكل تقدير واحترام، كل نبي يكون أسوة لقومه لا شك، ولكن لا يكون كل نبي أسوة للعالم كله، ولكن إبراهيم هو الوحيد بين الأنبياء السابقين (عليهم السلام) الذي يذكر بين الأقوام بالتبجيل والاحترام خذوا مثلا المسيحيين، فأنهم لا كما يحترمون إبراهيم، ويذكرون سيدنا عيسى بوجه بالتبجيل لأنهم يعتبرونه من ذرية إبراهيم، وإلا فإنهم لا يتورعون عن اتهام الأنبياء الآخرين بالسرقة والخيانة (يوحنا (٨:١٠.ولكنهم يحترمون إبراهيم كثيرا، وهذا هو معنى (إني جاعلك للناس إماما )..أي سنجعلك بحيث يقتدي الناس بأقوالك يحترمون موسى وأفعالك.خاص ثم انظروا إلى الحج الذي هو منسك بارز بين العبادات الإسلامية.هذا الحج أقامه إبراهيم، وعن طريق الحج يذكره العالم إلى اليوم.كذلك إنه يذكر عند تقديم الأضاحي.إننا من الأمة المحمدية..ومع ذلك فإننا نذكر تضحية إبراهيم عند كل عيد للأضحية.ولكن ليس في الإسلام أي يوم معين لموسى وعيسى يُذكرنا بفعلهما ويجدد ذكراهما، ولكن لإبراهيم ولذكراه يوم خاص عند المسلمين أيضًا.النبي.يقول إخواننا الشيعة إن الله تعالى قال لإبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) في وقت كان إبراهيم قد صار نبيا، وهذا يدل على أن منصب الإمام أرفع من منصب أن إبراهيم أعطي الإمامة بعد النبوة، ولكن السؤال هنا هو: هل الإمام من صحيح حيث معناه اللغوي يعني منصبا يتلقاه الإنسان بعد النبوة؟ إذا كانت الإمامة منصبا يتلقاه بعد النبوة وكانت أرفع من النبوة، فلا بد لنا من التسليم بأن بعض الأنبياء لا

Page 172

١٦٩ سورة البقرة الجزء الثاني ضرورة لطاعتهم..لأن اللغة تعلمنا أن الإمام هو المؤتم به والذي يطاع، وأن إبراهيم لم يكن من الضروري أن يطيعه الناس قبل أن ينال منصب الإمامة وإن كان نبيا.وهذا غير صحيح، لأن الله يقول (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (النساء: ٦٥).وهذا يدل على أن الله قد فرض على الناس طاعة كل نبي بمجرد أن يصبح نبيا.وبناء على ذلك لم تبق الإمامة منصبا منفصلا عن النبوة، وإنما صارت الإمامة صفة لازمة للنبي.ثم يعلمنا القرآن أن هناك نوعا من الإمامة ينالها الإنسان قبل النبوة أيضًا؛ يقول الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: ٦٠).فالله ذكر نفسه أولا ثم الرسول ثم ذكر أولي الأمر الذين ليسوا من الرسل، مما أن هناك أُناس ليسوا من الأنبياء والرسل ولكن طاعتهم ضرورية.فإذا كان الإمام هو يعني المطاع، فمثل هذه الإمامة صارت أدنى درجة من النبوة أيضًا.أما الإمامة التي تستلزم النبوة فلا ينالها الإنسان إلا مع النبوة.يمكن أن يكون الإنسان إماما ولا يكون نبيا، ولكن لا يمكن أن يكون الشخص نبيا ورسولا ثم يحرم الإمامة كما يظهر من قول الله تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله).والآن لا بد لنا من التسليم بأحد الأمرين: إما أن نقول بأن الله تعالى قال لإبراهيم (إني جاعلك للناس إماما) قبل أن ينال النبوة، أو أنه قال له ذلك بعد النبوة.فإذا كان ذلك بعد النبوة فلا يمكن أن تكون الإمامة هنا بالمعنى العام، بل لا بد لنا من قبول معنى آخر.والواقع أن هذا الوعد تم بعد أن صار نبيا، لأن الله يقول (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات (فأتمهن أي اختبره بكلمات فحقق ما أمر الله به من ونعرف من تاريخ الأنبياء أنهم لا يمتحنون إلا بعد نيل النبوة لا قبلها.وبناء على سنة الأنبياء هذه لا بد لنا من الإقرار أن هذا الإلهام والوعد كان بعد النبوة.الآن نرى هل يمكن أن يراد بهذا القول معنى آخر.فلنتذكر أن كل كلمة تحمل معنيين: المعنى النسبي والمعنى العادي والمعنى النسبي يتغير دائما بحسب النسبة، مثلا: عندما نقول (رئيس) فإنه عموما يعني شخصا له الفوقية على شخص أو أشخاص

Page 173

۱۷۰ سورة البقرة الجزء الثاني آخرين.ولكن هذا الرئيس قد يكون على قرية أو على مقاطعة أو على إقليم وغير ذلك..فهذه الكلمة تدل على سيادة أشخاص صغيرين وكبيرين..فلا يتعين لها معنى خاص إلا بمعرفة النسبة.فإذا قلنا إنه رئيس (الكناسين أو رئيس العمال أو (رئيس الجيش يتعين المعنى المراد، ونعرف أنه ينسب إلى طبقة معينة، فهذه النسبة تغير المعنى.ويوجد مثال في القرآن الكريم في كلمة (صدّيق)، ومعناها الرجل كثير الصلاح.والرجل كثير الصلاح قد يكون نبيا وقد يكون غير نبي.فإذا كانت كلمة (الصديق) بمعناها العام فدرجة هذا الصديق تكون أدنى من درجة نبي، ولكن عندما تطلق هذه الكلمة على نبي فإنها تشير إلى خصوصية معينة في هذا النبي.كما ورد في القرآن الكريم عن سيدنا إدريس (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا) (مريم: ٧٥).مع أن الله يقول في موضع آخر (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (النساء: (٧٠) الله الصديقين دون النبوة.كذلك ورد عن إسماعيل (كان عند ربه وهنا وضع مرضيا) (مريم (٥٦).ولكن الله تعالى ذكر هذه الدرجة تحت النبوة في قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) (الفجر: ۲۸-۲۹).فهناك وصف كل مؤمن ذي نفس مطمئنة ويموت في حالة الإيمان بأنه (مَرْضِي).فلو كان معنى قوله تعالى كان) عند ربه مرضيا أن كل شخص يرضى الله عنه يكون أعلى من النبي..فلا بد لنا من التسليم بأن كل مؤمن ذي نفس مطمئنة أرفع مكانة من النبي! كذلك لا بد لنا أن نقول أن كل شخص أطلق عليه اسم "صديق" يكون أسمى درجة من النبي! كما يقول الله عن أمة المصطفى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (الحجرات (۱٥).أي أن البدو يأتون النبي ويقولون له قد آمنا فيقول الله لرسوله : قل لهم لم تؤمنوا، ولكن لكم أن تقولوا أسلمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن.وكأن الإسلام درجة بدائية

Page 174

الجزء الثاني ۱۷۱ سورة البقرة من الإيمان.ولكن الله يقول عن إبراهيم إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة: (۱۳۲).هذا الأمر صدر إليه بعد النبوة، وعندما قال إبراهيم: أسلمت، أشاد الله بإسلامه كثيرا.مع أنه عندما قالت الأعراب (آمنا) قال الله لهؤلاء المدعين بالإيمان: لا تقولوا آمنا بل قولوا أسلمنا لأن الإيمان لم يدخل إلى الآن في قلوبكم وكأن إسلامهم دون الإيمان.ولو أخذنا بموقف الشيعة لكان المعنى بأن كل من يدعي بأنه مسلم يكون أرفع درجة من النبي، لأن الله قال لإبراهيم بعد أن نال النبوة: كن مسلما، فقال إني أسلمت.وكذلك لو كان معنى الإمامة بعد نيل النبوة..أن الإمام أكبر من لاضطررنا إلى اعتبار كل مسلم أعلى درجة من النبي دعك من الإمام، لأن كما نال الإمامة بعد النبوة كذلك صار مسلما بعد أن نال النبوة.وفي هذه الصورة يكون كل مسلم أرفع درجة من النبي.إبراهيم - النبي إذن فليست الإمامة وحدها أرفع درجة من النبوة، وإنما الإمامة التي ينالها النبي بعد النبوة شأنها شأن الإسلام..فلا يكون إسلام كل شخص أسمى درجة من النبوة، وإنما يكون ذلك الإسلام الذي يصل إليه النبي بعد نيل النبوة أسمى درجة من النبوة.فكل شيء يتحدد بدائرته المستقلة.هناك إسلام هو أدنى من الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد الإيمان، وهناك إسلام يناله الإنسان بعد نيل النبوة أيضًا.خذ مثلا كلمة (نقيب) التي تطلق على تلميذ يشرف على تلاميذ صفه.فهناك نقيب لصف ابتدائي، وهناك نقيب للصف الثانوي.هذا النقيب على الصف الأدنى لا يمكن أن يكون أعلى درجة من نقيب على الصف الثانوي..وإن كان هو أيضا نقيبا..بل إن علمه يكون دون علم طالب في الصف الثانوي.كذلك الحال بالنسبة للإمامة التي تكون بدون النبوة، فمثل هذه الإمامة لا تبلغ شأن تلك الإمامة التي ينالها الإنسان بعد نيله النبوة، فشتان بينهما.انظروا في المسلمين، فالذي يقودهم في الصلاة يسمى إماما ثم إن الخليفة أيضًا يكون إماما والنبي أيضا يكون إماما، ثم علمنا القرآن دعاء يقول واجعلنا للمتقين إماما) (الفرقان) : (٧٥)..أي اجعل بعض

Page 175

الجزء الثاني الدعاء يريد ۱۷۲ سورة البقرة المؤمنين الأتقياء مقتدين بي، واجعلني إماما.لهم.فهل يعني ذلك أن من يدعو بهذا أن ينال درجة أرفع من درجة الأنبياء؟ لو كان هذا فلا بد لنا من التسليم أن هناك درجة أرفع من درجة الأنبياء يمكن أن ينالها الإنسان..لأن الله علمنا هذا الدعاء؟ كلا، بل إن الشيعة أيضًا لا يتمسكون بهذا القول.فالحقيقة أن قوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما) يعني أنت أن يا إبراهيم، نبي لقومك ولاشك ولكنك ما دمت قد نجحت في كل هذه الاختبارات ولم يتزلزل قدمك، بل لبيت أوامري بكل شجاعة، وأسكنت زوجتك وابنك في برية ليس فيها قطرة من الماء ولا قشة من الكلأ، وتقبلت الموت لنفسك ولأهلك، لذلك سوف أنعم عليك، وأجعل حدثك هذا نموذجا للعالم كله إلى يوم القيامة.كلما نلقن الناس الثبات في ميادين الابتلاء والاختيار..سنقدم وقائع موقفك هذا مثالا ليتأسوا به ولنفس هذا السبب عندما قال الله تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) أردفه بقوله (إني جاعلك للناس إماما)..وإلا لو كانت الإمامة منصبا منفصلا لما ذكره مع هذه الاختبارات ونجاح إبراهيم فيها.فقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما) بعد ذكر الابتلاءات ونجاح إبراهيم فيها إنما يشير إلى نفس الأمر، بأننا سوف نجعل حدث حياتك الجليل هذا نبراسا للسائرين في هذا السبيل، ونموذجا وقدوة للناس إلى يوم القيامة.وقوله تعالى (قال ومن ذريتي.قال لا ينال عهدي الظالمين).عندما قُطع لإبراهيم الوعد عن مستقبله فكر أني ما دمت سأكون نموذجا للناس من بعدي، فيجب أن يكون هناك سبيل لهداية ذريتي فقال: إلهي أسألك أن تستر أولادي أيضا بيد رحمتك.فقال تعالى : حسنا، ولكن عهدي هذا لن يصل إلى الظالمين.ولا يعني أن كل ذريته ستكون ظالمة، وإنما يعني أن الأولاد على قسمين: قسم يكون ظالما، وقسم يكون مسلما مطيعا.ونفى الله وعده عن الأولاد الظالمين وأقر استمرار النعمة في أولاده المطيعين.ذلك

Page 176

۱۷۳ سورة البقرة الجزء الثاني و (عهدي) يمكن أن يُفسر بطريقين؛ الأول : العهد بمعنى المعهود، أي أن هذا الشيء الذي أعدك به لن يناله الظالمون، والثاني: أنني لا أقطع أي عهد للظالمين، وإنما أقطعه لغير الظالمين..أي الأمة التي تكون ظالمة في مجموعها سوف أنزع منها سلسلة النبوة.يتبين من هذه الآية أولا: أن الله وعد إبراهيم أنه سوف يجعله إماما، وثانيا: أن إبراهيم التمس من الله تعالى أن يُوسع هذا الوعد لأولاده أيضًا، فوعده بذلك وعدا مشروطا، وقال له إن بعض أولادك سوف يتمتعون بهذا العهد، ممن لم يحرموا هذه النعمة أنفسهم من بسبب ظلمهم القومي..فما دام بنو إسرائيل مستحقين وفي هذا العهد، وعندما أصبحوا كقوم غير جديرين بالوفاء لهم بنعمة هذا معهم العهد نقله الله منهم إلى الفرع الثاني من أولاد إبراهيم – وهم بنو إسماعيل.الله لقد ذكرت التوراة أيضا أن هذا العهد كان مشروطا، فقد ورد فيها قول الله تعالى لإبراهيم: (وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالكم عهدا أبديا.لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك.وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا.وأكون إلههم.وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم.هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك.يختتن منكم كل ذكر.فتختتنون في لحم غرلتكم.فيكون علامة عهد بيني وبينكم.ابن ثمانية أيام يختتن منكم كل ذكر في أجيالكم.وليد البيت والمبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك.يختتن ختانا وليد بيتك والمبتاع بفضتك.فيكون عهدي في لحمكم عهدا أبديا.وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها.إنه قد نكث عهدي) (تكوين ٧:١٧-١٤).الله يتبين من هذه الفقرات أن العهد الذي عهده مع إبراهيم في أولاده كان مشروطا، وكان علامته الظاهرة الاختتان، وقد قيل فيه بوضوح تام لإبراهيم إن

Page 177

١٧٤ سورة البقرة الجزء الثاني أولاده الذين لن يعملوا بحسب هذا العهد لن يكون الله معهم عهد، ولن ينالوا تلك النعم التي وعد بها إبراهيم في هذا العهد.إن العلامة الظاهرة للعهد أي الاختتان استمر في بني إسرائيل إلى زمن عيسى وورثت هذه الأمة نعم الله إلى ذلك الوقت.ولكن عندما جاء عيسى خرج الكافرون به من دائرة المنعم عليهم من بني إسرائيل، و لم يستحق هذه النعم إلا المؤمنون به ولكن هؤلاء أيضًا أخلفوا الوعد وتركوا التمسك بالعلامة الظاهرة لهذا العهد وهي الاختتان.إذن فجزء من هذه الأمة حرم من النعم بسبب رفضهم لعيسى، أما الذين آمنوا به فقد حرموا أنفسهم من هذه الأفضال الإلهية بتركهم الاختتان واعتبارهم الشريعة لعنة، فانتقل هذا العهد من بني إسحاق إلى بني إسماعيل.هذه وأرى أن نفس الأمر قد ذكر في هذا المكان بأن منصب الإمامة لن يناله بنو الله إسحاق، لأنهم كجماعة صاروا ظالمين.نعم سيناله بنو إسماعيل لأنهم كجماعة لن يكونوا ظالمين..بل سوف يكون في كل زمن أناس يؤمنون بنزول وحي فيهم، ولأجل ذلك جعل النبي الله إماما لكل العالم.ومن بين أمته قد وهب هذا المنصب والمقام في هذا الزمن لسيدنا المهدي والمسيح الموعود.وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٦).شرح الكلمات: مثابة - المثابة مُجتمع الناس بعد تفرقهم (الأقرب).وهي المكان الذي يكتب فيه – الثواب (المفردات)، أي ذلك المكان الذي إذا زاره الإنسان أثيب عليه.

Page 178

۱۷۵ الجزء الثاني سورة البقرة المثابة هنا إما أنها مفعول ثان أي صيَّرنا البيت مثابة؛ أو أن المثابة حال..أي جعلنا البيت حال كونه مثابة للناس، بمعنى: جعلنا الكعبة – وهي تتضمن في نفسها خصوصيات لأن تكون مثابة.أمنا – الأمن طمأنينة القلب؛ سلامة من الخوف والإنسان عندما يكون محفوظا من الأخطار الظاهرة، ويكون قلبه مطمئنا..فهذا هو الأمن الكامل.من لها عدة معاني، ووردت هنا في قوله تعالى (من مقام إبراهيم) بمعنى التبعيض أو أنها زائدة (معجم النحو للدقر ).ولا يعني قولنا زائدة أنها لا تحمل معنى، وإنما (زائدة) اصطلاح نحوي يفيد أنها لا تستعمل بمعناها العام، وإنما وردت للتأكيد.و (من) هنا جاءت لتأكيد فعل (اتخذوا).مُصَلّى - هو مكان الصلاة.عهد أوصاه وشرط إليه (الأقرب) و(عهد إليه ألقى إليه العهد وأوصاه بحفظه (المفردات).فالمعنى أننا أوصينا إبراهيم وإسماعيل وفرضنا عليهما الالتزام بهذا الوعد.الطائفين - الطائف الذي يزور مكانا ما مرارا، أو يمشى حوله (المفردات).العاكفين - العاكف من يُقبل على شيء ويلازمه على سبيل التعظيم، ومنه الاعتكاف (المفردات).الركع جمع راكع، وهو الذي يركع أو الذي يتمسك بالتوحيد (المفردات).السجود جمع ساجد، ومعناها الذي يسجد، أو الذي يطيع طاعة كاملة (الأقرب).التفسير : البيت هو اسم للكعبة المشرفة.ويقال لها البيت لأنها تتضمن كل خواص البيت.ومثال ذلك قولنا: زيد الرجل..والمراد أن زيدا يحمل كل الخصال التي يمكن توجد في شخص عاقل.فما هي خصوصيات البيت؟ أن - أولا – يحفظ من السرقة والنهب،

Page 179

الجزء الثاني ثانيا – مكان إقامة دائمة، ثالثا يحفظ مال الإنسان ومتاعه، رابعا – يجمع الأقارب والأعزاء، ١٧٦ خامسا مكان آمن إذا دخله الإنسان نجا من المصائب.سورة البقرة ولو تدبرنا في هذه الخصوصيات الخمس لوجدناها متوفرة في الكعبة المشرفة، فهي تستحق في الواقع أن تسمّى بيتا.فلو أخذنا معنى الحفاظة – فإن الناس يدمرون القلاع الحصينة ويفنون سكان المدن الكبيرة..ولكن الكعبة المشرفة تتميز بأن الله تعالى وعد بحفظها على الدوام.كل من أراد أن يهاجمها شلّ الله يده أو كسرها.وما حدث لأبرهة مثال باق للأبد على ذلك.الله كان أبرهة حاكما على اليمن من قبل الحكومة المسيحية في الحبشة، وأراد أبرهة أن يدمر الكعبة المشرفة ليُكْرة العرب على الحج إلى كنيسة في صنعاء بدل الحج إلى الحرام، كي تنتشر المسيحية بينهم.وعندما اقترب من مكة بجنوده بعث رسولا له إلى أهل مكة يخبرهم أني ما جئت إلا لهدم الكعبة ولا أكن لكم أي عداوة، فإذا خليتم بيني وبينها فلن أمسكم بسوء، وسوف أعود إلى بلدي بعد بيت هدمها.وعندما وصل رسوله إلى مكة سأل أهلها من سيدكم؟ فقالوا: عبد المطلب.فجاء إليه وأبلغه رسالة أبرهة فقال له سيدنا عبد المطلب ما دام أبرهة لم يأت الحربنا فنحن أيضا لا نريد محاربته.أما هذا البيت فهو بيت الله الذي وعد بحفظه، فإذا شاء يحمي بيته فهذا شأنه، أما نحن فلا نملك محاربة أبرهة وجنوده.فقال رسول أبرهة: إذا كنتم لا تريدون الحرب فلماذا لا تصحبني لمقابلة أبرهة، لأنه يريد مقابلة أحد رؤساء مكة، وهذا يسُرُّه وقد يكفه عن هدم الكعبة.أن فاصطحب عبد المطلب بعض الرؤساء وأولاده وخرج للقاء أبرهة.وتأثر أبرهة بلقائه وعبر له عن سروره بهذا اللقاء، وطلب منه أن يذكر له حاجته.فقال عبد

Page 180

۱۷۷ سورة البقرة الجزء الثاني المطلب: لقد استولى رجالك على إبل للمكيين فيها مائتان تخصني فردّها علي.وعندما سمع أبرهة ذلك اغتاظ وقال: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني.أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه..لا تكلمني فيه ! قال عبد المطلب: أنا ربُّ الإبل، وإن للبيت ربًّا يحميه قال ما كان ليمتنع مني.قال: أنت وذاك (السيرة النبوية لابن هشام، ج۱،أمر الفيل).فاشتد غيظ أبرهة، وأمر برد الإبل لعبد المطلب، ولكنه أصر على المضي لهدم الكعبة.وقبل أن يهاجم جيش أبرهة الكعبة تفشى فيهم مرض الجدري، وبدءوا يموتون كالكلاب الضالة..وأخيرا دبت فيهم الفوضى والخوف وتراجعوا عن حصار الكعبة بعد أن مات ألوف في الوديان تائهين.فتعني كلمة (البيت) أن الناس سوف يتمتعون فيه بالحماية الحقيقية.إنه بيت الله الذي لا يمكن أن يفلح أي عدو في الهجوم عليه.الله والميزة الثانية للبيت أنه مكان إقامة دائمة، وبهذا المعنى فإن بيت هو الذي يسمى بيتا، لأن الحياة الأبدية إنما تُنال في بيت الله.والذين لا يذهبون أن يستحق إلى بيت الله تعالى لا حياة لهم، ولا قيمة لحياتهم.أما البيت الدنيوي فيقول الله عنه: (متاع قليل) وأما عن بيته فيقول فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) (الفجر: ٣٠)..أي عندما يصبح الإنسان عبدا صادقا لله تعالى، ويصبح المسجد بيتا له فإنه يدخل الجنة.فهذا هو البيت الذي يمكن أن يمتع الإنسان بحياة أبدية.والميزة الثالثة للبيت أنه مكان لادّخار الأموال والأمتعة.وهذا البيت فيه ذخائر البركات الروحانية، وهو الذي يحفظها.أما الذخائر الأخرى مهما كانت غالية وقيمة فإنها تضيع، ولكن الوقت الذي يبذله الإنسان في عبادة الله تعالى فلا يضيع، بل كل لحظة يقضيها في ذكر الله وعبادته يحولها الله إلى آلاف النعم الروحانية، ويحفظها ذخيرة ويمتع عبده بها.

Page 181

۱۷۸ سورة البقرة الجزء الثاني والميزة الرابعة للبيت أنه مكان لاجتماع الأقارب كلهم.وهذه الخصوصية موجودة أيضا في الكعبة المشرفة بصورة كاملة..لأن مسلمي العالم أجمع يجتمعون هناك كل عام للحج، ويزيدون إيمانهم بالاجتماع مع إخوانهم.ثم إن الكعبة المشرفة مكان لاجتماع الناس بشكل آخر.فالمكان الذي سيجتمع فيه الإنسان مع أقاربه وأحبائه هو الجنة، والمسجد ظل للجنة يجتمع فيه المسلمون خمس مرات يوميا، ويسجدون أمام ربهم ويطلعون على أخبار بعضهم.والميزة الخامسة للبيت أن الإنسان يتمتع فيه بالأمن عموما.وهذا أيضا يتيسر في الكعبة المشرفة، لأن الأمن إنما يتيسر للإنسان فقط إذا انمحت كل النزاعات.والكعبة المشرفة هى المكان الوحيد الذي لكونه مركزا للتوحيد يمكن أن يكون ذريعة لاتحاد العالم كله وجمعهم حول مركز واحد.فالكعبة المشرفة هي البيت الحقيقي والكامل في الواقع، إذ تتمتع بكل الخصوصيات التي ينبغى أن تكون في البيت.وقوله تعالى (مثابة للناس وأمنا)؛ المثابة هي مكان اجتماع الناس بعد تفرقهم.لقد ذكر هنا بأن بيت الله قد أقيم لكي يجمع العالم كله على مركز واحد، وعن طريق هذا البيت يجتمع مرة أخرى كل أولئك الذين تفرقوا..بمعنى أن هذا البيت متعلق بدين عالمي، إنه سوف يكون سببا لتوحيد العالم كله.لا شك أن الأنبياء وحدوا الناس في زمنهم ولكن إذا كانوا من جانب يوحدون أفراد قوم ما..فإنهم من جانب آخر كانوا يسببون الاختلاف مع أمم أخرى من العالم.فمثلا كان من الضروري لبني إسرائيل أن يتبعوا موسى فقط، وكان على أتباع كرشنا أن يتبعوه وحده، وكان على الفرس أن يتبعوا زردشت وحده، لذلك إذا كانوا قد وحدوا أقوامهم من جهة فإنهم تسببوا في الخلاف بين الأقوام الأخرى.ولكن الكعبة المشرفة وحدها التي تحمل خصوصية أنها جامعة لأمم العالم كلها على مركز واحد، فقد أعلن النبي بأنه قد بعث للعالمين (الأعراف: ١٥٩)، ثم أعلن

Page 182

۱۷۹ سورة البقرة الجزء الثاني أنه سوف يُجمع على يده كل الأمم والجماعات المتفرقة في دين واحد.وانظروا كيف تحقق هذا النبأ بطريقة عجيبة ومدهشة منذا الذي يمكن أن ينبئه بجمع الناس هكذا إلا الله تعالى؟ أما الذي قدّر للنبي ﷺ في مستقبل الأيام فإنه أكثر من ذلك كثيرا..فقد أعلن سيدنا المهدي والمسيح الموعود أن الله تعالى سوف يجمع عن طريقه الأمم كلها، وسوف يأتي وقت يصبح فيه الأشرار كالمنبوذين.فقد قال (لقد خطط الشيطان لإهلاك آدم واستئصاله، وطلب من الله المهلة فأمهله إلى يوم الوقت المعلوم.وبسبب هذه المهلة لم يقض عليه أي نبي.أما الوقت الذي حدد لقتله و هلاكه فهو أن يقتل على يد المسيح الموعود.كان ينطلق في الأرض كاللصوص وقطاع الطرق ولكن حان هلاكه الآن إلى اليوم كان هناك قلة من الأخيار وكثرة الأشرار، ولكن سوف يهلك الشيطان ويكثر الأخيار، أما الأشرار فسوف يصبحون أذلة كالمنبوذين..وعبرة للآخرين) (جريدة الحكم.مجلده عدد٣٤، من.(۱۹۰۱/۹/۱۷ أرى أن زمن تحقق هذا النبأ القرآني بصورة كاملة هو زمن المهدي والمسيح الموعود، لأنه في شخصه اجتمع بنو إسحاق وبنو إسماعيل.فنرى أن هذا النبأ يتحقق بالفعل بعد ثلاثة عشر قرنا، ويقبل الإسلام ويدخل في الأحمدية أهل أوروبا وأمريكا وأفريقيا وأستراليا والهند والصين وجاوا وسومطرة والإيرانيون والمغول والأفغان والراجبوت والباتان وغيرهم وغيرهم..فلا يوجد ملة ولا مذهب إلا ويدخل أهلها في الإسلام عن طريق الأحمدية، ويتحقق صدق هذا النبأ القرآني بأننا جعلنا هذا البيت جامعا للناس المتفرقين.والمثابة أيضًا "العتبة" التي تحيط بالبئر، لتمنع وقوع ما يفسد الماء، ولتحول دون سقوط أحد في البئر خطأ.ونظرا إلى هذا يكون المراد: جعلنا الكعبة المشرفة لكي يجتمع الناس من كل مكان ويتلقوا هنا تربية دينية وأخلاقا سامية؛ وثانيا جعلناها لتكون عتبة للعالم..أي يكون فيها الناس بمأمن من السيئات والزور، وثالثا: جعلناها سببا لاستتباب الأمن، كالقلعة التي يجتمع فيها الجنود ويوطدون نظامهم..

Page 183

الجزء الثاني الله 11.سورة البقرة هكذا جعل بيته الحرام ليجتمع فيه الناس لتقوية وإصلاح نظامهم.فكما أن القلعة تمنع دخول العناصر غير المرغوب فيها كذلك جعل الله بيته هذا لمنع هذه العناصر من ولوجه.ثم إن الغرض من القلعة أن يتوطد الأمن فيما حولها ويصان الاستقرار، وهذا الغرض أيضًا متحقق في بيت الله تعالى.فهو مركز لتوطيد النظام، وسبب لصد العناصر غير المرغوب فيها، وذريعة لتوطيد الأمن في العالم.وقوله تعالى (وأمنا)..نبأ ثان يقول فيه: أولا - إن هذا المقام مقام أمن..يعني أنه يُحفظ من عدوان الأغيار، وثانيا - إن هذا المقام سوف يهيئ الأمن للآخرين، وثالثا- لما كان الأمن الحقيقي هو طمأنينة القلب لذلك يمكن أن يعني قوله تعالى (أمنا) أن هذا البيت يهب طمأنينة القلب والسكينة.وبالفعل لا يمكن أن ينال أن الإنسان هذه الطمأنينة القلبية خارج الإسلام وأبسط مثال على ذلك هو الإسلام يُقنع بما يقول بتقديم الدليل والبرهان، أما الأديان الأخرى فإنها تلجأ إلى الجبر والتحكم بدلا من البرهان يقول الإسلام إن الذي يقبل أمرا ما بدون برهان فلا حقيقة لإيمانه، بل إنه يعلن على لسان محمد المصطفى على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: ۱۰۹)..أي أن ما أقدمه من تعاليم أؤمنُ بها عن اقتناع بالدليل والبرهان؛ وكذلك يقبله اتباعي بالدليل والبرهان؛ فشتان بيني وبينكم.أنتم تقولون : اقبل هذا الأمر وإلا تدخل جهنم، ولكن ما أقوله فإني أقدم عليه دليلا معقولا، لأن القلب لا يطمئن بدون ذلك.كما أن أعظم ذريعة لحصول طمأنينة القلب هي المشاهدة..أي التشرف بالكلام مع الله لو نال الإنسان هذا الشرف لم يقلقه شيء.والإسلام يزف أيضًا هذه البشرى للمنتسبين إلى الكعبة المشرفة: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي (الفجر : ۲۸ (۳۱)..ارجعي إلى ربك

Page 184

۱۸۱ سورة البقرة الجزء الثاني وأنت في حال من الرضا..هو راض عنك وأنت راضية عنه.إن أتباع كل الأديان يقولون إن الإنسان إذا عمل بديننا دخل الجنة، ولكن الإسلام لا يقول بأن الإنسان يدخل الجنة بعد الموت فقط، بل يقول : إنني سأريكم ربكم في هذه الدنيا أيضًا؛ مما يدل على أنني دين حق.يقول إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) (فصلت: ۳۱).فالإسلام يدعي بأنه يجلب طمأنينة القلب للإنسان، أما الأديان الأخرى فلا تدعي بذلك.والمعنى الثاني للأمن أن يكون الشيء في مأمن وهذا المعنى أيضا ينطبق على الكعبة المشرفة، لأنها رغم مؤامرات الأعداء المتكررة لا تزال مأمونة ومحفوظة بفضل الله تعالى.جاءت حكومات بعد حكومات، ودُمرت بلاد بعد بلاد، ولكن بيت الله باق محفوظ بالرغم من هجوم الأعادي، وبقي مقام أمن.ثم ليس هناك أمة بقي لها معبدها تحت قبضتها دائما.وإنما هي أمة الإسلام التي بقي معبدها المقدس تحت يدها دائما.إن أورشليم المقدسة عند اليهود والمسيحيين كانت في يد المسلمين لأكثر من ألف عام.ثم إن "هاردوار" "وبنارس" وهما مكانان مقدسان لدى الهندوس بقيا في حكم المسلمين لستة أو سبعة قرون؛ ثم وقعتا في أيدي الإنجليز.كذلك "جيا" المكان المقدس عند البوذيين ظل تحت يد المسلمين ثم في يد الإنجليز وهي الآن في يد الهندوس.كذلك الحال مع الجينيين [ الذين يحرمون قتل أي حيوان ] فقد وقع معبدهم في يد قوم بعد قوم.ولكن الكعبة المشرفة هي الوحيدة التي بقيت في يد المسلمين، ولم تستطع حكومة غير إسلامية أن عليها من يدها.وهكذا كانت مكان أمن دائما.ومن حيث إعطاء الأمن للآخرين فإن الكعبة تختص بذلك بطريقة لا مثيل لها في الدنيا.كل شيء في الحرم يتمتع بالأمن حتى الحيوان حرام صيده.بل إن قطع الأشجار حرام، إلا الإذخر وهو نوع من العشب والكلأ.ويتمتع الإنسان بالأمن تستولي

Page 185

۱۸۲ سورة البقرة الجزء الثاني لأن القتال والحرب محرمان في حدود الحرم (البخاري: فضل الحرم).هذا علاوة على ما ينعم به الإنسان من حفظ الله بسبب التقوى والروحانية.ولكن العجيب أن ذلك البيت الذي اعتبره الله بيتا يهيئ الأمن للآخرين..فإن أهله المنتسبين إليه يؤمنون بجهاد لا يعطي الأمان لأحد في العالم! هذا أمر عجيب جدا..لأن الدين الذي سُمِّي دين الأمن والأمان يعتبر بسبب عقائدهم الفاسدة هذه دين الفساد.وهكذا يجمعون بين الأضداد والمتناقضات.ولا يمكن إزالة ذلك إلا أن نخبر الناس بأنه لا إكراه في الإسلام، فهو يحمل تعليم الأمن، ويعطى الأمان للجميع، ولهذا الغرض نفسه أقيمت الكعبة المشرفة.يقول الله تعالى: تذكروا وقتما جعلنا هذا البيت مثابة للناس وأمنا..أي تركنا أبوابه مفتوحة لكل العالم دون أي تمييز بين قوم ونسل وبلد ولسان.الله قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى من هنا للتوكيد أو التمييز، وهناك محذوف قبل (واتخذوا) هو : قُلْنا أو أمرنا والمراد أمرنا أن تتمسكوا بمقام إبراهيم مكانا للعبادة أو أن تصلوا في المكان الذي أقام فيه إبراهيم لبناء الكعبة؛ أو أن تُصَلُّوا بعد الطواف في المكان الذي وقف فيه إبراهيم للعبادة، شكرا منكم على أن جعل هذا البيت سببا لتوحيد الناس وتوطيد الأمن.ومقام إبراهيم موضع خاص عند الكعبة، أمر المسلمون بأداء ركعتين نفلا فيه بعد الطواف بالبيت.ويبدو أن إبراهيم بعد أن فرغ من بناء الكعبة صلى في هذا المكان صلاة شكر الله، وإحياء لهذه السنة الإبراهيمية أمر الله المسلمين بأداء ركعتين هناك.إلا أنني أرى أن قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، يعني أن لتحوزوا في العبادة والطاعة مقاما تبوءه إبراهيم فيهما.إن الناس يظنون خطاً أن المراد من (مقام إبراهيم) موضع مادي، مع أن المقام الحقيقي لإبراهيم هو مقام الإخلاص والتقوى والاستسلام الذي كان يتمتع به، والذي عن طريقه رأى ربه.وكأنه يقول: عليكم أن تحبوا الله كما أحب إبراهيم ربه، وتضحوا في سبيل الله تسعوا

Page 186

۱۸۳ سورة البقرة الجزء الثاني كما فعل، وتشتركوا في فعل الخيرات بنفس الإخلاص والحب والتقوى والإنابة الذي كان يتمتع به إبراهيم لو فعلتم ذلك لنلتم مقامه فليس المراد من مقام إبراهيم هنا موضعا ماديا ولكنه مقام روحي.وفي لغتنا أيضًا يقولون: " لم تعرف مقامى "..ولا يفهم ولا يفهم منه السامع أنه المكان الذي يجلس فيه، وإنما يدرك على الفور أنه يعني مقامه في رفعة القدرة والمكانة.ولو تمسكنا بالمعنى الظاهري..أي يقف كل مُصَل في مقام إبراهيم..فهذا مستحيل.فأولا - لحدث اختلاف في تعيين يقيني لمصلاه في مقام إبراهيم.ولو عرفوه – على فرض المحال – ما استطاع العالم الإسلامي كله الصلاة هناك..بل في أيام الحج وحدها يكون في الكعبة مائة ألف أو يزيدون، ولو أن كل واحد صلى في هذا المكان بسرعة لاحتاج إلى دقيقتين على الأقل، وفي ساعة واحدة لن يصلي فيه إلا ٣٠ شخصا وفي يوم واحد ٧٢٠ مصليا.أما الباقون 99 ألفا فلن يتمكنوا من أداء الصلاة في هذا المكان في ذلك اليوم.أما المسلمون الآخرون في أنحاء العالم فلا يمكن أن يصلوا في هذا المكان لبعدهم عنه فلو حملنا هذا الأمر على الظاهر ما أمكن أن يعمل به المسلمون.هم أكثر من ثم إن هناك احتمالا كبيرا أن يؤدي التزاحم إلى الفساد، بل بالفعل قد حدث شجار مرة وقتل شخص في مكة بسبب ذلك.فهذه الآية لا تعني المفهوم الظاهري، وإنما معناها أن تحاولوا أن تقفوا في مقام الإخلاص الذي وقف فيه إبراهيم وعبد فيه ربه، وأن تعبدوا ربكم.ثم إن قوله هذا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى يشير أيضًا إلى قوله (إني جاعلك للناس إماما)..والمعنى: يجب أن يوجد بينكم أنتم أيضًا إمام حتى تبقى فيكم السنة الإبراهيمية حية الواقع أن هاتين الآيتين تذكران نوعين من الإمامة: إمامة النبوة وإمامة الخلافة.أما الأولى فقال الله عنها لإبراهيم: (إني جاعلك للناس إماما) فقال إبراهيم (ومن ذريتي) كي يستمر عملي بعد موتي؟ فقال الله تعالى: سيكون في ذريتك بعض الظالمين، فكيف يعهد بهذا العمل إلى الظالمين؟ نعم، إننا نأمر أولادك

Page 187

الجزء الثاني ١٨٤ سورة البقرة أئمة، بالتمسك بسنتك الإبراهيمية، والذين يعملون بأمرنا هذا سوف نجعل منهم من الله تعالى.فهذه الآية تتضمن ذكر إمامة النبوة متجددة وسوف يتمتعون بنعم التي تأتي من الله مباشرة.أما إمامة الخلافة التي يكون للناس دخل فيها، فيشير إليها قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)..فقيل للناس : إذا لم تكن هناك إمامة النبوة فمن واجبكم أن تقيموا بينكم إمام الخلافة، وأن تستمروا في ذلك.ثم إن قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم (مصلى حض على أن نؤسس في المدن والأماكن الهامة مراكز للدعوة تكون ظلا للكعبة المشرفة وسببا لنشر الإسلام؛ حيث يجلس الناس يعبدون الله، وينشرون توحيده.يقول الله: يا من تدعون بعشق الكعبة المشرفة، ويا من تدينون بحب بيت الله الحرام ما بالكم تصوّرون كل منظر يعجبكم مثل "تاج محل " وتحتفظون بصورته في بيوتكم، وتعرضونه على أهلكم وأولادكم؟ وإذا أعجبتكم فاكهة أتيتم بها إلى بيتكم وتطعمونها أهليكم؟..ولكن ما بالكم لا تحاولون أن تأتوا بصورة الكعبة إلى بلادكم وإلى أحيائكم؟ ما هي الكعبة المشرفة؟ إنها بناء وقف لعبادة الله ولكن البديهي أنه لا يمكن للعالم كله أن يزور الكعبة، لذلك فإن الله كما يريد أن يوجد في العالم نُسخ أو صُوَر لإبراهيم..كذلك يريد تعالى أن تصنعوا للكعبة نسخا تجلسون فيها أنتم وأولادكم..واقفين مكرسين حياتكم لخدمة الدين.وكما أن الذين سوف يتبعون أسوة إبراهيم يكونون أولادا وأظلالا لإبراهيم، كذلك ستكون هذه النسخ أظلالا أو نماذج للكعبة.والحق أنه ما لم تقم أظلال للكعبة في كل أرجاء الأرض لا يمكن نشر الدين.يقول الله ناصحا بني الإنسان واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)..قوموا مقام إبراهيم، ومنه اعبدوا الله – أي أنشئوا مراكز لنشر الدين، لأن انتشار الدين بصورة كاملة لن يتم بدون ذلك.

Page 188

الجزء الثاني ۱۸۵ سورة البقرة قوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طَهِّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود).يخبر الله هنا ما هو مقام إبراهيم عهد إلى فلان يعني نصحه نصيحة مؤكدة، وأوصاه مرارا وأكد له فالمعنى أننا أكدنا أيما تأكيد عليهما أن طهرا بيتي)..قوما بتطهير بيتي وحمايته من العيوب والخراب..(للطائفين) الذين يطوفون حوله، أو الذين يزورونه مرة بعد أخرى، (والعاكفين) الذين يعتكفون فيه..أو الذين يقفون حياتهم لمحاورته، (والركع السجود)..الذين يؤمنون دائما بتوحيد الله ويبقون مستعدين لتوطيد التوحيد، ويقضون حياتهم في طاعته والانقياد له، أو الذين يركعون ويسجدون..فالركوع والسجود هنا ظاهري وروحاني أيضًا.منه.وللتطهير معنيان: إنه يعني الطهارة الظاهرة أيضًا..كما قال الرسول أن طهروا مساجدكم وعطّروها بالعود (مسلم الطهارة، كذلك يعني التطهير الطهارة الباطنة..أي تراعوا حرمة المساجد ولا تتكلموا فيها بما لا طائل ولكن الأسف أن الناس بدلا من أن يذكروا الله في المساجد يدخلون في أحاديث لا طائل أن المساجد إنما تُبنى لعبادة الله.لاشك أنه عند الضرورة يُسمح بالحديث الديني والاجتماعي والمدني في المساجد.أما أحاديث اللغو داخل المسجد فهذا أمر منكر.فعلى الشباب خاصة أن يتذكروا هذا الأمر.منها، مع وقد يشير قوله تعالى (طهرا بيتي) إلى أنه سيأتي زمن سوف يضع الناس الأصنام في بيت الله، فمن واجبكم أن تطهروا هذا البيت منها وتلقوها خارجه.وبحسب هذه الوصية طهر الرسول ﷺ بيت الله وأخرج منه أصناما بلغت ٣٦٠ صنما (السيرة النبوية لابن هشام، فتح مكة).لقد نزلت هذه السورة بعد الهجرة في وقت كان المسلمون لا يجدون الأمن حتى في المدينة.ولكن الله قال عندئذ إن كل العالم المتفرق اليوم سوف يجتمع على هذا المركز.فانظروا كيف أن الناس من كل مكان من العالم يحجون هذا المكان، ويتجهون إليه وقت الصلاة.فما أروعها وأعظمها آية على صدق النبي !

Page 189

١٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (۱۲۷) شرح الكلمات : الثمرات - تستخدم هذه الكلمة عموما للنتائج.كذلك تعني الفواكه الطازجة.أضطره - اضطره إليه أحوجه وألجأه إليه (الأقرب)، فمعنى الآية: سوف أحيطه وأدفعه إلى جهنم.التفسير: عندما قال الله إننا سوف نجعل بيت الله مرجعا للخلائق ومدعاةً للسلام العالمي..اتجه إبراهيم فورا إلى ربه داعيا (رب اجعل هذا بلدا آمنا)..يا رب لقد قلت إن الطائفين والعاكفين والركع السجود سوف يأتون إلى هذا المكان، وسيكون عامرا بهم..لذلك أبتهل إليك أن تجعل منه بلدا آمنا..أي ليكثر أهله فيصبح بلدا يتوفر فيه الأمن والأمان، ولا يكون بؤرة للفساد والحروب.عندما دعا إبراهيم بهذا لم تكن مكة بلدا، وإنما كانت هناك بعض الأكواخ، وكانت واديا غير ذي زرع ولا ماء..فدعا إبراهيم أن اجعل هذه الأرض الجرداء بلدا.ويظن من ليس لديهم إلمام باللغة العربية أن إبراهيم دعا أن يجعل الله هذا البلد آمنا..مع أن إبراهيم لم يقل هذا، وإلا لقال اجعل هذا البلد آمنا، ولكنه قال (اجعل هذا بلدا آمنا).فدعاء إبراهيم لم يكن لمدينة يريد لها النماء والازدهار..وإنما دعا لأرض قفر كي تكون بلدا آمنا.فهناك احتمال أن يحدث الفساد والفتنة في المدن، لأنه عندما يجتمع الناس ويعيشون معا تقع الشجارات والحروب وأنواع الفساد.ثم هناك غزاة يهاجمون المدن لفتحها والاستيلاء عليها.أو عندما تكبر المدن يحاول أهلها بسط نفوذهم على الآخرين فيهاجمونهم.كل هذه الاحتمالات قد تصيب المدن، لذلك دعا: أدعوك يا رب، أن تجعل هذا المكان بلدا ذا أمن لا يهاجمه أحد، ولا يهاجم أهله الآخرين..ليتحقق الهدف من بناء الكعبة المشرفة

Page 190

الجزء الثاني تحققا صحيحا.وكأنما أراد إبراهيم أن البلد الذي سوف يعمر.۱۸۷ سورة البقرة يتسع النبأ المتعلق بأمن الكعبة ليشمل هذا الحق أن الله هو الذي أقام حرمة الكعبة المشرفة، أما حرمة مكة المكرمة فقد تأسست بسبب دعاء إبراهيم هذا، لذلك قال النبي الله عن المدينة: (اللهم إني أحرم ما بين لابتيتها بمثل ما حرَّم إبراهيم مكة (البخاري، كتاب الجهاد).وفي هذا الدعاء حذف إبراهيم كلمة (مثابة) (ولم يقل بلدا آمنا ومثابة للناس)..أي مكانا يثوب إليه الناس أو مكانا يُثاب الناس على زيارته..وإنما اكتفى بالدعاء لأمن هذا البلد.والسبب أنه دعا دعاء إضافيا ليكون هذا المكان بلدا أيضًا، ويكون هذا البلد ذا أمن وسلام، لأن الأمن ضروري للكعبة المشرفة وللمقيمين حولها.أما زيارة بلد فلا تُكسب ثوابا إذ إن العبادة والثواب يتعلقان بالكعبة المشرفة ولا علاقة لهما بمكة.الله ويتبين من هذا الدعاء مدى حرص الأنبياء على تحقيق كلام الله تعالى وسعيهم في هذا السبيل.يعترض بعض الناس لجهلهم على الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) أنه لماذا كان يحاول تحقيق بعض الإلهامات والأنباء ما دامت وعدا من الله تعالى؟ إن هؤلاء لا ينظرون إلى أن إبراهيم عليه السلام) بمجرد أن تلقى الخبر من سعى على الفور لتحقيقه واشتغل بالدعاء.كان الله تعالى قد أمره أن يطهر بيته للعاكفين، وذلك يعني أن الناس سوف يسكنون هناك ويأتون للزيارة من الخارج..وهذا يتضمن النبأ بعمران مدينة في هذا المكان..وما دام الله تعالى قد قرر ذلك من قبل فما معنى الدعاء لتحقيق هذا القرار؟ الحق أن سبب هذا الدعاء هو أن الله عندما يخبر شيء، فواجب المؤمنين أن يسعوا لتحقيق هذا الخبر، وأول خطوة في هذا السعي أن يبتهلوا إليه حتى لا يُلغي هذا الوعد بسبب تقصير أو غفلة من جانبهم.وإلى جانب هذا الدعاء يسعون للأخذ بالأسباب الظاهرة ورد في الحديث أن هاجر وإسماعيل (عليهما السلام) عندما

Page 191

الجزء الثاني ۱۸۸ سورة البقرة القافلة سكنا هناك وتفجرت عين زمزم مرت بهما ،قافلة، ولما رأوا الماء الوفير في هذا المكان سألوا السيدة هاجر أن تسمح لهم بالإقامة هناك، فوافقت (مسند ابن حنبل، ج۱ ص ٢٥٣، وتاريخ الطبري وكان هذا تدبيرا ثانيا لتعمير مكة إذ أتاحت لأهل موضعا للإقامة عند البيت ذلك ليتحقق وعد جعل البيت مثابة للناس.فالمعترضون على الإمام المهدي والمسيح الموعود غافلون في الحقيقة عن مضمون کلام الله تعالى إن من أكبر الواجبات على عباد الله أن يسعوا كل السعي لتحقيق ما أنبأهم الله به من أخبار ووعدهم إياها.ولو قال قائل: وأي حاجة لله إلى نصرة أحد؟ فاعتراضه هذا لن ينصب على هذا النباً فقط، بل سيكون على كل أمر وكل نباً.يقول الله في القرآن الكريم: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (الذاريات (٥٧.والآن، لو كان الأخذ بالأسباب لتحقيق قول الله ووعده غير جائز..فعلى الناس أن يكفوا عن نصح بعضهم البعض لإقامة الصلاة والعبادة، ويَدَعُوا الناس وشأنهم مع الله فلو شاء الله لجعلهم يعبدونه، فلماذا نسعى نحن لذلك؟ وهذا غير صحيح.كذلك يقول الله في القرآن الكريم: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: ١٠)..أي نحن الذين أنزلنا هذا القرآن، ونحن الذين سوف نحفظه.ولو كان قول المعترض صحيحا..لامتنع المسلمون عن حفظ القرآن الكريم، لأن هذا – بحسب قول المعترض – عمل يقوم به الله تعالى.ومن ثم ينبغي أن تكف عن طبع القرآن نَكُفَّ الكريم، لأن هذا بحسب قول المعترض – عمل يقوم به - الله تعالى.إذن فهذا اعتراض يدل على الحمق ولا يقبله ذو عقل سليم.ويمكن أن يُستدل بهذه الآية أنه إذا قال الله شيئا فمن واجب المؤمنين أن يسعوا كل السعي، ويأخذوا بكل الأسباب، ولا ينفكوا حتى يتحقق قول الله تعالى.كما تذكرنا الآية أن من واجب العبد أن يحاول التكيف مع ما يريده الله تعالى.قال الله لإبراهيم (لا ينال عهدي الظالمين)..أي لا أعِدُ الظالمين من أولادك بأي إنعام.

Page 192

۱۸۹ سورة البقرة الله ؛ وعندما الجزء الثاني فانظروا إلى إبراهيم كيف صار حذرا وتكيف على الفور مع ما يريده دعا لأهل مكة ابتهل قائلا ( وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر)..وأخرج من دعائه كل من لا يؤمن بوحدانية الله تعالى وخص بدعائه المؤمنين بالله واليوم الآخر.ثم انظروا إلى روعة دعائه: (وارزق أهله من الثمرات)..أي يا رب إنني لا أتوسل إليك لترزقهم طعاما عاديا من الثريد والحلوى والخبز وما إلى ذلك..بل أتوسل إليك لتتجلى عليهم بربوبيتك العظيمة، فترزقهم بالثمرات فتحمل إليهم في بلدهم فواكه الشرق والغرب.لقد قدَّمتُ بين يديك يا رب تضحية كبرى..وأريد يا رب أن أرى ألوهيتك تتجلى بحيث تُيسر لأهل هذا الوادي الخالي من الزرع كل الفواكه الطيبة من أطراف الدنيا.فتقبل الله هذا الدعاء الشبيه بالتحدي من إبراهيم..وقال: يا إبراهيم، لقد أسكنت أهلك في واد غير ذي زرع، وهكذا ضحيت بابنك إسماعيل..وتريد أن ترى ألوهيتي.وقلت لي : إنني يا رب، رغم أني عبد عاجز فقد أثبتُ عبوديتي، والآن أرجوك يا رب أن تؤكد لي ألوهيتك..وطلبت أن يكون الدليل على تجلّي ألوهيتي يصنع هؤلاء طعامهم وإنما يكسبه لهم الناس ويطعمونهم إياه، ولا يقدمون لهم طعاما عاديا وإنما يطعمونهم أفضل الفواكه من كل العالم.إنني أقبل شرطك هذا، وسوف أحقق لك ما أردت في هذا الوادي الخالي من الزرع والكلاً.ألا ولقد تأكدت بنفسي من صدق هذا الوعد الإلهي في أيام الحج.لقد رأيت في مكة المكرمة قصب السكر الهندي، وعنب الطائف، وأطيب أنواع الرمان.وأشهد أني ما ذقت مثل هذه الأعناب والرمان والتفاح حلاوة.لقد زرت الشام وإيطاليا وبلاد أوروبا، ويقولون في أوروبا إن العنب الإيطالي أجود أنواع العنب، ولكني قلت لأهل إيطاليا إن العنب الذي أكلته في واد غير ذي زرع بمكة كان بسبب دعاء سيدنا إبراهيم – أجود وأحلى وألذ من عنبكم والرمان في المناطق حولنا مشهور

Page 193

۱۹۰ الجزء الثاني سورة البقرة بجودته، ولكن الرمان الذي أكلته في مكة يفوق ذلك كثيرا في حلاوته وجودته وحجمه.فالحق أن دعاء إبراهيم وارزق أهله من (الثمرات لم يكن دعاء عاديا، لأنه لم يطلب الأشياء العادية..بل دعا لهم بأجود الفواكه من العالم.لقد طلب إبراهيم في دعائه لأهل مكة غاية الرخاء..لأن تيسر الثمرات في مكة غير ممكن، إذ لا يوجد هناك أي حراثة ولا ،زراعة كما أن وصول الفواكه إليها من أماكن بعيدة متعذر..لأن الثمرات تعني الفاكهة الطازجة الجيدة.وإبراهيم يقول: يا رب لا تحرمهم من هذه النعم أيضًا حتى لا يظنوا أنهم قد انقطعوا عن العالم وصاروا لهذا لبيت فقط.فهيئ لهم مثل هذه الأشياء المتميزة..حتى يكون ذلك حجة على العالم كله أن كيف عمر الله هذه البرية، وأضاء هذا المكان المظلم.وفعلا وببركة هذا الدعاء الإبراهيمي يصل إلى أهل مكة كل أنواع الفواكه الطازجة، وكل الأشياء المتميزة متيسرة هناك.يُحكى أن أحد الأولياء اشتهى أيام الحج مرة أن يوجد في مكة ثلج يصنع منه مع السويق شرابا ملطفا لحرارة الجو الشديدة، فدعا ربه: هذا بيتك يا رب، وقد وعدت أن ترزق أهله كل أنواع الرزق..فهيِّئ من فضلك الثلج.فأنزل الله البرد على مكة.فجمعه الناس، وهكذا هيأ الله له الثلج المطلوب.لقد دعا إبراهيم لأهل هذا البلد أن يا رب لا تجعل أهل هذا المكان يشعرون بالحرمان من هذه النعم بسبب خدمتهم لبيتك، لذلك ألتمس منك أن ترزقهم من أعلى أنواع الفواكه، وتمتعهم بنعمك حتى يروا أنهم لا يفتقدون شيئا وإنما يتنعمون جوارهم للبيت.ويبدو في ظاهرة الأمر أن إبراهيم قد دعا لرخاء أولاده.ولكنه في الحقيقة أثار غيرة الله تعالى ورحمته..لأن الله أمره أن طهرا بيتي، ففكر أنه قد يدور بخلد بعض الأجيال القادمة أنهم يمنون على الله تعالى بأنهم يحفظون بيته في واد غير ذي زرع..

Page 194

الجزء الثاني قصده ۱۹۱ سورة البقرة وأحب أن يحسوا بأن الله هو الذي يحسن إليهم لا هم؛ لذلك دعا إبراهيم بكل حيطة فقال : يا رب ارزق من الثمرات فقط من آمن بالله واليوم الأخر.وربما كان من هذا الدعاء أنه قد يتضايق غير الصلحاء من شدة الجوع فيخرجون من مكة ولا يبقى فيها إلا الصالحون من عباد الله دائما.ولكن الله تعالى لم يحبذ هذا التخصيص في شأن رزقه.هنا ينشأ سؤال: لماذا دعا إبراهيم بالثمرات مع أن الإنسان لا يعيش على الثمار فقط وإنما يعيش على الخبز؟ فلنتذكر أن مكة مكان لا يُزرع فيه أي شيء.والأشياء التي تصل إليها تكون صلبة، أما المواد الناعمة الطازجة فلا تصل إليها وإنما تفسد في الطريق.ولقد دعا إبراهيم بالثمار بدلا من الخبز لأنه رأى أن الثمار إذا وصلت مكة فمن باب أولى تصل إليها الأشياء الأخرى بما فيها الخبز.وقد ذكرت لكم أن أنواع الثمار من كل بلد تصل إلى مكة.قولة تعالى (ومن كفر فأمتعه قليلا) يعني أن معاملتنا في صدد الرزق عكس معاملتنا به في صدد النبوة والإمامة.إن النبوة والإمامة إنما ينالهما الصلحاء، أما الرزق فيتمتع كل إنسان، وسوف نرزق الكافر أيضًا بالرزق الدنيوي.لقد ظل أهل مكة مشركين لمئات السنين إلا أن الله كان يهيئ لهم الرزق.أما العذاب الأخروي فقال الله لإبراهيم إن الظالمين من نسلك لن ينجوا منه، بل لا بد أن يُلقوا في جهنم وبئس المصير.يعني وعبارة (فأمتعه قليلا) لا أنه يمتعهم بالرزق لأيام قليلة، وإنما معناه أنهم ينالون المنفعة الدنيوية التي ذكرت بنفس المعنى في قوله تعالى (متاع الدنيا قليل).والفاء في (فأمتعه) إما زائدة أو للعطف، وهناك خبر محذوف لـ (من)، والتقدير من كفر أرزقه فأمتعه..أي أمنحه الرزق وأهيئ له المنافع الدنيوية الأخرى.ولكن فيما يتعلق بالمنافع الروحانية فلا ينالها ما لم ينشئ علاقة مع الأنبياء.

Page 195

۱۹۲ سورة البقرة الجزء الثاني ولا تذكر التوراة هذا الدعاء في أي مكان منها، لأن اليهود محوا ذكر مكة من التوراة محوا تاما بسبب عداوتهم لبني إسماعيل.نعم هناك ذكر للكعبة المشرفة في بعض المواضع من التوراة.ويمكن أن نستخرج من هذه الآية استدلالا، قد أكد عليه كثيرا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام)، فقد قال إن العذاب لا يأتي بسبب رفض الناس للأنبياء، وإنما ينزل لفسادهم وشرورهم ضد الأنبياء.لو أنهم عاشوا بالتقوى فلا يمكن أن يحيطهم العذاب فقط لرفضهم الأنبياء.الواقع أن الإنسان مركب من الجسم والروح، فعندما يطيع طاعة جسمانية، يرتاح في عالم الأجسام، ولكن بما أنه لم يكن قد عمل أي عمل للعالم الروحاني الخالص..فإنه يقع في الأذى في ذلك العالم.وفي قوله تعالى ومن كفر فأمتعة قليلا قدم الله طريقا ساميا لتوطيد الأمن في العالم، وبين أن الاختلاف الديني لا يؤدي إلى قطع العلاقات الدنيوية.ولو أن الناس عملوا بهذا المبدأ، ولم يقعوا في الفتنة والفساد لانمحت كل الخصومات الدينية والفسادات الطائفية.وقوله تعالى ثم أضطره إلى عذاب النار أيضًا يبين أن عبارة (فأمتعه قليلا) لا تعني أن الله يمتعه لأيام قليلة، وإنما المراد أنه سيتمتع المتاع الدنيوي فقط، فالله يقول (ثم أضطره إلى عذاب النار، والواضح أن عذاب النار يحيط بالإنسان بعد الموت.يقول الله أن لا ملاذ لهم إلا مكان العذاب وبئس المصير.وقوله تعالى (أضطره) يحمل حكمة.يبدو في الظاهر أن الله سوف يكرههم إلى العذاب، ولكن ليس هذا هو المراد، وإنما أشار بذلك إلى قانون أن الإنسان إذا استمر في ارتكاب السيئات كانت النتيجة المنطقية الحتمية أن تضعف فيه قوى الخير، فينجذب إلى السيئات انجذابا الذين لا يقبلون هذا القول يقولون إن فعل الخير سهل وسوف نقوم به متى شئنا، ولكن قولهم هذا ليس صحيحا، فنعرف من

Page 196

۱۹۳ سورة البقرة الجزء الثاني القرآن أن السيئة ليست شيئا مفردا وإنما هي كالنواة أو البذرة..فكما أن البذرة تنبت شجرة، والشجرة تنبت أشجارا جديدة..كذلك كل سيئة بعد ظهورها تولد سيئات أخرى.وكذلك الحسنة فإنها بعد ظهورها تُنبت حسنات أخرى.وكون الله تعالى رحيما يشير إلى تكاثر الحسنات لدى الإنسان باستمرار، وكونه قهارا يشير إلى ازدياد الإنسان في السيئات، ولكن هذا لا يعني أن الله تعالى يجبر الإنسان على فعل السيئات، وإنما يعنى كما ذكرت أنه بسبب ارتكابه السيئات باستمرار يصل إلى حال حيث لا يستطيع تجنب ارتكابها وإن أراد ذلك.فقوله تعالى (ثم أضطره) لم يكن يشير إلى الجبر والإكراه أو ليدفع الإنسان إلى القنوط واليأس، وإنما جاء لتحذير الإنسان من ارتكاب السيئات، وإلا سوف يأتي عليه وقت يندفع فيه إلى السيئات باستمرار ولا يستطيع العودة منها.أو يصعب عليه ذلك..لأن الإنسان عندما ينغمس في السيئات يتعذر عليه التخلص منها، ويجد نفسه في حالة اضطرارية لارتكاب المعاصي.ولذلك يقول بعدها (وبئس المصير)، فلو كان هناك إجبار لم يقل ذلك.ونفس الحال بالنسبة لأفعال الإنسان الأخرى؛ هناك كثير من المثقفين الكبار يأتون أحيانا بحركات عجيبة وبأفعال غريبة، ذلك أنهم فعلوا شيئا منها بعض المرات ثم تعودوا عليه فأصبح عادة عندهم.فبداية كل من الحسنة والسيئة في خيار الإنسان ولكن بعد ذلك يصل الأمر إلى مستوى العادة الاضطرارية ولما كانت البداية في مجال اختيار الإنسان..لذلك تُعتبر نهاية أمره بحسب اختياره ذاك.فمثلا إذا كانت في الإنسان عادة قديمة لأداء الصلاة فإنه يثاب عليها باستمرار، لأن بداية أداء الصلاة كانت بإرادته.وهكذا الحال بالنسبة للسيئة فيبدأها الإنسان أيضًا باختياره، ولكنه في آخر الأمر يجد نفسه مضطرا لارتكابها.ولو حاول اجتنابها لم يستطع ذلك، بل يصير عبدا لها.وقد أشير في قوله تعالى أضطره إلى عذاب النار إلى هذا الموضوع نفسه، فإن هؤلاء قد وصلوا إلى حال يجدون أنفسهم فيه مضطرين إلى ارتكاب السيئة، ومن ثم يضطرهم الله إلى جهنم، ويعاملهم بحسب أعمالهم.

Page 197

الجزء الثاني ١٩٤ سورة البقرة وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (۱۲۸) التفسير : لقد قال الله من قبل إننا جعلنا بيت الله مثابة وأمنا للناس، ولكنه لم يذكر من الذي بنى هذا البيت.ويبدو من هذه الآية أن إبراهيم هو الذي أرسى الأساس لبيت الله، ولكن هذا غير صحيح، لأن الله تعالى لم يقل هنا (وإذ يضع إبراهيم القواعد)..وإنما قال (وإذ يرفع إبراهيم القواعد، وهذا يدل على أن بيت الله كان موجودا من قبل، ولكنه قد تهدم، ورفع إبراهيم هذا الأساس بإذن الله، وأقامه من جديد.وهناك آيات قرآنية أخرى تؤكد هذا الموضوع، فقد ورد (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) (آل عمران: ٩٧)..أي أن أول بيت بني لصالح الناس ومنفعتهم هو ذلك الموجود في مكة المكرمة، وهو مكان بركة وهداية للناس جميعا.الله و كذلك ورد في الأدعية التي دعا بها إبراهيم ربنا أنى أسكنتُ من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) (إبراهيم: (۳۸) وكلمة عند بيتك المحرم) تبين أن بيت الحرام كان موجودا هناك من قبل، لأن هذا الدعاء صدر من سيدنا إبراهيم عندما كان ابنه إسماعيل طفلا صغيرا جاء به مع أمه هاجر وأسكنهما هناك، وأطلع الله إبراهيم بالوحي على هذا المكان وأخبره أن هذا هو أول بيت بني الله تعالى.كذلك وصف القرآن بيت الله بأنه البيت العتيق في قوله تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق) (الحج: ۳۰)..مما يبن أن بيت الله موغل في القدم، أو بعبارة أخرى أنه أول معبد بني لعبادة الله في العالم.فليس إبراهيم باني هذا البيت، وإنما جدد بناءه ورفعه على أسسه الأصلية.وتؤكد الأحاديث أيضًا وجود آثار لبيت الله قبل قدوم إبراهيم إلى هذا المكان...فقد ورد أنه لما ترك إبراهيم هاجر وإسماعيل هناك قالت (يا إبراهيم، أين تذهب

Page 198

۱۹۵ سورة البقرة الجزء الثاني وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ قالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها.فقالت له: الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم.قالت: إذن لا يضيعنا.ثم رجعت، فانطلق إبراهيم إذ كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يداه فقال ربنا أني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم (البخاري، كتاب الأنبياء.- يؤكد هذا الحديث أيضًا أن الكعبة لم يبنها إبراهيم وإنما جدد بناءها فقط، وأنها كانت موجودة من قبل وكانت بدايتها في زمن لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا يذكر التاريخ ذلك.ويعترف بذلك المستشرق المتعصب وليم) مویر Sir William Muir) ويقول: إننا مضطرون إلى إرجاع المبادئ الكبيرة لدين مكة إلى زمن موغل في القدم.إن المؤرخ اليوناني هيرودوس - وإن لم يذكر اسم الكعبة – إلا أنه يذكر إلها آلهة العرب الكبيرة "اللات"، وهذا دليل على أنه كان يُعبد في مكة إله كان يعتبر إلها للأصنام الكبيرة أيضا.من ثم يقول: إن المؤرخ الشهير "ديو دورس سکولس Diodorus Siculus قال وهو يتحدث عن ما قبل الميلاد بنصف قرن هناك معبد من الحجر مشيد بالجزء المحاذي للبحر الأحمر من الجزيرة العربية، وهو معبد قديم جدا، يؤمه العرب من كل مكان لزيارته.ثم يقول السيد وليم موير إن" هذه الكلمات تتعلق بالبيت المقدس بمكة، لأنه ليس هناك مكان آخر اكتسب هذا الاحترام الكبير من "العرب" (حياة محمد، ديباجة، فصل ۲، ص ۱۰۲-۱۰۳).من أما قوله تعالى (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فاعلم أن شأن الأنبياء وعظمتهم أنهم إلى جانب العمل والسعي - يشتغلون بالدعاء.الناس يعملون قليلا ويتفاخرون، ويقولون ضحينا بكذا وكذا؛ ولكن انظروا إلى سيدنا إبراهيم عليه

Page 199

١٩٦ سورة البقرة الجزء الثاني السلام فإنه أولا استعد لذبح ابنه البكر، ثم عندما كبر ابنه أخذه إلى برية لا طعام فيها ولا ماء ثم إنه رضي بموته من خلال بناء الكعبة وإبقائه في جوارها إلى الأبد.وأقول موته للأبد لأنه كان من الممكن أن يغادر إسماعيل هذا المكان إلى مكان آخر بعد رجوع إبراهيم من هناك، ولكن بناء البيت الحرام قيد إسماعيل عليه السلام حه.وكأن كل لبنة من الكعبة المشرفة كانت تقول بلسان حالها هناك فلا يبر لإسماعيل عليه السلام: الآن سوف تقضي كل حياتك في هذا البرية.ما أعظم تضحية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام! ولكن لاحظوا تذللهما الله تعالى إذ يبتهلان بعد ذلك ربنا تقبل منا يا رب جئناك بهدية متواضعة، فتغاض عن تقصيرنا، وتقبلها بفضلك ورحمتك.انظروا كيف يتضرعان ويتوسلان لله تعالى ليتقبل هديتهما! فكلمة (تَقَبَّل) من باب التفعل الذي يُستخدم تعبيرا عن التكلف والتأكيد.فكأنهما يقولان يا رب تقبل تضحيتنا هذه بمحض رحمتك، مع أنها كانت تضحية عظيمة بحيث لا نجد لها نظيرا في العالم.كان الأب يضحي بابنه، والابن بأبيه، وكانت كل لبنة من الكعبة المشرفة تقيدهما بتلك البرية التي لا ماء فيها ولا كلاً، بل إن إبراهيم بنفسه كان يدفن في بناء هذا البيت عواطفه وأحاسيسه، ومع ذلك يدعو ويبتهل إلى ربه قائلا: يا رب إن هذه الهدية لا تليق بالقبول عندك، ولكن نتوسل إليك أن تتقبلها برحمتك وفضلك.التي ما أعظم هذا التذلل الذي أبداه إبراهيم! والحقيقة أن حالة القلب هذه هي ترفع قدر الإنسان، وإلا فكل إنسان يضع اللبنات ويبني العمارة.ولكن إذا كان هناك قلب إبراهيمي عندئذ تتيسر هذه النعمة التي يسرها الله لإبراهيم (عليه السلام).فعلى كل إنسان أن يقول: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.ولكن الأسف أن الناس بدلا من أن يقولوا ربنا تقبل منا..يقولون : إن تضحيتنا لم تنل حقها من التقدير؛ أو يقولون: إن هؤلاء لا يقدروننا حق قدرنا مع أنهم لا يفعلون ما يفعلون إلا تقليدا للسابقين، أما إبراهيم فلم يقلد أحدا، وإنما قدم التضحية على غير مثال

Page 200

الجزء الثاني ۱۹۷ سورة البقرة عماد سبق؛ فما أن أمره الله بها إلا وكان مستعدا لتقديمها.إن أمثال إبراهيم هم هذا العالم، ووجودهم المبارك تميمة ضد المصائب.إنهم يقدمون التضحيات..ومع ذلك يمضون طائعين يقولون: إن تضحيتنا يا رب لا تليق بأن تقدم بين يديك، لأنك أعظم وأسمى، ولكننا نرجوك أن تتغاضى عن ذلك وتتكرم علينا بقبولها.إنك السميع..تسمع الدعوات، وإنك العليم..تعلم أن هذه التضحيات هي أقصى ما نستطيع تقديمه وإن كان ضئيلا بالنسبة لمقامك.وكونك سميعا يقتضي أن ترحمنا، وكونك عليما يكشف لك أن هذا كل ما في قدرتنا.هذه بيت هي الروح التي تحلّى بها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.وهما يرفعان قواعد الله قائلين (ربنا تقبل منا..إننا شيدنا هذا البيت خالصا لتوحيدك ومحبتك، فتقبل هذا منا بفضلك، واجعله مكان ذكر وبركة للأبد..(إنك أنت السميع العليم) تسمع ضراعتنا الحارة، وتعلم أحوالنا..فإذا قررت أن يبقى هذا البيت للأبد خاصا لذكرك فمنذا الذي يمكنه أن يغير قرارك؟ وتبين من هذه الآية أن لبناء بيت الله في الواقع جانبين: جانب يتعلق بالعبد، وجانب يتعلق بالله تعالى.فالبناء الذي نسميه "بيت الله " يُبنى من الطين واللبن، وهذا لا يصنعه الله تعالى وإنما يصنعه الإنسان، ولكن هل يصبح البناء بيتا الله لأن الإنسان بناه؟ الإنسان إنما يبني الهيكل..أما الروح فالله يلقيها فيه.ونظرا لهذه الحقيقة يقول إبراهيم: لقد بنيتُ أنا وابني إسماعيل الهيكل، ولكن بناءنا هذا لا يعني شيئا.هناك العديد من المساجد آلتي بناها الملوك والأمراء..ولكنها أصبحت اليوم خرابا مهجورة..ذلك لأن الإنسان بني تلك المساجد، ولكن الله لم يقبلها..لذلك يدعو إبراهيم وإسماعيل: يا رب لقد بنينا لك بيتا فاقبله واسكنه.وإذا سكن الله - سبحانه – في مكان فكيف يمكن أن يصير خرابا؟ يمكن أن تصبح القرى أطلالا والمدن خرابا..ولكن المكان الذي سكن فيه الله لا يمكن أن يصيبه الخراب.

Page 201

الجزء الثاني ۱۹۸ سورة البقرة رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةٌ لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (۱۲۹) شرح الكلمات: مسلمين - المسلم: المطيع؛ المنقاد (الأقرب).أمة - الأمة: الجماعة (الأقرب).أرنا الرؤية تكون بالعين والقلب، والمراد هنا كلتاهما، ولوجــود كلمـــة (مناسك) بعدها يكون المعنى: أظهر لنا أو علّمنا مناسكنا.جانب مناسك-جمع منسك وهو العبادة؛ أو كل الحقوق التي يجب أداؤها الله (الأقرب).التواب - التوبة من العبد تعنى رجوعه وإنابته بصدق القلب إلى الله.والتوبة من الله تعني رحمته على عبادة.والفرق بين التوبة والرحمة أن الرحمة بتوفيق من الله إلى الترقيات الروحانية بسبب اتجاه الإنسان إلى فعل الخيرات.أما التوبة فتدل على ترقيات روحانية بـ التخلص من المعاصي.فصفة التواب تُستخدم عموما لدفع السيئات والتقصيرات، وصفة الرحيم لخلق الكفاءات والطاقات الروحية فكلتاهما تشير إلى فعل خــــاص مستقل عن الآخر: الرحيم للارتقاء والزيادة، والتواب لتلافي النقص.كأن الإنسان عندما يتطهر من أخطائه ويتدارك نقصانه ويميل إلى الارتقاء الروحي..فإن صفة (الرحيم) تؤدي دورها.التفسير : يدعو إبراهيم ربَّه: إن عمران هذا البيت منوط بعبادك، ولكن مجرد وجود السكان لا يعني شيئا، بل المهم أن يكون المنتسبون إلى هذا البيت من الصلحاء.فندعوك نحن الاثنين أن تجعلنا مسلمين لك..مطيعين لك متمثلين لقولـك، وأن تكون من ذريتنا طائفة مطيعة لك على الدوام، ونبتهل إليك أن تدلنا على طــرق للعبادة تناسب حالتنا ذلك أن الإنسان مهما كان مخلص القلب طيب القصد..إذا لم يعرف كيف يعمر البيت فهو معرض للخطأ، لذلك يدعوان ربهما أنه لا يكفى

Page 202

۱۹۹ سورة البقرة الجزء الثاني أن تملأ قلوبنا بالإيمان فحسب بل يا رب دلنا من وقت لآخر كيف نعمر البيت، وما هو الطريق الذي نختاره للعبادة حتى ترضى عنا ويبقى هذا البيت عامرا.هـذا وفي هذا الدعاء لم يقل إبراهيم: أرنا المناسك، وإنما قال أرنا مناسكنا، والسبب أن الأحوال تتغير بتغير الزمن والمؤمن الكامل يسعى لإدراك الفرائض التي تفرض عليه بتغير الأحوال.إن اتباع طريق قديم بدون تدبر وغض النظر عن الأحوال المتغيرة لا يفيد الإنسان شيئا.والأسف أن المسلمين في هذا الزمن لم يدركوا هذا الأمر، وكانت النتيجة أنهم يؤكدون على الجهاد بالسيف فقط، مع أن الزمن لا يتطلـــب منهم جهادا بالسيف، وإنما يطالبهم جهادا باللسان والقلم إن إبراهيم يدعو ربــه: رب وفقنا لعمل صالح مناسب لحالنا واهدنا في هذا السبيل دائما.ورد في الحديث أن شخصا سأل النبي ﷺ : أي عمل أفضل؟ قال: أفضل الأعمال صلاة التهجد وسأله :آخر أي الأعمال أفضل؟ فقال الجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال.والسبب في اختلاف الجواب أن أهمية الأعمال تختلف باختلاف الأفراد.فالذي لا يقوم بالقتال جهادا في سبيل الله فالجهاد أفضل الأعمال له.والذي امتلأ قلبه بالكبر والنخوة فأفضل الأعمال له هو التواضع.والذي يؤثر النوم علــــى أداء صلاة العشاء والصبح في المسجد، فأفضل الأعمال له هو ترك الفراش وأداء الصلاة في المسجد والذي لا يقوم الليل فأفضل الأعمال له هو أداء صلاة التهجد، والذي لا يقوم بخدمة أبويه فأعظم الأعمال له هو برهما والقيام على خدمتهما.فكل خير يثقل على أحد فإن عمله هو أفضل الأعمال بالنسبة له.وكذلك كل عمل تدعو إليه الضرورة أكثر من غيره هو أعظم عمل.ففي وقت الصلاة تكون الصلاة هـــي أفضل الأعمال، وفي وقت الصوم يكون الصوم هو أفضل الأعمال.فأهمية وأفضلية أمة الأعمال تختلف باختلاف الأمم والأفراد والأزمان، فكل برّ يحتاج إلى القيام به أو فرد أو زمن هو الأفضل بالنسبة لهذه الأمة أو ذاك الفرد أو ذاك الزمن، والعمل به يجعل الإنسان محط رضوان الله.

Page 203

الجزء الثاني سورة البقرة إن إبراهيم نظرا إلى هذه النكتة يدعو ربه: إلهي، نحن ضعفاء بلا حول ولا قوة، ولا نستطيع عبادتك حق العبادة، فارحمنا ودلنا على طرق لعبادتك تناسب الحال.إننا لن نستطيع حمل هذا الثقل.وزاد في دعائه وتُبْ علينا)..أي جُدْ علينا بإلهامك الذي يدلنا على عمران بيتك.نحن عبادك يا رب، وسوف نقع في الأخطاء، لذلك نلتمس منك المغفرة، فغُــض النظر عن سيئاتنا.إنك أنت التواب الرحيم، فأنت الذي تقبل التوبة كثيرا لأنك رحيم.لقد ذكر إبراهيم صفتي التواب والرحيم لأن العبد مهما كان صالح النية في عمله فإنه مع ذلك يقع في الخطأ، وفي هذه الحالة تتداركه صفة التواب.أما إذا عمل عملا صالحا فإن صفة الرحيم تساعده وتعينه.رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (۱۳۰) شرح الكلمات : آياتك جمع آية ولها معان عديدة: ۱.آية من الإيواء آواه هيأ له ملاذا ٢.كل كلام ينتهي بفاصل لفظي مثل الآيات التي يكون في آخرها علامة انتهائها.٣.العبرة..عين الشيء وشخصه.ه.الجماعة.يقال خرج القوم بآيتهم ولم يَدَعوا وراءهم شيئا (الأقرب).٦.العلامة الظاهرة للشيء، فمثلا كلمات الكتاب آيته لأنها تدل على الموضــوع وبالجملة فكل شيء ظاهري يدل على شيء خفي فهو آية.

Page 204

الجزء الثاني ۲۰۱ سورة البقرة ويقول بعض النحويين إن أصل الآية من تأيَّا، والتأيي هو التثبت والإقامـــة علــى الشيء.فإذا كان كل شيء قائما وثابتا في مكان سُمي آية..مثل الأحجار التي تكون علامة لمرحلة في الطريق كعلامة الميل أو الكيلو متر..البناء العالي..كقوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) (الشعراء: ١٢٩) أي تجعلون على الجبال بنايات على سبيل العبث.ويدل هذا على أن البناء على رؤوس الجبال عادة قديمة وليست من بدع أوروبا.٨.الجملة من القرآن الكريم الدالة على حكم سورة كانت أو فصلا منها..العذاب - كما في قوله تعالى (وما) نرسل بالآيات إلا تخويفا) (الإسراء: ٦٠).الكتاب - لهذه الكلمة عدة معان منها: ١.الصحيفة، وهي ما يسمى في عرف العالم كتابا؛ ٢.الحكم؛.الفرض؛.الشيء الذي يُجمع مثل الكتيبة..وهو جند كبير يجمع ألوية وأمتعة وجنودا.فكلمة الكتاب في الأصل تحمل معنى الجمع والوصل.قالوا كتب القربة: أغلق فاها.وكتب الحيوان: جمع مشفريه بحلقة حتى لا يخرب الزرع مثلا، ومن هنا استخدموا لربط الحروف بالحروف كلمة الكتابة.ولفظ الكتاب يستخدم على الأكثر للدلالة على الشيء المكتوب، وإن كان يستخدم لكلام معين يمكن أن يُحفظ الأقرب).ويستشهد * أهل اللغة على هذا المعنى بقول الله تعالى (الم ذلك الكتاب)، فيقولون، قد أشير إلى "الــــم بكلمة ذلك الكتاب"، مع أنه لم ينزل ولم يكن مكتوبا، مما يدل على أن الكلام غير المكتوب يمكن تسميته كتابا.ولكن استدلال اللغويين هذا خطأ، لأن "ذلك" ليست إشارة إلى "الــم"، بل إلى سورة الفاتحة التي قد نزلت وكتبت من قبل.وعلى أي حال، سواء كانت إشارة إلى "الم" أم إلى سائر سورة البقرة أم إلى القرآن كله..فلا يُستنتج من هذا المثال

Page 205

الجزء الثاني ۲۰۲ سورة البقرة أن الكلام غير المكتوب يسمى كتابا، لأن بعض الأمور التي تكون قد قررت مسبقا تسمى بحسب هذا القرار وإن كانت لم تقع في ذلك الوقت، مثل الأب الذي يسمى ابنه عبد الرحمان..فهل يعني ذلك أن ابنه قد ولد حاملا صفة الرحمن وهـو جنين في بطن أمه؟ كلا، وإنما معنى هذه التسمية أنه عندما يكبر ســــوف يعمـــل أعمالا تعكس صفة الرحمان كذلك ورد في القرآن الكريم عن سيدنا نوح (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) (الشعراء: ۱۲۰)، وليس معنى ذلك أن الله أركب نوحا ومن معه سفينة مكتظة بالركاب من قبل، لأنه كيف يمكن أن تسع السفينة المشحونة نوحا ومن معه؟ فالمعنى أن الله أركبه في سفينة كانت ستمتلئ بركـــــوب نوح وأصحابه فيها.إذن، قد يطلقون اسما على أحد بسبب فعل سيقع منـــه في المستقبل، وكذلك الحال بالنسبة لقوله " ذلك الكتاب " ، فالإشارة ليست إلى ولا يستدل بذلك على أن كلمة "كتاب" استخدمت لشيء غير مكتـــوب بل هو إشارة إلى أن هذا القرآن سوف يصبح كتابا كاملا لأن الله تعالى قد قــــرر ذلك."I ويُطلق الكتاب على صحيفة يكون فيه كلام مكتوب كما ورد في القرآن الكـــــر: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس)(الأنعام:٨).ومن معاني كتب: قضى، كما في آية (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لن (التوبة: ٥١) (المفردات).فللكتاب عدة معان نستخلص منها ما يلي: الشيء الذي يقيمونه أو يقدرونــــه أو يوجبونه أو يفرضونه أو يقررونه كل هذه المعاني تتضمنها كلمة كتاب.الحكمة - لها عدة معان منها العدل العلم الحلم؛ ما يمنع من الجهل؛ وضع الشيء في موضعه؛ صواب الأمر وسداده (الأقرب).يزكيهم -زگاه زاده وأنماه.والإنماء على نوعين أنماه في ذاته أو زوّده بأشياء.والزكاة التطهير (الأقرب).فيعني قوله تعالى ( يزكيهم) أنه ينمــيهم، ويزودهم، ويطهرهم.ثم إن التطهير نوعان: ظاهري وباطني.

Page 206

۲۰۳ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير : ثم يدعو إبراهيم قائلا: يا رب أرسل بين القاطنين هنا رســـــولا عظيمــــا منهم.وتبين كلمة (منهم) أن إبراهيم يريد أن يقول يا رب، ببعث الرسول سوف يتعلمون كيف ينشئون صلتهم بالكعبة المشرفة ويصبحون عبـادك المخلصين الصادقين.ولكن يا رب لقد أسكنت هنا أولادي لهدفين: الأول أن يعلو اسمك، والثاني أن تكون رفعة اسمك عن طريق أولادي.إننا لم نبن بيتك فقط بـــل أيضا أسكنا أولادنا عنده، كأننا سعينا لرفع اسمك، ولكن في ذلك مصلحة شخصية لنــــا أيضا، وهي أن يُبعث من بينهم الرسول الموعود..وليس من خارجهم.قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك)..يقرأ هذا الرسول آياتك عليهم، ويجــدد إيمـانهـم بمعجزاتك، ويبين لهم البراهين والسبل لإنشاء علاقة بالله تعالى.و(يعلمهم الكتاب)..وتنزل عليه شريعتك التي لا يطهر الباطن بدونها، والتي تجعل الإنسان نموذجا كاملا للآخرين ويعلم الناس هذه الشريعة بنفسه.و (الحكمة)..وعندما يُبعث هذا الرسول الموعود يا رب..يكون العقل الإنساني قد بلغ النضج، فلا يكون الإنسان بعقلية طفل يقال له كُن وافعل، فإذا سأل لماذا..قيل له لا تسأل، بل افعل ما تؤمر.لقد حدث هذا في زمن عيسى وموسى، ولكن عندما يكون العقل الإنساني قد ارتقى لا يطيع الإنسان بدون معرفة الحكمة من أي أمر.فلا تنزل عليه صحفا كنوح، أو شريعة كموسى، أو أحكاما كداود فقط، بل نرجوك أن تبين معها الحكمة والفلسفة وراء أحكامها حتى لا يطيعوك بأجسامهم فقط، بل أيضا بعقولهم وقلوبهم..أي يعرفوا أن ما يقال لهم وراءه فلسفة ومنطق ومصالح ومنافع.ويزكيهم)..أي لا يطهر عقولهم فقط، بل بتعليمهم الحكمة يملأ قلوبهم بحبك حتى يتفانوا في ذات الله وتنعكس فيهم الصفات الإلهية، فلا يكونوا مجرد أناس فقط..بل مرايا ينعكس فيها وجود الله تعالى.وليتبع هذا الرسول طرُقًا وأساليب تؤدي إلى ازدهار أمته.(إنك أنت العزيز الحكيم..يا رب، نحن ندرك أن ما سألناك يبدو مستحيلا بعيد المنال في الظاهر، ولم يحدث هذا قط منذ أن خلقت الدنيا، ولكننا نعرف جيدا أنك

Page 207

٢٠٤ الجزء الثاني سورة البقرة إله عزيز، ما شئت كان ولا ريب، هذا هو شأن ألوهيتك.فأنت القادر على فعل ذلك وإن لم يكن قد وقع من قبل.لذا نسألك أن تبعث هذا الرسول الذي تتحقق على يده كل هذه الأمور.الله الإنسانية أبناء من الممكن أن يعترض أحد ما دام الله لم يرسل مثل هذا الرسول من قبل، فلماذا يبعثه الآن؟ ولو كان بعث رسول كهذا ضروريًا من قبل فلماذا ظلم بعدم بعثه؟ لقد دحض ذلك بقوله تعالى العزيز الحكيم..أي أنه يعرف أن مثل هذا الرسول لم يكن ليُبعث من قبل..لأن الناس لم يكونوا ليتحملوا تعاليم محمد فبقول (أنت العزيز الحكيم) استثار إبراهيم غيرة الله تعالى، وقال إن مسألتنا معقولة لأننا ندرك أنك قادر على تحقيقها كما لا نقول إنك ضننت بذلك على الناس بخلا —معاذ الله، بل نعرف أن حكمتك اقتضت ذلك، لأن بعثه لم يكن يناسب الحال.نرى في هذا الدعاء أمرا عجيبا آخر..ذلك أن إبراهيم قال (ابعث فيهم رسولا) ولم يقل (رسلا)..مع أنه تلقى عن ذريته نبأ واضحًا يعرف منه أنه سوف يُبعث بينهم عديد من الرسل..فلماذا يدعو الله ببعث رسول واحد من إسماعيل؟ ويتبين من ذلك بجلاء أنه كان قد انكشف بالوحي لإبراهيم تماما أن النبي الذي يكون خاتم النبيين والذي تنتهى بكتابه وحده كل الشرائع..سوف يبعث من بني إسماعيل.لقد رأيت أن المنشقين عن جماعتنا عندما يسمعون مني كلمات كهذه يقولون: انظروا إنهم أيضا يؤمنون بأن هناك رسولا واحدا فقط.إننا لم نرفض قط أن محمدا رسول الله ﷺ هو الرسول الوحيد الذي لا تنقطع نبوته يوم القيامة..بل إنما نعتبر نبوة مؤسس جماعتنا – الإمام المهدي والمسيح الموعود نبوة تابعة لمحمد الله، وظلا لها، والظل لا يكون شيئا مستقلا عن أصله.فليس هنا الآن حكم جديد ولا تعليم جديد ولا أمر جديد ولا هدى جديد، تعليمه هو هو، وهدايته هي هي والأحكام التي جاء بها هي هي كما جاء بها وكما وردت في القرآن الكريم.تماما.لو كنا نعتبر المسيح الموعود نبيا مستقلا لاقتضى ذلك أن يكون كل شيء جديدا، ولكن الأمر الواقع أن كل ما عندنا هو نفس ما أعطاناه إلى 6

Page 208

٢٠٥ سورة البقرة الجزء الثاني سيدنا محمد.وكل ما حدث هو أن الناس كانوا قد نسوا تعاليم المصطفى و لم يكونوا عاملين بها، لذلك أرسل الله بروزا لمحمد ﷺ فنبوته ليست نبوة مستقلة، وإنما في الحقيقة نبوة محمد.ولو دعت الحاجة إلى بعث العديد من النبيين من هذا النوع فلا حرج في ذلك، لأنهم لن يأتوا بدين جديد، وإنما يعملون لإحياء دين محمد رسول الله ﷺ.وهنا ينشأ سؤال: ما دام إبراهيم قد أدرك أن نبيا سوف يبعث بينهم، فلماذا دعا مثل هذا الدعاء؟ وكما ذكرت فيما سبق أن السعي لتحقيق أنباء الله في حد ذاته عمل حسن، وأول شيء يقوم به الإنسان لتحقيق نبأ هو أن يتجه إلى الدعاء، ثم يبذل سعيه الدنيوي لتحقيقه.الحمقى يظنون أن على الإنسان الكفَّ عن بذل المجهود بعد وعد من الله، مع أن الإنسان مطبوع على أن يبذل قصارى جهده لتحقيق ما يريده حبيبه.ولما كان أنبياء الله على علاقة حب عميقة معه عز وجل، فإنهم يبذلون كل جهد لتحقيق كلامه، لكي تظهر آيته فلا محل للاعتراض على دعاء إبراهيم بعد أن تلقى هذا النبأ من الله تعالى، بل إن دعاءه هذا دليل على أنه عاشق صادق لربه.فبغض النظر عن أن الله قادر مطلق القدرة على تحقيق ما يريده بنفسه..دعا: يا رب، ابعث منهم رسولا عظيمًا.أقول عظيمًا لأن التنوين هنا للتعظيم؛ فالتنوين يأتي أحيانا للتعظيم وأحيانا للتحقير.وهذا الدعاء في رأيي يبين أن إبراهيم وإن كان يدرك أن كثيرا من الأنبياء سوف يبعثون من ذريته، ولكنه كان يتمنى أن يبعث الرسول الأخير الذي يكون سبب نجاة العالم من بني إسماعيل وليس من بني إسحاق، لأن بني إسحاق يكونون قد نالوا من النبوة إلى ذلك الوقت نصيبا كافيا.إن الكتاب المسيحيين يعترضون عموما على هذا الجانب من دعاء إبراهيم قائلين إنه يوجد أي ذكر في التوراة أن الله قطع وعدا مع إبراهيم في حق ذرية إسماعيل، ولو ثبت وجود وعد كهذا، فأي دليل أن محمدا من ذرية إسماعيل؟ فلنتذكر أن دراسة التوراة تكشف أن بن إسحاق كانوا يكنون كراهية شديدة تجاه إسماعيل وذريته.ويقال إن سبب ذلك أن جدة بني إسرائيل السيدة سارة كانت لا

Page 209

٢٠٦ سورة البقرة الجزء الثاني تكره السيدة هاجر وإسماعيل وليس ببعيد أن ينتقل أثر هذه الكراهية في نسلها، ولذلك أخذ إبراهيم زوجته هاجر وابنهما إسماعيل إلى مكان ناء وتركهما هناك.تقول التوراة: (ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح.فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية وابنها.لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق)(تكوين٩:٢١، ۱۰).وشقَّ هذا القول على إبراهيم أول الأمر، ولكن الله قال له (لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك.في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها).(المرجع السابق : ١٢)..أي لا يشق عليك قولها، بل نفذ ما طلبته منك.وتتبين كراهية بني إسحاق وبني إسماعيل من هذا النبأ التوراتي بشأن إسماعيل: (يده على كل واحد ويد كل واحد عليه) (تكوين ١٢:١٦).فسبب هذه الكراهية بين بني إسحاق وبني إسماعيل، وبسبب التحريف الذي تعرضت له التوراة..إذا لم يوجد أي نبأ واضح في حق إسماعيل وذريته..فليس من العدل أن نرفض شهادة قرآنية على هذا السبب وحده.وكما نستطيع القول —بناء - على شهادة التوراة إنه كان هناك وعد مع بني إسحاق، كذلك نستطيع القول – بناء على شهادة القرآن الكريم - إنه كان هناك وعد مع بني إسماعيل أيضا.ولو لم يسلّموا بذلك فإننا نجد في التوراة إشارات تبين أن نسل إسماعيل أيضا سوف يرثون نعما خاصة ونرى أن الكلمات التي وردت في التوراة في حق بني إسحاق نفسها وردت في حق بني إسماعيل، حيث قيل وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه.ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا.اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة) (تکوین: ٢٠:١٧).وقيل عن إسحاق ابن سارة: فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون (تكوين (١٦:١٧.فلا بد لنا إذن من التسليم أنه كما اعتبر بنو إسحاق ورثة لنعم الله كذلك كان بنو إسماعيل ورثة لمثل تلك النعم.ولو قيل إن إسحاق ورد في حقه ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت في السنة الآتية (تكوين (۲۱:۱۷ ، وأن هذا معناه أن الأنبياء يُبعثون من بني إسرائيل فقط..فهذا لا يصلح كدليل معقول، لأنه حتى قبل ولادة

Page 210

الجزء الثاني ۲۰۷ سورة البقرة إسحاق كان الله قد قطع عهدا مع إبراهيم واشترط أن تكون علامة هذا العهد هي الاختتان تكوين (۱۷:۱۱ ونرى أن إبراهيم ختن إسماعيل أيضا (تكوين ٢٥:١٧).فلو كان هذا العهد في حق إسحاق وذريته فقد لاكتفى إبراهيم بختنــــه لأن العهد كان مقطوعا معه، واكتفى بختن عبيده لأنه أُمر بذلك، أو اكتفى بخـــتن إسحاق.لماذا ختن ابنه إسماعيل البالغ ثلاثة عشر سنة ؟ هناك سبب واحد لـذلك أن هذا الوعد كان ليتحقق في ذريته أيضا.فاختتان إسماعيل دليل واضح على أنه أيضا كان من أولاد إبراهيم، وكان من المقدر أن هذا الوعد في حقه أيضا.ونجد عادة الختان موجودة على الدوام في بني إسماعيل، وهذا دليل على أن الاختنان لم يكن لإسماعيل وحده وإنما أيضا لذريته.إذن، فهذا العهد الذي قطع في حق بني إسحاق كان أيضا في حق بني إسماعيل.وهو يتم أما عن قول (عهدي أقيمه مع إسحاق فإنه نظرا إلى الظروف والقرائن الأخرى - يعني أن بداية هذا العهد الأبدي سوف تكون ببني إسحاق.وبالفعـــل نـــــرى أن العهد الذي قطع مع إبراهيم في ذريته بدأ تحقيقه في بني إسحاق.لكن نجد في التوراة عهدا في حق إسماعيل أيضا، لأنه أمر أيضا بالاختنان كما يتبين من فقرة (وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين خُتن في لحم غرلته) (تكوين ٢٥:١٧.كما كان هناك في حق إسماعيل وعد بالبركة أيضا (وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه.ها أنا أباركه وأكثره كثيرا جدا) (تكوين ٢٠:١٧) (...سأجعله أمة عظيمة) (تكوين ۱۸:۲۱).فكان من الضروري أن يشترك إسماعيل أيضا في هـذه البركة، وإن لم يكن مشتركا في الوعد الخاص بوقوع أرض كنعان في يـــد بـــني لأن ذلك الوعد كان سيتحقق مع بني إسحاق فقط.إلا أن اليهود والنصارى يظنون خطأ أن عهد البركة كان خاصا بــبني إسحاق وحدهم، مع أن العهد الإبراهيمي كان له جانبان جانب مُجمل وجانب مفصل.فالعهد المجمل أنني سوف أبارك ذريتك، والمراد من الذرية إسحاق و إسماعيل كليهما.والعهد المفصل أيضا ذو شقين: عهد لإسحاق وعهد لإسماعيل.والعهد لإسحاق أنه سوف يحكم كنعان نسلا بعد نسل.أما إسماعيل فتقول التوراة فقــــط إبراهيم،

Page 211

۲۰۸ سورة البقرة الجزء الثاني إن الله وعد في حقه أنه سوف يباركه ويثمره ويكثره كثيرا جدا.كيف تحقق وعد البركة هذا في حق إسماعيل؟ لا تجيب التوراة على هذا السؤال، ولكن الجواب موجود في القرآن الكريم الذي يقول إن الله وعد إبراهيم أنه سوف يعطى إسماعيل وذريته الحكم على مكة وما حولها، وأنه تعالى سوف يحمي بلدهم المركزي مـــــن الأعداء دائما، وأنهم سوف يحكمون على تلك المنطقة كلها ماديا وروحيا، هجوم وأنه سوف يبعث من ذريته رسولا عظيما يكون سبب هداية للعالم كله.فمن الخطأ القول إنه لم يكن أي وعد بالبركة في حق بني إسماعيل.إن الشهادة الداخلية للتوراة نفسها تبين أنه كان هناك وعد بالرقي لبني إسماعيل، وكـــان مـــن الضروري أن يتم في حق بني إسماعيل كما تحقق في حق بني إسحاق.أما سؤالهم: افترضنا أنه كان هناك وعد في ذرية إسماعيل...فأي دليــل علـــى أن محمدا كان حقا من ذرية إسماعيل؟ فجوابه الأول أنه ليس ثمة دليل على انتمــاء شخص كبير إلى شعب معين إلا الروايات المتداولة بينهم جيلا بعد جيل.هل هناك أي دليل على أن شخصا فلانا هو من شعب كذا إلا روايات هذا الشعب بأنه منه؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الداعي لرفض بيان العرب في هذا الشأن؟ كانت قريش تدعي قبل بعث النبي ﷺ أنهم من بني إسماعيل.وكان العرب كلهم يسلمون بذلك، بل كانوا صنعوا تمثالا لإسماعيل ووضعوه في الكعبة.فأي شك بعد ذلك في أن قريشا من بني إسماعيل؟ لم يكن لإسماعيل أي صيت دنيوي حتى يُظن أن بعض القبائل العربية انتمت إليه لتنال حظا من هذا الصيت.فكيف يمكن أن نرفض دعوى قوم استمرت فيهم منذ القرون..وخاصة أنه ليس لديهم أي دافع ليدعوا بهذا الادعاء؟ والجواب الثاني على كون قريش من بني إسماعيل هو أنه لو كان هذا الادعاء مــــــن اختلاقهم.فأين بنو إسماعيل الحقيقيون ليردوا ادعاءهم ويرفضوه؟ لا نجد أي قـوم رفضوا دعوى قريش هذه.والجواب الثالث: ورد في التوراة أن الله وعد أن يجعل من إسماعيل شعبا كبيرا (تکوین ۲۰:۱۷)..فأين ذلك الشعب الكبير الذي وعد في نسل إسماعيل.هــذا

Page 212

منهم ۲۰۹ سورة البقرة الجزء الثاني النبأ يتطلب أن يُعرف ذلك الشعب، وإلا فلا دليل على تحقق هذا النبأ.فما دامت قريش تدعي بكونها بني إسماعيل فلا بد من قبول دعواها.فكلا الاعتراضين خطأ، والحق أن الله تعالى وعد بوعود كبيرة لذرية إسماعيل أيضا.وما دام بنو إسحاق قد صاروا فساقا فكان من حق بني إسماعيل خاصة أن يبعــــث ذلك النبي الذي دعا من أجله إبراهيم.الواقع أن دعاء إبراهيم هذا يتضمن الفرائض والواجبات التي تقع على أنبياء الله - عليهم السلام.كل نبي جاء إلى العالم كان من واجبه أن يتلو على الناس آيات الله، ويعلمهم كتاب الله، ويبين لهم حكمة شريعة الله، ويزكيهم.وكان على محمد ﷺ أن يقوم بأداء هذه الواجبات نفسها، ولكن الله تعالى لم يكتف – استجابة للدعاء الإبراهيمي يبعث رسول عظيم من بني إسماعيل ليحقق كل هذه الأهداف الأربعة، بل بعثه أسمى وأفضل من سائر المرسلين مقاما..إذ أدّى هذه المهام الأربع بأسلوب متميز لا نجد نظيره عند أي نبي.والحق أن هذا هو الكوثر الذي وهب الله تعالى لمحمد.أذكر أن بعض الإخوة طلبوا مني أن أعلمهم القرآن في زمن الخليفة الأول لسيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام فبدأت من سورة البقرة، وعندما وصلت إلى قول الله تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.(.) ألقي في قلبي كومضة البرق أن هذه الآية مفتـاح المواضيع هذه السورة كلها، وأن باقي السورة كلها شرح لهذه الآية، بل إن هذه المواضيع وردت في السورة بنفس ترتيب العناصر المذكورة في دعاء إبراهيم.ثم فتح الله عليَّ أمرا آخر إضافيا..وهو أن سورة الكوثر جواب لهذا الدعاء الإبراهيمي.ولقد ذكرت كل هذه الأمور بالتفصيل في تفسير سورة الكوثر.وقوله تعالى (يتلو عليهم آياتك) يتضمن نبأ ويشرح آية أخرى من القرآن الكريم..وهي اعتراض الكفار لولا) نزل عليه القرآن جملة واحدة) (الفرقان (۳۳).فكلمة (آياتك) في الدعاء الإبراهيمي تشير إلى أن كلام الله سوف ينزل على ذلك النبي قطعة قطعة تنزل آيات فيتلوها على الناس ثم تنزل آيات فيتلوها على الناس.

Page 213

الجزء الثاني ۲۱۰ سورة البقرة وهذا يبين أن إبراهيم قد أخبر كيف سينزل كلام الله عليه، فلن ينزل جملـــة واحدة، وإنما ينزل شيئا فشيئا.والحكمة من نزول القرآن بهذه الكيفية التدريجية هي أنه إذا نزلت الشريعة كلها دفعة واحدة لكانت حملا ثقيلا مفاجئا يسبب القلق للإنسان، فيقول كيف أستطيع الوفاء بكل هذه المتطلبات جملة واحدة؟ ولكن نزوله قطعة قطعة يسهل عليه العمل بما نزل، فيمضي في الرقي تدريجيا.ومن معاني الآية: العلامة وبناء على ذلك يعني قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك) أنه يُطلع الناس على علامتك.وفي هذا إشارة ضمنية إلى أنه يقدم لهم كلاما يرون بــه الله تعالى.لقد قال القرآن الكريم عن الله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (الأنعام: ۱۰٤ ) ، أي أن العيون لا يمكن أن تصل إليه، ولكنه يصل إلى أهل الأبصار بكلامه فمعنى قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك) أنه يخبر الناس بعلامات يعرفون بها وجود ويقدم أدلة تتجلى بها ذات الله لهم.وهذه الأدلة على نوعين: العقلية والإعجازية.فالمعنى أنه يخبر الناس بأمور عقلية ينالون بها معرفة الله تعالى، ويقدم لهم المعجزات والآيات التي تنزل من عند الله.ومن معاني "الآية" العذاب، وبناء على ذلك يمكن أن يستنبط من قوله تعالى (يتلو عليهم آياتك أنه يخبر قومه بأنباء العذاب.الله ومن معاني "الآية" البناء العالي.فيعني قوله تعالى أن في تعاليمه ارتقاء تدريجيا مثل ما يُبنى البناء طابقا فوق طابق بالتدريج، وأن تعليمه يتضمن أسباب رقي عظيم للمؤمنين.وقوله تعالى (يعلمهم الكتاب يعني أنه يأتيهم بتعليم سوف يحرر ويُكتب.لأن من معاني الكتاب لغة ما يُذكر فيه المسائل المختلفة مرتبة مبوبة.ونجد أن القرآن هـو الكتاب الوحيد الذي وصل للصحابة عند وفاة النبي الله في سوره مكتوبة ومحررة، وأن المسلمين وحدهم الذين يحق لهم بين الأمم كلها الادعاء بأن كتابنا القرآن وصلنا في صورة محفوظة مكتوبة دائما وبلا انقطاع منذ البداية وحتى يومنا هـــذا، وهذه الخصوصية لا توجد في أي كتاب سماوي آخر، فليس هناك كتاب سمـــاوي

Page 214

۲۱۱ سورة البقرة الجزء الثاني وصل إلى أهله في هيئة مكتوبة، بل جمع بعضها بعد مئات السنين ولو كان بعضها - على سبيل الافتراض - في صورة مكتوبة في وقته فإن كل كلمة منه لم تكن وحيًا كما هو الحال في القرآن.إن العلماء لم يتكلموا عن التوراة أبدا من حيث تشكيل الكلمات، أما القرآن فأنهم يتحدثون عن كل حركة وسكنة فيه، وضبطوا شكل كلماته بكل دقــة، بـل يتباحثون في مواقع الوقف عند القراءة.فالآية تعني أن ذلك الرسول يعلمهم كتابـــا سوف يُكتب في حياته، ويبقى محفوظًا.ومن معاني (الكتاب) ما يجمع الأشياء، فيعني قوله تعالى (يعلمهم الكتاب) أن ذلك الرسول يأتي لهم بتعليم يشمل كل أنواع العلوم والهداية، ويكون جامعا لكل مــا يتعلق بالأخلاق والحضارة والدين والاقتصاد وما إلى ذلك.بشرع ومن معاني (الكتاب الفرض فيعني قوله تعالى (يعلمهم الكتاب أنه سيأتي لهم يكون فرضًا على الناس أن يعملوا به وكأن كل الأمور الضرورية لتكميل.الحياة الروحانية سوف تُذكر في كتابه للناس.ومن معاني (الكتاب) الحكم.هناك بعض الأوامر هي قطعية، وتبقى على حالها في كل صورة مثل الصلاة، ولكن هناك بعض الأوامر التي تتغير بتغير الظروف، مثلا تقول الشريعة الإسلامية إنكم إذا وجدتم المصلحة في إنزال العقوبة بمخطئ أو معتدٍ فعاقبوا، وإذا رأيتم المنفعة في العفو فاعفوا.فالأوامر التي لا تتغير هـــي الفرائض، وتلك التي تتغير بحسب الضرورة هي الأحكام وتسمى أحكاما لأنها من الحكمة، وقد خيّر فيها الإنسان ليفكر بنفسه بحكمة ويعرف ماذا يفعل وكيف يتصرف عندئذ.وفي حالة الفرائض لم يترك الله للمرء أي خيار ولم يكل الأمر فيها لأحد، وعلــى سبيل المثال حدّد الله الركعات لصلاة الفرض وليس للإنسان أن يزيد عليها أو ينقص منها، ولكن ترك أمر النوافل للإنسان ليؤديها حسب التوفيق.ونظرا لهذا الفرق بين الفرض والحكم يمكن أن يعني ويعلمهم الكتاب) أنه سيأتي بكتاب جامع لكل الأحكام سواء كانت مفروضة إلزامية أو اختيارية تطوعية.

Page 215

الجزء الثاني هو أنه ۲۱۲ سورة البقرة ومن معاني الكتاب ،القدر، فيعني قوله تعالى ( ويعلمهم الكتاب أن ذلك النبي يعلمهم مسألة القدر والقضاء الإلهى.والحق أننا لو تدبرنا لوجدنا أن القرآن الكريم الكتاب الوحيد الذي يهيئ لنا علما صحيحا عن قضاء الله وقدره.أما الكتب الأخرى فإنها إما تميل بالإنسان ناحية الجبر أو إلى القدر، ولكن القرآن هو الذي بين لنا الجبر والقدر بيانا صحيحا.وللأسف أن من بين المؤمنين بالقرآن من صار قدريا أو جبريا، مع أن المذهب الصحيح هو بين هذا وذاك.لقد سمعت بنفسي من الإمام المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام أننا بقدر ما تدبرنا علمنا أن عقيدة القدر ترفع الأمن، وكذلك عقيدة الجبر أيضا ترفع الأمن.فلو أخذ المرء بعقيدة القدر فقط لصار تاركا للدنيا، ولم يستطع التقدم في الخيرات، ولو اعتنق عقيدة الجبر لظن أن كل ما يقوم به من عمل إنما يجبره الله عليه، وعندئذ لن يعاف ارتكاب السيئات والمعاصي..لأنه ينسب عمله وما يقع فيه إلى الله تعالى.فالعقيدة الصحيحة بين الطرفين.ومثال أعمال الإنسان كحصان مربوط بحبل طويل..يظن حر ويجري ويمرح، ولكن آخر الأمر يصاب بهزة فيتوقف.وكذلك الإنسان مقيد ومخير.إنه مقيد ومخير بحدود.فالذي لا يفهم القيد ضال، والذي لا يفهم الخيار ضال أيضا.وهذا العلم إنما يناله الإنسان من القرآن وحده.وقوله تعالى (والحكمة).من معاني الحكمة العدل..فالمعنى أن ذلك النبي ســــوف يعلمهم العدل، وتكون تعاليمه مبرأة من الظلم تماما.ومن معانيه أيضا أنه سوف يأخذ بالعلم إلى الكمال.هناك بعض الشرائع التي تصدر الأوامر فقط ولا تمنح العلم والحكمة وراء الأمر فهي تقول افعل أو لا تفعل كذا ولا تبين السبب في هذا الأمر أو النهي.مما لا شك فيه أن الشرائع السابقة كانت تتضمن أحكاما لها حكم، ولكن لم تذكر تلك الحكم في كتبها.ولكن الله تعالى يقول إن القرآن الكريم فيه تعاليم مصحوبة بحكمتها.إنه يأمر بالصلاة ويذكر الحكمة وراءها، وينهى عن السرقة ويذكر السبب في هذا النهي، ولا يكتفي بقول: لا تكذبوا ولا تظلموا، بل يذكر النهي بالسبب ويبين الحكمة، فهو يجمع بين الأمر والعلم والحكمة.

Page 216

الجزء الثاني ۲۱۳ سورة البقرة ومن معاني الحكمة الحلم..أي الانتباه إلى المناسبة والمحل في فعل الشيء، وهذا يختلف عن العلم بعض الشيء.فالعِلم يخبرنا أن نفعل شيئا أو لا نفعله، ولكن الحلم يدلنا أن نفعل كذا في مناسبة وأن نفعل كيت في مناسبة أخرى.فيعني قوله تعالى (والحكمة أنه يدلنا على الحكمة وراء الفرائض، أما الأوامر التي لم تفرض على نمط معين وإنما تتغير بتغير الظروف فإنه يدلنا فيها على سبيل الحلم والعقل، ويخبرنا أن نفعل كذا في هذه المناسبة ونفعل كيت في تلك المناسبة.ومن معاني الحكمة أيضا النبوة، فيكون معنى قوله تعالى (والحكمة) أنهـــم ســوف يحصلون على مقام النبوة عن طريق ذلك الرسول.(ويزكيهم).ذكرنا في شرح الكلمات أن التزكية هي الزيادة..فيكون المعنى أنه يزيد عددهم سوف يكون لكلامه تأثير غير عادي، فيقبل عليه الناس ويؤمنون به، وسوف يكون دينه غالبا على الأديان الأخرى.لذلك قال النبي ﷺ في حديث لـه "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم " (أبو داود، كتـاب النكــــاح).والولود هي التي تلد كثيرا، والودود شديدة الحب.أي سوف أتفاخر على الأمـــــم الأخرى بكثرتكم يوم القيامة.فزيادة العدد سواء كانت بالتناسل أو بـالتبليغ والدعوة يندرج تحت معاني (يزكيهم).ثم إن تعليم الإسلام يتضمن أساسيا المبادئ التي لو عمل بهــا المسلمون لحقـــــوا ازدهارا ماديا أيضا بصورة غير عادية.فمثلا من تعاليمه الهامة (خذ مـــن أمـــوالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: ۱۰۳)..أي يا محمد، خذ من أبناء أمتك مالا وطهرهم به.وزدهم هذا المبدأ الذي أقامه الإسلام لا يوجد في أي كتاب سماوي آخر، وإنما هو الإسلام الذي فتح صندوقا ماليا قوميا، والهدف منه تقوية مساعدة الفقراء وتمكينهم من الوقوف جنبا إلى جنب مع الأثرياء في سباق الرقي.ومن مصارف هذا الصندوق المؤلّفة قلوبهم، ولا يعني ذلك أن يعطى الناس المال ليدخلوا في الإسلام، وإنما معناه أن يزود أتباع الأديان الأخرى الراغبون في معرفــــة الإسلام بالكتب والمنشورات ويساعدوا في هذا السبيل ليعرفوا الحق؟

Page 217

٢١٤ سورة البقرة الجزء الثاني ومن مصارف هذا المال المساكين أي الذين لا يستطيعون كسب المال ويمثلون عبئا على الآخرين.عندما يوجد أمثال هؤلاء في أمة يتعود الآخرون على السؤال برؤيتهم، وهكذا تزول الغيرة منهم.ولو كان هناك صندوق لمساعدتهم ما بقيت في أفرادها عادة السؤال.ويأمرنا الإسلام بقضاء حاجة الناس قدر المستطاع من قبل النظام الإسلامي، ويوجب سد حاجات هؤلاء المساكين بغير أن يسألوا، وعدم تهاون مع الذين يتسولون بدون ضرورة.ولولا ذلك لا يمكن تزكية الأمة.وليس المسكين مَن لا مال عنده فقط، بل أيضا المسكين من يعرف حرفة، ولكنه لا يملك مالا لشراء الأدوات والخامات للاشتغال بحرفته.فمن الضروري مساعدة هؤلاء الأشخاص بالمال وتوفير الأدوات لهم ولوازم العمل في مهنتهم.كذلك يجب تفقد أحوال الأيامى وحاجاتهم.كل هذه الأمور تندرج تحت قول الله تعالى (ويزكيهم) لأن هذا يمكن أبناء الأمة من الازدهار.ثم يراد بالتزكية الطهارة الخارجية لما ورد في الأحاديث من النهي عن إلقـاء القاذورات في الطريق، والتبول في الماء الراكد، والتبرز في الأماكن الظليلة حيــث يستريح الناس والأمر بالوضوء للصلاة، والاغتسال يوم الجمعة، وإزالة الوسخ من الملابس، وتنظيف الأنف والأذن وقص الأظافر والشعر والنهي عن حضور المسجد بعد أكل طعام ذي رائحة كريهة لما في ذلك من إيذاء للآخرين (الترمذي، الطهارة، ومسلم الطهارة والجمعة والمساجد والبخاري الجمعة والاستئذان والأطعمة).6 ومن معاني التزكية الطهارة القلبية.وقد قدم الإسلام في هذا الصدد أيضا تعليما ساميا.ثم هناك الطهارة الأخلاقية وفيما يتعلق بالأخلاق فإن الإسلام قد أكد عليها كثيرا، وأمر باجتناب الغيبة والنميمة والتحاسد والظلم والخيانة في التجارة، وأمر بتسوية الحساب وضبط المعاملات تحريريا، ونهى عن التعامل بالربا، وأمــــر بكتابة القروض، وبأداء الدين في ميعاده المقرر.

Page 218

۲۱۵ سورة البقرة الجزء الثاني فقد تضمَّن القرآن الكريم كل الأحكام الضرورية المتعلقة بتزكية النفس وتفاصيلها، فقام بتزكية الأعمال والعواطف والأفكار الإنسانية.وهذا لا نجد له مثيلا في أي دين بالعالم، مما يشكل دليلا قويا على تحقق دعاء إبراهيم (عليه السلام).دعا إبراهيم ربه أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، فاستجاب الله دعاءه وبعث محمدا رسول الله ﷺ من أولاد إسماعيل، فقام بكل ما تمناه إبراهيم في دعائه.لقد قال النبي ﷺ أنا دعوة أبي إبراهيم) (مسند أحمد ابن حنبل، ج٤، ص ١٢٧).وبذلك بين بنفسه أنه ذلك الإنسان الذي بعثه الله تعالى لإصلاح الناس استجابة لدعوة أبيه إبراهيم (عليهما السلام).فهذا دعاء عظيم يحمل برهانا كبيرا على صدق الإسلام ونبيه محمد.إنك أنت العزيز الحكيم)..ذكرت هنا صفتان من صفات الله تعالى..هما العزيز والحكيم، ذلك لأن جزءا من دعاء إبراهيم يتعلق بصفة العزيز، والجزء الآخر يتعلق بصفة الحكيم.فقوله (يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب) متعلق بصفة العزيز، فالإله العزيز الغالب هو الذي يصل إلى عباده ويتداركهم لأن العبد بجهوده الذاتية لا يستطيع أن يصل إلى الله، ثم إن من حق الإله الغالب العزيز أن يُصدر الأوامر والأحكام.أما قوله تعالى..والحكمة ويزكيهم فيتعلق بصفة الحكيم، لأن الحكيم هو الذي يعلم الآخرين الحكمة والتزكية أيضا تتم بالحكمة، فلو أراد أحد فرض أوامره بدون ذكر الحكمة وراءها فإن القلب لا يطيعها، وإنما تطيع القلوب وتتأثر إذا عرفت الحكمة وراء الأوامر ولا تتم التزكية إلا إذا تأثرت القلوب.الأهداف الأربع التي هي فرض أيضا على الخلافة الإسلامية: بيان الأدلة، هذه هي • وتعليم الشريعة، وتعليم أحكام القرآن والحكمة وراءها ليتجدد الإيمان ويزداد، والسعي للتطهير البدني والقلبي، وهي الواجب على جميع العاملين في مختلف فروع الجماعة من دعاة وأمراء ورؤساء وأمناء.وما لم يضع الإنسان هذه المقاصد الأربعة نصب عينيه لا يمكن أن يتحقق الغرض من تأسيس جماعتنا.لقد فصلت هذه الأمور في خطاب بعنوان "منصب الخلافة " عندما توليت هذا المنصب، لينتبه إليها الجميع، فلا يحتاجوا لتوجيه السؤال مرارا عن الخدمة التي يمكن أن يسدوها للجماعة، ولكن

Page 219

الجزء الثاني ٢١٦ سورة البقرة قليل ما هم الذين انتبهوا لذلك.فعلى الإخوة الذين عندهم الشوق والحماس لخدمة الدين أن يقرءوا هذا الخطاب ويعرفوا واجباتهم.إن أفضل خدمة يمكن أن يقدموها أن يحققوا هذه الأهداف الأربعة.هذا هو العمل الذي من أجل تحقيقه النبوة والخلافة ،والإمامة وهذا هو العمل الذي يقوم به النبي ثم الخلفاء من بعده والتابعون والذي يسعى لتحقيق هذه الأهداف يُدخل نفسه في زمرة أنصار للجماعة يقيم الله هي الله تعالى.الربط والترتيب: إيذانا بأن الموضوع الذي بدأ من الآية (٤١) موشك على الانتهاء كــــره الله في الآيتين (١٢٣ و ١٢٤)، وقال: انظروا لقد وفّينا بوعدنا وفضلناكم على الناس، ولكن هكذا كان شكركم لهذه النعمة، والآن لن يُبعث النبي منكم، بل عليكم أن تؤمنوا بهذا النبي، وإلا لن تنفعكم شفاعة ولا غرامة إذا نزل بكم العذاب.وفي الآية (۱۲٥) بين أن حرمان بني إسرائيل من النبوة كان بحسب هذا العهد نفسه الذي قطع مع إبراهيم في ذريته.وفي الآيتين (۱٢٦ و ۱۲۷) ردّ على سؤال نشأ بناء على حرمان بني إسرائيل من (١٢٦و) النبوة، وهو من أي أمة يُبعث النبي الآن؟ فقال: من بني إسماعيل، ولذلك ذكرهم بحادث بناء الكعبة الذي اشترك فيه إسماعيل مع إبراهيم، وقاما بدعوات كثيرة لا يمكن أن تضيع.ثم في الآيات (۱۲۸-۱۳۰) ذكر تلك الأدعية وفصل الأعمال التي يقوم بها الذي دعا إبراهيم لبعثه، وبذكر تلك الأدعية أشار أن إبراهيم قــد دعــا لتقــدم وازدهار بني إسماعيل كما دعا لتقدم بني إسحاق.فعندما حُرم بنو إسحاق لسوء أعمالهم من نعمة النبوة..كان من حق بني إسماعيل أن ينالوا بعدهم نعمة النبوة، وكان من الضروري أن يُبعث النبي منهم، وهكذا حدث.

Page 220

الجزء الثاني ۲۱۷ سورة البقرة وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (۱۳۱) شرح الكلمات سفه سفه نصيبه نسیه سفه نفسه: حملها على السفه؛ أهلكها؛ جهلها (اللسان).وورد في الحديث: البغى من سفه الحق..أي من جهله (مسند ابن حنبل ج ١ ، ص ٤٢٧ ).اصطفيناه -اصطفاه: اختاره ؛ أخذه صفوة (المنجد).فمعنى اصطفيته: قربتــــه إلي بسبب أعماله الحسنة.الصالحين الصالح: الذي فيه صلاحية.هناك فرق بين الأعمال الحسنة والأعمال الصالحة، الأعمال الصالحة هي المناسبة للحال، مثلا الصلاة عمل حسن، ولكنها لا تكون عملا صالحا إذا كان الحال يتطلب ضرب العدو وإنما العمل الصالح عندئذ هو الاشتغال بدفع العدو.فالصالح الخير المناسب للظروف.إن السيئة أحيانا تكون مناسبة للظروف ولكنها ليست حسنة، لذلك لا يقال لها عمل صالح.فالصالح يتطلب شرطين أن يكون خيرا، وأن يكون مناسبا للحال.التفسير : بهذه الآية ذكر الله مثال إبراهيم بدلا من مثال محمد.لأن الكلام موجــه إلى قوم فيهم اليهود والنصارى أيضا، وما كان مثال محمد ليأتي بالنتيجة المرجـــــوة لأنهم ما كانوا يؤمنون به، ولكن مثال إبراهيم يكون عليهم حجة، لأن العــرب واليهود والنصارى والصابئين كلهم يؤمنون بإبراهيم.فكان من الضروري أن يكون المثال لشخص تحترمه الفرق كلها على السواء.وكان إبراهيم أنسب مثال، لأنه كان ذا مكانة كبيرة ليس عند العرب وحدهم وإنما عند اليهود والنصارى والصابئين أيضا.يقول الله مخاطبا العرب واليهود والصابئين أن الحري بكم أن تختاروا طريق إبراهيم، وتؤمنوا بمن أرسله الله حَكَمًا، وتَدَعوا التعصب والتحيز والنعرة القومية مثلما ترك إبراهيم لله تعالى كل ما له، وعندئذ يتيسر لكم التقرب من الله تعالى.

Page 221

۲۱۸ سورة البقرة الجزء الثاني ومن محاسن اللغة العربية أن تغيير حرف الجر مع الفعل يأتي بالمعنى المضاد له.فعبارة (يرغب إلى تعني يحب ويشتاق، (ويرغب عن) تعني ينفر ويبتعد ويُعرض.والحـــــق أننا لو تدبرنا بعمق وجدنا أن العواطف المغايرة تنبع من منبع واحد، وشكله المغاير إنما يدل على اختلاف في الكيفية والأسلوب وليس على اختلاف في الحقيقة.إن الرغبة والكراهة في الحقيقة عاطفتان من نوع واحد والاختلاف هنا فقط في كيفية ظهور العاطفة.ولنأخذ الرغبة مثلا، فعندما يرغب الإنسان في شيء يتجــه إليـه ويقترب منه، وفي نفس الوقت يبتعد عن غيره..وهذه الكراهية.كأن هي الرغبة هو الحب ومنبع الإعراض أيضا الحب.كذلك الشجاعة والجبن فدافعهما حماية النفس، فعندما يهاجم الإنسان شيئا يكون الدافع حماية نفسه، وعندما يفر من العدو فأيضا لحماية نفسه منه، ولكن الأسلوب في كلا العملين مختلف.فباستخدام (عن) و (إلى) أشار إلى أن كثيرا من العواطف تصدر من منبع واحد والاختلاف فقط في كيفية التعبير عن هذه العاطفة.منبع من معاني سَفِهَ نَسي، فمعنى قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أنه لا يُعرض عن دين إبراهيم إلا من أغمض عينه كلية عن مصالح نفسه.والحق أن ترك الإنسان سنة الأنبياء لا يضر الأنبياء شيئا وإنما يضره هو.يمكن أن ينتفع الإنسان بالابتعاد عن ملك ظالم ، ولكن الذي يترك ملكا عادلا لا يضر الملك وإنما يضر نفسه، لأنه حرمها من عدل الملك وخيره.كذلك الإنسان الذي لا يتبع الأنبياء ولا يتأسى بأسوتهم فإنما يضر نفسه، لأنه يُحرم من تلك المنافع التي تنــــال باتباعهم.لقد ذكر الله من قبل النموذج الذي قدمه إبراهيم حيث نجح في الابتلاءات والاختبارات ولبى كل دعوة من الله تعالى، حتى إذا قيل له: اصحب ابنك وزوجتك واتركهما في برية ليس فيها قطرة ماء ولا حبة غذاء..قام بلا أدنى تردد أو شكوى، وقطع مسافة مئات الأميال، وترك أهله وابنه في واد غير ذي زرع، ورجع بنفسه.وبعد عرض هذا النموذج الإبراهيمي العظيم الشأن يقول الله تعالى : كل من يعرض عن هذه السنة الإبراهيمية ولا يقوم بالتضحيات التي يطالب بها في سبيل الله..ويظن أنه أحسن إلى نفسه وأنقذ ماله من التلف، وصان أولاده

Page 222

الجزء الثاني ۲۱۹ سورة البقرة من الهلاك، وجنَّب أحاسيسه وعواطفه من المعاناة؛ ولكن الحق أنه قد نسي مصالح نفسه.ومن معاني (سفه نفسه) حملها على السفه، فمعنى قول الله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)..أن دعاء إبراهيم عن بعث نبي عظيم يتضمن كنوز رحمة عظيمة للعالم، فمن لا يكترث بهذا الدعاء ولا يؤمن بمحمد الذي هو مصداق لهذا الدعاء فإنه يرتكب حمقا وغباء لا نظير لهما، ذلك أنه غير مستعد للانضمام إلى نظام رائع لتلاوة آيات الله وتعليمها وترويج كتابه ولبيان ما وراء أحكام الله من حكم وضرورات، ولإصلاح أفكار الناس وأعمالهم وتزكية نفوسهم.ومن أعرض عن هذا كله فلا يحرم نفسه من تعاليم سامية تنفعه في الروحانية فحسب، بل إنـــه يهمل أيضا التوجيهات والتعاليم التي ترفع مستوى الإنسان في سياسته واقتصاده وحضارته وأخلاقه، كما أنه يغفل عن فلسفة الأحكام فلا يُصلح فكره وعملـــه.فهل يقال عمن يعرض عن هذا النظام إلا أنه يرتكب حماقة كبرى؟ ومن معاني سفه نفسه أهلكها وأوبقها، فالمراد من قوله تعالى (ومن يرغب عـــــن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أن المعارضين لمحمد رسول الله..سواء من مشركي مكة أو من اليهود والنصارى..عليهم أن يتذكروا أنهم إذا لم يؤمنوا بهذا النبي الذي جاء مصداقا لدعاء إبراهيم، وأهملوا الأهداف من بناء الكعبة، وأغمضوا النظر عن الغرض من مكوث هاجر وإسماعيل في مكة..فسوف يهلكون أنفسهم..بمعنى أنهم فضلا عن إهلاك أنفسهم بحرمانها من هذه التعاليم السامية فإنهم يهلكونها بإيقاعها في عذاب الله..كما فعل أبو جهل، فإنه إذا لم يعمل بتعاليم الإسلام حرم من فضل الله تعالى، وهذه نتيجة طبيعية للكفر.ولكن كانت هناك نتيجة شرعية للكفر رآها بنفسه إذ عاقبه الله فمات ذليلا مهانا بأيدي غلامين أنصاريين في غزوة بدر (البخاري، كتاب المغازي).ومن معاني سفه جهل..فيعني قوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) أنه لا يعرض عن ملة إبراهيم إلا الذي يريد أن يبقـــى جــاهلا بالحقائق السامية.أي أن هذا التعليم العظيم الشأن النازل نتيجة للدعاء الإبراهيمي يصقل

Page 223

۲۲۰ سورة البقرة الجزء الثاني المؤهلات الكامنة في الإنسان ويرفعه إلى أعلى درجات النجاح.فلا يمكن أن يرفضها إلا الذي هو عدو لنفسه ويريد أن يبقى جاهلا بهذا التعليم السامي.ولكن الذي لا يريد أن يتأخر عن غيره في سباق الرقى لا يمكن أن يتخلى أبدا عن مثل هذه التعاليم..لأن تركها يعني إبقاء النفس في حالة من الغفلة والجمود.وذلك كما حدث مع منكري سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود في هـذا الزمن، إذ يوجد بهم جمود وعدم إحساس بصفة عامة.يقولون: نحن نصلي ونصوم ونخــرج الزكاة ونتصدق..ومع ذلك لماذا لا نحظى بلقاء الله؟! مع أن حالهم هـو عـنـدما يقفون للصلاة داعين اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم يوقنون أن أبواب كل الرقى مسدودة في وجوههم.وعندما يفكر الإنسان مثل هذا التفكير..فكيف يمكن أن يتولد فيه وهو يصلى ويدعو حماس وخشوع يوصله إلى الله؟ عندما يذكر عندهم إبراهيم يقولون: أنى لنا أن نشترك في النعمة التي نزلت على إبراهيم؟ وعندما يذكر إسماعيل يقولون : كيف يمكن أن ينعم الله علينا بما أنعم به على إسماعيل؟ وعندما يذكر إسحاق يقولون: كيف يمكن أن يقدر الله لنا النعم التي أنزلها على إسحاق؟ وعندما يذكر داود وعيسى وموسى يقولون: كيف يمكن يتيسر لنا من نعم الله ما تيسر لهم؟ فكلما يرون خيرا يقولون لا يمكن أن يكون لنا نصيب منه.إذن كيف يمكن أن يتولد في قلوبهم الحماس وقت الدعاء؟ ولكن سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام رفعنا إلى مقام بحيث إذا ذكر أمامنا أحد أنبياء الله فإننا نقول: يمكن أن يهبنا الله كل النعم التي وهبها لهم، وإن أبواب مراتب القُرب التي نالها الأولون مفتوحة أمامنا أيضا.فنحظى بنعمه، بينما لا ينفك معارضونا محرومين من نعم الله التي نحظى بها.فيقول الله هنا أن الهدي النازل استجابة لدعاء إبراهيم يستثير قــوى الإنسان، ويرتقي بالنفس الإنسانية إلى أعلى مراتب الرقى.إنه لا يعلم بأن الإنسان ولد آلما، بل يقولا إنه حُبل بفطرة صالحة، وخُلق للتقدم في الخير، ولذلك يوجد في قلب كل مسلم رغبة في أن يكون صالحا ويتقدم في الصلاح، ويزداد قربـــا إلى الله تعالى.ولكن إذا اعتقد الإنسان بأنه خُلق آثما فإنه يصبح ميتا، ويقول: لا حاجة لعمـــل أن

Page 224

۲۲۱ الجزء الثاني سورة البقرة صالح.ولكن الله تعالى يقول: لا يمكن أن يستغني الإنسان عن هذا التعليم، لأن فيه منافع وفوائد كثيرة، ولا يعرض عنه إلا الذي يجهل حقوق نفسه ومصالحها.وبقوله تعالى (ولقد اصطفيناه في الدنيا بين أن إبراهيم كان ذا صفوة وحظوة عنده سبحانه تعالى، وكان عبدا مختارا ذا فضيلة وقرب لديه.(وإنه في الآخرة لمن (الصالحين وسيكون في الآخرة من عباد الله الذين يعملون في الجنة أعمالا مناسبة للحال.ويُستنبط من ذلك بوضوح أن الجنة أيضا مكان عمل، وليس كما يتصور عامة المسلمين بأن الإنسان في الجنة يبقى عاطلا من العمـــــل منهمكا في الأكل والشرب.ولو كان الأمر كما يقولون لقال الله تعالى إن إبراهيم سينال من الحور العين كذا، ومن أطايب الطعام والشراب كذا، ولكنه بدلا من ذلك "إنه في الآخرة لمن الصالحين "..ويتبين من ذلك أن الإنسان يعمل صالحا في الآخرة أيضا.فهل يتصور أحد أن إبراهيم لن يصلي في الآخرة – والعياذ بالله؟ أو أنه لن يكون في قلبه الرغبة للتقرب إلى الله في تلك الحياة؟ فلا بد إذن أن تكون الآخرة أيضا حياة عمل وستبقى أبواب قرب الله مفتوحـــــة هناك كما هي مفتوحة هنا.إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (۱۳۲) شرح الكلمات أسلمت أسلم: انقاد؛ تدين بدين الإسلام؛ سلم أمره الله (الأقرب).التفسير : عموما يتعدى الفعل (أسلم) بحرف (إلى)، ولكنه هنــا تعــدى بحرف (اللام)، ويرى المفسرون أن (اللام) هنا بمعنى (إلى).ولكني لا أرى هذا القول صحيحا، وذلك لأن إبراهيم رد على قول الله (أسْلِم) بقوله (أسلمتُ)..وهذا يتضمن تلقائيا انقياده الله تعالى، لأنه ما كان لينقاد إلا لله فقط.فلم تأت (اللام) هنا ليظهر انقياده الله تعالى، وإنما الحق أنه بين سبب إسلامه فقال: إنني لم أسلم نف لربي ولا أطيعه لمنفعة شخصية..وإنما أفعل ذلك لأجل رب العالمين، لكي أنالــــه،

Page 225

۲۲۲ سورة البقرة الجزء الثاني لأنه محسن لي ولكل العالمين، ولا أحب أن أبقى بعيدا ومنفصلا عنه.وكأن هذا موضوع زائد بينه بقوله (لرب العالمين).لقد أمره الله (أسلم)..أي يا إبراهيم..لا آمرك فقط ألا تسجد لصنم، وإنما أريدك أيضا أن تسخّر خطرات قلبك كلية في طاعتي فأجاب على الفور: أسلمت لـــرب العالمين.يا رب إن كل ذرة من كياني فداء لك.إن عقلي وعملي وذكائي رهن إشارتك، وكل قواي مسخرة في سبيل رب العالمين.كأنه قال: إن حياتي ليست لي، وإنما هي وقف للعالم كله، وأن الشفقة على كل الخلق هي ضمن برنامجي مــا دمت مظهرا لصفة (رب العالمين) فلن أهمل خلقه أبدا، ولن أطلب الخير لنف فقط وإنما أطلبه للإنسانية جمعاء.وبقوله (أسلمت) أشار إلى أن كل ذرة من كياني وروحي فداء من قبل الله، فيا رب عاملني كما شئت.وبقوله (لرب العالمين) بين أني وقفتُ نفسي لكل العالم.لأني مظهر للصفة الإلهية رب العالمين).ولما كان سيدنا إبراهيم حائزا على مقام أسلمت لرب العالمين دعا قائلا: (ربنا ابعث فيهم رسولا منهم.لم يكن إبراهيم مبعوثا للعالم كله ولذلك التمس يا رب ابعث من ذريتي في المستقبل رسولا عظيما لخير الدنيا كلها حتى يستفيد منه خلق رب العالمين.وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (۱۳۳).التفسير : يقول الله تعالى إن كلا من إبراهيم وحفيده يعقوب وصى أبناءه وأكـــد عليهم ألا يجعلوا خيرهم محصورا في ذاتهم أو أمَّتهم، بل يوسعوا دائرته ليشمل العالم.والمراد من (الدين) في قوله تعالى اصطفى لكم (الدين) هو خطة عمل الخير الإنسانية جمعاء.وكأن إبراهيم وصى حتى أولاد أحفاده أن يجعلوا أنفسهم مظاهر الصفة الإلهية رب العالمين، وألا يحرموا أمة من الأمم من خيرهم ونصحهم.

Page 226

الجزء الثاني ۲۲۳ سورة البقرة قوله تعالى فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون له معنيان: الأول أن تبقوا دائما في حالة الإسلام الإنسان لا يعرف وقت الموت..لذلك من واجبكم أن تظلوا مطيعين الرب العالمين على الدوام ؛ فتعيشوا في انقياد تام له حتى إذ جاءكم الموت وجدكم في حالة طاعة كاملة لله.والثاني- أن تنشئوا مع الله علاقة قُرب بحيث لا يرضى بهلاككم، فلا يميتكم إلا وقد أصبحتم مؤمنين كاملين من أهل رضوانه.لقد صرت يتبين من القرآن الكريم أن كل إنسان يمر بحالات من القبض والبسط.فحينـــا يستغرق في حب الله استغراقا ينسيه الدنيا، وحينا آخر ينهمك في الأمور الدنيوية انهماكا ينسيه ربَّه، ورد في الحديث أن شخصا جاء النبي ﷺ وقال له يا رسول الله ت منافقا.قال: كيف؟ قال: يا رسول الله، عندما أكون عندك أصير في حالة روحانية عالية، وعندما أرجع إلى البيت أكون في حالة دون ذلك.قال: لا تخف، لو أن الإنسان بقي في حالة واحدة من الروحانية السامية لأهلكته".الحق أن للقبص والبسط درجات مختلفة.فحالة القبض لدى المؤمن الكامل كحالة البسط عند المؤمن الأدنى منه درجة والأنبياء أيضا يمرون بحالة من القبض والبسط، ولكن القبض لدى الأنبياء يكون بمثابة البسط لدى الصديقين.ويشير الصوفيون إلى ذلك في قولهم: "حسنات الأبرار سيئات المقربين" أن (تشييد المباني في تخريج أحاديث مكتوبات الإمام الرباني، ص٣٤).وهذا يعني ما يعتبره الناس حسنة يُعتبر عند الخاصة الكُمَّل في الروحانية سيئة، وأن ما يُعتبر سيئة لدى المتوسطين يُعتبر حسنة عند من هم أدنى منهم درجة.وما دام الإنسان يمر بهاتين الحالتين ولا يعرف وقت الموت لذلك قال إبراهيم: عليكم أن تزدادوا قربا "وأقرب حديث لما ورد في التفسير هو " عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَتَّى كَأَنَا رَأْيَ الْعَيْنِ فَقُمْتُ إِلَى أَهْلِي وَوَلَدِي فَضَحِكْتُ وَلَعِبْتُ.قَالَ فَذَكَرْتُ الَّذِي كُنَّا فِيهِ، فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: نَافَقْتُ نَافَقْتُ، فَقَالَ أَبُو بَكْر : إِنَّا لَنَفْعَلُهُ، فَذَهَبَ حَنْظَلَةُ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا حَنْظَلَةُ لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتَكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشكُمْ أَوْ عَلَى طُرُقِكُمْ.يَا حَنْظَلَهُ سَاعَةً وَسَاعَةً" (ابن ماجة، الزهد)

Page 227

الجزء الثاني من ٢٢٤ سورة البقرة الله، فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم أفضل حالة من القرب، ولا يأتيكم ملك الموت لقبض أرواحكم إلا وأنتم على صلة صادقة بالله تعالى.أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٤).شرح الكلمات : آبائك الأب : الوالد.يُسمّى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا.ويسمى العم مع الأب أبوين، وكذلك الأم مع الأب، وكذلك الجد مع الأب (المفردات).التفسير قوله تعالى (إذ حضر يعقوب (الموت أسلوب للكلام لا يعنى حالة النزع والغرغرة، وإنما يعني عندما اقترب موته..وإلا فإن الإنسان لا يستطيع الكلام وقت النزع..عندما تبدأ غرغرة الموت تؤثر على حواسه..وإن كانت مدتها تقــــل أو تطول بعض الأحيان.وقد قال النبي الله ( إن الله عز وجل ليقبل توبة العبد مــا لم يغرغر) (الترمذي، أبواب الدعوات)..أي قبل حالة الغرغرة والنـــــــزع يمكــن أن تقبل توبة الإنسان لأنه عند غرغرة الموت تختل الحواس.وهذه الغرغــــرة علــى نوعين: البدائي والحقيقي.وكان سيدنا المهدي يقول : إن أبانا كانا قويـــا جـــدا، وعندما بدأت غرغرة موته قال: غلام أحمد هذه هي الغرغرة.وبعد بضع دقائق أسلم الروح.فقوله تعالى (إذ حضر يعقوب (الموت يعني اقترب أجله ووقت موته.وقوله تعالى (إذ قال.(.) بدل من (إذ حضر..وكأن المعنى: عندما رأى يعقوب وقت موته قريبا وصى أبناءه وقال لهم ما تعبدون بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإلـه آبائك.

Page 228

۲۲۵ سورة البقرة الجزء الثاني لقد اعترض المسيحيون على هذه الآية قائلين بأن إسماعيل لم يكن من آبـاء بـــني يعقوب وإنما كان عما لهم، فلماذا ذكره القرآن ضمن (آبائك)؟ ولكن اعتراضهم دليل على جهلهم الشديد باللغة العربية، فكلمة (الأب) تستخدم للعم أيضا.ولكنهم ما داموا لا يقرءون القرآن إلا بنية الاعتراض عليه لذلك يثيرون الاعتراض على كل شيء، ولا يرون أن هذا دليل على عماهم هم.وهنا ينشأ سؤال: ما داموا قد قالوا نعبد إلهك فلماذا أضافوا (إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا)..مع أن معبود د اليهود هو معبود إبراهيم وغيره؟ الحكمة في هذا التكرار أن ذات الله تعالى غيب وراء كل غيب.لا يمكن أن يراها الإنسان.إننا نستخدم الله كلمات رب رحمان رحيم ولكنها لا تكفي لتقديم حقيقة كاملة واضحة لذات الله.عندما يريد الإنسان توضيح أمر يسلك طرقـــا مختلفة، فمثلا حينما يريد ذكر إحسان من محسن يقول : لفلان علي يد.ثم يشرح إحسانه ونعمته عليه، وكيف أحسن، وبماذا أحسن إليه.كذلك فإن جمال الله وجلاله يتم ظهورهما بتجليات مختلفة عديدة..فمنها ما ظهر على إبراهيم، ومنــها ما ظهر على إسحاق، ومنها ما ظهر على إسماعيل.فرأى أولاده ذكـــر آبــائهم ضروريا، وقالوا: إننا واقفون على تجليات الله التي ظهرت على هؤلاء.لقد شاهدنا حياة إبراهيم، والتجليات التي ظهرت عليه، كما رأينا ما ظهر على إسماعيل وعلى إسحاق من تجليات.وهكذا يذكرون علمهم التفصيلي عن الله ويقولون: هل يمكن أن نكفر بالله بعد رؤية كل هذه التجليات.ومثل ذلك ما حدث عند فتح مكة إذ أمر النبي بقتل هند زوجة أبي سفيان أينما وجدت لأنها حرّضت على قتل كثير من المسلمين.ولكنها كانت امرأة ذكية، إذ اختفت متنكرة وسط السيدات اللاتي جئن ليبايعن رسول الله ﷺ.وعندما اشترط عليهن النبي ألا يشركن بــالله قالــت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه (تاريخ الطبري، السنة الثامنة، فتح مكة)..أي هل نشرك بالله بعد كل هذا؟ كنت وحيــــدا وقــــام العرب جميعا في وجهك، ولقد خالفناك وعارضناك وبذلنا كل ما في وسعنا لمحاربتك، ورغم كل هذا أفلحت ونجحت ولم تغن عنا أصنامنا شيئا، فهل نشرك

Page 229

٢٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني بالله بعد كل هذه الآيات البينة.كذلك أجاب أولاد يعقوب.كان ما صدر مـــــن بعضهم مع يوسف يدل على عدم إيمانهم كما كانت عبادة الأصنام شائعة في مصر، لذلك سألهم أبوهم في آخر حياته كنتم تطيعوني وتتبعونني في حياتي..فأخبروني الآن..ما هي نيتكم بعد وفاتي؟ فقالوا: لقد تقوّى إيماننا الآن، وقــــد ظهرت علينا كل هذه التجليات الإلهية، فكيف يمكن أن نترك الله وعبادته؟ كنــــا جهالا عندما عادينا يوسف وألقيناه في البئر ، أما الآن فلا يمكن أن نرتكب هذه الحماقة مرة أخرى.قوله تعالى (إلها واحدا) بدل من (إله آبائك).لأنهم ذكروا الله مضافا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وقد يُساء الفهم ويظن أن الآلهة متعددة، ولإزالة سوء الفهم هذا قالوا (إلها واحدا وقد يكون إلها واحدا حالا من المفعول به (إلهك)..أي حال كونه إلها واحدا.إن الإله سيكون واحدا وإن تعددت تجلياته.والحق أن في هذا القول تنبيها لليهود إلى أن يعقوب أوصى قبل وفاته بعبادة إله واحد، ومع فإنكم —ذريته تعبدون اليوم أهواءكم.قوله تعالى (ونحن له مسلمون يبين أن كل عابد صادق في عبوديته الله مسلم عنــــد القرآن ذلك أن يعقوب قال (لا) تموتن إلا وأنتم مسلمون)، وقال أبناؤه (ونحن له ذلك ذلك مسلمون)..وتم هذا الحوار حينما لم يكن النبي ﷺ قد بعث بعد، ويتبين من بوضوح أن التابع الصادق لأي دين سماوي كان ،مسلما ولذلك كان الأتباع الصادقون للأديان السابقة الذين عملوا بتعاليمها بإخلاص..كلهم في نظر القرآن مسلمين، لأن كل من يؤمن بالله ورسول زمنه يصبح مسلما.ولكن هناك فرق بين أولئك المسلمين وبين المسلمين من أمة محمد.فهؤلاء لم يكن اسمهم مسلمين، ولكننا أمة محمد ﷺ ننادى باسم المسلمين كعلم لنا.كان أبناء الأمم السابقة مسلمين من حيث الطاعة والانقياد لله بلا شك، ولكنهم ما كانوا يستخدمون وصف مسلم اسما لهم وما كانوا ينادون به أما أمة النبي محمد ﷺ فإنهم مسلمون من حيث الطاعة والانقياد ومن حيث الاسم الذي ينادون بـه أيضا.والسبب في ذلك أن الأديان السابقة كانت معرضة للنسخ، وما كان اسم الإسلام

Page 230

الجزء الثاني ۲۲۷ سورة البقرة لينسخ أبدا، لذلك أطلق اسم الإسلام كعلم على أهله حتى لا يقع الفساد و الاختلال؛ ولا يسمى بالمسلمين إلا اتباع دين باق إلى يوم القيامة.الحق أن الله تعالى لا يطلق على أحد اسما إلا إذا كان مقدرا أن يبقى الاسم إلى الأبد.فمثلا لم يوهب أحد من الأنبياء شرف وجود اسمه في كلمة الشهادة سوى نبينا محمد لا شك أن بعض المسلمين قد اخترعوا من عندهم شهادات تتعلـق بالأنبياء السابقين "لا إله إلا الله عيسى روح الله " أو "لا إله إلا الله موسى كليم الله " أو لا إله إلا الله آدم صفي الله "، واختلقوا لهذه الشهادات روايات أيضا (دعاء كنج العرش، أي دعاء كنز العرش، ص ١٤ و ١٥) ولكن الحقيقة أنه لم يكن لأحد من الأنبياء منذ آدم إلى عيسى - عليهم السلام – أي كلمة للشهادة.هناك كلمة واحدة للشهادة هي تلك التي قدمها النبي..أي "لا إله إلا الله - محمد رسول الله "، ولو كان قد أضيف اسم نبي إلى اسم الله من قبل هكذا ثم أزيل لكان في هذا إساءة، ولذلك لم يُقرن باسم الله تعالى إلا اسم محمد رسول الله..لأن المقدَّر أن يبقى اسم محمد هكذا إلى يوم القيامة.على كل حال فإن من سنة الله تعالى أنه لا يهب لشيء اسما إذا كان من المقدر أن يُمحى هذا الاسم.ولما كانت أمة المصطفى ﷺ قدر لها أن تبقى ليوم القيامة لذلك سماها الله أمة مسلمة.كذلك أطلق الله على تعاليم المصطفى اسما وهو القرآن، أما الكتب السماوية مثل التوراة والإنجيل وغيرهما فلم يسمها الله باسم من عنده، وإنما هي أسماء من وضع الناس.نعم، لقد ذكرها الله بنفس هذه الأسماء في القرآن ولكن لا حجة في ذلك على أن التسمية من الله.فمثلا ذكر القرآن اسم الصحابي أن الله سماه زيدا عند مولده، وإنما سماه بهذا الاســـــم أبــــواه، "زيد "، وهذا لا يعني وذكره الله بنفس هذا الاسم لأنه كان معروفا به.ثم أن عدم تسمية اتباع الأديان السابقة بمسلمين يرجع أيضا إلى أن الدين الكامل هو الذي يستحق أن يعطى هذا الاسم.فلما جاء ذلك الدين الذي هـو أفضل كماله أطلق الله عليه اسم الإسلام ليشير اسمه إلى غايته وغرضه بما الأديان بسبب فيه الكفاية.

Page 231

۲۲۸ سورة البقرة الجزء الثاني ويعترض القسيس المسيحي ويري Wherry على هذه الآية قائلا إن محمدا قــــد ادعى فيها بأن السابقين من الأمم كانوا تابعين لدينه ثم يأتي القسيس بحجج كثيرة ليدحض بها هذا الادعاء الذي هو اختلاق من عنده (تفسير ويري للقـــرآن، ج ١ تحت هذه الآية).الحق أن ويري قد خدع نفسه.فالإسلام لا يقول إن هؤلاء الأوائل كانوا يعملون بنفس الأمور التفصيلية الموجودة في الإسلام وإنما يقول إن هؤلاء كانوا في وقتهم أتباعا صادقين لأديان صادقة.وهذا ما لا يمكن أن يرفضه أي إنسان سليم العقل.أما تسمية "مسلمون فلم" تطلق كعلم إلا على أمة محمد دون غيرها.وبقى سؤال: هل قام يعقوب بهذه الوصية أم لا؟ وما الدليل عليها؟ أولا - إنه ليس من واجبنا تقديم الدليل على ذلك من التوراة.وثانيا – من البديهي المعروف أن كل رجل صالح ينصح أولاده بمثل هذه النصائح ويوصيهم بالعمل بها، وخاصة الوصية قبل الموت للأولاد أمر شائع نشاهده في حياة آلاف الناس.وثالثــــا - إن هذه الوصية كانت ضرورية ليعقوب لأن أولاده كانوا قد تعثروا من قبل، والآباء يهتمون بأولادهم إذا تعثروا من قبل فينصحونهم قبل الوفاة، لذلك كان هذا الأمر منطقيا وفطريا لا يُنكر.ولو كان سيدنا يعقوب قد قام بهذه الوصية فعلا لم يكن من المتوقع أن يحتفظ بنــــو إسرائيل بها في التوراة؟ إن هؤلاء الذين أبغضوا سيدنا إسماعيل لدرجة أنهم يتحينون الفرص للطعن في بني إسماعيل..كيف يتوقع منهم أن يتركوا في التوراة ذكـــــر إسماعيل وبنيه بخير؟ ورغم أن كتبهم ليست بمناجاة من التحريف والتشويه بأيدي الناس إلا أننا نجـــد لهذه الوصية آثارا باهتة قد هيأها المسيحيون أنفسهم.فهناك العديد من المسيحيين الذين قاموا بترجمة معاني القرآن الكريم منهم، "رودويل "، فقد كتب في هامش ترجمة للقرآن الكريم أنه ذكر في "مدراش رباه "وهو جزء من التلمود في شرح تكوين، إصحاح ٢:٤٩: أنه عندما غادر أبونا يعقوب هذه الدنيا جمع أبناءه الاثني عشر وقال لهم : أصغوا لقول أبيكم إسحاق.هل في قلوبكم العلماء Rodwell

Page 232

۲۲۹ سورة البقرة الجزء الثاني أية شبهة حول إلهكم القدوس؟ فقالوا : اسمع يا إسرائيل أبانا، كما ليس في قلبـك أدنى شبهة كذلك ليس في قلبنا لأن ذلك السيد هو إلهنا وهـو واحـد (ترجمــــة رودويل للقرآن ج ١ ص ٣٥١ تحت هذه الآية).فواقعة جمع يعقوب لأولاده، ووصيته لهم، وإقرارهم بإله واحد ثابتة في التوراة، وإن لم يرد بكل التفاصيل.وهذا هو الفارق بين القرآن المجيد والتوراة، مما يزيده عظمة.فبرغم من نزوله بعد التوراة بتسعة عشر قرنا يبين التفصيل الصحيح لهذا الحادث في حين أن التوراة لم تفعل ذلك مع أن الحادث من زمنها.تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٥).شرح الكلمات : خلت خلا مضى.يقال خلا الشيء أو الزمان مضى (المفردات).وخلا فلان: مات (للسان).خلت ماتت؛ انفضت ؛ صارت إلى الخلاء..وهي الأرض التي لا أنيس فيها.التفسير: يظن الناس عموما أن أعمال آبائهم سوف تغنيهم وتفيدهم كانوا صلحاء فنحن أولادهم سوف نكن معهم في الآخرة.ولكن الله تعالى يدحض هذا الظن فيقول إن أعمالهم كانت معهم وأعمالكم معكم..ولا تسألون عما كـــــان يعمل آباؤكم، وإنما تسألون عما كنتم تعملون أنتم.لو كنتم مسئولين عن أعمالهم أمكن أن تكتب لكم النجاة..ولكن السؤال الذي سوف يوجه إليكم: ماذا كنتم أنتم تعملون؟ فقال الله تعالى (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)..أي أن أعمالكم الحسنة هي التي سوف تفيدكم، أما أعمالكم السيئة فلا تكتب في أعمالهم.لـــن تسألوا عما كان إبراهيم وإسحاق وغيرهما يفعلون، وإنما تسألون عما كنتم أنتم تعملون.

Page 233

۲۳۰ سورة البقرة الجزء الثاني ولا يعني قوله تعالى (ولا تسألون عما كانوا يعملون أنكم لا تسألون عما ارتكبه آباؤكم من ذنوب، وإنما يعني أنكم لن تسألوا عما كانوا يأتونــه مــن الأعمــال الحسنة، بل تسألون عن أعمالكم الذاتية، لذلك لا تظنوا أن نجاتكم متوقفة على أعمال أسلافكم.وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (١٣٦) شرح الكلمات : حنيفا الحنيف: المائل عن الشيء؛ والمائل عن الضلالة إلى الهــدى (المفردات)؛ والحنيف: المستقيم؛ الصحيح الميلان إلى الإسلام (أقرب المارد).وهناك معنى آخر ثابت من القرآن الكريم وهو الذي يؤمن بالرسل كلهم، لأن الله تعالى يذكر بعد هذه الآية مباشرة (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ومـا أنـــزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلى قوله تعالى.وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).وقد ذكر ابن كثير قولا لأبي قلابة، وهـو أن الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم (تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية).ولا أدري من أين استدل على هذا القول، ولكن استدلالي من الآية التالية.التفسير: يقول الله تعالى إن اليهود يدعون أنه إذا صار الإنسان يهوديا نجا، ويدعي النصارى أنه إذا كان الإنسان مسيحيا نجا..ولكن الفئتين كلتيهما على خطأ، بل الحق أن الإنسان لا يفوز بالنجاة إذا اعتنق اليهودية أو النصرانية، وإنما تتوقف نجاته على ملة إبراهيم.ولم يقل الله هنا أن نجاة الإنسان متوقفة على أن يُدعى إبراهيميا، لأن ذلك يكون مثل ادعاء اليهود والنصارى بالانتساب إلى دين مــا..ولكن النجاة الحقة أن يتبع الإنسان طريق الهداية، وهذا ما كان يفعلـه إبراهيم، ملته..إذ كان دائما مطيعا لأوامر الله تعالى.أن يتبع وهذه هي

Page 234

۲۳۱ سورة البقرة الجزء الثاني الواقع أنه تتسرب إلى أذهان أتباع أي دين من أديان العالم زمن انحطاطهم فكرة أن النجاة متوقفة على الانضمام إلى هذا الدين أو ذاك، ولكن هذه الفكرة خاطئة، لأن النجاة متوقفة على فضل الله تعالى، وطريقة جذب هذا الفضل الإلهى هو الطاعة الله.هناك إمكانية النجاة في دين صادق ما دام الانضمام إليه يؤدي إلى طاعة الله، أما إذا لم يؤد إلى طاعة الله فلا مكان للنجاة عن طريقه.لذلك عنف الله اليهود والنصارى الذين كانوا يؤكدون بأن من أراد الهداية فعليه أن يدخل في دينهم..فقال لهم: هل مجرد الانضمام إلى دين ما يؤدي إلى النجاة؟ كلا، بل إنما النجــــاة تتوقف على أن يتبع الإنسان ملة إبراهيم، وكانت طريقة إبراهيم أنه كان يُسلم إلى كل أمر يأتيه من الله ويقبله.هذا هو دين إبراهيم، واتباع هذا الدين فريضة علــــى كل من يحترم إبراهيم.لقد ذكر من معاني (الحنيف) أنه ذلك الذي يكون مائلا عن الضلالة إلى الهــــدى، والحنيف أيضا من يحب الإسلام ويفديه بكل شيء، ويوجه كل اهتماماته إلى الله.وقد ذكرنا قول أبي قلابة المفسر الكبير وهو من التابعين أن الحنيف هو من يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، ولا يرفض أحدا منهم.إذن فقوله تعالى (ملة إبراهيم حنيفا يبين أن إبراهيم كان حائزا على مقام من العبادة والطاعة بحيث إن مجرد تصور الضلالة لم يكن ليتطرق إليه أدنى تطرق وإنما كان دأبه الطاعة الكاملة والاستسلام التام لأوامر الله تعالى.: ثم قال وما كان من (المشركين)، وبهذه الجملة المضافة إلى قوله (حنيفا) أي من يؤمن بكل رسول ألقى الضوء على حقيقة أن الذي يقفل باب الإلهام والنبوة والرسالة ويتوقف عند مقام فإنه في الحقيقة مشرك..لأن أنبياء الله كمرآة تعكس صفاته، وعن طريقهم يتجلى التوحيد الحقيقي في العالم.التوحيد لا يعني فقط أن يعتبر الإنسان الله تعالى واحد أحدا، بل إن أهم مقومات التوحيد أن يؤمن الإنسان أن الله تعالى وحيد فريد في جميع صفاته، ولا شريك له من المخلوق في هذه الصفات والحق أنه عندما ينقضي زمن

Page 235

الجزء الثاني ۲۳۲ سورة البقرة طويل على بعث نبي فالذين يقرون بالتوحيد أيضا يقعون في أنواع الشرك، ويختفي عنهم الوجه الحقيقي لله تعالى كما كان الحال عند بعث سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام.فالمسلمون كانوا يؤمنون - بوحدانية الله تعالى، ولكنهم مع ذلك كانوا يعتقدون بأن المسيح الناصري – عليه السلام قادر على أن يحيي الأموات ويخلق الطيور، ويعلم علـ الغيب.والظاهر البين أن كل هذه الأمور هي من عقائد الشرك.إن سيدنا المهدي إلى جانب إصلاحه للعقائد الأخرى لدى المسلمين قام بــدحض قوي لمثل هذه العقائد الشركية، وأقام في الدنيا توحيد الله الخالص: فبــــدون الإيمان بأنبياء الله تعالى يكون من المستحيل قيام التوحيد الحقيقي في العالم.ولذلك عندما ذكر الله أن الإيمان بذاته -عز وجل-ضروري..ذكر أن الإيمان بأنبياء الله أيضا ضروري، وأنه لو لم يأت هؤلاء الأطهار إلى العالم لم يستطع الناس رؤية وجه الله، ولم يستطيعوا الخروج مـــن هــذه الضلالة والظلمات وما دامت معرفة الله منوطة بالإيمان بأنبيائه..لذلك أضاف قوله تعالى (وما كان من المشركين) إلى قوله (حنيفًا)..لينبه إلى أن إبراهيم لم يكن من المشركين لأنه كان يؤمن بدوام سلسلة النبوة.ولذلك أمر في الآية التالية على الفور : قولوا إننا نؤمن بالأنبياء السابقين جميعا وما أوتـــوا مـــن ربهم، ونؤمن أيضا بما يُعطَى النبيون في المستقبل.ومما لا شك فيه أن قولـ تعالى (وما كان من المشركين) يعني أيضا أن إبراهيم كان بريئا من الشرك تماما، وكان يعبد إلها واحدا، والدليل على ذلك أنه على الرغم من أن مشركي مكة كانوا قد وضعوا في الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستين صنما..ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أن إبراهيم كان يعبد أحدا منها، بـل كـانوا يقرون أنه كان موحدا كاملا ، ورواياتهم القديمة تصدق ذلك.كما تؤكد

Page 236

۲۳۳ سورة البقرة الجزء الثاني أحوال إبراهيم الواردة في التوراة أنه لم يكن في تعاليمه أي شائبة من الشرك.هذا المعنى صحيح وفي محله، ولكن إضافة ما كان من المشركين) إلى قولـه (حنيفا) يبين أن المراد من الشرك هنا ليس ذلك الذي يقع في أعمال الشرك المعروفة وإنما المراد الذي يعتقد أن النبوة قد انقطعت، وأن بــاب الــوحي مسدود..لأنه بهذه العقيدة الفاسدة التي اخترعها يحول دون انتشار توحيــد الحقيقي، في حين أن الطاعة الحقيقية هي أن يصدق ويؤمن ويقبــل الإنسان ما يأمر به الله تعالى، ويلبي دعوة كل نبي من عند الله في أي زمن.الله قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (۱۳۷) شرح الكلمات : - الأسباط جمع ،سبط، وأصل السبط انبساط في سهولة.يقال: شَعرٌ سَبْط وسَبط، ورجل سبط الكفين: ممتدهما، ويعبر به عن الجواد.والسبط ولد الولد، كأنه امتداد الفروع (المفردات).فالأسباط بمعنى الأحفاد، أو نسل يعقوب الذين كانوا سببا في اتساع دائرة أسرته.التفسير: يتبين من هذه الآية أن المسلم هو ذلك الذي يؤمن بكل أنبياء الله تعالى ومن حيث مرجعيتهم لا يفرق بين أحد منهم.يؤمن بالأنبياء الذين يعرفهم بأسمائهم، ويؤمن بالذين لا يعرف أسماءهم إيمانا إجماليا.ويؤمن أن الله تعالى قد بعث في كل قوم ،رسولا ويراهم صادقين، وأن تعاليمهم كانت من الله تعالى.فالذي يصدق بني زمنه أو بالأنبياء السابقين على زمنه ولا يكفر بأحد منهم هـو المسلم؛ لأن الله قال هنا: قولوا بأن كل هؤلاء كانوا أنبياء صادقين، ثم قال: قولوا ونحن له مسلمون مما يدل على أن الإنسان بهذا الإقرار الكامل يصبح مسلما.

Page 237

٢٣٤ سورة البقرة الجزء الثاني إن أتباع الديانات الأخرى يدعون إلى تصديق أنبيائهم، ولكنهم لا يولون اهتماما بالدعوة الى تصديق جميع الأنبياء لدى الأمم الأخرى، أما الإسلام فيمتاز وحـــــده بدعوته إلى تصديق جميع الأنبياء، سواء بعثوا في بني إسرائيل أو الهندوس أو الفُرس أو أي قوم أو بلدٍ من العالم.ولكن ذلك لا يعني إيمانا تفصيليا وإنما إيمانا إجماليا.وإلا ما قال (وما أوتي النبيون من ربهم).أريد تنبيه إخواننا المسلمين الآخرين إلى أن الله يقول إن المسلم هو ذلك الذي يؤمن بجميع الأنبياء، وقد أخبر رسول الله له أن المسيح الموعود نبي من الله تعالى (مسلم، كتاب الفتن، وبما أن الوعد ببعث المسيح الموعود قد تحقق في هذا الزمن في شخص مؤسس الأحمدية، فمن واجب كل من ينسب نفسه إلى الإسلام أن يكون حذرا ولا ينظر إلى دعواه باستخفاف وإهمال...لأن في هذا الإهمال خطر ضياع إسلامه..هذا المتاع الثمين.لأن المسلم من يؤمن بجميع أنبياء الله تعالى، ونبوة المسيح الموعود ليست استثناء من ذلك.فهناك حاجة لأن يكون المسلمون حذرين متنبهين.وقوله تعالى (لا نفرق بين أحد منهم لا أبدا أن يعني جميع الأنبياء على درجة واحدة ولا فرق بينهم، لأن هناك آية أخرى من نفس هذه السورة تقول: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض (٢٥٤).فالمعنى أن لا فرق بينهـم مــن حيــث ضرورة الإيمان بهم كأنبياء من عند الله تعالى سواء كانوا مشرعين أو غــــير مشرعين، غير أن هناك تفاوتا في درجاتهم اعترف به القرآن نفسه.يعترض الكتاب المسيحيون على هذه الآية بقولهم إن إسماعيل ليس نبيــا، ولكـــن القرآن يعده من الأنبياء، فأين الدليل على نبوته؟ (تفسير سيل ج۱ ص۳۳۸).الحق أن هؤلاء لو تدبروا لانقلب عليهم نفس الاعتراض؛ فما الدليل على نبوة إسحاق؟ فالدليل على نبوة إسحاق هو نفسه الدليل على نبوة إسماعيل.إن موسى يعلن عن نبوة جده إسحاق، ومحمد يعلن عن نبوة جده إسماعيل.والذي حدث هو أن التوراة بسبب بخلها لم تذكر نبوة إسماعيل، أما القرآن الذي لا ينكر أي حقيقة ولا يتردد في ذكرها، ويتسامى عن التعصب الطائفي - فقد اعترف بقداسة ونبوة

Page 238

٢٣٥ سورة البقرة الجزء الثاني كلا النبيين الكريمين.وهل لدى بني إسرائيل من دليل على صدق نبوة إسحاق إلا أن نبيا صادقا يرون ثبوت نبوته بالأدلة قد اعترف بصدق نبوة إسحاق؟ والمسلم يأخذ بنفس هذه الحجة ويقول إن الدليل على نبوة إسماعيل أن نبيا صدقه متحقق بأدلة أقوى وأثقل من الأدلة التي يتحقق بها صدق الأنبياء الآخرين ــــــد اعترف بنبوة إسماعيل.إذا كان إسحاق يعتبر نبيا صادقا بشهادة التوراة..فلماذا لا يعتبر إسماعيل نبيا صادقا بشهادة القرآن؟ إن الكتاب المسيحيين يرفضون صدق نبوة سيدنا إسماعيل بحجة أن التوراة لم تذكر نبوته، مع أن الثابت من التوراة أنه اضطر للهجرة من وطنه وعاش حياة الغربة بسبب غيرة السيدة سارة تجاهه (تكوين (١٠:٢١.وما دامت سارة تحسد إسماعيل وأمه حسدا اضطرهما إلى مغادرة البيت والوطن والعيش في بلد ناء وظروف صعبة..فلا يتوقع من بني إسرائيل أن يمدحوه في كتبهم ويذكروا فيها أنه كان نبيا.فليس عجبا ألا تذكر التوراة أحوال إسماعيل ونبوته.ثم يجب أن يتذكروا جيدا أن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدم وجوده..ومع هذا فهناك إشارات في التوراة الحالية تدل على أن الله قطع في حق إسماعيل أيضا وعودا كبيرة.ومعناه "لقد سمع الله"، ولم أولا يدل اسمه نفسه على أنه يكون من أحباء الله فاسم إسماعيل اسم الهامي؛ يُعط إسماعيل هذا الاسم بدون سبب.فقد جاء في الكتاب المقدس: "وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى، فتلدين ابنا، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك" (تكوين (١١:١٦).ويتبين من ذلك بوضوح أن إسماعيل ولد بحسب بشارة من الله تعالى، وأنه سُمي باسمه بوحي من الله تعالى فالقول إنه ليس من ويسمى بوحي من يولد طبق بشارة من الله وأصفيائه قول يُعد تكذيبا لقول الله ووحيه نفسه.الله.والذي أحباء الله وثانيا ورد أيضا في التوراة: "وقال إبراهيم الله: ليت إسماعيل يعيش أمامك"، والنص العبري للكلمات الأصلية: ليته يعيش تحت عينيك ويكون مقبولا لديك)! فقال الله تعالى ردًا على ذلك"...وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه.ها أنا أباركه

Page 239

- ٢٣٦ الجزء الثاني سورة البقرة وأثمره وأكثره كثيرا جدا.اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة" (تكوين ١٨:١٧ ٢٠).وبالجمع بين هاتين الفقرتين يتبين أن إبراهيم دعا الله لابنه إسماعيل أن يكون من المقربين لديه، لأنه دعا بقوله : يعيش أمامك..أي عندك وتحت رعايتك، والعيش عند الله لا إلا أن يكون مقبولا لديه ولو لم يكن هذا مراده لاكتفى بالدعاء له بالعيش فقط..لأن جميع الناس الذين يعيشون في الدنيا هم في الواقع يعيشون عند الله ولا يغيبون عنه.فاستعمال كلمة "أمامك" إن دل على شيء فإنما يدل على أن هذا الولد سيكون من المقربين عند الله أو من الصلحاء الأطهار.فقبل الله دعاءه في حق إسماعيل وأخبره أنه سمع له فيه.يعني فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْل مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (۱۳۸) شرح الكلمات: شقاق: الشق الجانب؛ والشقاق: البعد.التفسير: في الآية السابقة شرح الله الإيمان وبيّن أن الإيمان الكامل هو الذي لا يشترط فيه الإنسان أي شرط، وإنما يقبل كل هدي يأتي من الله بدون أي تحفظ أو قيد من شعب أو بلد أو زمن؛ ولا يقول إنه سيؤمن بالأنبياء السابقين ولا يؤمن بمن يأتي في المستقبل.فسواء كنت من العلماء أم لا..فما أن عرفت أن أحدا جاء من عند الله وجب عليك أن تؤمن به على الفور.فالقول بأن النجاة تتوقف على أن يكون الإنسان يهوديا أو نصرانيا قول لا أساس له وإنما أول شرط للإيمان هو أن يؤمن الإنسان بدون شرط أو قيد.ويكون دائما مستعدا لتلبية نداء الله تعالى.وهنا في قوله تعالى (فإن آمنوا بمثل ما ءامنتم به قد جاءت "الباء" مع "مثل" بمعنى واحد، وقد يبدو هذا تكرارًا في الظاهر ولكنه في الحقيقة ليس تكرارًا.وإنما "الباء" هنا زائدة، ولا يعنى كونها زائدة أنها لا معنى لها وإنما هي زائدة لتؤكد المعنى.يتحير البعض عند سماع وصف "زائدة"، ويقول هل في القرآن زوائد؟ فليعلم أن هذا

Page 240

۲۳۷ سورة البقرة الجزء الثاني اصطلاح في اللغة العربية، ولا يعني أن الكلمة الزائدة لا فائدة لها ولا معنى، وإنما يعني أن الكلمة تؤكد المعنى الموجود.فالباء هنا تؤكد معنى كلمة "مثل"، والمراد: تماما مثل.ولو اكتفت الآية بكلمة "مثل" لبقي محال للظن بأن المشابهة ليست كاملة، ولكن "الباء" هنا لا تترك مجالا لهذا الظن، وإنما وضحت تماما أنه ما لم تكن كل ذرة من إيمانهم مثل إيمانكم لن يسمى إيمانهم إيمانا.وقد تكون الباء هنا للاستعانة والمراد أنهم لو دخلوا في الإسلام بشهادة مثل شهادتكم، أي لو أنهم آمنوا شاهدين بأن الأنبياء السابقين أيضًا صادقون كما تشهدون أنتم وتؤمنون بهم فعندئذ يهتدون وما لم تكن كيفية إيمانهم ككيفية إيمانكم لن يهتدوا.وهذا أيضًا ضرب من التأكيد والمراد أنهم إذا آمنوا بطريقة إيمانكم كانوا مهتدين، لأن مجرد التفوه بالإيمان بأي نبي لا يجعل من الإنسان مؤمنا.فإذا لم يوجد في إيمانهم ذلك اللون من الوله والعشق الذي يوجد في إيمانكم، ولو لم يقدموا الشهادة على صدق إيمانهم فإن مجرد إيمانهم بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وغيرهم لا يكفي.يظن بعض الناس خطأ أن الإيمان بوجود نبي يكفي لصحة الإيمان، مع أن مثال النبي كمثال الناي، فكما أن الناي يُبلغ الناس صوت النافخ فيه، كذلك النبي يُبلغ الناس الله تعالى، والإيمان بالنبي ضروري فقط لأنه يحمل رسالة من الله.فالإيمان آخر لا يجدي الإنسان نفعا، وإنما ينتفع من إيمانه فقط إذا كان مستعدا لتلبية كل نداء من الله يأتي مع أي نبي.يذكر الله هنا بعض الأنبياء الذين يؤمن بهم اليهود والنصارى، ويقول للمؤمنين صوت بني وإنكار نبي الله قولوا لهم: إننا نؤمن بكل هؤلاء الرسل وأنتم أيضا تؤمنون بهم، والآن بعث الله نبيا آخر نؤمن به ولكنكم لا تؤمنون به فعليكم أن تصدقوه حتى تنالوا من نعم تعالى وتفلحوا دينا ودنيا.قوله تعالى (وإن تولوا فإنما هم في شقاق أصله إن هم إلا في شقاق.يقول الله إنهم إذا تولوا وعارضو كم فلا تقلقوا ولا تحزنوا، إذ ليس هناك أي سبب لإعراضهم سوى أنهم مزمعون على معارضتكم وليسوا مستعدين للاتفاق معكم بحال من

Page 241

۲۳۸ سورة البقرة الجزء الثاني الأحوال.ولعله كان في زمن النبي ﷺ بعض المسلمين من ضعاف القلوب مَن ظَنَّ أن هؤلاء سوف يبتعدون عنا أكثر من ذي قبل، فيطمئنهم الله: إنهم كانوا بعيدين عنكم من قبل، وليسوا مستعدين لقبول ما يقربهم إلى الله، وما دام البغض قد تمكن من قلوبهم لهذه الدرجة، وما داموا بعيدين عنكم كل هذا البعد من قبل، فكيف يمكن أن يتفقوا ويتحدوا معكم؟ فلا تخافوا من إعراضهم قائلين: هذا سوف يؤذينا ويسبب الحروب.وقوله تعالى (فسيكفيكهم (الله) يعني أن الله تعالى سوف يكفيك أذاهم، ويحميك من هجماتهم، وسوف يحفظك بنفسه.الحق أنه ما لم يحز الإنسان هذا المقام من الإيمان لا يمكن أن يسمى مؤمنا حقيقيا.إن مقام الإيمان الصحيح هو أن يقف المؤمن واثقا أن ربه معه ولن يدَعَ عدوه يتغلب عليه مهما بذل العدو من جهد لإيذائه، ويقول لو أني مِتُ في مواجهة عدوي فلا ضير ولا همّ لأني راجع إلى ربي بعد الموت أيضا.فكروا، ألم تكن الصحابة المصطفى زوجات؟ ألم يكن لهم أولاد؟ ألم تكن لهم أموال وأعمال وتجارات؟ لو لم يقدموا أرواحهم في سبيل الله تعالى ما وصل الإسلام إلينا، ولكنا تائهين في الضلالة، ولكان منا من يعبد الأصنام، ومن يسجد أمام الآلهة الكاذبة.إن هؤلاء الصحابة عليهم رضوان الله ورحماته وبركاته ألف ألف مرة ألقوا نفوسهم في صنوف النار، وخلفوا زوجاتهم أرامل وأولادهم يتامي.وجعلوا الدنيا مظلمة في وجوه آبائهم...ليمتعونا بنعمة الإسلام! ولكن الأسف كل الأسف أن المسلمين بعد رؤية هذه التضحيات الهائلة الجسيمة من الصحابة الكرام، وبعد التمتع بنور الإيمان على أيديهم..لم يقدروا هذه النعمة حق قدرها، وبدلا من أن يخرجوا إلى نفس المضمار الذي خرج فيه الصحابة، وبدلا من أن يقولوا نقبل ما قبله الصحابة...خافوا من الأذى الدنيوي ومن الخسائر المادية ورجعوا القهقرى وترددوا في بذل التضحيات التي يطلبها منهم الإسلام.يقول الله تعالى: لماذا تخافون؟ إذا كنتم آمنتم بالله فهو الذي يحفظكم ويحميكم من كل أذى وخسران.فإذا لم يؤمن هؤلاء فاعلموا وتأكدوا أن في قلوبهم عداوة

Page 242

۲۳۹ سورة البقرة الجزء الثاني متمكنة نحوكم، وسوف يثيرون الشر، ولكن الله سوف يكفيكم شرهم، ولو هاجموكم يحميكم منهم، ولن يضركم كيدهم شيئا.(وهو السميع العليم)..لا تظنوا أن الله قد وعدكم بالنصر فلا حاجة لكم لعمل أي شيء بل عليكم أن تستعينوا بالدعاء والتضرع إليه، فهو السميع الذي يسمع كثيرا، والعليم الذي يعلم ما لا تعلمون من المكائد والمؤامرات ولسوف يدبر لها ما يبطلها.الإنسان أمام عدوه يكون في حالتين إما أنه يهاجم من قبل العدو وهو يعرف أنه يشن عليه الهجوم، ويحاول من جهته أن يقاوم العدو قدر المستطاع، ويكيد للدفاع عن نفسه؛ أو أن العدو يهاجمه في غفلة منه، أو يتبع أسلوبا في الهجوم لا يدري به..كأن يشتري بالرشوة بعض أصحابه، أو يتربص له في الطريق، أو يهاجمه وهو نائم أو يفاجئه في الظلام، أو يرميه عن بعد، أو يدس له السم في الطعام أو الشراب، أو يسرق ماله ومتاعه كل هذه الهجمات يشنها العدو والمؤمن غافل عنها.وهناك وسائل وتدابير للدفاع ضد هذين النوعين من الهجمات.يقول الله تعالى إنه لو هاجمكم عدوكم بأي من هذه الأساليب فإنه يكفيكم شره.لو كنتم تعلمون هجومه ولكن لا قوة لكم للدفاع عن أنفسكم فلكم إله سميع عليم، يعرف أن العدو يهاجمكم وأنه لا طاقة لكم بصدّه..فلا تحزنوا، بل ما عليكم إلا أن تنادونا نحضر لنجدتكم على الفور.ولو هاجمكم على حين غرة بأن كنتم نائمين أو في الظلام، أو هاجمكم فجأة متربصا بكم في الطريق، أو دس لكم السم في الطعام، أو غدر بكم ليسرق الأموال، أو أغوى أحدا من أصحابكم ليخونكم..فنحن على علم تام بكل ما يجري، وعندنا كل قوة..فلا تقلقوا في هذه الأحوال أيضا، بل ادعوا الله تعالى يستجب لكم ويُزل كل مشاكلكم، ويرد عدوكم خاسرا ذليلا.

Page 243

الجزء الثاني ٢٤٠ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِن اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (۱۳۹) شرح الكلمات : " سورة البقرة صبغة الصبغة الملة؛ الدين؛ الفطرة الصباغ أي دباغ الجلد (الأقرب).فتعني صبغة الله": اختاروا دين الله ؛ أو اتبعوا الطريق الذي هداكم الله إليه؛ أو اتبعوا الفطرة التي وهبكم الله إياها.التفسير : لقد وردت هنا كلمة "صبغة الله" كمفعول به من أساليب اللغة العربية حذف الفعل في بعض الأحيان إغراء في شيء.وهنا أيضا حُذف فعل "اتبعوا" قبل كلمة "صبغة الله"، والتقدير: اتبعوا صبغة الله والمراد: عليكم اتباع دين الله بغض النظر على من نزل هذا الدين، أو إلى أي شعب ينتمي.فما دام التعليم قد جاء من عند الله تعالى وهو ربكم وربنا فيجب ألا يكون لديكم عذر يمنعكم من قبول دين جاء منه، لأن النجاة محصورة في أن يتبع الإنسان دينًا جاء من عند الله.هذا باعتبار "الصبغة" بمعنى الدين.وإذا اعتبرنا الصبغة بمعنى الملة أي الطريق فالمراد أن الإنسان يكون على خير ما دام الطريق الذي عينه الله له، ولكنه إذا ترك طريق يتبع واتبع أهواء نفسه واختار سبيلا غير سبيل الله أهلكته أهواؤه وألقته في هوة الدمار.وإذا أخذنا الصبغة بمعنى الفطرة فالمعنى أن على الإنسان أن يفصل في الخلافات على ضوء ما تمليه عليه فطرته، فقد جعل الله فطرة كل إنسان طاهرة، وهي كثيرا على معرفة الصدق والحق.ولكن هذا لا يعني أن الفطرة الصحيحة تغني عن الدين؛ كلا وإنما هي وسيلة لمعرفة الدين الصحيح ولو كانت فطرة أحد قد مسخت بيده فإنه لا يستطيع معرفة الدين الحق.ومثال الفطرة الصحيحة أن يأتي إلى المرء خطاب صديق له فيضع المنظار على عينيه لقراءته.ولكن إذا وضع المنظار على عينيه دون أن يقرأ الخطاب لعُدَّ من الحمقى.فالدين كالخطاب المرسل من عند الله تعالى، والفطرة الصحيحة كالمنظار.فكما أن الخطاب هو الأصل، والاستغناء الله تساعد

Page 244

٢٤١ سورة البقرة الجزء الثاني عنه اكتفاء بالمنظار يدل على الجهل...كذلك كل من يعتبر نفسه في غنى عن الدين مكتفيا بالفطرة السليمة فهو أيضا أحمق.ومن معاني"صبغة الله" الاصطباغ بصبغته، فالمعنى أن عليكم أن تتصفوا دائما بالصفات الإلهية، وتنظروا باستمرار هل أصبحتم مظاهر الصفات الله أم لا؟ الحق أن الإنسان لم يُخلق إلا للاتصاف بصفات الله وأن يكون مظهرا لها.وقد أودع الله الفطرة الإنسانية استعدادا لهذا الغرض.ليس هناك إنسان يستطيع القول إنه ليس عنده الاستعداد ليكون مظهرا لصفة الربوبية أو الرحمانية أو الرحيمية أو المالكية.وهناك حديث يشير إلى هذا المعنى فيقول الرسول "خلق الله آدم على صورته" (البخاري (الاستئذان).والظاهر أن الله تعالى ليست له صورة مادية، ولا يقول الإسلام بذلك.فالمراد من الحديث أن الله قد أودع آدم استعدادا وصلاحية ليكون مظهرا لصفاته جل وعلا، فلا يمكن لإنسان أن يقول إنه لا يستطيع يكون مظهرا لصفات الله.بل كما أن الله ستار وشكور ووهاب ورزاق..كذلك أن يمكن للإنسان أن يكون في دائرته واستطاعته ستارا وشكورا ووهابا ورزاقا.والحق أنه بحسب الوجهة الإسلامية..لا يمكن أن يحظى أحد بقرب الله ما لم يكن مظهرا لصفاته تعالى، وما لم يكن بينه وبين الله مشابهة ومشاركة من نوع ما، وما لم يصطبغ بصبغته.انظروا إلى الحشرات كيف أنها تتلون بلون الأشجار التي تقع عليها وتعيش فيها.انظروا إلى الفراشات كيف أنها تتخذ ألوان الأزهار التي تحوم حولها وتقف عليها.فهل نحن أضعف حولا من هذه الحشرات، وهل ربنا أقل شأنا والعياذ بالله من هذه الأشجار الأزهار ؟ أهذه الحشرات والفراشات تتلون بلون الأغصان والأزهار...ولكن عباد الله إذا اقتربوا من ربهم فإنهم لا يمكن أن يتلونوا بلونه ويصطبغوا بصبغته؟ الحق أن سوء الظن الناشئ من قلب الإنسان هو الذي يجعله خائبا وخاسرا.يخبرنا النبي ﷺ أن ربي قال "أنا عند ظن عبدي بي" (مسلم، الذكر، سوف أعامل عبدي كما يظن في.فالذين لا يكون في قلوبهم إحساس بعظمتهم وإيمان بربهم لا ينالون شيئا ولكن الذين يعرفون أن الله تعالى أعزهم وأكرمهم وأودعهم قوى خارقة ويوقنون أن ربهم ،رحيم، وأنه سوف ينعم عليهم

Page 245

٢٤٢ سورة البقرة الجزء الثاني نعما جزيلة عظيمة فلا يبقون فارغي الوفاض، بل ينالون نصيبهم منها بحسب جهادهم ويقينهم.فالله تعالى ينبهنا أنه لا بد لكم في هذه الحياة الدنيا من أن تصطبغوا بصبغة أحد ما..وما دام الحال هكذا فإننا ننصح ألا تصطبغوا بصبغة أهليكم أو أصحابكم أو أبنائكم أو أساتذتكم أو بيئتكم أو حكومتكم..بل عليكم أن تصطبغوا بصبغة إله واحد..فصلتكم به هي الذريعة لنجاتكم.قوله (ومن أحسن من الله صبغة) يعني: من الذي يكون صبغته فيكم أجمل وأبهى من صبغة الله ؟ إنكم إذا اتخذتم ألوانه -سبحانه وتعالى - فلن تكون أشكالكم منفرة كالمهرجين، وإنما تكون صوركم من أروع الصور التي تراها الدنيا فتبهرها، وسو ـوف يشرفكم بكلامه، ويفتح عليكم أسرار غيبه، ويمتعكم بنعم غير عادية.أتذكر مرة أنني ذهبت إلى "دلهي" فقابلني هناك عالم كبير من علماء الرياضيات – هو البرفسور ،مولر، وقال لي أثناء الحديث إنه وبعض أصحابه من العلماء الكبار في نيويورك قد توصلوا في أبحاثهم وتحقيقاتهم إلى أن هناك مركزا لكل هذا الكون تدور حوله الشمس وغيرها من ملايين الأجرام السماوية، وأضاف قائلا: إن نظريتي تقول إن هذا المركز هو الإله.وكأنه أراد القول بأن العلم كان من قبل يرفض وجود إله للكون، ولكننا أثبتنا بهذا البحث وجود مركز يتحكم في نظام الكون، وأن هذا المركز هو الإله.فقلت له : إنني لا أعترض على بحثك هذا فهناك مركز لهذا الكون، بل إن القرآن أيضا يقول إن هذا الكون يجري في ظل نظام وأن له مركزا، ولكن ليس صحيحا أن هذا المركز هو الإله.وسبب ذلك أن الله تعالى يشرفني بإلهامات، ويطلعني على أسرار من الغيب ولو كان هذا المركز هو الإله كما تقول..فأخبرني هل يستطيع هذا المركز أن يخبر أحدا بالغيب عن طريق الإلهام؟ فقال: لا.لا يلقي هذا المركز بأي إلهام :قلت فكيف أقبل أن هذا المركز هو الإله؟ إنني بتجربة شخصية أعلم أن الله تعالى يحدثني ببعض الأمور الغيبية التي تتحقق في ميعادها، بعضها في مدى ستة أشهر، وبعضها في سنة، وبعضها في سنتين، وبعضها في أكثر، وهذا يثبت أن الإلهام

Page 246

٢٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني الذي تلقيتُه كان من عند الله تعالى ثم ضربت له مثالا وقلت: أخبرني، هل هذا.المركز الذي تعتبره إلها يستطيع أن يخبر أحدًا من وراء الغيب أن أميركا سوف ترسل إلى بريطانيا في الحرب العالمية معونة طيران قدرها ۲۸۰۰ طائرة مقاتلة ؟ وكنت أشير بذلك إلى الرؤيا التي رأيتها في الحرب العالمية السابقة التي أخبرني أثناءها أن أمريكا سوف تُمِدُّ بريطانيا بهذا المدد.بل إن الله تعالى أطلعني على الله كلمات البرقية نفسها، ورأيت أن المسؤول البريطاني يرسل إلى بلده برقية جاء فيها ۲۸۰۰ The American government has delivered.aeroplanes to the British government وبعد شهرين بالضبط من هذه الرؤيا أرسل المسئول البريطاني برقية من أمريكا تحمل نفس هذه الكلمات.ثم أرسل هذا العدد من الطائرات إلى بريطانيا من أمريكا.قال لي البر فسور : هذا المركز الكوني لا يمكن أن يتنبأ بمثل هذه الأنباء.فقلت له: إذن لا بد من الاعتراف أن هناك إلها غير هذا المركز، وهو إله هذا المركز وآلاف مثله من المراكز، إنني بتجربتي الشخصية أعرف أن الله تعالى ينزل على عباده كلاما يشتمل على كثير من الأنباء الغيبية.لك أن تعتبر هذا المركز هو الإله، ولكننا نطلق اسم الإله على ذات عليم خبير، ونعرف أنه ذو القدرة؛ وذو الجلال؛ وذو الجمال؛ وذو العلم؛ وذو الحكمة؛ وذو البسطة؛ وهو محي؛ مميت؛ حليم؛ مهيمن؛ وهاب؛ غفور؛ شكور؛ ودود؛ كريم؛ ستار...وله غيرها من الصفات الحسنى.فما دامت هذه الصفات غير موجودة في هذا المركز الذي تتحدث عنه، ومن ناحية أخرى إننا نتلقى الإلهام من ذات تتجلى بصفاتها على الدنيا من طريق كلامها..أن العالم كله يعارض كلامه ويخالفه فإن كلامه يتحقق..فكيف يمكن بعد هذه التجربة الشخصية أن نقبل نظريتك؟ قال: إذا كانت هذه الأمور صحيحة صادقة فلا بد من اعتبار نظريتنا خاطئة، لأنه بعد وجود هذا الكلام والإلهام لا يمكن لنا القول بأنه ليس هناك إله يتحكم في هذا المركز وهذا الكون كله.ومع

Page 247

الجزء الثاني فبقوله "صبغة الله " الله ٢٤٤ سورة البقرة ينصح الإنسان أن يكون مظهرا لصفاته، أو أن يصطبغ بصبغته وهذا هو الهدف والغاية من خلق الإنسان، وهذا هو المدار لنجاته وتقربه إلى الله تعالى.قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٤٠) التفسير : تقدم هذه الآية دليلا غاية في اللطافة والشفافية.يقول الله: قولوا: كيف نقبل قولكم بأن هدي الله منحصر في قومكم؟ لو قلتم هذا الكلام عن شيء لا نعرفه كانت هناك حاجة للبحث والتحقيق، ولكنكم تقولون لنا هذا عن رب هو ربنا وربكم، فكيف نقبل قولكم بأن النبوة لا يمكن أن تكون في غير بيت إسحاق؟ السؤال الحقيقي هو من الذي يرسل نبيا؟ وما دام الله هو الذي يرسله..فلماذا تقولون هذه الأقوال التي لا تقبلها الفطرة الصحيحة ؟ لأنه ربكم وربنا، لو كان ربكم أنتم فقط لحقَّ لكم أن تقولوا بأنه لا ينشئ صلة مع غيرنا، ولكنه ربنا وربكم، فكيف يمكن أن يتركنا ويتصل بكم فقط؟ وقوله تعالى (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم يبين ألا داعي للحسد في الدين، لأنه لا يمكن أن يسلب أحد ما كسبه غيره، وإنما ينال كل إنسان جزاءه بحسب أعماله نفسه.وسوف تنفعكم أعمالكم، وسوف تنفع هذه الأمة التي جاء فيها هذا النبي أعمالها.ولسوف يكافأ كل إنسان بقدر ما اجتهد، ولن تكون هناك معاملة بالنظر هو إلى شعبه وقومه.وقوله تعالى (ونحن له مخلصون يبين أن حبنا الله غير مشروط، ولا نقول إننا نؤمن به ونطيعه إذا أعطانا شيئا، وإنما حالنا أنه سواء أعطانا أو لم يعطنا فإننا وقف له ومطيعون له، ولا نريد أي شيء أكثر من ذلك.

Page 248

الجزء الثاني ٢٤٥ سورة البقرة أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَم اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤١) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٢) التفسير في هذه الآية يذكر الله ادعاء اليهود أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده كانوا يهودا ونصارى.ويفنّد القرآن هذا الادعاء بجواب بسيط، ولكنه بمثابة الذبح لهم.يقول إن إبراهيم وكل أبنائه وأحفاده مضوا في زمن قبل نزول التوراة والإنجيل.والتوراة التي يعتبرونها إلهامية تذكر هذا الأمر بكل وضوح..يقول الله: لماذا تكذبون عمدا وتخفون الشهادات المذكورة في التوراة بكل وضوح..من أن هؤلاء جميعا قد ماتوا قبل نزول التوراة، فكيف يمكن أن يؤمنوا بما لم يترل بعد، وكيف يمكن أن يكون هؤلاء قد آمنوا بموسى وعيسى؟ إن حمقهم هذا يماثل الحمق الذي بدا من القسيس وود Wood في مناظرة معي، إذ قال لي مرة إن إبراهيم أيضا كان يؤمن بكفّارتهم، لذلك نجا.أو كحمق بعض الشيعة الذين يقولون بأن القرآن أيضا يقر بأن إبراهيم كان من الشيعة، ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى (وإن من شيعته لإبراهيم)! (الصافات: ٨٤).يقول القرآن هل نقبل ما تقولون أو ما تقوله كتبكم؟ تقول توراتكم إن إبراهيم كان قبل نزولها، أما أنتم فتقولون إنه كان يهوديا.ألا ما أشد حماقتكم! والعجب أنه يوجد في هذا الزمن أيضا من يقولون إن إبراهيم كان يهوديا، فقد جاء:( Abraham was considered to have been the first a adherent of Judaism)أي أن إبراهيم كان أول المنتمين إلى اليهودية (دائرة المعارف البريطانية، تحت كلمة "اليهودية ").وقوله تعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)...يعني أن هذه أمة قد مضت وخلت، فلماذا تشركونها في أخطائكم؟ هؤلاء مسئولون عما فعلوا، وأنتم مسئولون بأنفسكم عما فعلتم فما الفائدة في أن تشركوهم في أخطائكم؟

Page 249

الجزء الثاني ٢٤٦ سورة البقرة عليكم أن تهتموا بأيمانكم لأن إيمانهم لن ينفعكم شيئا، وكذلك لن تكون حسناتهم ذريعة لنجاتكم.وكأن هذه الآية تطرق نفس الموضوع الوارد في آيات أخرى تقول ( ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام ١٦٥).لقد ذكر هنا نفس الموضوع بأسلوب آخر، ونبه اليهود والنصارى ألا ينظروا إلى آبائهم بل إلى أعمالهم أنفسهم، ويفكروا في ما يفعلون وكيف يستحقون النجاة.الترتيب والربط في الآية (۱۳۰) أشار الله تعالى إلى أنه بعد أن حُرم بنو إسحاق من نعمة النبوة أصبحت من حق بني إسماعيل، لأن إبراهيم دعا لهم أيضا، وكان هناك دعوة خاصة لسيدنا إبراهيم ببعث نبي من بني إسماعيل ذي شريعة.ثم في الآيتين (۱۳۱ و ۱۳۲) قال الله تعالى لليهود ألاّ يرتكبوا الحماقة بالنكوب عن طريق إبراهيم الذي كان يقبل بكل ما يأتي من عند الله تعالى، فمن لا يسلك هذا الطريق يخسر.وفي الآية (۱۳۳) بين أن إبراهيم لم يكن بنفسه عاملا بهذا المبدأ فحسب، بل وصى أولاده وأحفاده به، ونصحهم أن يكونوا دائما مطيعين لله تعالى، وكلما بعث مأمورا دخلوا في حزبه.وفي الآيتين (۱۳٤ و ۱۳۵) بيّن أن أولاد يعقوب (إسرائيل) تعهدوا على يده أنهم سوف يعبدون إلها واحدا ويكونون مسلمين له.فإذا كنتم بني إسرائيل حقا وجب عليكم أن تفوا بهذا العهد، وتكونوا مطيعين كما فعل يعقوب، ولن ينفعكم كونكم من أولاده، لأن كل إنسان مسئول عن أعماله.وفي الآية (١٣٦) قال لا تتعندوا ولا تقولوا إن الإنسان لن ينجوا ما لم يكن يهوديا أو نصرانيا، بل عليكم أن تسلكوا المسلك الذي اتبعه إبراهيم..أي أن يكون الإنسان مستعدا على الدوام لقبول ما ينزل من عند الله تعالى في أي زمن ولا يكترث للعوائق التي تحول دون ذلك.و في الآية (۱۳۷) خاطب المسلمين ونبههم سواء اتبع هؤلاء الملة الإبراهيمية أم لا..إلا أن واجبكم أن تعلنوا أننا نسلم بكل ما جاء من الله في أي زمن.

Page 250

الجزء الثاني ٢٤٧ سورة البقرة وفي الآية (۱۳۸) بيّن أنه لو قبل أهل الكتاب هذا المبدأ كما فعلتم نجوا وإلا فسوف يُعاقبون.وفي الآية (۱۳۹) أكد على المسلمين أن يصطبغوا بالصبغة التي يريدها يختاروا اللون الذي يأتيهم به مأمور من عند الله تعالى.الله لهم، أي وفي الآية (١٤٠) نصح المسلمين أن يقولوا لأهل الكتاب: أتجادلوننا في الله وتقولون لماذا اختاركم الله لكلامه؟ هذا فضل منه، وهو أعلم بأعمالنا وأعمالكم فمن عمل بإخلاص نال الجائزة.وفي الآية (١٤١) قال للمسلمين: اسألوهم إذا كانت النجاة في كون الإنسان يهوديا أو مسيحيا فما رأيكم في إبراهيم وأبنائه وأحفاده..هل كانوا يهودًا أو نصاری؟ كلا، لأن هؤلاء جاءوا قبل نزول كتبكم السماوية.وفي الآية (١٤٢) بعد أن أقام الحجة عليهم قال: إن هذه الأمة من الأنبياء قد مضوا في زمانهم، فلا أعمالهم ،تنفعكم، ولا تَعَرُّض المسيح للأذى ينجيكم.إنما تُسألون عن أعمالكم فيجب أن تهتموا بما تقومون به من أعمال.سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِن النَّاسِ مَا وَكَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٣) شرح الكلمات: السفهاء – جمع سفيه، والسفه: خفة الحلم؛ الجهل؛ الخفة الحركة؛ الاضطراب (الأقرب فالسفيه قليل العلم؛ قليل العقل؛ المعترض بدون تفكير في الكلام؛ السطحي العقل؛ الذي لا ثبات عنده.القبلة الجهة؛ كل ما يُستقبل من شيء (الأقرب).عليها- التي كانوا عليها أي التي كانوا يعتقدون بأنها قبلتهم.التفسير : من أسلوب القرآن أنه إذا أراد بيان شيء هام فلا يصدر حكمه فيه فورا، وإنما يذكر قبله بعض الأمور كتمهيد لتتضح أهميته للناس وتستعيد قلوبهم لقبول

Page 251

٢٤٨ سورة البقرة الجزء الثاني الأمر الإلهي ببشاشة، وتستعد أنفسهم لإحداث تغير بحسب هذا الأمر، ولا يقعوا فريسة للابتلاء إلا في نطاق ضيق ذلك لأن هدف القرآن أن يهدي الناس ويوقفهم على الحكم في تعاليمه أيضا، إذ ذكر أولا أن الصيام كان مفروضا على الأمم السابقة أيضا، والصوم يولد التقوى، وبعد هذا التمهيد قال إن الصيام قد فُرض عليكم.وهنا أيضا قبل الأمر بتحويل القبلة أعدَّ طبائع الناس لهذا، وأشار إلى الانقلاب القادم قائلا ( سيقول السفهاء من الناس ما ولأهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)..أي أن الذين لا يفكرون في حكم الأوامر ويعترضون بدون ترو، سوف يثيرون اعتراضا، ورغم كون هذا الاعتراض لغوا تافها للغاية إلا أنهم سوف يكررونه ويقولون ما الذي حوّل المسلمين من قبلتهم السابقة التي كانوا عليها؟ لم يكن قد صدر بعد أي أمر بأن يحول المسلمون وجوههم إلى الكعبة المشرفة في ومع ذلك وقبل إنزال هذا الأمر بين أنه سوف ينزل أمر بتحويل القبلة عن قريب، وبسببه سوف يثور الناس ممن هم قليلو العلم والعقل أو مثيرو الأسئلة بدون ترو، ولكن عليكم ألا تحزنوا ولا تخافوا من اعتراضهم..لأن الله سوف يبتليكم في إيمانكم بإنزال أمر جديد في شأن القبلة.الصلاة، لا أن والسين" في كلمة "سيقول للتوكيد والاستمرارية التي تشمل زمن الاستقبال أيضا.وهناك كلمة أخرى للاستقبال هي "سوف"، ولكنها للزمن البعيد، أما "السين فهي للمستقبل القريب لم يكن هذا الاعتراض في الماضي وفي ذلك الزمن فقط، ولكن يزال الكتاب المسيحيون مثل ويري وسيل وغيرهما- يثيرونه قائلين إن محمدا عندما كان في مكة كان يتجه في صلاته إلى الكعبة، ولكنه عندما جاء إلى المدينة اتجه إلى القدس استرضاء لليهود (تفسير القرآن لويري تحت هذه الآية)..مع هذا الاعتراض خطأ تماما.يظن بعض الناس أن القرآن الكريم في قوله تعالى سيقول السفهاء اعتبر المعترضين على تعاليمه من السفهاء وهذا كلام قاس لا يليق به.ولكن هذا الاعتراض أيضا ليس صحيحا لأن الله تعالى لم يقل إن مخالف هذا التعليم سفيه..وإنما اعتبر من يعارضون العقل الصريح من السفهاء، وقد قدّم على ذلك دليلا لا يبقى لأحد بعد

Page 252

الجزء الثاني يستخدم ٢٤٩ سورة البقرة معرفته أي شك ولا شبهة في سفههم وحمقهم؛ كما يدعوهم إلى استخدام العقل ويحاول إقناعهم بالدليل والذي يحاول إقناع الخصم بالأدلة لا يقال عنه إنه كلمات قاسية معه، ولكان من القسوة إذا كان هذا الأمر خلافا للحقيقة أو كان مجرد استهزاء بالخصم ولكن ما دام القرآن يقنع الخصم بالأدلة، ولم يقل إنه سفيه بسبب معارضته لتعليمه وإنما بسبب مخالفته لصريح العقل، فلا يصح الاعتراض على ذلك.ولو كان هذا مثار اعتراض فمعنى ذلك ألا يلام أحد مهما ارتكب من الحمق، بل يجب أن يُشاد بعقله وتدبره وحكمته!! وهذا ما لا يقول به أحد قط.وإذا كان القرآن قد اتخذ نفس الموقف فما المبرر للاعتراض عليه؟ على أية حال، ففي وقت لم يكن المسلمون يعرفون متى وإلى أين سوف يؤمرون ،بالاتجاه، كان الله العليم الخبير يعرف أن الناس سوف يعترضون عليهم، وسوف يقع ضعفاء الإيمان في الابتلاء، وقبل أن يعترضوا عليهم، بل قبل أن يؤمروا بتحويل الله رد اعتراض المعارضين وقال (قل لله المشرق والمغرب)..أي أن القضية المهمة هي عبادة الله، فأينما يأمر الله بالاتجاه فعلى الإنسان أن يتجه إليه لينال رضى الله تعالى.فإن أمر بالاتجاه إلى الشرق فيتجه إلى الشرق، وإذا أمر بالاتجاه إلى الغرب، فإلى الغرب.فالاعتراض على تحويل القبلة ولماذا لم يأمر بالاتجاه إلى كذا وكذا..كل ذلك من الجهل المطبق.القبلة وبالنسبة لله فالشرق والغرب سواء.وإذا عُينت جهة فليس لأن الله في الشرق أو الغرب،بل لهذا التعيين حكم أخرى..من أهمها الوحدة.فلو لم تتخذ جهة معينة للصلاة لاتجه المسلمون إلى الشرق، وبعضهم إلى الغرب وبعضهم إلى هنا وهناك، و لم يكن لهم أي نظام أو وحدة فلإقامة الوحدة بينهم ولتسوية صفوفهم أمرهم الإسلام بالاتجاه إلى جهة واحدة.أما إذا لم يعرف الإنسان جهة القبلة وهو في القطار أو الطائرة وما إلى ذلك فله أن يتجه في الصلاة إلى أي جهة، مما يدل على أن الاتجاه إلى جهة خاصة ليس مطلوبا لذاته..ولكن المطلوب هو النظام وخلق الوحدة بين المسلمين.

Page 253

الجزء الثاني الله ٢٥٠ قبلة العالم وهو سورة البقرة ربه أن وهناك سبب آخر هام لتعيين بيت كان دعا أن إبراهيم يبعث من أهل مكة رسولا عظيما، ويكون سبب هداية للعالم كله..وتظهر على یده آيات سماوية، ويأتي من الله بشريعة كاملة ويبين أسرار وحكم الشرع، ، ويقوم بتزكية النفوس.يتطلب هذا الدعاء الإبراهيمي أن يكون ذلك النبي العظيم وأتباعه على صلة وثيقة ببيت الله الواقع بمكة حتى إذا اتجهوا إليه في صلاتهم تذكروا ذلك الدعاء الإبراهيمي الذي دعا فيه ببعث محمد.فعندما يقف الإنسان في الصلاة قائلا "الله أكبر" متوجهًا إلى بيت الله الحرام..يتجه فكره فجأة إلى ذلك الدعاء الإبراهيمي، ويرى من واجبه أن يوجه الناس إلى آيات الله نيابة عن الرسول ويعلمهم علم الكتاب ويبين لهم الحكم وراء الأوامر الإلهية ويحاول أن يطهرهم ولا يمكن أن يخطر بباله هذا الهدف العظيم الشأن ولن يتولد في قلبه هذا الحماس الشديد إذا ما اتجه إلى لندن أو نيويورك أو باريس، بل يفكر عندئذ في الرقص والغناء، ولن يفكر في العبادة والصلاح والتقرب إلى الله.ومما لا شك فيه أن الله في كل مكان، ولا يمكن لنا القول بأنه في الجزيرة العربية وليس في أمريكا، أو أنه في مكة وليس في أفريقيا، ولكن مما لا شك فيه أيضا أن ببعض الأماكن والأشياء عوامل تذكر الإنسان وتوجهه إلى الله بصورة غير عادية.لذلك عين الله الكعبة المشرفة قبلة للصلاة، وإلا فإن الله أسمى من أي تجسد، وأبواب قربه مفتوحة لكل إنسان في العالم.وهناك من يعترض فيقول: هذه الكلمات الله المشرق والمغرب) عندما وردت في قوله تعالى (والله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة: ١١٦)..فسرت بمعنى أن لكم أن تتجهوا إلى أي جهة، بينما اتخذتم نفس الكلمات هنا مبررا لتحويل القبلة..فكيف يُستدل من كلمات واحدة استدلالان متضادان؟ إن هذه الكلمات لم تستخدم من قبل لتكون رفضًا لتعيين قبلة، ولم تُستخدم الآن لتبرير تعيين قبلة ما بل وردت هذه الكلمات في المرة الأولى (آية (١١٦) بمعنى أن كل شيء من الله تعالى، وسوف يجعلكم حكاما على الشرق والغرب في يوم من الأيام، وسوف يعطيكم من فضله كل شيء.أما هنا فأخبر الله بها أن المقصود

Page 254

الجزء الثاني ٢٥١ سورة البقرة الحقيقي ليس القبلة حتى يُعترض عليها، وإنما الهدف الحقيقي هو طاعة الله تعالى؛ فأينما يأمر الله بالتوجه فالتوجه إليه يكسب الإنسان رضا الله تعالى.والجواب الثاني هو أن الآية الأولى (١١٦) كانت نزلت بالمدينة عندما كانت القبلة قد تعينت حتى في رأي الخصوم أيضا، فكيف يمكن أن يقول القرآن إنه لا حاجة للتوجه إلى قبلة معينة وقت الصلاة، فلا يصح أن يعترض أحد: إذا لم تكن القبلة هدفا مقصودا فلماذا عُينت؟ فمثل ذلك مثل المجتمعين للمشورة..فاجتماعهم في مكان معين ليس هدفًا، ولكنهم بحاجة لتعيين موعد ومكان معين للتشاور.كذلك وإن لم تكن القبلة هي الهدف الحقيقي فإن الله تعالى عين للمسلمين جهة محددة لتوحيدهم وتسوية صفوفهم.وإذا لم يكن المصلي يعرف جهة القبلة أثناء سفره، أو يعرف جهتها ولكن بعد أن بدأ الصلاة انحرفت مطيته من حيوان أو قطار أو سفينة أو نحو ذلك عن جهة القبلة فلا يفسد ذلك صلاته ولا ينقض منها شيئا.وهذا دليل على أن الاتجاه إلى جهة معينة ليس مقصودا في ذاته، وإنما عُينت جهة خاصة للاتحاد والنظام وتسوية صفوف المصلين.قوله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)..أشار بكلمة (صراط مستقيم) إلى أن التعاليم السماوية تختلف بعض الشيء باختلاف الزمن، لأن من سنة الله أنه عندما يتفضل على قوم فإنه يرسل إليهم تعاليم مناسبة لحالهم.وكانت الكعبة قبلة مناسبة للمسلمين لذلك حولهم الله إليها في آخر الأمر، والذين خضعوا لمشيئة الله منقادين لإرادته، ورأوا أن واجبهم اتباع الصوت السماوي، وأن يبقوا أسمى من حدود التقيد بالشرق والغرب..وفقهم الله لطاعة مخلصة لدرجة أنهم توجهوا إلى إليه محمد المصطفى ، واستمروا يجرون في الصراط بيت الله المستقيم.أن بمجرد توجه

Page 255

الجزء الثاني ٢٥٢ سورة البقرة وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ إيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ١٤٤) شرح الكلمات: لِيُضِيعَ أمة وسطا الشيء الوسط هو الذي يكون على حد الاعتدال وهو الأفضل، وكذلك القادة الكبار يكونون في وسط الجيش تحيط بهم الكتائب، وذلك لأن الشيء الأفضل والأغلى يحافظ عليه.ومن هنا تكون كلمة الوسط بمعنى الأعلى والأفضل.والوسيط هو أشرف القوم.ولما لم تكن الأمة المحمدية في وسط الأمم زمنا، ولم تكن أدنى منها تعليما وشرعا، بل قال الله عنها (كنتم خير أمة أخرجت للناس (آل عمران (۱۱۱)..أي أنكم خير الأمم التي خُلقت لفائدة الناس، ولذلك ١١١)..يكون معنى "الوسط" الأعلى والأكمل.شهداء- الشهيد: الشاهد؛ الأمين في الشهادة؛ القتيل في سبيل الله؛ العالم الذي لا يغيب عن علمه شيء.ومن معاني شهد عاين (الأقرب).شيء.ومن كُنت كان تأتي بمعنى "وجد" وبمعنى "صار"، ومن هنا تعني الآية: لم نعين القبلة التي كنت عليها من قبل، أو التي تحولت إليها الآن وتثبت عليها، فكأن أحد المعنيين يشير إلى القبلة التي كانت قبل التحويل، والمعنى الثاني يشير إلى القبلة التي كانت بعد التحويل.لنعلم علم: أدرك وعرف ومن أساليب اللغة العربية وضع السبب مكان المسبب أحيانا؛ أي يضعون الشيء الذي هو سبب لشيء آخر في مكان النتيجة، وأحيانا أخرى يعكسون أيضا.وهنا جاء السبب مكان المسبب، لأن نتيجة العلم هو التمييز ومعرفة الشيء أهو خير أم شر.ولما كان التمييز ينتج من العلم لذلك وضعوا العلم مكان التمييز ؛ وذلك أيضا لبيان أن التمييز لا يقع إلا بالعلم (البحر المحيط تحت هذه الآية).وهناك أمثلة كثيرة لهذا الاستخدام في القرآن الكريم وكتب اللغة، فمثلا ترد

Page 256

٢٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني كلمة "السماء بمعنى السحاب أيضا، لأن السحب تتكون بسبب الارتفاع وأشعة الشمس، ولما كانت السماء سببا لتولد السحب أطلقوها على السحب في بعض الأحيان.فمعنى قوله تعالى (لنعلم) هو أننا فعلنا ذلك لتمييز الذين يتبعون الرسول من الذين يعرضون عنه.اعتبرنا (لنعلم) بمعنى (لنميّز) لأنه إذا وردت كلمة "علم " مع صلة "من" فتعني التمييز.وقد كتب أئمة اللغة أن العلم لا يتعدى بـ."من" إلا إذا أريد به التمييز (المرجع السابق).لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن ومن معاني العلم الإظهار والبيان، وهذا المعنى لا يوجد في القواميس العامة، ولكن الذين كتبوا القواميس للقرآن الكريم ذكروا هذه المعنى الذي يتأكد من القرآن الكريم نفسه فقد جاء قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) (الأحزاب (٥١ ويمكن القول بصورة قطعية إن العلم هنا يعني الإظهار والبيان.إذ لا يقال علمتُ ما قلتُ وما قمتُ به، فمثلا لا يقال: إنني أعلم أنني بالأمس ذهبت إلى موضع كذا، ولو قال أحد هذا لضحك عليه السامعون واعتبروا قوله حمقا.ولو اعتبرنا معنى (قد علمنا ما فرضنا أننا وصلنا إلى علم ما قد فرضناه، فلن يكون الكلام سليما، لأن العلم يتعلق بشيء آخر.فالمعنى أن ما فرضناه قد أظهرناه وبيناه.هذا، ولا يمكن أن تفسر العبارة بطريقة أخرى.ونفس الحال بالنسبة للآية الحالية (إلا لنعلم)أي لنظهر ونميز.رءوف-الرأفة والرحمة معناهما واحد تقريبا، والفرق بينهما أن الرأفة خاصة والرحمة عامة والرأفة تشير إلى دفع الشر، والرحمة تشمل دفع الشر وإيصال الخير.فالعاطفة التي تتولد لرؤية أذًى يصيب أحدا تتولد بسبب الرأفة، وكذلك بسبب الرحمة، ولكن الفرق أن الرحمة تتعلق بالإحسان أكثر، والرأفة تتعلق بدفع الشر أكثر.التفسير : هناك سؤال : إلام يشير قوله تعالى "كذلك"؟ قال الله قبل ذلك (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)...أي أن الله هو الذي يهدي، وقد هداكم بفضله، ولا يحق لأحد أن يعترض على ذلك؟ وكلمة (كذلك)

Page 257

٢٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني تشير إلى هذا..أي كما أنه هداكم ووفقكم للسير على الصراط المستقيم كذلك أسدى إليكم معروفا آخر إذ جعلكم أمة وسطا.وكما جاء في شرح الكلمات فإن الوسط يعني المتوسط، ولكن الأمة المحمدية ليست متوسطة..لا من حيث الزمن ولا من حيث التعليم والشرع ولا الدرجة.إنها ليست أمة متوسطة زمنا لأنها لن يكون بعدها إلى يوم القيامة أي أمة أخرى، فهي يمكن أن تسمى الأمة الآخرة، لا الأمة المتوسطة.ثم إنها ليست بالأمة المتوسطة شرعا أيضا، لأنه بعد النبي ﷺ لا يمكن أن يأتي شرع جديد.ثم إن القرآن آخر التعاليم، ومن هذه الناحية أيضا فهو ليس متوسطا..بل إن القرآن نفسه يقول (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة: ٤).ثم من حيث الدرجة والمكانة فليست هذه الأمة أمة متوسطة، لأنها أفضل الأمم فلا تعني وخيرها كما ورد (كنتم خير أمة أخرجت للناس)(آل عمران ١١١)."أمة وسطا" أنها أمة متوسطة..لا زمنا، ولا شرعا، ولا تعليما، ولا مكانة..وإنما المعنى أنها من حيث الأعمال أمة ذات سلوك وسط..أي معتدل لا تميل إلى الإفراط ولا تجنح إلى التفريط، بل إن أعمالها تبقى معتدلة ككفتي الميزان، وليس هناك جانب من عملها منحرف عن حد الاعتدال لذلك يعلم الإسلام أن يكون المسلم في جميع أعماله ذا سلوك وسطي، لا يميل إلى ناحية مهملا النواحي الأخرى.لو مال إلى ناحية وركز عليها فإن عواطفه الطبعية سوف تثور وتخرج عن حدودها.فمثلا لو أنه ترهب لكانت النتيجة الحتمية ألا يستطيع التحكم في عواطفه الشهوانية، فيترك طريق الحلال ويقع في الحرام.كذلك لو أنه فرق كل أمواله على الناس ولم يبق شيئا لحاجات أولاده وأهله ما سُدَّت حاجاتهم بهذا الفعل، فلا بد أن يضطر للتسول، وهذا في حد ذاته عمل غير مستحب، أو يلجأ إلى السرقة والخيانة..وبدلا من أن يرتقي في الخيرات يقع في الإثم.فالإسلام باعتباره الأمة المحمدية أمة تتمسك بالاعتدال في كل أعمالها-سدّ في وجهها كل طرق الإثم.وقد أشير بقوله تعالى (أمة وسطا) إلى هذا التعليم الإسلامي الوسط مما

Page 258

الجزء الثاني ٢٥٥ سورة البقرة يميزه عن سائر الأديان كلها وهذا الأمر وحده يكفي ليثبت فضله على الأديان الأخرى.قوله تعالى ( لتكونوا شهداء على الناس) أي فعلنا ذلك لتكونوا شاهدين على الأديان والأمم الأخرى.فكما أن شهادة الشهادة تثبت ما هو الحق، ولمن الحق..كذلك العاملون بتعاليم القرآن الذين يحدثون في أنفسهم تغيرات صالحة سوف يكونــــون بمثابة شاهدين على صدق القرآن للأمم الذين لم يعرفوا لذة صدق القرآن..أي أنهم بلسانهم وعملهم سوف يعلنون أنهم قد وجدوا دعاوى القرآن صــادقة، وبرؤيـة حياتهم الطاهرة وما ينزل عليهم من نصرة سماوية يدرك الناس أن الطريق الصحيح هو ما يسلكه هؤلاء.ثم قال: كما أننا جعلنا المؤمنين العاملين بالقرآن شاهدين للأمم الأخرى على صدق القرآن كذلك جعلنا رسول الله شاهدا على لهذه الجماعة المسلمة علـــى صــدق الإسلام..بمعنى أنه برؤية معجزاته ونصرة الله له يتمكن صدق الإســـلام بـصورة كاملة في قلوب هؤلاء.فمعنى الآية أننا فعلنا ذلك ليهتدي الناس برؤية هذه المعاملة الإلهية الإعجازية معكم، وبرؤية روحانيتكم وتقواكم.ومن ناحية أخرى يكون هذا الرسول شاهدا حيا على صدق الإسلام بالمعجزات العديدة والنصرة الإلهية النازلة عليه كالمطر.تكونون للدنيا شاهدين على صدق الإسلام ويكون الرسول شاهدا أمامكم على ذلك.ويمكن أن يعني قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرســول علـيكم شهيدا) أن الرسول ﷺ يعلمكم الإسلام وتقومون أنتم بتعليمه الناس باستمرار.أن الحق أن الله تعالى قد بين في هذه الآية كيف تكونون أفضل الأمــم..وهـي تكونوا شهداء على الناس، أي ألا تنقطع فيكم أبدا سلسلة التعليم والتربيـــة، وأن

Page 259

٢٥٦ سورة البقرة الجزء الثاني تحاولوا دائما تقوية إيمان الناس.لذلك قال : جعلناكم أمة وسطا لتعلموا النــاس وتكونوا رقباء عليهم، ومن واجب الرسول أن يعلمكم ويزيل ضعفكم وعيوبكم.والحقيقة أنه كما يجتمع في جسم الإنسان بعد فترة بعض الفضلات الزائدة التي أن تظهر أحيانا في صورة إمساك وأحيانا في صورة إسهال، أو كما أن ماء المطـ يتراكم على السقف ويفسده بسبب فساد أنابيب التصريف، كذلك تماما تتعرض الأمم في مختلف الأوقات إلى مثل هذه الأحوال.وكما أن الإنسان الحي لا يستطيع يؤدي كل أعماله بصحة عضو واحد من جسمه بل لا بد له من مراقبة سلامة أعضائه صباح مساء..كذلك لا تنصلح أخلاق الأمم تلقائيا، بل لا بد من مراقبتها مراقبة دائمة.والعجيب أن الشخص الفرد الذي لا تساوي حياته إزاء حياة شعب شيئا..يرون من اللازم لحياته أن تراقب احتياجاته صباح مساء، ولكنهم لا يهتمون بمراقبة حاله القوم كل يوم، يفكرون ماذا يأكلون في الصباح، وماذا يطهـــون في المساء.في الحر ينامون في الخارج، وفي البرد ينامون في الداخل.يحسرون رؤوسهم في القيظ، ويغطونها عند البرودة.يجتنبون حرارة الشمس فيمشون في الظل، ويستترون تحت المظلة من المطر.يهتمون بكل هذه الأمور صباح مساء، بـــل إن الإنسان يفكر في حاجة جسمه بضع عشرة مرة في اليوم الواحد.فمرة يفكر في النوم، ومرة في الاستلقاء والراحة، وأحيانا في الرياضة والنزهة، وأخرى في الاستحمام.ولكنه لا يفكر ولا يعتني بإصلاح الشعب، بل يظن أنهــم ســوف ينصلحون بأنفسهم.لو أن الشعب سار خطوة خاطئة..فبدلا من أن يلــــوم المــــرء خاطئة..فبدلا نفسه ويعترف بأنه لم يؤد واجباته تجاه الشعب..يظن أنه يكفيه التعبير عن سخطه على الشعب، ولا يحاول إصلاحهم بالعمل أبدًا ولكن هذا الموقف ليس صحيحا.إن إصلاح الشعب يتطلب اهتماما أكثر من إصلاح الفرد، ويتطلب عناية من كل فرد في الشعب.لو أن كل فرد لم يول اهتماما بمسائل الشعب فلا بد أن تحدث التقصيرات والنقائص في بعد الأمور، سوف تتفاقم حتى لن تبقى إزالتها في يد الفرد بل في يد الشعب كله ومما لا شك فيه أن الإسلام قد أقام الخلافة لاستمرار النظام

Page 260

مع ٢٥٧ سورة البقرة الجزء الثاني وتوطيده ، ولكن من الخطأ الظن أن واجب الخلافة أن تقوم بكل الأعمال وحدها..أن هذا ليس واجب الخلافة وحدها، كما لا يمكن أن يقوم شخص واحـــد بإصلاح القوم بهذه الصورة.ما لم يكن عند كل فرد من الشعب روح وإحساس بالإصلاح القومي، وما لم يساهم كل فرد في إصلاح القوم لا يمكن أن تنجح عملية الإصلاح بصورة مرضية.إنني أرى لو أن المسلمين عملوا بهذا الأمر القرآني، واهتموا بتبليغ الهداية جيلا بعد جيل، وأدوا واجب مراقبة حال النـــاس بـصورة صحيحة..لم يصبهم الدمار والهلاك أبدا.والآن من واجب جماعتنا أن يتذكروا هذا الدرس ويسعوا دائما لإصلاح الأجيال القادمة.ينصح الله المسلمين هنا أن من واجبكم أنتم أن تنتفعوا من الفيوض الروحانية لمحمد فتكونوا هداة لأمم العالم، ومن ناحية أخرى فقد جعلنا محمدا رسول الله مراقبا ومحافظا عليكم حتى إذا تطرق إليكم فساد بادر إلى إصلاحه.الواقع أنه بقدر ما يكون الرسول أفضل بقدر ما يوهب من الله أمة أفضل.لو كان الرسول من الدرجة العليا وكانت أمته ناقصة لكان هناك خطر تبديد طاقته.لذا من المستحيل أن يبعث الله رسولا ولا يعطيه أمة بحسب قواه وطاقاته.لقـــــد أُعطــيَ موسى قوما بحسب قواه وطاقاته، وأُعطي محمد أمة بحسب قواه وطاقاته.والمثـــال الواضح لذلك هو أن أمة موسى عليه السلام- قالت له في مناسبة حرجة جـــــدا: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (المائدة (۲٥)، ولكن عندما استشار الرسول ﷺ أمته في يوم بدر فقال أحد صحابته: (لا نقول لك كمـــا قــال قـوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك (البخاري، المغازي).وفي رواية: (لو استعرضت بنا هذا البحر فخفضته لخضناه معك) (السيرة النبوية لابن هشام غزوة بدر)، وفي رواية: (لن يخلص إليك العدو ما لم يطأ جثثنا الهامدة) والحق أن هذا الصحابي كان يتكلم بلسان أمة محمد كلها.لم يكن هذا الصوت صوته وحده، وإنما كان صوتا جماعيا، ويرتفع من لسانه نيابة عن كل الأمة..ممــــا

Page 261

٢٥٨ سورة البقرة الجزء الثاني أبرز روح الفدائية والتضحية عند الصحابة واضحة كالنهار.هذا الفرق بين أمـــة محمد وأمة موسى إنما كان لأن موسى كان محدود الزمن ومحدود القــوم، وجــــاء لإزالة نقائص محدودة.أما الرسول..فقد كانت بعثته للعالم كله، وكان عصره الروحاني ممتدا إلى يوم القيامة، وكان عليه أن يزيل النقائص من الناس إلى يــوم القيامة.فالجماعة التي وهبت للرسول ﷺ لم توهب لموسى، لـذلك خاطـــب الله المسلمين: إننا جعلناكم أمة من الطراز الأول، لكي تكونوا شهداء على الناس رقباء عليهم، ويكون الرسول شهيدا عليكم..أي أن تتم تربيتكم تحت رعايـــة هـذا الرسول، ويتم إصلاح الدنيا تحت رقابتكم..لأن الشخص الواحد لا يمكن أن يبقى في الدنيا إلى الأبد.وإنما جعل المسلمون خير الأمم لأن كفاءة محمد اقتضت أن تكون أمته من الطراز الأول، وإلا لم تتحقق الغاية من بعثه.فكان من الضروري أن تكون الأمة المحمدية خير الأمم ليتشربوا تعليم الإسلام الأسمى فيصلحوا به العالم.ولو لم تتوافر فيهم هذه الكفاءات ما تحقق هدف إصلاح الخلق.بحاجة وفي هذه الآية أيضا دليل على بعث المأمورين في الأمة المحمدية.إذ يتضح منها أن هذه الأمة قد أقيمت لإيصال فيوض محمد المصطفى لله و بركاته إلى الناس دائمـــا.ولما كان هناك خطر من أن يصبح المسلمون أنفسهم غافلين عن هذه الفريضة في زمن ما..فقال إنه عندما تتوقف هذه الفيوض من الوصول إلى الناس بسبب سوء أعمال المسلمين، فإن محمدا سوف يأتي بنفسه إلى الدنيا شهيدا عليها.بمعنى أنه عندما لا تستطيع الأمة المحمدية مراقبة الآخرين وإصلاحهم، بل ستكون إلى الإصلاح..فإن هذا الرسول يأتي لإصلاحها.لذلك أخر الله قولـه (ويكــــون الرسول عليكم شهيدا عن قوله لتكونوا شهداء على الناس)، ولو كان هذا الذكر خاصا بزمن النبي لعكس الترتيب..لأن النبي قام بتعليم الصحابة أولا، ثم علــــم الصحابة الآخرين.ولكن ترتيب الآية يبين بوضوح أن (شهادة الرسول) لا تتعلــــق بالبعثة الأولى للرسول وإنما المراد منها البعثات البروزية الأخرى له.والمعنى أنه هي

Page 262

٢٥٩ سورة البقرة الجزء الثاني عندما يتطرق الخلل إلى رقابة الأمة المحمدية على الآخرين ولا يكون سلوكهم مثاليا..يأتي رسول الله مرة أخرى شهيدا ورقيبا على العالم، وسوف يقوم بتربية المسلمين مرة أخرى ليكونوا أهلاً لتربية الآخرين.كما يبين قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس أن المذكورين هنا ليسوا أولئك الذين كانوا في زمن الرسول ﷺ وحدهم، وإنما المراد الجميع حتى يوم القيامة، وسوف يتحقق قول الله هذا وتبقى الأمة المحمدية شاهدة علـــى العــــالم إلى آ الدنيا..كما يبقى الرسول شاهدا على الناس إلى يوم القيامة.ولما لم يكن الرسول ليعيش بجسده المادي إلى الأبد..لذلك فإن هذه الآية تشير إلى بعثته البروزية، وتبين أن هذه الأمة المحمدية قد أقيمت لإصلاح الآخرين، ولكن عندما يتطرق الفساد إليها نفسها..فلن يصلحها عندئذ رسول من الخارج، بل إن محمدا نفـ بطريقة بروزية سوف يقوم بإصلاح أمته، وسوف يستمر هذا الأمر هكذا إلى يوم القيامة.سه وتشكل هذه الآية دليلا على كون الإسلام دينا عالميا، لأنه لو لم يكن كذلك ولم يكن ليبقى إلى يوم القيام لم يبعث الرسول لإصلاح الخلق بطريقة بروزية.قوله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كانت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه).كان النبي ﷺ قبل التوجه إلى الكعبة يتجه إلى بيت القدس في صلواته، و لم يزل هكذا طيلة حياته المكية لثلاثة عشر عاما وبضعة عشر شهرا بعد الهجــرة إلى المدينة.وأخيرا..بينما كان يصلي بالناس في مسجد سلمة نزل عليه الوحي في شأن تحويل القبلة.فحول وجهه وهو في حالة الصلاة نحو بيت الصحابة معه من اتجاه بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.بني الله الحرام، واتجه وقد قال البعض إن النبي ﷺ وهو في مكة المكرمة كان يتجه إلى الكعبة في صلواته، ولكنه عندما قدم إلى المدينة توجه في صلاته إلى بيت المقدس (البحر المحيط، قولـه تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها)...وهذا غير صحيح.

Page 263

٢٦٠ سورة البقرة الجزء الثاني لقد استغل المؤرخون المسيحيون هذه الفكرة واعترضوا بناء عليها أن محمدا كـــان و يريد إرضاء اليهود بالاتجاه إلى بيت المقدس، ولما لم يفز برضاهم اتجه مرة أخرى إلى الكعبة.كتب المستشرقان ويري وسيل أن محمدا عندما جاء إلى المدينة توجه إلى بيت المقدس لإرضاء اليهود كي يؤمنوا به، ولكنه عندما لم ينجح في مكيدته هـذه قال تعالوا نتجه إلى قبلة آبائنا الأصلية مرة أخرى (تفسير القرآن لويري تحت هذه الآية)، ولكننا عندما ننظر إلى الأحداث التاريخية يتأكد خطأ هذه الفكرة.فمـــن الثابت تاريخيا أن النبي الله كان مأمورا بالتوجه إلى البيت المقدس في صلاته عندما كان في مكة، وطبقا لهذا الأمر الإلهي كان يتجه إلى بيت المقدس قبل هجرته أيضا، وليس بعد هجرته إلى المدينة إرضاء لليهود كما يقولون لم يكن في مكة أي يهودي ليرضيه النبي، وإنما كان يحيط به المشركون من كل النواحي.نعم هناك روايات تذكر أنه كان – وهو في مكة- يقف للصلاة في موضع بحيث منه إلى الكعبة المشرفة وبيت المقدس معا، ولكنه عندما هاجر إلي المدينة لم يكـــن ذلك ممكنا، لأن أورشليم تقع إلى الشمال من المدينة في حين تقع مكة إلى الجنوب منها.وعندئذ أمره الله تعالى أن يبقى متجها إلى بيت المقدس.وقد ورد في هــذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أن رسول الله كان مأمورا باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة يصلي بين الركنين.فتكون الكعبة بين يديه وهـو مستقبل صخرة بيت المقدس.فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس (تفسير ابن كثير، تحت هذه الآية).وهذا يبين أنه عندما كان في مكة يرى أن بيت المقدس هو القبلة الأصلية، إلا أنه كان يتجه إليه بحيث تكون الكعبة ،أمامه، ولكن هذا كان يمثل فائدة ضمنية، والهدف الحقيقي هو التوجه إلى بيت المقدس.ولكن عند وصوله إلى المدنية تغـــير الوضع الجغرافي واستحال عليه التوجه إلى بيت المقدس والكعبة في وقت واحد.فعندئذ اتجه إلى بيت المقدس فقط.

Page 264

٢٦١ سورة البقرة الجزء الثاني فليس صحيحا أنه عندما جاء إلى المدينة أمره الله تعالى أن يتجه إلى بيت المقدس بعد أن كان مأمورا أن يتجه إلى الكعبة في البداية..لأن مثل هذا الأمر ليس ثابتا.وإذ استنتج أحد من توجه النبي ﷺ إلى بيت المقدس وبيت الله الحرام معا وهـو في مكة أن هذا أن الكعبة كانت هي القبلة الأصلية عنــده، فاستدلاله لـيـس صحيحا.إنه كان يعتبر بيت المقدس قبلته الحقيقية، ولكنه كان يتجه إليه بحيث يكون بيت الله أمامه أيضا.يعني ومن الخطأ أيضا ما اعترض به المستشرق (سيل) بأن النبي كان في مكة يتجه إلى حيث يشاء.ومما يبطل اعتراضهم الأول أن النبي الله عندما اتجه نحو الكعبة في الصلاة تعرض لاستهزاء اليهود إذ قالوا للمشركين اشتاق محمد إلى مولده، وعن قريب يرجع إلى دينكم (البحر المحيط تحت هذه الآية.وتؤكد هذه الرواية بكل وضوح أن النبي كان يتجه في صلواته إلى بيت المقدس وهو في مكة، ولو أنه كــان يتجــه إلى الكعبة عندئذ لم يعترض عليه اليهود قائلين إنه يرجع شيئا فشيئا إلى ديـــن أهــل مكة...وإنما يصح اعتراضهم فقط إذا كان يتوجه من قبل إلى بيت المقدس لا إلى بيت الله الحرام.وعلاوة على ذلك يجب النظر فيما إذا كان في هذا التغيير بالفعل مصلحة شخصية.يقول المعترضون إن هذا التغيير كان لإرضاء اليهود أولا ثم لإرضاء أهـــل مكـــة.ولكن القرآن يقول إن هذا التغيير كان ابتلاء كبيرا للناس لم يكن أمرا عاديا أن يأمر الله في مكة أن يتجه أهلها إلى بيت المقدس، ثم في المدينة حيث كان لليهود والنصارى نفوذ، وكان المشركون أيضا متأثرين بهم - يأمر الله تعالى أن يتجهوا إلى بيت الله في مكة.ولو كان أمرا عاديا لم يقل الله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه فهذه الآية تؤكد أن الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس كان ابتلاء كبيرا.وهذا هو الحق.فنظرا لما يكنه أهل مكة من تعظيم للكعبة المشرفة..حتى أنهم كانوا لا يتعرضون لقاتل يلوذ بها..يمكن

Page 265

٢٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني تفهم ما كان في الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس من ابتلاء كبير لهؤلاء.وكان هناك ابتلاء ثانٍ كبير في المدينة حيث كان لليهود نفوذ كبير..عندما صدر الأمر الإلهـ بالتوجه إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.لذلك يعتبر القرآن الأمرين ابتلاء.فقــــال عن الأمر الأول بتحويل القبلة (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)، وقال عن الأمر الثاني بتحويل القبلـة (سيقول السفهاء من الناس ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها...).يتبين من ذلك أن في كلا الحادثين ابتلاء كبيرًا، وفتنة عظيمة، وكان الهدف المقصود من ذلك هو إيقاف الناس على جوهر الدين ومغزاه.ولو كان رأي المعترضين القائل بأن تحويل القبلـــة كان بهدف إرضاء أهل مكة لقال تعالى : إننا نأمركم بتحويل القبلة ليرضى الناس عنكم ويميلوا إلى الإسلام أكثر، ولكن الله تعالى يقول إن النــاس وســـوف يعترضون عليكم بترول هذا الأمر، وسيسبب عثارا لهم.بالفعل كان الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس في مكة ابتلاء ثقيلا على المسلمين مـــــن أهل مكة..لأن هؤلاء كانوا يرون منذ القرون أن بيت الله معبد مقدس، و لم يكن في قلوبهم تعظيم لبيت المقدس إزاء الكعبة.ولما كان لليهود نفوذ عظيم في المدينة..كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ابتلاء شديدا لليهـود والنصارى الذين دخلوا في الإسلام..لأن بيت المقدس كان مقاما مقدسا لديهم.والثابت من التاريخ أن عديدا من الناس وقعوا في الابتلاء وارتدوا بسبب هذا الأمر.فلم يكن هذا التغيير لإرضاء ،أحد بل كان فيه اختيار وامتحان لإيمان الناس ولو كان الغرض إرضاء الناس لكان الطريق الأسلم لذلك أن يأمر الله النبي بالتوجه إلى الكعبة المشرفة من بادئ الأمر وهو في مكة ليرضى عنه أهل مكة، وبالتوجه إلى بيت المقدس كقبلة عندما كان في المدينة ليرضى عنه أهلها من اليهود ولكن الأمر جرى على العكس من ذلك تماما.ففي مكة توجه إلى بيت المقدس، أما في المدينة فبعد مدة وجيزة توجه إلى الكعبة المشرفة.فكان هذا التغيير ابتلاء شديدا لأهــــل

Page 266

٢٦٣ سورة البقرة الجزء الثاني هاتين المدينتين حتى ارتد عدد منهم (التفسير الكبير للرازي، تفسير جامع البيـــان، تحت هذه الآية).وإلى ذلك يشير قول الله تعالى (وإن كانت لكبيرة أي أن حادث تحويل القبلة ثقيل الوقع على الناس إلا الذين هداهم الله..لأن الإنسان إذا كان على صلة عميقـــــة بشيء..لا يستطيع تركه بسهولة، اللهم إلا إذا كان قد تداركته هداية الله وكان عازما على طاعة الله في كل حال، وعندئذ لن يكون الأمر صعبا، ولن يتعثر في أي ابتلاء.منذا الذي يرفض وجود الشمس والقمر بعد رؤيتهما؟ نعم يمكن أن تنشأ في النفوس أسئلة منطقية عما يؤمنون به، ولكن الذين متعهم الله بنعمة الإيمان واليقين فلا يسبب لهم أي ابتلاء نكسة.أما قوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم فمعناه مما لا شك فيه أن هذا كـــــان ابتلاء شديدا صار حجر عثرة لبعض الناس، ولكن الله تعالى لم يكن ليحرمكم من الوعود والبركات المنوطة بأهل هذه القبلة..ما دمتم قد آمنتم بهذا الرسول إيمانــــا صادقا.ولا تعني هذه الفقرة أن الله لن يضيع إيمان أولئك الذين توفوا قبل حـــــادث تحويل القبلة، ولن ينقص من نعمهم ودراجاتهم الأخروية، كمـا كتـب بعـض المفسرين..وإنما معناها الحقيقي أنه لو لم يُعين الكعبة بيت الله قبلة لم تتضح للعــــالم عظمة نبأ إبراهيم، وما كان الله تعالى ليترككم بدون أن ينشئ صلة أبدية بينكم وبين الكعبة ما دمتم قد صدقتم بما هو مصداق للدعاء الإبراهيمي.وقوله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم يشير أيضا إلى أن الابتلاء لا يراد بـه إضاعة الإيمان، فإنما يأتي الابتلاء لإبراز إيمان الصادقين وكشف زيف الكاذبين في إيمانهم، ولتظهر به الحكم وراء أوامر الله تعالى، فيزداد العلم ويترقى..كما حـــصل عند تحويل القبلة.فارتقى المؤمنون علما وازدادوا عددا ومن ناحية ظهر على الناس قوة وعظمة إيمانهم، ومن ناحية أخرى أدركوا بأنفسهم الحكمة من الأمر بالتوجــــه إلى بيت المقدس أولا وإلى بيت الله ثانيا.

Page 267

٢٦٤ سورة البقرة الجزء الثاني عندما قال الله تعالى (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها...) كان من الممكن أن تحوم هناك شبهة أن الابتلاءات تنطوي على نوع من الظلم الذي يضيع الإيمان، ولدحض هذه الشبهة قال الله إن الابتلاءات لا تضيع إيمان المؤمنين، وإنما يضيع بها الزائفين فيه..وإلا لا يمكن أبدا أن يكون أحد مؤمنا صادقا ومع ذلك يتعثر.إنمـــا من لا يكون إيمانه صحيحا.فقط ويثير المستشرق (ويري) بهذه المناسبة اعتراضا ويقول عندما وقع الناس في الابتلاء وتعثروا قال محمد إن هذا كان اختيارا (تفسير القرآن لويري تحت هــذه الآيــة).الحقيقة الواقعة أن هذه الآيات نزلت قبل نزول الأمر بتحويل القبلة، وما دام الأمر بتحويل القبلة لم ينزل بعد فكيف يحدث الابتلاء؟ وإلى ذلك تشير عبارة (سيقول السفهاء).فاعتراض (ويري) في الحقيقة نابع عن تعصبه لا غير.كلمة ونعرف من هذه الآية أيضا أنه ليس في القرآن أي حكم منسوخ، لأن الله تعالى يعلن بكل جلاء ووضوح (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) ويتبين مــــــن "جعلنا" بوضوح أنه كان هناك أمر خاص نزل لتوجيه الرسول ﷺ إلى بيت المقدس في صلاته، ولم يكن يتجه إليه بمحض اجتهاده و موافقا أهل الكاب في التوجه إلى بيت المقدس حين الصلاة.فإذا كانت بعض الأحكام القرآنية تنسخ كما يقول المفسرون..لوجب أن توجد في القرآن تلك الآية التي أمرت الرسول بالاتجاه إلى بيت المقدس..والذي يشير إليه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها.ولكن ليس هناك آية كهذه في القرآن فلا بد إذن من التسليم بأنه لو كان هناك جــزء مـــــن أنه القرآن لينسخ فما كان هذا الجزء ليوضع في القرآن.ولكن الحقيقة الأصلية هي لم يكن هناك شيء من القرآن ينسخ أبدا.وما كان سينسخ لم يكن ينـــــــزل في الوحي القرآني.كانت بيت المقدس قبلة مؤقتة، وكانت الكعبة المشرفة لتكون القبلة الدائمة..لذلك نزل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس في وحي غير قرآني ونسخ فيمـــا بعد.ويتبين من ذلك بجلاء أن جميع الأوامر والأحكام التي كانت ستنـــســخ تنزل في القرآن الكريم، ولو كانت هذه الأحكام موجودة في البداية في القرآن ثم لم

Page 268

الجزء الثاني ٢٦٥ سورة البقرة.نُسخت لكان من الضروري أن تكون موجودة في القرآن بشكلها الأصلي في موضع منه..ولكن عدم وجودها في القرآن يدل على أن الوحى المقرر نسخه كان ينزل خارج القرآن الكريم.كما هو الحال بالنسبة للأمر بالاتجاه إلى بيــت المقدس.فهذا الأمر ليس موجودا في القرآن الكريم في أي مكان..ومع ذلك فإن هذا الأمر يدل على أن الرسول ﷺ قد أوحي إليه وحي في هذا الشأن، ولكن الله تعالى كان يعرف أن هذا الأمر سوف يُنسخ، لذلك لم يضمه إلى الوحي القرآني.إذن فكان النبي يتلقى نوعين من الوحي: الوحي القرآني والوحي غــــير القرآني.الوحي القرآني كان أسمى من أن يأتي عليه النسخ، ولكن الوحي غير القرآني كان يمكن أن يُنسخ كما هو الحال في الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس.نسخ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٥) شرح الكلمات : فلنولينك: ولاه الأمر: جعله واليا عليه.(الأقرب) ولَّيتُ وجهي كذا: أقبلت به إليه (المفردات).التفسير: لقد ذكر بعض المفسرين عن هذه الآية روايات تقول إن الرسول ﷺ كان يتجه في الصلاة إلى بيت المقدس ويكثر النظر إلى السماء ينتظر نزول الأمر بتحويل القبلة (تفسير ابن كثير).متى جاء النهي عن التطلع هنا وهناك في الصلاة؟ هذا مبحث على حدة.ولكـــن كون النبي الله ينظر إلى السماء لهذا الغرض فهو مما لا يقبله العقل السليم ولو للحظة واحدة.لو كان من عادة النبي في الأمور الأخرى أيضا أن يرفع رأسه إلى السماء منتظرا الأمر الإلهي فيها..أمكن عندئذ القول إنه كان ينظر إلى السماء في

Page 269

٢٦٦ سورة البقرة الجزء الثاني صلاته لهذا الشأن.ولكن لا يجوز في صورة من الصور أن يُقبل أمر يتعارض مـــع سنة النبي الله وعمله في أحوال عادية بحجة أن عبارة (في السماء) وردت في القرآن الكريم.الحقيقة أن هذا أسلوب في التعبير أدى جهلهم به إلى قول إن النبي ﷺ كان يحدق بنظره إلى السماء في شأن تحويل القبلة منتظرا الأمر الإلهي.في لغتنــا أيضا يقولون : إن نظري إلى أمر كذا، أو يقولون إن وجهي قد تحول إلى الأمر الفـــــلاني...ولا يعني ذلك أننا فعلا ننظر إلى جهة معينة بعيون مفتوحة.كذلك الأمر في قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء، فإن معناه : إننا نرى أن فكرك يتجه مرة بعد أخرى إلى السماء والمراد أن قلبك لا ينفك يتمنى أن يتزل الأمــر مــن السماء في هذا الشأن.ولو أخذنا الكلمات بمعناها الظاهر لم يستطع المفسرون أن يطبقوا هذا المعنى لأنه سيكون حينئذ: إننا نرى تقلب وجهك في السماء..وتقلب الوجه في السماء غير ممكن لأن الرسول موجود على الأرض.الحق أن "في" هنا بمعنى "إلى"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم) (إبراهيم: ١٠)..وليس المراد هنا أنهم وضعوا أيديهم في أفواههم وإنما أرجعوها إلى أفواههم.ونفس الحال في قوله تقلب وجهك في السماء فليس المراد أن وجهه كان يتقلب السماء هنا وهناك وإنما المراد أن فكره كان يتجه إلى السماء دائما، وإلا فإن رفع الوجه إلى السماء مخالف لشأن ووقار النبي.في جو والمعنى عندي : أننا نرى اتجاه فكرك مرة بعد أخرى إلى السماء، وهذا كما يقال: (إن نظرتي مصوبة إلى ناحية كذا)..أي أننا ننتظر الفوز والنصر من تلك الناحية.كان النبي مأمورًا بالاتجاه إلى بيت المقدس ، إلا أنه قد أدرك بناء على ما أظهــر الأنباء السابقة أن سيكون هناك أمر بالاتجاه إلى الكعبة وأن هذا التوجه من سيكون أول خطوة إلى الرقي، لأن هذا الأمر جُعل علامة زمن ازدهار الإسلام، ومن ثم كان النبي يتجه إلى ربه منتظرا نزول الأمر بالتوجه إلى الكعبة.الله

Page 270

٢٦٧ سورة البقرة الجزء الثاني وقد يكون حرف "في" بمعناه الأصلى..والمراد من السماء هو أحكـام السماء.فالمعنى أنك كنت تفكر مرة بعد أخرى في الأحكام السماوية، وكنت مضطربا في انتظار نزول الوحي الإلهي يقولون في العربية: تكلمت معك في فلان..أي تحدث معك في أمره.فالمراد من قوله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء) إننا نرى أن فكرك يتجه مرة بعد أخرى إلى الأحكام السماوية.أي كان النبيﷺ ينتظر أن ينزل الأمر الإلهي ليعين الكعبة المشرفة قبلة المستقبل.قوله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها يعني سوف نحولك إلى قبلة ترضاها.وتبين هذه الآية بكل جلاء أن قوله سيقول السفهاء يحمل المعنى الذي ذهبت إليه..لأنه لو كان هناك أمر نزل من قبل عن القبلة فلماذا قال تعالى الآن (فلنولينك قبلة ترضاها)؟ يفسر البعض قوله هذا بأننا سوف نجعلك واليا على هذه القبلة (الكشاف).ولكن لو كان المراد ذلك ما قال تعالى (قبلة ترضاها بل قال بلدا أو كعبـة أو بيتــا ترضاه..لأن القبلة هنا بمعنى الجهة، ولا يكون أحد واليا على الجهة..بل يكون واليا على بلد أو مدينة أو مكان.فلا يصح هذا المعنى.وقد فسر العلامة ابن حيان قول الله تعالى فلنولينك قبلة ترضاها) أي لنمكنتك من ذلك (البحر المحيط)..وهذا يبين أن الأمر بتحويل القبلة لم يكن قد نزل بعــــد، وإلا لم يقل الله سوف تمكنك من ذلك.كان قول الله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها وعدا بجعل الكعبة قبلة، وأما قوله (فول وجهك شطر المسجد الحرام ففيه قد صدر الأمر بالاتجاه إلى الكعبة المشرفة لأول مرة، كما بين في قوله تعالى (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره أن هذا الأمر ليس خاصا بالمدينة وحدها..فلا تظنوا أن الله تعالى أمر بذلك في المدينة فقط، لأنه لا يمكن لكم هناك الجمع بين الكعبة وبيت المقدس في اتجاه واحد.كلا، وإنما الأمر الآن هو أن تتوجهوا إلى الكعبة أينما كنتم ولا تفكروا في الاتجاه إلى بيت المقدس.

Page 271

٢٦٨ سورة البقرة الجزء الثاني يتبين من هذه الآيات أن نظر النبي الله في الأمور الروحانية كان ثاقبا لدرجة أنه على الرغم من وجود الأمر بالتوجه إلى بيت المقدس..إلا أنه كان على يقين كامل بناء على فراسته الروحانية - بأن الأمر بالتوجه إلى الكعبة المشرفة نازل لا محالة في يوم من الأيام.ولكنه من ناحية ثانية كان شديد الاحترام للأمر الإلهي حتى أنه لم يدعُ الله قط ليحول القبلة إلى الكعبة، وإنما صوّب نظره إلى السماء منتظـــرا الأمر الإلهي.وفي آخر المطاف، وبفضل توجهه الروحاني هذا..أنزل الله الأمـــر بتحويل القبلة إلى الكعبة بدلا من بيت المقدس.قال الله أولا فول وجهك شطر المسجد الحرام ثم قال (حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره واستخدم صيغة المفرد في الجملة الأولى، وصيغة الجمع في الحملة الثانية..ذلك لأن الخطاب في الفقرة الأولى موجه إلى الرسول ، أما في الثانية فإلى جميع الأئمة والتابعين لهم في الصلاة في كافة البلاد والأمصار.لا شك أن الرسول ﷺ عندما كان يسافر خارج المدينة كان يتجه إلى بيت الله حيثما كـــان، ولكن إقامته في معظم الأحيان كانت في المدينة وكانت في خارجها مؤقتة.أما الآخرون فكانت إقامتهم في المدينة مؤقتة وفي خارجها دائمة..لذلك خاطب الله الفقرة الأولى النبي وحده، ولما كان الذين يصلون وراءه يتجهون إلى حيث يتجــه النبي في صلاته فلم يذكرهم على حدة، واعتبر صلاة النبي شاملة لصلاتهم هم أيضا.أرى أنه يمكن لنا أن نستدل من هذه الآية بصورة قطعية أن الله تعالى قد أمر في الإسلام بالصلاة مع الجماعة واعتبرها أمرًا ضروريًا جدًا، لأن الله قال : فول وجهك شطر المسجد الحرام، ولم يقل: فولوا وجوهكم، ذلك أن سائر المسلمين سينضمون إلى النبي في الصلاة مقتدين به إلا المنافقين الذين لا يكونـــــون بقلوبهم، ويتخلفون عنه في أعمالهم والذين قال الرسول الا الله عنهم إنه يود لو أحرق بيـوت الذين لا يحضرون صلاتي العشاء والفجر (مسلم، المساجد).معه في فصلاة الجماعة أمر غاية في الأهمية في الإسلام، ولو كان النبي لا يؤكد على ذلك لدرجة أنه أتى النبي رجل أعمى فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقــــودني إلى

Page 272

الجزء الثاني ٢٦٩ سورة البقرة المسجد.فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له.فلمـــا ولى دعاه فقال له: تسمع النداء بالصلاة؟ فقال: نعم.فقال: فأجب) (المرجع السابق).ولكن الذين لا يحضرون إلى الصلاة في المسجد هذه الأيام رغم سماع النداء..أي الأحجار تقف في طريقهم حتى يبقوا في بيوتهم؟ وأي عمى أصاب عيونهم حتى لا يحضروا للصلاة في المساجد؟ إن الرسول ﷺ لم يسمح لهذا المكفوف الذي كـــان يتعثر وتسقطه الأحجار بأن يصلي في البيت..ولكن الناس في هذه الأيام يتركــــون صلاة الجماعة في المسجد لأعذار واهية وهكذا يثبتون بعلمهم أنهم مصابون بعمى روحاني ! وبقوله تعالى (فول وجهك شطر المسجد الحرام أشار الله تعالى أنه فيمـا بتعلـق بالإمامة فيكفي إصدار الأمر إلى شخص واحد..لأن المسلمين جميعا سوف يصلون معه ووراءه، وهكذا سوف يشتركون في صلاته جميعا.وقوله تعالى (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم)..أي أن أهــــل الكتاب يدركون أن الأمر بتحويل القبلة جاء من الله بحسب الأنباء الموجودة في كتبهم.ولكن لا يعني ذلك أن جميع أهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك..وإلا لماذا لم يؤمنوا بالرسول للعمل فعدم إيمانهم يدل على أن هؤلاء لم يكونوا يعترفون بصدقه في قلوبهم، ولم يكونوا يتصورونه مصداقًا للأنباء التي في كتبهم السابقة.فالمراد مـــــن (الذين أوتوا الكتاب هم فقط علماء اليهود وزعماؤهم الذين كانوا على معرفــــة تامة بكتبهم، كانوا مطلعين على أنباء من أنبياء بني إسرائيل، وكانوا يعرفون أن الشريعة سوف تتغير، وأن القبلة سوف تتحول أيضا.ولما كـــان الـقـوم تــابعين لزعمائهم..لذلك إذا أدرك الزعماء فكأنهم هم أيضا أدركوا وعرفوا هذا الأمر.ومما لا شك فيه أننا لا نستطيع من التوراة بسبب ما تعرضت له من تحريف على أيدي أهلها - أن نجد أنباء واضحة فيما يتعلق بإسماعيل ومكة المكرمة، ولكن مــــع ذلك نجد آثارًا لها باليقين وأكبر نبأ في هذا الصدد ما ورد في سفر التثنية: "هــذه إسرائيل قبل موته، فقال: جــــاء هي تلك البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني

Page 273

الجزء الثاني ۲۷۰ سورة البقرة الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى مـــع عـشـرة آلاف قدوسي، وعن يمينه نار شريعة لهم" (تثنية ١:٣٣-٣)".ولما كان الله يعلم أن هذا النبأ سوف يتنازع فيه المسلمون وأهل الكتاب فإنه منــــذ البداية وضع فيه كلمات لا يمكن أن يطبقها المسيحيون على أنفسهم.إن أكثر وأشد ما تركز عليه المسيحية هو أن الشريعة لعنة (رسالة غلاطية ١٣:٣)، ولكن الله تعالى جعل أعظم نبأ هنا أن هذا المبعوث سوف يحمل لهم شريعة نارية.فالأمة التي تعتبر الشريعة لعنة لا يحق لها أن تحاول تطبيق هذا النبأ على نفسها.والخبر الثاني في هذه النبوءة أن هذا الموعود سوف يأتي ومعه عشرة آلاف مـــن القدوسيين؛ ولكن المسيح بن مريم لم يحظ بعشرة من القدوسيين دعك من عشرة آلاف.فقد كان له اثنا عشر حواريا، أوقعه أحدهم - كما تقول أناجيلهم – في قبضة العدو، أما الآخرون فقد خذلوا المسيح وفروا عنه عندما جاء العدو ليمسك به.وكان هناك حواري واحد فقط سل سيفه وحمل على العدو فقطع أذنه (متى ٤٨:٢٦-٥١)..ولكن هذا كان نتيجة حماس مؤقت..وإلا فإن الحالة الإيمانية للحواريين تتجلى فيما حدث فيما بعد.فعندما أخذ عمال الحكومة المسيح وذهبوا بـه إلى رئيس الكهنة..وكان بطرس موجودا خارج الدار ، فرأته جارية فقالت له: وأنت كنت مع يسوع الجليلي.فأنكر أمام الجميع، وقال: لست أدري ما تقولين.ثم خرج إلى الدهليز فرأته جارية أخرى فقالت: وهذا كان مع يسوع الناصري.فأنكر وأقسم: إني لست أعرف هذا الرجل.وبعد قليل جاءه بعض الواقفين هناك وقالوا: حقـــــا نسخة أردية الناشر British and Foreign Bible Society لاهور، الهند، الطبعة السابعة ۱۹۰۸ ، وكذلك في طبعة ۱۹۲۲ - راجع صفحات مصورة من النسخة الأردية ولإنجليزية في آخر التفسير..

Page 274

الجزء الثاني أنت منهم ۲۷۱ سورة البقرة فإن لغتك تظهرك.فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لا أعــــرف الرجـــل (متی ٦٩:٢٦-٧٥) التاريخ إذن لم يكن للمسيح حتى عشرة قدوسيين، ولكن سيدنا محمدا فيشهد عنـــه أنه عندما فتح مكة كان في صحبته جيش من عشرة آلاف من القدوسيين دخل بهم مكة في كل جاه وجلال، وفتح قلوب أهلها ببره وعفوه وحسن فودعوا الكفر والشرك، وانضموا إلى صفوف غلمانه (السيرة الحلبية، ج۳ فتح مكة).معاملته، الخبر الثالث في هذه النبوءة هو أن شريعة جديدة سوف تظهر على جبال فاران.والمراد من جبال فاران هو جبال مكة..لأن العرب يطلقون اسم "برية فاران " على ما حول مكة من وديان ومعنى فاران" "في الحقيقة اثنان" من الفارين".وقد أطلق هذا الاسم على هذا المكان بسبب السيدة هاجر وإسماعيل عليهما السلام اللذين سكنا هناك كما ذكرت التوراة بعد أن تعرضا لمضايقة من السيدة سارة.ومما لا شك فيه أن فاران ورد عن عدة أماكن في التوراة (تكوين ١٤و٢١، عـــــدد ۱۰ و ۱۲ و ۱۳؛ الملوك الأول ۱۱؛ صموئيل الأول ٢٥، حبقوق ٣).فأولا ما دام الاسم قد ورد عن أماكن مختلفة، فمن الضروري تعيين هذا المكــان على ضوء الأحداث الواردة في النبوءة، وليس هناك طريق ثان لتعيينه، فإذا لم يكن المراد من جبال فاران ما حول مكة..فالسؤال المطروح من هذا الذي جاء بعشرة آلاف من القدوسيين، وكان في يده اليمنى شريعة نارية؟ لو نظرنا إلى هـذه الأحداث لتأكد لنا أن الرسول الله هو الإنسان الوحيد الذي جاء بشريعة نارية والذي دخل مكة فاتحا مع عشرة آلاف من القدوسيين، والذي فضل اليمين على اليسار في أعماله كلها، أما النصارى فيؤكدون على السير جهة اليسار.فالمراد من (فاران) هو فاران الذي ظهر فيه رسول الإسلام محمد له، وليس أي فاران آخر.

Page 275

الجزء الثاني ۲۷۲ سورة البقرة بني ثانيا- إن ورود اسم فاران لعدة أماكن في التوراة يؤدي بنا إلى الشك بأن إسرائيل أطلقوا اسم فاران على عدة أماكن للتشكيك في الأنباء المتعلقة بإسماعيل من (عليه السلام)..كما فعلوا عند قرب بعثة النبي..فعندما سمع اليهود من علمائهم أن نبيا سوف يُبعث في الجزيرة العربية واسمه محمد بدءوا يسمون أولادهم باسم محمد حتى يكون أحدهم مصداقا لهذا النبأ (طبقات ابن سعد، ج۱، ذكر من تسمى في الجاهلية بمحمد، وأسد الغابة، ذكر محمد الممكن أن أحيحة).بن بني إسرائيل عندما أنبأ موسى عن فاران " أخذوا يطلقون الاسم على أماكن مختلفة حتى يظهر الموعود في أحد منها، ولكن محاولتهم لم تُجدِهم شيئا، بـل بـعـث الرسول الموعود بحسب الأنباء في مكة..التي كان العرب دائما يطلقون علــى مــا حولها "برية فاران ".الله ثالثا- الجبل الذي أطلق عليه اليهود اسم فاران يقع أيضا في الجزيرة العربيـــة، ممـــا يؤكد أنهم لم يستطيعوا جرّ فاران خارج الجزيرة العربية.رابعا هناك دليل في التوراة نفسها على أن فاران هي جبال مكة، فقد ورد فيهـا عن إسماعيل (عليه السلام) أنه سكن في برية ،(فاران وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر (تکوین۲۱: ۲۱).فمكة هي رواية واحدة، بل هناك قبائل وقبائل تنسب نفسها إلى إسماعيل، وجميع آثاره وجدت هناك حيث كانت تماثيل إسماعيل موجودة في الكعبة حتى زمن الفتح.فلا بد من التسليم بما يدعي به أهل مكة، وإلا فعلى اليهود والنصارى أن يقدموا تلك المدينة التي أسسها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والتي ينسب أهلها أنفسهم إلى إسماعيل.فإذا لم يستطيعوا ذلك فلا بد لهم من الإقرار بأن مكة هي فاران التي وردت عنها هذه النبوءة.فإقامة إسماعيل هناك ثابتة ويقول أهل مكة إنه أقــــام هناك، وفي هذا المكان توجد آثاره..ولكن المكان الذي يدعيه اليهود والنصارى أنه البلدة الوحيدة الذي يقول أهلها إن إسماعيل كان بانيها.وليست هذه

Page 276

الجزء الثاني ۲۷۳ سورة البقرة "فاران" فلا يقول أهله إن إسماعيل أقام هناك، مع أن الناس عموما ينسبون مثل هذه الأمور بدون حجة للتفاخر والاعتزاز.خامسا - العين التي أجراها الله لأجل إسماعيل توجد في مكة أيضا، وهـذا ثبــــوت يقيني وقطعي بأن إسماعيل وهاجر جاءا إلى مكة وأقاما هناك.ينبغي ثم هناك نباً في الإنجيل عن تحويل القبلة يقول : إن امرأة سامرية استقى منها المسيح قالت له: آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي أن يسجد فيه.فقال لها يسوع يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هـذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب (يوحنا ٢٠:٤-٢١).في هذا النبأ يعلن المسيح في كلمات صريحة أنه لن يبقى هذا الجبل ولا أورشليم قبلة للعبادة، بل يعين الله قبلة أخرى بدلا منهما.وليكن واضحا أن هذه العبارة لا تعني أن اليهود كانوا جميعا يذهبون للعبـــادة إلى أورشليم، أو أن السامريين كانوا يتعبدون عند هذا الجبل، ولكن المراد أنهم كانوا يتخذون أورشليم والجبل قبلة يتوجهون إليهما في عبادتهم.وقول المسيح أنهم لـــن يتعبدوا عند الجبل أو في أورشليم يعني أنهم لن يتجهوا إلى هذين المكانين في عبادتهم كقبلة لهم.ولنتذكر أنه كما أن الإنجيل عبّر عن التوجه في العبادة إلى الجبل بقوله: (سجدوا في هذا الجبل، كذلك استخدم القرآن الكريم نفي الأسلوب في قوله (قد نرى تقلـــب وجهك في السماء)..ولا يعني ذلك أن الرسول ﷺ كان يــــدير وجهـه في أن فكره كان يتجه دائما إلى السماء.السماء، بل يعني وهناك عدة أنباء أخرى علاوة على هذين النبأين تدل على ازدهار الكعبة، ولكــــــن نكتفي بهذين كمثال لهذا الغرض.ولنفترض أن اليهود لم يكونوا يدركون المراد من هذه الأنباء قبل وقوعها..ولكن لم يكن من الصعب عليهم بعد تحققها أن يتفهموا

Page 277

٢٧٤ سورة البقرة الجزء الثاني أن هذا الأمر بتحويل القبلة كان بحسب نبأ قديم والاعتراض عليه بمثابة الاعتراض على كتبهم هم.ويمكن أن يكون قوله تعالى (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) عن المسلمين أنفسهم.فالمعنى أن الذين أوتوا كتابا كاملا مثل القرآن الكريم يدركون إدراكا كاملا أن الأمر بتحويل القبلة كان من الله تعالى، ليس لأنهم كانوا يعرفون سلفا بأن الكعبة ستكون قبلة لهم، وإنما لأنهم يعرفون أن محمدا نبي ورسول صادق، وأن كلام الله تعالى ينزل عليه، ومن المستحيل والحــــال هـذه ألا يصدقوا بأن أوامره من الله وألا يطيعوه طاعة كاملة بكل معناها.أما قوله تعالى (وما الله بغافل عما يعملون فيخبر الله فيه أننا مطلعون علـــى يفعلون.إن علماءهم الكبار يعرفون في قرارة نفوسهم أن محمدا رسول صادق ولكنهم يرفضونه عنادا وكبرا..وإلا فإنهم يعرفون تماما أن هناك أنباء في كتبهم عن جعل الكعبة المشرفة قبلة وعن بعث نبي في بني إسماعيل..ومع ذلك فإنهم غير مستعدين لتصديق هذا النبي عنادا وكبرا.كان حادث تحويل القبلة في الشهر السادس أو السابع عشر بعد الهجرة، وقد ورد عن البراء بن عازب أن الرسول (ص) صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر..وصلى معه قوم.فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهـــل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي قبل مكة.فداروا قبل البيت (البخاري، كتاب التفسير وابن كثير آية سيقول السفهاء).كما هم 6 وفي رواية عن أبي سعيد بن المعلى أن الصلاة التي حدث فيها تحويل القبلة كانـــــت صلاة الظهر، وقال: كنت أنا وصاحبي أول من صلى إلى الكعبة ابن كثير).وذكر غير واحد من المفسرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله ﷺ وقد صلى ركعتين من الظهر في مسجد سلمة، فسمّي مسجد القبلتين (المرجع السابق).بني

Page 278

الجزء الثاني ۲۷۵ سورة البقرة يتبين مما سبق من الروايات أن بعضها تقول إن الأمر بتحويل القبلة نزل وقت صلاة العصر، والأخرى تقول وقت صلاة الظهر، ولكن يبدو أن الرواية القائلة بصلاة الظهر هي الأصح..لأنه من الممكن أن الأمر نزل وقت الظهر، ولكن الراوي الثاني اشترك في صلاة العصر بعد أن تحولت القبلة، ولما رأى النبي متجها إلى الكعبة ظن أن الأمر بتحويل القبلة نزل وقت العصر، و لم يدر بخلده صلاة الظهر..لذلك نرجح الرواية القائلة بتحويل القبلة في صلاة الظهر.ويؤكد هذا حديث نويلة بنت مسلم بأن الخبر جاءهم بذلك وهم في صلاة الظهر، قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال (المرجع السابق).إن من أحكام الصلاة في الإسلام أن يكون الرجال أمام النساء، فعندما نزل الأمر بتحويل القبلة اضطر الرجال والنساء إلى تغيير وضع الصفوف وتبادلوا الأماكن.وقد ورد في هذا الباب أيضا أن أهل (قباء) لم يصلهم الخبر إلا وقت صلاة الفجـــــر في اليوم الثاني (البخاري، كتاب التفسير.ومن هذا نستدل أنه لو وصل الخبر من المدينة إلى أهل قباء بعد يوم وهي على مسافة ميل واحد فلا بد أن البراء بــــن عازب قد أخطأ في تعيين الوقت الذي تحولت فيه القبلة وقال إنه وقــت صــلاة العصر.إنه ظن أن تحويل القبلة تم وقتها لأنه اشترك في هذه الصلاة..ولم يسأل أحدا متى نزل الأمر بتحويل القبلة، وإنما حسب أن صلاة العصر هي الصلاة الأولى التي تم فيها تحويل القبلة.مكة.ولا تذكر هذه الروايات أيضا أن الرسول بعد هجرته إلى المدينة بدأ يصلي متجهــا إلى بيت المقدس بدلا من الكعبة، ولو صح ذلك لوجدنا رواية من أحد ممن جاءوا إلى المدينة قبل هجرة النبي..أنه كان قبل ذلك يتجه إلى بيت الله الحرام في الحق أن النبي كان يتجه إلى بيت المقدس وهو في مكة أيضا، ولم يزل متجها في صلاته إلى بيت المقدس بعد هجرته إلى المدينة طيلة ستة عشر أو سبعة عشر شهرا.فباطل تماما اعتراض القسيس ويري بأن الرسول الله بدأ يتجه في صلاته إلى بيـت

Page 279

الجزء الثاني ٢٧٦ سورة البقرة المقدس عندما جاء إلى المدينة إرضاء لليهود، وعندما لم ينل رضاهم اتجه مرة أخرى إلى مكة.هناك رواية واحدة فقط تقول أن النبي ﷺ بعدما جاء إلى المدينة اتجه إلى المقدس إرضاء لليهود – والعياذ بالله.ولكن كلمات الرواية تدل على أنهـا مـــن اختلاق منافق أو يهودي سيئ الطوية..وتقول: (أول ما نسخ من القرآن القبلـة وذلك أن محمدا كان يستقبل صخرة بيت المقدس وهي قبلة اليهود، واستقبلها سبعة عشر شهرا ليؤمنوا به ويتبعوه ويدعوا بذلك الأميين من العرب؛ فقال الله عز وجل (لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله).فعبارة أن محمدا كان يستقبل صخرة بيت المقدس تدل على أنها من اختراع منافق فتان أو يهودي خبيث..عندما رأى النبي ﷺ قد اتجه إلى الكعبة المشرفة في صلواته احترق حسدا وكمدا..ووضع هذه الرواية ونشرها بين المسلمين ليوهم أن النبي ﷺ صلى نحو بيت المقدس إرضاء لليهود ولما فشلت هذه الحيلة إلى الكعبة ر المشرفة.وذكر بعض المفسرين هذه الرواية الموضوعة - جهلا منهم وحمقـــا —في تفسيرهم وقالوا إن النبي ﷺ توجه إلى بيت المقدس لتأليف اليهود (جامع البيــــان للطبري، تحت تفسير هذه الآية." ومن البراهين على أن هذه الرواية موضوعة أنها جاء فيها أن محمدا كان يستقبل..ولم تقل "رسول الله" مع أن المسلمين ما كانوا ينادون النبي ولا يذكرون اسمه، وإنما كانوا يذكرون مقامه الروحاني ويقولون رسول الله ".أما أصحاب الأديان الأخرى فكانوا ينادونه بكنيته أبي القاسم بدلا من اسمه إجلالا واحتراما له حسب العادة العربية..فقد ورد في الحديث أن يهوديا جاء إلى الرسول ﷺ ذات مرة في المدينة وبدأ يناقشه ويجادله ويكرر اسمه قائلا "ليس الأمر هكذا يـــا محمد..فكان النبي يجيبه بدون أي ضيق، ولكن الصحابة كانوا في ضيق وغضب لوقاحته..حتى أن أحدهم لم يصبر على ذلك وقال لليهودي: لماذا تناديه باسمه؟ إذا كنت لا تستطيع أن تقول: يا رسول الله، فناده بكنيته "أبي القاسم" فقال اليهودي:

Page 280

۲۷۷ سورة البقرة الجزء الثاني لا أنادي إلا بما سماه أبواه فتبسم النبي وقال لأصحابه: لقد صدق فقد سمــــاني أبواي محمدا، فدعوه ينادني به ولا تغضبوا.يبين هذا بجلاء أن الصحابة كانوا لا يذكرون اسم محمد..وكانوا يضيقون بمـــــن يناديه باسمه من غير المسلمين.فهؤلاء الذين كانوا لحبهم وغيرتهم على رسول الله لا يطيقون أن يناديه أحد باسمه..كيف يمكن أن يتصور عنهم أن يحدثوا عنـــه باسمــه وليس مقرونا بصفته الروحانية.هذه الرواية أن محمدا.تدل بنفسها على أنهــا ليست من فم مسلم وإنما هي من قول اليهود لأنهم هم الذين قالوا: لقد توجه محمد إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، ولكنه الآن توجه إلى قبلة آبائه.و لم يفكر واضع هذه الرواية أن يتخير ألفاظا لا تكشف عن خداعه، فاخترع روايـــة شــاء الله أن تكون كلماتها فاضحة لخداعه، وتبين أن الناطق بها منافق كذاب بغضه وعناده – أن الصحابة لا يستخدمون كلمة محمد وإنما يقولون (النبي، أو نبي الله، أو رسول الله قال كذا وكذا.نسي- لشدة صحيح أن صاحب تفسير جامع البيان ذكر كلمة (النبي ) ولكـــن يبدو أن المسلمين هم الذين أضافوا هذه الكلمات عند نقل هذه الرواية.على أي حال، مهما كانت ألفاظ الرواية..فإن موضوع الرواية نفسه سيئ وخبيث لدرجــة لا يقبلها إنسان سليم الفطرة ولن ينسبها إلى الرسول.كذلك ذكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة " رواية عن الزهري أنه صرفت القبلة نحو المسجد الحرام في رجب على رأس ستة عشر شهرا من مخرج رسول الله ﷺ من مكة، وكان رسول الله ﷺ يقلب وجهه في السماء وهو يصلي نحو بيت المقدس، فأنزل الله عز وجل حين وجهه إلى البيت الحرام سيقول السفهاء من الناس...يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وما بعدها من الآيات فأنشأت اليهود تقول: قد اشتاق الرجل إلى بلده وبيت أبيه (ج۲، باب تحويل القبلة).وقد ذكر ابن كثير هذه العبارة (لقد اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه) (تفسير ابن كثير، تحــت هذه الآية.وتؤكد هذه الرواية أيضا أن اتجاه النبي والمسلمين من بيت المقدس

Page 281

۲۷۸ الجزء الثاني سورة البقرة إلى الكعبة كان شديدا أو شاقا على اليهود، وكانوا يعترضون على المسلمين بشدة ويقولون: ماذا جرى لهم؟..مرة يصلون إلى القبلة ومرة يصلون إلى قبلة أخرى.وقد دفعهم ولعهم بالطعن في المسلمين أن وضعوا هذه الرواية المذكورة آنفا.وعلى أي حال، تبين هذه الرواية بوضوح أن قول الله (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِم لم ينزل بعد الأمر بتحويل القبلة وبعد اعتراض اليهود، وإنما نزل قبله، فبعد نزول الأمر بتحويل القبلة بدأ اليهود يعترضون، وأيضا تزلزلت أقدام بعض ضعاف المسلمين وارتدوا هذا الموضوع أذكره خلافا لما قالته التفاسير الأخرى عامة، ولكن رواية البيهقي تصدق أن قوله تعالى (سيقول السفهاء...) لم ينزل ردا على اعتراضات أثاروها من قبل..وإنما جاء دحضا لاعتراضات سوف يثيرونها، وقد أنبأ الله سلفا بوقوعها.وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٦) التفسير : يقول الله تعالى أنكم لو أريتم أهل الكتاب كل صنوف الآيات لم يتبعــــوا قبلتكم.وأي شك في هذا؟ إن التسليم بقبلة المسلمين يعني إقرارهم بـأن سلسلة النبوة قد انقطعت عن بني إسحاق، وأن الدين اليهودي باطل، وأن الدين الإسلامي حق..ولكن اليهود لم يكونوا مستعدين لذلك إن فسوقهم وخضوعهم للأعراف الدينة والشعبية حال دون اتجاههم إلى هذه القبلة الجديدة.فظلوا مصرين على الرفض.وتبن هذه الآية أنه لا يمكن أبدا أن تؤمن أمة بكل أفرادها، بل لا بد أن يهلك بعضهم.ولما كان الله تعالى يريد أن يُعز النبي عزة غير عادية..لذلك جعله في مستمر لمدة ثلاث وعشرين سنة، وفي هذه الفترة أهلك الله الطائفة الخبيثة، ثم نضال

Page 282

الجزء الثاني ۲۷۹ سورة البقرة وفق العرب للإيمان به وباختصار فإن سلسلة الاختلافات مستمرة منذ الأزل إلى الأبد.فالذي يخاف المعارضة شديد الحمق.ثم يقول الله (وما أنت بتابع قبلتهم.لاحظوا هنا جمال الأسلوب القرآني.وكيف أنه صد على العدو سبيل الاعتراض.كان من الممكن أن تمضي الجملة على هـذا النحو: "ولن تتبع قبلتهم".ولكن استخدام الاسم "تابع" هنا غير صورة الجملة.ذلك لأن الجزء الأول من الآية يبين أنهم لن يتبعوا قبلتك رغم كل آية تأتي بها لهم، ولو كانت العبارة بعدها "ولن" تتبع قبلتهم ، لكان معنى ذلك أنك أيضا لن تتبع قبلتهم ولو جاءك هؤلاء بكل دليل وبرهان..وهذا يعرّض الرسول للاعتراض.فجاء بالجملة الاسمية ليدفع عنه الاعتراض، وليبين أن هذا الرسول يرفض قبلتهم بناء على أدلة لديه من الله تعالى.والسؤال الآن : لماذا قال الله تعالى (وما أنت بتابع قبلتهم..مما قد يفهم منه موقف العناد؟ يجب أن نتذكر أن هذا ليس عنادا لأن الرسول توجه إلى بيت بأمر منه عز وجل، و لم يكن لدى النبي أي عناد تجاه اليهود.ولو كان الأمر كذلك لم يتوجه النبي إلى بيت المقدس في صلواته قبل الهجرة لسنوات ثم بعدها لمدة سبعة عشر شهرا.هذا الفعل منه يدل على أنه لم يكن يعاند اليهود، ولكـــن فعـــل اليهود أثبت وأكد أنهم كانوا يعاندونه، لأنهم رغم اطلاعهم على نبوءات واضحة في كتبهم عن تغيير القبلة لم يقبلوا التسليم بها.فهناك دليلان واضحان يدحضان تهمة العناد عن الرسول.أولا - أنه توجه في صلواته لسنين إلى بيت المقدس.الله الحـــــرام ثانيا أن توجه الرسول إلى بيت الله الحرام كان بأمر إلهي.أما رفض اليهود التوجه إلى هذا البيت فلم يكن بناء على إلهام إلهي ، وإنما بدافع العناد.فشتان بـيـن فعـــل الرسول وبين فعل اليهود!

Page 283

الجزء الثاني ۲۸۰ سورة البقرة قوله تعالى وما بعضهم بتابع قبلة بعض).هنا أتى الله بما يوضح عنادهم أكثر، فقال: إن هؤلاء لا يتبعون قبلة بعضهم البعض.الحقيقة أن قبلة اليهود مختلفة عـــــن قبلة النصارى.قبلة اليهود هي أورشليم..كما هو واضح من سفر الملوك الأول (۳۰-۲۲:۸) ودانيال (٦ : ١٠.ولكن الفرق السامرية منهم كانت تتجه في عبادتها إلى جبل في أورشليم كما هو واضح مما جاء في إنجيل يوحنا أن امرأة من السامريين كانت تحاور يسوع فقالت : آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه.قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب.(يوحنا ٤ : ٢٠ - ٢١).يتبين من ذلك أنه كان هناك على الأقل فرقتان من اليهود إلى زمن المسيح: فرقة تتجه في العبادة إلى جبل في أورشليم وفرقة تتجه إلى أورشليم.أما النصارى فكانوا في زمن الرسول الله يتجهون عند العبادة إلى الشرق، واليهود يتجهون إلى بيت المقدس.وقد ورد في الأحاديث أن وفدا من نصارى نجران جـــــاء النبي ، ولما حانت عبادتهم أدوها في المسجد النبوي "فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم" ( شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني، فصل ١٠ الوفد ١٤).سیح والسبب في توجههم في الصلاة إلى الشرق كما يقول القسيس أكبر الهندي – هو أن النجمة الدالة على ظهور الإله المسيح ظهرت في الشرق، وكذلك تمت ولادة وحياة وموت وقيامة الاله كلها في الأرض المقدسة، لذلك كان يجب التوجه إلى الشرق وإلى هذا البلد سِلْك ،مرواريد، ج ١ ص ٤٥) المزيد من التفصيل عن هذا الموضوع يرجع إلى التفسير الكبير سورة مريم – آية: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ].يقول الله تعالى: كيف يمكن لهؤلاء أن يقبلوا قولكم وهم متعصبون لدرجة أنه يختلفون في قبلتهم مع أنهم ينتمون إلى كتاب واحد، وإذا كانوا يعاندون بعضهم البعض رغم أن شريعتهم واحدة ويشوهون وجه الدين..فكيف يمكن أن يميلوا إليكم.

Page 284

۲۸۱ الجزء الثاني سورة البقرة قوله تعالى (ولئن اتبعت أهواءهم).يعترض بعض الناس على هذه الجملة ويقولون: هل كان من الممكن للرسول أن يتبع أهواءهم ويصبح ظالما؟ والجواب على ذلك أولا - يتبين من القرآن الكريم أنه يستخدم بعض الأحيـــان صيغة الخطاب الموجه إلى الرسول في الظاهر، ولكن المراد منه كل إنسان وليس الرسول، كقوله تعالى (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) (الإسراء: (٢٤).فالخطاب موجه للنبي في الظاهر مع أن أبويه الكريمين قد توفيا وهو صغير.وهذا يوضح أن الرســـــول لـيـس مقصودا بهذا الخطاب وإنما هو موجه لكل إنسان وهكذا الحال بالنسبة لآيتنــا الحالية، فيقول الله تعالى: يا من تقرأ القرآن إذا اتبعت الأهواء الفاسدة لأعداء الإسلام فستصبح من الظالمين..لأننا قد أنزلنا علما يقينيا عن طريق هذا الرسول، فإن لم تنتفع به واتبعت سبيل الآخرين لألحقت بنفسك ضررا بليغا.أما الرسول فقد قال الله عنه في هذه الآية نفسها وبكل صراحة (وما أنت بتابع قبلتهم)..فكيف يمكن أن يعارض ما قاله في الفقرة التالية..فيقول له : إذا اتبعت أهواءهم أصبحت من الظالمين؟ فليس المراد هنا الرسول لله وإنما كل مسلم.وبالفعل ترك المسلمون اليوم القرآن الكريم واتبعوا العلوم الأخرى التي تتغير وتتبدل كل يوم، معرضين عن العلم اليقيني النازل في القرآن الكريم.وثانيا - يُصدر القاضي أحيانا قراره ويمليه على كاتبه موجها حكمه إلى المجرم فيقول مثلا: "إنك تُعاقب على هذه الجريمة بالسجن لمدة كذا ".فلا يقف كاتب المحكمة صارخا ويقول: لماذا تعاقبني بهذه العقوبة؟ كذلك يعلن الله عـــن قـــــراره.وليس المراد منه إلا الذي يخالف القانون.وثالثا يمكن بعض الأحيان أن يخاطب صاحب القرار أحد أقاربه بينما يكـــــون الكلام في الحقيقة موجها إلى الآخرين، وفي هذا تهديد وتحذير بأنه إذا فعل أحـــــد أقاربه هذا العاقبه وليس المراد أن قربيه هذا سوف يفعل ذلك، وإنما المراد هو تشنيع الجريمة وتحذير الآخرين وكذلك الحال هنا، فلا يمكن أن يفعل الرسول ذلك..بل

Page 285

۲۸۲ سورة البقرة الجزء الثاني خوطب لتحذير الآخرين وتنبيههم إلى أن كل من يخالف هذا الأمر سوف يعاقب مهما كانت مكانته مثلما فعل الرسول عندما قال: لو أن فاطمة بنت محمــد سرقت لقطعت يدها (البخاري، الحدود، ولا يعني ذلك أن السيدة فاطمة – عليها السلام يمكن أن تسرق ولكن المراد هو أن يحذر الآخرين ويعرفوا أنه لن يفرق بين صغير وكبير في تطبيق الحدود.الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٧) التفسير : في هذه الآية يبين الله تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صدق محمد ﷺ كما يعرفون أبناءهم ومعرفة الابن دائما تتم بشهادة الأم.عندما يرى الزوج أن زوجته عفيفة صالحة فلا يقع في شك أو شبهة بشأن أولاد تلدهم، بل يراهم نسله بصورة شرعية.هذه الصورة ذاتها يقدمها الله تعالى ويقول إن الذين آتينـــاهـم الكتــاب يعرفون صدق محمد كما يعرفون أبناءهم.فكما أن الإنسان الذي يعـرف عفــــة زوجته ويعتبر الأولاد الذين تحملهم وتضعهم أولادا له ولا يقع في شك أنهم أولاد لغيره...كذلك الحال لأولئك الذين رأوا صدق محمد وسداده، فأكبر دليل عندهم على صدق محمد هو وجوده هو.فعندما أوحى الله إلى النبي ﷺ (وأنذر عشيرتك الأقربين)، جمع الناس في مكة وقال لهم (أريتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا.قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد البخاري، التفسير سورة الشعراء).فمع أن هذا الأمر كان مستحيلا، لأن ما وراء هذا التل هو ميدان صغير لا يختفي فيه خمسون أو ستون شخصا، دعك من جيش جرار، ومع ذلك أجاب هؤلاء: إننا نصدقك في كل ما تقول لأننا لم نحرب عليك الكذب إلى اليوم وكأنهم كانوا مستعدين لقبول المستحيل لو قاله محمد ، ولكنهم مع ذلك رموه بالكذب والخداع ورجعوا.

Page 286

۲۸۳ سورة البقرة الجزء الثاني إذن كان النبي ﷺ معروفا مشهورا بينهم بالأمانة والصدق لدرجة أن العدو كـــان يقول أن ليس هناك في مكة من هو أكثر منه صلاحا وأمانة.فما دام الإنسان لا يشك في صحة نسب أولاده ويقبل شهادة الزوجة العفيفة على الرغم مما تقع فيه زوجته من أنواع الكذب عموما..فما باله لا يصدق شخصا لا يقول إلا الصدق وهو مبرأ من الكذب؟ يقول الله تعالى عليكم أن تعاملوه على الأقل كما تعاملون أبناءكم.أما الزوجات فليس ثمة شاهدان على صدقهن، بينمــــا يقف كل أهل مكة شهداء على صدق هذا الرسول حتى أن أعداءه لا يستطيعون نكران صلاحه وأمانته.فكيف يصح إنكاره ورفضه.وفي قوله تعالى وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) يبين الله تعالى أن منهم من يخفون الحق عمدا، فهم يعرفون صلاح محمد وأمانته، ويعرفون جيدا أنه شخص لم يقترب من الكذب والخداع أبدا..ومع ذلك يخفون الحق ويتعمدون تكذيبه.عندما ادعى رسول الله النبوة كان أبو بكر خارج مكة في سفر، وعنـدمـا رجــع أبلغته إحدى إمائه : أن صاحبك قد جن ويقول قولا عجيبا..يقول إن ملائكة السماء تنزل عليه.فقام أبو بكر من فوره وجاء النبي في بيته وطرق الباب، فقابلــه النبي.فقال له: جئت أسألك في أمر.هل قلت إن ملائكة من السماء تنزل عليك وتحدثك؟ ومخافة أن يتعثر أبو بكر ويزل قدمه أراد النبي الله أن يشرح له الأمر أولا، ولكن أبا بكر أصر وقال لا أريد شرحا حسبك أن تخبرني: هل قلت هذا؟ ومرة أخرى أراد النبي الله أن يمهد له الأمر خشية أن يسأل أبو بكر عن شكل الملائكــــة وكيف تنزل، ولكن أبو بكر أصر على أن يعرف هل صحيح ما يقال عنـك؟ فقال النبي : نعم.فقال أبو بكر: إني أؤمن بك وأصدق كـــل مــا تقــول.ثم أضاف: يا رسول الله، إنني منعتك من بيان أدلة صدقك لأنني أردت أن يكون إيماني مبنيا على المشاهدة لا على الأدلة..لأنني إذ أعتبرك صالحا وصادقا فلا يبقـــــى بعد ذلك حاجة إلى دليل.فالأمر الذي أراد أهل مكة إخفاءه أظهره سيدنا أبو بكر الله بعمله (رضي عنه).

Page 287

الجزء الثاني ٢٨٤ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ (١٤٨) شرح الكلمات : سورة البقرة الممترين الامتراء الجدال؛ الشك (المنجد)..التفسير : يقول الله تعالى إن هذا حق من عنده، ولا بد أن ينتشر في العالم يوما ما.إن الإنسان عندنا يتشكك في وقوع ما يقول فإنه يلجأ إلى أنواع الأعذار خوفا من ألا يتحقق قوله.ولكن ما يقوله رسولنا حق واقع لا محالة ولماذا لا يتحقق ما دام هو من عند ربكم الذي خلقكم وطوركم درجة فدرجة وعلا بكم إلى هذا المقام السامي؟ هل يمكن أن يتخلف كلام من يقوم بهذه الربوبية العظيمة؟ فما الفائدة من رفض كلامه؟ وسواء رفضتموه أم لا..فإن الأمر سوف ينتشر بلا شك؛ فرفضكم إياه لن يجديكم شيئا، وإنما أنفسكم تضرون.كنت صغيرا عندما رأيت في المنام أن هناك مباراة في لعبة هندية شبيهة بالمصارعة تسمى (كبدي)، تجري في الطريق المؤدي إلى دار الضيافة بالقرب من المدرسة الأحمدية بـ"قاديان"، وأن هناك خطا يفصل بين الفريقين المتبارين، وجماعتنا في جانب، وغير الأحمديين في الجانب الآخر.وكل من يأتي إلى جانبنا يمسكه رجالنــــا ويجلسونه عندهم...حتى أمسك فريقنا بكل رجالهم هكذا، وبقي المولوي محمــد حسين البطالوي أحد خصوم الجماعة الألداء في الجانب الآخر.بعد ذلك رأيت أنه توجه إلى الجدار وبدأ يسير نحونا، ولما وصل إلى الخط الفاصل بين الفريقين قال: ما دام الجميع قد جاءوا إليكم فأنا أيضا آتي إليكم.ثم جاء إلى جانبنا.هذا ما يقول الله: إن هذا الحق سوف يتغلب في الدنيا، وسوف تؤمنون في آخـــــر الأمر، فلماذا لا تؤمنون اليوم؟ انظروا كيف أن المشركين يوم فتح مكة جاءوه وتوسلوا إليه ليصفح عنهم فقال: اذهبوا لا تثريب عليكم اليوم.ولقد قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود ما معناه : هذا قدر السماء، ولا بد أن في كل حال..فلماذا ترفضونه وتفسدون عاقبتكم مرات كمالات الإسلام ص (۲).يتم

Page 288

الجزء الثاني ٢٨٥ سورة البقرة وَلِكُلِّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٩) شرح الكلمات : وجهة- الوجه الجهة؛ المنهاج؛ المقصود.فاستبقوا استبق أراد كل واحد أن يسبق الآخر.التفسير : هناك مفعول به محذوف بعد (موليها) وتقدير الجملة: ولكل وجهة ، موليها وجهة..أي لكل شخص غاية معنية يركز عليها كل أفكاره، ويضعها نصب عينيه طيلة حياته، ويسعى بكل انهماك لتحقيقها.أحيانا يتخذ النجاح في التجارة هدفا له، وأحيانا الفلاح في الزراعة، وأحيانا الحصول على السلطة السياسية، وأحيانا الرقي في العلوم، وأحيانا خدمة الأرامل واليتامى والمساكين، وأحيانا نشر الدين.مهما كانت قدرات الإنسان عظيمة أو ضئيلة فإنه يعمل شيئا ما..لأن الفراغ والبطالة ليسا في الحقيقة من الفطرة الإنسانية.وهكذا الحال بالنسبة للأقوام والأمم..كل أمة تجعل لها الغاية، وتبذل لأجلها كل تضحية.وما دام كل إنسان يفعل شيئا لا محالة، ويكون مشغولا بعمل شيء..فيجب أن يكون لكــم أيهـا المسلمون أيضا غاية ولكن يجب أن تكون غاية موحدة بدلا من أن تكون لهــذا غاية ولذاك غاية بسبب الفرقة القومية.والناس يعينون مقاصدهم وأهدافهم بأنفسهم، ولكننا رحمة بالأمة المحمدية..نعين لهم بأنفسنا غاية سامية لتكون دائمــــا نصب أعينهم، وهي: "استبقوا الخيرات"..يجب أن يحاول كل واحـــد مــنكم أن يسبق صاحبه وأخاه في فعل الخير.وبقوله تعالى (فاستبقوا الخيرات بين الله طريقا عجيبا لازدهار الأمم..لا يهتم بــه الناس هذه الأيام عموما للأسف.فقد لوحظ أنه عندما ينصح الإنسان صاحبه ويرغبه في الخيرات يقول: أنتم تضغطون على الفقراء فقط ولا تهتمون بالأثرياء ولا تسألونهم.لو كان أحد ثريا أو كبيرا من الناحية الدنيوية، ولا يستبق في الخيرات ولا يشارك فيها..فلماذا تتخذه مثالا وقدوة لك؟ عليك أن تقتدي بالقدوة

Page 289

الجزء الثاني ٢٨٦ سورة البقرة الحسنة، وبدلا من أن تنظر إلى فقر أحد أو ثراء أحد..تنظر من هو المتقي ومن هو البار.إن الفقير الصالح البار أحسن عند الله آلاف المرات من الثري الذي لا تقوى فيه.أما الصحابة فكان حالهم أن ذهب الفقراء مرة إلى النبي ﷺ يشتكون إليه: "قد ذهب أهل الدثور [أي الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم! فقال: وما ذلك؟ قالوا: يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويعتقون [أي يحررون العبيد]ولا نعتق فقال رسول الله : أفلا أعلمكم شيئا تدركون من سبقكم وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى، يـــا رسول الله قال : تسبحون وتكبرون وتحمدون في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة..فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (مسلم، المساجد).هكذا كان الصحابة متحلّين بروح التنافس والتسابق في الخيرات.أن فبدلا من يعترض الإنسان ويقول لماذا لا تكلفون فلانا بهذه الخدمة..عليه أن يشارك بنفسه في العمل ويتسابق مع إخوانه في فعل الخير.كل واحد له غاية في الدنيا: فهذا يحب الأكل، وآخر يحب التمتع بالملذات وثالث يغرم باللباس الأنيق، ورابع يريد المال، وخامس يحب الغيبة والنميمة، وسادس يحب الشجار؛ وســـابع يحب التجارة..فكل امرئ له غاية يسعى للحصول عليها، ولو رأيتم أفقر الناس وأجهلهم لوجدتم أن له أيضا هدفا وغاية؛ فبعضهم يسعى ليكون من كبار القوم، ومنهم من يريد تعليما عاليا، وبعضهم يطمح أن ينال سلطة سياسية، وما دام لكل واحد هدف وغاية..فلماذا لا تفعلون فعلا يجمع الخيرات؟ لماذا لا تعقدون العزم على ألا تتخلفوا عن أحد في أي عمل حسن.في عهد الرسول ﷺ تشاجر أبو بكر وعمر ذات مرة، وعندما انصرفا تأسف أبــو بكر وفكر أنه لو بلغ الأمر الرسول لتضايق منه.فذهب إليه وقال: "إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علــي ذلك، فأقلت إليك.فقال : يغفر الله لك أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم، فأتى مـــترل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ قالوا : لا ، فأتى النبي (ص) فجعل وجه النبي

Page 290

۲۸۷ سورة البقرة الجزء الثاني (أي يتغير حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنـــا كنت أظلم..." (البخاري، المناقب).هذه هي روح الخير والتسابق في الخيرات بين الصحابة.الخطأ من عمر ولكن أبا بكر يعتذر أمام الرسل لهم حتى يزيل سخطه عن عمر.لا شك أن هناك العديد من المزايا التى تميز الإسلام وتفضله على الأديان الأخرى، ولكن من أعظمها أنه بينما تدعوا الأديان إلى عمل الخير فإن الإسلام يدعو للتسابق في الخير.يقول الله تعالى أن كل أمة قد اختارت طريقا لنفسها، وأعرضوا عن طريق الخير، يقولون إنهم يدعون إلى الخير ولكن الحقيقة غير ذلك..وبسبب انحرافهم نحو جوانب أخرى بقي جانب الخير خاليا لا يطرقه أحد، فعليكم أن تأخذوا هذا الجانب.عليكم أن تعملوا الخير، ثم تتسابقوا في فعل الخيرات، وتحاولوا أن تبدوا الآخرين فيه.لقد اختار الله كلمة (استبقوا) التي لا تدل في الظاهر على السرعة والعجلة، لأنه لو كان هناك من يسيران ببطء، وسبق أحدهما الآخر بعض الشيء لعدّ ذلك استباقا أيضا، وإن كان هذا السبق قليلا..ولكن لو تدبرنا في كلمة "استباق" لوجدنا أنهــــا في الحقيقة تعني السرعة بأقصى درجة، لأن الله تعالى أمر هنا كل إنسان أن يستبق ولو أن أحدا سعى للاستباق وسبق قليلا..فالأخر أيضا مأمور أن يسبقه، وهكذا كلاهما مأمور أن يستبق ويسبق..وسيحاول كل منهما أن يسبق بقــدر قـواه الإنسانية، ومن ثم سوف يكون الرقى والتنافس في فعل الخيرات متزايدا باستمرار ليصل إلى أعلى سرعة كان من الممكن أن يستخدم هنا كلمات أخرى ترادف الاستباق في الخيرات، كأن يقال: فاسعوا في عمل الخيرات، ولكن الواقع أن مفهوم (استبقوا) لا جد في أي كلمة أخرى.فهذه الكلمة جامعة بحيث لا توجد كلمة يو أخرى تؤدي بنفس القوة معنى السعي إلى هدف والحصول عليه بأسرع ما يمكن.يمكن أن يجري الإنسان ولكن ليس بكل قوته، وقد يسرع ولكن ليس كما يجب، أما الاستباق فلا يتحقق معناه ما لم يبذل المستبقون كل قواهم..لأن كل فرد منهم

Page 291

۲۸۸ الجزء الثاني سورة البقرة مأمور بالسبق، لذلك سوف يحاول كل فرد أن يسبق الآخرين..ولا يتحقق ذلك إلا إذا زاد كل واحد من سرعته وقوته إلى أقصى استطاعته ويستنزف كل طاقته و همته في هذا الصدد.غافلة الحق أن القرآن يقارن هنا بين الإسلام والأديان الأخرى، ويبين أن الأديان الأخرى عن فعل الخيرات وغير واقفة على حقيقتها.فالفرصة متاحة الآن للمسلمين كي يتقدموا إلى الأمام ويسعوا لأن يسبق كل واحد منهم الآخر.وهــذه ليـــست بالعملية السهلة.إذا كان السباق مع اثنين أو ثلاثة فلا بأس، ولكن هـــذا سباق ملايين.السباق مع اثنين أو ثلاثة أيضا يتطلب أخذ العدة والتجهيز..فمــا بالـك مع الملايين ؟ انظروا إلى سباق الخيل كم يبذلون مـــن جهــود وســـعي للاشتراك فيه..فإذا كان السباق مع الملايين فيمكن أن تتخيلوا كم يتطلب ذلــك بسباق من إعداد.يقول الله هنا أن المؤمن يُعرف بمعيار هو تسابق في الخيرات.والسعي للتسابق إلى الخيرات يرفع مستوى القوم باليقين إلى درجة تفوق التقدير.وكلما فقد الخير في القوم أو تضاءلت روح التسابق لعمل الخيرات فإنهم يشرعون في الهلاك أو يمضون في الانهيار والسقوط، ولكن ما دامت هذه الروح قوية..فإنهم مهما كانوا قد بلغوا من الذلة والسقوط فإنهم لا يزالون يتألّقون، وتكون لديهم الفرصة لسبق الأمم مرة أخرى.إننا نجد بين أولياء الله من زمن قريب..عندما كان المسلمون في حالة مـــن الانحطاط الشديد..أمثلة للتسابق في فعل الخيرات تولد في قلب الإنسان حرارة.هناك مثلا حادث الشهيد سيد إسماعيل، الذي كان من القرن الثالث عشر الهجري، والذي كان مريدا لسيد أحمد البريلوي.ذهب سيد أحمد البر يلوي إلى بشارو للجهاد ضد السيخ، وكان سيد إسماعيل في مهمة بمدينة دلهي، وأثناء عودته مـــــن وصل إلى مدينة كاملبور.فقيل له أن النهر الذي عندها لا يقدر أحد علــى عبوره سباحة إلا رجل من السيخ وليس هناك من المسلمين من يهزمه في ذلك.قال إذا كان أحد السيخ يفعله فلماذا لا يفعله مسلم؟ قرر ألا يغادر المكان حـــى يعبر هذا النهر.فتوقف هناك وتدرب على السباحة لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر حـــــى هناك

Page 292

الجزء الثاني ۲۸۹ سورة البقرة مهر في السباحة وعبر النهر.وبذلك بين أنه إذا كان السيخ يعبرون النهر فبوســــع المسلمين أن يعبروه مثلهم، بل ويمكن أيضا أن يسبقوهم متى أرادوا.كلما نتذكر هذه الروح للتسابق نشعر في أنفسنا بنمو ونضج، وفي قلوبنا بحــرارة وحماس، وفي أفئدتنا بعزيمة وهمة..ونقرر أننا لن نخضع لخصم أو معارض مهما حدث.إن الإسلام لا يسمح أبدا أن نكون كسالى في مجال الخير، بل علينا أن نستبق فنسبق حتى آباءنا وأجدادنا في الخيرات.ولكي تكون أمتنا أقوى وأعـــز الأمم..علينا السعي كي نسبقها في المجال العلمي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي.إن القرآن المجيد بقوله تعالى (فاستبقوا الخيرات وبقوله في موضع آخر فالسابقات سبقا) (النازعات (٥..قد أشار إلى أن الدنيا في سباق، فمن واجبكم أن تسبقوا الجميع.إنه من واجب جماعتنا أيضا أن يفحص كل فرد منا نفسه ويحاسبها.وأن يولد في قلبه حبا عميقا وَوَلَهًا عظيما تجاه الدين.ويجب أن يكون أمامه في نومه ويقظته وفي قيامه وقعوده غاية ،واحدة ألا وهي أننا سوف نجعل الإسلام غالبا على الأديان كلها، وما لم تتولد فينا هذه الروح لن ننجح في أهدافنا.وعلاقة هذه الآية بالتي قبلها أن الله بين من قبل أن اليهود قد جعلوا معارضة الـ في كل حال هدفا لهم، فقال (ولئن) أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) وكأنهم وإن فقدوا الله ورسوله لن يرتدعوا عن معارضة النبي.هذا لأنهم لم يعينوا لهم غاية وهدفا ساميا.لذلك يجب عليكم أيها المسلمون، أن تحددوا لكم غاية سامية، ولكن تذكروا أن لا تكتفوا بخير واحد ليكون هدفا لكم..بل يجب أن تجعلوا الخيرات كلها هدفا لكم.وكلما علمتم عن عمل خير فأسرعوا دون تردد أو تفكير لكسبه، واعتبروا الابتعاد عنه بمثابة الموت لكم.وتذكروا ثانيـــا أن يكــــون التسابق في الخيرات دائما غاية لكم.وثالثا إذا سبقتم غيركم بـسبب كــسله أو بسبب سرعتكم..فلا تكتفوا بسبقكم إياه في خير واحد..بل اسعوا لتكونوا سباقين في كل خير، وبأسرع ما يمكنكم.

Page 293

۲۹۰ سورة البقرة الجزء الثاني وإلى ذلك ينبه الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها) (ابن ماجة الزهد.يبين هذا الحديث :أولا أن المؤمن لا يقوم بأي عمل بدون حكمة، فهو جامع لكل المحاسن وشامل لكل الخيرات.وثانيا: نصحنا فيه الرسول أن المؤمن إذا رأى أي شيء من الحكمة حاول الحصول عليه وكأنه فقده وقــــد عاد إليه، وبغض النظر عن مصدره..أَخَرَجَ من فم منافق أو كافر..فإنه يسرع في الحصول عليه.فكما يجد الوالد ابنه المفقود فيسارع إلى احتضانه؛ كذلك المؤمن يجب أن يسرع إلى كل حسنة ويقول: هذه كانت ملكا لي، وللأسف حازهـا الكافر أو المنافق، وها قد عادت إلي فلأستردها وأتحلى بها مرة أخرى.إن كثيرا من المساوئ تقع في العالم فقط لأن الناس يكتفون بما عندهم من محاسن ويفتخرون بها ولا يسعون لتحصيل المحاسن الأخرى في أنفسهم.ولو رأى المرء في عدوه حسنة اعتبرها سيئة بغضا وحسدا، ولا يفكر أن عمله هذا لا يضر عـــدوه شيئا، لأنه فعلا يتحلى بهذه الحسنة، ولكنه يضر نفسه لأنه نفسه حرم من التحلـــي بتلك الحسنة بغضا وحسدا.فمن واجب المؤمن أن يتحلّى بكل حسنة، وأن يسبق الآخرين في التحلى بكل خير.ويجب ألا يُفْهَمَ من ذلك أن الإسلام بتعليمه هذا يدعو إلى الحسد.ذلك لأن التباري ضروري في الأمور الدينية والدنيوية أيضا، وبدون التباري لا يمكن أن يتم الرقي الكامل، بل إن التسابق بين الأمم والأفراد هو الأساس لكل رقي في العالم.أما الطمع والجشع فقد استأصله الإسلام برمته في قوله تعالى (كنـتـم خـيـر أمـــة أخرجت للناس) (آل عمران: (۱۱۱)..أي واجب المؤمن أن يأخذ الآخرين إلى حيث وصل، لأن غايته هو نفع الآخرين.كذلك قال تعالى (ولتكن مــنـكـم أمــــة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: ١٠٥).فالمؤمن إذا نال خيرا فإنه على الفور يدعو الآخـــرين ليسرعوا ويأخذوه.كأن على المؤمنين أنهم إذا استبقوا أخذوا معهم المتخلفين، وإذا استبقوا مرة أخرى سحبوا وراءهم المتأخرين عنهم..وهلم جرا؛ كلما سبقوا ساعدوا غيرهم على اللحاق بهم وتنافسوا من جديد في الخيرات.وهذه هي حالة العشق.

Page 294

الجزء الثاني ۲۹۱ سورة البقرة يصحبوا معي فالله تعالى يريد من المؤمنين أن لا يصلوا وحدهم إليه سبحانه وتعالى، بل يجب أن معهم الآخرين.ومثال ذلك ما قاله سيدنا يعقوب لأبنائه وهو يودعهم في رحلتهم إلى مصر: لا ترجعوا وحدكم بل عليكم أن تحضروا أخاكم بنيامين معكم (يوسف: ٦٧).كذلك يقول الله : تعالوا إلي مسرعين وأتوا بأبنائي الروحانيين الآخرين أيضا.فالمؤمن يجري ويسعى إلى الله ويقول : إني ذاهب إلى ربي، ولكني إذا وصلت إليه فبم أرد عليه..لذلك لا بد أن آخذ الآخرين.فقوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجي للناس) وقوله ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قد استأصلا الحسد والطمع، لأن المؤمن عندما ينال خيرا فإنه يدعو الآخرين فورا ليشتركوا معه، وبهذا يتم السباق اللطيف الطيب بينهم في الخيرات وكذلك لا تكون هناك أية شائبة من الحسد والطمع.فما ألطف هذه المباراة، وما أعجب هذا التسابق ؟ قوله تعالى (أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا )..أينما كنتم سوف يجمعكم الله آخر الأمر.وسوف يسألكم عن تكاسلكم وغفلتكم وتقصيركم في اصطحاب الآخرين في سباق الخيرات.فيجب أن تفكروا في ذلك اليوم دائما، ولا تقصروا في أداء واجبكم، فالله محاسبكم لا محالة قائلا: قد أنعمت عليكم بنعمة الإسلام، فلماذا لم تبلغوها الآخرين، ولما لم تحاولوا سبق غيركم في محال الخيرات.فيجب أن تستعدوا لذلك اليوم قبل حلوله، وتدرسوا أعمالكم وتحاسبوا أنفسكم حتى لا تندموا يومئذ، ولا تُعدّوا عند الله من المجرمين.قوله تعالى إن الله على كل شيء قدير..فلا تظنوا أن هذا الهدف ليس في متناول يدكم، كما يدعي البعض ويقولون : ليس من حظنا أن ننال هذا المقام العظيم، فلا يعملون بهمة ونشاط، وإنما يقعدون عاطلين عن العمل منهارين، ويقولون لن نحصل إلا على ما قدره الله لنا.مع أن الله تعالى وهب للإنسان قوى عظيمة يستطيع بمــا أن يتسابق في الخيرات، ويأخذ الآخرين ويضمهم معه.هذا ليس متعذرا عليه أبدا.

Page 295

الجزء الثاني ۲۹۲ سورة البقرة وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٥٠) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (101) شرح الكلمات خرجت إلى جانب المعنى المعروف للخروج هناك معان أخرى له منها: أولا -خرج عليه: برز لقتاله (الأقرب)، ومعنى القتال والحرب مذكور في آية أخرى حيث قال الله تعالى فإن رَجَعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا..إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا الخالفين) (التوبة : (۸۳).فالخروج هنا بمعنى البروز للقتال.وثانيا خرج عليه خلع طاعته يقال: خرجت الرعية على الوالي: خلعت الطاعة.وثالثا-خرج الوالي على السلطان: تمرد (الأقرب).مع حجة الحجة دليل يجعل المرء غالبا على خصمه...قال الأزهري : الوجـ الذي يكون به الظفر يسمى حجة (لسان العرب.ومن حيث الغلبة على الخصم يسمى حجة (كليات أبي البقاء.وقد وردت الحجة بمعنى الدليل الغالب في الحديث النبوي الشريف عن الدجال، قال الهلال لو ما إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) (ابن ماجة أبواب الفتن)..أي إذا خرج الدجال وأنا بينكم فسوف أقدم الأدلـــة التي ينهزم أمامها.هذا الحديث يؤكد من ناحية أن الحجة هي الدليل الذي يهزم الخصم، ويبين أيضا أن القتال ضد الدجال لن يكون بالسيف بل بالحجة والبرهان، لأن الرسول قال فأنا حجيجه أي غالبه بالحجة..أي بالدليل والبرهان وليس بحد الحسام.إن العلماء المعارضين يعترضون على سيدنا المهدي والمسيح الموعود أنه لم يُهلك الدجال قتالا بالسيف، بل نسخ الجهاد بالسيف كلية؛ مع أن هـؤلاء لـو

Page 296

۲۹۳ سورة البقرة الجزء الثاني تدبروا في كلمات هذا الحديث أدنى تدبر لاتضح لهم أنه من الضروري التغلب على الدجال بالأدلة والبراهين وإلا كان لا بد أن يذكر حديثا من الأحاديث أن الدجال سوف يهلك بالسيف.والحجة أحيانا تأتي بمعنى الدليل الضعيف مع وجود قرينة معه..كما جاء في القرآن الكريم (حجتهم داحضة عند ربهم) (الشورى: ۱۷).والحجة الدليل المحض كما ورد في القرآن الكريم (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) (البقرة: (۲۵۹ فالحجة هنا بمعنى الدليل فقط والقرينة أنه لا يمكن للفريقين التغلب على الآخر في وقت واحد.إلا الذين ظلموا تأتي "إلا" بمعنى "لكن" فيقولون: ما لك علي حجة إلا أن تظلمني..أي ولكنك تظلمني (البحر المحيط، وتفسير فتح البيان، تحت الآية نفسها).وتأتي "إلا" بمعنى العطف مثل (لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء)..حيث تعني "ولا" من ظلم.."مغني اللبيب ج ١ حرف الهمزة).فمعنى قوله تعالى (لئلا يكون على الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم)..أي أن الناس..العاقل منهم والظالم..كلهم لا يستطيعون أن يقدموا دليلا يشكك في صدق المسلمين.التفسير : قال المفسرون في قوله تعالى ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أن معناه : يجب عليكم حيثما كنتم أن تجعلوا المسجد الحرام قبلتكم ذلك على أي حال.وسبب عندهم أن الله عندما أمر بالتوجه إلى القبلة..فربما يظن أحد أن هذا الأمر خاص بأهل المدينة لا للجميع لذلك قال الله تعالى : من حيث خرجتم فاتجهوا نحو المسجد الحرام.ولكن الحقيقة أنه..سواء كان الخطاب إلى رسول الله الله أم إلى المسلمين جميعا..فلا تعنى الآية أن يتجهوا إلى القبلة..وذلك لعدة أسباب.

Page 297

الجزء الثاني ٢٩٤ سورة البقرة أولا-لأن الصلوات التي يؤديها الإنسان وقت إقامته في بلده أو قريته أكثر من تلك التي تحين وقت خروجه من البلد عموما..لذلك كان من الواجب أن يصدر أمــــر يُغطي أكثر ما يمكن من الصلوات بدلا أن يصدر أمر تقل الفرصة للعمل به في حالة السفر.فمثلا يمكن أن يخرج المرء من البلد في العاشرة صباحا أو بــين الـعـصر والمغرب أو في منتصف الليل..وكل هذه أوقات لا مجال للصلاة فيها عـــــادة.إذن والحال هذه، فإن قول الله تعالى (من حيث خرجت فول وجهك شــطر الـسـجد الحرام) يصبح بلا فائدة أو معنی لأنه قلما يخرج الإنسان من البلد وقــت الصلاة..فإما أن يكون قد أدى صلاته قبل الخروج، أو يمكن أن يؤديهـا بعـد خروجه.فلا علاقة للصلاة بوقت الخروج.كان من الممكن التسليم بهذا المعنى لـــو كان هناك صلاة لها علاقة خاصة بخروج الإنسان من بيته وبلده، ولكـــن الجميــــع يعرفون أنه ليس هناك صلاة خاصة بوقت الخروج.فإذن لا يصح تطبيق معنى الآية أبدا على خروج الإنسان من بيته وبلده بإرادة السفر.هذه ومما يؤكد قولنا أن هذه الآية لا تتعلق بالتوجه إلى القبلة وقت الصلاة هو أنه في حالة السفر أحيانا لا يمكن الاتجاه إلى القبلة وتجوز الصلاة عندئذ في أي جهــة يكون عليها الإنسان.مثلا إذا كان على مطيته ولا يستطيع النزول عنها، فبحسب القرآن والسنة النبوية تجوز صلاته سواء كان وجهه إلى القبلة أم لا.ولا تبقى الجهة ذات معنى عندئذ، وإنما يستوي الشرق والغرب والجنوب والشمال، ويكفي التوجه القلبي إلى الكعبة المشرفة (البقرة: ١١٦ ومسلم، صلاة المسافرين).في هذه الأيام، عندما يركب الإنسان في القطار، فلا يمكن أن يتقيد بجهة لأن القطار يتجه مرة إلى الشمال ومرة إلى الجنوب أو إلى أي جهة أخرى، ولكن هذا لا يخل بصلاة الراكب فيه.فلو صح المعنى الذي يقول به المفسرون ما أمكن أن يعمل به المسافر على مطية أو قطار أو طائرة.وما دام الإنسان لا يستطيع وقت الخروج أن يتجه إلى جهــة معينة فكيف يمكن أن يكون معنى هذه الآية أن يلتزم الإنسان بالتوجه نحو الكعبــة المشرفة من حيث خرج مسافرا؟

Page 298

سورة البقرة الجزء الثاني ثم إنه لا يصح هذا المعنى أيضا لأن المعنى الحرفي للآية أنك من حيث خرجت يجب أن تتجه إلى البيت الحرام.والواضح أن الإنسان لا يؤدي صلاته وهو يخرج وإنما يؤديها عند توقفه في مكان ما.لو كانت كلمات الآية فحيث ما كنـت فــــول وجهك شطر المسجد الحرام "لصح المعنى الذي يذهب إليه المفسرون، ولكـــن الله تعالى يقول هنا (من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام).فتبين مـــــن كل ذلك أن هذه الآية لا تعنى التوجه إلى المسجد الحرام وقت الصلاة.يقول المفسرون إننا لو لم تربط هذا الخروج بالصلاة للزم التكرار في القرآن.ولكن قولهم هذا أيضًا خطاً.إنهم يجدون في القرآن تكرارا لأنهم لا يستطيعون الربط الصحيح بين مواضيع القرآن ومطالبه الصحيحة فحيثما يجدون إشكالا يدخلون في متاهة الناسخ والمنسوخ، فيأخذون بآية ويعتبرون الأخرى منسوخة، ويتخلصون من الإشكال.مع أننا لو نظرنا إلى حقائق القرآن الكريم التي بينها سيدنا المهــــدي والمسيح الموعود (عليه السلام) لم نجد في القرآن أي تكرار، ولم نضطر إلى القـــول بنسخ آية منه.الواقع أن الرسول الله عندما أخرج من مكة وجد أعداء الإسلام فرصة للاعتراض ﷺ قائلين: إذا كان هو الموعود حقا ومصداقا للدعاء الإبراهيمي، وإذا كان له علاقة خاصة بالكعبة المشرفة..فلماذا طرد من مكة؟ إذن فليس هو مصداقا للدعاء الإبراهيمي.فيرد الله على هذا الاعتراض قائلا (من حيث خرجت فول وجهـك شطر المسجد الحرام)..يا محمد..إن خروجك من مكة مؤقت.ونعدك أننا سوف نمكنك من الرجوع إليها مرة أخرى والاستيلاء عليها.وعندما يقطع الله مع عباده المؤمنين وعودا فإنه يتوقع منهم أيضا أن يبذلوا من جانبهم جهودا لتحقيقها، ولا يعدهم الله فيجلسوا عاطلين، ويظنوا أنه ما دام الله تعالى قد وعد فلا بـــد أن يحققها بنفسه ولا حاجة لنا لبذل الجهود سعيا لتحقيقها.يصح أن لقد وعد الله قوم موسى أنه سيعطيهم "أرض كنعان.فخرج موســى مــع قومه..وعندما وصل إزاء هذا البلد قال لقومه ادخلوها واستولوا عليها بالقتال.

Page 299

٢٩٦ سورة البقرة الجزء الثاني ولكن قومه أخطئوا وظنوا أن الله سوف يحقق لهم الوعد لا محالة ويعطيهم البلد بنفسه، إذ لا معنى للوعد في نظرهم إذا هم بذلوا الجهد وفتحوا البلد بمشقة القتال.فقالوا لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعــدون) (المائدة: ٢٣ - ٢٥ و خروج ۸:۳-۱۷..لقد أخبرتنا يا موسى أن الله وعدك سيعطينا هذا البلد، فمن واجبك أنت وربك أن تفتحا لنا البلد، ولو فتحناه بأنفسنا فما معنى وعودك لنا؟ فاذهب أنت وربك وقاتلا..أما نحن فسننتظر هنا، فإذا فتحتم لنا البلد فسوف ندخله.وقولهم هذا يبدو معقولا في الظاهر، لأن الإنسان إذا وعد أحدا بمنحة شيئا، وجاء الموعود يسأل تحقيق الوعد، فقال له: اذهب واشتره من السوق..لذم الناس هــذا الإنسان وقالوا: إذا كان على الموعود أن يشتريه من السوق فلماذا الوعد بإعطائه؟ لكن قول أصحاب موسى رغم معقوليته شكلا إلا أنه في الحقيقة غاية الحمق فيما يتعلق بالجماعات الإلهية.فالله تعالى لم يمدح بني إسرائيل على ذلك، ولم يقل: لا حاجة بكم للقتال وسنعطيكم هذا البلد، بل قال لهم: إنكم تطاولتم علينــا، ولذلك سوف نحرمكم هذا البلد فاذهبوا تائهين في البراري ضائعين في الفيافي لأربعين سنة، ولن ترثوا هذه الأرض بل سيرثها أجيالكم بعدكم (المائدة ٢٧ ، وسفر العدد ٣٣:١٤).فالقول الذي يبدو من حيث المعايير الإنسانية صحيحا معقولا، يعتبر غاية الحمق بالنسبة للجماعات الإلهية، ويجلب على الإنسان عذاب الله.ذلك أن الإنسان عندما يعد، وهو لا يملك التصرف في التغيرات السماوية والأرضية..فإنه يعد فقط بشيء يكون تحت تصرفه.ولكن وعد الله تعالى يعني أنكم لا تستطيعون الحصول على هذا الشيء بجهودكم الشخصية..فهذا مستحيل لكم..ولكنكم ســــوف تنالونــــه بمعونتنا ونصرتنا.هذه الأمة التي عاشت لمئات السنين تحت نــــير العبوديـــة عـنــد فرعون واشتغلت بالأعمال الشاقة المهينة من صنع اللبن وقطع الأخشاب..أنى لها أن تستولي على بلد عظيم يحكمه قوم عاد ؟ لم يكن ذلك الاستيلاء سهلا عليهم.

Page 300

۲۹۷ سورة البقرة الجزء الثاني يقول الله تعالى: إن استيلاء كم على هذا البلد مستحيل في الظاهر، ولكننا نعدكم أن بإعطائكم إياه، وسوف تستولون عليه بمعونتنا ونصرتنا.ووعد الله لعباده لا يعني الله تعالى يحقق وعده بنفسه ولا حاجة للعبد في بذل الجهود..ولكنه يعني أنكم إذا بذلتم الجهود وأخذتم بالأسباب فسوف نعينكم وننصركم فتفلحون.فكأن وعود الله تعالى من نوع، ووعود العباد من نوع آخر، فوعود الله للعباد دور فيها..هو أن يأخذوا بالأسباب لتحقيقها، وإذا لم يتدخل العباد ويبذلوا الجهود لتحقيقهــا استوجبوا العقاب.ولكن وعود العباد تختلف عن الوعود الإلهية، لأن العبد لا يستطيع أن يعد غيره ويقول (سوف أغير لك قدر الله..لأن هذا ليس من خياره ولو وعد بذلك لقال له الناس: من أنت حتى تدّعي ذلك؟ ولكن الله تعالى هـو القادر على أن يقول : لو فعلتم ذلك فسوف أنصركم وأغير لكم قدري؛ لأن القدر بيده، ويمكن أن يغيره متى يشاء.فعندما مكة قال للمسلمين لا تكونوا مثل قوم موسى فتظنوا الله يعني أنكم وعد الله رسوله بفتح.أنه ما دام الله تعالى قد وعدكم بالفتح فسوف يفتحها لكم بنفسه..ولا حاجة لكم بالأخذ بالأسباب؛ بل عليكم أيضا أن تبذلوا جهودكم لتحقيقه.إن وعد أنكم ضعفاء.إذا لو لم تكونوا ضعفاء ما تركتم مكة.فهجرتكم منها يعني ضعفاء، وأن عدوكم قوي، ولكن الله تعالى سوف يقويكم وسوف يمكنكم بفضله ونصرته من انتزاع مكة من أيديهم.إذن فمعنى قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أنكم من حيث خرجتم يجب أن يكون فتح مكة أول غاية وهدف لكم.للقتال وحاربتم ثم من معاني الخروج البروز للقتال؛ فتعني الآية أنكم كلما خرجتم في أي مكان واتجهتم إلى أي اتجاه فيجب أن يكون خروجكم هذا تمهيــــدا لفـتـح مكة.فمثلا لو خرجتم للقاء عدو في الجنوب ثم أدركتم أن هناك أعوانــا لـه في الغرب قد يهاجمونكم من الخلف فتصديتم لهم..فذلك أن حربكم في الغـــرب هي تمهيد لحرب العدو الذي في الجنوب.وكذلك لو كان للعدو أنصار في الشمال يعني

Page 301

الجزء الثاني ۲۹۸ سورة البقرة أو في أي مكان، فمحاربتكم إياهم هو حرب للعدو الجنوبي..لأن هدفكم الحقيقي هو الهجوم على العدو في الجنوب إلى هذا المبدأ يشير الله هنا ويقول: أيا كان البلد الذي تخرجون لمحاربة أهله فيجب أن تكون وجهتكم مكة، لأن الله تعالى يريد أن تفتحوها وتستولوا عليها.فتح وعندما نلقي نظرة على غزوات النبي لا نجد هذا العامل بارزا جدا، فكان مكة هو الهدف الأسمى لقتاله وحروبه.لقد هب لقتاله عدد من الأمم، وأثاروه فعلا واشتبكوا معه، فإذا رأى في حرب أنها تفوت عليه هدفه هذا ولا تحققه، أو أحـــــس بأن القتال مع عدو سوف يؤخر فتح مكة..فكان يغض النظر عنه رغم استفزاز العدو له.ولكن إذا أثاره قوم وكانت هزيمتهم خطوة لفتح مكة قاتلهم النبي.کل الغزوات الإسلامية كانت تنطوي على هذه الحكمة..وعلـــى وجـــه الخـــصوص الغزوات التي تمت قبل فتح مكة..فقد كان هدفها الوحيد التمهيد لفتح مكة.فهذه الآية لا علاقة لها بأداء الصلاة والتوجه إلى الكعبة، وإنما معناها أنكـ حيث خرجتم متجهين إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب..فيجب أن تكون وجهتكم هي مكة...ويكون فكركم وخيالكم وعقلكم دائما متجهــا إلى فتح مكة والاستيلاء عليها، وبالتالي توطيد الإسلام في الجزيرة العربية.ومن معاني "الوجوه" التوجهات والاهتمامات (المفردات).فالمقصود إذن أن يكون لكم اهتمام وهدف واحد، وهو فتح مكة، ولتكون لكم الكعبة المشرفة، لأنه ما لم تقع مكة في قبضة المسلمين لا يمكن أن يدخل سائر العرب في الإسلام.هذه هي الخطة والغاية التي عينت للمسلمين..ولا شك أنها كانت خطــة خــــارج نطاق مقدرة المسلمين.نعم، لم تكن في الجزيرة العربية حكومة منظمة، ولكنها لم تكن أيضا تحت حكم طائفي.كان ملوك عديدون على صلة بهم ، ويتعاهـــدون معهم.وصحيح أنه لم تكن لمكة حكومة منظمة حق التنظيم ولكنها على كل حال كانت عاصمة حكومة يبلغ سكانها ما يقرب من مليون ونصف المليون.كانــت

Page 302

الجزء الثاني ۲۹۹ من سورة البقرة السكان، القبائل حولها تنظر إلى أهلها، وكانوا يطيعون حكامها في قراراتهم وأوامرهم.ثم إن مكة كانت بلدا كبيرا بمقياس ذلك الزمن يقطن بها خمسة عشر ألفا و لم يكن أهلها فقط، بل كل سكان الجزيرة العربية كانوا محاربين مطبوعين علـــى القتال ماهرين في فنونه.ولم يكن محاربتهم أمرا سهلا بالنسبة للمسلمين.عنـدما نزلت هذه الآية على النبي لم يكن عدد المقاتلين في المسلمين يزيد على أربع أو خمس مئات أو ألفا على أكثر تقدير.وكان عدد المسلمين رجالا ونساء.وكبارا وصغارا عشرة أو اثني عشر ألفا.أما عتادهم الحربي فلا يستحق الذكر.وعندئــــذ حين لم يكن أي تناسب بين المسلمين والكفار في العدد والعدة، ولم يكن لقوتهم الحربية أي وزن..قال الله للكفار متحديا إن هؤلاء المسلمين الذين ترونهم قلة ضعيفة بلا حيلة..سوف يفتحون بلدكم في يوم من الأيام، ويستولون علــى عاصمتكم، وينالون السلطة فيها حتى يقومون منها بنشر تعاليم الإسلام وأحكامه ويمحون الكفر والشرك من أرض الجزيرة العربية.هذا التحدي بالنظر إلى حال المسلمين كان ضربا من الخبل.ثم أنه لم يكن موجها لأهل الجزيرة العربية وحدها، بل كان له أثر واسع فلم يكن يضمن نبأ عن فتح مكة، ولا نباً بالتغلب على الجزيرة العربية فحسب وإنما كان أيضا تحديا قويا لليهودية والمسيحية والمجوسية..بأن الإسلام سوف يظهر على كل هذه الأديان ويسود في العالم كله.كانت هذه الدعوة دعوة جنونية بحسب الظروف يومئذ، ولذلك كـــان الكفـــار يسمون الرسول ﷺ مجنونا، وأصحابه مجانين كانوا لا يرون في هذه الدنيا المادية أية أسباب مادية لتحقق هذه الدعوة والحقيقة أن الأعمال غير العادية لا تنجز ما لم يكن في الإنسان أحيانا ما يسميه الأطباء (هَوَس) وما لم ينس الأمور الأخـــرى كلها، وما لم يتولد في نفسه قلق واضطراب كل حين، وما لم يوجد فيه نوع مـــــن الجنون.وإلى هذا الأمر ينبه القرآن الكريم هنا ويقول عليكم أن تنسوا كل الأهداف الأخرى، وتضعوا في حسبانكم أن فتح مكة للإسلام أول واجب عليكم،

Page 303

الجزء الثاني سورة البقرة واعلموا أنه ما لم يتم الاستيلاء على هذا المركز وهذا الحصن لن يتم لكم فتح سائر العرب ثم الدنيا من بعدها.وهنا ينشأ سؤال: لماذا قال الله تعالى ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)..ولماذا لم يقل: ومن حيث هاجمتم فاجعلوا المسجد الحرام غايتكم؟ والجواب: أن الإنسان وقت خروجه يقرر هدف هجومه، وليس بعد القتال يحــــدد هدفه.ولما كان الله يريد توجيه أنظار المسلمين إلى هدف فتح مكة قال: من حيث خرجتم..انظروا ماذا يكون أثر هذا الخروج على فتح مكة.إذا لم يكن مساعدا على إنجاز فتح مكة فدعوه.ولكن هذا لا يعني أن الإسلام يعلم أتباعه بهذا الأمر الحروب العدوانية..لأن التاريخ يؤكد ويثبت أن الحروب مع الكفار قد بدأت قبل نزول هذه الآيات.وجدير بالملاحظة أن الله خاطب هنا رسوله فقط حيث قال (ومن حيث خرجت)..ذلك لأنه لم يكن هناك بعد النبي ﷺ حاجة إلى فتح مكة.لقـد قــدر سبحانه وتعالى ألا يقع هجوم بعد ذلك على مكة..بل ستبقى في قبضة المسلمين كلية.وكأن في هذا النبأ أنه لن يتم فتح مادي لمكة مرة أخرى..لأن الله تعالى قـــــد خلق جماعة فعالة لتوطيد عظمة مكة، وسوف تبقى في قبضة المسلمين إلى الأبد.قوله تعالى (وإنه للحق من ربك)..نزلت هذه الآيات بعد الهجرة بستة عشر شهرا، و لم تكن المصاعب عندئذ قد زالت من طريق النبي تماما، و لم يكن رعبــه وهيبتــه وحكمه قد استتب بعد صورة كاملة.فكان من الأمور المضحكة أن يقال عندئذ بأن النبي سوف يفتح مكة.لذلك قال الله تعالى : ليقل المعارضون ما شاءوا، وليسخر المخالفون كما يحلو لهم..ولكن هذا الأمر سوف يتم بإذن ربـك، ونبــه المستهزئين: إنكم تعتبرون هذا مستحيلا، ولكن هذا النبأ سوف يتم أمام أعينكم.كما أورد الله هذا القول أيضا لأن الإنسان يخاف الحرب ويخشى أن يخرج منها بالهزيمة بدلا من الفتح..ولكن إذا توجه إلى أهدافه المخصوصة فإن ذلك يرفع من

Page 304

الجزء الثاني سورة البقرة همته.فإذا شعر أحدهم بالقلق داخل نفسه طمأنه هذا القول الإلهي (وإنه للحق من ربك)..أي أنه حق من لدن الله تعالى وسوف يتم بإذنه، وهو حاميكم وناصركم.ثم إن كلمة (ربك) تشير إلى أن وراء كل عمل دافعا، وإن أفضل دافع لإنجاز عمل أن يحس الإنسان أن هذه هي رغبة ربه المحسن إليه، وفي هذه الصورة فسوف يضحي بحياته أيضا في كثير من الأحيان.فيجب أن تفكروا أيها المسلمون أن ربكم المحسن إليكم يريد أيضا أن يتم فتح مكة على أيديكم.لسوف يتم هذا في يوم من الأيام، ولكن عليكم أن تفعلوا شيئا تردون به إحسان المحسن..من واجبكم بكم أن تبذلوا في هذا السبيل كل غال ورخيص، ولا تترددوا في تقديم أي تضحية لتحقيق هذا الهدف العظيم.قوله تعالى (وما الله بغافل عما تعملون لا تحمل هذه العبارة تهديــــدا بالعقـــــاب، ولكنها تعني أن الله يرى تضحياتكم، ويعرف أن الإسلام لن يبلغ الكمال ما لم يتم فتح مكة، لذلك عليكم بذل جهودكم ومساعيكم باستمرار، ولا تدعوا هدف فتح مكة يغيب عن الأنظار، والله تعالى لن يضيع أعمالكم.لقد أثار الله بذلك المسلمين لتقديم التضحيات، وقال لهم إني أرى تضحياتكم، ولكن جوائز كم لن تكتمل حتى تنجزوا مهمة فتح مكة.فحاولوا أن يتم هذا الإنجاز بأسرع ما يمكن..لأنه كلمـــا تأخر إنجازه تأخر رقيكم.يقول المست ول المستشرقون أن الآية (١٥١ ) تكرار وهـــــــذا يخـــــــالف الفصاحة (Introduction to the Quran, Richard Bill مدخل إلى القرآن، رتشارد بل) يقولون ما دام قد أمر آنفا بكلمات لا ينقصها الوضوح في قولـه ومـــن حيــث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام..فلماذا كرر نفس الكلمـــات بعـده مباشرة بدون فائدة.ولنتذكر أن قول أعداء الإسلام صحيح إلى حد ما...إذ لا فرق في المعنى بين العبارتين الواردتين في أول الآيتين؛ ولكن ليس صحيحا أن كلتا الآيتين جاءتــــا

Page 305

الجزء الثاني سورة البقرة لغرض واحد..وإنما الهدف من الآيتين مختلف.لو كان الهدف من الآيتين واحداً لكان اعتراض الأعداء صحيحا، ولكن إذا أُعيد الكلام لغرض جديد فهذا لا يناقض حسن الكلام ولا ينافي ،البلاغة، وإنما التكرار الذي يتعارض مع البلاغة فهو ما لا فائدة منه ولا غرض.ومثال ذلك قولنا في مجلس للناس: اجلسوا.ثم نقـــــول بعد قليل: اجلسوا في المرة الأولى كان الكلام موجها للواقفين في ذلك الوقـــــت، وفي الثانية لمن لم يجلسوا بعد فإعادة جملة واحدة هنا ليس مخالفا للفصاحة، ولا يسمى تكرارا، لأن لكل جملة غرضا وهدفا.كذلك ليس هناك أي تكرار في هذه الآية.لأن الله أعاد نفس الجملة السابقة لغرض وحكمة.ففي الآية الأولى بين ضرورة أن تكون النقطة المركزية لحروب المسلمين هي فتح مكة.ثم جمع في الآية الثانية فتح مكة وتحويل القبلة وبين سببهما وقــــال: لئلا يكون للناس عليكم (حجة.والحجة دليل يغلب به الإنسان خصمه.وهـذا ليس تكرارا، لأن المعنى لا يكتمل ما لم يذكر الأمران مرة أخرى.فالله تعالى يقول هنا: إذا لم يتم فتح مكة فسيكون للناس عليكم حجة، وكذلك إذا لم تتجهوا إليها فسيكون لهم حجة عليكم، لذلك لا بد أن تهتموا بالأمرين معا.إذا لم تفتحوا مكة فسوف تبقى عوائق عديدة في طريق رقيكم، وسوف يظل الباب مفتوحـــا علـــى مصراعيه لاعتراض أعداء الإسلام عليكم.فكلتا الآيتين لهما هدف مستقل.الموضوع الذي ذكر في الآية الأولى بإيجاز ذكر في الثانية بتفصيل وتوسع، وبأسلوب جديد وبتوضيح أكثر للفوائد المتعلقة وتحويل القبلة.بفتح مكة كما أن الخطاب وُجّه إلى جميع المسلمين في الآية الثانية، وقيل لهم: أيها المسلمون، أينما أقمتم وحيثما خرجتم..واجبكم أن تحفظوا الكعبة المشرفة، وأن تحموها من هجمات الأعداء.ولم يذكر هذا الموضوع في الآية الأولى.وهناك زاوية أخرى للنظر تُبطل هذا الاعتراض..فالآية الأولى تناولت أولئك الناس الذين هم على درجة عليا من الأخلاق ،والروحانية ويتفوقون على الناس العاديين؛

Page 306

٣٠٣ سورة البقرة الجزء الثاني أو بعبارة أخرى..هم من حيث الروحانية مندمجون في ذات الرسول ﷺ وصـــــاروا أظلالا كاملة له وليسوا منفصلين عنه، ولذلك لم تكن هناك حاجة لذكرهم على حدة، لأن الله تعالى يعلم أن هؤلاء كان يكفيهم حافزا أن يقال (وإنه للحق من ربك).لو تدبرنا وجدنا أن الناس صنفان صنف من الدرجة العليا، وصنف دون ا ذلك، ويكفي أصحاب الدرجة العليا الإشارة الرقيقة الدقيقة.أما أصحاب الدرجة الدنيا فهم بحاجة إلى محرك قوي.فمثلا عندما يصلي الأولون لا يخطر ببالهم أي خاطر عما ينالون من جزاء نظير صلاتهم.إنهم يرون أنهم يصلون شكرا الله علــى إحساناته وأياديه، وليس طلبا الجزاء أو مقابل يقولون: وهل إحسانات الله وصنائعه السابقة قليلة حتى نتمنى مقابلا وثمنا للصلاة؟ إنهم يرون من عظيم رحمة الله وفضله أنه تعالى هيأ لهم فرصة في هيئة الصلاة لأداء الشكر على أياديه.وعلى نقيض ذلك، فإن أصحاب الدرجة الدنيا لو صلوا بضعة أيام ثم أصابهم ضرر لقالوا: ما ثمرة الصلاة؟ لقد صلينا و لم تنفعنا الصلاة.ومثل هؤلاء يصلون صلاة تجارية يطلبون لها مقابلا؛ ولكنهم ينسون أن الله تعالى - حتى قبل ولادتهم قد أودع قلوب أمهاتهم حبا؛ وإنه عز وجل حتى قبل خروجهم إلى الدنيا – قد فجر صدور أمهاتهم ينابيع من اللبن الغذائهم؛ وينسون أن الله سبحانه حتى قبل مولدهم خلق في قلوب آبائهم رأفة، ووفقهم لكسب الرزق؛ وينسون أن الله تعالى قد زودهم للرقي الديني والدنيوي بالسمع والبصر وسائر الحواس والقلوب والعقول؛ وينسون أن الله تعالى قد خلق لاستمرار حياتهم الشمس والقمر والنجوم والنار والهواء والماء والأرض والغذاء، وينسون أنهم لم يُعطوا هذه النعم نتيجة عمل منهم، وإنما أعطاهم الله إياها بمحض رحمانيته.وعلى النقيض هناك من عباد الله الذين لا تكفيهم الإشارة الرقيقة الدقيقة، ولا يخطر في بالهم الحصول على أي مقابل.نعم، وإنهم يحبون أن يسألوا الله تعالى ما يحتاجونه من شيء شأن السائلين، ولكنهم رغم كونهم فقراء محتاجين لا يطلبــــون جزاء على عمل لهم.إنهم لا يطالبون الله بأي إنعام منه على صلاتهم وزكــــاتهم وصيامهم وحجهم ورعايتهم لأحوال الفقراء، وإنما يرون هذه الأعمال نفسها

Page 307

الجزء الثاني إنعاما من ٣٠٤ سورة البقرة الله تعالى..إذ هيأ لهم بها فرصة لأداء الشكر على نعمه.لقد حكيت لكم مرارا قصة أحد أولياء الله تعالى الذي استمر طيلة عشرين سنة يردد دعاء واحدا، يسمع 6 و لم يحظ دعاؤه هذا بالقبول وأثناء هذه الفترة زاره أحد مريديه.وبينما هذا الولي يردد دعاءه في هدأة الليل تلقى إلهاما أن دعاءه هذا لن يقبل.وأراد الله تعالى أن المريد هذا الإلهام، ولكنه سكت بدافع الخجل والاحترام ولم يقل للولي شيئا.وفي الليلة التالية نهض الولي كعادته من نومه وأخذ يردد نفس الدعاء إلى أن تلقى نفس الإلهام بأن دعاءه لن يقبل.وأسمع الله المريد هذا الإلهام، ولكنه سكت أيضا.وفي الليلة الثالثة كان الولي جالسا على مصلاه فتلقى نفس الإلهام، وسمع المريــد صوت الإلهام، ولم يستطع السكوت، فقال للولي : إذا لم يقبل الدعاء مرة أو مرتين فلا بأس أن يكرره الإنسان ولكن قد قيل لك مرارا أن دعاءك هذا لن يقبل، ومع ذلك لا تنفك تردده وتسأله؟ فقال الولي: إنك تعبت في ليلتين أو ثلاثة؟ إنني أردد هذا الدعاء منذ عشرين عاما، وأتلقى في كل مرة نفس الجواب، ولكنني مستمر في دعائي..وأنت تريدني بعد أن سمعت هذا ثلاث ليال أن أتركه؟ إن عملي هـو أسأل الله، وإن عمل الله تعالى أن يقبل أو يرفض فأنا أقوم بعملي، والله يعمـــل عمله، وله كل الخيار أن يقبل أو يرفض.فعباد الله أن من الطراز الأول لا يضيقون، وإنما يقومون بواجبهم وأعمالهم، ولا ينتظرون لها مقابلا أو جزاء.لذلك كان كافيا أن يُقال لهم (وإنه للحــق مـــن ربك) ليعلموا أن الله تعالى يرغب في أن يقوموا بهذا العمل.أما في الآية التالية فإن الله وجّه قوله لأولئك الذين هم أصحاب الإيمان الأدنى - وهم عادة يسألون عن أجرهم قبل القيام بالعمل لذلك تناول الله ذكرهم، وقال بأن ثمار فتح مكة تتمثل في نعم كذا وأفضال كذا لئلا يكون للنـــاس علـيكم حجة)..إنكم لو خرجتم لفتح مكة فأول نعمة تنالونها من هي أنه لن يبقـــــى لدى الناس فرصة للاعتراض عليكم، ولن تكون بيدهم أية حجة ضدكم.والإنعام الثاني هو (ولأتم نعمتي عليكم..أي سوف توهبون مــن الله الحكومـــة الله والملك.

Page 308

٣٠٥ سورة البقرة الجزء الثاني والإنعام الثالث هو (لعلكم تهتدون والهداية في الحقيقة تعنى الوصول إلى الهدف والمقصود، فتشير هذه الكلمات إلى أنكم سوف تلتقون بأصدقائكم وأقاربكم.من قبل كان المرء منكم بعيدا عن زوجته والزوجة نائبة عن زوجها، والابن عن أبيه، والأب عن ابنه، ولكن بخروجكم إلى مكة سوف تحققون منفعة أخرى..فتلتقــــون بأهليكم هؤلاء.وسوف تزول الخصومة والنزاع الذي انفصلتم بسببه عنهم.الإنعام الأول إنعام "معنوي" عقلي..أي تنالون طمأنينة ذهنية.والإنعام الثاني إنعام مادي..أي تنالون الحكم والملك.والإنعام الثالث إنعام قلبي..أي تلتقون بأقاربكم وتنالون راحة وطمأنينة قلبية.الله فالأمر الأول في الآية الأولى كان لهدف، أما الأمر الثاني في الآية الثانية فكان لهدف آخر.ففي الأمر الأول تناول موضوع الحرب، وبين الهدف من ذلك (وانه للحق من ربك)..أي أن الله تعالى قد وعد بذلك، فمن واجبكم أن تسعوا وتبذلوا الجهد لتحقيق ما وعد به محبوبكم.فكأنه ذكر هدفا ساميا لا ينظر إليه إلا أصحاب الإيمان الكامل، وبين أنه كما يجب أن يكون هدفكم الأسمى هو نيل رضوان تعالى وتحقيق مشيئته بغض النظر عن أي مقابل أو إنعام، كذلك من مقتضى علاقتي السامية معكم ألا أهمل أعمالكم ولا أدع شيئا يضيع منها.فإذا ما بذلتم جهودكم فسوف تثور غيرتي، وأنزل عليكم أتم البركات.وفي الأمر الثاني أعاد نفس الحكم لأولئك الذين لم يكونوا على المقام العالي من الإيمان كما تبوءه الأولون، ولم يكونوا أظلالا كاملة للرسول ﷺ، وبين لهم أنك تنالون ثلاث فوائد من فتح مكة: أولها أن العدو لن يستطيع الاعتراض عليكم؛ وثانيها أنكم تنالون بالفتح الدنيوي الأمن والأمان، وثالثها أنكم سوف يلتئم شملكم مع أعزائكم وأقاربكم الذين فارقتموهم وانفصلتم عنهم بسبب الاختلاف الديني.فكأنكم تنالون الراحة من ثلاثة أنواع روحية ومادية وقلبية.ولما كانت الفوائد المذكورة في الآية الثانية هي أدنى من الغرض المذكور في الآية الأولى، وأراد الله تعالى ضم جماعة الإيمان العادي إلى أصحاب الإيمان العالي..ذكر الله تعالى هذا الأمر وأعاده مرة أخرى، ولما كانت هذه الفوائد مما تحصل عليه الجماعــة العليـا

Page 309

الجزء الثاني الله ٣٠٦ سورة البقرة أيضا..لذلك ذكرهم معهم.لو لم يذكر هؤلاء معهم لنشأ تساؤل : إذا كان أصحاب الإيمان الأدنى ينالون هذه النعم أفلا ينالها أصحاب الإيمان الأعلى؟ ولإزالة هذه الشبهة ذكر الله هؤلاء أصحاب الإيمان العظيم وبين أنهم وإن كانوا لا يطمعون في الإنعامات ولا يبالون بالجوائز على أعمالهم..إلا أنهم لن يبقوا محرومين من الفوائد والمنافع المنوطة بفتح مكة، بل سيتمتعون بها كما سيتمتع بها الآخرون.والعجيب أن الله تعالى لم يقل هنا حيثما خرجتم بل قال (حيثما كنتم).ذلك أنه كان بين المسلمين بعض الضعفاء والمعوقين من المرضى والعرج وغيرهم الذين حال ضعفهم البدني دون المشاركة في القتال.وبالنظر إلى هؤلاء قال الله تعالى (وحيثما خرجتم بدلا من حيثما كنتم."..لبيان أن الثواب ليس وقفا على المشاركين عمليا في القتال، بل سيحظى به أيضا من لا يقدرون على الخروج بسبب ظروفهم القهرية..كالمريض الذي يلازم الفراش أو المعوّق الذي لا يستطيع الحراك وغيرهما من الضعفاء الذين منعهم ضعفهم من الاشتراك في فتح مكة وللحيلولة دون صدمة لأولئك الذين منعتهم ظروفهم القهرية من القتال..قال الله تعالى (حيثما كنــتـم)..ليطمئنوا إلى أنهم يُعَدّون من المشاركين في الحرب.فلو أن هؤلاء استمروا في الدعاء لفتح مكة، ولم تنفك قلوبهم تتحسر شوقا يتمنون لو أنهم قادرون على الاشتراك في القتال..فإن الله تعالى لن يضيع أجرهم، بل سوف يثيبهم كما يثيب أولئـك الذين يخرجون فعلا للقتال فالضعيف والمعوق الذي يعجز عن الاشتراك في الحرب، يمكن له أن يدعو ليل نهار يا رب اكتب الفتح للمسلمين، وأدخلهم مكة منصورين، أو لو أنه جاءه شخص غير مسلم فيبلغه رسالة الإسلام ويدخله فيـــه..فيعتبر كمثل المشارك عمليا في القتال والحرب.ولاختيار جملة (حيثما كنتم بدلا من (حيثما خرجتم حكمة أخرى..وه يغطي بها زمن السلم عندما لا يكون هناك حرب.فأمر الله تعالى بذلك المسلمين أنه عندما تخرجون للحرب، وكذلك عندما تكونون في البيوت وقت السلم..يجب أن يكون فتح مكة أمام أعينكم دائما في كلا الحالين، ولا يغيب عن أنظاركم أبدا.أن

Page 310

۳۰۷ سورة البقرة الجزء الثاني كما أن هذه الكلمات تنبه المسلمين إلى أن عليكم الاهتمام الدائم المستمر بترقيــة مرکز کم وبتعليم أهليكم وإصلاحهم وتربيتهم.تذكروا أنه لو حدث فساد أو خلل في مكة المكرمة فإن هذا سوف يؤثر في العالم الإسلامي كله، ولو تقدمت و ازدهرت مكة فهذا أيضا سوف يؤثر في العالم الإسلامي كله؛ لأن الناس سوف يأتون مكة مرة بعد أخرى للحج والعمرة، ويجتمعون هناك من كل أطراف العالم، فمن واجبكم ألا يحدث فيها أي خلل أو فساد، لأنه لو حدث ذلك فلا بد أن يؤثر على العالم.في زمننا هذا أيضا..لا يزال معارضونا يقولون عن سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) كيف يمكن لنا أن نعتبره صادقا في دعواه..ما دام علماء مكة المكرمة قد أصدروا الفتوى بكفره؟ من هنا يمكن أن تقدروا مدى أهمية صلاح أهل مكة.لا شك أن بيت الله لن يقع بفضل الله تعالى – في أيدي غير المسلمين، ولكـــــن مكة يمكن أن تتعرض للهجمات الشيطانية، وهي تتعرض فعلا.كذلك يمكــن أن تقع في أهلها أنواع من الفساد والسوء، لذلك ينصح الله المسلمين في هذه الآية: أيها المسلمون، حيثما تقيمون في أرجاء هذا العالم..فمن واجبكم أن تهتموا بمكة، وتعتنوا بإصلاحها ورقيها دائما.وللأسف الشديد، فإن المسلمين قد أهملوا هذا الواجب الهام، وكانت النتيجـة أن من المفاسد والسيئات قد تسربت فيهم أنفسهم.عندما أدرس التاريخ الإسلامي أتحير برؤية أن عدد سكان مكة والمدينة كان يتراوح بين عدة آلاف إلى مائة ألف على الأكثر، في حين أن عدد سكان بغداد ودمشق والقاهرة وبعض المدن الأخرى في إيران والهند وغيرها كان يبلغ المليون أو المليونين.إنني أرى أن من أكبر أسباب انحطاط الأمة الإسلامية أن المسلمين لم تبق عندهم الرغبة في الإقامة في مركزهم الروحاني بقدر رغبتهم في الإقامة في العواصم السياسية والحكومية، وكانت النتيجة أن الأساس بقى صغيرا، وصار البناء كبيرا؛ ولا يبقى البناء الضخم على أساس صغير.العديد

Page 311

Kampf سورة البقرة الجزء الثاني إن كل إنسان فيه بعض المزايا وبعض المساوئ، وإذا كان يرتكب بعض الأخطــاء فإنه أيضا يقوم ببعض الأعمال الحسنة.فمثلا أدولف هتلر - الزعيم السابق لألمانيا، الذي جاهد كثيرا لترقية شعبه، لو كان فيه إسلام لكان باليقين رجلا عظيما.ولكن لم يكن الدين مربيا له فوقع في كثير من الأخطاء، وبدلا من أن يأخذ قومه إلى الرقي..دفع بهم إلى الانهيار والزوال.ولما كان معماريا لذلك كان لكل ما يتعلق بالبناء والعمارة تأثير شديد فيه.لقد كتب في كتابه المشهور (كفاحي Mine ص ٨٠-٩٦، الذي بين فيه خطته للعمل والذي عرض فيه بحثا طويلا ليدلل على أن الشعب الألماني هو الأجدر والأحق بأن يكون الأكبر في أوروبا..يقول: إن البناء الكبير يبنى فقط على أساس كبير، فلو أقمتم أساسا مساحته أربعة أذرع، وشيدتم عليه بناء سعته أذرع فلا بد أن يسقط هذا البناء، ولكن إذا كـــان الأساس أربعة والبناء ثلاثة أذرع فسوف يكون بناء أقوى.ولبناء العمارات الكبيرة الشاهقة لا بد أن يكون الأساس قويا متينا كبيرا.ينبغي أن يكون اتساع الأساس أكبر من اتساع المبنى.انظروا إلى الأهرامات المصرية القائمة الصامدة لآلاف السنين..تجدوا السبب أنها مشيدة على شكل مثلث..قمته صغيرة المساحة وقاعدته شديد الاتساع هذه الأبنية قد أقيمت قبل موسى عليه السلام- بمئات السنين، و لم يقم أحد بترميمها، ولكنها تقف شامخة إلى اليوم.والسبب في ذلك أن أساس أحدها يبلغ ٥٠ ،فدانا، بينما القمة مدببة؛ فيتوزع الثقل على الأساس بتوازن واعتدال فلا يسقط البناء.يقول هتلر : إن ألمانيا أكبر بلاد أوروبا، وسكانها يبلغون ثمانين مليونا.في حين أن بريطانيا أربعون مليونا ومثلها أسبانيا وفرنسا وإيطاليا.فلو أن هذه البلاد وسعت رقعتها لضعفت قوتها وتغلب عليها البلاد الأخرى.ولكن أساس ألمانيا قوي وكبير، ولذلك يمكن لألمانيا ذات الأساس العريض أن تتوسع بضم بعض المناطق الروسية إليها، حتى إذا تم فتحها صارت جزءا من ألمانيا واستوعبتها بسهولة، ولا يستطيع أهل هذه المناطق التغلب عليها.ولكن المسلمين لم يعرفوا هذا السر حق معرفته، مع أن القرآن قد أخبرهم به، فمن ناحية، أمر الله سيدنا إبراهيم فرفع أسس الكعبة المشرفة، ومن ناحية أخرى أمــــر

Page 312

سورة البقرة الجزء الثاني الناس أن يحجوا هذا المكان من كل أرجاء العالم، وأيضا أمرهم بالعمرة..وبهذا نبههم إلى زيارة هذا المكان في كل أيام السنة.وأيضا قال النبي عن المدينة أنه يجب على كل القبائل أن يرسلوا مندوبين لهم إليها ليمكثوا فيها ويتعلموا الدين.ولكن المسلمين لم يدركوا هذا السر، فكانوا يعمرون مراكزهم السياسية، وكانت كل عاصمة سياسية لهم أكثر سكانا من مركزهم الديني، وكانت النتيجة أن أكثر الناس اتجهوا إلى المراكز السياسية وظل المركز الديني ضعيفا.إنني أرى أن الإسلام لم يصبه الضرر بأكثر مما أصابه من دمشق أو بغداد أو القاهرة أو أصفهان أو بخارى أو ري أو ،مرو، لأن هذه المدن شغلت اهتمام الناس عن المراكز الدينية وجذبتهم إلى نفسها.لو كانت مكة والمدينة أكبر المدن ما حدث هذا الفساد والخراب.أنشئت الجامعات في بغداد مع أن مكانها الصحيح هو المدينة.وأقيمـــت جامعــة الأزهر في القاهرة مع أن مقرها الصحيح هو مكة.الأمة التي تريد نشر قوتهــا الروحية والعلمية..عليها توسيع وتوطيد مركزها الديني إلى أقصى حد ممكن.وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره).المسلمين أن يهتموا دائما بمكة، وبإصلاح أهلها، لأنها مكان للحج والعمرة وغيرهما من الأهداف والمقاصد الدينية.ولو تسرب الفساد إلى أهلها ولم يعودوا صلحاء..فلسوف يتأثر بهم زائروها وينتقل إليهم الفساد.وينصح الحقيقة أنه كلما كان المركز قويا كلما كان نظام الجماعة قويا، واستمرت الجماعة في الترقي في المجالات الروحانية فعلى الذين يقيمون خارج المركز أن يعتنوا ويهتموا به اهتماما خاصا، وعلى أهله أيضا أن يهتموا بإصلاح أنفسهم، ويسعوا للرقى في مجال الخير والروحانية دائما.قوله تعالى لئلا يكون للناس عليكم حجة.هنا يقول الله تعالى أن الهدف من هذه الأوامر هو ألا يجد الكفار دليلا يسبب لكم الخجل والندم.لا شك أن الرجال الروحانيين لا يبالون إذا أثيرت في وجوههم الاعتراضات ويقولون لا بأس فليعترضوا، ولكن أصحاب الإيمان الضعيف يعيرون لهذا الأمــــر اهتمامــــا كبيرا، ويقولون إن الناس يعترضون علينا بكذا وكذا، وأحيانا يضيقون ويرتدون.فيقول

Page 313

۳۱۰ سورة البقرة الجزء الثاني الله لهم: حسنا، ننيط بكم هذا الأمر، فأنجزوه بهمة حتى لا يكون في يد العدو أي حجة عليكم تخجلون لها.هذا الاعتراض كان يمكن أن يوجه من خمسة وجوه: الأول-ورد في كتب اليهود أن هذا النبي الموعود سوف يأتي ويفتح مكة بعشرة آلاف من القدوسيين (تثنية ١:٣٣-٢).فلو أن المسلمين لم يفتحوا مكـــة لكـــان لليهود أن يعترضوا بأن النبأ الوارد عن النبي الموعود لم يتحقق على يد هذا النبي فكيف نصدقه؟ الثاني - كما كان يمكن لهم أن يعترضوا بأن القرآن قد تنبأ بنباً وثبت خطأه.فقـــــد قال: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (القصص ٨٦)..فالله تعالى الذي فرض عليك القرآن هو الذي سوف ير جعك إلى هذا المكان الذي يزوره الناس في الحج والعمرة مرة بعد أخرى.فإذا لم يتم فتح مكة على أيدي المسلمين لسنحت لأعداء الإسلام فرصة الاعتراض ولقالوا إن القرآن فضلا عن التوراة – يتنبأ بفتح مكة ولكن لم يتحقق هذا النبأ.الله، وقد الثالث لو لم يؤمر المسلمون بالاتجاه إلى الكعبة لأثار هؤلاء الخصوم اعتراضا آخر بأن النبي الذي دعا من أجله إبراهيم (عليه السلام) كان له علاقة ببيت كان مقدرا أن يأتي لعمران هذا البيت (البقرة: (۱۳۰) ، ولكن محمــدا جـالس في مكان آخر ولا علاقة له بالكعبة.فكيف نعتبره مصداقا للدعاء الإبراهيمي؟ الرابع ولو لم يتم فتح مكة لاعترض الناس بأن الهدف من بعث هذا النبي هو نشر التوحيد، ولكن لا يزال في الكعبة المشرفة ٣٦٠ صنما (البخاري، كتــاب المغازي)..فكيف تحقق النبأ الذي يقول إنه جاء ليطهر هذا البيت.الخامس لو لم يتم فتح مكة لقال المعترضون أن النبأ القائل وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة (البقرة: ۱۳۰) لم يتحقق.لقد قيل إن هذا الرسول سيبعث لإصلاح أهل مكة، ولكن أين تحقق هذا النبأ وكيف تم ؟

Page 314

الجزء الثاني ۳۱۱ سورة البقرة مكة إذن فلو لم يتم فتح مكة وإصلاح أهلها لأثار العدو أنواع الاعتراضات، لذلك أمر مكة المسلمين بفتح على وجه خاص وقال لهم: يجب ألا يقع هناك سوء ولا فساد..وألا يجد العدو دليلا لا تستطيعون دحضه.ولكنكم لو قمتم بفتح فلسوف تفحمونه ولن يستطيع الاعتراض عليكم.قوله تعالى (إلا) الذين ظلموا منهم..يمكن أن يكون الاستثناء هنا متصلا، وقد يكون منقطعا.ولو اعتبرناه متصلا فمعناه أنكم إذا فتحتم مكة فلن يبقى لأحــد اعتراض عليكم إلا الذين ظلموا..فهؤلاء لن يزالوا في إثارة الشر، وسوف يروجون الأقاويل، ولكن قولهم لا يستحق أي اهتمام.ويكون الاستثناء منقطعا إذا كانت الحجة بمعنى الغلبة والمعنى: لا تخافوا الظالمين منهم بل خافوني فقط..لأنكم ما دمتم قد تمكنتم من التغلب عليهم فلن يضروكم شيئا.وكما جاء في شرح الكلمات فإن "إلا" تكون أيضا بمعنى "لكن"، وبناء على ذلـــك يكون المعنى: بعد فتح مكة لن يبقى في أيدي الناس عموما أي حجـــة ضـــدكم، ولكن لو استمروا في الاعتراض فلن يكون هذا منهم إلا ظلما، ولا منطق في ذلك.وكذلك ترد "إلا" بمعنى "الواو العاطفة، ويكون المعنى ذلك كيلا يكون للنـــاس عموما عليكم حجة ولا للذين ظلموا منهم خاصة أي بعد فتح مكة سوف تـتم أعداء الإسلام بحيث إنه سوف يسد أفواه الظالمين أيضا ولن يستطيعوا الحجة على الاعتراض.وفي قوله تعالى (ولأتم نعمتي عليكم يقول الله : إننا أصدرنا هذا الأمر لإتمام نعمتي عليكم.والمراد من النعمة هنا الإسلام ويعني إتمامه توطيده بصورة كاملة.وهـذا البرنامج كان أيضا من أهداف فتح مكة، فبمجرد أن تم فتحها تواردت على النبي وفود العرب من كل الجزيرة العربية، يمدون إليه يد السلم (البخاري، المغازي).وفي آخر الأمر، ونتيجة لهذا الفتح دخلت كل الجزيرة العربية في الإسلام.ثم إن العرب في مدة وجيزة جدا نشروا الإسلام في كل العالم.وتلك النعمة، ونعمة الإسلام التي نزلت من الله لبني نوع الإنسان توطدت واستحكمت في العالم.

Page 315

الجزء الثاني ۳۱۲ سورة البقرة قوله ولعلكم تهتدون أي أن من فوائد فتح مكة أن الله سوف يفتح أبواب الهادية أن لأمتكم، فيدخلون في الإسلام جميعا.فإسلام قومك رهن بفتح مكة.صحيح العديد من الناس كأفراد دخلوا الإسلام قبل فتحها، ولكن الآخرين كانوا يرون أنه لو فتح هذا النبي مكة فدينه ،صادق، وإذا لم يتمكن من فتحها فهو كاذب.(البخاري، كتاب المغازي وعندما تم فتحها عرفت القبائل العربية أن الإسلام دين حق فجاءت وفودها من كل ناحية لإشهار دخولها في الإسلام.بل إن بعضا مـــن ألد أعداء الإسلام دخلوا في بيعة النبي الا الله بعد فتح مكة ، وأبرز مثال لذلك "هند".كانت قبل هذا الفتح من ألد أعداء الإسلام والمسلمين، وكانت من بين الأفراد الذين أصدر الرسول الأمر بقتلهم عقابا لهم.كانت امرأة ذكية جدا، فاختفت أثناء الفتح في بيتها و لم تخرج منه، وعندما ذهبت النساء لمبايعة الرسول ﷺ خرجت متحجبة - وكان الأمر بالحجاب قد نزل من قبل وانضمت إلى النساء وبايعته.و لم يكن النبي يعرف أن هند بين النساء.وعندما ردد في كلمات البيعـــة "ألا يشركن بالله شيئا"، قالت هند يا رسول الله، هل نشرك بعد هذا الذي جرى؟ كنت وحيدا وكل القوم والعرب في جانب أصنامهم التي زعموا أنها تساعدهم، فنصرك الله..فكيف يمكن أن نشرك به؟ ولما سمعها النبي سأل: هل هذه هند؟ قالت نعم يا رسول الله، ولكنك الآن لا تستطيع أن تنال فقد دخل (السيرة الحلبية ج ۳ ص ١١٠)." مني ، في بيعتك.فقد كان فتح مكة آية عظيمة حتى أن عدوا لدودا مثل هند أدركت أن الحق قــــد حصحص وظهر تماما.وكان السبب الثاني لدخول العرب في الإسلام أنهم كانوا على يقين أنه لا يستطيع صاحب دین كاذب فتح مكة أبدا؛ ولو حاول فسوف يدمر ويباد.وكان عندهم حادث من الماضي القريب كمثال لذلك.ففي عام المولد النبوي حــاول حـــاكم اليمن أبرهة غزو مكة ولكنه فشل في ذلك رغم جيشه الكبير، وتفشى في جنوده وباء شديد ،فدمرهم فرجع خائبا خاسرا السيرة النبوية لابن هشام ج ١ ، أمر الفيل).فعرف العرب أن الله تعالى يحفظ بيته الحرام ولا يستطيع أحد الاستيلاء عليه

Page 316

الجزء الثاني ۳۱۳ سورة البقرة بحد السيف.لذلك عندما فتح النبي المملكة أدرك العرب وتيقنوا أنه صادق وأن عند الله، فدخلوا في الإسلام أفواجا.دينه من وهناك حديث يؤكد أن العرب كانوا ينتظرون فتح مكة، فقد قيل: كانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق.فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم (البخاري، المغازي).وأيضا كما بينا من قبل فإن قوله (لعلكم تهتدون يعني أيضا أنكم سوف تلتقــــون بأهلكم وأعزائكم، وتزول ما بينكم من نزاعات وحروب.فكأن هناك ثلاثة أنواع من النعمة التي سوف تحظون بها: الأول أن لا يكون للناس عليكم حجة، فبفتح مكة تنالون الراحة الذهنية، وسوف يُفحم العدو ولـــن يثير أي اعتراض الثاني ولأتم نعمتي عليكم، وهو الإنعام المادي، فتنالون الحكم والملك، ويتوطـــد الإسلام أولا في الجزيرة العربية، ثم يخرج منها وينتشر في العالم كله.والثالث لعلكم تهتدون فهنا ذكر إنعاما قلبيا، وذلك بسبب إسلام قومكم سوف تزول القطعية التي كانت بينكم وبين أقاربكم، ويزول عن قلوبكم هذا الاضطراب والقلق.فهذا ليس تكرارا، وإنما فيه إضافة موضوعية.فهذه الآية أيضا تتضمن موضوع فتح مكة.وهناك دليل آخر على ذلك فسورة الفتح التي تتناول موضوع فتح مكة ذكرت نفس الأهداف من هذا الفتح كما ذكرت هنا.يقول الله تعالى (إنا فتحنــــا لك فتحا مبيتا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمتـــه عليــك ويهديك صراطا مستقيما (*) (الفتح: ۲-۳)..إننا وهبناك فتحا مبينــا عظيمـا، وسيكون ثمرته أن الله سوف يغفر كل الذنوب التي ارتكبت ضدك، والتي يحتمل ترتكب في المستقبل.أن فهذه الآية تذكر ثلاثة أهداف لفتح مكة: الأول - دفع اعتراض الأعداء، وهـذا في قوله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).والمراد من (ذنبك) هنــــا الاعتراضات التي تثار ضدك..لأنهم بعض ألا حيان ينسبون فكــــرة أحـــد إلى

Page 317

٣١٤ سورة البقرة الجزء الثاني غيره..كأن تقول (هذا ذنبي) معبرا عن تصور غيرك أنه ذنبك، وكما جاء في القرآن الكريم (ولهم علي ذنب) (الشعراء: (١٥) يقول سيدنا موسى أنهم يتصورون أني ارتكبت ذنبا في حقهم.يقول الله: بتحقق نبأ فتح مكة سوف يدفع الله الاعتراض الذي يثيره المخالفون بأنك نبي كاذب.ليس هذا فقط، بل إن هذا الدليل ســــوف يفحم كل المعترضين في المستقبل أيضا.والغرض الثاني لفتح مكة هو إتمام النعمة(ويتم نعمته عليك).والثالث سوف تتقدمون وتترقون في طريق الهداية ويهديك صراطا مستقيما).هذه الأغراض الثلاثة قد ذكرت في الآية المفسرة وفي سورة الفتح أيضا.كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥٢) شرح الكلمات : كما تأتي للمشابهة، وأيضا للسببية، كما قال الشاعر "لا تشتم الناس كما لا تشتم" أي لما لا تشتم (البحر المحيط) بمعنى لا تشتم الناس لأنك لا تشتم من قبــل الناس.التفسير: إذا كانت "كما" للمشابهة فتعنى الآية أن النعمة التي ذكرناها سوف نتمها عليكم مثلما أرسلنا فيكم رسولا بحسب الدعاء الإبراهيمي، وأكملنا عليكم منتنـــا من قبل.الحق أن الدعاء الإبراهيمي له شقان الأول - أن يبعث الله فيهم رسولا، والثاني – أن يُعد هذا الرسول جماعة طاهرة : فلم يكن إبراهيم يريد أن يبعث رسول ويبقى القوم كما هم ضالين أو يأتي رسول ولا يطهرون.فمن مقتضى دعاء سيدنا إبراهيم أن يبعث رسول ويتم الجانب الآخر المترتب على البعث..وهـو إعـداد جماعة طاهرة مستعدة للتضحية في كل غال ورخيص في سبيل دين الله.

Page 318

۳۱۵ سورة البقرة الجزء الثاني ولو كانت "كما" بمعنى "لما"..فالمعنى أننا أمرناكم بهذا لأننا قد مننا عليكم إذ بعثنا إليكم رسولا منكم ويتلو عليكم آياتي ويطهركم ويرفعكم إلى المدارج العليا من الروحانية، ويعلمكم الشريعة، ويطلعكم على ما وراءها من حكم دقيقة وأســــرار خفية، ولا يعلمكم ما جاء في الصحف القديمة فحسب، بل يزيد عليها ويعلمكـــم ما لم تكونوا تعلمون..فعليكم أن تذكروني كـى أمنحكم حظوة عنــــدي، واشكروني على النعم التي تنزلت مني عليكم بطريق هذا الرسول، ولا تكفروني.ومما لا شك فيه أن بداية كل دين كانت ذات النبي نفسه، ولكن ليس هنــاك دين يقدم نبيه على أنه مكلف ببيان كل الحكم لجميع الأمور الدينية، وإنه أســــوة حسنة لجميع الإنسانية.فالمسيحية وهي أقرب الديانات زمنا قبل الإسلام تعتبر المسيح ابن الله وبالتالي لا تترك للإنسان فرصة لاتباع خطواته، لأن الإنسان لا يستطيع أن يكون مثل الإله.أما موسى فلا تقدمه التوراة كأسوة حسنة.أما بيـــان حكم الأوامر الإلهية..فلا التوراة ولا الإنجيل يقدمان شيئًا يفيد أن موسی أو عيسى جاءا لهذا الغرض.ولكن القرآن يقول عن محمد رسول الله (يعلمهم الكتاب والحكمة).من فالإسلام يمتاز عن سائر الأديان بأن نبيه قد جاء أسوة حسنة للعالم كله، وأنه لا يفرض أحكامه بالجبر والإكراه، وإنما يقوي إيمان أتباعه ويلهب فيهم الحماس ببيان ما يكمن في هذه الأحكام الإلهية من مصالح الأفراد وللملة وللإنسانية جمعاء.هذه الآية تشبه الدعاء الإبراهيمي المذكور من قبل، ولكن هناك فرقــــان جـــديران بالملاحظة بينهما : فدعاء إبراهيم يقول ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم (البقرة : (۱۳۰).وفيه ذكر إبراهيم تلاوة الآيات أولا، ثم تعليم الكتاب، والحكمة، والتزكية.ولكن هنـا جعـــل الترتيب هكذا: تلاوة الآيات، ثم التزكية، وتعليم الكتاب، والحكمة.وينشأ سؤال منطقي طبيعي : لماذا غير الله الترتيب هنا؟ يجب أن نتذكر أن الدهاء الإبراهيمي مبني على مبدأ أنه كلما يبعث الله نبيــا إلى الناس فإنه أولا وقبل كل شيء يتلوا آيات الله تعالى أي يقدم الوحي النازل الله

Page 319

٣١٦ 6 سورة البقرة الجزء الثاني عليه، ويرى الآيات المؤيدة له والمعجزات الدالة على صدقه، وبعد ذلك تنزل الأحكام والأوامر شيئا فشيئا مع حكمتها التي تبين الهدف منها، ثم في نهاية المطاف..بعد رؤية الآيات والمعجزات والتدبر في الأدلة والبراهين، وفهم الحكمــة من هذه الأوامر..يهب الله لجماعة النبي تلك القداسة والطهارة التي بسببها يتغلبون على الآخرين.أما هنا فقد اختار الله تعالى ترتيبا ،آخر فذكر أولا ما يتعلق بالإيمانيات والروحانيات، فالتزكية تتعلق بالقلب، وتلاوة الآيات تتعلق بالإيمان.ثم ذكر مــا يتعلق بالعلوم الظاهرة.ولو تدبرنا لوجدنا أن الأهم والأولى من حيث المعرفة هو أن يوهب الإنسان عيونا يستطيع بها مشاهدة آيات الله تعالى وثانيا أن تزكيه مشاهدة آيات الله تزكيـــةً تجعل قلبه عرشا الله تعالى، حتى تنعكس في مرآة قلبه الصفات الإلهية.عندما يصقل نور المعرفة القلب الإنساني صقلا لا يبقى معه أي كدورة نفسية ولا شائبة مادية في قلبه، عندئذ يصبح مظهرًا لصفات الله، وهذا هو الهدف والغاية من الحياة الإنسانية.لذلك قدم الله تزكية النفس على الأمور الأخرى بعد ذكر تلاوة الآيات.وبعد التزكية ذكر تعليم الكتاب وتعليم الحكمة، وهي علوم ظاهرة، وبتأخيرها أشار إلى الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام والعبادات وحكمها ليست مقصودا حقيقيا أصيلا، وإنما المقصود الحقيقى هو تزكية النفس، والاتصاف بصفات الله جل علاه، ولذلك لو دعا نبي الله أحدا وهو يصلى فمن واجبه أن يترك الصلاة ويلبي نداء ني الله، لأنه مظهر كامل لصفات الله، وكأن صوته صوت الله تعالى، إنني أتذكر أنه مرة نادى سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) شخصا كان يصلي فترك الصلاة وجاءه.فاعترض بعض الناس على ذلك، فقــــال سيدنا المهدي: لو كان أحد يصلى وناداه نبي الله تعالى فيجوز له ترك الصلاة في ذلك الوقت (مرزا بشير أحمد، سيرة المهدي، ج ١ الرواية ١٥٧).كذلك نــــادى سيدنا المهدي ذات مرة سيدنا الحكيم نور الدين وهو في صلاته فانصرف مـــن

Page 320

۳۱۷ سورة البقرة الجزء الثاني الصلاة وحضر إليه.ويبدو أن سيدنا المهدي قد استند إلى قول الله تعالى (يا أيهـا الذين آمنوا استجيبوا الله والرسو إذا دعاكم لما يحيكم) (الأنفال: ٢٥).يحيكم)(الأنفال: إذن ليست الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها المقصود الأصلي وإنمـا هـي أسباب للوصول إلى الله تعالى، وذرائع لتزكية النفس البشرية من كل أنواع الشوائب الروحانية.فمهما قال الإنسان أنه مؤمن بكتاب الله تعالى فدعواه هذه لا تساوي حبة خردل إذا لم يكن قلبه نقيا.وبعد ذكر التزكية قدم تعليم الكتاب على تعليم الحكمة، ذلك لأن صاحب الإيمان الأعلى إنما يرى هل هذا الأمر من حبيبه أم لا، فإذا كان الأمر من حبيبه فإنه يبادر إلى عمله بدون ،تردد ولكن من كان إيمانه دون ذلك فإنه أولا يسأل عن الهدف والحكمة من الأمر، ومن دون ذلك لا يعمل.المؤمن المخلص الصادق يكفيـه أن هذا الأمر من الله تعالى.فيلبي صوت الله ويسرع إليه، ولكن الفلسفي يبحث عـــــن حكمة الأمر، وما لم يطمئن عقله لا يطمئن قلبه.فلو أن الإنسان حصّ الأم على الاعتناء بطفلها محاولا إقناعها عن طريق الأدلة، وقال لها: لو لم تعتني به فسوف يختل نظام البيت ويقع الفساد كذا وكذا..فإن هذه الأدلة لن تؤثر فيها أدنى تأثير، وإنما هي تقوم برعاية الطفل بسبب عاطفة الحب الموجودة في قلبها.لذلك قــال سيدنا المهدي: إن إيمان العجائز هو الذي يحمي ويقي الإنسان من العثار، أما الذين يقعون في البحث والحجة ويتوقفون عند كل خطوة، ويقولون لماذا أمرنا بكذا ،وكذا، فإنهم في كثير من الأحيان يتعثرون ويضيع ما بقي عندهم من إيمان قليل.ولكن صاحب الإيمان الكامل يؤسس إيمانه على المشاهدة والرؤية.إنه الآخرين، ولكنه لا يتأثر باعتراضاتهم؛ لأنه يكون قد رأى الله تعالى بعيونــــه الروحانية.ويحضرني بهذه المناسبة حدث طريف وقع مع المنشى أروري خان - أحد صحابة سيدنا المهدي عليه السلام كان يقول لي: قال لي بعض الناس..لو سمعت المولوي ثناء الله الأمر تسري مرة لأدركت هل المرزا أي سيدنا المهدي صادق أو كاذب.فسمعت الخطابه مرة.فسألني الناس أخبرنا الآن..هل بعد سماع كل هذه الأدلة من المولوي تظن أن المرزا صادق؟ فقلت: إنني رأيت وجه المرزا، وبعد ذلك يسمع لأدلة

Page 321

۳۱۸ سورة البقرة الجزء الثاني لو أن المولوي الأمرتسري ألقي خطابه طوال سنتين أمامي ما أثر خطابه أي تأثير، ولن أستطيع القول بأن هذا الوجه كاذب وإن لم أجد ردا على اعتراضاته فلسوف أستمر في قولي إن المرزا صادق.فمعرفة الحكمة ليست ضرورية للمؤمن الكامل، لأنه إيمانه ليس مبنيا على العقل وإنما على المشاهدة؛ لذلك فهو لا يحتاج إلى معرفة وتفهم الحكمة من أمر الله تعالى.أما صاحب الإيمان الضعيف الذي يتحدد إيمانه في دائرة الأدلة فهو محتاج إلى معرفة الحكم.والإيمان الكامل يتأسس على المشاهدة.أما الإيمان الناقص فعلى الحكمــة.فأصحاب الإيمان الكامل يكفيهم أن يتلو عليهم النبي آيات الله ويزكيهم.إنهم لا يرون حاجة إلى تفهم الحكم لآيات الله وأهدافها، وإنما يكتفون بسماع صوت النبي، وينهمكون في العمل كالمجانين للوصول إلى معرفة الله تعالى.مرة كان النبي يخطب وقال أثناء خطابه للواقفين حول المجلس: اجلسوا.وكان عبد رواحة قادما في الطريق إلى المسجد، فما أن سمع صوت النبي حتى جلس في مكانه الله بن على الفور (الإصابة في تمييز الصحابة حرف العين.ثم تحرك إلى المسجد في وضع الجلوس.فقال أحد الصغار : لماذا تفعل هذا؟ إنك تفعل شيئا عجيبا.إن الرسول لم يقصد هذا، وإنما قال اجلسوا للواقفين حول المجلس، ولم يقله للسائرين في الطريق.فقال عبد الله: لو خرجت روحي قبل وصولي إلى المسجد فماذا يكون جوابي بـــين الله حين يسألني: ألم يأتك نداء رسولي؟ فلماذا لم تعمل به؟ يدي إن عمله هذا يبدو في الظاهر مخالفا للحكمة، ولكن العشق له لونه الخاص.العشاق لا يبحثون عن الحكم، وإنما هم مستعدون لما يقوله الحبيب.فيجب أن نتذكر أن الحكمة تابعة للتعليم، والتعليم تابع للتزكية، والتزكية تابعــــة لآيات الله الأصل هو ذات الله تعالى.ثم يأتي في المقام الثاني الوجود الذي هو مظهر الله تعالى، ثم تليه درجة الذرائع التي تجعل الإنسان مظهرا الله تعالى، ثم تدفع الإنسان وترغبه في العمل فهذا الترتيب الذي في الآية هو بحسب درجات هـذه ورد في التفسير اسم عبد الله مسعود، ولكن لم نعثر على رواية فيها اسمه.بن

Page 322

۳۱۹ سورة البقرة الجزء الثاني الأمور، ولكن في الدعاء الإبراهيمي، لوحظ الترتيب الذي بحسبه يترقى الإنسان ويتقدم فأولا تقدَّم له الدلائل.ثم يُخبر بالفرائض والواجبات عليه، ثم تبين لــه الحكم لهذه الفرائض والواجبات ثم يخبر أن الذين يعملون بهذه الأمور ينالون التزكية.والفرق الثاني بين الدعاء الإبراهيمي وما ورد في هذه الآية أنه انتهى بقوله إنك أنت العزيز الحكيم) أما هذه الآية فتختتم بقوله تعالى (ويعلمكم مــا لم تكونــــوا تعلمون)..وذلك لأن إبراهيم كان دعا ربه متوسلا بصفتي (العزيز والحكيم)، فقال: يا رب، كل ما أسألك بناء على أفكاري، ولكني لا أدري ما هي حاجات ذلك الزمن، فأتوسل إليك أن تهب لهم ما يحتاجونه بناء على قدرتك وحكمتك.أما قوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فبين الله فيه أن دعاء إبراهيم ربــه بصفتي العزيز والحكيم قد تحقق واستجيب.فهذا النبي لا ينجز فقط ما دعــا لـه إبراهيم من أعمال بل يُنجزها بطريقة لم يَرْقَ إليها أي نبي.لأن حاجات ذلك العصر تفرض أن يكون تعليمه من الدرجة الرفيعة.كما يشير قوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون أن تعليم هذا الرسول لا يقتصر على ما ورد في الكتب السابقة من أحكام حسنة، بل يزيد عليها ما لم يكن يعرفه العلم من قبل.وقد عبر القرآن عن ذلك في موضع آخر بكلمتي المحكمـــات والمتشابهات في قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (آل عمران (۸) أي بعض ما أنزل عليك من الكتاب آیات هن أساس هذا الكتاب، وبعضه آيات متشابهات وهي الأحكام التي تتشابه الأحكام السابقة الواردة في الكتب القديمة مثل حكم الصوم، فالصوم قد ورد في تعاليم الأولين، وكذلك الأمر بتقديم الأضحية أمر متشابه كما قال تعالى (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (الحج: ٣٥).ففى القرآن من الأحكام ما يتشابه ويتماثل مع الأحكام التي وردت في الكتب القديمة، وكان هذا ضروريا.مثلا قال الأنبياء الأوائل: قولوا الحق والصدق، فهـــل مع

Page 323

سورة البقرة الجزء الثاني كان يتوقع من القرآن ألا يأمر بقول الحق بل الكذب؟ فكان حتما أن تكون بعض التعاليم في القرآن الكريم تشابه تعاليم الكتب السابقة، وهذه هي المتشابهات، ولكن هناك من الأحكام ما يتميز به الإسلام عن سائر الأديان، وهذه هي المحكمات.ولو كان تعليم موسى وعيسى (عليهما السلام) من المحكمات ما كانت هناك حاجـــة لنزول القرآن.فقوله تعالى (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمـــون) يشير إلى هـذه الفضيلة القرآنية.فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٣) التفسير : يقول تعالى (فاذكروني أذكركم والذكر أنواع وألوان.العاجز وقليـــل الحيلة إذا ذكر شيئا فإن ذكره تمن ورغبة فقط.فمثلا هناك رجل فقير له قريب عزيز عليه في الغربة، فهو يذكره، ولكنه لا يستطيع أن يدعوه ليراه..إما لقلة ماله أو لبعض العوائق الأخرى، فذكره قريبا له في الغربة لا يعني إلا الرغبــة والتمني للقائه.أو هناك طفل رضيع في سريره يذكر أمه فيبكي، فذكره لا يتعدى بكـــــاءه ورغبته في أن تأتي أمة وتحتضنه.ثم هناك شخص على شيء من المقدرة، وإذا ذكر هذا أحدا أو أمرا..بَذَلَ بعض الجهد للحصول على ما يذكره.كمثل طفل اشتد عوده ويستطيع المشي.إذا تذكر أمه وأراد لقاءها فإنه لا يكتفي بالتمني بل يحاول عمليا لقاءها ويمشي إليها.ثم هناك ملك يذكر أحدا من رعاياه..فإن ذكره لا يقتصر على الرغبة فقط، بل ذكره قوة فعالة تجذب الآخرين إليه، ويتحقق ذكره عمليا.إذن فذكر الأدنى من هو أعلى منه يعني أنه يتمنى أن يدعوه هــذا الأعلـى ويستحضره..وما هذا إلا توسل وتمن.وإذا ذكر الأعلى من هو أدنى منه فذكره يعني أنه يريد إحضاره، لأن في ذكره قوة.ومثال ذلك ما ورد في القرآن عن أهــــل الجنة (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم ما تَدَّعون) (فصلت: ۳۲).فهذه الرغبة

Page 324

الجزء الثاني ۳۲۱ سورة البقرة والاشتهاء من جانب أهل الجنة تكشف عن القوة..لأنهم بمجرد أن يشتهوا شيئا يهيئه الله لهم فورا.عنه وفي الدنيا أيضا إذا ذكر الملك أحدا فلا مناص له إلا أن يُهرع إلى الملك على الفور تاركا كل مشاغله، لعلمه أنه لو تأخر لتعرض للعقاب.ففي ذكر الملك هــذا قوة وجاذبية عظيمة، لأن من يدعوه ينجذب إليه فورا.فإذا كان ذكر ملك يحمل معنى آخر فلا بد أن يكون لذكر الله أحدا معنى آخر.فقوله تعالى (اذكروني) يعنى عليكم أن ترغبوا في لقائي وتبذلوا أقصى جهدكم للحصول على قربي، فإذا وصل ذكركم إياي درجة الكمال (أذكركم)..سوف تنجذبون إلي وتأتوني، وتنفتح أمامكم أبواب قُربي، وأضمكم إلى زمرة المقربين إلي، وذلك لأنه ما دام ذكر ملك عادي لأحد رعاياه لا يعني أنه يجلس ويردد اسمه فلا يكون ذكر الله تعالى أحد عباده مجرد ذكر اسمه، لا بد أن يكون له معنى آخر.وفي اللغة العربية يقولون: أمير المؤمنين يذكرك، ولا يعنون بذلك أنه جلس يذكر اسمه ويردده، وإنما يعنون أنـــه يريدك أن تحضر إليه.ولنتذكر أن ذكر العبد ربَّه يكون على ثلاثة أشكال الأول ذكره ربه عند رؤية شيء حسن أو سيئ.فمثلا عندما يكون هناك دافع لارتكاب الإثم يقول: أستغفر الله..وعندما تصيبه مصيبة يقول: إنا لله ؛ وعندما يجد ما يسره يقول: الحمد لله.والثاني أن يذكر ربه عندما يسمع بما وقع لغيره، مثلا، إذا سمع عن مصيبة حلّت بأحد دعا لهذا المصاب، وشكر الله تعالى أن عافاه من هذه المصائب.والثالث - أن يتحدث عن الله تعالى فيذكر في المجالس رحمته وكرمه عز وجل، ويردد ما يثيره المعترضون والأعداء من اعتراضات وحجج، ويبذل جهده لتوطيـــد عظمة الله تعالى، ويذكر نعم الله مرارا لتنقش صفات الله في قلب الإنسان، وثانيا لكيلا تنمحي هذه النقوش من قلبه بل تزداد، وثالثا لكي تتجلى هذه الصفات ونقوشها في كل عمل وقول له.

Page 325

۳۲۲ سورة البقرة الجزء الثاني ثم من معاني الذكر العزة والصيت فيعني قوله تعالى (أذكركم): لو أن المسلمين ذكروني وعملوا بأوامري فلسوف أحقق لهم العزة وحسن السمعة في الدنيا، وأشرفهم بقرب لا يزول في الآخرة.وقوله تعالى وشكروا لي)..لا تطمئنوا إلى مجرد الذكر، بل من واجبكم ألا تنفكوا تشكرونني لما أنعمت به عليكم من نعم ، بحيث يتجلى شكركم في أعمالكم وعباداتكم.قوله تعالى (ولا) تكفرون)..لا تكونوا ناكرين لما صنعناه معكم من جميل سابق.جاء في الحديث أن الرسول الله قال ذات مرة أريت) النار، فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن.قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان.لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط) (البخاري، الإيمان).وكفران النعمة يعني عدم استخدامها في محلها.مثلا – أعطانا الله الآذان لسماع کلامه، ولكن الناس يستخدمونها لسماع ما هو إثم وشر؛ وأعطانا العيون لنزداد بها علما ومعرفة ولكن الإنسان يتطلع بها إلى ما عند فلان من مال، ويرى بها ما لا يجوز له رؤيته؛ وأعطانا اللسان لنتحدث به في الخير ونذكر به الله، ولكن الناس يستخدمونه للسيئات كالسباب والنميمة والغيبة والكذب..وهكذا يكفرون بنعم الله.فيقول الله تعالى: عليكم أن تقدّروا نعمي حق قدرها.وتنظروا إليهــا نـظـرة تعظيم، وتتعهدوا بحسن استخدامها ولن تنتهكوا حرمتها بسوء الاستخدام.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ١٥٤) شرح الكلمات الصبر - أصل الصبر هو الكف والإمساك، ولكنه يُستخدم في معان أخرى منها: ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله لا إلى الله (الأقرب).لكن إذا كانت الشكوى

Page 326

الجزء الثاني ۳۲۳ سورة البقرة دعاء الله تعالى كي يزيل ما حلّ من مصيبة فهذا ليس منافيا للصبر؛ فقد ورد: (إذا دعا الله العبد في كشف الضر عنه لا يقدح في صبره (الأقرب).وقيل الصبر صفة سامية في الإنسان، ولها أسماء مختلفة.فهو في المحاربة شجاعة، وفي إمساك النفس عن الفضول أي عن طلب ما يفضل عن قوام المعيشة فقناعـــــة وعفة نفس (الأقرب).ولما كان المعنى الأصلي للصبر هو الامتناع والكف، لذلك قال علماء اللغة: الصبر صبران: صبر على ما تهوى، وصبر على ما تكره (الأقرب).الحقيقة أن الصبر على ثلاثة أنواع كما يبدو من القرآن والحديث: أولا: اجتناب الجزع والفزع؛ قال تعالى (واصبر على ما أصابك)(لقمان: ۱۸) ثانيا: التمسك بالخير والتشبث به، قال تعالى فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آئما أو كفورا) الإنسان (۲۵ فكل ما أمر الله به مما يسهل به قربه إذا تمسك بــه الإنسان ولم يتزلزل عنه فهذا هو الصبر.ثالثا: اجتناب السيئة؛ قال الله تعالى (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خــــيرا لهم والله غفور رحيم) (الحجرات: (٦)..أي لو أنهم امتنعوا عن إثم استدعائك وانتظروا حتى تحضر إليهم بنفسك لكان خيرا لهم، ولكنهم لو أصلحوا أنفسهم الآن أيضا لوجدوا الله غفورا رحيما.أما آيتنا الحالية فينطبق عليها المعاني الثلاثة لعدم وجود قرينة، والمراد أن لإنجاز أي عمل طريقين: أحدهما مادي والآخر ،روحاني، وإذا استخدم الإنسان الطريقين نجح وأفلح، فعليكم باستخدام الاثنين والطريق المادي هو أولا، اصبروا بهمة وثبـات على كل ما تلاقونه في سبيل الله من صعاب وشدائد؛ وثانيا عليكم باستخدام كل الوسائل والأسباب لإنجاز العمل؛ وتجنبوا الأمور التي تحول دون إنجاز المهمة.وأما الطريق الثاني وهو الروحاني فهو : ادعوا وانهمكوا في العبادة.الصلاة - المعنى الأصلي للصلاة هو عبادة الله، ولذلك أُطلقت على الصلاة الإسلامية؛ الدعاء الدين؛ الرحمة؛ الاستغفار ؛ حسن الثناء؛ السلام على النبي (الأقرب).

Page 327

الجزء الثاني ٣٢٤ سورة البقرة ولمزيد من الشرح يُرجى الرجوع إلى الآية رقم ٤ من سورة البقرة، من الجزء الأول ، من هذا التفسير في قوله تعالى (والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).التفسير: يتبين من هذه الآية أيضا أن المراد من قوله تعالى (ومن حيث خرجت)هو الخروج للمواقع الحربية المتعلقة بفتح مكة..لأن الصبر والصلاة يلجأ إليها الإنسان عند الشدائد، فعند ذكر الشدائد التي عانى منها المسلمون على يد اليهود أيضا قال الله تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة (البقرة: (٤٦) والآن عند ذكر مكة بين أنكم سوف تتعرضون للشدائد ولا شك ويُقتل أقاربكم، ولكن لا تدعوا الجبن والخــــور يتسرب إليكم، بل عليكم بالهمة والثبات والجد لمواجهة هذه الشدائد وتقديم التضحيات وعليكم بالاستعانة عليها بالصبر والصلاة.في هذه الآية بين الله مسألة عظيمة الشأن..ذلك أنه تعالى يمنع المسلمين من البكـاء والإحساس بالألم عند الشدائد ولذلك يقول سوف تتعرضون للشدائد، وسوف تشعرون بوطأتها وألمها، ولكني أدلكم على علاجها: اصبروا وادعـــوا..ورد في الحديث أن طفلا لإحدى بنات النبي ﷺ أوشك على الموت (ففاضت عينا النبي ﷺ فقال له الصحابي سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال : هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده.ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء)(البخاري، كتاب المرضى).فلم يمنع من أحاسيس الألم، ولكنه منع أن ينهار الإنسان فيترك العمل جزعا وفزعا.ولذلك قال الله تعالى إن الشدائد آتية والسيوف ستشهر، والأعناق ستضرب..فاصبروا وتثبتوا وانهمكوا في عملكم بهمة وثبات لا نقول لكم: إياكم وإحساس الألم والغم، فهذه عاطفة طبيعية لا يمكن كفّها، وإنما نقــــول: شاركوا في هـذه التضحيات بهمة وثبات، ولا تتزعزع أقدامكم.ولكنه نبه أن هذه تدابير وأسباب مادية وواجبكم الحقيقي أن تعتمدوا علـــى وتستعينوا بالدعوات إليه، وما لم تتوكلوا على الله كلية و لم تتعودوا على التوسل الله، إليه لن تنالوا الفتح والنصر.انظروا إلى الطفل الصغير إذا حُوِّف أسرع إلى أمه على

Page 328

٣٢٥ سورة البقرة الجزء الثاني الفور مهما كانت أمه ضعيفة وعديمة الحيلة..ويعتقد في أحضانها أنه أصبح في مأمن.كذلك المؤمن يهاجمه عدو فإن ملجأه الوحيد هو وجود الله تعالى.الصلاة شيء روحاني، وعلاقته بالله تعالى والصبر شيء مادي وعلاقته بالتدابير الإنسانية.عند الصبر تظهر علاقة حبنا الله تعالى ،مجبرين أما في صورة الصلاة فتظهر علاقة عشقنا بالله طائعين.إن المصائب والشدائد لا نخلقها بأنفسنا وإنما يجلبها علينا العدو، ونتحملها ولا نترك الله تعالى، ولكننا مجبرون على ذلك، أما الصلاة والدعاء فهي عبادة نقوم بها عن طواعية، لا إكراه عليها وإنما نصلي برغبتنا.إذن بالصبر نبدي محبتنا الله تعالى ،مجبرين، أما بالصلاة فنعبر عن حبنا وعشقنا لله طائعين.وعندما يجتمع الاثنان..الصلاة والصبر..يكتمل الحب، فتجري ينابيع فيض الله من الرحمــة والبركة.وعلى ضوء معاني الصبر المذكور أعلاه.فالآية تعني :أولا أيها المؤمنون.إذا حلــت بكم المصائب فلا تحزنوا ولا تضيقوا بها ولا تشتكوا منها؛ وثانيا "أيها المؤمنــــون، حاولوا تجنب الأمور التي تحول بينكم وبين قُرب الله تعالى؛ وثالثا: أيها المؤمنون، لا تتكاسلوا عن العمل بكل ما تؤمرون به ليقربكم إلى الله، بل اعملوا به بهمة وثبات، فهذه الأمور الثلاثة تساعد على نيل المدراج العليا من الروحانيــة، فيجـــب أن تضعوها في اعتباركم دائما، ولو فعلتم ذلك لنجحتم في إنجاز ما أنتم بصدده، وتنالون هدفكم.ونظرا إلى ما ذكر من معاني الصلاة.فالآية تعني :أولا أيها المؤمنون، استعينوا بالله عن طريق الصلاة ثانيا : أيها المؤمنون، استعينوا بالله بالدعاء والابتهال إليه تعالى؛ ثالثا: أيها المؤمنون استعينوا بالله بالتمسك والثبات على دينه؛ رابعا: أيها المؤمنون، استعينوا بالله بالاستغفار من ذنوبكم؛ خامسا : أيها المؤمنون، استعينوا بالله بالصلاة والتسليم على رسوله وكأن كل هذه طرق ينال بها الإنسان نصرة الله وعونه.في سورة الفاتحة، أُمرنا أن نقول إياك نعبد وإياك نستعين)، وفي هذه الآية دلنا على طريقة نحصل بها على نصرته وعونه.يقول:

Page 329

٣٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني ١.لو تعرضتم للمصائب والمصاعب في سبيل ديـــن الله، واضطررتم لتقديم التضحيات، فلا تخافوا ولا تقلقوا.٢.واجتنبوا الأمور التي ينهاكم الله عنها..لا تتوقفوا عن تقديم التضحيات لأنها ضرورية للحصول علـى قـرب الله تعالى..فداوموا عليها وتثبتوا.وادعوا الله أن يقبل تضحياتكم ويجعل لها نتائج وثمرات جيدة، ويمنحكم الفتح والظفر.ه.ارحموا الفقراء حتى يرحمكم الله ويرضى عنكم لما هيأتم من راحة لخلقه.٦.اطلبوا المغفرة على تقصيراتكم..ادعوا وصلوا على الأنبياء لأنكم عن طريقهم وفقتم للوصول إلى الله ٨.تثبتوا على دين الله بهمة واستقامة.٩.داوموا على العبادة بكل همة ونشاط.كل هذه الأمور بينها الله تعالى كي ينال الإنسان الفلاح والنجاح.فمن أراد أن الله فلا بد له من العمل بها.لا يكفي ولا يعني شيئا تَفَوُّه الإنسان: يا إلهي، ينصره يا رب انصرني...بل لا بد للحصول على نصرة الله من العمل بهذه السبل.فالذين يدفعهم الخوف إلى اليأس، ثم يرجون الله تعالى أن ينزل ملائكته من السماء لنصرتهم لن يُنصروا ولن يفلحوا والذين يتخذون أوامر الله وأحكامه ظهريا ويُعرضون عنها، ثم يرجون الله تعالى أن يبعث ملائكته لمعونتهم لن ينالوا ذلك أبدا.والذين يترددون في تقديم التضحيات ويقصرون في تأدية المسئوليات الملقاة عليهم من الله تعالى لن يفلحوا.والذين لا يدعون الله ولا يتضرعون إليه بالبكاء والخشوع ثم يتوقعون منه تأييدا معجزا لن يفلحوا.والذين لا يبدون غيرة في أمـــور الـــدين ولا يسهمون في سبيل رقيه وازدهاره لن يفلحوا أمام الأعداء والذين لا يشفقون على الفقراء والمساكين، ولا يمدون أيديهم لإزالة مشاكلهم لن يفلحوا ولن ينالوا تأييد الله عند المشاكل.والذين لا يصلّون على رسل الله تعالى ولا يدعون لهم، ولا يكنون في أنفسهم مشاعر الشكر تجاه صنائعهم لن يفلحوا في الحصول على معونة

Page 330

۳۲۷ سورة البقرة الجزء الثاني الله تعالى.والذين لا يقفون أعمارهم لخدمة الدين والعبادة لن يفلحوا في نيـــل المدارج العالية من قرب الله.ثم إن الذين يقومون بكل هذه الأمور، ولكنهم لا يشعرون في أنفسهم أنهم لم يقوموا بأي إنجاز أو عمل يُذكر، وإنما يصيبهم الكبر لما قاموا به.فلن يفلحوا أيضا في نيل عون الله تعالى.به..فلن ذلك الناس يقولون بأفواههم إياك نعبد وإياك نستعين ، ولكنهم لا يعرفون ماذا يتطلب منهم قولهم هذا إنهم عندما يذهبون إلى مكتب البريد لإرسال حوالة مالية إلى أحد..يأخذون معهم الورقة الرسمية "الاستمارة " الخاصة بذلك، لأنهم يعرفون أن النقود لن تُرسل ما لم تصحبها الاستمارة وما لم تُملأ بياناتها صحيحة.وإذا أرادوا إرسال رسالة وضعوا عليها الطابع البريدي بحسب القيمة المحددة.لعلمهم أن الرسالة لن تصل إلى جهتها إلا بذلك وعندما يريدون الالتحاق بمدرسة يملئــــون بيانات الاستمارة التي تصدرها الجهة التعليمية.وكذلك عند التقدم لامتحان في الجامعة..إذا أخطأ الطالب في أحد البيانات اضطرب قلبه خشية رفض الطلب.ولكن فيما يتعلق بالله تعالى فلا يملئون استمارة ولا يوفون بأي شرط، ومع يقولون: يا رب، أرسل لنا ملائكتك لنصرتنا.إنهم لا يعرفون أنه في الأمور الإلهية أيضا لا بد من ملأ استمارة، وما لم تُملأ الاستمارة مع التوقيع لن يحالفهم نصر وتأييده.تلك الاستمارة هي استمارة (الصبر والصلاة وما لم يوقعوا عليها فـــلا نصيب لهم من نصر الله وعونه.وفي قوله تعالى (إن الله مع الصابرين)..اكتفى بذكر الصابرين و لم يذكر المصلين، ولم ذلك لأن كلمة (الصابر) تعنى المواظبة والمداومة على عمله، والصبر هنا لا يعني الجلد فقط بل يشمل الصلاة أيضا.ولا يعني قوله تعالى (إن الله مع الصابرين) أنه الذين يبدون جلدا وتحملا فحسب، وإنما يعنى أن الله مع أولئك الذين يبدون مداومة وثباتا على الصبر والصلاة أيضا لأن الدعاء المقبول إنما هو ما داوم عليه صاحبه.فالمعنى أنكم إذا تمسكتم بالصبر والصلاة بهمة ومداومة تفلحون.هنا يقبل الله مع نصح الله أولئك الذين يتحملون المشاق لفترة ثم يتعجلون ويقولون: لماذا لم الله دعاءنا.لقد تعبنا من النداء، فما الفائدة الدعاء وسئمنا من من هذا الدعاء

Page 331

۳۲۸ سورة البقرة الله سبحانه.الجزء الثاني الذي لا يسمع؟ وبعضهم يقعون في العثار حتى إنهم يرفضون وجود يقول الله تعالى (إن الله مع الصابرين..إنما ينال نصر الله من يداومون ويثبتون في تحمل المشاق، ويأخذون بأسباب الصبر والصلاة بهمة وثبات ودوام.وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (١٥٥).شرح الكلمات : لا تقولوا لمن يُقتل - إذا جاءت اللام بعد القول فمعناها توجيه الكـــلام إلى أحـــــد.يقولون: قال لفلان أي خاطبه قائلا.وكذلك إذا قيل: قال لفلان..أي قال في شأنه.فالمعنى: لا تقولوا لهؤلاء مخاطبين إياهم : أنتم أموات.أولا تقولوا في شأن هؤلاء الشهداء إنهم أموات.وهناك محذوف قبل أموات وأحياء، والتقدير : لا يقولوا لمن يقتل في سبيل الله أنهم أموات بل هم أحياء.التفسير: في هذه الآية يقول الله عن الشهداء في سبيله إنهم أحياء.ذلك لأن العرب كانوا إذا ما قتل أحد وأخذ ثأره سموه حيّا، أما القتلى الذين لا يؤخذ ثأرهم فكانوا يسمونهم أمواتا.وكانت هذه الفكرة شائعة بينهم لدرجة أنهم زعمـــوا أن القتيـــل الذي يؤخذ ثأره تتحول روحه إلى بومة تصرخ طوال الليل، فإذا أُخذ ثأره ارتاحت روحه وكفت عن الصياح ونال صاحبها النجاة.ومن هنا اعتقدوا أن أخذ ثأر القتيل يجعله حيا، ومن لم يؤخذ ثأره ظل ميتا.قال الشاعر الجاهلي الحارث بــن حلزة في معلقته: إن نَّبَشِّتُم مَّا بين مِلْحَة فالص اقب فيه الأموات والأحياءُ يخاطب الشاعر القبيلة المعارضة له ويقول: تحسبون أنفسكم سادة شرفاء..وهـذا صحيح.ح.اذهبوا إلى هذا المكان بين ملحة والصاقب حيث دارت بيننا وبينكم المعارك..تجدوا هناك قبورا للقتلى..منهم الأموات ومنهم الأحياء..يريد أن الأموات هم قتلاكم الذين لم تستطيعوا الثأر لهم منا، والأحياء هم قتلانا الذين ثأرنا غير

Page 332

فتعني ۳۲۹ الجزء الثاني سورة البقرة لهم وقتلنا منكم كثيرين مكان الواحد منا.وكان العرب حساسين في هذا الصدد حتى أنهم يعيرون أهل القتيل الذي لم يثأر له ويتهمونهم بعدم الغيرة والإباء.الآية إذن: لا تقولوا لهؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أنهم أموات، بل هم جنود الله أحياء..لأنه سبحانه سوف ينتقم لهم.وفعلا لو قتل صحابي واحد لقتل من المشركين في مكانه خمسة.ففي كل معركة كان قتلى الكفار أكثر مـــــن شهداء المسلمين، إلا في غزوة أُحد حيث استشهد عدد أكبر من المسلمين، ولكـــــن الله تعالى ثأر لهم من الكفار فيما بعد.وهناك معنى آخر للآية..فمن مات وخَلَفَه من يتم عمله يقال عنه (لم يمت)، أما من لم يترك بعده من يكمل عمله فهو ميت يحكى أن الملك الأموي عبد الملك زار مدرسة للزهري، وكان من طلابها الأصمعي النحوي الشهير، وامتحن الملك الأصمعي بسؤال، فرد عليه بجواب معقول، فسُر الملك وقال للزهري: ما مات من خلف مثلك.فمعنى الآية أيضا لا يمكن أن يسمى هؤلاء الشهداء أمواتا لأن وراءهم من ينجز ويكمل العمل الذي قدموا أرواحهم من أجله، وإذا مات منهم واحد نهض ليأخذ مكانه اثنان فلا تقولوا عنهم إنهم أموات لأن الله تعالى خلق لهم من ينوبون عنهم بأحسن طريق وهم أكثر عددا من الراحلين.الميت من يرحل وليس له من يحل محله.الحق أنه لا تموت أمة يأخذ أفرادها مكان شهدائها الأمة التي تصنع من يحل محـــل الأولين، مهما كانت صغيرة، فلن تهزم في مجال الصراع.تحسبون المسلمين قـــد ماتوا ؟ كلا، لم يموتوا بل هم أحياء.إذا مات منهم واحد، أخذ غيره مكانه.إذا مات عدد من المسلمين في غزوة بدر حل محلهم آخرون أكثر عددا في غزوة أُحد.وإذا تضرر ومات بعض المسلمين في غزوة أحد قام الكثيرون ليحلوا محلهم في غزوة الخندق.ويوم فتح مكة كان عدد الجنود المسلمين أكبر كثيرا من عــددهـم يـــوم الخندق.وإذا تأذى المسلمون شيئا ما يوم فتح مكة فإن عدد المسلمين يوم تبوك كان أكبر كثيرا.ففي كل موقعة كان عدد المسلمين يتزايد لتقديم تضحية أعظــــم

Page 333

الجزء الثاني سورة البقرة ممن كانوا قبلهم والأمة التي تسمو إلى هذا المقام الرفيع من التضحية لا يمكن أن يقضي عليها أحد ومثل هذه الأمة هي تلك التي يقيمها الله تعالى.والمعنى المجازي الثالث هو أن هؤلاء أحرار من أي نوع من الحزن والألم.فمن كان عاقبته أن قتل في سبيل الله تعالى...كيف يمكن أن يجد حزنا وألما في الآخرة؟ مــــا دام هؤلاء مسرورين في الآخرة فقد نالوا حياة أفضل مما تركوها، فلا يمكن أن تسَمُّوهم أمواتا، لأن الموت يدل على حالة من الغم والألم.الثابت من القرآن أن الحياة بعد الموت سوف ينالها المؤمن والكافر على السواء..فالمراد من قول الله تعالى : لا تقولوا عنهم أمواتا أن وصف أحد بالموت يحمل معنى الألم، ولكن هؤلاء في راحة وينالون من الله نعما...فكيف يمكن أن يسموا أمواتا؟ والمعنى الرابع هو أن الشهيد ينال فورا بعد الموت الحياة الكاملة، بينما يقضي الآخرون فترة ما بين الموت والحياة الكاملة.فقد ورد في بعض الأحاديث أن الشهيد يحيا بعد ثلاثة أيام، وينال ذلك الكمال الذي يناله الآخرون بعــــد فتـــرة طويلة.يقول: إن هؤلاء الشهداء ينتقلون بعد مقتلهم إلى حياة روحية كاملة..وإن كان الجميع شركاء في الحياة، بل إن أبا جهل سينال الحياة بعد الموت، إذ كيـف يدخل جهنم إذا لم يحصل على الحياة؟ فالمؤمن والكافر كلاهما ينال الحيـــاة بعـــد الموت ولكن الشهيد الذي يضحي بحياته في سبيل الله تعالى فإنه يُعطى الحيـــاة الروحية الكاملة بعد موته مباشرة.ودعوة إلى ثم إن هذه الآية تعتبر الشهيد حيّا أيضا لأن المؤمن الصادق لا يخاف من الموت في سبيل الله تعالى إلا خشية الحرمان من الاستمرار في أداء الأعمال الصالحة من عبادة الله وخدمة لخلق الله، مثلا، إذا كان هناك شخص مات في الأربعين، لو أنه مكث إلى الستين لأنجز كثيرا من الخيرات.هذه هي الفكرة الوحيدة التي يمكن أن تمنع الإنسان المؤمن من الاستعداد للموت...وإلا إذا كان المؤمن حقا يقدّم الآخرة على الدنيا فلا يمكن أن تمنعه أي فكرة دنيوية من هذا السبيل.وقد أقر الله معقولية هذا الخاطر وردّ عليه قائلا: (لا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بـــل أحياء)..أي أن أعمال الشهيد لا تنقطع، وإنما هو حي وأعماله في الخير مستمرة،

Page 334

۳۳۱ سورة البقرة الجزء الثاني بل وتزداد يوما بعد يوم.إنه ضحى بحياته في سبيل الله لذلك لم يُرد الله تعالى انقطاع أعماله فما من صلاة تصلونها وتثابون عليها إلا يثاب عليها الشهيد، وما من رمضان تصومونه وتثابون عليه إلا وينال الشهيد ثوابه وما من حج تحجونـــــه بشق الأنفس وتفوزون بثوابه إلا ونال ثوابه هؤلاء الشهداء ينالون نفس البركات التي تنالونها ويزدادون قرباً إلى الله تعالى كما تتقربون.لقد بين الله في هذه الآية فلسفة الحياة والممات بأسلوب رائع لطيف.وذكر أن من ينال درجة الشهادة ينال حياة أبدية.كم كان جنود يزيد مسرورين عندما قتلـــوا الله الإمام الحسين (رضي عنه)، وكم تفاخروا بأنهم قضوا على خصمهم، ولكـــن هل انتهت القضية بهذا الحادث؟ الدنيا ترى أن الإمام الحسين حي إلى اليوم، ولكن يزيد ميت عندهم في ذلك الوقت واليوم أيضا كذلك كل من يضحي بحياته في سبيل الله تعالى لا يضيع دمه، بل يأتي الله مكانه بقوم فيدخلهم في جماعته..لذلك يقول الله تعالى: لا تقولوا لمن يقتل في سبيلي أموات..بل إنهم أحياء.كيف يقـــال عن الشهيد إنه ميت؟ فالمقربون لدى الله والشهداء في سبيله لا يموتون أبدا.لقــــد علّق اليهود المسيح على الصليب، ثم أُنزل من على الصليب حيًّا، وإن ظن أنه مات على الصليب كما ذكرهم القرآن (النساء: ١٥٨)..فماذا كانت عاقبة أولئك الذين حاولوا قتله على الصليب؟ فرغم مرور تسعة عشر قرنا على هذه المحاولة الفاشلة...لا يزال اليهود معلّقين على نوع من الصليب..مع أن الناس ينسون أعداءهم بعد خمسين أو ستين سنة، بل نقابل عشرات من الناس لا يعرفون أسمــاء جدهم، وربما لا يعرف اسم أجداده من القرن السابق إلا واحد في المليــون مـــن الناس، ولكن رغم أنه انقضى على محاولة قتل عيسى ابن مريم أكثر من تسعة عشر قرنا إلا أنه لا يزال اليهود يعلقون ويُعدمون إلى اليوم.وكذلك حاول كبراء مكة قتل محمد الله، ولكن هل تجدون أحدا يذكر اسمهم وينتسب إليهم؟ في غزوة أحد نادى أبو سفيان هل فيكم محمد؟ ولما لم يتلق جوابا نادى: لقد قتلنا محمدا.ثم نادى هل فيكم أبو بكر؟ وعندما لم يتلق ردّا قال: قـــد قتلنا أبا بكر ثم سأل هل فيكم عمر ؟ (البخاري، كتاب المغازي).اذهبوا اليوم إلى •

Page 335

۳۳۲ سورة البقرة الجزء الثاني أركان العالم واسألوا: هل فيكم أبو جهل؟ لن تجدوا أي صوت يقول: نعم فينا أبو جهل ولكن لو ناديتم هل فيكم محمد؟ فسوف تسمعون مئات الملايين من الأصوات تهتف وتقول: نعم فينا محمد؛ لأننا نتشرف بالانتساب إليه وتمثيله.لا يزال نسل أبي جهل موجودين في العالم، ولكن لن يتجاسر أحد منهم أن ينتسب إليه.هناك نسل لعتبة وشيبة في الدنيا إلى اليوم، ولكن هل هناك أحد يقول إنه من أولادهما؟ إن الذين يُقتلون في سبيل الله لا يموتون أبدا، بل إنهم أحياء إلى يوم القيامة، وإن ذريتهم ليدعون الله لهم بذكر أسمائهم، ويتذكرون محاسنهم، ويحاولون تتبع خطواتهم.توضح هذه الآية صحة موقفي فيما يتعلق باختلافي مع المفسرين الآخرين بصدد تحويل القبلة، وتبيَّن صوابُ قولي إن الآية ومن حيث خرجت...) تعني: عليك أن تنظر دائما إلى هدف فتح مكة، وليس أن تتجه إلى القبلة في الصلاة.وإلا فلا علاقة لهذه الآية مع سائر الآيات ولا صلة بين ذكر الشهداء والقبلة.يكون ذكر الشهداء مع الحرب والقتال، أما ربط الشهداء مع قضية تحويل القبلة فلا يبدو مناسبا ولا حقا.يقول الله هنا: لو اضطررتم لدخول الحرب من أجل فتح مكة فلا تخافوا..لأن في هذا بقاءكم وحياتكم.والذين يُقتلون في سبيل الله لا تسموهم أمواتا، بــــل هم أحياء الذين لجهلهم يسمونهم أمواتا ينقصهم الإحساس بأهمية هذا الأمر.ويتضمن هذا أيضا الجواب على من يقول: ما الحاجة إلى الحروب وإزهاق الأنفس؟ يقول الله: إنكم لم تُمنحوا تلك البصيرة التي نالها المؤمنون الذين يُستشهدون في سبيل الله، إنكم لا تدرون أن في موتهم الأساس لانتصار الإسلام، ولكنهم يدركون جيدا أن في موتهم منفعة عظيمة للإسلام.جاء في الحديث "عن جابر بن عبد الله يقول "لقِيَني رسولُ الله ﷺ فقال لي : مالي أراك منكسرا؟ قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا ودينا.قال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك قال: بلـــى يـــا رسول الله.قال: ما كلَّم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمــــه كفاحا [أي مشافهة ] ، وقال يا عبدي، تَمَنَّ عليَّ أُعْطِك.فقال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية.قال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون) (الترمذي

Page 336

الجزء الثاني ۳۳۳ سورة البقرة أبواب التفسير.وهذا يؤكد أن صادقي الإيمان يعرفون أن في موتهم إحياء للأمة، وأنه ينتظرهم ثواب كبير في الآخرة، فلا يخافون الموت.هؤلاء يبقون أحياء رغم تضحية أرواحهم، ولكن الذين لا يقدمون حياتهم يظلون أمواتا رغم حياتهم.تنبأ سيدنا المهدي والمسيح الموعود عن موت القسيس عبد الله آثم، وعندما انقضى الموعد ولم يمت آثم صاح المتشبثون بالظواهر : إن نبأ المرزا لم يتحقق وتبين كذبـه.واستهزأ بعض الناس بهذا النبأ في مجلس حاكم ولاية بهاولبور بالهند، وقالوا أن النبأ ثبت كذبه.وها هو آثم حى يُرزق إلى اليوم.وكان ولي الله الخواجة غلام فريد من بلدة تشاتشران في المجلس وكان الحاكم مريدا له وأثناء الحديث قال الحاكم: نعم، لم يتحقق نبأ المرزا فثار الخواجة غلام فريد بكل جلال: مـــن يقــول إن آثم حي؟ إنني أرى جثته.فسكت الحاكم (إشارات فريدي: ج٣صفحة ١٥) فبعض الناس يبدون أحياء، ولكنهم أموات.وبعضهم يبدون أمواتا في الظاهر ولكنهم في الحقيقة أحياء.فالذين يضحون في سبيل الله بأنفسهم إنهم أحياء في عيون أهل البصيرة الروحانية.يُحكى أن وليا من أولياء الله كان يقيم في المقابر فسئل: لماذا تركت الأحياء وتعيش في المقابر بين الأموات؟ فقال: إنني أرى الأموات في المدينة، وأرى هؤلاء أحياء تذكرة الأولياء للشيخ فريد الدين العطار، ذكر إبراهيم الأدهم).فليس من السهل معرفة الأحياء والأموات الروحانيين، ولكن الله تعالى ذكر علامة ظاهرية تسهل إلى حد كبير معرفة هؤلاء وهؤلاء.۱۰ القسيس آثم كان خطيبا في جامع آغرا بالهند ثم تنصر وجعلوه قسيسا.وكان يتطاول على سيدنا محمد ﷺ بوقاحة حتى سماه كذابا والعياذ بالله، فأنذره سيدنا المهدي بناء على إلهام أن الله سيهلكه خلال مدة عينها له.فأرعبه الإنذار وتوقف عن شتائمه فنجا من العقاب، فأثار المعارضون ضجة أن النبأ لم يتحقق..فقال الإمام المهدي إن الرجل أقلع عما كان يفعل، فنجا من عقاب الله، واسألوه يخبركم ولكن آثم لزم الصمت، فقال الإمام المهدي إن سكوته إخفاء للحق فلا بد أن يهلكه الله، فأهلكه الله خلال الموعد المضروب.ولمزيد من التفاصيل راجع [نبوءات لسيدنا المهدي -دراسة تحليلية، نعيم عثمان ميمن ]

Page 337

٣٣٤ سورة البقرة الجزء الثاني قوله تعالى (ولكن لا تشعرون).الشعور هو العلم الذي ينبع عن داخل الإنسان.مثلا لو سمع أحد شيئا من غيره وتوصل منه إلى نتيجة..فهذه النتيجة لا تسمى شعورا، ولا يقول: شعرتُ، بل يقول: علمتُ.ولكن إذا توصل إلى تلك النتيجة بتفكير من داخله بدون إخبار من أحد عندئذ يقول شعرتُ.وحينما يبلغ الطفل سن البلوغ يقولون : لقد وصل إلى "سن" "الشعور" مع أنه يحصل علـى بعـض المعلومات من قبل أيضا.وكذلك يسمّى الشعر شعرًا لأنه ينبت من الداخل.ويسمى اللباس الملاصق للبدن شعارا لأنه داخلي.وسمي الشعر شعرا لأن موضوعه يعبر عن الأحاسيس الداخلية للإنسان وبقراءته يشعر الإنسان أن هذا هو في ذهنه أيضا.وإلى ذلك يقول الشاعر غالب ما معناه: دیکھنا تقریر کی لذت که جو اس نے کہا أنه يشعر كأن مــا میں نے یہ جانا کہ گویا یہ بھی میرے دل میں ھے انظر إلى لذة خطابه..فقد ظننت أن هذا أيضا في قلبي..يعني يقول في قلبه.يقول الله في هذه الآية أن كون الشهداء يحصلون على حياة سامية، أو أنه إذا مات أحدهم قام مكانه خمسون أو مائة، أو أنهم أحرار من كل حزن وخـــــوف، أو أن دماءهم لن تضيع هباء..كل هذه الأمور تتعلق بشعور الإنسان.فإذا كـــان المـــرء معتادا على التدبر بفطرة سليمة لأدراك أنه لا ينال شيئا في هذه الدنيا إلا بتضحية شيء.فالأم إذا لم تستعد لتضحية نفسها فلن تنال طفلها، وحبة القمح إذا لم تُضيع نفسها وتدفن تحت التراب لا يمكن أن تتضاعف إلى سبعمائة حبة.كذلك لا يمكن أن تصبح أمة حية ما لم يعتبر أبناؤها أرواحهم رخيصة، ويستعدوا للتضحية بها في أي وقت، ولن يُكتب البقاء لأمة ما لم يكن أبناؤها احتراما وإجلالا لشهدائها.هذا صوت الفطرة يُسمع بآذان الشعور، ولكن الذين حرموا الشعور فإنهم يعترضـــــون على كل أمر، وكلما يطالبون بتضحية من مال أو نفس تتزعزع أقدامهم، ويعتبرون

Page 338

الجزء الثاني ٣٣٥ سورة البقرة من يتقدمون ويُلقون أنفسهم في نار التضحيات جهالا.ينصح الله مثل هؤلاء: استخدموا شعوركم ولا تنتهكوا حرمة الشهداء باعتبارهم أمواتا.إنهم ليسوا أمواتا بل هم الأحياء في الحقيقة، لأن التاريخ سوف يحيى اسمهم.والأجيال القادمة سوف تتبع خطاهم وتذكر إنجازاتهم، وسوف تدعو لهم الله دائما بالمغفرة ورفـــــع الدرجات تحسبون أن الحي من في جسده حياة، ولكن الحي حقا من يُحيي قومه بموته.إذا كنتم ترون الشهداء أمواتا فشعوركم عليل، فاهتموا بعلاجه، وحاولوا فهم فلسفة الموت والحياة.وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِن الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِن الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٦) شرح الكلمات: لنَبْلُونَّكم البلاء هو إظهار خير أو شر، ويكون ذلك لثلاثة أغراض: ١.أن يزداد المبتلي ،علما، مثلما يفعل الأستاذ مع تلميذه فيمتحنه ليعرف مقدار ١.تحصيله وحفظه.۲.ليزداد المبتلي علما ويعرف ما هو حاله، لأن الناس عامة لا يعرفون ما فيهم من صلاحية أو نقص..كما قال الله عن المنافقين (وما يخدعون إلا أنفسهم ومـا يشعرون)(البقرة: ١٠).٣.ليعرف الآخرون حالة المبتلي...مثلما حدث في قصة آدم والملائكة؛ فقد سأل الله آدم ليعرف الملائكة الصلاحيات الكامنة في آدم؛ وليس ليعرف الله شيئا لأنه هو العليم الخبير.فعندما تُستخدم هذه الكلمة في حــق الله تعالى تكــون بـالمعنيين : الأخيرين، فإذا لم يبتل الإنسان لن يزداد إيمانا ولن يعرف مستواه في الإيمان.المزيد من الشرح راجع تفسير قوله تعالى (وفي ذلكم بلاء من ربكــــم عـظـيـم)(البقــــرة:.[(٥٠ الثمرات الفواكه ونتائج الجهود(الأقرب).

Page 339

الجزء الثاني ٣٣٦ سورة البقرة بشر - البشارة هي الخبر يؤثر في بَشَرة الإنسان تغيرا، وهذا يكون للحزن أيضا لكن غلب استعماله فيما يفرح (الأقرب).التفسير: يذكر الله هنا خمسة أنواع من الابتلاءات والاختبارات، ويؤكد أنكم لن تحظوا بقرب الله ما لم تمروا بها بنجاح.أولها - أنكم سوف تتعرضون لخطر هجوم الأعداء.سوف تقف كل الأمم في وجهكم وتهاجمكم، وستغضب علـيكم الحكومات، وتسعى لمحوكم.هذه أمور يخاف منها الجبناء وتنهار العزائم عند كثير من الناس ويفقدون حواسهم يقولون: لقد تحالف القوم والحكومة علينا، وأصدروا قرارات ضدنا، ولا ندري ماذا سيكون مصيرنا.وثانيا - عندما يتقدم المؤمنون في هذا الابتلاء الأول يمتحنهم الله بالجوع، ليتبين ثبات قدمهم والمراد من ابتلاء الجوع أن جماعة المؤمنين عندما تجتمع حول المأمور الإلهي يقاطعهم الناس، ويطردونهم من الوظائف ولا يتعاملون معهم بيعا.وشراء.كانوا من قبل يكتفون بالتهديد ليخاف المؤمنون من الضرر، ولكنهم في الخطوة التالية يفرضون عليهم الجوع والإفلاس عمليا..وذلك مثلما حدث مع رســول الله والمؤمنين عندما حوصروا في شعب أبي طالب، وكانــت قــريش لا تسمح بوصول أي نوع من الطعام والشراب إليهم، ولا يتعاملون معهم أبدا.واستمرت هذه المقاطعة لمدة طويلة من الزمن السيرة النبوية لابن هشام، خبر الصحيفة.وثالثا يقول الله تعالى إن هذه السلسلة من المصاعب والمتاعب لن تتوقف عند هذا الحد، بل سوف يستبيحون أموالكم.فكأنهم بعد امتناعهم عن البيع والشراء مـــع المؤمنين..يخطون خطوة أبعد، فيسلبون المؤمنين ما ادخروه من مال وأسباب.ورابعا عندما يجدون أن هذه الخطوة لا تحقق أيضا ،غرضهم، يعتدون على أرواح المؤمنين.ولكن هؤلاء لا يترددون في تقديم أنفسهم في سبيل الله تعالى.وخامسا - فعندئذ يهاجمون أولادهم.لقد وجدنا أن بعض الخبثاء يحضرون اجتماعنا السنوي لاختطاف أطفال الأحمديين إيذاء لهم بهذا السبيل.ومما يدخل في نقص الثمرات أيضا أنهم يحاولون عرقلة جهود المؤمنين ليحرموهم منافع عديدة.

Page 340

الجزء الثاني ۳۳۷ سورة البقرة ولنعلم أن الابتلاء يأتي على ضعفاء الإيمان ليعرفوا حالتهم الإيمانية.أما أقوياء الإيمان فإنهم يمرون بالابتلاء ليعرف الآخرون مدى قوة أيمانهم بأنهم لا تزل قدمهم بعد ثبوتها.فالناس عموما يظنون أن لهم قدما ثابتة في الإيمان ولكن عند الابتلاء يظهر ضعفهم، فيطلعون على نواحى النقص فيهم، ويسعون لعلاجها، وهكذا يصلون إلى الكمال شيئا فشيئا.يقول الله تعالى: سوف نفرض عليكم ابتلاءات لتنكشف لكم أحوالكم الباطنة وهي من خمسة أنواع: الخوف، وهو ابتلاء خارجي.والجوع، وهو أذى داخلي.وكأن البعض يُختبرون بأذى خارجي، والبعض يُبتلون بأذى باطني.ذلك لأن هناك من هم مستعدون للقتال، ولكنهم لا يتحملون الجوع.فالجند من الجيش يقاتلون، ولكنهم يتأذون من الجوع، ولذلك يُزودون بشيء من الطعام الجاف كالحمص والتمر وغيرهما ليسد رمقهم.ولكن المؤمن ليس كذلك، فهو مستعد لاحتمال الجوع في سبيل الله كما حصل في زمن الرسول ﷺ بعث الرسول ذات مرة بعض الصحابة إلى الخارج، و لم يسألوا من أين نأكل.واقتاتوا على أوراق الأشجار والنبات.وفي مرات أخرى عاشوا على التمر (مسلم والنسائي، الصيد).فيقول الله تعالى: سوف نرى نصيبكم من الشجاعة والاحتمال..هل ستواجهون العدو بـــلا خوف، وتتحملون الجوع بلا وهن أم لا؟ ثم هناك من القوم من يتحملون الخوف والجوع ولكنهم لا يتحملون الخطر على أموالهم.ومن الناس من يتحملون خطر ضياع الأموال، ولكنهم لا يصمدون أمــــام الخطر على حياتهم.فيقول الله تعالى إنه لا بد لكم من احتمال الخسائر في الأموال، وفي الأنفس، وأحيانا في ثمرة جهودكم حيث لا تكون حسب آمالكم.ومثال ذلك ما وقع للمسلمين يوم أحد، فقد قاتلوا الكفار واستشهد منهم الكثيرون، ولكنهم لم ينالوا ثمرة هذا ومن نقص الثمرات ما يلحق بالتجارة والصناعة والحرف مـــن خسائر بسبب الحرب، لأن مثل هذه الخسائر نتيجة حتمية للحروب.(وبشر الصابرين) الذين يتحملون هذه الاختبارات ويثبتون فيها بقوة على أرض الإيمان..فلا خوف عليهم إنهم يقولون : ليفعل الناسُ ما يشاءون: فليخوفونـــا أو

Page 341

۳۳۸ سورة البقرة الجزء الثاني يقاتلونا أو يقاطعونا أو يهجرونا..سوف نستمر في تقديم التضحيات في سبيل الله.وإذا نهب العدو أموالهم، أو اعتدى على أرواحهم وسعى لقتلـهـم..يقولون: لا ضير الهبوا واقتلوا وإذا أراد العدو القضاء على أولادهم وفلذات أكبادهم يقولون: لا نبالي إنهم صامدون منذ البداية إلى النهاية مستعدون للتصدي لكل من العدو بصبر لا ينفذ، ولا يتوقفون عن قول : افعلوا مـــا شــئتم..فلــن تستطيعوا أبدا تحويلنا عن جادة الصدق.فإذا ما ثبتوا في كل هـذه الاختبارات الخمسة ولا يعرضون عن موقفهم..يبشرهم الله أن طوبى لكم، لقد ظهرت قوة إيمانكم ونجحتم في الامتحان..فاستعدوا الآن لدخول الصف التالي، ونيـــل الدرجات التالية.هجمة ولا يعني الصبر ألا يهتم الإنسان ولا يغتم وإنما الصبر ألا يصل به الغم إلى فقـــــدان حواسه وبطلان قوة العقل والعمل فيه.ما أروع وما أسمى هذا التعليم الذي يوافق الفطرة الإنسانية.إن الإسلام لم يمنع من الهم والغم لأنه أمر فطري؛ ولكنه لم يسمح بالجزع والفزع وترك العمل..لأن هذا يدل على الجبن وضعف الهمة.هذه الآية أيضا يتبين أن قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر ومن المسجد الحرام لا علاقة له بالاتجاه إلى المسجد الحرام وقت الصلاة..وإنما هو أمرٌ بوضع فتح مكة نصب الأعين دائما..وإلا فما العلاقة بين توجه المصلين نحو القبلة وبين القتل والوقوع في الاختبارات على مختلف أنواعها؟ إن هذا ليؤكد أن تلك الآية تتحدث عن فتح مكة.بقوله(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...)بين أن هذه المهمة لن تتم بسهولة، بل لا بد أن تمروا بأشد المصاعب؛ ولكنها سوف تكون خيرا لكم لأنها سوف تظهر قوة إيمانكم.الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٧) شرح الكلمات: مصيبة - المصيبة كل مكروه يحل بالإنسان لا يفلت منه.

Page 342

الجزء الثاني ۳۳۹ سورة البقرة التفسير: تعني هذه الآية أن المؤمن إذا أصابه الأذى فإنه لا يلجأ إلى الجزع والفزع، وإنما يقول بكل يقين وإيمان إنه لله وإنه راجع إليه.وهذا هو النموذج الذي يتوقعه الله من عباده المؤمنين.يريد ألا يجزعوا عند المصيبة، وإنما يتوكلون على الله، ويقولون بكل صدق واضعين في اعتبارهم أن الله يراهم ويسمعهم..(إنا لله وإنا إليه راجعون).وهذه تبدو في الظاهر كلمات وجيزة، ولكنها تتضمن معــاني واسعة للغاية.يتوهم منه هذه الكلمات جملتان: الأولى : إنا لله، والثانية : وإنا إليه راجعون.فالجملة الأولى تبين أن المالك لشيء لا يدمره بيده، بل يسعى للحفاظ عليه.من يدمر ممتلكاته بيده بالغ الحماقة.فالعبد إذا صار حقا الله تعالى، واعتبر الله مالكا حقيقيا له..لا يمكن أن أن ما استرده الله من مال أو متاع، أو ما حل به مــــن مــصيبة..كـــان لتدميره وإهلاكه المؤمن الذي يستيقين أنه الله، وأنه في حضن الله كالطفل في حضن أمه..أنّى له أن يتصور أنه يدمر ويُهلك وأن مصائبه لن تزول؟ الواجـــــب على الحامي أن يحمي صاحبه من الأذى والخسارة، فكيف بالله تعالى وهو أعظــــم الحماة والحافظين..ألا يحمي عبده المؤمن من التبار والدمار؟ إن الله عندما يسترد شيئا من عبده فلا يعني ذلك أنه يريد تدمير ما استرده، بل إنه تعالى يختار لما استرده مكانا أفضل ومثال ذلك ما يفعله النسوة في البيت عند عملهن في تنظيفه..فإنهن يرفعن بعض الأشياء من أماكنها حفاظا عليها.أو مثال الفلاح الذي يلقي بالبذر في أرض الحقل، فيبدو للمشاهد أنه يضيع البذر ، ولكن الفلاح لا يبكي على بذره لأنه يعرف أن ما فعله ليس إهلاكا للبذر وإنما هو ازدهار له إنه سوف يـرى البــذر المفقود في الظاهر قد أعيد إليه زروعا مخضرة تميل وتهتز.كذلك العبد يستيقين أنه مهما يفعل معه فإنه يفعله لخيره..فلا يصيبه الجزع والفزع وقلة الصبر.إذا أراد الإنسان تشييد بناء جديد جميل فإنه يهدم البناء القديم، ولا يبكي على ذلك بل يُسَرّ ويفرح.وإذا قص الخياط قماشا فلا مبرر للقماش على فرض أن للقماش وعينا أن يحزن ويبكي لأنه يعرف أنه سوف يجعله بذلك أحسن مظهــرا وأعلى قيمة كذلك الحال مع الإنسان..لو استيقين أن الله تعالى هو مالكـــه، وأن قلبا الله

Page 343

الجزء الثاني ٣٤٠ سورة البقرة كل تغيير يحدثه به سيكون الخيره..فلن يجزع ولن يفزع.نعم، إن التعيير عن إظهار الهم والغم لا يتنافى مع الصبر.عندما تخرج الفتاة من بيتها إلى بيت زوجها يبكــــي أبوها..ولا يسمى هذا البكاء جزعا أو فزعا، لأن الهم والغم إحساس طبعي، يتولد في كل إنسان عند المصيبة وعلامته الثقل على القلب والدموع من العين.أما الجزع والفزع فهو بمثابة الشكوى من الله تعالى..وكأن صاحبه يقول: لقد أهلكتني و دمرتني، وهذا ما يتنافى مع إيمان المؤمن وتوكله على الله تعالى.فقوله (إنا الله) بين أنه عند نزول المصيبة يظن الكافر أنه قد هلك، ولكن المؤمن برى أن الله تعالى قـــــد أخفى له في هذا الابتلاء خيرا وبركة.ثانيا - يعني أيضا قوله (إنا لله) أن المؤمن عندما يصاب بأذى يقول على الفور: إن علاقتي بهذا الشيء الذي فقدته كانت علاقة مؤقتة، وإنما علاقتي الدائمة بالله تعالى..ولأجله -سبحانه-كنتُ على صلة بهذا الشيء، فإذا أراد الله لحكمة ما أن تنقطع صلتي بهذا الشيء فما وجه الاعتراض على هذا؟ ونجد مثالا لذلك في حيـــــاة سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام.توفي أصغر أخوتنا —مبارك أحمـــــد في حياته.ولما كان أصغر الأولاد أحبهم إلى الآباء..لذلك كان سيدنا المهدي يحبـــه كثيرا، وكان يخصه بالحب أيضا لأنه كان يعاني من المرض عادة.كنتُ في الثامنــــة عشرة عند وفاته.وأشرف على علاجه في مرضه الأخير عدد من الأطباء منهم سيدنا نور الدين الخليفة الأول لسيدنا المهدي، والطبيب خليفة رشيد الدين والطبيب سيد عبد الستار شاه.وفي صباح اليوم الذي توفي فيه رجع سيدنا المهدي من صلاة الفجر إلى البيت يصحبه هؤلاء الأطباء..وكان أخي في ضعف شديد وإن بدا وجهه في حالة طيبة وفحصه الأطباء وقالوا إنه في تحسن واطمأنوا..ولكن سيدنا نور الدين كان أكثر خبرة لذلك أدرك أن الولد في حالة خطيرة.ففـزع وأخذ يفحص نبضه فوجده ضعيفا، فالنبض يضعف عندما يقترب الإنـسـان مـــن الموت.فوضع يده تحت إبط الطفل فلم يجد نبضا.فقلق والتمس من سيدنا المهدي يسرع بإحضار المسك.ولما كان يحب سيدنا المهدي أشد الحب، ويعلـم أنـــه يحب ابنه حبًّا جَمَّا، وأحس بخطورة حاله..اشتد جزعه، و لم يستطع أن يتمالك أن

Page 344

٣٤١ سورة البقرة الجزء الثاني نفسه فجلس، وقال: يا سيدي أسرع بإحضار المسك! ففهم سيدنا المهدي مـــــن صوته وطريقته أن حالة الولد ليست على ما يرام.فعاد دون إحضار المسك وقال: هل مات الطفل؟ فقال الخليفة الأول: نعم.فقال سيدنا المهدي على الفور: إنا لله وإنا إليه راجعون..و لم يُصبه أي فزع أو جزع، بل جلس يكتب الرسائل إلى أبناء الجماعة أن الابتلاءات تأتي على المؤمنين...فيجب على المؤمن ألا يفزع منها، بل يكون قوي الإيمان وأضاف: لقد أخبرني الله بوفاة مبارك أحمد قبــل ذلــك..وأخبرني أنه سيموت صغير السن، فبوفاته تحقق نبأ الله (سيرة المهدي لمرزا بشير أحمد، رواية رقم (١٥٤).ثم كتب على شاهد قبره أبيات منها.بلانے والا ھے سب سے پیارا اسی پہ اے دل تو جاں فدا کر فداکر أي إن الذي دعاه أحَبُّ إلينا..فعليك يا قلب أن تفدي به هو.وهذا البيت إنما هو في الحقيقة ترجمة لقوله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون).فالمؤمن إذا أصيب بخسارة فإنه يقول : إن علاقتي الحقيقة هي بالله تعالى، فإذا رأى الله أن يدعوا إليه حبيبا من أحبائي فلماذا أشكو من ذلك؟ وكيف أشكو؟ ما دعاه الله إليه كان ملكا له وهو أحق باسترداد ،ماله فنرضى بما يرضى به ربنا.ثالثا - إن المؤمن لا يقول ( إني الله بل يقول (إنا لله)، وذلك لكيلا يتم الاعتراف بصورة فردية بل يجب أن يكون كل إنسان على يقين وبصيرة أن كل شيء في الدنيا ملك الله تعالى، وأن علاقة المرء بالأشياء علاقة مؤقتة؛ فلا يحق لي وحدي، بل لأي إنسان في العالم، أن يعترض على فعل الله، أو أن يتأفف من لقمة ذات مــــرارة ينالها منه تعالى.جاء في (مثنوي) لمولانا الرومي أن سيدنا لقمان وهو عند البعض من الأنبياء – كان صغيرا عندما استرقه بعض الناس بعد وفاة ،والديه وباعه لتاجر.ولما رأى التاجر ذكاءه ونشاطه لم يعامله معاملة العبيد، بل أحبه وذات مرة جاءته هدية من فاكهة الشمام من نوع جديد.فقطع قطعة منها وناولها لقمان.فتذوقها ووجــــدها مرة، ولكنه أتم أكلها متظاهرا بأنها حلوة.فناوله الرجل قطعــــة أخـــرى فأكلـــها

Page 345

٣٤٢ سورة البقرة الجزء الثاني متظاهرا أنها جيدة وحلوة.وظن التاجر أن الشمام جيد، فأخذ لنفسه قطعة منـه وتذوقها فوجدها ،مُرّة، فقال للقمان ساخطا: لماذا لا تخبرني حتى لا أطعمك إياها؟ فقال: لقد أكلت من يديك كثيرا من الأطعمة الحلوة من قبل، فلست قليل المروءة بحيث أرد ما أعطيتني شاكيا مرارته مثنوي معنوي للرومي، دفتر ٢ ص ٣٨).هذا هو مفهوم (إنا الله).لقد متعنا الله تعالى بكثير وكثير من نعمه.فأي حرج لـــو استرد واحدة لحكمة أرادها؟ وأسعدنا بآلاف الأفراح، فأي ضير أو بأس لو حلت بنا مصيبة بإذنه؟ فكل ما عندنا عطية منه، ولو أنه استعاد شيئا فمن الحمق الشديد أن نجزع لذلك.ورابعا والمعنى الأفضل الأجدر بمقام المؤمن لقوله (إنا لله هو أن كل النعم الله تعالى وهو صاحبها، فلو استرد منها شيئا فلا بأس؛ بل لو أراد استرداد كـــل مــا عندنا فنحن مستعدون للتخلي عنه في سبيله سبحانه وتعالى.وهناك أمثلة كثيرة لهذه الروح في حياة الصحابة الكرام.كان سيدنا عثمان بن مظعون أحـــد كبـــار الصحابة المخلصين الذين آمنوا بالرسول في مكة..وكان المصطفى يحبه حتى إنه عندما تُوفي ابنه إبراهيم قال له: اذهب إلى حيث أخوك عثمان بن مظعون.وكأن الرسول اعتبره أيضا ابنا له كان عثمان بن مظعون ابنا لواحد من كبراء مكة، وعندما توفي أبوه أخذه أحد أصدقائه في ذمته وجواره وأعلن: هذا ابن أخي، فــــلا يتعرض له أحد.وتمتع عثمان بهذا الأمان لبعض الأيام، ويغدو ويروح بحرية ولا يمد له أحـــد يــــدا بسوء.ولكن ذات مرة يوم رأى فريقا من الكفار يعذبون بعض المسلمون مـــن المستضعفين والعبيد تعذيبا شديدا، ويلقون بهم على الرمال الملتهبة..فلم يستطع الصبر على هذا المشهد، وعاد إلى البيت، وقال لمن أجاره يا عم، أني أرد عليك جوارك..فإني لا أستطيع أن أنعم بالأمان ويتعرض المسلمون الآخرون لأشــــد الإيذاء.فأعلن الرجل سحب جواره في تلك الأيام زار مكــة لبيد الشاعر المعروف وأقيم له حفل تكريم، وحضره الرجل مع عثمان وألقى الشعراء قصائدهم، وجاء دور لبيد فأنشد قصيدته ومطلعها "ألا" كل شيء مـــا خـــلا الله

Page 346

الجزء الثاني ٣٤٣ سورة البقرة باطل".وما أن قال ذلك حتى صاح عثمان بن مظعون حبّذا، ما شاء الله ! مـــا أصدق ما قلت فاغتاظ لبيد وقال : هل هُنْتُ حتى يصدقني هذا الغلام؟ واستثار أهل المجلس شاكيا جرأة الشاب عليه ووقاحته فعنَّف القوم عثمان وحذروه من تكرار هذا الخطأ.فأتم لبيد البيت قائلا: "وكل نعيم لا محالة زائل ".فصاح عثمان مرة أخرى وقال: أما هذا فليس صحيحا، فإن نعيم الجنة لا يزول أبدا.فاستشاط لبيد غضبا، وقال للقوم: لقد أهنتموني..ولن أنشد أمامكم.فقام أحدهم ولكـــم عثمان لكمة فقأت عينه وهو جالس بجوار الرجل الذي كان يجيره من قبل.فلـــم يستطع هذا أن يتصدى للضارب، ولكنه عنف عثمان نفسه..كما تفعل الأم الفقيرة طفلها إذا ضربه طفل من أسرة كبيرة..وتلومه قائلة: لماذا غادرت البيت، ولِمَ ذهبت إليه، فقال الرجل لعثمان بن مظعون : ألم أقل لك ألا ترد جواري؟ أرأيـــــت نتيجة ذلك؟ فقال عثمان يا عم إنك تأسف على عين واحدة، والله، إن عيني الأخرى مستعدة لأن تُفقاً هي الأخرى في سبيل الله (أسد الغابة، ذكر عثمان بن مع مظعون).فالمؤمن الحقيقي لا يخاف من التضحية، بل كلما أصيب بأذى، أو فقد شيئا ثمينــــا يقول: إن الفاني والباقى الله تعالى، وإذا كان هذا المتاع ملكــــا الله.فنحن أيضا ملكه..فإذا استرد الله شيئا استأمن من عبده عليه، فأي مجال للشكوى من ذلك؟ إنني مستعد لبذل كل ما عندي من غال ورخيص.خامسا - غير أن في الجملة الأولى (إنا لله) إعلان للاستغناء الإلهى، ولذلك فإن الله - ترحما بعباده - أضاف إليها جملة ثانية هي (وإنا إليه راجعون)..وهكذا أكمل العزاء للمصاب.لقد قال من قبل : إذا أنعمت عليكم ثم استرددت نعمتي، فيجب ألا تعترضوا على ذلك.أيحق لأحد أن يعترض إذا أعطاه محسن شيئا، وانتفع به ثلاثين أو أربعين عاما، ثم استرده منه؟ كلا، بل إنه قد أحسن إليه إذ ترك له متاعا ليستفيد منه.أما في الجملة الثانية فيقول الله تعالى: إذا ارتحل عنكم قريب لكم، فاعلموا أيها المؤمنون أن رحيله ليس رحيلا دائما.حتى ولو كـــان رحـــيـلا دائما، و لم يكن هناك حياة بعد الموت تلتقون فيها بالراحلين، أفلا يحق لله تعالى أن

Page 347

٣٤٤ سورة البقرة ومع ذلك الجزء الثاني يسترد الأمانة التي استأمنكم عليها؟ ومع ذلك فإنه يعدكم بالمزيد في قولـه تعـالى (وإنا إليه راجعون)..أي لِمَ لا تفكرون هكذا إذا سبقنا أحد بالرحيل إلى الله..فنحن أيضا لاحقون به وراحلون إلى الله.كل ما في الأمر هو أنه أكمل مسيرته أولا، وسيكملها غيره ،بعده أما الغاية المقصودة فهى واحدة.وما دامـــت الغايـــة واحدة والرحلة واحدة..فعَلامَ القلق والخوف؟ الآباء يرسلون أولادهم للدراسة في خارج البلاد، ولا ضمان لحياة أحد..هل يستطيع أحد القول بأنه سيعيش ليوم أو اثنين؟ لا يعرف الآباء ولا الأولاد إلى متى يمتد بهم العمر ويبقون أحياء.فإن الأمهات والآباء يصبرون على فراق أولادهم للدراسة التي قد تطول إلى خمس أو عشر سنوات..ولا يشتد بهم القلق أو الجزع، لأنهم مطمئنون أن أبناءهم سوف يعودون في يوم من الأيام.أو مثلا قد تنوي جماعة السفر إلى مكان، ويبادر أحدهم بالسفر قبل غيره فلا يخافون ولا يقلقون..لأنهم سوف يلحقون به بعد بضعة أيام لأن الغاية واحدة.يقول الله تعالى: اعترفوا أولا أن الله قد أحسن إلينا، ونحـــن نشكره على إحساناته ثم لتعلموا أنكم جميعا سوف تجتمعون بين يديه في يوم من الأيام، وستكونون عنده معا في نهاية المطاف..وما دام الأمــر كـــذلك فلمــــاذا الشكوى من تعالى إذا فارقكم أحد؟ أي حمق أكبر من ذلــك؟! إذا جــزعتم وفزعتم لصار اتصالكم بأعزائكم في الآخرة أضعف..لأن الذي بيده أن يجمعكم في الحياة الآخرة قادر أيضا على أن يفصل بينكم عندئذ.فالعزاء الحقيقي للمؤمن هو (إنا لله وإنا إليه راجعون).الله أما الجسم فلا شك أنه إذا أصيب بجرح تألم الإنسان.إن الصحابة استشهدوا في الحروب، واستشهدوا برغبتهم ورضاهم، ولكن لا شك أنهم تألموا عنــــد قـطـع أجسامهم..فالجسم يتألم، ولكن الله يتفضل على عبدٍ لا تنفك روحه ساجدة على عتبته تعالى تقول: يا رب إني لا أشكو.كل ما فعلت صحيح، وهو عين المصلحة، وفيه خير لي وإنني وإن لم أفهم الحكمة في فعلك إلا إنني أعترف أنه لا يخلو مـــــن الحكمة."

Page 348

٣٤٥ سورة البقرة الجزء الثاني سادسا-قوله تعالى (إنا إليه راجعون) يتضمن موضوعا آخر.فعندما يصاب الإنسان بألم فإن فطرته تقول له: لا بد أن بك نقصا وفراغا وبسببه تألمت.لو كنت قويًا ما أصابك ذلك، ولن يزيل عنك هذا الألم إلا ذو قوة.فالأ لم يدفع إلى الاستعانة بقوة خارجية.وعندما تدفع الفطرة الإنسانية صاحب الألم إلى الاستعانة بقوة مــن الخارج..فإنه يفكر في أن الله تعالى هو الذي سوف يزيله عنه وينجيه منه، فيقول على الفور (إنا لله وإنا إليه راجعون).إننا ملك الله تعالى وبه نستعين، ومنذا الذي يعينني غيره؟ لا شك أن قول (إنا إليه راجعون) يعني أننا راجعون إليه في آخـــر المطاف لا محالة، ولكنه أيضا إذا رجعنا فإننا نرجع إلى الله، وإذا تضرعنا تضرعا بين يديه.يعني : لقد علم الإسلام هذا الدرس بحسب مقتضى الفطرة الإنسانية تماما.فتألم الإنسان علامة على ضعفه، إذ لا يستطيع دفع الألم عن نفسه، وعلـى الفـــور يفكـر في أصدقائه وأهله ليستعين بهم، ولكن الله تعالى يقول: تذكروا أن الله تعالى هو أعـــــز الأعزاء وأصدق الأصدقاء، فانحنوا أمامه واستعينوا به..إن الذين عملوا بهذا الدرس لم يكونوا أبدًا من الخائبين أو الخاسرين، وإنما خــــاب وخسر من عمل بما يخالف الفطرة.فمثلا إذا دهم اللصوص بيتا في الليل..فإن العاقل يتجه إلى جيرانه وأصدقائه ليستنجد بهم، ولكن الأحمق يفر إلى الغابة أو إلى الخارج حيث لا يجد من يعينه وكذلك في العالم الروحاني..يتجه العاقل إلى الله ويستعين به، ولكن الأحمق يصيح عبثا يا أماه يا أماه والظاهر أن أمه لن تعينه، وإنما كل ما يُفعل فإنما يفعله الله، ومع ذلك فإن الأحمق لا يتجه إليه.فمن واجب الإنسان أنه كلما يصاب بمصيبة يقول على الفور (إنا لله وإنا إليه راجعون)..كما يقال في لغة البنجاب: "يجري الشيخ إلى المسجد "، ويقول المؤمن سوف أجرى أنا أيضا إلى ربي وأستعين به عند حلول المصيبة.وعندئذ يمنحه الله بركات منه ويزيل المصائب.سابعا - وكذلك يتضمن قوله تعالى (إنا لله وإنا إليه راجعون) موضوعا لطيفا آخر.إننا عباد الله ونرجع إليه، فلو صبرنا على الصدمة فإن الله تعالى يجازينا بأحسن

Page 349

٣٤٦ سورة البقرة الجزء الثاني الجزاء، فما الحاجة إلى الجزع والفزع؟ إنما يجزع ويفزع من يظن ألا جـــــزاء علــــى الصبر وتحمل الصدمة، ولكن المؤمن يرى أنه عندما يرجع إلى ربه فلسوف يجزيه على ما تحمل من آلام ومصائب في صورة نعم غير عادية.ومن حاز هذا المقـــام العظيم من الإيمان واليقين..لن يكون عديم الصبر.لقد بين الله في هذه الآية تعريفا للصابرين في نظره.فالصابرون عند الإسلام هـ الذين إذا حلت بهم المصيبة اتجه فكرهم فوراً إلى الله وقالوا: ما دام الله موجودا فما الحاجة إلى اليأس والقنوط؟ عندما يكون الولد في حجر أمة فإنه لا يخاف..كذلك هؤلاء يرون أنفسهم في حضن الله تعالى فلا بيئسون عند حلول بلية أو نزول مصيبة.ولو كان الصبر بمعنى الامتناع عن السيئات..كان المعنى أن هؤلاء إذا حلت بهم مصيبة لا يميلون إلى ارتكاب المعاصي..كما حدث في زمن القحط والمجاعة..عندما أنه يشرع الناس في السرقة، بل إنهم مع هذه الشدائد يتجهون إلى الله فقط.ولو كان الصبر بمعنى الثبات على الخير فتعني الآية أنه كلما يدفعهم محرك شيطاني عن عمل الخير والحسنة يتجهون على الفور إلى الله تعالى، ويتضرعون إليه متوسلين بصلتهم الروحية معه.فهذه جملة صغيرة، ولكنها تتضمن معاني ،واسعة ويدرك أهل الخبرة والتجربة جيدا بترديد هذه العبارة تزول الآلام والخطوب التي يمكن إزالتها، ليس هذا فحسب، بل إن الله يثبت الإنسان على تحمل المصائب التي لا يمكن إزالتها ويعوضها بطريق آخر.فمثلا من سنة الله تعالى أن الموتى لا يرجعون مطلقا إلى هذه الدنيا، فلو مات لشخص قريب فإنه لن يرجع إلى الدنيا حيا..ولكنه لو قال هذه العبارة بإخلاص فإنه لا بد أن يثاب على هذه الصدمة بطريق آخر.ولو أن الإنسان أصيب بخسارة كان يمكن تعويضها ومع ذلك لم يُعوض عنها..فليدرك أن قَدَرَ الله الخاص حال دون هذا التعويض..وإلا فلا بد أن يُعوض.

Page 350

الجزء الثاني ٣٤٧ سورة البقرة أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٨) شرح الكلمات : صلوات الصلاة هنا بمعنى المغفرة وحسن الثناء وليست بمهني العبادة، لأن العبادة تكون الله وليست منه.وكذلك الصلاة هنا ليست بمعنى الرحمة، لأن كلمة الرحمــة مذكورة بعد الصلاة.التفسير: لقد بيّن الله هنا أن الذين يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون بصدق القلب عند حلول الآفات السماوية والأرضية فإن الله يعطيهم نصيبا من مغفرته، أي أنـــه يعوضهم عما فقدوا، ويحوّل فشلهم إلى نجاح وألمهم إلى الراحة.كذلك يتفضل عليهم بحسن الثناء عليهم..أي يوطد سمعتهم الحسنة في العالم، ويُجري ذكرهم بالخير على ألسنة الناس.انظروا كيف أن المسلمين بذلوا تضحيات جساما لنشر الإسلام.لقد ضحوا بأرواحهم ونفوسهم وأولادهم دون تردد، ولم يكترثوا بأي مصيبة مهما كبرت وكانت النتيجة أن أعداء الإسلام أيضا لا يجدون مفراً اليوم من مدحهم والثناء عليهم.إنهم يعترضون على الإسلام ولا شك، ولكن عندما يتطرق الحديث إلى تضحيات الصحابة فلا بدّ لهم من التسليم بأن ما قدموه مــــن تضحيات في سبيل نصرة دينهم لا يوجد له مثيل.يقول أحد المؤرخين الفرنسيين إن أشد ما يثير حيرتي هو أننا نجد بعض الناس في ثياب رثة بالية في المدينة داخل مسجد بسيط مغطى بجريد النخل يتساقط من سقفه المطر..نجدهم يهمسون في آذان بعضهم البعض، وعندما نقترب منهم لنعرف ماذا يقولون..نسمعهم يخططون كيف يُلحقون الهزيمة بقيصر وكسرى ثم نرى أنهم فعلا بعد بضعة أعوام قد حققوا ما أرادوا هؤلاء الضعفاء الدراويش الذين لا حيلة لهم..تمكنوا من تمزيق حكومات قيصر وكسرى ".وهكذا اضطر أشد الأعداء إلى الثناء عليهم والاعتراف بـأنهم حققوا إنجازات غير عادية.لقد جمع الله "I بين الصلاة والرحمة لحكمة هى أن حكومات الدنيا عندما تكرّم أحدا فإن تكريمهم يتم بطريقتين : إما أن تخلع عليه لقبا، أو تكافئه بالمال والإنعام.ولكن

Page 351

٣٤٨ سورة البقرة الجزء الثاني الألقاب التي تمنحها الحكومات لا قيمة لها في الحقيقة بل إنها في بعض الأحيان تخلع ألقابا مثل "خان بهادور" أي أشجع الشجعان على شخص جبان يرتعد من الجرذان، ولكن إذا خلع الله لقبًا على أحد فلا بد أن يكون أهلا له وجديرا بـه حقا.وللأسف أن الناس يقعون في الخداع من الناحيتين فإنهم يعتبرون من فاز موسی بلقب شجاع من الحكومة شجاعا حقا، أما من خلع الله عليه لقب شــجاع فــــلا يقيمون له وزنا ولا قيمة..مع أن الله تعالى إذا منح أحدا لقبا فإنه يخلق فيــه مــا يؤهله لهذا اللقب.كان في زمن سيدنا المهدي عليه السلام – شخص مـــن الأحمديين في عقله شيء، جاء إلى قاديان وقال له: لقد ألهمت أنني محمد وأنني وأنني عيسى.فقال له سيدنا المهدي: وهل تنال شيئا مما أوتي موسى وعيسى ورسولنا الكريم؟ قال: لا.قال: فهذا إلهام شيطاني..لأن الله لا يستهزئ بأحـــد ويخلع عليه ألقابا ثم لا يخلق فيه صفات تؤهله لها، بل عندما يخلع على أحد لقبًا فإنه يخلق فيه طاقات وقوى مناسبة له.فإنما ذلك الشيطان الذي لا يعطيك شيئًا، ولكن يدعوك موسى وعيسى ومحمدا عليهم سلام الله.فالصلاة تشير إلى النعم الروحانية والرحمة تتعلق بالإنعامات المادية يراها من حولهم.يقول الله: إن من سنته أنه يمنح الصامدين في الابتلاءات بركات روحانية، وكذلك يمتعهم بمنافع مادية وأنواع الرقي بين من حولهم.(وأولئك هم المهتدون)...لا تعنى الهداية هنا المشي في الصراط المستقيم.لأنهم فعلا يسيرون عليه، وإنما أن الله تعالى لا ينفك يأخذهم بعيدا في صراط الهداية، ويزيدهم كثيرا في إخلاصهم وإيمانهم.والمعنى الثاني أنه في وقت المصائب والشدائد يدلهم على مخرج منها.والمعنى الثالث أن العبد عندما يقول بصدق (إنا لله وإنا إليه راجعـــــون) ويتمسك بأهداب الصبر عند المصائب، فإن الله برؤية حال عبده يضطرب من عرشه للقائه، ويجازيه على حبه وإخلاصه..فيأخذه على صراط هدايته ويوصله إلى غايتـه المقصودة.فكأنه نتيجةً للصبر والاستقامة يدخل في جماعة المنعم عليهم وتنفتح عليه أبواب الوصال الإلهي.

Page 352

٣٤٩ سورة البقرة الجزء الثاني إذن، فإن الله تعالى يعِدُ هؤلاء الصابرين المخلصين ثلاثة جوائز: أولا يدلهم على طريق الهداية، وثانيا-يهديهم إلى حلول تُخرجهم من المشاكل، وثالثا وصالهم الدائم مع حبيبهم وربهم والذي ينال هذه المنافع...كيف يمكن أن يقلق على ما لحق به من خسارة مؤقتة.إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٩) شرح الكلمات: يَطَّوَّفَ الصفا جمع صفاة وهي الحجر الصلد الضخم لا يُنبت، والصخرة الملساء لا يمكن حراثتها (الأقرب).والصفا اسم لجبل قرب الكعبة يتكون من صخور كبيرة.المروة- مفرد مرو، والمروة حجارة بيض رقاق براقة تقدح منها النار.والمروة أيضا جبل بقرب بيت الله الحرام (الأقرب).وسمي بهذا الاسم لأن حجارته صغيرة.فالصفا والمروة جبلان عند الكعبة المشرفة.وقد اتسعت الكعبة واتصلت بهما، وهناك باب ينفتح عليهما، وهناك سوق يسمى سوق الصفا، وصار جزءا مـــن المدينة، وعنده يقومون بالسعي بين لصفا والمروة وقت الحج.وفي بادئ الأمر كان الجبلان ،منفصلين، ولكنهم ملئوا ما بينهما بالتراب والأحجار، فصارا كأنهما جبل واحد.وقد جعل الناس هناك علامتين يعرفون بهما بداية السعي ونهايته.شعائر جمع شعيرة، وهي العلامة، وطُرُق العبادة المقررة تسمى أيضا شعائر، ولكنها هنا بمعنى العبادة (الأقرب).

Page 353

الجزء الثاني ٣٥٠ سورة البقرة حج – الحج القصد، ويعني في الشرع زيارة بيت الله الحرام وأداء مناسك خاصة هناك.اعتمر هو اعتمر المكان قصد له وزاره.ويقال : اتخذنا ناديا نعتمره أي مجلسا نجلس فيه مرة بعد أخرى ونتقابل هناك.فالاعتمار في الحقيقة هو زيارة مدينة أو مكان مقدس في نفسه أو بسبب التقاء الإخوان هناك.ولكن العمرة في الشريعة الإسلامية تعني الطواف ببيت الله والسعي بين الصفا والمروة.ويمكن أداء هذه العبادة في أي وقت من السنة، ولكن للحج وقتًا خاصا.وهناك فرق آخر بين العمرة والحج وهو أنهم يحرمون للعمرة من مكة ويحلقون، ولكن للحج مواقيت خاصة للإحرام من عندها.جناح جَنَحَ: مال.ويطلق الجناح على الأطراف والأرياش لميلانها.وكذلك يسمى الإثم جناحا، لأن الإنسان يميل فيه إلى السيئة.وكلمة (كناه) في الأردية ترجع إلى أصل عربي.يطوف - - طوّف حول الشيء وبه طاف وأكثر المشي حوله (الأقرب).وطاف وطوّف بمعنى واحد فقد جاء طاف بالقوم وعليهم استدار وجاء من نواحيهم (اللسان).وفي القرآن الكريم يطوف عليهم ولدان مخلدون) (الواقعة: ١٨).وليس المراد من الطواف هنا أنهم يطوفون حول الصفا والمروة وإنما المعنى أنهم يزورونهما مرارا.تطوع تبرع بلا قصد أجرة لاحتمال مشقة.وتطوع كذا: تحمله طوعا (المفردات).والمطَّوع: الذي لا يأخذ أجرا على عمله.

Page 354

٣٥١ سورة البقرة الجزء الثاني شاکر - إذا وردت الكلمة في حق الله فمعناها الذي يُنزل نعمه ويجازي على العمل بأوامره.وعندما ترد في حق العبد فمعناها أن يشكر الله على نعمه (المفردات).التفسير قوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله الصفا والمروة جبلان يقوم الحجاج والمعتمرون بالسعي بينهما بعد الطواف بالكعبة المشرفة سبع مرات، أو أربع عشرة مرة.ولكن هذا الرأي الأخير ضعيف، والحق أن السعي الثابت عن الرسول ﷺ هو سبع مرات فقط (البخاري، كتاب المناسك)، يبدءون من الصفا وينتهون بالمروة، ثم يرجعون إلى الصفا.هذا السعي إحياء لذكرى السيدة هاجر أم إسماعيل..ولذلك يُعتبر هذان الجبلان من آيات الله.لقد أمر سيدنا إبراهيم أن يأخذ زوجته هاجر مع ابنهما إسماعيل (عليهم السلام) ويتركهما في برية العرب حيث لا زرع فيها ولا ماء.فنفذ إبراهيم أمر الله وتركهما في واد غير ذي زرع ولا ماء عند الموضع الذي فيه الكعبة الآن.وترك معهما قربة ماء وكيسا به تمر، وودعهما بعيون دامعة داعيا ربه.وعندما نفذ الماء اشتد العطش بإسماعيل، وبدأ يضطرب لشدة الظمأ، فلم تستطع الأم رؤية ذلك.فخرجت بحثا عن الماء..تجري هنا وهناك.فصعدت جبل الصفا علها ترى أحدا تستقي منه ولكنها لم تر أحدا فأسرعت إلى الجهة الأخرى وصعدت جبل المروة.ونظرت فلم تر أحدا.فرجعت إلى الصفا، ثم إلى المروة مرة أخرى، وتكرر منها هذا السعي سبعة أشواط.وفي الجولة الأخيرة عند المروة سمعت نداء هاتف، فقالت: يا هذا، إن استطعت فساعِدنا.وكان هذا صوت ملاك مرسل من لدن الله تعالى..فقال يا هاجر، اذهبى وانظري، فقد فجر الله عينا تحت أقدام إسماعيل.فرجعت إلى ابنها فوجدت عين ماء بجوار إسماعيل الذي كان يتلوّى من العطش.تلك العين هي بئر زمزم قد فجرها الله لإسماعيل كآية منه سبحانه وتعالى.وبفضل هذه العين ازدهر هذا المكان وصار مدينة عظيمة بإذن الله.

Page 355

الجزء الثاني ٣٥٢ سورة البقرة فبذكر الصفا والمروة وجه الله الأنظار إلى أن الذين يصبرون الله تعالى ويثبتون ويواظبون على خدمة الدين لا يضيعهم الله ، أبدا، بل يريهم آياته السماوية كما فعل مع هاجر وإسماعيل، ويهب لهم حياة دائمة أبدية، وينعم عليهم بنعم غير عادية.فإذا صبرتم أنتم أيضا فإن الله سوف ينعم عليكم بهذه النعم ويجعلكم من شعائر الله.قوله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما).كان بعض الناس يظنون أن الطواف بالصفا والمروة إثم، لذلك قال تعالى ( لا جناح عليه ولا يعني ذلك أنكم مخيرون بين الطواف أو عدمه، لأن السعي بينهما في الحج والعمرة ضروري.فالعبارة لا تعني أن الطواف بهما جائز ، لأنه إذا قيل مثل هذا الكلام في أمر يظن الناس بكونه حراما فإنما يكون المراد نفي ظنهم هذا.ومذهب السيدة عائشة رضي الله عنها أن الطواف ضروري، فقد ورد أن ابن أختها عروة بن الزبير سألها عن هذه الآية وقال فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة! قالت: بئسما قلت يا ابن أختي! إن هذه لو كانت كما أولتها عليه لكانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما (البخاري، كتاب الحج).تبين هذه الرواية أن عروة بن الزبير كان يرى أن الطواف بهما ليس ضروريا، كذلك ابن عباس وأنس وعطاء ومجاهد أما الإمام أحمد بن حنبل فمذهبه أن الطواف بهما ليس ضروريا، ولكن لا يليق بأحد أن يتركه عمدا.وإذا تركه ناسيا فلا جناح عليه، ولكن الأنسب أن يطوف بهما.أما الإمامان الشافعي ومالك فيريان أن الطواف بالصفا والمروة من أركان الحج.أما الإمامان الثوري وأبو حنيفة فيريان أن من ترك الطواف بهما عمدا في الحج فعليه تقديم الهدي والأضحية (جامع البيان تحت هذه الآية).وقد ذكرت السيدة عائشة السبب وراء ذلك فقالت: (..أُنزلت في الأنصار.كانوا قبل أن يُسلموا يُهلون لـ"مناة" الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشكل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة.فلما أسلموا سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك، أَهَلَّ

Page 356

الجزء الثاني ٣٥٣ سورة البقرة قالوا يا رسول الله و إنا كنا نتحرج أن نطوف الصفا والمروة.فأنزل الله تعالى: إن الصفا والمروة من شعائر الله..الآية) (البخاري، كتاب الحج).وما دامت هناك جماعة ترى أن السعي بين الصفا والمروة ليس جائزا، فإذا سأل أحد : هل السعي بينهما إثم أم لا؟ لكان الجواب: كلا.لا إثم في السعي بينهما.يعني أن والسؤال عما إذا كان هذا السعي جائزا أم واجبا..فيجب أن نعرف أن القرآن قد اكتفى بتخطئة من يقولون بأن السعي إثم، وإلا فإن الرسول ﷺ قد أثبت بسنته أن هذا السعي ضروري، فقوله تعالى (لا جناح عليه أن يطوف بهما) لا السعي بينهما أمر اختياري..وللمرء أن يسعى أو لا يسعى! الحق أن هذا أسلوب للنصيحة، عندما لا يهتم الإنسان بأمر ضروري فيقال له هذا ليس إثما.والمراد: ربما لم تهتم بهذا العمل ظنا منك أنه إثم، مع أنه ضروري.وهذا المعنى يوضحه قول الله تعالى (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير) (النساء: ١٢٩).فقوله تعالى (لا جناح عليهما) يعني أنه إذا فكر الزوجان لوجدا أن الصلح لا إثم فيه.فإذا كان التقصير من المرأة مما يغضب الزوج فعليها أن تتجنب هذا التقصير، وإذا كان الخطأ من الرجل فعليه أن يصلح من أمره.فقوله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما كمعنى قوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا).ولقد نفى الله هنا رأي أولئك الذين يرون السعي بينهما غير جائز أو إثما، وقال إن السعى بين الصفا والمروة لا إثم فيه.ربما لا تهتمون به ظنا منكم أنه إثم.كلا، إنما هو ضروري.وفي قوله تعالى (ومن تَطَوَّع خيرا يشير إلى أن بعض الناس يشتركون في أعمال الخير نظير جزاء وإنعام وهذا النوع من المساومة مع الله تعالى ليس أمرا محببا، فالرغبة في المقابل على العبادة رغبة تافهة وإنما المقام الحقيقي للإنسان هو في أن

Page 357

٣٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني ينهمك في عبادة الله ليل نهار ويحني رأسه أمامه دائما لكسب رضوانه فقط، وشكرا على نعمه العديدة التي لا حصر لها.ولنتذكر أن قوله تعالى (ومن تطوع خيرا لا ينفي وجوب الطواف، وإنما المراد أنكم كلما قمتم بالعمرة والحج ازددتم ثوابا وكأنه حصّ على أن يؤدي المرء الحج والعمرة، ويقوم بزيارة هذه الأماكن المقدسة مرة بعد أخرى.وقوله تعالى (إن الله شاكر عليم يعني لا تساوموا الله تعالى، بل ينبغي أن تتوكلوا عليه توكلا صادقا، فلن يضيع أعمالكم الحسنة، وسوف يجازيكم عليها خير الجزاء، لأنه يُقدّر الأعمال حق قدرها ويعلمها.تماما.ولقد أضاف صفة العلم إلى الشكر، لأن الجزاء الذي يناله الإنسان على أنواع فبعضه يدمر الإنسان، وبعضه نافع مبارك.فمثلا لو منحت الأعمى منظارا، أو المجذوب ملابس فخمة..فلن ينتفع هذا ولا ذاك، لذلك يقول الله تعالى إنه عليم بأحوالكم، وسوف ينعم عليكم بحسبها، ويجازيكم على أعمالكم جزاء ينفعكم على الدوام.الترتيب والربط: قوله تعالى (إن الصفا والمروة من شعائر الله يؤكد أيضا صحة ما ذهبت إليه في تفسير قوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)، لأنه لا ربط بين تحويل القبلة وبين ذكر أن الصفا والمروة من شعائر الله..لأن المسلمين الذهاب إلى الصفا والمروة حتى يُذكرا ذكرا خاصا.الحقيقة بوسعهم أن هذه الآية (ومن حيث خرجت..) تأمر المؤمنين بفتح مكة..فهذا يفتح لهم السبيل إلى الحج، ويمكنهم من السعي بين الصفا والمروة.وقتئذ ما كان

Page 358

الجزء الثاني ٣٥٥ سورة البقرة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي اَلْكِتَاب أَوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٦٠) شرح الكلمات: البينات – جمع بينة وهي البراهين والآيات التي تكون بنفسها شاهدة علــى صدقها.الهدى هو تلك التعاليم النازلة من الله وتوصل الإنسان إليه.يلعنهم اللعنة هي الإبعاد بالزجر والطرد.مع مع التفسير اللاعنون قسمان: الأول - الذي اعتاد سب الآخرين ولعنهم، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا، لأن الذي يسب ويلعن إخوانه لا شك أنه سيئ الأخـــلاق ومنافق ومخالف لتعليم القرآن..فلا يمكن أن يكون هؤلاء سيئو الأخلاق ذوو النفوس المنافقة الله تعالى..لأنهم ليسوا أظلالا له عز وجل.والثاني – هو ذلك الذي فرّض الله إليه هذا العمل.والذين يفوّض الله إليهم هذا العمل هم أنبياء الله ورسله، الذين يعلنون بوحي منه أن فلانا عرضة للعنة الله تعالى، وفلانـــا عـرضــــة لسخطه.فاللاعنون هم تلك الشخصيات التي منحهم حق اللعن على الآخرين.وقوله تعالى (بيناه للناس في الكتاب)..ليس المراد من الناس هنــا اليهود وإنمـا المسلمون، والكتاب هنا هو القرآن الكريم.ويقول الله هنا..إنه بمجرد الإعلان عن هم الله هذه الحرب التي نلمح إليها ولم نعلن عنها بعد..سوف يظهر نفاق المنافقين.إن هؤلاء الذين في قلوبهم النفاق أعداء الإيمان كلما يُتلى عليهم أمر يتطلــب التضحية ويثير الأعداء فإنهم يُخفون مثل هذه التعاليم عن الأعداء قائلين: صحيح أن ما نزل هو الحق، ولكن ما الحاجة إلى عرضه على الأعداء الآن؟ إنه سوف يثير سخطهم ويجعلهم يعارضوننا.في الجماعات الإلهية - عندما تنزل أحكام يثير العمل بها غضب الأعداء- توجد طبقة من الناس يولون اهتماما أكثر بسخط الأعداء ويُداهنون، ويُخفون مثل هذه الأحكام حتى لا يطلع عليها الناس بطريقة واضحة صحيحة فلا تثور حفيظتــــهـم.

Page 359

٣٥٦ سورة البقرة الجزء الثاني ومثل هذه المداهنة والنفاق لا تحدث في زمن ضعف الجماعات الدينية وإنما في أيام قوتها وغلبتها.فلم ترفع أي فئة من المنافقين رأسها ما دام الرسول في مكة ولكن في حياته المدنية عندما أخذ الإسلام يشتد عوده، وأعلن الله أن على المسلمين الاستمرار في الحرب ما لم يتم فتح مكة..بدأ ضعفاء الإيمان هؤلاء يلقون إلى الكفار السَّلَم ليتجنبوا التعرض للأخطار والأضرار ، وبدءوا يتوصلون إلى الكفار..قائلين: إن محمدا رجل طيب مسالم، لا يريد ،حربكم، ولكن هناك بعض المتحمسين ذوي الطباع الثائرة يحضونه على حربكم.كما كان هناك من يخفــــون كـــلام الله تعالى ويُطمئنون الأعداء قائلين: لن يصيبكم أي بأس ولا دمار مع أن إخفاء الوعيد الإلهي ضد الكفار يُفقد قيمة الإنذار وعظمة الوعيد أما لو قيل لهم إن هناك وعيدا بعذابكم..والأفضل لكم أن تتوبوا..عندئذ تقوم عليهم الحجة قبل حلول العذاب، وسوف يكون العذاب آية عظيمة عند ذوي العقل وأولي الألباب..ولكن المنافقين يخفون مثل هذه الأمور حتى لا تفسد علاقتهم بالآخرين.يقــول الله إن هؤلاء يُحرمون من البركات الإلهية كلية، وعلاوة على تعرضهم للعنة الله تعالى..فسوف يلعنهم من خوّلهم الله سلطة اللعن..كما فعل النبي ﷺ وسيدنا المهــــدي وغيرهما من الأنبياء الآخرين - عليهم السلام الذين لعنوا أعداءهم (البخاري التفسير؛ الترمذي، أبواب التفسير آية ليس لك من الأمر شيء؛ ونور الحق 6 ص ١٥٩؛ وتثنية (۲۷؛ ومتى (۳۲ بل لا يزال الناس يلعنونهم، وسوف تتوالى عليهم اللعنات إلى يوم القيامة.يعترض بعض الناس على سيدنا المهدي والمسيح الموعود : لماذا لعن بعض أعدائـــــه وسوَّد عدة صفحات من كتبه مرددا هذه الكلمة؟ ويظن هؤلاء أن سيدنا المهدي قد سب هؤلاء الناس، والعياذ بالله ! الحق أنه لم يسبهم، وإنما أعلن عن قضاء الله وقدره وبين أن هؤلاء قد حرموا من الله وأبعدوا عنها بأعمالهم السيئة.ومثال ذلك أن يصدر قاض قرارا في سَجنٍ محرمٍ زمنا ما.فقراره هذا يُعتبر صحيحا وجديرا بالقبول عند العقل.ولكن لـو أن شخصا آخر لم يخوّل من قبل الحكومة لإصدار مثل هذا القرار قال عن أحد أنــــه رحمة

Page 360

الجزء الثاني ٣٥٧ سورة البقرة هـ يُسجن لمدة كذا..فلا بد أن يعتبره الناس من المجانين.وكذلك فإن أنبياء الله قضاة روحانيون..وإذا لم يعتبروا المجرمين مجرمين، و لم يُصدروا قضاءهم بشأنهم..فإنهم أنفسهم يصبحون ،مجرمين، لأن هذا يدخل في صلب واجباتهم التي يتطلبــها منهم منصبهم ولكن غيرهم الذين يلعنون الآخرين بدون مبرر فإنما يفعلون ذلك لسوء أخلاقهم ودناءتهم، لأن الله تعالى لم يخولهم أي سلطة للعن الآخرين.إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأَوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (171) التفسير : الناس في بلادنا عامة يظنون أن التوبة تعني أن يردد المرء كلمة التوبة بلسانه، فهذا يغفر له جميع ذنوبه.مع أن ترديد المرء كلمة التوبة بلسانه لا يجعلــــه مستحقا لمغفرة الله ما لم يحدث تغيرا في أعماله إن التوبة في الحقيقة تتكون من ثلاثة أمور: الأول - إقرار الإنسان باللسان بذنبه الثاني - الندم في القلب على ذنبه، والثالث تدارك وتلافي ما فعله عمليا.وهذا يعني أن يرجع الإنسان إلى نفس المقام الذي كان عليه قبل ارتكاب المعصية.ومثل هذه التوبة ليست أمرا هينا، وإنما بمثابة حدوث انقلاب عظيم في الروح الإنسانية..لأن تولد كراهية شديدة في قلب الإنسان تجاه ذنوبه، ورغبة صادقة في نفسه للفوز بحب الله والحصول علـــى الروحانية، وذوبان قلبه على عتبة الله تضرعا وبكاء، وفناء أهوائه السفلية الدنيـــة..هذا كله بمثابة أن يصلب الإنسان نفسه لوجه الله تعالى، ويقضي علـــى حياتـه هي السابقة.إن المسيحيين الذين لا يقفون على حقيقة التوبة الإسلامية يعترضون عموما أن الإسلام قد فتح باب الإثم بفتح باب التوبة (ميزان الحق، للقسيس فاندر ص١١٩- ۲۷۳).مع أن التوبة التي يقدمها الإسلام لا يمكن أن تكتمل ما لم يعترف الإنسان بذنبه بلسانه، وما لم يندم بقلب صادق على فعله، وما لم يتعهد بتجنب الذنب في المستقبل كلية وما لم يتلافاه بعمل الخير والرجوع إلى الله.ومنذا الذي يقول بأن

Page 361

٣٥٨ سورة البقرة الجزء الثاني مثل هذه التوبة تشجع على الإثم ؟ إنما تشجع على الإثم عقيدتهم القائلة إن المسيح تحمل آثامهم، ولا حاجة لهم في يندموا أو يحزنوا على خطيئة.إن التوبة الإسلامية لا تشجع على الإثم، وإنما تستأصل الإثم برمته، وتجعل من الإنسان إنسانا روحانيا جديدا.وعن مثل هؤلاء التائبين يقول الله هنا إنهم يرجعون إليه كلّية، ويندمون في قلوبهم بصدق، ويزيلون آثار الإثم، ولا يكتفون بذلك، بل يحاولون إصلاح عيوب الآخرين.وكأنهم لا يتغيرون وينفرون من سيئاتهم ويصلحون حالهم فقط، بل يحاولون إزالة عيوب الآخرين.ولا يكتفون بإصلاح ما حولهم، بل يعلنون علــى العالم أن دين الحق هو الإسلام وفيه نجاتهم.يقول الله تعالى فأولئك أتوب عليهم..أنا أيضا أتوب على مثل هؤلاء التائبين وأتفضل عليهم.: إن كلمة التوبة عندما تُستخدم في حق الله تعالى فإنما تعني رجوعه إلى العبد برحمته وفضله، وعندما تُستخدم في حق العبد فإنها تعني إظهار ندمه على ما فعل، واعترافه بخطئه، وخضوعه لله تعالى.يقول الله عز وجل: إن الذين يندمون على خطاياهم، ويعترفون بها، ويرجعون إلي، ويهتمون بإصلاح الآخرين، ويتمسكون بالإســـلام بقوة..أغفر لهم ذنوبهم وآتي بهم مرة أخرى إلى نفس المقام الذي كانوا عليه مـــــن قبل، وأعيد عليهم أفضالي كما فعلت معهم سابقا لأنني أنا التواب الرحيم..أشفق عليهم كثيرا وأرحمهم مرة بعد أخرى.إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦٢) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (١٦٣) التفسير : هنا يقول الله تعالى إن هؤلاء الذين يموتون كافرين عليهم لعنة الناس أجمعين.وفي الآية السابقة ذكر أن عليهم لعنة الخواص من عباده الذين أُذن ذلك لأنه في الآية السابقة كان اللعن يعنى الإخبار بهلاكهم ودمارهم، وهذا العمل من اختصاص أنبياء الله وحدهم.أما في هذه الآية فليس المقصود الإخبار عن هلاك أحد.ولذلك ذكر لعنة الناس جميعا..لأن جميع الناس لا يُخبرون عن هلاك لهــــم.

Page 362

مع ٣٥٩ سورة البقرة الجزء الثاني غيرهم.فالمراد من اللعنة هنا..هو صوت الفطرة الإنسانية الذي ينبع من القلب.مثلا: إذا ذكرت السرقة أمام سارق فإنه على الفور يحكم بأن اللصوص قوم أشرار، أنه نفسه يقع في جريمة السرقة، ذلك أن فطرته تلومه وتخطئه.وكذلك المراد من اللعنة هنا أن كل إنسان صالحا كان أو طالحا فإنه بفطرته يلعن الكفار علـــى أفعالهم.حتى المجرم، وإن كان لا يلوم نفسه، إلا أنه يلوم الجريمة ويعتبرها شــــرا..وهذه هي اللعنة إن الله وعباده أصحاب الصفات الملائكية يلعنون الكفار لعنة علنية، أما الناس الآخرون فيلعنونهم من حيث الفطرة والمبداً.فليس هنــاك قـوم يعتبرون الكذب عملا حسنا، أو الغيبة أمرا طيبًا أو السرقة فعلا صالحا أو الاغتيال أمرًا محموداً.أما على صعيد الفرد فكلما ارتكب أحد شيئا منها فإن نفسه تلومه عندئذ وتقول: لقد ارتكبت عملا شريرا فسواء اعتبروا عملهم شرا أم لا..لو رأوا أحدا يرتكب هذا الفعل فلا بد أن يعتبروه سيئا.هذه هي اللعنة المرادة هنا، وهي لا تنمحي أبدا، لأن الفطرة الإنسانية تؤيدها.وقوله تعالى (خالدين فيها..أي هذا مبدأ أبدي لن يتغير.لقد جاءت الفلسفات واحدة بعد الأخرى، وتوالت الحضارات..ولكن أوروبا اليوم أيضا تقول أن الكذب سيئ، والظلم ،شر، والسرقة مشينة والغيبة مكروه..فاللعنة علـــى هـذه الشرور هي كما هي ولن تتغير هذا ما تؤكده أيضا فلسفة اليونان والفرس وغيرهما.فهو مبدأ غير قابل للتغير.فإذا جاءت حضارة جديدة غدا فلسوف تقرر نفس المبدأ ولن تخالفه.وقوله تعالى (لا يخفّف عنهم العذاب ولاهُم يُنظَرون يبين أن أعمال منكري الأنبياء عندما تتجاوز الحدود..فمن سنة الله محاصرتهم بالعذاب السماوي.وهذا العذاب لا يُخفف عنهم ولا يُمْهَلون.نعم، يُعطون فرصة للتوبة قبل نزول العذاب، ولكن إذا لم ينتفعوا من رحمة الله، وأصروا على الرفض، واستمروا في استهزائهم بالآيات السماوية، فيُصب عليهم سوط العذاب الإلهى، وعندئذ لا يجديهم صراخهم وعويلهم نفعا.

Page 363

الجزء الثاني مرور ٣٦٠ سورة البقرة انظروا إلى كل من عارض رسل الله تعالى..فلا تزال اللعنة تنصب عليهم رغــم آلاف السنين.لقد مضى على هلاك النمرود آلاف السنين، ومر على غـرق فرعون في البحر قرون طويلة..وكذلك انقضى على هلاك الكتبة والفريسيين الذين علّقوا المسيح على الصليب عشرون قرنا، ومرّ على هلاك أبي جهل في وقعة بــدر أربعة عشر قرنا..ولكن كل إنسان شريف كلما ذكر النمرود فإنه يلعنه، وإذا ذكر فرعون فإنه يلعنه، وإذا تطرق الحديث إلى الكتبة والفريسيين اليهود فيلعنهم، ويلعن أبا جهل إذا ذكر اسمه..ويلعن من قتلوا سيدنا عثمان رضي الله عنه.ثم إن العذاب الذي سوف يترل بهم في الحياة الآخرة يفوق التصور.فالعذاب مستمر إذن لأنهــــم عارضوا رسل الله تعالى.وَإِلَهُكُمْ إِلَة وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (١٦٤) التفسير : يقول الله تعالى: ما الداعي للخوف من الأعداء مع أن إلهكم ذو صفات كاملة..وهو الرحمان الرحيم فتوكلوا عليه واستعينوا به فهو موجود لحمايتكم..ولن يستطيع أعداؤكم التغلب عليكم مهما كانت سفينتكم في مهــ رياح المصاعب، ومهما اصطدمت بدوامات المتاعب، فإنه سوف ينقذكم ويوصلكم إلى بر ۱۱ الأمان والفلاح.رأيت مرة في الرؤيا أنني قادم في سفينة من ناحية "بهشتي "مقبرة" أناس ومعي آخرون.ويبدو أن في الطريق فيضانا وطوفانا..وعندما وصلنا إلى مكان الجسر حيث كانوا يضعون من قبل لوحين من الخشب ليعبر عليهما الناس..رأيت أن سفينتنا قد وقعت في دوامة وأخذت تدور..فخاف كل الركاب، وعندما وصلوا إلى حد اليأس خرجَتْ من الماء فجأة يد تحمل كتابة تقول إن هناك قبرا لأحد أولياء ا معناها مقبرة أهل الجنة..جعلها سيدنا المهدي بقاديان كمدفن للصلحاء من أتباعه فقط، الذين يضحون على الأقل بعشر أموالهم لنصرة الدين مع اتصافهم بالصلاح والتقوى.

Page 364

٣٦١ سورة البقرة الجزء الثاني الله، فالتمسوا منه العون تخرج السفينة من الورطة.فقلتُ: كلا، هذا إشراك بالله تعالى..ولن أعمل بهذا الرأي ولو هلكتُ.وكلما كنت أصر على الرفض يشتد دوران السفينة.فقال بعض زملائي: ما الحرج في ذلك؟ وكتبوا رسالة على ورقة باسم هذا الولي وألقوها في الماء بدون علمي.وعندما بلغنى ذلك تحمست وقلت: هذا شرك بالله تعالى، وقفزت في الماء وأخذت الورقة وخرجت بها، وما أن أتممت ذلك حتى خرجت السفينة من الدوامة.فمهما كانت المشاكل والشدائد التي وقع فيها المؤمن فعليه أن يكون متوكلا على الله الله تعالى، وأن لا يسمح أن يتولد في قلبه خوف من أحد سواه سبحانه تعالى.ويمكن أن يسأل أحد إذا كان الله معبودنا، فكيف نعرف بماذا سوف يعاملنا؟ فردّ على ذلك بقوله تعالى هو الرحمان الرحيم.إنه دائما يعامل بحب كامل، ولا يخذل عبده إلا إذا خذل العبد نفسه.إنه رحمان..أي منذ البداية، وبدون أي عمل من الإنسان إنه تعالى قد تفضل عليه بأفضال كثيرة، وعندما يستعين العبد ويستغل عليه ويحسن إليه أكثر وباستمرار..لأنـه ما يَسَّره الله له رحيم.من أسباب..فإنه ينعم إن مثل "الرحمان الرحيم" كمثل الفلاح العجوز الذي كان يزرع النخل، وأخذ من الملك جوائز مرات ومرات.ولكن كنوز الملك كانت محدودة فكف عن مكافــأة الفلاح العجوز في آخر الأمر.ولكن خزائن ربّنا غير محدودة، بل إن ملكنا بنفسه يقول: اسألوني أعطكم، واستمروا في السؤال أعطكم باستمرار.فالله تعالى يتفضل بالإنعام مرة بعد أخرى ولا تنفذ خزائنه..ويقول: اعملوا أُنعم عليكم، ثم اعملوا أنعم عليكم مرة أخرى، وهكذا كلما عملتم وأحسنتم أنعمت عليكم، وأستمر في إنعامي على الدوام.إن كلمة (إلهكم) قد تشكك في أن هناك إلها آخر للغير، أو ربما تكون هناك آلهـة أخرى للأقوام الآخرين..فأزال هذه الشبهة بقوله تعالى (لا إله إلا هو).ثم ذكـــــر

Page 365

٣٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني من صفاته الكاملة (الرحمان الرحيم) ليبطل بذلك منطقيا ضرورة وجود أي إلـه آخر.الرتيب والربط: في الآيات السابقة بين الله أننا وجهناكم إلى بيت الله الحرام طبقــــا للـدعاء الإبراهيمي، ثم ركز على فتح مكة قائلا: إن الناس ينتظرون فتحها لأنه سوف يُدخل الناس في الإسلام أفواجا.ولما كانت الحروب تؤدي إلى كثير من المشاكل والشدائد..أوصى الله بالصبر والاستعانة بالدعاء.وأتبع ذلك بمثـــال مـــن حيــــاة إسماعيل وهاجر، وبين أن الذين يضحون في سبيل الله تعالى لا يضيعهم الله.ثم ذكر الحج والعمرة والسعي بين الصفا والمروة، ليشير إلى أن أمره بالحج والعمرة يعني أنه سوف يأتي بيوم يتيسر لكم فيه أداؤهما، ويتم السعي بين الصفا والمروة في راحــــة وسهولة.فهذه الآيات تتضمن نباً بأن مكة سوف تفتح للمسلمين لا محالة في يــــوم مــن الأيام..ذلك لأنه عند نزولها ما كان كفار مكة يسمحون للمسلمين بالاقتراب من المسجد الحرام، بل لم يسمحوا للبي بالطواف حتى بعد نزول هذه الآيات بسنوات.ولكن الله تعالى يقول إنه سوف يأتي يوم تستولون فيه على مكـــة ولــــن تعانوا من أي مشكلة في الحج والعمرة.وأخيرا يقول إن إلهكم إله واحد لا معبود سواه..هو الرحمان الرحيم..فأنشئوا صلتكم به ولا تخافوا كثرة الأعداء، فإن الله يريد أن يوطد توحيده في العالم، ويريكم تجليات من رحمانيته ورحيميته.

Page 366

الجزء الثاني ٣٦٣ سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٥) شرح الكلمات: اختلاف-اختلف زيد عمراً : كان خليفته؛ جعله خلفه؛ أخذه من خلفه(الأقرب).قال الراغب الأصفهاني عن اختلاف الليل والنهار أي مجيء كل واحد منهما خلف الآخر وتعاقبهما (المفردات).الفُلك-السفينة (الأقرب)، وهو يُذكّر ويؤنث ويفرد ويجمع، كقوله تعالى (إذ أبق إلى الفلك المشحون) (الصافات: (١٤١) ، وقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) (يونس: ٢٣)./// التفسير : في الآية السابقة قال الله تعالى (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هـو الـرحمن الرحيم)..وفي بداية هذه الآية جاء بنظائر الرحمانية والرحيمية كدليل على وجوده.فإنه قبل كل شيء وجّه أنظار الإنسان إلى خلق السماوات والأرض، وبين أن في خلقها آيات عظيمة لأصحاب العقول.بمعنى أنهم لو تدبروا وأمعنوا النظر لأدركوا بسهولة أن لا شيء في السماوات والأرض إلا وله علاقة وثيقة بحياة الإنسان، وأن وراء كل هذه الأشياء يد رحمانية الله، ولا دخل فيها لعمل الإنسان وسعيه.انظروا إلى الهواء والماء والشمس والقمر والنجوم..فكلها لا تجري ولا تعمل بسبب جهد من جانب الإنسان، وإنما سخرها الله لخدمة الإنسانية كأثر لصفته الرحمانية.ولولا هذه الأشياء لم يستطع الإنسان البقاء حيًّا لحظة واحدة في هذا العالم.ثم لو لم يكن في السماوات والأرض قانون معين ونظام لا يتبدل..لصارت الإنسانية بـدون جدوى.ولكن الله تعالى كما جعل كل شيء في العالم الخدمة ونفع الإنسان، كذلك جعل كل شيء تابعا لقانون..حتى يتقدم الإنسان ويزدهر بدون خطر.

Page 367

٣٦٤ سورة البقرة الجزء الثاني ولقد ذكر الله هذه الحقيقة في موضع آخر من القرآن الكريم: (الذي خلـق ســبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور.ثم ارجع البصرَ كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) (الملك: ٤، ه فقوله تعالى ( ينقلب إليك البصر خاسئا وهو (حسير يعني أنك لن تجد خللا في نظام العالم.فكون العالم يسير بقانون معين وحركة الشمس والنجوم تسير حسب هذا القانون والنظام بدون خلل أو انحراف أيضًا..يمثل دليلا على أن لهذا الكــــون خالقا باليقين.ولو كان لهذا الكون أكثر من خالق كما يعتقد المسيحيونفــــلا يمكن أن يكون كل هذا الكون تابعا لقانون؛ بل لا بد أن يقع فيه خلل.فبتوجيــه أنظارنا إلى خلق السماوات والأرض يقدم الله سبحانه دليلا على وجوده ووحدانيته أيضا، وكونه رحمانا..أي يرحم ويتفضل على عباده بلا نهاية، وينعم عليهم بإنعامات لا دخل لأعمالهم في الحصول عليها.وكذلك خلق السماوات والأرض لدليل على رحيميته، لأن من يعمل بحسب قوانين الله يجزيه أحسن الجزاء، فلا يمكن أن يحرث الإنسان الأرض ويبذر البــذر ويروي الحقل ويتعهد الزرع ثم لا يفوز بمئات الحبات مكان كل حبة واحــــــدة، أو يسعى سعيا صحيحا ثم يُحرم من ثمار مساعيه فهاتان الصفتان تسيران وتتجليــــان جنبا إلى جنب معا.وكل شيء يشير ببنان وجوده إلى وجود الله تعالى.الله والحقيقة أن العلم بوجود يتم بعد العلم والمعرفة بأشياء أخرى..لأن هذا العلم علم كلّى.فبعض الأشياء تُرى في حد ذاتها، وبرؤيتها يطلع الإنسان على وجودها.فمثلا لو وضعنا أمام طفل أصبعًا يدرك وجودها بأبعادها من طول وعرض وسمك..بدون أي حاجة لإدراك التفاصيل من أن وراء هذا الإصبع يدا، وأن هذه اليد متصلة بساعد، وأن الساعد متصل بالكتف، والكتف بعنــق ورأس، وأن في الرأس دماغا يأمر هذه الأعضاء بالحركة والسكون..ونتيجةً لذلك وجدت أمامي هذه الإصبع.فالعلم بالإصبع لا يحتاج العِلمَ بباقي الأشياء.ولكن العلم بذات الله تعالى علم كلي، ولا يتم ما لم يتم العلم بالجزيئات.إننا نعرف الله بمعرفة مخلوقاته.

Page 368

٣٦٥ سورة البقرة الجزء الثاني هذا العلم يكتمل ويتسع شيئا فشيئا..نحن نعرف شيئا بعد الشيء، ثم شيئا ثالثا..فرابعا.فإذا تم العلم بالجزيئات المخلوقة..نتعرف منها ذات الله تعالى.إن أبسط الناس لو تدبر لوجد دليلا على وجود الله..كما قال أحد الأعراب عندما سئل عن إيمانه بالله فضحك وقال : لست بمجنون حتى لا أعرف ربي..فالبعرة تدل علـــى البعير، وأثر القدم على السفير، فالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج..أما تدل على قدير؟ غير أن هذا علم بسيط يعترض عليه الفلاسفة ويقولون إن خلق السماوات والأرض وحده لا يمكن أن يشكل دليلا على وجود خالق لها، لأن بعض الأشياء تحدث مصادفة، وكل الناس يعرفون أنها حدثت صدفة.وقد رد القرآن على اعتراض الفلاسفة والمنكرين هذا وقال : صحيح أن وجــود الكون وحده لا يمكن أن يكون دليلا كاملا على وجود الله تعالى، ويمكن أن تسموه من المصادفات ولكن وجود ترتيب ونظام في كل كون، ووجود ارتباط بين عناصر الكون، ووجود حكمة في كل ذرة.لا يمكن أن يتم كــل هـذا بالمصادفة..بل هو دليل على أن هناك خالقا لهذا الكون خلقه بنظام ولحكمــة.فمن ناحية جعل للإنسان عينا لها القدرة على الرؤية، ومن ناحية أخرى جعل للشمس نورا ترى بها العين.وخلق الأنف للشم، وإزاء ذلك خلق الرائحــــة الـــتي يميزها الأنف.وخلق الأذن للسمع، ومن جهة أخرى جعل للهواء خاصية الاهتزاز والذبذبة لنقل الأصوات إلى الأذن.فإذا كانت العين قد خلقت بالمصادفة للرؤية..فهل خُلق النور في الشمس مصادفة إزاء ذلك؟ وإذا كان الأنف قد خُلق صدفة للشم، فهل خلقت الروائح إزاءه صدفة ؟ وإذا كانت الأذن قد وجدت للسمع صدفة..فهل خُلق الهواء واهتزازه صدفة لذلك؟ لو لم يكن هناك نظام وارتباط وترتيب وحكمة بين هذه الأشياء لقلنا إنها خلقت صدفة، ولكننا لا نجد في الكون ذرة خالية من نظام وحكمة.وما دام لكل شيء

Page 369

الجزء الثاني ٣٦٦ سورة البقرة ارتباط بشيء آخر ،ونظام، فكيف يمكن لنا التسليم بأن كل هذه الأشياء، وكل هذا النظام خُلق تلقائيا ومصادفة؟ ولكن إنما ينفع هذا الدليل إذا كان الإنسان قد بلغ الرشد، وتعود على التفكــر والتدبر في هذه الأمور.يرى بالعين ثم يفكر بالعقل يلقى نظره على هذه الأشياء ثم يفكر فيما يختلج في قلبه من عواطف يرى ضوء الشمس أو القمر، ويتفكر في تأثيره في الأشياء الأخرى، ويرى تأثير الحر والبرد ويفحص صفات النباتات وخواصها.وما لم يكن عنده موهبة للتدبر في هذه الأشياء والتوصل إلى النتيجـــة بعدها..كيف يصل إلى الله تعالى؟ غير معقول أن يتدبر الطفل الصغير في هــذا الأشياء ثم يتوصل بها إلى أن هناك إلها.الطفل يعرف أول الأمر أمَّه، ويعتبرها العالم كله ثم عندما يعرف أن أباه هو الذي كلَّه.يمد أمه بكل ما تحتاجه يبدأ في حب أبيه، ثم عندما يكبر ويخرج إلى الشارع للعب مع الصبية الآخرين يبدأ في حبّهم، وإذا غاب أحد زملائه يبكي ويصر على مقابلته.وعندما يشتاق للمأكل والمشرب أو الملبس يبدأ في حبها، وإذا لم يتفق شيء منها مع ذوقه أبدى سخطه ورفضه.وعندما يكبر يولع بالنزهة والصيد..ويرى الحياة بدون ذلك غير ممتعة.إذن فإنه يطلع على هذه الأشياء ويتعرف عليها شيئا فشيئا، ويتعلق بها، ويرى أنه لا يستطيع العيش بدونها..وكأنها هي الإله بالنسبة إليه.ثم في آخر المطاف..يتخلى بالتدريج عن هذه الأشياء.ففي البداية يحب أمه فيراها إلهـا له، ثم يحب أباه فيراه إلها ،له ثم يحب أصحابه فيراهم إلها له، ثم يحب الطعام والشراب واللباس فيراها إلها له..حتى إذا بلغ سن الرشد وأحاطه الله بفضله ومكنه من صحبة أستاذ صالح يعلمه، ووفق أبويه إلى ترتبيته تربية حسنة..عندئذ يتخلــــى عن كل هذه الأشياء، ويتجه إلى إلهه الحقيقي، ويعرف أن كل هذه الأشياء كانت آلهة باطلة.يقول : بسبب أهوائي النفسية كنت أرى أنها كل شيء، ولكن الإلـه الحقيقي هو من خلقها.

Page 370

الجزء الثاني ٣٦٧ سورة البقرة إذن، ففي البداية يتولد حب غير الله في قلب الإنسان، ويظن أنه مدار حياته، ولكنه يترك كل هذه الأشياء واحدة إثر الأخرى في أول الأمر يرى حضن أمه كل معهم شيء، ويرى في الابتعاد عنه هلاكه.ثم يكبر فيحب إخوانه وأصدقاءه، ويرى راحة ومتعة حياته في اللعب وإذا كان معهم.لا يستجيب لنداء أمه إذا دعته..وإنما يجد المسرة والسعادة في اللعب مع أصحابه.وعندما يكبر يحب التنزه والصيد، اللعب في الفناء مع الصغار، وتتركز مسراته في التنزه والصيد، وإذا حيل بينه وبينها ظن أنه هالك لا محالة.وبعد ذلك، يترك بنفسه كل هذه الأشياء شيئا فشيئا، حتى إذا بلغ سن الرشد عرف وجه الله الحقيقي بعد التدبر والتفكر، ويــــرى أن كل هذه الأشياء لغو فيتركها.وينسى وبناء على هذا الترتيب الطبيعي قال المفسرون عن إبراهيم عليه السلام إنه أولا رأى كوكبا لامعا فقال : هذا ربي.ثم رأى القمر أكبر حجما وأكثر نورا من النجم فقال: هذا ربي ، ثم رأى الشمس وهي أعظم وأشد ضياء من النجم والقمر فقال: ربي.وعندما أفَلت وغابت واحدة بعد أخرى قال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) (تفسير الدر المنثور للسيوطي)..أي في آخر الأمر آمـــــن بالله قائلا : أبتعد عن كل صراط ،معوج، وأتجه إلى ربي الذي خلق السماوات هذا والأرض.هذا الحدث الذي يذكره المفسرون ليس صحيحا فيما يتعلق بشأن سيدنا إبراهيم، ولكن تفكير المفسرين كان صائبا في اتجاهه..إذ رأوا أن العقل الإنساني يتجه مـــــن الأدنى إلى الأعلى عندما لا يصحبه نور الإلهام السماوي.في أول الأمر تكون الأم هي كل شيء بالنسبة للرضيع..أو بعبارة أخرى هي الإله بالنسبة إليه، بل إنه لا يعرف الأم في البداية..وإنما يرى الثدي إلها له لأنه يرضعه وإذا افتقده يبكي.ثم يتعرف على الأم ويبدأ في حبها، ثم يتعرف على الأب ويحبه، ثم يحب إخوانه وزملاءه الذي يلعبون معه ويحب ما يتعلق بأكله وملبسه، ثم يحب أهل الشارع والحي، ثم يبدأ في ترك هذه الأشياء تدريجيا عندما توصله إلى الله

Page 371

الجزء الثاني ٣٦٨ سورة البقرة تعالى.ولو أن الطفل البالغ بضعة أشهر أعطي القدرة على النطق والفهم، وقيل لـــه إنك سوف تترك حضن أمك عندما تكبر، وسوف تقل رغبتك فيها لتحيّر كما يتحير العالم الذي يقال له إن النار لا تحرق وأن الشمس لا تضيء، ولو قيل لصبي في السابعة من عمره إنك عندما تكبر سوف تتزوج فتاة وتزداد رغبتك فيها حتى تترك أمك لقال: لست بمجنون حتى أترك أمي، ربما يفعل هذا غيري، ولكني لـــن أفعل ذلك أبدا.فمن الأمور الفطرية أن الإنسان يرغب في أشياء مختلفة في أوقات مختلفة، وعندما يرغب في شيء فإنه لا يتوهم أنه سوف يتركه في يوم من الأيام.وعندما يكبر فلا يخطر في بباله أنه كان يحب هذا الشيء في وقت من الأوقات.وكان يرى العيش بدونه مرّاً.وهذا هو المعنى لقول (أشهد ألا إله إلا الله).فالإنسان في البداية يفكر في غير الله؛ وهذا الطريق في الظاهر يؤدي إلى غير الله، ولكنه في الحقيقة الطريق المؤدي إلى الله تعالى.فلو لم يحب الطفل الثدي لم يحب أمه، ولو لم يحب أمــه لم يحب أباه، ولو لم يحب أباه لم يحب إخوانه وأخواته، ولو لم يحب هؤلاء لم يحـ زملاءه في اللعب، ولو لم يرغب في هذه الأشياء كلاً في وقته لم يستطع في الحقيقة أن يعرف ربه في وقته.الواقع أن الإنسان يشعر بفراغ في ،فطرته، ولملء هذا الفراغ يحب أشياء مختلفة في أوقات مختلفة لعل هذا الشيء أو ذاك يسد هذا الفراغ.وعندما لا يطمئن بهـذا الشيء يرغب في غيره لعله يحقق رغبته.ولكن يبقى الفراغ كما هو، فيرغب في شيء ثالث ليتحقق به مراده.وهكذا ينتقل من شيء إلى آخر..إلى أن يترك هذه الأشياء كلها واحدا بعد الآخر، ويصل إلى الله في نهاية المطاف، وعندما ينالُ الله جل علاه فإنه يمسك به ولا يتحرك من مكانه.وإلى ذلك أشار القرآن في قول الله وأنّ إلى ربك المنتهى) (النجم: ٤٣) أي الإنسان في يوم من الأيام، وفي آخر المطاف يصل إلى الله..غايته الحقيقية..بعد المرور بما سوى الله من الأشياء.إنه لا يصل إلى غايته هذه على الفور..وإنما يمر في رحلته بأشياء أخرى عديدة، ظنها آلهة

Page 372

الجزء الثاني ٣٦٩ سورة البقرة له بسبب صغره، ولكنه بالتدرج يترك كل هذه الأشياء، وكل شيء منها يأخذ بيده ويقربه إلى الله تعالى.فلقد نبه الله هنا أنه لو تدبرتم في نظام الكون لرأيتم وجود الله تعالى في كل ذرة منه، ولاضطررتم إلى الاعتراف بأن كل شيء خلقه الله في السماوات والأرض وما بينهما إنما خلقه بحكمة وحق، و لم يخلقه عبثا، بل وراء خلقه هدف عظيم.ولمــــا كان هذا الهدف لا يتحقق في الظاهر في هذه الدنيا..لذا كان من الضروري ألا تتحدد الحياة الإنسانية بهذا العالم..حتى يحقق الإنسان الغاية الأسمى من خلقه كما تقتضي عظمة هذا النظام.ولو أن الحياة الإنسانية كانت لتنتهي في هذه الدنيا..لكان العبث والمخالف للعقل أن ينشئ الله هذا النظام العظيم الذي لمـا يستطع العلماء الاطلاع على أسراره رغم ما حققوه من رقي علمي عظيم في شتى المجالات.أتذكر أننا عندما دعونا عام ١٩٤٦ ( دكتور سير شانتي بتناجر) مدير معهد الفحص العلمي والصناعي بالحكومة الهندية..لافتتاح معهد الفحص بقاديــــان..قال في خطابه نفس القول..بأن كبرياء العلماء قد كُسرت اليوم بحيث لا يستطيع أحـــــد منهم الادعاء أن العلوم قادرة على تقديم شرح مناسب للأشياء التي نراها في الظاهر.فما دامت السماوات والأرض مليئة بأسرار يعجز العلم عن تفسيرها رغم بلوغه هذا الرقي العظيم، اللهمّ إلا جزءا بسيطا منها..فكيف يصح قولهم إن الإنسان الذي خلق وسخر هذا الكون الواسع لخدمته إنما خُلق عبثا؟ وفي قوله تعالى واختلاف الليل والنهار) ساق دليلا آخر على رحمانية الله، وبيّن أنه عز وجل كما خلق السماوات والأرض وجعل الشمس والقمر والنجوم..كذلك فإنه برحمانيته دبر تتابع الليل والنهار، ليظهر بعد كل ليلة نهار.فلو لم يأت الليـــل لاستنزف الإنسان ،قواه، ولو لم يطلع النهار لصارت حياه الإنسان عبثا.فجعـــل الله بحكمته العظيمة تتابع الليل والنهار ليأخذ الإنسان نصيبه من الراحة وإنعاش قواه واستردادها تماما..ليكون قادرا على العمل النافع طول النهار.

Page 373

۳۷۰ سورة البقرة الجزء الثاني كما أنه تعالى بذكر الليل والنهار أشار إشارة روحانية إلى أنه كما دبّر بخلق النهار تبديد الظلمة المادية.كذلك جعل نظاما روحانيا لتبديد الظلمات الروحانية.ومن وسائل ذلك أن ملائكة الله تحض القلوب على فعل الخير، وتحاول إنقاذهــا مــن الظلمات.ولكن عندما تُرخي الظلمات سدولها على معظم الناس، ولا تؤثر فيهم التحريكات الملائكية وإنما يستولي الشيطان عليهم..فإن الله يبدد هذه الظلمات بإرسال أنبيائه ومأموريه إن هؤلاء يكونون كالشموس والأقمار للعالم الروحاني، ويكون المؤمنون بهم كالنجوم لهداية العالم.إذن فبقوله تعالى (اختلاف الليل والنهار ينبه إلى فيضانه الرحماني ويقول إن ملائكته وأنبياءه ومأموريه والمجددين والأولياء يُخرجون الناس من الظلمات إلى النور وينجون العالم من الدمار والهلاك.وبقوله تعالى (والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) أشار إلى أنكم كمـا لا تستطيعون نقل أمتعتكم من ناحية إلى أخرى عبر البحار إلا بالسفن..كذلك فإن الله تعالى قد جعل في العالم الروحاني بعض الشخصيات بمثابة السفن لأهل زمنهم.إنهم يترلون بالبركات والأفضال الله للناس ويرفعونهم من الأرض إلى الله تعالى وكما لا يكون الناس بمأمن من أخطار البحر إلا إذا كانوا في سفينة، كذلك لا يحتمي من البلايا والآفات الروحانية إلا الذي يركب سفينة النجاة التي أعدها من بعثه الله في ذلك الزمن منقذا روحانيا.من وقوله تعالى (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) إشارة إلى أن الله كما أنزل من السماء ماء لإحياء الأرض من جديد..كذلك أنــزل مـــن السماء الوحي لشفاء غليلهم الروحاني، ولكن الناس للأسف ينظرون إلى المطر المادي نظرة تقدير ولكن عندما ينزل عليهم مطر الوحى السماوي لا يهتمون للانتفاع به.ذكر الرسول الله الصحابة ذات مرة حال المنتفعين وغير المنتفعين من مطر الوحي السماوي، وبين أن الناس على ثلاثة أقسام فقال مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ (أي طيبةً) قَبْلَتِ

Page 374

۳۷۱ سورة البقرة الجزء الثاني الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَا وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَي صلبة) أَمْسَكَتِ الْمَاءَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانُ لَا تُمَسكُ مَاءً وَلَا تُنْبتُ كَلَأَ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ به) (البخاري، العلم).ووضح النبي ﷺ أن المثال الأول ينطبق على العالم العامل الذي يتعلم العلم ويعمـــل به؛ ينتفع به كما ينفع به الآخرين ويجعلهم عاملين به ،مثله والمثال الثالث لشخص ليس عالما ولا معلما..فلا ينتفع بنفسه ولا ينفع الآخرين.ولم يذكر النبي صاحب المثال الثاني لأنه لو تدبر الإنسان في المثالين لعرف أن المثال الثاني ينطبق على شخص يعلّم الدين ولا يعمل به درس علوم الدين ووقف على تعاليمه، ولكنه لا يتدين به.يبلغ الناس بما قال الله ورسوله، وهكذا يفيدهم وينفعهم، ولكن لا ينتفع من هذا العلم لنفسه.والحقيقة أنه كلما يبعث في الدنيا نبي من أنبياء الله ينقسم الناس إلى هذه الأقـسـام الثلاثة : قسم يعملون بتعاليم الدين وينتفعون بمطر الوحي الإلهي انتفاعـــا جيــدا، وقسم يُعرضون عن وحي ويرفضون أنبياءه، وقسم يعرفون تعاليم الدين ولكن يتغافلون ويتكاسلون ولا يعملون بها.الله و بذكر المطر هنا يوجه الله النظر إلى أنكم كما تنتفعون بالمطر المادي يجب أن تنتفعوا أيضا من المطر الروحاني الذي نزل على محمد ﷺ، ولا تكونوا كالصخور التي لا تجتذب قطرة من مطر.كما أشار إلى أنه عندما ينزل مطر السماء فإن الماء الباطني في طبقات الأرض يفور ويرتفع منسوبه في الآبار..كذلك عندما ينزل مطر الوحي الإلهي على أنبياء الله فإن عامة الناس أيضا يرون الرؤى والأحلام بكثرة وتتجــه أنـظـارهم إلى الله تعالى.وقد حدث هذا في زمننا أيضا، فقد رأى الناس آلاف الرؤى والأحلام الدالة

Page 375

۳۷۲ الجزء الثاني سورة البقرة على صدق المهدي والمسيح الموعود عليه السلام وأرى أنها لو جمعت لملأت كتابا ضخما.ثم إن الله تعالى يوسع دائرة بركات الوحي الإلهي بطريقة أخرى، فإنه سبحانه يلقي نوعا من النور حتى في عقول الذين لم يؤمنوا بأنبيائه، ويصقلها فتسمو أفكارهم وتزداد فراستهم وترقى مواهبهم العقلية بسرعة أكبر من ذي قبل.وقوله (وبث فيها من كل دابة يشير إلى أن من آيات الله أنه خلق في الأرض أنواعا من الحيوانات والدواب.وبالإضافة إلى الحيوانات الظاهرة أشار أيضا إلى أولئك الذين يكونون بمثابة الموتى قبل بعث الأنبياء، ولا يكون بهم رمـــق مــن الحيــاة الروحانية، ولكن عندما يُنفخ في الصور السماوي يحيا مثل هؤلاء الأموات، ويمشي العرج ويتحرك المفلجون، وهؤلاء المنتمون إلى مختلف الأقطار والشعوب والطوائف، والمؤهلون بمختلف العلوم والفنون والمواهب..بعدما يلبون نداء النبي يخرجون إلى أنحاء العالم لنشر الدين، ويجذبون إليه آلافا وملايين بجهودهم التبليغية..فيكونوا رونقا وبهاء ونصرة للدين.وبناء على ذلك فـ"الدابة" إشارة إلى أولئــــك المؤمنين الذين يتحركون لجلب البهاء والعمران الروحاني في الأرض، والذين تنتفع الأجيال الحاضرة والقادمة بأنواع المنافع المادية والروحانية.منهم وفي قوله تعالى (وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض) أتى بدليل على صفة الرحيمية، وبيّن أن ما يُنزل الله من نعم رحمانيته، ينتفع بهـ الكافر والمؤمن على السواء..أما في دائرة الرحيمية فعندما يتبارى المؤمن والكافر فإن الله يُعِين المؤمنين على الفلاح، ويخيب الكافرين في نواياهم السيئة.والرياح هنا رياح مجازية، تهب في أوقات خاصة..ولا سيما تلك الرياح التي جرت لأجل الرسول ﷺ والتي نشرت أنواره في كل العالم.فمثلا في غزوة بدر، عنــدما ألقى النبي الله الحفنة من الرمل والحصى جرت ريح عاصفة بفضل من الله تعالى، وناصرت المؤمنين، وأفسدت الأمور على الكفار حتى انقلب الموقف في ساحة

Page 376

الجزء الثاني ۳۷۳ سورة البقرة الحرب في وقت قصير، وبدأ كبار قادة الكفار يقعون صرعى ملطخين بدمائهم على الرمال، وولّى جنودهم المتسلحون المحربون مُدبرين من ساحة القتال (السيرة النبوية لابن هشام، وقعة بدر وفي غزوة الأحزاب حدث مثل ذلك، وأجرى الله رياحا عاصفة أجبرت الكفــــار على الفرار في فزع وفوضى ورد في التاريخ أن ريحا شديدة هبت في الليل فترعت خيامهم، وألقت قدورهم، وأخمدت نيرانهم.وكان من عادة العرب إشعال النــــار طول الليل تفاؤلا، فإذا حمدت نار أحدهم تطير وظن أنه يوم نحس.فقامت بعض القبائل بالرحيل والفرار بناء على هذه العادة والظنون.ولما رآهم الآخرون وظنوا أن اليهود قد اتفقوا مع المسلمين وغدروا بهم، فجمعوا متاعهم على عجلة وفـــــروا من الموقع.وكان أبو سفيان مستلقيا في خيمته لما بلغه الخبر، فقام فزعا وركــــب بعيره وأخذ يحثه على الإسراع وهو مقيد، فنبهه بعضهم إلى خطئه، ففــــك عقــــال البعير وفرّ مع أصحابه من الميدان المرجع السابق، غزوة الأحزاب.وإلى جانب تصريف الرياح هذه، نزلت الأمطار تأييدا للنبي.ففي وقعة بــدر عندما كان الصحابة بحاجة ماسة للماء أنزل الله المطر، فتيسر المــاء للمسلمين، وتماسكت الأرض الرملية تحت أقدامهم، فيسرت لهم السير والقتال عليهـا.أمـا الأرض التي كان عليها الكفار فكانت صلبة، فأصبحت بالمطر زلجة فلم تثبت عليها أقدامهم (المرجع السابق، غزوة بدر).كذلك نزلت الأمطار في المدينة لأيام بفضل دعاء الرسول ربه عز وجل.ولما غزر المطر وأحدث المشاكل وهدد بالضرر..دعا النبي ، فتوقف المطر على المدينــــة وأخذ يسقط حولها (البخاري، كتاب الدعوات).ولما اشتد المكيون في معارضـــة النبي وطالبوه بالعذاب دعا النبي عليهم : اللهم خذهم بسنين كسني يوسف.فحدثت لهم مجاعة شديدة بالحجاز سبع سنين حتى اضطر الناس إلى أكل الميتة والعظام والجلود، وتدهورت صحتهم حتى كانت عيونهم ترى دخانا.فجاءوا النبي والتمسوا منه الدعاء لمضر قبائل الحجاز ] كي يزيل الله عنهم شدتهم.فدعا

Page 377

٣٧٤ سورة البقرة الجزء الثاني النبي لهم فأنزل الله الأمطار وزالت المجاعة.وفي إحدى الروايات أن أبا سفيان بنفسه جاء النبي ﷺ قائلا: "أي محمد، إن قومك هلكوا، فادع محمد، إن قومك هلكوا، فادع الله أن يكشف عنهم العذاب، فدعا البخاري، كتاب التفسير سورة الدخان).تثبت كل هذه الأمور أن الله سخر لرسوله الرياح والسحب، ويفعل الله ذلك أيضا للمؤمنين الكُمّل.صحيح أن الرياح تجري دائما، ولكن رياح بدر والأحزاب دلّت أنها جاءت بشارة للمؤمنين وعذابا للكافرين وكذلك تنزل الأمطـار دائمـــا، ولكن أمطار بدر والمدينة بينت أنها كانت مسخّرة، والأمطار والرياح المسخرة دائما تأتي لتأييد المؤمنين وإذلال الكفار.وكل هذه الأمور تحدث تحت قدر خاص من الله تعالى.ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (١٦٦) شرح الكلمات أندادا جمع ند وهو المثل، ولا يكون إلا مخالفا.يقال: ما له نــد..أي مــا نظير (الأقرب).لَوْ يَرى "لو" أداة شرط جوابها محذوف تقديره: لو يرى الذين ظلموا..يعلمون.التفسير وردت في القرآن أربع كلمات تصف آلهة المشركين: النـــد، الشريك، الإله، الرب.وهذه الصفات الأربع تدل على أربعة أنواع من الشرك.فالند هو الشريك في الجوهر..أي ليس ما يُعبد فقط، بل يُعتبر إلها في ذاته ووجوده كما لله ذات ووجود.والشريك ما يعتبر شريكا في الأعمال والصفات مع الله تعالى..ســــواء كلها أو بعضها، وسواء عبد مع الله أم لم يُعبد.

Page 378

٣٧٥ سورة البقرة الجزء الثاني والإله هو ما يعبدونه.وهو أوسع معنى من الند..لأنهم يعتبرون إلها ما لا يعتبرونه شريكا في الجوهر مع الله ومثال ذلك آلهة الهندوس.6 والرب هو ما يقبلون قوله بدون تمييز بين خير ،وشر وبدون أن يعبدوه، وبدون أن يعتبروه شريكا في صفات البارئ.وأمثلة هذه الأنواع الأربعة من الشرك أيضا موجودة في الدنيا.فالأمـــة المسيحية تعتبر المسيح عليه السلام - إلها ندا الله تعالى، فهم لا يعتبرونــــه إلهـا لاتصافه بالألوهية، وإنما إلها باعتباره أزليا أبديا ، وشريكا في الجوهر مع الله تعالى.فهـــم الصفات الإلهية التي لا بد من تواجدها في يعتقدون أن جميع لموجودة في المسيح.الله من حيث الذات ومثل آخر لذلك مثل الفُرس المجوس الذين اعتقدوا بوجود إلهين: "يزدان" إله النور، و "أهرمان" إله الظلام (موسوعة الأديان والأخلاق، تحت اسم الزردشتية) (Encyclopedia of Religions and Ethics-under Zoroasterianism) وهناك بعض الناس يشركون أشياء في صفات الله تعالى وإن كانوا لا يعبدونها، ويعتبرونها متصرفة في بعض الأمور..كما كان العرب يظنون الجن يأمر ويتصرف مثل الله، ولم يكونوا يعتبرونها آلهة أو أربابا، وإنما كانوا يعتقدون أن الجن الفلاني هو سيد الوادي المتصرف فيه، فكانوا إذا مروا بالوادي يحترمونه ويخافونه كخوف الله، ولكنهم ما كانوا يعبدونه مع الله تعالى (القرطبي، سورة الجن).مع وكما ذكرتُ، فإن كلمة إله أوسع وأعم من كلمة ند.وبعض الناس يعتقدن أن بعض الأشياء آلهة مع الله، فيعبدونها ولكنهم لا يعتبرونها شريكة في الجوهر والذات الله تعالى..مثل الهندوس الذين يعبدون آلهتهم ولكنهم لا يعتبرونها متصرفة في الأمور وشركاء في الجوهر مع الله.وكذلك يعبد بعضهم الآباء والأمهات أيضا، ولكن لا يعتبرونهم شركاء أو أندادا الله تعالى.والاسم الرابع هو الرب ومعناه الأصلي من يخلق ويربي الشيء إلى أن يصل الكمال.ولكن في الاصطلاح الديني يُطلق الرب على كل مُرَبِّ أو سيد، يتبعــــه

Page 379

٣٧٦ سورة البقرة الجزء الثاني الناس بدون تمييز بين خير وشر، كما يفعل الناس بشخصيات صالحة كبيرة مـــن الأسلاف.الإسلام يبيح اتباع الناس في الأمور الاجتهادية، ولكن إذا أطاع الإنسان أحدًا خلافا للنصوص الصريحة من الله تعالى وأنبيائه فكأنه يعتبره ربا، وقد ذكر القرآن هذا في قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (التوبة: ۳۱).وكلمتا الإله والرب تستخدمان أيضا الله تعالى، أما الند والشريك فللآلهة الباطلة، ويتبين من هذا التفصيل أن كلمة الند تستخدم لمن يعتبرونه شريكا في الجوهر، وكلمة شريك تستخدم لمن يعتبرونه شريكا في الصفات، سواء عبدوه أم لا.وكلمة الإله "تستخدم لمن يعبدونه سواء اعتبروه شريكا في الجوهر أم لا.وكلمة: الـــرب يراد بها الشخصيات التي يتبعونها بدون تمييز بين خير وشر، معرضين عن أوامر الله ورسوله.وقد ذكرت هذه الأنواع الأربعة للشرك في آية واحدة: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران: ٦٥).فبقوله تعالى ألا نعبد إلا الله أولا ، ولا) نشرك به شيئا) ثانيا (ولا يتخـــذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ثالثا..نفي الأنواع الثلاثة من الشرك: الإلــــه، والشريك والرب..نفيا صريحا ولكن هناك نفي ضمني للند..لأن الند متضمن في الأنواع الثلاثة..أي لا بد له من أن يُعبد ويُشرك في الصفات ويطـاع.ومـا دامت عبادة غير الله، والإشراك في صفاته، وطاعة غيره..تُعد إثما فقد تم نفي أيضا تلقائيا.ثم إن كلمة (ألا نعبد إلا الله) أيضا الند.تنفي يريد الإسلام أن يسمو بالإنسان إلى أعلى مقام في عقيدة التوحيد، وهو بإيجاز : ألا يشرك الإنسان أحدا في الجوهر مع الله، ولا يعتبر أحدًا شريكا له في الصفات والأفعال..سواء عبده أم لم يعبده، ولا يعبد أحدًا إلا الله، ولا يطيع أحدًا فيمــا الند يخالف ما أمر الله به ورسوله لأن هذه الأمور الأربعة منافية للتوحيد الحقيقي.قوله تعالى (يحبونهم كحب الله.له معنيان: الأول - أن الحب الذي لا ينبغى إلا لله وحده يصرفونه إلى أندادهم والثاني – أن الحب الذي يدعونه الله يكنون مثله

Page 380

الجزء الثاني ۳۷۷ سورة البقرة والمعنى الله لأندادهم.أي أن قلوبهم رغم ادعائهم حب الله خالية من حب حقيقي الله الأول هو أن حبهم متساو لله وللأنداد..والمعنى الثاني هو أن ادعــــائهـم حــــــب ادعاء فارغ كاذب، لأن هناك بونا شاسعا بين الحب لله والحب للأنداد.ولقوله تعالى (والذين آمنوا أشد حبا الله أيضا معنيان: الأول-أن المؤمنين يحبون الله أكثر من حب المشركين الله، أو من حب المشركين لأندادهم.والثاني أن حب المؤمنين الله يفوق حبهم لكل ما سواه؛ وإذا تصادم الحُبان حبهم الله وحبهم لغيره فدائما يكون حبهم لله هو الأقوى والأهم.ولقد فسر القرآن في موضع آخر هذا الحب بكلمات أخرى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة: ٢٤).فمن علامة الحب الكامل أن يضحي الإنسان لأجل حبيبه بكل غال ورخيص، وإلا فادعاؤه بالحب كلام فارغ لا يجديه شيئا.كل إنسان يقول إنه يحب الله ورسوله، بل ليس هناك مسلم واحد يقول إنه لا يحب الله ورسوله؛ ولكن يجب أن يرى مــا هو تأثير هذا الادعاء في أعماله وجوارحه وأقواله نجد البعض يدعون حب الرسول حبا شديدا، فيقرءون ويسمعون القصائد في مدحه بل يقرضون الشعر في الثناء عليه، ولكنهم لا يلقون بالاً فيما يتعلق بطاعة ما أمر به الرسول.ويدعون بحب الله، ولكنهم لا يسعون للقائه، في حين أن المرء إذا جاءه قريب أو صديق فإنه يترك للقائه؛ ولو سنحت له الفرصة للقاء أحبائه وأصدقائه غمرتــــه الفرحة؛ ولو تمكن من زيارة أحد الحكام لارتفع رأسه ، ولكنهم يدعون بحب الله ذلك لا يقتربون من الصلاة، أو يصلون ولكن لا يواظبون على الصلاة، وإذا واظبوا عليها أدوها بعجلة فلا يعرف أحدهم متى سجد ومتى رفع..يسجدون كنقرات الدجاجة دون خشوع ولا خضوع.ومع أن الله قد أعلن أنه تعالى هـو الجزاء للصائم..ولكنهم رغم ادعائهم حب الله لا يحاولون التمسك بأهدابه والتقرب إليه.ويتظاهرون بحب الله مع ذلك يهضمون حقوق الناس، ويكذبون، أعماله ومع ويسرع

Page 381

الجزء الثاني ۳۷۸ سورة البقرة ويتهمون، ويغتابون.يدّعون عشق الله، ولكن لا يقرءون القـــرآن الكريم ولا يتدبرون فيه فالإدعاء بالحب شيء، والحب الحقيقي شيء آخر.يصرح القرآن الكريم أن الإنسان لا يمكن أن يكون مؤمنا صادقا ما لم يحب الله حبا عمليا يتضاءل أمامه حبه للوالدين والأولاد والأزواج والإخوان والقبيلة والقوم.لقد قال النبي ﷺ: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممـــا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار) (البخاري، الإيمان).قوله تعالى (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة الله جميعا) وجــــه فيـــه الأنظار إلى أن هؤلاء يعارضون الإسلام ،اليوم، ويشركون الأصنام مع الله تعالى، ولكنهم لو تصوروا المشهد الذي سوف يرون فيه العذاب لنسوا هذه الأشياء كلها، ولأدركوا أن الإشراك بالله ليس بالإثم الهين.إنهم يفعلون ذلك لجهالتهم ولكن لو تخيلوا المشهد الذي ينكشف فيه ضعف شركائهم ما فعلوا ذلك.وهذا ما حدث يوم فتح مكة، حين رأى المشركون بأعينهم أن أصنامهم لم تنفعهم شيئا، بل الآن، حطمت وألقيت خارج بيت الله تعالى، وتم تطهير البيت لعبادة الله وحده.وقوله تعالى (إذ يرون العذاب أن القوة الله جميعا قد شرحه النبي ﷺ في حديثه، وبين تفصيل العذاب الأخروي الذي سوف يصيب الكفار إنهم سوف يرون على سبيل التمثيل والمجاز الثعابين والعقارب وغيرها من الأشياء المخيفة (مسند ابن حنبل ج4، ص۱۹۱)، وهي في الحقيقة تمثيل لأعمالهم.كانوا في الدنيا يلدغون النــاس كالثعابين، ويلسعونهم كالعقارب ويفترسونهم كالضواري، لذلك يعاقبهم الله بنفس العقاب، ويسلط عليهم الثعابين والعقارب جزاء على أعمالهم.إن لهذه الآية علاقة عميقة بالتي قبلها، بل كلتاهما تحتوي على موضوع واحد..وهو أن هؤلاء رغم رؤية البراهين التي تميز بين الحق والباطل، ورغم رؤية كل ذرة من الكون تؤكد وحدانية الله تعالى ورغم رؤية قدر الله الخاص جاريا في حق المؤمنين..يجعلون له سبحانه أندادا يحبونهم كحب الله، وهذا دليل على أنهم هالكون.

Page 382

الجزء الثاني ۳۷۹ سورة البقرة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتَّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (١٦٧) شرح الكلمات : تبرأ - تخلص (الأقرب).التبري: التقصي [الابتعاد] مما يُكْرَه محاورته (المفردات).فالآلهة الباطلة والشخصيات التي كانوا يشركونها بالله سوف تعلــــن كراهيتـــها لعابديها المشركين وتعتبر نفسها بريئة، وتقول إننا لم نفعل مثل هذه الأفعال.الأسباب السبب ما يُتوصل به إلى غيره ؛ الطريق الحب القرابة (لسان العرب).التفسير : يقول الله تعالى إنه سيأتي زمن يقول فيه هؤلاء الأنداد: يا رب، لا علاقة لنا بهؤلاء العابدين لنا.وهكذا يُظهرون براءتهم ونفورهم منهم بعد أن رأوا عذاب الله.قوله تعالى (وتقطعت بهم الأسباب..الباء في بهم تكون بمعنى عن أو تكــــون للسببية، أو للتعدية.فإذا كانت الباء بمعنى عن يكون المعنى: أن الأشياء التي كانوا يظنون أنهم سيصلون بها إلى الله سوف تنقطع ،وتضيع، أو أن القرابات والصداقات التي كانوا يعتمدون عليها سوف تنقطع عنهم وتضيع من أيدهم.وإذا كانت للسببية فالمعنى: أنه من جراء كفرهم تقطعت أسبابهم ودمروا.وإذا كانت للتعدية فالمعنى: أن الأشياء التي كانوا يعتبرونها ذريعة للوصول إلى الله هي التي سوف تدمرهم وتقطعهم.ومثال ذلك ما ورد في موضع آخر من القرآن الكريم: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام: ١٥٤)..أي تجعلكم تتفرقون وتنحرفون عن الصراط المستقيم، وتؤدي بكم إلى الدمار.وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٨) شرح الكلمات: كرة الكرة : المرّة (الأقرب).الكرّ : العطف على الشيء (المفردات).فتعني الآية أنهم سيقولون : يا ليت لنا فرصة للعودة ولو لمرة واحدة.

Page 383

سورة البقرة الجزء الثاني التفسير : يقول الله إنكم تجعلون الله شركاء وتعتبرونهم أندادا له، ولكنكم في الآخرة سوف تتمنون العودة إلى الدنيا وتقولون : كنا نظن أن هذه الآلهة سوف تنفعنا في الوقت العصيب، وها هي قد خذلتنا..فليتك يا رب تُرجعنا إلى الدنيا كي نتبرأ كما فعلوا بنا.يقول الله تعالى (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم)..أي ستتحول أعمالهم حسرات عليهم.وتعني كلمة ( عليهم ) هنا وبال حسراتهم تقع عليهم.هناك من الحسرات ما يقع على الغير، ولكن لن يتضرر من حسراتهم إلا منهم هم.وإذا كانت كلمة حسرات هنا حالا..فتكون الرؤية هنا مادية أي رؤية العين، وإذا كانت مفعولا به فتكون الرؤية قلبية والمعنى أنهم يقولون: يا ربنا لو أرسلتنا إلى العالم مرة أخرى مبشرين..فسوف نملأ الدنيا إعلانا بأنه لا شريك لك.أما قوله تعالى (وما هم بخارجين من النار..يجب ألا ينخدع به القارئ فيظن أن أهل النار لن يخرجوا منها مطلقا.فالله تعالى لا يذكر هنا معاملته معهم وإنما يبين حالهم وعجزهم هم عن أن يخرجوا من جهنم بجهودهم الشخصية.ومثال ذلك أن تقول عن مريض: إنه لا يستطيع أن يتحرك خطوة واحدة..ثم تأخذه إلى المستشفى للعلاج، فهو لم يتحرك بجهده، ولكنك ساعدته ونقلته؛ فضعفه لم يمنع من أن يعينه أحد.فالنفي هنا لخروجهم بأنفسهم، فلو حاولوا أن يخرجوا بقوتهم ما تمكنوا من ذلك.وقد صرّح الله بذلك في آية أخرى كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (السجدة (۲۱).فلم تقل الآية إن الله لن يخرجهم من جهنم..وأنه سيعاقبهم عقابا مؤبدا، وإنما لن يخرجــــوا منـــه بجهودهم الذاتية.وبالنسبة للجزاء والعقاب فهناك بون شاسع بين المؤمنين والكافرين.فالجنــــة حـــــق للمؤمنين كما قال الله تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) (التوبة: (۱۱۱)..كأن هذه صفقة تمت بين الله جل جلاله وبين المؤمنين.

Page 384

الجزء الثاني صحيح أنه ۳۸۱ سورة البقرة ناحية المبدأ لا يمكن أن يكون لأحد حق على الله، ولكن إذا قال الله من إنه حق علي فلا بد أن يعتبر ذلك حقا للعبد على الله.أما الكفار فيقول الله إنهم عندما لا يستطيعون الصبر على عذاب جهنم ويطلبون الخروج منه لن يستطيعوا ذلك.والباء في العربية تفيد التأكيد، فالمراد من قوله تعالى (وما هم بخارجين مـــــن النار أنهم لن يتمكنوا من الخروج من جهنم بجهودهم الشخصية أبدًا.نعم، الله إخراجهم، فإنه يخرجهم منها كما ورد في الحديث النبوي: يأتي على جهنم يوم ليس فيها من بني آدم أحد ، تخفق أبوابها (كتر العمال، كتاب القيامة).يريد عندما يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٩) شرح الكلمات : طيبا - من طاب يطيب الطيب: الحلال.يقال: مال طيب أي حلال (الأقرب).الطيب ما تستلذه الحواس والنفس (المفردات).فالآية تعني: كُلوا ما هــو حــلال شرعا وما هو لذيذ أيضا.خطوات-طرق وسبل، ومفردها خطوة..وهي ما بين القدمين مـــن المسافة (الأقرب).التفسير: بداية من هذه الآية تناول الله بيان الجانب الثاني من النبأ الإبراهيم (يعلمهم الكتاب والحكمة)، أي أن ذلك النبي سوف يوقفهم على أسرار الشريعة.فتناول القرآن الكريم أولا أكل- الحلال والطيب لأن أعمال الإنسان تابعة للحالة الذهنية، وهذه تتأثر بالغذاء.وقوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا)..يعنى لا تكتفوا بالنظر هل ما تأكلونه حلال أم لا، بل يجب أن تروا أهو طيب أم لا.فإذا كان أكل شيء لا يناسبكم..سواء لأنه مضر بصحتكم، أو لم تتعودوا على أكله بسبب ظــروف بيئتكم، أو أن طبعكم لا يميل إلى أكله..فلا تأكلوه لمجرد أن الشريعة أحلته.لا

Page 385

۳۸۲ سورة البقرة الجزء الثاني تنظروا إلى الحل والحرمة فقط، بل يجب أن تختاروا من الطعام ما يوافق طبعكم وأحوالكم وعاداتكم ولا يضركم.مثلا، إذ كان أحد مصابا بالزكام والسعال فإن أكل الأطعمة الحامضة قد يزيد مرضه، وإذا كان يعاني من الإسهال فلا يتناول الخبز واللحم، أو إذا كان مصابا في كبده فلا يأكل طعامــا يسبب الإمساك والغازات..فإن هذه المأكولات وإن كانت حلالا فهي ليست طيبة له مع هـذه الأمراض، لأنها سوف تضره.وقد جمع الله هنا الطيب والحلال لبيان أن من واجب المؤمن ألا يأكل الحلال فقط..بل الطيب أيضا..فلا يأكل ما يكون فاسدا ضـــــارا بالصحة، أو يسبب ثقلا لمن يأكل معه..أي يسبب نفورهم أو تقززهم.قوله تعالى (ولا) تتبعوا خطوات (الشيطان) أي لا تسيروا في الاتجاه الذي يسير فيه الشيطان، فهو عدوكم..يجب الابتعاد عنه.بعد الأكل والشرب ذكر الشيطان ليشير إلى أن الذي لا يأكل الحلال، ثم لا يختار الطيب من الحلال..فلا بد أن يتبع الشيطان، لأن ما يأكله الإنسان مــن غــذاء يتقوى به الجسم ويتأثر.والجسم الذي يتهيأ ويتأثر بالحرام الضار لا بد أن يدفع بالإنسان إلى الشر لا إلى الخير.إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (۱۷۰) شرح الكلمات: السوء كل ما يغُمُّ الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية ومن الأحوال النفسية والبدنية والخارجية (المفردات).الفحشاء- الفحشاء والفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب، وقيل: كل ما نهى الله عنه؛ والبخل في أداء الزكاة (الأقرب).الفُحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال (المفردات).التفسير: إن اتباع الإنسان خطوات الشيطان يوقعه في مختلف السيئات مثل سوء الظن والكذب والبغض والجهل والكسل والغفلة والجبن والكبر والديوثية (عدم

Page 386

۳۸۳ سورة البقرة الجزء الثاني الغيرة وفقدان (الحياء والكفران وغيرها، وكل هذه المعاصى يتضرر بمــا الإنسان نفسه، وقد أشير إليها بكلمة السوء.وإذا لم يصلح الإنسان نفسه فإن الشيطان يدفعه إلى ارتكاب الفحشاء..أي المعاصي التي يتضرر بها الآخرون مثل الخيانة والاتهام والظلم والخداع والقتل والسرقة والضرب والسب والشتم ومساندة الباطل والرشوة وغيرها، وكلها جرائم تتعلق بالآخرين وتصيبهم بالأضرار.وعندما يزداد في المعاصي والسيئات فإن الشيطان يدفعه لمبارزة الله تعالى أو يسلبه الحياء فيرتكب السيئات أمام الناس بلا خجل؛ ويفتح فاه طعنــا في أوامر الله؛ أو يفتري على الله.فكأن الشيطان يدفعه أولا إلى ارتكاب ما يضر به نفسه إلى أن يقل فيه الحيـــاء، فيدفعه إلى ارتكاب شرور يتضرر بها الآخرون، ثم يزيده سوءا، فيتلفظ بما يُعتبر انتهاكا صارخا لحرمة الله تعالى وسخرية بتعاليمه ودينه..وهكذا يدفعه إلى جهنم بالتدريج.إن الشيطان لا يدفع الإنسان إلى ارتكاب الكبائر مرة واحدة، بل تكون وساوسه خطوة خطوة..فأولا يحضه على ارتكاب خطية صغيرة، ثم يأمره بعـــدم الحياء، ثم يدفعه للافتراء على الله..فكأنه يبدأ مع الإنسان بالصغائر وينتهي به إلى الكبائر.وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (۱۷۱) التفسير: لقد بين هنا أن من نتائج اتباع الشيطان أنه إذا قيل لمن يتبعونه: أطيعــــوا الله، يصابون في عقولهم لدرجة أنهم يقولون: بل سنتبع ما كان عليه آباؤنا.عندما بعث النبي ﷺ عارضه أهل مكة معارضة شديدة.لماذا؟ لأنهم قالوا: أنترك الدين الذي كان عليه آباؤنا؟ وكأنهم لم يكونوا ينظرون إلى الحسن الذاتي في الشيء وإنما

Page 387

الجزء الثاني ٣٨٤ سورة البقرة كانوا ينظرون إلى الحُسن العُرفي الموروث.ومع أن هذه الأمور كانت جهالة إلا أنهم ضحوا لأجلها بأموالهم وعزهم وأهليهم لتبقى لهم هذه الأشياء من آبائهم.ورد الله على ذلك: (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون..هل تتبعونهم وإن كانوا أغبياء جهلاء؟ إن آباءكم هلكوا بسبب جهلهم وغبائهم، فهل تريدون أيضا الهلاك باتباع خطواتهم؟ نفس هذا العائق يحول دون انضمام الناس إلى جماعتنا في أغلب الأحيان.يقولون: هل نترك ما كان الناس يتبعونه لقرون؟ هذا صعب جدا.فهذه الآية تقدم أكبر ما يثيره معارضو الإسلام من اعتراض: لن نتبع إلا ما وجدنا عليه آباءنا.وليس المراد من (قالوا) أنهم بالضرورة يقولون هذا بلسانهم، وإنما هناك من لا يتلفظون بهذا القول، ولكنهم مستمرون في الرفض للسبب نفسه.فالقول ورد هنا مجازا كما ورد في العربية : امتلأ الحوض وقال قطني (الأقرب)..أي قــــال بلسان الحال قد اكتفيت كذلك هناك من بلسان حالهم يقولون بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا.هي يقول الله : إذا كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون..فهل يستمرون في اتباعهم.يتبع الإنسان غيره لسببين إما أن يكون عاقلا جدا.أو نال الهدى من الله تعالى.فهل يتبعه رغم انعدام الأمرين فيه ؟ إن تعاليم آبائكم ينقصها الأمرين، فلا تصمد للعقل، ولا تؤيدها شهادة السماء.والعجيب أن الناس لا يختلفون مع آبائهم في أمور الدين، ولكنهم في الأمـــور الدنيوية يختلفون معهم.هناك آلاف الأمثلة لذلك..حيث لا يتبع الأبناء آباءهم في أمور الدنيا، وإنما ينظرون إلى مصلحتهم ومنفعتهم.كل يوم يركبون القطار ولا يقولون إن آباءنا كانوا يركبون الحمير..فلماذا نركب القطار ؟ كما لا يتبعون الآباء في الأمور العقلية والمنطقية والعلمية..وإنما يستفيدون بنور العلوم الجديدة ويتبعونها.ولكن فيما يتعلق بالدين فيعتبرون آباءهم عقلاء نوابغ، وهكذا يناقضون أنفسهم بأنفسهم.وعندما تُقدّم لهم مثل هذه الأدلة الواضحة الجلية لا يلقون لهـا بالا ويعرضون عن الحق.

Page 388

الجزء الثاني ٣٨٥ سورة البقرة وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَندَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (۱۷۲) شرح الكلمات: ينعق نَعَق الراعي بغنمه : صاح بها وزجرها.نعق الغراب: صاح.نعق المؤذن: رفع صوته بالآذان (الأقرب).نداء النداء: رفع الصوت وظهوره (المفردات).صم - جمع أصمّ، ومن معانيه الرجل الذي لا يُطمع فيه (الأقرب).التفسير في هذه الآية تمثيل وتشبيه مركب حذف فيه المضاف وتقديره (ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق).فالرسول الله هو الداعي للكفار، ومثله كمثل الراعي يصيح بغنمه لتأتي إليه، ولكنها لا تسمح ولا تفهم من صوته إلا النداء.كأن هؤلاء الكفار يسمعون دعوة محمد صباح مساء، ويتلى عليهم وح الله في كل حين..يدعوهم إلى الصلاح والتقوى وخشية الله، ولكنهم يسمعون الكلمات كالحيوانات ويصل الصوت إلى آذانهم دون أن يدركوا حقيقته، فلا ينفكون يسيرون سيرتهم الأولى.28 وهنا ينشأ سؤال: هل من الضروري أن يتم التطابق الكلي بين المشبه والمشبه به؟...وهو غير موجود هنا والجواب أنه ليس ضروريا أن يكون في التمثيل المركب تطابق تام بين أجزاء المشبه والمشبه به، وإنما يكفي لصحته أن يكون هناك مشابهة خاصة في أمر بين المشبه والمشبه به وهذا ما قاله سيبويه (إملاء ما مَنَّ به الرحمن، تحت هذه الآية..وهناك سؤال آخر: إذا كان مثال الكفار كمثال الغنم فإن الغــنـم تـسمـع نـــداء الراعي، والكفار يسمعون نداء النبي..فلماذا سماهم صنا؟ الجواب: ليس المراد أنهم صمّ في الظاهر، وإنما هم صمّ من الناحية المعنوية، أي أنهم لا يستطيعون سماع الحق.وكلمة (بكم عمي) أيضا توضح هذا المعنى..فإنهم بكم أي لا يستطيعون قول الحق، وعُمْي أي لا يستطيعون رؤية الحق، وهم بالمثل صـــم

Page 389

٣٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني أي لا يستطيعون سماع الحق.فكأنهم يسمعون الصوت ولكنهم لا يدركون حقيقته، ولا يحدثون بحسب ذلك تغيرا في أنفسهم.يسمعون الكلمات فقط ولا يفهمون الحقيقة، وعدم فهم الحقيقة لا ينفي سماعهم الدعاء والنداء.منهم نفع ولا فائدة.وهذا وهناك معنى آخر وهو أن (صم) هنا بمعنى من لا يُرجى المعنى موجود وثابت لغة، كما ورد "الأصم": الرجل الذي لا يُطمع فيه.والمعنى الثاني للآية أن مثل الكفار كمثل الحيوانات التي يدعوها داع، فتجري إليـه بسماع صوته دون أن تدرك المراد من صوته.فهم يتبعون بعضهم البعض اتباع الغنم دون تدبر في دعوة الداعي أهي نافعة لهم أم ضارة.ينظرون فقــط إلى زعيمهم أو رئيسهم أو قبيلتهم، وبعد ذلك يُغلقون كل باب للتعقل والتدبر مقلدين تقليدا أعمى.وكأن عندهم الآذان، ولكنهم لا يدركون ما إذا كان ما يدعون إليه مكان هلاك ودمار أم مكان أمن وسلام.لهم وعندهم الألسن، ولكنها فقــــدت الجرأة على قول الحق.ولهم العيون، ولكنهم لا يبصرون بها طريق السلامة والأمن.المعنى الثالث للآية أن مثل هؤلاء الكفار كمثل الذي يصرخ ويصيح ويدعو الأصنام لنصرته، ويكون صراخه إما بالدعاء أو النداء.والدعاء ما يسمع من الصوت أو لا يسمع، والنداء ما يسمع.يقول الله إن الأصنام التي يدعونها لنصرتهم لا تسمع دعاءهم ولا نداءهم، وكـأن عمل هؤلاء الكفار هو مواصلة الدعاء والنداء..وإلا فإن ما يدعونه لا يسمع لهم دعاء ولا نداء؛ فلا فائدة هناك من دعائهم.وفي هذه الصورة تعتبر (إلا) زائدة..وتقدير الجملة: ينعق دعاء ونداء بما لا يسمع..أي أن هذه الأصنام لا تسمع مطلقا..ولكنهم لا ينفكون يدعونها وينادونها.وبالنظر إلى هذا المعنى ينشأ سؤال: إذا كانوا يصرخون فكيف قيل إنهـــم بكــم؟ والجواب أنهم بكم بمعنى أنهم لا يعترفون بالحقيقة والدليل على ذلك كلمتا (صم وعمي) فكما يعني الصم من يغلقون آذانهم عن سماع الحق والعمي من لا يبصرون الحق، كذلك البكم يعني أنهم من الناحية الروحانية بكم، ولا يستطيعون قول الحق

Page 390

الجزء الثاني ۳۸۷ سورة البقرة علنا.لو كانت كلمة "بكم" وحدها لصح الاعتراض، ولكن كلمتي "صم وعمي توضحان المعنى الصحيح.الترتيب والربط : " وعلاقة هذه الآية بالتي قبلها هي أن الأولى تقول وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا..فكأن دعوة محمد إيــاهـم كــدعوة أحــد الحيوانات.إنهم يسمعون الصوت ولا يرون ضرورة تلبية هذا النداء، وإنما يتبعــــون آباءهم باستمرار.وهذا بناء على المعنى الأول للآية.وبناء على المعنى الثاني للآية تكون علاقتها بالتي قبلها أن الله قال في الأولى (أولــــو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون..أي أنكم تتباهون باتباع آبائكم ولكنهم ما زالوا يصيحون ويصرخون أمام الأصنام و لم تجدهم شيئا.فإصراركم بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا كمثل الذي ينادي الأصنام ولكن لا يجديه نداؤه نفعا ولا يتلقى جوابا..فنداؤكم وصراخكم أمام أصنامكم اتباعا للآباء لن ينفعكم أبدا.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (۱۷۳) التفسير: كما سبق أن ذكرنا فإن الشريعة الإسلامية لا تأمر بأكل الحلال فقط، بل بأكل ما هو طيب منه.كذلك فإنه لم يضع إزاء الحلال حراما، بل اعتبر بعض الأشياء مكروهــة، وكــــره للمؤمنين استخدامها.وكأن هناك أربعة مدارج يجب اعتبارها أولها الطيـ والثاني ،الحلال والثالث الحرام والرابع المكروه.يرتقي من الحــلال إلى الطيب، وينحط من الحرام إلى المكروه.فهذه ميزة تميز الإسلام عن سائر الديانات، فهـــى عن الحلال والحرام فقط، ولكن الإسلام فضلا عن بيان الحلال والحرام – يذكر أن هناك أشياء طيبة وأخرى كريهة، ويبين ما هي التي تحل في بعض الأحوال وإن كانت حرامًا، وما هي التي تحرم في بعض الأحوال وإن كانت حلالا.وهكذا تحدثت

Page 391

۳۸۸ سورة البقرة الجزء الثاني يفتح بابا لطيفا للتمييز بين الإثم والسيئة.فمثلا شريعتنا تنهى عن إيذاء الآخرين.فلو تناول أحد ما هو حلال ولكن يسبب أذى للآخرين أصبح تناوله حراما.كما قال النبي الله من أكل من هذه الشجرة يعني الثوم فلا يأتين المساجد) (مسلم، كتاب المساجد).وفي حديث آخر بين النبي ﷺ سبب ذلك فقال (إن الملائكـــة تتأذى مما تتأذى منه (الإنس (المرجع السابق.تبين من ذلك أن الثوم وإن كان أكله حلالا إلا أن النبي ﷺ نهى عن أكل الثوم والبصل وما يشبههما عند الذهاب إلى المساجد..حتى أنه نهى أكله من أداء الصلاة في المسجد.وطبعا لن يترك الصلاة بحال، وإذا لم يصلها في المسجد فليصلها في البيت، ولكن مخافة أن يؤذي الآخرين أمره النبي بالامتناع عن العبادات الاجتماعية.فمن ميزات الإسلام الكبرى التي لا يبارى فيها أنه علاوة على بيان مسائل الحــل والحرمة بين أن الحلال أدنى درجة بين المأكولات، وأن المكروه أدنى درجة مما هو محرم.فعلى المؤمن ألا ينظر إلى الحلال والحرام فقط، بل عليه أن يسلك سبلا دقيقة للتقوى، فيختار الطيب من بين الحلال ويبتعد عما هو مكروه منها.وهنا لم يذكر الله الحلال بل اكتفى بقوله (طيبات)، ذلك أن الله يخاطب هنا المؤمنين من الطراز الأول.أما قبله في قوله تعالى (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا..( فبما أن القرآن لا يخاطب الكفار في المسائل التفصيلية ولا يأمرهم فيها، فالمراد بالناس هناك المؤمنون العاديون المائلون إلى الأهواء الطبيعية، ونظرا لضعفهم قال (كلوا) مما في الأرض حلالا طيبا).فهؤلاء يمكن أن لا يحددوا أنفسهم بالطيبات فقط بل ينحصروا في دائرة الحل والحرمة ولا يتحملوا قيودا.أما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فخاطب المؤمنين مـــن الدرجة الأولى، ووصاهم أن يأكلوا الطيبات مما رزقهم.ولذلك قال في الآية الأولى أن نتيجة الامتثال لأمرنا هو اجتناب خطوات الشيطان أما هنا فقال لو أكلتم من طيبات ما رزقناكم وفقتم في أداء الشكر الله تعالى..أي توفقون للقيام بأعمـــال صالحة تجذب أرواحكم إلى عتبة الله تعالى كما صرح بذلك في موضع آخر: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (المؤمنون: ٥٢).

Page 392

۳۸۹ سورة البقرة الجزء الثاني كأن الإسلام يعترف بتأثير الغذاء على الأعمال والأخلاق الإنسانية اعترافا بينــــا وأمر المسلمين أن يضعوا هذا في الاعتبار دائما، فيُؤثروا أكل الطيبات حتى تعتدل أخلاقهم، فلا يُرى فيها أي اعوجاج.وعندما يقتصر الإنسان في طعامه وشـــرابه على الطيبات فقط..فلا عما نهي الله عنه فحسب، بل يوفق أيضا للقيــــام بالصالحات.فعلى المؤمن كامل الإيمان ألا يأكل كل حلال، بل عليه أن يهتم بأكل ما هو طيب منه.ينتهي ثم إن الله اكتفى هنا بقول (الطيبات)، لأن الحلال متضمن فيها.إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغِ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ١٧٤) شرح الكلمات: الميتة - ما لم تلحقه الذكاة والحيوان الذي يموت حتف أنفه (الأقرب).الدم - المراد هنا الدم المسفوح الذي يسيل عند الذبح، وليس ما بقي داخل الذبيحة.أُهل-مبني للمجهول من أَهل، يقال: أهل الهلال وأُهِلّ: ظهر وطلع.أهل القوم الهلال: رفعوا أصواتهم عند رؤيته أهل الصبي: رفع صوته بالبكاء.أهل الرجـــل: نظر إلى الهلال.أهل الشهرُ : ظهر هلاله أهل السيف بفلان: قطع فيه.أهـــل العطشان: رفع لسانه إلى لَهَاته ليجتمع له ريقه أهل الله السحاب: جعله ينهل أي المطر.أهل الشهر: رأى هلاله أهل الملبي: رفع صوته بالتلبية.يقال: أهل المخر بالحج والعمرة: لبى ورفع صوته.أهل فلان بذكر الله : رفع صوته به عند نعمــــة أو رؤية شيء يعجبه أهل بالتسمية على الذبيحة "قال باسم الله".وما أُهل به لغـــير الله: ما نودي عليه بغير اسم الله عند ذبحه (الأقرب).باغ - اسم فاعل من بغى يبغي البغي الظلم الجرم والجناية؛ العصيان؛ كل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء.والباغي: الطالب؛ الظالم؛ العاصي والناس (الأقرب).الله

Page 393

الجزء الثاني ۳۹۰ سورة البقرة عاد العادي الذي يتجاوز الحدود أي أنه يفرط أو يقصر عن العمل بالقانون تحت (الأقرب).إثم المراد هنا العقوبة..لأنهم في بعض الأحيان يستخدمون السبب مكان المسبب والإثم هو سبب العقوبة لذلك ذكروه والإثم ؛ الذنب (اللسان).التفسير: يجب أن نتذكر أن ما نهى الله عنه في الشرع الإسلامي هو على قسمين: الأول حرام والثاني ممنوع أو منهي عنه.وكلمة الحرام لغة تشمل النوعين، ولكـــــن القرآن في هذه الآية إنما حرم أربعة أشياء: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.وهناك أشياء أخرى نهت الشريعة الإسلامية عن تناولها..وهي تندرج الممنوعات ولا تندرج تحت الحرام بالاصطلاح القرآني فقد روي عن ابن عبـاس قال " (نهى رسول الله ﷺ عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) (مسلم، کتاب (الصيد وهناك رواية أخرى تقول نهى عن لحوم الحمر الإنسية (المرجع السابق.وهذه المنهيات لا تتعارض مع آيتنا الحالية وغيرها من الآيات، فكما أن الأوامر على أنواع: بعضها فرض، وبعضها واجب، وبعضها سُنة، كذلك المناهي على أنواع: هناك المحرمات والممنوعات والتنزيهات.فهناك أربعة أشياء محرمة.أما الباقية فهي ممنوعة.وأما التي تندرج تحت المنع التنزيهي وينبغي علـى الإنسان تجنبها فهي أكثر من ذلك.والنسبة بين الحرام والممنــوع كالنسبة بـيـن الفرض والواجب.فالأشياء التي حرَّمها القرآن حرمتها أشد نسبيا مما حرمه الرسول وكما بينت من قبل فإن مثالها في الأوامر كمثال الفرض والواجب والسنة؛ فالحرام بإزاء الفرض، والممنوع بإزاء الواجب.وكما أن هناك فرقا بـيـن الفـــرض والواجب فيما يتعلق بالعقوبة إذا تركه أحد، كذلك فإن عقوبة تناول شيء مما نهى عنه القرآن أشد من عقوبة تناول شيء مما نهى عنه الرسول.ولكن كلاً من الجريمتين قابل للمؤاخذة، جالب لسخط الله في كل حال.إن تناول أو ارتكاب الحرام يؤثر في إيمان الإنسان ولا بد أن تكون نتيجته سيئة، ولكن تناول أو ارتكاب المناهي الأخرى لا يؤدي بالضرورة إلى الإثم وعدم الإيمان هناك العديد من الفرق

Page 394

۳۹۱ سورة البقرة الجزء الثاني المسلمة كالمالكية مثلا - يأكلون هذه الأشياء بتأويلات مختلفة، ولكن هذا لا يؤثر في إيمانهم، بل لقد وُجد بينهم في الماضي كثير من الأولياء..ولكنكم لن تجدوا بين من يأكل لحم الخنزير والميتة أحدا من أولياء الله تعالى.فهناك مدارج للحرمة وعلاوة على هذه المحرمات القرآنية الأربعة هناك ممنوعات تندرج تحت اصطلاح الحرام أيضا هذه الحرمة من حيث اللغة ويندرج تحتها كل ما يُنهى عنه ويسمى حراما..كالأشياء التي نهى عنها الرسول.ولكن من حيث الاصطلاح القرآني هناك أربعة أشياء فقط محرمة.وقد نهى الله هنا عن أكل الميتة، لأن دماء الميتة تحتوي على العديد من السموم.ويغلب الظن في الميتة أنها ماتت بسبب المرض أو التسمم بمادة سامة أو بلسع حيوان سام، أو لبلوغها أرذل العمر، وفي هذه الأحوال كلها لا يصلح لحمها للأكل.أما الحيوان الذي مات بسبب السقوط أو حادث آخر..فالقاعدة أن الصدمة الشديدة تؤثر في الدم على الفور وتسممه.فلا يصلح للأكل من اللحوم في الحقيقة إلا مــا يكون من حيوان مذبوح..أما غير ذلك فلا بد أن يكون له تأثير سيئ.وهـذه ليست بأمور وهمية بل لقد أثبت الطب الحديث أن كل حيوان مات لتقدمه في العمر أو بصدمة شديدة أو بمرض..فإن أنواع الجراثيم والديدان تتولد في دمائــــه.فقد جاء في كتاب Text Book of Medical jurisprudence and Toxicology المعروف في الطب أن الجراثيم تتولد بسرعة في لحم الميت وتنشأ عنها سموم يُطلق عليها السموم الجيفية أو الجيفين وهذه السموم مهلكــــة جــدا "I ptomaines or Cadaverice و تأثيرها كتأثير جوز القيء Alkaloides" والأتـ روبين (ص ۱۱۷ ، ١٣٤ ، ٤٥٢ ، ٤٩١ ، ٦١٩، ٦٢٠ من الكتاب).كذلك يحتوي الدم على العديد من السموم الضارة بالصحة.يقول علمـاء الفسيولوجي إن الدم في الجسم الإنساني بمثابة بركة فيها الكثير مـــن الــسمك والضفادع والديدان التي تتغذى منها وتلقي فضلاتها فيها، ولما كانت هذه الخلايـــا

Page 395

۳۹۲ سورة البقرة الجزء الثاني الهائلة العدد كلها تسبح فيها وتفسدها..كان من وظائف الدم أن يأخذ هذه المواد الفاسدة إلى الأعضاء التي تقوم بتصفيتها.فالدم مليء بأنواع السموم والمواد الرديئة، وقد جعل الله في الجسم نظاما للتنقيـــة، ولكن الدم عندما يخرج من الجسم يصحب معه هذه السموم التي تبقى فيه، ويكون استخدامه ضارا جدا بالصحة.ولذلك يفسد الدم بعد بضع دقائق، بـل عنـدما يتعرض للهواء تنمو فيه الميكروبات بسرعة.ولذلك فإن اللحم الذي يغسل منه الدم يبقى مدة أطول من اللحم الملطخ بالدم وهذا يبين التأثير الضار للدم.أما لحم الخنزير فيؤثر على جسم الإنسان وأخلاقه تأثيرًا سيئا جدا.إنه يؤثر في الجسم تأثيرا سلبيا لأنه يبقى في الوسخ والوحل، ويميل إلى الرغبات الفاسدة، وهذا يصيب لحمه بأنواع الأمراض.يقول جوناتان نيكولسن Jonathan Nicholson في كتابه ( لحم الخنزير Swine Flesh إنه لدليل رائع ضد الخترير عندما نقول إن الدودة الشريطية والاسكورفولا والسرطان والتريكينا غـــير معروفة بين اليهود الملتزمين اللذين لا يمسون لحم الخنزير أبدا.وإذا لم نسلم بقوله هذا، فمما لا يحوم حوله الشك أن هذه الأمراض توجد في الأمم التي تأكل الخنزير أكثر.هناك مرض مهلك يتولد من أكل لحم الخنزير وهـو الدودة الشعرية Trichinosis ، وتظهر في المريض بسببه أولا علامات الكوليرا، ثم يصاب بالحمى، ثم يتوجع جسمه، وأخيرا يصاب بالالتهاب الرئوي.وقد جاء في الكتاب المذكور آنفا(Medical jurisprudence أنه لا علاج لهذا المرض.ومن لحم الخنزير تتولد في الأمعاء ديدان شريطية وتبقى في الجسم لسنين وقد كتب Dr.F.Butler MP.FRCP في كتابه ( Practice Of Medecine) أن الخترير يصاب بهذا المرض بسبب أكله للبراز.ولكن ما هو أفتك وأخطر، بل الباعث الحقيقي لحرمته..هو ما يصيب الأخــــلاق من مفاسد بأكل لحمه.إن الخنزير هو الوحيد بين جميع الحيوانات الذي ترتكب ذكوره اللواط فيما بينها.والذين يتعودون على أكل لحمه يضعف عندهم الحيـــاء ويتصفون بالديوثية.كما أنه حيوان غير شجاع، وإنما متهور طـائش..عنـدما

Page 396

۳۹۳ سورة البقرة الجزء الثاني يغضب لا يرى يمينا ولا شمالا..وإنما يهاجم رأسا.وبسبب هذه العــادة يصيده الصيادون بسهولة وبسرعة فعندما يُطلق عليه الرصاص فإنه يغضب ويندفع إلى الصياد رأسا ليهاجمه..فيقع صيدا سهلا.كما أن الأمم التي تأكل لحم الخنزير لا تتصف بالشجاعة بل تكون متهورة.ولقد كتب سيدنا الإمام المهدي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية في كتابـه الشهير (فلسفة الأصول (الإسلامية حول حرمة لحم الخنزير فقال: (ههنا نكتة جديرة بالذكر وهي أن الله حرم لحم الخنزير وقد ضمن اسمه الإشارة إلى تحريمه منذ البداية، فلفظ خترير مركب من كلمتين خنز ومعناها فاسد جدا و"أر" أي أرى، فيكون المعنى المركب (أراه فاسدا جدا).فحتى الاسم الذي أطلقه الله على هذا الحيوان منذ الابتداء يدل على خبثه.ومن الاتفاق العجيب أن اسمه في الهندية سؤر وهذا أيضا مركب من كلمتين: سوء و"أر" أي أراه سوءا.وأما معنى الاسم فاسد جدا فهو لا يحتاج للشرح.منذا الذي لا يدري أن هـذا الحيوان أشد حرصا على أكل النجاسات وأنه فوق ذلك عديم الغيرة ديوث؟ والعلة في تحريمه ظاهرة من أن قانون الفطرة يقضي بأنه لا يكون تأثير لحــــم هــذا الحيوان النجس الخبيث في الجسم والروح إلا خبيثا.وقد أثبتنــا فيمــا مــضـى أن الأغذية تفعل فعلها لا محالة في جسم الإنسان.فهل من شك في أن تـأثير هـذا الخبيث يكون خبيثا؟ كما أكد الأطباء اليونانيون ذلك قبل الإسلام..إذ يرون أن لحم هذا الحيوان يقلل من الحياء ويزيد الديوثية على وجه الخصوص) (فلسفة الأصول الإسلامية، الخزائن الروحانية شرح الكلمات: ۱۰ص۳۳۸).والشيء الرابع الذي حرمه هو ما يُذبح إشراكًا بالله تعالى، وما يضحي به استرضاء لذوات وشخصيات غير الله تعالى.ولما كان هذا العمل انتهاكا لعظمة الله وقداسته إذ يخلعون صفاته على ذوات أخرى، فتناول مثل هذا الطعام واللحم يجعل الإنسان عديم الغيرة.والحق أن تناوله دلالة على عدم الطهارة القلبية وقلة الغيرة..لذلك حرمه الإسلام.وهذه الحرمة ليست بسبب مضاره الطبيعية وإنما لمضاره الدينية، لأن الذي يأكل لحم مثل هذه الذبائح لغير اسم الله فإنه يثبت بأكله أنه لا يحب أبــــدا

Page 397

٣٩٤ سورة البقرة الجزء الثاني توحيد الله إنه يدعي حب الله في الظاهر ، ولكنه في باطنه قد أخفى العديــد مـــن الأصنام التي يعبدها.فأكله هذا اللحم ينجس قلبه ويشبهه بالمشركين.يعترض المسيحيون أن القرآن قد حرّم هذه الأشياء مقلدا التوراة (تفسير القرآن لويري، البقرة ١٧٥).ولكن قولهم هذا باطل، لأن هناك العديد من الأشياء التي حرمتها التوراة ولكن القرآن لم يحرمها..مثلا: حُرِّم لحم البعير في التوراة (الأحبار٤ : ١١)، ولكن الإسلام أجاز أكل لحمه.ولو قالوا إنه لم يحرم من أجــ العرب، قلت إن التوراة حرمت الأرنب المرجع نفسه: (٦)، ولكن الإسلام أباح أكله.فإذا ادعوا أن البعير أحل من أجل العرب فلماذا أحل الأرنب؟ ثم لو كانت هذه الأوامر القرآنية تقليدا للتوراة للزم أن يورد القرآن كل الأوامر التوراتية، ولكنه ترك العديد منها فمثلا ورد في التوراة أن من يأكل الميتة فعقوبته أن يصبح نجسا وتبقى ثيابه نجسة إلى المساء الأحبار ۱۱: ٣٩-٤٠)، ولكن القرآن لم يذكر هذا الأمر الذي هو في الحقيقة لغو.فالقول بأن القرآن حرم أشياء تقليــــدا للتوراة خلاف للأمر الواقع.ثم إن التوراة لم تذكر أي سبب أو حكمة للتحريم، ولكن القرآن بين سبب الحرمة، فقد جاء فيه: (قل لا أجد فيما أُوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس، أو فسقًا أُهل لغير الله بــه.فمـــن اضطر غير باغ ولا عادٍ فإن ربك غفور رحيم) (الأنعام: ١٤٦).قوله تعالى (فـــإن ربك غفور رحيم) يعني أن هذا المضطر إذا أكل منه فإن الله تعالى سوف يحميه من التأثير السيئ لما أكل.ولقد بين الله هنا أن حرمة الميتة والدم المسفوح ولحم الخترير ترجع إلى كونها ضارة..لأن الرجس تعني النجس والعذاب..فالمراد أن هذه الأشياء نجسة أو مؤذية للإنسان روحانيا وبدنيا.ولقد تناول الله ذكر الحلال والحرام في سورة المائدة (٤) وفي سورة النحل (١١٦) وذكر هنالك كل هذه الأشياء نفسها، إلا أنه شرح الميتة في سورة المائدة وقال إن الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع أيضا تندرج تحت حكم الميتة.

Page 398

٣٩٥ سورة البقرة الجزء الثاني وتناول ما أهل لغير الله به على حدة، لأنه..وإن كان لا يضر ضررا ظاهريا..يضر روحانيا، ويؤدي أكله بالإنسان إلى الإباحية واللادينية، فتنقطع صلته بالله.فالتوراة قد حرمت بعض الأشياء بدون ذكر الحكمة وراء تحريمها، ولكن القرآن حرمها مع ذكر حكمتها.فليس صحيحا أن القرآن الكريم نقل بعض مسائل الحل والحرمة من التوراة.قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد أول شرط للاستثناء هو أن يكون الأكل مضطرا والاضطرار يعني أن يُكره الشخص على عمل شيء لا يحبه أو يضره.وهذا الإضرار على نوعين: الأول التهديد الخارجي، والثاني التحريض الداخلي..مثل هيجان العواطف أو متطلبات الطبع (المفردات).والشرط الثاني ألا يكون باغيا متمردا مخالفا للقانون.والشرط الثالث ألا يكون متعودا على تجاوز الحدود والبغي أن يكون مثلا في زيارة صديق مسيحي ويطلب طعاما، فيقدم له لحم الخنزير، فيشرع في تناوله بدون تردد.هذا هو البغي والعصيان إنما يجوز أكل لحم الخنزير للمرء فقط عندما يكون في صراع بين الموت والحياة، ولا يجد شيئا للأكل إلا لحمه.فاستخدام لحـــــم الخترير عندئذ يعتبر أقل ضررا من عدم استخدامه.ولكنه أضاف قوله ولا عاد لبيان أنه ليس مسموحا أبدا للمضطر أن يتناول هذا اللحم ملء البطن..وإنما مسموح له أن يتناول منه ما يسد رمقه وتستمر به حياته.ولو أنه راعى هذه الحدود فلا إثم عليه.أما إذا فكر في نفسه: لقـد أتيحـــت لي الفرصة لأكل لحم الخترير لأول مرة فلاشبع فهذا غير جائز.يجب أن يكون الاضطرار حقيقيا وليس وهميا.منه..وقوله تعالى (إن الله غفور رحيم يثير سؤلا ما دام تناول هذه الأشياء في الحالة الاضطرارية ليس إثما..فلماذا قال (إن الله غفور رحيم) ؟ وإذا كان تناولها في هذا الحال إثما..فما معنى قوله (فلا إثم عليه ؟

Page 399

٣٩٦ سورة البقرة الجزء الثاني يتبين من الآيات القرآنية الأخرى أن ما يرتكبه الإنسان من تقصيرات إنما يرتكبها وبالا على أعمال سيئة سابقة خفية عن أنظاره.ولما كان الله تعالى يذكر هنا أولئك الذين أبيح لهم تناول لحم الخترير وغيره في حالة اضطرارية..لذلك قال (إن الله غفور رحيم)..تنبيها لهم إلى أن وقوعكم في هذه الحالة الاضطرارية دليل علــى أنكم لستم حائزين على مقام سام من التقوى، وإلا لأنقذكم الله من هذه الورطة، وهياً لكم الرزق من الغيب بصورة أخرى.ولقد خلا في الأمة المحمدية إلى اليوم مئات الآلاف من أولياء الله..ولا يمكن إثبات أن أحدا منها وإن لم يكــن مـــن کبار هم تعرض الجوع أو فاقة ألجأته لأكل الميتة أو لحم الخنزير.وإذا لم يكن الأمر كذلك، فليدرك هذا المضطر أنه لا بد قد ارتكب في حياته السابقة من الذنوب والتقصيرات ما كان وباله أن رأى هذا اليوم المشئوم الذي اضطر فيه إلى أكل لحم الخنزير..رغم ادعائه الإيمان والانتساب إلى أمة محمد.صحيح أنه من المباح له في هذه الحالة لقيمات من لحم الخنزير أو الميتة حتى ينجو من الموت، ولكن ما دام قد وصل إلى هذه الحالة وبالا على بعض أعماله السيئة الخفية، لذلك عليه أن يراقب أعماله ويحاسب نفسه، ويُسيل دموع الندامة على تقصيراته، ويتوب إلى الله ويستغفره، ويستمر في الابتهال ليغفر له خطاياه ويستره في رداء مغفرته.ولو أنــه فعل ذلك بصدق قلب فإن الله غفور رحيم..وسوف يجده كذلك، وسوف يحفظه من الوقوع في هذه الحالة الاضطرارية.هناك حادث وقع لأحد الصحابة، فقد أسره العدو في الحرب وأخذه إلى قيصر، فأراد قيصر ،قتله، ولكن الحاشية أشارت عليه بعدم قتله، لأن المسلمين أيضا لا يقتلون أسراهم ولو علم عمر -رضي الله عنه أن أحدا من أصحابه قتل أسيرا له انتقاما شديدا.فقال قيصر : أريد أن أعاقبه عقابا يكون عبرة للآخرين.فأشاروا عليه أن يطعموا الصحابي لحم خترير.فجوعوه عدة أيام، ثم قدموا له لحم خترير، فرفض تناوله بكل شدة وبينما كانوا يكرهونه على تناوله أصيب قيصر في رأسه بصداع شديد لم يستطيعوا علاجه منه.فقالت له الحاشية: ربما كـــان هـذا الوجع بسبب إيذاء الأسير، فقرروا أن يكتبوا لخليفة المسلمين يسألونه الدعاء كـــــي لانتقم

Page 400

۳۹۷ سورة البقرة الجزء الثاني يُشفى.ولما كان من غير اللائق بهم أن يضطهدوا مسلما أسيرا عندهم بينما كانوا يسألون الدعاء من الخليفة..فاضطروا لتقديم الطعام المناسب له.فأقوياء الإيمان لا يضعهم في موقف يضطرهم لتناول طعام حرام، وإنما يهيئ لهم الأسباب من عنده لكل خير وبركة.والجواب الثاني عن سبب ورود قوله تعالى (إن الله غفور رحيم) أن الإنسان إذا تناول هذا الطعام لحالة اضطرارية قصوى فإن تأثيراته السامة التي بسببها حرمتــــه الشريعة لا تزال تشكل خطرا عليه ولا يتم تلافيها إلا إذا تمسك الإنسان برداء الإله الغفور الرحيم، سائلا إياه يا رب، لقد استفدت من رخصتك، وتناولـــــت الطعام السام إنقاذا لنفسي فارحمني بفضلك واحفظ روحي وجسمي من تأثيراتـــــه من أجل هذه الحكم اختتم الله الآية بقوله إن الله غفور رحيم)..لكيلا المهلكة.يطمئن الإنسان، بل يحاول تلافي الأمر ويطلب من الله الحماية من هذه التأثيرات.وربما نظرا لهذه الرخصة من الشريعة قال سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود إنــه لو تعسر الوضع على سيدة حامل، واضطرت لمساعدة من طبيب رجل، ولكنها رفضت وماتت في هذا الحال..فموتها يعتبر انتحارا كذلك لو أن الإنسان أشرف على الموت من شدة الجوع فأكل شيئا من لحم الخترير أو الميتة فلا إثم عليه.إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٥) التفسير : يقول الله تعالى إن الذين يخفون ما أنزلنا من تعليم عظيم في هذا الكتاب لهداية الناس ويكسبون بذلك منافع مادية فليدركوا أنهم إنما يُفرغون في بطونهم النار.بإيراد هذه الآية بعد بيان مسائل الحل والحرمة فورا..أشار الله إلى أنه كمـا كان حراما وإنما أكل الميتة والدم ولحم الخترير وما ذبح من الحيوانات لغير الله..كذلك تذكروا أن إخفاء ما أمر الله به ورسوله واعتبار الأموال والجاه والمناصب

Page 401

۳۹۸ سورة البقرة الجزء الثاني الدنيوية هدفا للحياة، والاعراض عن الله أيضا ليس بأقل شناعة وحرمة من أكل تلك المحرمات.فكما أنَّ أكل هذه حرام كذلك فإنّ تردّد الإنسان وخوفه من قول كلمة الحق مع وقوفه على مسائل الدين ،حرام، وإذا أدّى إظهار العقيدة وتبيان مــا قاله الله ورسوله والعمل به علنا إلى حرمانه من الوظيفة أو إلى كساد تجارته أو إلى قلة احترامه بين أصدقائه فحرام عليه أن يخشى ذلك.إن الذين ينافقون رغم العلم، ويؤثرون المنافع الدنيوية على مصالح الدين فليتذكروا أنهم يُفرغون في بطونهم النار.جاءت هنا كلمة (بطون) للتأكيد.وفي جملة في بطونهم إلا النار) إشارة إلى أن الله سوف يخلق عذابا من النار في بطونهم..أي أنهم يُعذبون بعذاب الباطن الذي هو أشد من عذاب الظاهر.وقد عبر عن هذا المعنى أحد الشعراء بقوله: دخول النار للمهجور خير لأن دخوله في النار أدنى من الهجر الذي هو يتقيه عذابا من دخول النار فيه لقد استخدم القرآن الكريم في هذه الآية نفس الأسلوب، ولم يقل إنهم يدخلون في النار، بل إن النار تدخل في بطونهم..بمعنى أنهم بأنفسهم يعدون جهنم باطنيـة، فاستخدم السبب هنا بدلا من المسبب.وفي قوله تعالى (ولا) يكلمهم الله يوم القيامة نكتة عظيمة الشأن..قد نسيها للأسف المسلمون في هذا الزمن.إن كلام الله مع الكفار يوم القيامة ثابت، وقد الله عدم ورد في القرآن الكريم في موضع آخر ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص: ٦٦)، فإذن إعراض عنهم وعدم حديثه معهم دليل على أنه ساخط وغاضب عليهم أشد الغضب لدرجة أنه لن يحدثهم حتى للزجر.وهذا يعنى أن كلام الله مع أحد علامة لسخطه عليه.ولكن مسلمي اليوم يقولون إن عدم كلام مع عباده نعمة عظيمة والعياذ بالله - نالتها الأمة المحمدية..بفيض المصطفى وبركته!! الحق أنه كان يجب أن يفتح الله باب هذه النعمة عليهم إلى أوســــع نطاق كدليل وعلامة على كونهم خير الأمم، فيتشرفوا بكلام الله وحديثه أكثر من السابقة، ولكنهم تمسكوا بأن هذه النقمة نعمة، وهذا البعد إنعام!! الله الأمم

Page 402

الجزء الثاني ۳۹۹ سورة البقرة وقد تعني هذه الآية أن الله تعالى لا يكلمهم كلام محبة، وهذا أسلوب عام في اللغات، وفي لغتنا أيضا يقال لن أحدثك..والمراد لن أحدثك كما يتحدث الأصدقاء).فالمعنى أن الله لن يحدثهم حديث مودة، وإنما يكلمهم كما يتكلم القاضي مع المذنب عند إصدار الحكم بعقوبته.وأيا كان المعنى..فعدم كـــــلام الله دليل على سخطه ولكن المسلمين بكل فخر يقولون إن الله أنعم على أمة محمد المصطفى بترك الكلام معهم والعياذ بالله..وقطع سلسلة الوحي والإلهام عنهم.قوله تعالى (ولا يزكيهم).لما كان الغرض من إلقاء الكفار في جهنم هو تزكيتهم وتطهيرهم بحسب تعليم الإسلام..فإن قوله ولا يزكيهم لا يعني أنه لا يطهرهم..وإنما يعني أن لن يبرئ ساحتهم ولن يعتبرهم أطهارا.الترتيب والربط: الخطاب في هذه الآيات موجه إلى المسلمين، وكذلك إلى اليهود.فقوله تعالى (إنما حرم عليكم الميتة) دحض لاعتراض اليهود: لماذا يُحَرِّم هذا النبي مــا لم يحرم في إذا كان حقا مصداقا لهذه الأنباء التوراتية؟ فيرد الله أن اعتراضهم شريعة موسى هذا ناشئ عن قلة تدبرهم وجهلهم بلا شك.إن الأوامر والأحكام المختصة بوقت معين لا يمكن أن تدوم ومثاله كمثال تحريم البعير على اليهود..ولكنه كان حلالا بالنسبة لإبراهيم.وكما أن بعض الأشياء كانت حلالا قبل موسى، وكان العديد من الأنبياء يتناولونها، ولكنها حرمت في زمنه..كذلك بعد الشريعة الموسوية أيضا يملك الله كل الخيار بأن يُحل ما كان يُعتبر من قبل حراما.أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الصَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٦) التفسير : تبين الآية أن الله تعالى لم يمارس أي جبر على الإنسان، وإنما خيّره تماما بين الخير والشر.ثم إنه ببعث الأنبياء قد أخبر الإنسان ما هي الهداية وما الضلالة،

Page 403

الجزء الثاني ٤٠ سورة البقرة فالإنسان مخيّر أن يستخدم عقله ويستفيد من كلام الله ويسلك طريق الهدى، أو يتبع الشيطان ويختار سبيل الضلال.وإذا فضل الإنسان طريق الضلالة فلا بد أن يتحمل النتائج الطبيعية لذلك في صورة عذاب الله تعالى.وهنا يبدي الله عَجَبَه على جسارتهم وعماهم فيقول : (فما أصبرَهم على النار).ما داموا قد فضلوا العذاب على المغفرة فما أغرَبَ جرأتهم على تحمل العذاب وهنا ينشأ سؤال: هل الله أيضا يبدي العجب؟ والجواب أن العجب في بعض الأحيان ليس بمعناه العام وإنما يستهدف إبراز شدة غبائهم..كأنه قال: هل هذا الشيء يليق بأن يصبروا عليه؟ فلا يعني قوله هذا أنهم صابرون فعلا على النار، وأن الله يُثني على صبرهم أو يتعجب منه..وإنما هذا تعريض بهم، وبيان أنهم أغبياء وأنهم سوف يصبرون على العذاب كثيرا؛ وليس أنهم في الحقيقة يصبرون عليه..لأن أتفه قدر من العذاب يفوق تحمل الإنسان.هذا إذا كانت "ما" تعجبية.أما إذا كانت "ما" استفهامية فالمعنى ما الذي جعلهم يصبرون على النار؟ وإذا كانت "ما " نافية فالمعنى: لا وفقهم الله للصبر على النار، بل عاقبهم وجعلهم يشعرون بحرقتها اللاذعة.ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (۱۷۷) شرح الكلمات : شقاق -شاقة خالفه وعاداه.وحقيقته أن كلاً منها في شق غير شق صاحبه (الأقرب).التفسير: يقول الله إن سبب وقوع العذاب بهم أنه جل وعلا قد أحــســن إلـيـهم بإحسان عظيم..إذ وهبهم شرعا يقوم كل حرف منه على الصدق والحق، ولكنهم لشدة عنادهم وعداوتهم رفضوه وأصبحوا كافرين برسالة الله.

Page 404

٤٠١ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى في شقاق بعيد يعني أنهم في العداوة البالغة التي لا تزول بسرعة وتبقى لمدة طويلة.لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَـــى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (۱۷۸) شرح الكلمات البر- الصلة؛ والطاعة والصدق (الأقرب).والبر التوسع في فعل الخير.بر العبـــد ربه توسع في طاعته فالبر من الله ثواب ومن العبد الطاعة (المفردات).البأساء - الشدة؛ اسم للحرب؛ المشقة؛ الضرب (الأقرب).الضراء الزمانة أي القحط ؛ الشدة؛ النقص في الأموال والأنفس؛ نقيض السراء والرخاء (الأقرب).البأس - الفقر؛ العذاب؛ الشدة في الحرب؛ القوة.وفي القرآن الكريم (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد..أي قوة شديدة (الأقرب).التفسير في هذه الآية ذكر الله الوجهة الإسلامية للبر والتقوى، وبين البر الحقيقي إذا تدبرنا بعمق وجدنا اختلافا كبيرا بين الناس فيما يتعلق بالبر والتقــــوى.لقــــد اختلف تعريف البر باختلاف الشعوب والأزمان والبلاد الفقراء لهم تعريفهم للبر، وللأثرياء تعريف آخر.أما من ناحية اختلاف البلاد..فهم في الهند مثلا يعتبرون الحاج رجلا صالحا بارا، حتى إنهم يؤثرون الحاج على شخص مواظب على الصلاة والصوم وسائر الأحكام الشرعية الأخرى..وإن كان هذا الحاج يقضي أوقاته أثناء رحلة الحج في الفضول ولغو الكلام، و لم يحدث أي تغير إيماني في نفسه بعد الحج؛ وإن لم يكن يبالي بالصوم والصلاة.

Page 405

الجزء الثاني ٤٠٢ سورة البقرة لقد كان سيدنا المهدي والمسيح الموعود يحكي أن امرأة عجوزا عميـــاء كانــت جالسة قرب محطة للقطار، فانتزع أحدهم رداءها، فلما انتبهت نادت: أيها الأخ الحاج، لماذا سرقت ردائي؟ ليس عندي غيره، ولسوف أموت في هذا البرد القارص.فرجع الرجل وردّ لها رداءها وسألها: كيف عرفت أني حاج؟ قالت: لا يقوم بمثل هذه الأعمال إلا الحجاج فهذه المرأة الكفيفة لم تكن تراه، ولكن عرفت أن هذه القسوة لا يقوم بها إلا الحجاج.ومع ذلك فإن الناس في بلادنـــا يعتبرون الحجاج أبرار صلحاء.ولكن في البلاد العربية لا يعتبرون الحج من أعمــال الــبر الكبيرة..بل يعتبرون الجود والسخاء هو البر الحقيقي.ولو مدحوا أحدا لقالوا إنــــه رجل صالح لأنه كريم جواد.ولو انتشر الإسلام في أوروبا فسوف يعتبرون الصوم برا عظيما..لأن هؤلاء يهتمون بالطعام ويأكلون بكثرة..وعندما يضطرون للإمساك عن الطعام صائمين فسوف يعتبرون الصوم برا كبيرا يفضل عندهم الحج والزكاة والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية.كذلك في بلادنا يعتبرون من الصلاح الكبير مواظبة الإنسان على الصلاة.يقولون إنه بار صالح لأنه يواظب على الصلاة، ولكن لم يكن أداء الصلاة والمواظبة عليهــــا وحدها معيارا عند الصحابة لمعرفة برّ أحد..لأنهم كانوا حائزين على درجة عالية من البر.كان اعتبار المحافظة على الصلاة وحدها برا كبيرا في نظر الصحابة كقول أحدهم أن فلانا شجاع لأنه ثابت على قدميه أو أن فلانا حديد النظر لأنه تعرف على أمه الجالسة بجنبه؛ أو أن فلانا قوي المعدة لأنه هضم حبة من الحمص!! فكما أن هذه المعايير مهزلة ومضحكة بالنسبة لقياس الشجاعة وحدة النظر وقوة المعدة..كذلك كان المضحك عند الصحابة أن يقاس صلاح أحد بمجرد أدائه للصلاة ومواظبته عليها، لأنهم كانوا يرون أن تقديم التضحيات الجسام والثبات في الاختبارات الشديدة في سبيل الدين هو البرّ الحقيقي، ومن يتحلّى بهذه الصفات أكثر كان بارا.فتعريف البرّ يختلف زمنا وشعبا وبلدا.وفي هذه الآية بين الله أن توجه أحد إلى الشرق أو إلى الغرب ليس ببر.فلو توجه المرء إلى القبلة في الصلاة، ولكن لم تكن صلاته مفعمة برحيق الإخلاص والتضرع والخشوع كما تتطلــب من

Page 406

٤٠٣ سورة البقرة الجزء الثاني الصلاة الحقيقية..فلن ينتفع شيئا بالصلاة والتوجه إلى القبلة، لأن التوجه إلى جهة معينة ليس هو البر..وإنما البر اسم لتلك الكيفية التي تتولد في القلب.وما الحركات الظاهرية إلا علامة لتلك الكيفية القلبية.وإذا لم يكن في هذه الحركات الظاهرية ذلك الشيء الذي له علاقة بالقلب فلا معنى لهذه الحركات.فالتوجه إلى القبلة أو أداء الصلاة أو الصوم أو الحج إذا خلا من الكيفية القلبية فإنه عبـث لا جـدوى.نه..لأنه بدون تلك الكيفية يكون بمثابة سلاح عتيق غير مجد لا يعمل.ومثـــال ذلك أن يكون لدى شخص سيف، ولكنه قديم لا يقطع، أو أكله الصدأ فلا ينفع.فكما أن الأسلحة تقدر قيمتها بحدتها وصقلها وصفائها، كذلك الأعمال إنما تعرف منه قيمتها في نظر الله إذا كان صاحبها يبغي بها وجه الله ورضوانه.فقد بين الله هنا علامات البر وأخبر ما هو البر الحقيقي عنده، فقال إن التوجه إلى الشرق أو الغرب ليس ببر بل لا بد أن يصحبه إخلاص وحرقة وخشوع.إذا لم يتعود الإنسان بهذا العمل على الابتهال والدعاء إلى الله وذكره، وإذا لم يخلق هـــذا فيه شفقة على خلقه جل وعلا، وإذا لم يزده حبّا ورحمـة باليتامى والفقـــــراء والمساكين..فلا حقيقة ولا معنى لهذا العمل.لقد تناول الله ذكر التوجه إلى الشرق والغرب هنا لأنه قبل هذه الآية بآيات عديدة طمأن المسلمين بقوله: (والله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) (١١٦)..لا شك أنكم مستضعفون في الأرض الآن..ولكن تذكروا أن الشرق والغرب كله الله.سوف ننتزع الحكم من أيدي هؤلاء في يوم من الأيام ونوليكم حكم الشرق والغرب، وأينما خرجتم بجنودكم فسوف ترون تجليات من الله تعالى، وسوف تحققون نصرا بعد نصر في كل خطوة، وسوف يظهر الله آيات بعد آيات.وهكذا نبأ أن المسلمين سوف يحققون انتصارات دنيوية فيكونون بحسبها حكاما للشرق والغرب.وعندما تتم الانتصارات المادية لقوم يكون هناك خطر شديد أن يميلوا إلى الدنيا ويهملوا المسألة المركزية في انتصاراتهم..ألا العلاقة الخاصـــة مــع تعالى.لذلك نصح الله هنا المسلمين لإصلاح أنفسهم عقيدة وعملا، وقال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..أي ليس من البر الكامل أن تستولوا وهي الله

Page 407

الجزء الثاني وجميع ٤٠٤ سورة البقرة الله على المشرق والمغرب وتحققوا انتصارات متتالية.صحيح أن هذا أيضا من نعم الكبيرة، ولكن البر الكامل لا يعني الفتوحات الدنيوية فقط، وإنما البر الكامل يعني أن يؤمن الإنسان إيمانا صادقا بالله جل علاه واليوم الآخر والملائكة والقرآن الكريم الأنبياء، ويعنى البر الكامل أن ينفق الإنسان على أقاربه واليتامى والمساكين والمسافرين والسائلين، وفي تحرير رقاب العبيد.ويعني البر الكامل أن يقيم الإنسان الصلوات ويؤدي الزكاة ويفي بوعوده، ويتمسك بالصبر في الضائقات المالية وحال المرض ويثبت في وقت الحرب.حققوا الفتوحات المادية والانتصارات الدنيويـــة أيضا..ولكن لا تنسوا أن هدفكم ليس هو الاستيلاء على البلاد، بل أن تنشئوا علاقة كاملة الله تعالى، وأن تقوموا بخدمة خلقه خدمة صادقة.يجب أن تكـــــون مع هذه الغاية نصب أعينكم دائما.وفي قوله تعالى (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر..) إشكال عن خبر "لكن"، لأن من آمن بالله واليوم (الآخر) لا يطابقه في الظاهر، ولا بد من تقدير محذوف هنا.وقد قال النحويون بتقديرات ثلاثة: أولها ولكن البر بر من آمن.أي أن المحذوف هو كلمة بر قبل (مـــن آمــــن).وفي اللغة العربية عموما يُحذف المضاف كما في قوله تعالى (واسأل القرية) (يوسف: (۸۳ والتقدير واسأل أهل القرية كتاب سيبويه مج ۱ص۱۰۸) وثانيها: اعتبار (البر) مصدرا بمعنى اسم فاعل والتقدير هو : ولكن البار من آمن.وثالثها: اعتبار حذف كلمة (ذو) قبل البر والتقدير : ولكن ذا البر من آمن.ويتبين من الجزء التالي من الآية أن هذه التقديرات الثلاثة صحيحة ومطابقة للمشيئة الإلهية..لأن الآية بعد ذلك تقول (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء)..والموفون مرفوع والصابرين منصوب.فإذا أخذنا بالتقديرين الثاني والثالث..أي ولكن البار من آمن "..أو "ولكن ذا البر من آمن"..فلا يصح أن يُرفع (الموفون) مع أنه مرفوع، إذا أخذنا بالتقدير الأول..أي: ولكن البر بر من آمن.فلا يصح نصب الصابرين مع أنه منصوب.ووجود هاتين الكلمتين: الموفون

Page 408

٤٠٥ الجزء الثاني سورة البقرة والصابرين، بهذه الصورة المختلفة بيّن أن التقديرات الثلاثة صحيحة في الحقيقة، وأن المعاني الثلاثة مطابقة لمشيئة الله.على أية حال..يقول الله إن أول شرط للبر والذي لا يمكن أن يتغير أو يتبدل..هو أن يكون المرء مؤمنا بالله تعالى.لا يمكن أن يأتي على الإنسان زمن يقول فيه: لا حاجة لي للإيمان بالله.والشرط الثاني أن يؤمن باليوم الآخر، وهذا الحكم أيضا غير قابل للتغير.والشرط الثالث هو الإيمان بالملائكة وهذه الحقيقة أيضا قائمة منذ الأزل، وسوف تستمر إلى الأبد.والشرط الرابع هو الإيمان بالكتاب..أي الوحي الإلهي.ولقد استخدم الله كلمة الكتاب بصيغة المفرد، ولكن ينبغي ألا يساء الفهم فيُظن أن الإيمان بكتاب واحد يكفي، لأن المراد من الكتاب هنا كل الوحي الإلهي، وسواء نزل في الماضي أو سيتزل في المستقبل.فالإيمان بكل وحـــي الله ضروري و شرط لازم.والشرط الخامس هو الإيمان بالأنبياء.وهذه الحسنات من الأهمية بمكان، ولا يمكن بدونها أن يحصل الإنسان على أدنى مقام من الروحانية.ثم ذكر الأعمال، وذكر في البداية إنفاق المال، ولم يقل فقط (آتي المال) بل أضاف (على حبه لأن الإنسان يمكن أن ينفق المال على ما لا يجوز الإنفاق عليه، وهـذا لیس برا وإنما هو معصية.والضمير في (حبّه) يمكن أن يرجع إلى المال أو إلى إيتــــاء المال أو إلى من ينفق عليه المال أو إلى الله أيضا.وفي الصورة الأولى يكون المعنى أنه ينفق المال في سبيل الله رغم حبه للمال.وفي الصورة الثانية يكون المعنى أنه ينفق المال حبّا في إيتاء المال، أو أنه لا ينفق هذا المال باعتباره غُرما ولكنه راغب ومتشوق إلى فعل الخير والصدقة.ويتلذذ بهذه الحسنة.وفي الصورة الثالثة يكون المعنى أنه لا ينفق المال على هؤلاء باعتبارهم أذلة صغارا مهانين..كلا وإنما باعتبارهم أخوة له يحبهم كما لا ينفق المال لإفسادهم وإنما ينفق عليهم ليستعينوا به في عمل حسن نافع فيرتقوا ويزدهروا.وفي الصورة الرابعة يكون المعنى أنه ينفق على هؤلاء ابتغاء مرضاة الله ومحبته وليس لمصلحة دنيوية أو سمعة بين الناس.

Page 409

الجزء الثاني ٤٠٦ سورة البقرة وإذا أنفق المال بهذه الشروط الأربعة لم يكن إنفاقا منكرا أبدا.ويمكن اعتبار هذه مدارج أربعة للإنفاق أدناها هي الدرجة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الدرجة الرابعة وهى.أعلاها فالدرجة الأولى أن الإنسان رغم حب المال ينفقه في سبيل الله.والدرجة الثانية أن يكون قد تعود على إنفاق المال وعمل الخير ويتلذذ بذلك أنه يبحث عن فرص الإنفاق في الخيرات برغبة قلبية وتوق شديد.والدرجــة الثالثة أن يعتبر من ينفق عليه أخا فقيرا حبيبا إليه لينفق أخـــوه هــذا المــال في مشروعات مفيدة ويزدهر.ولكن أعلى هذه الدرجات هي أن يكون هذا الإنفاق خالصا لابتغاء محبة الله ورضوانه، ويحسن إليهم وينفق عليهم لأنه قد تعـــود علـــى حتى الإنفاق، أو لأنه يحب إخوانه الفقراء، بل يحسن إليهم حبا لله وابتغاء لمرضاته.ولقد ركز الصوفية على هذا الأمر الأخير حتى قال بعضهم: لسنا بحاجة إلى جنة، ولكننا بحاجة إلى الله تعالى.فلو نلنا الله ورضوانه بدخولنا في النار فنحن مستعدون لذلك.وهذا مقام سام جدا لأنه في هذا المقام لا يبقى أمام أنظار الإنسان إلا الله، ويستولي عليه جماله سبحانه وتعالى لدرجة أنه لا يبصر إلا إياه.أما السؤال: علام ينفق حبا الله؟ فقد تناوله الله بالشرح والتفصيل فقال: أولاً : ينفق على ذوي القربى، لأن لهم حقا كبيرا على الإنسان..كالآبــاء والأمهات، فهم في تربية الأولاد ورعايتهم يقدمون تضحيات لا نجد لها نظيرا في مجال آخر.كذلك الأقارب الآخرون فهم أيضا يستحقون المساندة إذا كانوا من ذوي الحاجة.ثانيا: وينفق على اليتامى ويؤدي حقوقهم، لأنه ليس هناك من يرعاهم ويتفقد أحوالهم وثالثا: ذكر المساكين وهم الذين ليس عندهم مال لسد حاجاتهم، ولا يمدون أيديهم للسؤال أمام الآخرين كأنهم مصداق قول الله لا يسألون الناس إلحافا) (البقرة: (٢٧٤.إنهم رغم فقرهم يحافظون على سمو أخلاقهم، ولا يستجدون الآخرين حماية لماء وجههم.

Page 410

٤٠٧ سورة البقرة الجزء الثاني رابعا ذكر المسافرين ولم يشترط هنا فقرهم، مما يعني أنه كما يجب مساعدة المسافرين الفقراء كذلك إذا تتطلب الأمر فيجب ألا يتردد الإنسان في إعانة مسافر غير فقير، فقد يكون ذا مال ولكنه فقد ماله في الطريق.وفي هذه الحالة يأخذ المعونة كحق له، أو يسدّ حاجته بترك رهن عند الآخرين.كذلك مــن واجــب الحكومة تقديم كل التسهيلات لحل مشاكل المسافرين سواء كانوا من رعاياها أو من الأجانب أو من السواح.وخامسا: ذكر السائل.ويمكن أن يتساءل أحد إذا كان هذا السائل فقيرا مفلسا فلماذا ذكره بعد ابن السبيل؟ فلنعرف أن الإسلام لا يحبذ السؤال، وقال رسول الله إن من لديه طعاما يكفيه لوجبة واحدة ومع ذلك يسأل فإنما يستكثر من النــــار (أبو داود، كتاب الزكاة).وكذلك رأى سيدنا عمر رضي الله عنه رجلا يسأل الناس أن مع جرابه كان ممتلئا بالدقيق، فغضب عمر وأخذ الدقيق ونبذه أمام البعير (سيرة عمر لابن الجوزي، باب ٦٠ ، ص ١٧٠).كان عمر يريد بذلك ألا يكون عبئا على الآخرين، بل يعمل بيده ويحمي نفسه من خزي الأكل بالسؤال..فالإسلام لا يحبذ الأكل بالسؤال، بل يريد أن يتحلى المسلم بالأخلاق العالية، وبدلا من أن يتسول يجب أن يبحث هو عن ذوي الحاجة ويسد حاجاتهم فلا يضطروا للسؤال.و سادسا: ذكر وفي (الرقاب أي مَن هُم في الأسر.وهناك محذوف تقديره: وفي فك الرقاب.لقد أخر هؤلاء لأنهم يكونون في معظم الأحيان من أهل الأديان الأخرى.والقاعدة أن حق القريب أولى من حق البعيد.ابن السبيل يُعتبر ضيفا سواء كـــــان مسلما أو كافرًا، ولذلك ينبغي أن يُعطي أما الأسرى فلا بد أن يكونوا من غير المسلمين الذين جاءوا لحرب المسلمين لذلك ذكرهم في آخر القائمة.ومع ذلك ما أعظم هذا المعروف من قبل الإسلام..إذ يأمر الله المسلمين أن ينفقوا المال لفك رقاب من جاءوا لقتالهم.ويندرج مع (في الرقاب) أيضا المدين والكفيل الذي أدى الكفالة لأحد.

Page 411

الجزء الثاني ٤٠٨ سورة البقرة كان سيدنا الخليفة الأول لسيدنا المهدي يقول: إنني قد تصدقت بكل أنواع الصدقات ولكن لم تتح لي فرصة تحرير العبيد.وعندما ذهبت للحج قال لي الخليفة الأول : لو وجدت هناك عبدًا يُباع بمائة أو مائتي روبية فاشتره وحـــره بــاسمي؛ ولكننا لم نعثر على أحد هناك.إلا أن الله وفقه لتحرير العبيد أيضا، فيروي مرزا محمد أشرف محاسب هيئة صدر أنجمان أحمدية أن الخليفة الأول عثر فيما بعد على اثنين من العبيد فحررهما.قوله تعالى وأقام الصلاة وآتى الزكاة الصلاة والزكاة لهما معانٍ واسعة في اللغة ولكنهما اصطلاح خاص في الشريعة الإسلامية، وقد وردتا هنا بالمعنى الشرعي.إحداهما تقوم بإصلاح العلاقات بين الإنسان ،وربه والثانية تقوم بتحسين العلاقات بين الإنسان وإخوته من جنسه وكأن الله بذكرهما نبه على أن إنفاق المال وحــــده لا يُكسبكم رضوان الله، بل لا بد لكم من إقامة الصلاة وأداء الزكاة..وكأن وحقوق العباد ما لم تؤدَّ تحت نظام أو بصورة منظمة فلا ينال الإنسان حقوق الله مقاما رفيعا في البر.وقوله تعالى (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحـــين البأس)..أي من علامات الحائزين على مقام عال في البر والصلاح والتقوى أنهم يراعون عهودهم، ويصبرون على ما يصيبهم من الناس من أذى وظلم.كأنهم مـــن ناحية يسعون جاهدين للعمل على تأسيس المدنية الإسلامية، فلا يخلفون العهد ولا يخدعون أبدا؛ ومن ناحية ثانية إذا تطلبت المصالح الدينية والقومية والبلدية تحمــل المشاق والشدائد فإنهم يتحملونها بهمة وثبات، ويقدمون أسوة حسنة للاستقامة والصبر.الحفاظ ليس المراد بالعهد هنا ما يُبرم بين الناس من عهود شفوية، وإنما تتضمن كلمة العهد كل المسائل الهامة المتعلقة بالمدنية والاجتماع.ففي المجتمعات المتحضرة يُتوقع من كل شخص ألا يتجاوز دائرة حقوقه فيسلب حقوق الآخرين، وهكذا على الحقوق.إذا عملوا بهذا المبدأ يُعدّون متحضرين، وإذا خالفوه يُعدون مثيرين للفتن والفساد.ولما كان الإسلام يريد خلق جو من السلم والأمان والمحبة..ذكر

Page 412

الجزء الثاني ٤٠٩ سورة البقرة من علامة المؤمنين الكمَّل أنهم يوفون عهودهم بدقة وحرص، وكذلك وصفهم: (الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أي أنهم يبدون صبرا وجَلَدا وقت الفقر والضيق، وكذلك عند حلول المصاعب والشدائد.البدنية.فالبأساء هنا تشير إلى المشاكل المالية، والضراء إلى الأمراض والمشاكل البدنية والبأس إلى شدة الحرب.وكأنه تناول ذكر الابتلاءات من الأدنى إلى الأعلى، وبيّن أنهم لا يخلعون رداء الصبر في حال من الأحوال.والنزاعات والحروب المذكورة هنا على نوعين: الأول: ما يكون بين الإخوان والثاني: ما يكون بين المسلمين والأعداء.فإذا كان النزاع بينهم يصبحون الصابرين في البأساء والضراء، ويستعدون للتنازل عن حقوقهم لإخوانهم، ورغم كونهم صادقين فإنهم يتواضعون ويتذللون كأنهم كاذبون.أما إذا كان الصدام بينهم وبين أعداء الإسلام فلا يفرون من ساحة القتال وإنما يواجهــولهـم بـشجاعة، ويهريقون آخر قطرة من دمائهم توطيدا للأمن والسلام.وقوله تعالى (أولئك الذين صدقوا)..أي أنهم هم الذين قدموا أسوة من الصدق والوفاء، وأولئك هم المتقون)..أي هم الذين سوف ينجون من المصاعب والآلام.لقد ذكر هذه الميزة لهم خاصة، لأن أشد ما يؤذي الإنسان أن يرى حقوقه تسلب أمام عينيه.إنه يستعد لأن يعامل غيره معاملة حسنة كمعروف منه إليه، أما إذا آذاه أحد فإنه يعتبره إهانة له وما دام هؤلاء قد قدموا تضحية غير عادية إذ تحملــوا الأذى والاضطهاد من الآخرين فقال الله تعالى : إنني أخصهم بالذكر، فهم الصلحاء الصادقون في إيمانهم..قد أثبتوا صدقهم في الإيمان عمليا.وهؤلاء هم الناجون مــــــن المصاعب.لأن المصاعب إذا كانت سماوية فعلاجها الإيمان بالله وعبادته، وإذا كانت اجتماعية فعلاجها مراعاة قوانين الحضارة.فهؤلاء يعملون بأوامر الله، وأيضا يبتعدون عن المفاسد ،المدنية فلا يمكن أن يذلوا ويهلكوا وإنما يذل ويهلك فقـــط أولئك الذين يهجرون الله تعالى ولا يطيعونه أو يلقون بأيديهم إلى التهلكة بالإغماض والتساهل عن القوانين المدينة.

Page 413

الجزء الثاني ٤١٠ سورة البقرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٍ فَاتَّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَحْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (۱۷۹) شرح الكلمات : القصاص-هو أن يُفعل بالمرء مثل ما فعله من قتل أو قطع أو ضرب أو (اللسان).القصاص القتل بالقتل والجرح بالجرح (تاج العروس).تخفيف يعني التخفيف هنا العفو.جرح التفسير : يظن البعض جهلا منهم أن القرآن لم يُقدِّم أي تعليم أساسي في صدد القتل، بل أعاد كل ما قيل لليهود في التوراة عن القتل..مثلا كقوله تعالى (أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) (المائدة: (٤٦) صحيح ولكنه ظن ناتج عن قلة التدبر.إنني أرى أنه ما من مسألة أو قضية في حياة الناس.دينية أو سياسية أو مدنية أو عائلية..إلا وتناولها الإسلام بتوضيح وصــراحة.أنه يذكر في بعض المواضع ما ورد من تعليم في الأديان السابقة، ولكنه أولا يلقي بنفسه الضوء على تلك القضية، ويقدِّم تعليما كاملا جامعا للناس بشأنها، ثم إتماما للحجة على أهل الأديان الأخرى وإخجالا لهم..يقدم ما ورد في كتبهم من تعاليم بصددها، ذلك ليوقظ الإحساس في قلوبهم..كيف أنهم اتخذوا تعاليم دينهم ظهريا رغم انتسابهم إليه.وهذا هو نفس الحال هنا.فتعليم القصاص الذي يقدمه القرآن هنــا لـبني نـوع الإنسان لم يأت به تقليدا لما في التوراة، وإنما هو حلقة من سلسلة الأحكام التي بدأ ذكرها في الركوع الحادي والعشرين (الآية ١٦٩) ، فقد قال الله في الآيات السابقة إن من علامات المؤمنين الكمّل في الإيمان أنهم الصابرون في البأساء والضراء وحين البأس..أي أنهم يصبرون في الضائقات من الفقر والمجاعة كمـا يتجلـدون إزاء الشدائد البدنية والأمراض، ولا يرتعبون من لقاء العدو وإن قتلوا في الحروب.

Page 414

٤١١ سورة البقرة الجزء الثاني وينشأ سؤال طبعي إلام تستمر سلسلة الشدائد هذه؟ حتّامَ يضربنا الناس ونــــصبر ونسكت ولا نتحرك؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نعيش؟ فقال الله: أما أنتم فواجبكم الصبر، ولكن هناك آخرون في يدهم مقاليد الحكم والنظام، وهـم مسئولون عن الأمن والأمان، ومن واجبهم أن ينتقموا لكم من مظالم الناس وأن يعاقبوهم العقاب الواجب.فقال كتب عليكم القصاص في القتلى من واجب الحكام أن يقتصوا لكم وليس لهم أن يعفوا عن هذه الجرائم والمظالم.مع العلم أن الخطاب في قوله تعالى (والصابرين في البأساء كان موجها إلى عامة الناس، أما في قوله تعالى كتب عليكم فهو إلى الحكام وبقوله تعالى (القصاص في القتلى) صرح الآية هي تحته.بأن الجروح لا تندرج الحقيقة أن هذه هي الآية التي تذكر التعليم الإسلامي في صدد عقوبة القتل، وتبين أن عقوبة القتل هي القتل.وهذا حكم عام شامل لجميع القتلى بغض النظر عن هوية المقتول أو القاتل أو قبيلتهما..بدليل قوله تعالى (في القتلى).ولا نجد أي ذكر لعقوبة مادية سواه في أية آيةٍ أخرى من القرآن الكريم على القتل المتعمد.إذن فهذه الأساس للفقه الإسلامي فيما يتعلق بالقتل والله تعالى لم يميز بين المسلم وغير المسلم هنا، ولم يذكر آلة أو سلاحا للقتل..وإنما قرر أن عقوبة القتل هي القتل.بل ثابت من الأحاديث أنه في بعض الحالات قتل أكثر من شخص في قضية قتيل واحد.فقد ورد في التاريخ أن مجموعة من الناس قتلوا شخصا في صنعاء، فأمر سيدنا عمر بقتل مجموعة القتلة كلها البالغة سبعة أفراد، وقال: لو أن كل البلــــدة اشتركت في هذا القتل لأمرت بقتلهم (الموطأ لمالك، الديات).وكذلك جاء في رواية لعبد الله بن مسعود: قال رسول الله : لا يحل دم امرئ ﷺ: مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيـــب الــــزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) (مسلم، القسامة).وهناك رواية أخرى توضح الرواية السابقة وتقول: رجل يخرج من الإسلام يحارب الله ورسوله فيقتل أو يُصلب أو يُنفى من الأرض) (النسائي، تحريم الدم)..أي المراد من التارك لدينه المفارق للجماعة الذي يترك الإسلام ويحارب المسلمين.

Page 415

٤١٢ سورة البقرة الجزء الثاني تبين هذه الرواية أن لا تمييز بين رجل وامرأة، فكل من يقتل يُقتل..وأن النفس بالنفس.وفي رواية لابن عمر قال رسول الله : من قتل معاهدا لم يَرَحْ رائحة الجنة) (ابن ماجة، من قتل معاهدا)..أي لا يشم رائحة الجنة.وقد وردت نفــــس العقوبة في القرآن الكريم لمن يقتل مسلما.قال تعالى (ومن يقتل مؤمنـا متعمــــدا عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما) (النساء: فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب.(٩٤ الله وقد أكد النبي بنفسه على ذلك فقد أُتي برجل من المسلمين قد قتل معاهدا من أهل الذمة فأمر به فضُرب عنقه، وقال : أنا أولى من وفّى بذمته (شرح معاني الآثــــار للطحاوي، الجنايات).كذلك هناك رواية عن علي رضي الله عنه أن مسلما قتل ذميا فأمر سيدنا علي بقتله (الطبراني).يقول البعض: ورد في حديث أنه لا يُقتل مسلم بكافر..ولكن لو قرأنا الحديث بتمامه لزال التعارض.يقول الحديث لا يُقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) (ابن ماجة، كتاب الديات.فالفقرة الثانية توضح المعنى.لو كان المعنى كما يظنون لكانت الفقرة الثانية (ولا) ذو عهد بكافر، ولا يقبل أحد بهذا.فالمراد من كافر هنا الكافر المحارب.ولذلك قال إن الذمي الكافر أيضا لا يقتل بكافر محارب.وعندما ننظر إلى عمل الصحابة نجد أن الصحابة أيضا كانوا يقتلون القاتل المسلم بقتيل غير مسلم.فقد جاءت رواية القماذبان بن الهرمزان يذكر حادث قتل أبيـــه الهرمزان الذي كان من كبار الفرس والمجوس وكان مظنة الاشتراك في قتل سيدنا الله عنه.فثار عبيد الله عمر رضي بن عمر على الرجل بناء على هذه الشبهة فقتله.يقول القماذبان: كانت العجم في المدينة يستروح بعضهم إلى بعض [يتزاورون] فمر فيروز بأبي ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه وقال: ماذا هذه بهذا في تصنع البلاد ذات الأمن والسلام؟ قال أبس به..[أي استخدمه لحث الإبل، فرآه رجل.فلما أصيب عمر، قال رأيت هذا مع الهرمزان دفعه إلى فيروز.فأقبل عبيد الله فقتله.فلما ولّي عثمان دعاني فأمكنني منه.ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله.فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي

Page 416

الجزء الثاني ٤١٣ سورة البقرة فيه.فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم، وسبوا عبيد الله.فقلت: أفلكم أن تمنعــــوه؟ قالوا: لا، وسبّوه.فترتكه الله ولهم فاحتملوني.فوالله ما بلغت المنزل إلا علـى رؤوس الرجال وأكفهم تاريخ الأمم والملوك للطبري، أحداث السنة ٢٤).فهذه الحادثة تؤكد أن الصحابة كانوا يقتلون القاتل المسلم بغير المسلم، كما تؤكد أنهم كانوا لا يفرقون بين سلاح وآخر، وأن الحكومة هي التي تقبض على القاتـــــل وتحاكمه وتعاقبه..فقد رأينا في الرواية أن الخليفة سيدنا عثمان رضي الله عنه هو الذي أمر بالقبض على عبيد الله وسلمه لابن الهرمزان وليس أن ورثة الهرمزان هم الذين أخذوه وحاكموه.هنا سؤال ينبغي الجواب عليه: هل يسلَّم القاتل إلى ورثة القتيل لينزلوا به العقاب كما فعل سيدنا عثمان.أم أن الحكومة هي التي تتولى عقابه؟ هذه المسألة نسبية وهامشية، وتركها الإسلام مفتوحة ليعمل الناس بحسب مقتضى عصرهم ويختاروا أي الطريقين بحسب حضارتهم وأحوالهم.ولا شك أن كل طريقة تفيد في أحوال خاصة.ثم قال (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ولا يعني ذلك أنه إذا قتل حر يُقتل مكانه ،حر، وإن كان القاتل من العبيد؛ أو أن يُقتل عبد بدل قتيل عبد وإن كـــان قاتله من الأحرار ؛ أو تقتل امرأة مكان امرأة وإن كان قاتلها أحد الرجال..لأن التعليم الأساسي في هذا الصدد سبق أن ذكر في قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى).وقوله تعالى (الحر بالحر في الحقيقة جملة مستأنفة، والجملة المستأنفة تأتي للرد على سؤال مقدّر في الجملة السابقة وبدون عطف (شرح مختصر المعاني شرح الكلمات : ٣ ص ٥٤).وجاءت الجملة المستأنفة هنا للرد على سؤال مقدر في الجملة السابقة، وللقضاء على بعض العادات بين العرب.والسؤال المقدر هنا هو: هل الأمر بالقصاص في القتل يُلغي كل العادات التي يتبعها العرب في هذا الصدد؟ فأجاب الله : نعم، وقال: (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) ولقد اكتفى الله بثلاثة منها ولم يذكرها كلها وكأنه قال الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وهلم جرا.

Page 417

٤١٤ سورة البقرة الجزء الثاني الواقع أن العرب في الجاهلية كانوا يعتبرون بعض الأسر رفيعة المقام وبعضها منحطة رذيلة، ويعتبرون بعض الأفراد أحرارا وبعضهم عبيدا، وإذا ارتكب أحد جريمة نظروا: هل القاتل حر أم عبد ؟ فإذا كان عبدا فهل سيده مــن كبــار القــوم أم صغارهم؟ هل هو رجل أم امرأة؟ وهل هو أو هي من أسرة كبيرة أم صغيرة، ثرية أم فقيرة؟ كانوا يراعون كل هذه الأمور عند إنزال العقوبة، وكانوا لا يترلــــون العقوبة بالأحرار من الرجال أو النساء بمثل ما يتزلونها بالعبيد.وكانوا لا يعاقبون أفراد الأسر الرفيعة بما يعاقبون به أفراد الأسر الدنية.فجاء الإسلام وأعلن: (كتب عليكم القصاص في القتلى، وكان الأمر شاملا وعاما.فإذا قتل إنسان كان لا بد من قتل قاتله سواء كان المقتول رجلا أو امرأة، وسواء كان القاتل رجلا أو امرأة، وسواء كان هذا أو ذاك حرا أو عبدا ، وسواء كان القاتل فردا أو جماعة، وسواء كان القتيل مسلما أو معاهدا.ونشأ هناك سؤال طبعي : هل ينفذ القصاص بحسب عادات العرب في الجاهلية أم لا؟ فكان الجواب كلا ثم كلا تُلغى مظاهر التمييز والتفرقة كلها من الآن.ثم ذكر ثلاثة أمثلة من هذه العادات، وترك الباقي منها بحسب أساليب اللغة العربية إذ يذكرون بعض الأمثلة ويعتبرون الباقي ضمنها.فبذكر الأمثلة الثلاثة هنا ذكر الأمور الأخرى ضمنًا.وأمر أن يُقتل القاتل أيا كان قصاصا للمقتول أيا كان.وهذا ما تؤكده سنة الرسول..فقد قتل رجلا قصاصا لقتله امرأة (صحيح مسلم، القصاص).وكذلك أمر النبي بقتل الحر قصاصا لقتله عبـدا، وفي روايـــة لسمرة بن جندب أن النبي ﷺ قال: من قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه) (ابن ماجة، أبواب الديات).قوله تعالى (فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)..أي لو أراد ورثة القتيل لمصلحة أن يعفوا عن القاتل فلهم هذا الخيار.ويستدل بعض الناس من ذلك أنه لا يحق للحكومة أن تقبض على القاتل أو تعاقبه، بل هذا حـــــق لأهل القتيل.ولكن الاستدلال غير صحيح كل ما قيل هنا أنه لو عفا ورثة القتيل

Page 418

٤١٥ سورة البقرة الجزء الثاني عن القاتل إحسانا إليه فعلى الحكومة أن تحترم رغبتهم هذه.وباستثناء هذا العفـــو ليس لورثة القتيل أي علاقة بالقاتل.أما حبس القاتل ومحاكمته ومعاقبته فهذا مـــن اختصاص الحكومة، وهي المسئولة عن ذلك..لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى).فقد فُوّض هنا إلى المسئولين في الحكومة واجب التحقيق والمحاكمــــة وإنزال العقوبة بالمجرم.وقد يقول البعض عن حق العفو هذا الذي منحه الإسلام لورثة القتيل أن فيه مخاطر ومفاسد ومضار، فمثلا يمكن أن يدبر الأهل لقتل أحدهم بيد شخص آخر ثم يعفوا عن القاتل الذي اتفقوا معه.وهذه شبهة واردة ولكن الإسلام قد أزال كل هذه المخاطر ووضع لها العلاج فمن ناحية منح حق العفو للإصلاح بين الأسرتين المتخاصمتين، ولكنه من ناحية أخرى سدّ أبواب الأعمال غير الشرعية كهذه، فقد اشترط في العفو أن يكون فيه إصلاح، ومعنى ذلك أن العفو جائز فقط إذا كانـــــت نتيجته الإصلاح.أما إذا كان العفو سببا للفساد فلا يجوز العفو، وللحكومة أن - تعاقب القاتل رغم عفو الورثة.فقد ذكر الطبري حادثا من زمن سيدنا علي - رضي الله عنه يدل على أنهم منذ بداية الإسلام كانوا يأخذون هـذا الاحتياط والحذر يروي عدل بن عثمان: رأيت عليا هم خارجًا من همدان، فرأى فئتين تقتتلان، ففرق بينهما، ثم مضى.فسمع صوتا : يا غونًا بالله! فخرج يحضر نحــوه حتى سمعت خفق نعله وهو يقول : أتاك الغوث.فإذا رجل يلازم رجلا فقال: يـــا أمير المؤمنين، بعتُ من هذا ثوبا بتسعة دراهم وشرطتُ عليه ألا يعطيني مغموزا ولا مقطوعا (أي معيبا أو ممزقًا) وكان شرطهم يومئذ، فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها فأبى، فلزمته فلطمني.فقال علي أبدله.فقال : بينتك على اللطمة؟ فأتاه بالبينة، فأقعده ثم قال: دونك فأقص.فقال: إني قد عفوت عنه يا أمير المؤمنين.قال: إنما أرد أن أحتاط في حقك، ثم ضرب الرجل تسع درات وقال : هذا حق السلطان (تــاريخ الطبري: سنة ٤٠).فصحيح أن الإسلام قد منح الحق للمظلوم أو لورثة المجني عليه أن يعفوا عن الجاني، ولكنه أيضا منح الحق للحكومة أنها إذا شعرت أن المجني عليه ضعيف العقل، أو أن العفو عن الظالم سوف يشجعه على ارتكاب الجريمة، أو أن

Page 419

٤١٦ سورة البقرة الجزء الثاني أولياء القتيل لا يعرفون مصلحتهم أو مصلحة المجتمع، أو أنهم شركاء في الجريمة..فللحكومة إنزال العقاب بالمجرم رغم عفوهم عنه.وهل هناك طريق أفضل من ذلك للإصلاح وتوطيد الأمن في العالم؟ فإذا كان العفو عن المجرم يؤدي إلى مخاطر مـــــن ناحية فإن المجرم أحيانا يرتكب الجريمة، ولكنه يندم عليها ويتزعج ورثته ويكونون في حال يرثى لها..وتقضى الرحمة أن يُعفى عنه.وفي بعض الأحيان يقدر أولياء القتيل أن العفو عن المجرم أولى.ولمثل هذا الموقف لا تقدم الحضارة العصرية أي حل يشفي غليل الطرفين ويحقق رغباتهم، ولكن الإسلام قام بذلك قبل ثلاثة عشر قرنا ووضع زمن المدنية المظلمة من القرن السابع أساسا لمدنية راقية لا يستطيع أن يقدم لها نظيرًا أحد من حكماء القرن العشرين.ولكن كما سبق أن ذكرنا..فالعفو ليس من خصوصيات الحاكم وإنما هــو حــق لورثة القتيل.نعم إذا رأى الحاكم أن عفو ورثة يؤدي إلى بعض المضار والمفاســـــد فله أن يلغي العفو، كما ثبت مما فعل سيدنا علي رضي الله عنه.وإذا أصر الوارث على القصاص فمن واجب الحكام أن يقتصوا له.وبقوله تعالى (من أخيه) أشار إلى أن القتل لا يقع أحيانا بسبب العداوة والبغض، وإنما بسبب حماس وثورة مؤقتة.فبقول (أخيه) شفع إلى الورثة كي يرحموا القـاتـــــل لأنه أخوهم ارتكب جريمة خطأ، فليتركوه وليعفوا عنه.ومن ناحية أخرى فيـــه تبكيت ولوم للقاتل يدفعه للندم ، وكأنه يقول له : ألم تخجل من قتل أخيك؟ وقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شيء)..أورد كلمة شيء بصورة النكرة الــــي قد تعني التعظيم أو التحقير.والمراد من (شيء) هنا إما العفو التام أو بعض العفو.أي لولي القتيل ألا يطلب القصاص بقتل القاتل بل يكتفي بأخذ الديـــة أو جــزء منها..أو يعفو عفوا كاملا فلا يطلب إعدام القاتل ولا يأخذ دية.فهو مُخيَّر بــين الخيارين.وإذا عفا بعض الورثة ولم يعف الآخرون..وكأن يكون للقتيل ابنـــان فيعفو أحدهما ويرفض الثاني..فلا يُقتل القاتل.ولكن إذا رأى الحاكم أن للورثة يدا في الجريمة فعَفَوا، فللحاكم أن يلغي هذا العفو ويعاقب القاتل، ولا حق لهم عندئذ في الإرث أيضا.

Page 420

٤١٧ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) يعني أن يستوفي أصحاب الديــــة حقهم بطريقة طيبة، فإذا كان الطرف الآخر مُعسرا فلا يتشددون في المطالبة وإنمــــا يمهلونه.وعلى المعفي عنه أن يبذل جهدا صادقا في أداء الديــــة ولا يتكاسل ولا يماطل بل يسرع ولو تحمل مشقة.قوله(ذلك تخفيف من ربكم ورحمة..أي أن الله قد يسر بذلك لكم الأمور وهيــأ الأسباب من رحمته..فيجب أن تضعوا هذا في الاعتبار وتقدروه حق قدره.قوله تعالى (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم)..أي لو أن ورثة القتيل أخذوا ديتهم ثم قتلوا القاتل أو أحدا من أسرته فلا يستحقون أي رحمة.بل يعاقبون بشدة..أي لا تسمح الحكومة بالعفو عن مثل هذا القاتل حتى لا تكثر مثل هذه الأفعال الهمجية التي تفسد الأخلاق القومية ولا تبقى سلطة واحتراما.وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (۱۸۰) شرح الكلمات : الألباب جمع لب وهو ما في جوف الجوزة.والمراد هنا العقل (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى : أيها العقلاء، في القصاص حياة لكم، فلا تهملوه أبــــدا.وهنا سؤال: مات ،القتيل وإعدام القاتل لن يحيي القتيل، فكيف يكون في القصاص حياة؟ والجواب: يجب أن نتذكر أنه إذا لم يتزل العقاب بالقاتل فمن الممكن أن يقتل شخصا آخر غدا، وشخصا ثالثا بعد غد..لذلك قال: لكم في القصاص حياة..أي إذا لم تقتصوا من القاتل فإنه يقضي على حياة أحد آخر منكم، ولكنه لو عوقـــــب بالموت فسوف تقل أحداث القتل غدا، وهكذا تحمى حياة كثير من النفوس.كما أن قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يعني أن عقاب القاتل يشفي قلوب ورثة القتيل من البغض والضغينة، ولكن لو لم ينزل العقاب بالقاتل لظلت العداوة

Page 421

الجزء الثاني ٤١٨ سورة البقرة والبغضاء كما هي في قلوب أهل القتيل، إذ يرون أنهم قد أهينوا بقتل أحدهم.فالقصاص سبب لتوطيد شرف القتيل وشفاء لنفوس الورثة.وأرى أن في هذه الآية نبأ يتعلق بزمننا هذا، لأن العرب كانوا عاملين بالقصاص متمسكين به في قوة لو قتل أحد لظلوا يطلبون القصاص حتى من حفيد القاتل.فهذا التعليم ليس للعرب فقط، بل إنه في الحقيقة نبأ يُخبر أنه سيأتي يوم يدعو فيـــه الناس إلى إلغاء عقوبة القصاص، فلتتمسكوا عندئذ بهذا التعليم بقوة ولا تفرطــوا فيه.وهذا يحدث في هذه الأيام في بعض البلاد الأوربية حيث تقوم حركات مـــــن وقت لآخر داعية إلى إلغاء عقوبة الموت.يقول الله تعالى: يا أيها العقلاء، لا تصغوا إلى هذه الحركات وإلا تكون العواقب وخيمة ولن تبقى لنفوسكم قيمة.فقال (لعلكم تتقون..أي أن الهدف من هذا التعليم أن تتقوا من القتل وتنالوا الحياة التي تكون بعد القصاص.ولو تركتم القصاص لانهارت حضارتكم.فحذار أن يختل نظامكم وتنهدم حضارتكم ولا يبقى لنفوسكم حرمة ولأموالكم قيمة.ولقوله تعالى (لعلكم تتقون) معنى آخر فهمني الله إياه.وهو أنه جل علاه بين بهذه الكلمات أنكم في حاجة إلى هذه الحياة واستمرارها لكسب مزيد من التقوى.كأنه يقول إن إضاعة الحياة بدون جدوى محظور، لأن الدنيا دار العمل، يجمع فيها الإنسان زادًا للآخرة.فالحفاظ على الحياة ضروري للتزود بالتقوى.فبهذه الكلمات بين الله السبب وراء حفاظ المؤمن على حياته رغم إيمانه بالآخرة.كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (۱۸۱) شرح الكلمات : : خيرا قالوا ترك خيرا أي مالا وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طريق طيب (المفردات).

Page 422

٤١٩ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير: لقد أمر الله هنا بالوصية للوالدين والأقربين.وهنا ينشأ سؤال: ما هي هذه الوصية التي أمرنا بها، مع أن أحكام الوراثة قد نزلت في سورة النساء بالتفصيل؟ وبعد نزولها تكون أي وصية للورثة الأقارب بلا معنى.يقول البعض في هذا الصدد أنه ما دامت أحكام الوراثة قد نزلت في آيات أخرى من القرآن الكريم..فهذه الآية منسوخة ولا مجال للعمل بها.ولكننا نرى أنه ليست هناك آية منسوخة في القرآن الكريم.إن عقيدة النسخ في الآيات القرآنية ظهرت نتيجة لقلة التدبر..عندما لم يستطع المفسرون فهم الآيــة قالوا بنسخها، وهكذا اعتبروا مئات الآيات القرآنية منسوخة، ولو أنهم أيقنوا أن كل لفظ وكل حرف من القرآن المجيد قابل للعمل..لتَدَبَّروا في هـذه الآيـــات الصعبة، وإذا لم يستطيعوا حلها وفهم معانيها أنابوا إلى الله مبتهلين أن يعينهم على فهم حقيقة كلامه عز وجل.ولو فعلوا ذلك لهداهم الله إلى الصواب، ولرأوا حلاً لها.ولكنهم لسوء الحظ اختاروا طريقا سهلا..فاعتبروا كل آية لا يفهمون معناها منسوخة، وهذا ما فعلوا بهذه الآية أيضا.لو نظرنا إلى هذه الآية على ضوء المعنى الذي نورده لها لتبين أن الأمر بالوصية حكيم للغاية، ولا داعي لاعتبار الآية منسوخة.الحق أن كلمة الوصية هنا جـــاءت بمعنى التأكيد العام؛ وأكبر دليل على ذلك أن الله ذكر هنا الوالدين والأقربين ولم يذكر الأولاد..مع أن ذكر الأولاد كان ضروريا لما للإنسان من علاقة قلبية بهم.وهذا يعني أن الموضوع هنا لا يتناول الميراث وتوزيعه بين الورثة، بل أمرا آخر.إن سياق الآية يبين أن الأمر هنا يتعلق بالحرب أو ما يشبهها من أحوال.فقبل ثلاث آيات ذكر الحرب الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) (الآية۱۷۸).ثم بعد آيتنا هذه أمر بالقتال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (الآية ١٩١).وبما أن المشتركين في الحرب هم عموما من الشباب الذين لا يكون لهم أولاد أو يكونـــــون صغارا..لذلك أمر بالوصية في حق الوالدين والأقربين دون ذكر الأولاد، وقال إنه إذا اقترب موت أحد أو كان بصدد الذهاب إلى مكان يتعرض فيه لخطر الموت..

Page 423

٤٢٠ سورة البقرة الجزء الثاني وكان ذا مال كثير..فَلْيُوص وليؤكد على أهله بتوزيع إرثه بين الورثــة حــــس الشرع..حتى لا يحدث أي نزاع أو خصومة بينهم فيما بعد.ويكون التأكيد موجها إلى أقاربه مباشرة بدلا من غيرهم.وإذا أراد أن يتصدق بجزء من ماله فعليه أن يذكر هذا أيضا ويؤكده في وصيته.وأرى أنه لو اتبع المسلمون هذا التعليم وعملوا به لم تستمر فيهم أبدا تلك التقاليد والعادات المعارضة للقسمة الشرعية للتركة.يمكن ألا تكون مثل هذه التقاليد والعادات موجودة في بلد تطبّق فيه الشريعة الإسلامية تماما، ولكن تكون الحاجة ماسة إلى أن يوصي ويؤكد الإنسان الوصية في حق والديه والأقربين كي تقــــــم تركته بينهم بالمعروف..في تلك البلاد التي تسير بحسب التقاليد والعادات غير الإسلامية..وإلا حُرم المستحقون وأخذ الأموال من لا يستحقها.أن والسؤال الآن ما هو المعروف في قوله تعالى (بالمعروف)؟ :والجواب: أولا: إن الأحكام الشرعية للميراث هي المعروف، فيجـــب المورث ويؤكد العمل بها.وثانيا: هناك حقوق خارجة عن دائرة أحكام الوراثة، لم تذكر تحتها، ولكنها مستحبة على صعيد الدين والأخلاق، وقد تركت الشريعة الباب مفتوحا ليوصي المتوفَّى حتى بثلث المال لأهل هذه الحقوق.فمثلا يمكن أن يقف بعض أمواله إذا شاء للإنفاق على الفقراء ويوصي بذلك أهله.ولقوله تعالى (الوصية للوالدين والأقربين) معنى آخر هو أن الورثة إذا كانوا كفاراً فليوص بحسن معاملتهم وإعطائهم شيئًا من ماله لأن والديه وأقاربه في حالة كفرهم لا يمكن أن يرثوا شيئا بحسب الشرع لأنهم سينفقون هذا المال في محاربـــة الإسلام.فإذا وجدهم يستحقون المعونة، وأن إعطاءهم بعض المال فيه مصلحة وخير..فليوص بإعطاء نصيب معين من الإرث لمن يراه منهم.أما إذا رأى أنهــــم سوم ف يستخدمون هذا المال في محاربة الإسلام فلا يوص لهم بشيء.والمعنى الثالث لقوله تعالى (الوصية للوالدين والأقربين أنه يمكن للمورث أن يوصي بشيء من إرثه لأحفاده وأبناء إخوته..وهكذا يقوم بإعانتهم بــدون أي مخالفة لأحكام الشرع.لأنه بحسب قانون الوراثة الإسلامي إذا كان للمورث ابن مات في

Page 424

الجزء الثاني ٤٢١ سورة البقرة حياته تاركا وراءه أولادًا فإنهم لا يرثون من تركة الجد المورث شيئا.في هذه الحالة يمكن أن يوصي الجد في حدود ثلث ماله لحفدته وحفيداته هؤلاء.- أما البلاد غير الإسلامية، التى لها قوانين محلية للإرث فهي على قسمين: بعضها تأخذ بوصية المتوفّى مثل روسيا وبعضها لا تأخذ بها، وإنما تعمل بقوانين شرعتها الحكومة.فالبلاد التي تقبل بوصية المتوفّى يمكن أن تنفع فيها هذه الوصية..حيــث يمكن للأقارب الورثة المحرومين من الإرث بسبب القوانين المحلية أن ينالوا نصيبهم بحسب الأحكام الشرعية نتيجة لهذه الوصية، وهكذا تحيا التعاليم الإسلامية في بلاد ليس فيها حكومات إسلامية، ولكن أهلها يرون العمل بوصية المتوفى ضرورية.أما البلاد التي لا يمكن فيها تقسيم الإرث طبقا للشريعة الإسلامية..فإنه وإن لم يستطع الورثة الحقيقيون الحصول على نصيبهم من الإرث إلا أن المسلمين نتيجة لإعلانهم هذه الوصية سوف يتجنبون هذا الإثم المترتب على مخالفة أحكام الشرع، ويقــــع الذنب على من يخالفون هذه الوصية من رجال الحكومة.إلا أن هذه الوصية لا تعني أن يعطي المورث أحدا من الورثة أكثر مما عينـــت لـه الشريعة الإسلامية من الإرث.فقد نهى الرسول ﷺ عن ذلك نهيا شديدا وقال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) (الترمذي، أبواب الوصايا).إذن فليست هذه الآية منسوخة، وليست بلا ضرورة وبدون داع فكثير من الأحيان يختصم الورثة على تقسيم الإرث بعد وفاة المورث، وأحيانا يطالب بعض الأقارب غير الورثة قائلين إن المتوفّى وعدنا بكذا وكذا، فأمر الله أن يدلي المورث بهذه الوصية حتى يسد أبواب التراع والخصومة بين أهله..ولا يـدعـي أحــد أو يطالب بشيء، ويجب أن تكون هذه الوصية أمام أقاربه.وباستخدام كلمة (خيرا) للمال أشار الله إلى أن ما يكسب بطرق شرعية هو المال الحقيقي، فعليكم أن تكسبوه دائما بطريق الحلال وتسعوا لجمع الحلال.أما المال الذي يُكتسب بطرق غير شرعية فلا يكون خيرا.وإنما يصبح شرا.وكذلك نصح بقوله إن ترك خيرا بأن الإنسان يترك كل ماله لمن خلفه، ويرحل من هذه الدنيا صفر اليدين، وإذن فلماذا يكسب الحرام، فيأكله الآخرون، ويدخل

Page 425

٤٢٢ سورة البقرة الجزء الثاني هو بسببه جهنم فلا تكسبوا المال من حرام لتتركوه ،بعدكم، بل عليكم أن تكسبوا من حلال، وإلا فالمال الحرام ليس بمال لكم..فكيف توصون به؟! فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (۱۸۲) التفسير: يقول الله تعالى إنه إذا قام أحد بوصية وحاول غيره تغييرها، فالإثم في عنق من يغيرها.وهذا التغيير يتم بطريقتين: الأولى : أن يملي الموصي وصيته بكلمات فيكتبها الكاتب بنية شر - بكلمات أخرى تعكس المراد، فكأنـه يـــــوم بتغيير الوصية أمام الموصي أثناء كتابتها.أما الطريقة الثانية فهي أن يغيرها بعد وفاة الموصي، أي لا يعمل بحسب ما أوصى به، بل يخالف وصيته عند تنفيذها.وفي كلتا الحالتين يكون وبال هذا الإثم على من يغيرها.وفي قوله (إثمه) ذكر السبب مكــان المسبب..إذ ليس المراد الإثم وإنما وبال الإثم.تبين هذه الكلمات أنها إشارة إلى بعض أحكام القرآن وهذا الحكم هو حكم الوراثة، وإلا فما معنى قوله تعالى (إنما إثمه على الذين يبدلونه)..وليس إثمه علــى الموصي، لأن تفاصيل الوصية إذا كانت معارضة للشرع..فلماذا يكون الإثم على من يبدلها؟ إنما يكون المبدل آثما فقط إذا كان يخالف حكما شرعيا.فهذه المخالفة أن يكون المتوفى قد أوصى بأمواله بحسب الأحكام الشرعية، ولكن الورثـــة لم يعملوا بوصيته وعندئذ لا يكون الإثم على الموصى وإنما الورثة الذين يغيرون الوصية هم الآثمون.هي فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۱۸۳) شرح الكلمات: جنفا جنف في الوصية: مال وجارَ (الأقرب).

Page 426

الجزء الثاني الفتنة، بتوزيع ٤٢٣ سورة البقرة التفسير : قال الله هنا إنه لو عرف أحد أن في وصية الموصي عيبا أو فسادًا يثير وجمع الورثة وأصلح بينهم فلا إثم عليه.يجب ألا يُظن أنه ما دام قد وصـــــى أمواله بحسب الشريعة فكيف يمكن احتمال أن يلحق ضرر بالورثـــة الحقيقيين؟ ذلك لأنهم لو عملوا بوصيته ووزّعوا الأموال بحسب الشريعة فأيضا هناك احتمال للضرر.مثلا يوصي بالثلث من ماله لغير الورثة الأصليين مع أنهم كثيرون، فلا يبقى لهم إلا قليل من المال.وعندئذ لو قام أحد بالإصلاح بين الموصي وبين ورثته المتضررين، أو بالإصلاح بين الموصى لهم وبين الورثة المتضررين ويرضيهم بأداء الحقوق لأصحابها رغم وصية الموصي..فلا إثم في ذلك، بل عليه أن يقوم بهذا حتى لا تكون فتنة.وهناك صورة أخرى هي أن يكون الموصي عند إملاء الوصية يلحق الضرر بفريـــق من هؤلاء، ويدرك الكاتب أن بينه وبين هذا الفريق خصومة أدت إلى هذا التصرف الضار..فعليه أن ينصح الموصى حتى لا يفعل ذلك، ويقوم بالإصلاح بينه وبين ورثته المتضررين..وإذا فعل ذلك فلا اعتراض على عمله.وقوله تعالى (فلا إثم عليه لا يعني أبدا أن الإصلاح المذكور غير محبب إلى الله، وأنه حسنة لا خطر على صاحبها من الإثم.كلا، إن جملة (فلا إثم عليه) لم تستخدم لبيان أن هذه الفعلة حسنة سلبية، وإنما قال ذلك لأنه وضح في الآيــة السابقة صراحة أن (من بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)، أي الآثم من يبدل الوصية.فكان هناك خطر أن يخشى أصحاب الطبائع الحذرة التدخل في قضية الوصية، ويتجنبوا الخوض فيها وإن كان بها ،فساد فلا يقوموا بتعديلها وإصلاح ما بين الفريقين..خوفا من أن يجلبوا بذلك سخط الله عليهم.ودفعا لمثل هذه المخاوف قال الله هنا إنه إذا كان في الوصية فساد أو خطأ فإزالته منها ليس إثما وإنما هو عمل حسن تثابون عليه وتكونون أهلا لفضل الله تعالى.وبقوله تعالى (إن الله غفور رحيم طمأن وبشر الموصي أنه إذا أصلح خطأه في وصيته فإن الله الغفور سوف يغفر له.وبقوله (رحيم) أشار إلى أن مـــن يتدخل هو

Page 427

الجزء الثاني ٤٢٤ سورة البقرة ويسعى لإزالة النقص والفساد في الوصية فإن الله سوف يرحمـــه ويجعلـــه مـــــوردا لأفضاله.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصَّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقون (١٨٤) شرح الكلمات تتقون التقوى هي جعل النفس في وقاية مما يُخاف؛ وفي الاصطلاح الشرعي حفظ النفس عما يُؤثِم (المفردات) المزيد من الشرح راجع المجلد الأول تحت (هدى للمتقين) الآية ٣].التفسير : : هناك من شدائد الدنيا ما هو فردي يرد على بعض الأفراد، فيضيق بهــــا ويشكو من عدم قدرته على تحملها، ولكن هناك شدائد أخـــرى يشترك فيهـا الجميع، فإذا ضاق منها أحد واشتكى يطمئنه الناس قائلين: يا صاح، هذه الأيـــام تأتي على كل إنسان، ولا يتوقع أحد أنه بمنجاة منها.فمثلا الموت سيأتي على كل إنسان، ولا نجد أحدا من البسطاء أيضا يقول إنني أسعى للنجاة من الموت، بل إن الموت آت لا محالة عاجلا أو آجلا.فبقوله تعالى (كما كتب على الذين من قبلكم) نبه المسلمين أن الصيام عمل خير وثواب وتضحية مشترك بين جميع الأديان، ولقد قام أتباعها بهذه العمل طاعة الله تعالى.ومن المؤسف جدا أن تفرُّوا من عمل خــــير وتقوى حاولت كل الأمم الحصول عليه.لو كان أمرا جديدا وفرضا عليكم وحدكم لم تسبقوا إليه لجاز لكم أن تقولوا للناس : لا تدرون مـــدى المشقة في الصيام إذ لم تجربوه، ولكن ماذا يكون جوابكم للذين قد مروا من هـذا البـــاب وتحملوا هذا العبء؟ ولا شك إنما تكون الحجة للأمم السابقة على المسلمين فقــــط فيما أمرت به من الله تعالى وأطاعته فيه.فيقول الله: أيها المسلمون، احذروا.لقـــد فرضنا عليكم الصيام، ونخبركم أيضا أنه كان مفروضا على الأمم السابقة، وأنهم قد هذه الفريضة قدر المستطاع.ولو أنكم قصَّرتم في أدائها لاعتراض عليكم أهل أدوا

Page 428

الجزء الثاني ٤٢٥ سورة البقرة الأمم السابقة وقالوا: لقد فرض الله علينا الصيام وعملنا بالأمر الإلهي.ولما فرض عليكم لم تستجيبوا لأمر الله كما ينبغي.كأن الله قد استثار بهذه الطريقــــة غـــيرة المسلمين ورفع همتهم.لا شك أن صورة الصيام كانت مختلفة أمة إلى أخرى، ولا يزال هذا الاختلاف من باديا إلى اليوم.فمنها صوم الوصال، حيث كانوا لا يأكلون السحور، وإنمــــا يفطرون وقت الليل فقط، ويصومون لأربع وعشرين ساعة.وكان البعض لا يفطرون ليلا أيضا وإنما يصومون لثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام متوالية بدون إفطار.وعند بعض الأمم كان مسموحا لهم بطعام خفيف.أما تناول الطعام الصلب فكان ممنوعا..كما هو الحال في صيام الهندوس والمسيحيين.فالمشهور عن صيام الهندوس أنهم لا يأكلون ما طبخ على النار ، ولكن مسموح لهم أن يأكلوا مثلا ما شاءوا من المانجو أو الموز أو الكمثري..وهذا لا يضر صومهم، ولهم أن يأكلوا أي شيء في صومهم باستثناء رغيف الخبز والطبيخ.وصيام المسيحيين الكاثوليك أخف من هذا أيضا.ولا شك أنهم بدءوا بهذا الصوم بناء على رواية دينية، أو بلغهم هذا الأمر عن طريق أحد الحواريين.وفي صيامهم يمتنعون عن أكل اللحم (الموسوعة البريطانية كلمة (الصوم) ولكن لهم أن يأكلوا البطاطس مع الخبز أو الخضار ولا بأس في ذلك، أما إذا دخلت قطعة من اللحم إلى المعدة فسد الصيام عندهم.إذن هناك اختلاف في صورة الصيام بين أمة وأخرى.ولا شك أن الله قد أودع حكما في هذه الأوامر الصادرة في مختلف الأزمان.فمثلا الأمم التي تعتاد القتال والحروب، وتعيش على القنص والصيد، وتكثر من أكل اللحم لمدة طويلة فإنهــــا أخلاق محمودة تتحلى بها أمم تأكل الخضار والنباتات.فلو قال لهم الله إصلاحا لأخلاقهم إن الخضروات أيضا غذاء طيب وضروري وأمرهم بالإمساك عن أكل اللحم مرة في الأسبوع..فهذا أيضا صوم مليء بالحكم.أمــــا نحن المسلمين فقد أمرنا الله أمرا عاماً بأكل اللحم والخضراوات وما طبخ على النار وما لم تمسه النار، وهكذا جمع الله في طعامنا كل نوع من الاحتياط والحكمة.وربما تتعرى من

Page 429

٤٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني كان مثل هذا الاحتياط بمثابة قيود شاقة على الأمم السابقة، ومن أجل إصلاح أخلاقهم فرض الله عليهم صياما كهذا.وقوله تعالى (كما كتب) يعني مماثلة في الفرضية وليس في الكمية والكيفية والتفاصيل.وليس المراد أن صيامهم كصيام المسلمين في الكيفية والعدد، وإنما المراد أن الصيام في حد ذاته قد فُرض على المسلمين.فقد جاء في الموسوعة البريطانية، تحت كلمة الصوم موسی It would be difficult to name any religion system of any description in which it is wholly unrecognized....أي يصعب أن نجد ملة ليس فيها حكم الصوم بصورة ما..بل في كل ديـــن هناك أمر بالصوم.وعندما ننظر إلى الدين اليهودي نجد أنه ورد في التوراة أن عليه السلام عندما ذهب إلى الطور صام أربعين يوما وليلة، و لم يأكل أو يشرب فيها، قيل: (وكان هناك عند الرب أربعين نهارًا وأربعين ليلة و لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء خروج (٢٨: (٣٤).كذلك جاء في التوراة أنه فرض على اليهود صوم اليوم العاشر من الشهر السابع (لاويين ٢٩: ١٦).وكـــان بنـو إسرائيل يصومون هذا اليوم دائما، وكان أنبيائهم يصومون بذلك.فقد جاء عن داود عليه السلام: (أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحا.أذللت بالصوم نفسي) (مزامير.(٣٥ :۱۳ وقال النبي إشعياء (ها إنكم للخصومة والتراع تصومون ولتضربوا بلكمة الشر.لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء (إشعياء ٤: ٥٨).وقال دانيال: (فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبا بالصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد) (دانيال ٣: ٩).ويقول النبي يوئيل: لأن) يوم الرب عظيم ومخوف فمن يطيقه.ولكن الآن يقول الرب: ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم، لأنه رؤوف رحيم بطيء الغضب وكثير الرأفــــة ويندم على الشر (يوئيل ۱۱ : ۲-۱۳)

Page 430

٤٢٧ سورة البقرة الجزء الثاني وإذا نظرنا إلى المسيحية وجدنا فيها أيضا ذكر الصيام.يقول الإنجيل عن المسيح عليه السلام إنه صام أربعين يوما وليلة (متى ٢ ٤) وكذلك نصح المسيح الحواريين قائلا: ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يُغيرون وجوهم لكي يظهروا للناس صائمين.الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم.وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء.فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية) (متى ١٦: ٦-١٨).۱۲ كذلك يذكر الإنجيل أنه عندما لم يستطع الحواريون إخراج روح شريرة ذهبوا إلى المسيح وسألوه عن السبب فقال لهم: (هذا) الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلا بالصلاة والصوم مرقس (۹ (۲۹) (١٢.والروح الشريرة أو الجن اصطلاح كان يطلقه الحواريون على أمراض مختلفة، وكانوا يلتمسون من المسيح إخراج هذا الجن.يريدون بذلك شفاء هذه الأمراض العقلية.وقد عالج المسيح هؤلاء المرضى فشفوا على يده.وعندما لم يستطع الحواريون مرة إخراج روح شريرة كهذه قال المسيح إن هذا الجن لن يخرج إلا بالصوم والدعاء..وكان يقصد أن الحصول علـــى الكمالات الروحانية لا يتم إلا بالصوم والدعوات.ولكن العجيب أن المسيح الذي قال بأن الأمراض الشديدة لا تشفى إلا بالصيام والدعوات..تغفل أمته اليوم عن الصيام لدرجة أنهم ربما يأكلون في اليوم الواحد ما يأكله الآسيويون في أسبوع..فأنّى لهم أن يصوموا؟ إنهم لا يقتربون من الصوم.يصومون ثلاثة أيام في العام، ولكن بأسلوب الهندوس الذين يمسكون عن أكل مـــــا طبخ على النار، ومع ذلك يشرب أحدهم لترين من الحليب وكذلك يمسك المسيحيون عن أكل بعض أنواع الطعام، ويأكلون ما سواها في صــومهم كيفمـا يشاءون، ويظنون أنهم صاموا.ومع أن المسيح كان من اليهـود الـذين كانوا ۱۲ حُذفت هذه الفقرة الآن من بعض الطبعات!

Page 431

الجزء الثاني ٤٢٨ سورة البقرة يصومون صوما كاملا، أنه نفسه يُخبر بأن العديد من الجن أي الأمراض ومع الروحانية والبدنية لا تُطرد ولا تُشفى إلا بالدعاء والصيام." وإذا نظرنا إلى دين الهندوس وجدنا أيضا أنواعا من الصيام، ولكل نوع من شروط وقيود تفصيلية مذكورة في كتاب "دهرم سندو.وقد ورد ذكر الصيام عند الهندوس والجينيين في الموسوعة البريطانية.وذكر فيه أيضا عن ديانة الزردشتيين أن كونفشيوس أمر أتباعه بالصوم؟ (الموسوعة البريطانية، تحت كلمة صوم).بل قد ظهر في هذه الأيام نوع جديد من الصوم.فعندما يتخاصم بعض الناس فإنهم يضربون عن الطعام احتجاجا.وقد قام الباندت غاندي" بالإضراب عن الطعام مراراً احتجاجًا ضد الإنجليز.فالصوم إذن وسيلة من وسائل الرقي الروحاني ونيل رضوان الله في كل الأديان، وكل الأمم قد نالت بركات الصيام.وندرك بإلقاء نظرة على تاريخ طويل للأديان أن عالم الدين كله سلم واعتـــرف بأهميته دوما.ولكن مما لا شك فيه أن الصورة التي قدم الإسلام بما الصوم صورة مميزة بين جميع الأديان.يأمر الإسلام كل عاقل بالغ بالصوم المستمر شهرا كاملا..إلا أن يكون مريضا أو على يقين بأن المرض يصيبه إذا صام، أو كان على سفر، أو كان شيخا هرما فانيا، ويأمر المرضى والمسافرين أن يصوموا ما فاتهم في وقت آخر.أما الذين يعجزون عن المرض بسبب ضعفهم فلا صوم عليهم.والصوم هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن تناول أي شيء من مأكل ومشرب..بقدر قليل أو كثير والكف عن المباشرة الجنسية.يتناول الصائم طعام السحور قبل طلوع الفجر حتى لا يتعرض جسمه لمشقة زائدة، ويبادر إلى الإفطار عند غروب الشمس ولا تحبذ شريعتنا صوم الوصال..أي مواصلة الصوم بعد الإفطار بدون تناول السحور.6 وهناك تساؤل حول قوله تعالى (كما كتب على الذين من قبلكم): هـــل وجـــود عادة في أمة سابقة يحتم على الأجيال اللاحقة العمل بحسب هذه العــادة؟ هنــاك عشرات العادات الخاطئة في الأجيال السابقة، وهناك عشرات من العادات الخاطئة

Page 432

٤٢٩ سورة البقرة الجزء الثاني في الأجيال الحالية أيضا.فليس صحيحا أن يكون لأمة عبادة معينة ثم يكون لزامـــــا على من بعدهم أن يقوموا بها أيضا! لقد أقام القرآن الكريم لهذا الاعتراض وزنا فإنه لا يعتبر وجود الصيام في الأمم السابقة دليلا على فضائله وإنما يقول هنا إن الصوم ليس ثقلا زائدا يلقى على كواهلكم، بل كان واجبا على الأوّلين أيضا، فوجود الصوم في الأمم السابقة ليس دليلا على فضيلته وإنما على أهميته أما فضائل الصوم ومنافعه فقد ذكرت في قوله تعالى (لعلكم تتقون)..أي لقد فرضنا عليكم الصيام كي تنجوا وتحتموا.ويمكن فهم قوله تعالى (لعلكم تتقون بعدة طرق، منها مثلا: لقد فرضنا علـيكم الصيام حتى تتقوا لوم الأمم الأخرى التي كانت تصوم وتحملت مشقة الجوع والعطش وشدة الطقس إرضاء الله تعالى فإن لم تصوموا تعرضتم لنقد الآخرين بحق، وصرتم محط تحقير في أعينهم، وقيل لكم تدعون أنكم أكثر الأمم روحانية، ولكن ليس فيكم التقوى التي كانت في الأمم السابقة؟ فلولا الصيام في الإسلام لتعرض المسلمون لسهام اللوم من الأمم الأخرى جميعا.ولقال المسيحيون مثلا: كيف يمكن أن يكون دينا ليس فيه الصيام الذي تصفو بـه القلـوب وترتقي الروحانية، ويحتمي الإنسان من السيئات؟ وكذلك لقال اليهود: لقد صُمنا لمئات السنين، ولكن المسلمين لا صوم عندهم ولقال الهندوس والزردشتيون وكثير غيرهم من الأمم كيف يمكن أن يكون الإسلام دينا صحيحا ولا صوم عنـدهم، الله ؟ بينما نحن نصوم ونرضي وثانيا يشير قوله تعالى (لعلكم تتقون إلى أن الصائم يحتمي بالله تعالى، لأن الاتقاء هو اتخاذ الوقاية واتخاذ الشيء ذريعة للنجاة.إننا فرضنا عليكم الصيام حتى تتخذوا الله جُنَّةً تقيكم من الشرور ، وتحميكم من فوات الخير.فالضعف علـــى نوعين: الأول-أن يصاب الإنسان بشر، والثاني أن يضيع منه الخير.فإذا ضــــربه أحد فقد أصابه بشر ، ولكن من الشر أيضا أن يجلب المرء على نفــــســه ســخط الوالدين، مع أنه ليس في سخط الوالدين وتركهما بيت ابنهما ضرر ظاهري عليه، بل سوف يتمكن من توفير بعض النفقات ولكن رضا الوالدين خير وبركة، وإذا

Page 433

٤٣٠ سورة البقرة الجزء الثاني سخطا عليه حُرم من هذا الخير.فالاتقاء يدل على جانبين من الشر..أي أن يميـــل المتقي إلى فعل الخير، وأن يُحفظ من الشر والذلة.ودائرة الخير والشر تختلف باختلاف المجالات.فمثلا إذا كان أحـــد مــــسافرا في السيارة فاتقاؤه من الشر يعني أن لا يتعرض لحادث مكروه، بل يصل إلى البيت سالما.أما الصوم فلا شك أنه أمر ديني روحاني، ولكن نظرا لما له من تأثير علــــى صحة الإنسان فيمكن أن يُعد أمرا دنيويا أيضا.واتقاء الصائمين يعني أن يتقوا من الشرور الدينية والدنيوية، فلا تضيع منهم الخيرات والبركات الدينية، ولا يصابوا بضرر صحي.فالصوم أحيانا يحمي من العديد من الأمراض.فإن الفحوص العصرية تبين أن الكبر والضعف يصيب الإنسان بسبب ما يتجمع في الجسم من مواد زائدة تحدث المرض والموت.بل قال بعض الحمقى من هؤلاء العلماء الماديين بأننا عندما تتمكن من القضاء على هذه المواد الزائدة نتمكن أيضًا من القضاء على الموت! هذه الفكرة وإن كانت تدل على الحمق، إلا أنه مما لا شك فيه أن الجسم يصاب بالإرهاق والضعف بسبب هذه المواد الزائدة فيه، والصوم عظيم الفائدة في هـذا الصدد.لقد رأيت بنفسي أننا لو صمنا بصحة في رمضان فلا شك أننا نشعر بشيء من التعب والمشقة من الصيام، ولكننا بعد انقضائه نشعر بتجدد قوتنا وانتعاش.هذه فائدة مادية في الصيام تتعلق بصحة الجسم.وثالثا ولكن هناك منفعة روحانية.فالذين يصومون ويتحملون لوجه الله فإنهم يحظون بحماية الله من عقوبة ذنوبهم.لذلك ذكر الله بعد الصيام موضوع استجابة الدعاء وقال: إنني قريب من عبادي وأجيب دعواتهم.فالصوم يجذب فضل الله، والصائم يجعل وقاية له تحميه من كل الأذى والشرور.ورابعا ثم إن الإنسان عندما يحس بالجوع ويشعر بقرصاته وآلامه فإنه يهتم بإخوانه الفقراء.وفي نجاتهم من الهلاك نجاة له أيضا من الهلاك، لأن نجاة بعض الأفراد مـــــن القوم تنفع القوم جميعا.ولذلك كان الرسول الله يكثر من الصدقة في أيام رمضان.فقد ورد في الحديث أنه كان) في رمضان أجود بالخير والعطاء من الريح المرسلة) (البخاري، كتاب الصوم الحق أنه من أكبر أسرار الرقي القومي أن ينفع الإنسان مع نشاط

Page 434

٤٣١ سورة البقرة الجزء الثاني الآخرين بما يملك.وإنما تحل كل أنواع الدمار والهلاك بالأمة إذا ظن أفرادها أنه لا حق لأحد فيما يملكونه، ولا يمكن أن ينتفع بالشيء إلا مالكه.مع أن أساس نظام ومدنية العالم مبني على مبدأ أن ينتفع غيري بما عندي، وهذا ما يعود عليه رمضان.فالمال مالنا.ومواد الطعام والشراب ملكنا..ولكننا مأمورون بأن ننفع بها الآخرين و نطعمهم إياها، لأن هذا هو الأساس لحضارة العالم.وخامسا - إن الصيام أيضا نجاة للإنسان من الهلاك، بمعنى أنه يعوده على تحمل المشاق.والذين يتعودون المشاق والشدائد بألوانها لا تنهار همتهم عند حلولها، وإنما يتصدون لها بشجاعة ويفلحون وينجون.وكما أن الحكومات الدنيوية تحتفظ باحتياطي من الجنود الذين يتدربون شهرا أو شهرين في السنة، وعند نشوب الحرب يُستدعون على الفور، كذلك أُمر المسلمون أن يتدربوا في شهر رمضان على الصيام..لأنهم لا يصومون ولا يتهجدون كل أشهر السنة.وكما أن الجنــــود الذين يواظبون على التدريب لا ينهزمون..كذلك الأمة التي يكون أفرادها أبــــرارا أتقياء، ومعتادين على ترك كل شيء لوجه الله تعالى..لا يمكن أن يُلحق الشيطان بها أي هزيمة ولهذا السبب نجد في تاريخ المسلمين أنهم ما داموا كجنود روحانيين ما قدر الشيطان على الهجوم عليهم، ولكن عندما قل هؤلاء الجنود بين المسلمين إلى حد الندرة هاجمهم الشيطان وأهلكهم بأنواع الوساوس.فالصيام يعوّد الإنسان على التضحية.يخرج المؤمنون عموما من بيوتهم لخدمـــة الدين، كما يتعرضون لمشقة الجوع والعطش في جهادهم للدعوة إلى الله.الفقـــــراء يكونون متعودين على هذه الشدائد، لكن الأثرياء ليسوا كذلك.فالصيام يدربهم أيضا على تحمل مشقة الجوع والعطش حتى إذا سمعوا نـــداء الله أن يـــا أيهـا المسلمون، تعالوا وجاهدوا في سبيل الله، هَبّوا جميعا دون تردد أو شعور بثقل على هم قلوبهم.فمن أكبر منافع الصوم أنه يدرب الإنسان على تحمل المشقة والشدة في سبيل الخير.إن الإنسان يقوم في الدنيا بأعمال شتى.يجتهد ويكابد ، وأحيانا يضيع وقته ســـــدى بدون عمل مُجدٍ، ويتكلم عبثا..لأن جسم الإنسان وعقله لا يبقيان فارغين بدون

Page 435

٤٣٢ سورة البقرة الجزء الثاني عمل، بل إن الإنسان يعمل في كل حين عملا ما.ولكن بعض أعماله لغو وضار، وبعضها مفيد وخير.ولكن رمضان يدربه على ما يعوده على تحمل المشاق والشدائد في أعمال الخير ما هي الأمور التي يجد فيها الإنسان متعة وراحة؟ إنما هي الأكل والشرب والنوم والعلاقات الجنسية.وهذه الأخيرة هي أعلى نموذج للتمدن، ويندرج تحتها أيضا مقابلة الأصدقاء والارتباط بالأعزة والأقارب..إلا أن علاقة الزوجين أقوى هذه العلاقات.إذن تتوقف راحة الإنسان على الأكل والشرب والنوم والعلاقات الجنسية.قال أحد الصوفية أن روح التصوف هي قلة الكلام وقلة الأكل وقلة النوم ، ورمضان يتضمن هذه الخلاصة الصوفية..ففيه قلة النوم؛ لأن المسلم يستيقظ لصلاة التهجد وفيه قلة الطعام، وهو ظاهر لأنه يجوع طول النهار.وفيه قلة العلاقات الجنسية، وفيه أيضا قلة الكلام فقد قال النبي : ليس الصوم أن يمسك الإنسان عن الأكل والشرب، ولكن الصوم أن يترك لغو الكلام.فلا بد للصائم أن يكف عن لغو الحديث والخصومة وغيرهما مما يدخل في اللغو.وهـذه الأمور الأربعة من الأهمية بمكان ، ولها علاقة عميقة بالحياة الإنسانية.وعندما يقلل الصائم من هذه الأمور الأربعة التي تتمثل فيها راحته ومتعته، فإنه يعود نفسه على تحمل المشاق، وبالتالي يتصدى لكل شدة في الحياة بشجاعة ويكون من الناجين.و سادسا من معاني قوله تعالى (لعلكم تتقون أن الإنسان الصائم يتقي بصومه من السيئات والذنوب.فبانقطاعه عن الدنيا تزداد نظرته الروحانية جدة، ويطلع على عيوب لم يكن يبصرها من قبل.وكذلك يتقي الصائم من الذنوب بإمساك لسانه كما قال المصطفى : (من لم يَدَع قول الزور والعمل به فليس الله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (البخــــاري، كتاب الصوم)..أي لا يعني الصوم أن يمتنع الإنسان عن الطعام والشراب طــول نهاره، بل عليه أن يحمي فمه من كل ما يضر روحانيته، فلا يكذب ولا يسب ولا يغتاب ولا يختصم.الأمر بحفظ اللسان عام ويجب العمل به دوما، ولكن الصائم يحفظ لسانه بصفة خاصة وإلا فسد صومه.وإذا تعوّد الإنسان على حفظ اللسان

Page 436

الجزء الثاني ٤٣٣ سورة البقرة لشهر كامل تمكن من حفظ نفسه سائر الشهور أيضا.وهكذا فإن الصوم يحميه من الذنوب على الدوام.الله وسابعا وقوله تعالى (لعلكم تتقون يذكر منفعة أخرى للصيام..وهي أنه يثبت قدم الإنسان على التقوى، ويتيح له نوال المدارج الروحانية العليا.فليس الأثرياء وحدهم الذين يتقربون إلى الله بالصيام، بل إن الفقراء أيضا يشعرون في الصيام بانقلاب روحاني في نفوسهم ويحظون بمتعة الوصال بالله تعالى.إن الفقراء الذين يعيشون طول السنة في ضيق، وأحيانا يذوقون الجوع مرة بعد أخرى..نبههم برمضان أن بوسعهم استغلال هذا الجوع لكسب الثواب.والثواب على الجوع من أجل الله عظيم..حتى ورد في الحديث أن الله يقول: (الصوم لي وأنا أجزي بــه).أي أن لكل حسنة أجرًا مختلفًا، أما الصوم فأنا الجزاء للصائم.وإذا فاز الإنسان بالله..فماذا يريد بعد ذلك؟ فبالصيام يعلم الله الفقراء أنهم إذا صبروا على هذه الشدة والضيق و لم يشكوا الله كما يفعل بعض الجهلاء ويقولون: ماذا أعطانا الله حتى نصوم ونصلي؟ كتب هذا الجوع في صحيفة أعمالهم حسنةً، فلا حاجة أن ييأسوا ويقولوا: ما جدوى هذه الحياة مع الفقر والجوع؟ لو عاشوا بالفقر والجوع ابتغاء وجه الله فإن هذا الجوع نفسه يشرفهم بلقاء الله.الواقع أن الفقراء أكثر عددا من الأثرياء في العالم، وكانت بداية كل الجماعات الدينية بالفقراء، وانتهاؤها أيضا بالفقراء الغرباء بل كان جميع الأنبياء تقريبا مـــــن الفقراء: لم يكن عيسى ولا موسى ولم يكن الإمام المهدي من الأثرياء.لقد ارتفــــع ثمن عقاراته بازدهار قاديان..وإلا فإنه بنفسه قدر ثمنها بمبلغ ۱۰,۰۰۰.الروبيات والممتلكات بهذا الثمن لا تُدر عائدا كبيرا.و لم يكن إبراهيم ولا نوح من أثرياء القوم.نعم، يجعل الله أنبياءه عظماء كبارا، ولكن هذا يتم فيما بعد وبفضله هو عز وجل.لم يكن مؤسسو الديانات من كبار القوم..أي من الأثرياء والملوك.أن بعض أنبياء الله كانوا من الطبقة الوسطى، ولكن ليس من الملوك إلا قلة نادرة مثل داود وسليمان ولكن لم يكن أحد منهما مؤسسا لديانة.إن ٨٠ %من سكان العالم فقراء.وبرمضان واسى الله هذه الأكثرية الفقيرة التي ضاعت أعمارها صحيح

Page 437

٤٣٤ سورة البقرة الجزء الثاني في الفقر، وقال لهم لا تظنوا أن الفقير لا يستطيع لقاء الله..وإلا فكيف حظــي الصائمون في رمضان بلقاء الله؟ يمكنكم نوال بركات عظيمة من الله رغم فقركم..ولكن بشرط ألا تنسوه في فقركم، ولا ينطق لسانكم بكلمة شكوى من الله تبارك وتعالى.ومن جانب آخر فإن الصيام يحقق التقوى للأثرياء أيضا، وذلك أن الصائم منهم يجوع من أجل الله، ولا يأكل إرضاء له ولا يستخدم ما أباحه الله له من الحلال، رغم توافر ما لذ من طعام وشراب في بيته وتحت يده.عندما يفعل ذلك يفكر في نفسه تلقائيا أنه ما دام قد ترك الحلال إرضاء الله..فلماذا يرغب فيما حرمه الله؟ وهنا تتولد فيه القدرة على ضبط النفس ويزيده الله تقدما في مجال الخيرات.وثامنا من المنافع الروحانية للصوم أن الإنسان بالصوم يتشبه بالله نوعا ما.فمن صفات الله أنه أسمى من أن ينام والصائم لا يستطيع أن يستغني عن النوم كليـــة، ولكنه يستطيع أن يضحي بجزء من نومه أثناء شهر الصيام إرضاء الله تعالى : فيستيقظ لتناول السحور والصلاة والتهجد.أما النسوة اللاتي لا يستطعن الصوم فهن يشتغلن في إعداد طعام السحور.ثم يقضي الإنسان بعـض ليلـه في الدعاء وبعضه في الصلاة وهكذا لا يبقى من الليل إلا القليل للنوم.أما الذين يشتغلون بأعمال وقت النهار فلا يبقى لهم للنوم في أيام الصيام إلا سويعات.وهكذا يتشبه الإنسان بالله إلى حد ما.ثم إن الله متره عن الأكل والشرب، أما الصائم فلا يستطيع ترك طعامــــه وشـــــرابه تماما، ولكنه بالإمساك عن الطعام وقت النهار في أيام رمضان يتشبه بالله في هـذه الصفة إلى حد ما.ثم كما أن الله خير كله كذلك الصائم مأمور في رمضان على وجه الخصوص بفعل الخيرات.ولقد قال النبي الله ولا صوم لمن يقع في الغيبة والنميمة وسوء القول وما إلى ذلك.فكأن المؤمن أيضا يسعى ليصبح خيرا كله، ويتجنب الغيبة والشجار والخصام.وهكذا يتشبه قدر المستطاع بالله تعالى.

Page 438

الجزء الثاني ٤٣٥ سورة البقرة والظاهر أن كل شيء منجذب إلى مثله، وهناك مثل يقول: الطيور على أشكالها تقع.فمن المنافع الروحانية للصيام..أن الإنسان يحظى بوصال الله تعالى، ويصبح الله محافظا عليه.و تاسعا من المنافع الروحانية للصيام أن إلهام الله ينزل على قلب الصائم، وتزداد بصيرته الكشفية جلاء ونورا.والحقيقة أننا لو تدبرنا لوجدنا أنه ليس عنـد الله عادات، ولكن فيه ما يشبه عادات الإنسان على نحو ما.ليس الله عيــون كـعيــون البشر، ولكنه يقينا بصير.وليس الله آذان كآذان الإنسان، ولكنه يقينا سميع، وليس عند الله عادة من العادات التي تكون في الإنسان ولكنه يعيد أفعاله.والعادة تعني إعادة فعل مرة بعد أخرى، وهذا الأمر يتصف به الله تعالى، فهو إذا أنزل فضله في مناسبة ما..أعاد إنزال فضله كلما عادت هذه المناسبة.وبما أن كلام الله..القرآن الكريم..نزل في شهر رمضان فلو وضعنا صفة العود الإلهية في الاعتبار، واتبعنا الرسول الكريم الذي نزل عليه القرآن لاستفدنا من هذه الصفة الإلهية المشابهة للعادة الإنسانية.فالذين يقتدون بالرسول ، وينقطعون عن الدنيا رغم وجودهم فيها، ويقللون من أكلهم وشربهم ونومهم، ويتجنبون لغو الكلام، فإن الله يشرفهم بإلهامه ويتزل عليهم كلامه في كل رمضان بحسب هذه الصفة، ويفتح عليهم أبواب رؤى وكشوف صادقة، ويطلعهم على أسرار غيبه.هناك إلهام لسيدنا المهدي معناه: "جاء الربيع ثانية وتحقق وعد الله مـــرة أخـــرى" ضميمة البراهين الأحمدية، الخزائن الروحانية ج ٢١ ص٢٥٨).وهنا أيضا ذكـــر العادة والتكرار.لقد تجلى الله مرة في فصل الربيع، وكلما أتى هذا الفصل يقول الله: ماذا سيقول عبادي؟ فَلْتَتَجلَّ عليهم برحمتنا مرة أخرى.وإذا استفاد الناس منها نزلت عليهم هذه النعم في ربيع قادم.موضوع وقصارى القول: لو أننا شبهنا كلام الله بشجرة..فإن الصفة الإلهية المشابهة للعادة الإنسانية تهز هذه الشجرة كل مرة في رمضان فتساقط على المؤمنين فواكه طازجة.

Page 439

الجزء الثاني ومشربه ٤٣٦ سورة البقرة وعندما وعاشرا ومن المنافع الروحانية للصيام أيضا أن الإنسان في رمضان يتـــرك مأكلـه لله تعالى..فكأنه يبدي استعداده للتضحية بنفسه في سبيل الله يقطع علاقته الجنسية مع زوجته....فكأنه يعلن استعداده للتضحية بنسله في سبيل الله.وعندما يقدم هذه الأسوة يستحق لقاء الله تعالى.وبسبب توطيد هذه الصلة مع الله، ،، وبازدياده قوة في الروحانية يصبح الصائم بمأمن من الضلال طول حياته.ثم إن صيام رمضان يعود الإنسان على الاستمرارية والدوام، لأن هـذه الحـسنة تستمر لمدة طويلة.يتناول الناس أثرياء أو فقراء، من أهل المدن أو القرى..عــــدة وجبات كل يوم بحسب مقدرتهم، ولكن الصائمين يقتصرون في رمضان علــى وجبتين فقط.وفي الأيام الأخرى ينامون طول الليل، بينما في رمضان يستيقظون لصلاة التهجد وتناول السحور ويقضون كثيرا من وقت النهار في تلاوة الذكر الحكيم.وهكذا في أيام رمضان يضحي الإنسان بكثير من عاداته، ولا تستمر هذه التضحية ليومين أو ثلاثة..وإنما لشهر كامل بدون انقطاع.فالصيام إذن يعلّم درسا في الاستقامة والمداومة والاستمرارية والحقيقة أن الإنسان لا يمكن أن ينال الله بدون التضحيات المستمرة غير المنقطعة..لأن المحبة الحقيقية لا تحتاج إلى محرك يثيرها، كما أنها لا تكون مؤقتة تحت ضغط، بل إنها تتصف بالطواعية والاستقلال.ولهذا السبب عندما عرف النبي أن إحدى زوجاته قد ربطت حبلا في السقف حتى إذا غلبها النعاس في الصلاة تمسكت به كيلا تسقط..قال هذا ليس بالعبادة، وإنما العبادة الحقيقية هي تلك التي يؤديها الإنسان ببشاشة دون ملل يقضي علــى صفة الدوام فيها (البخاري، كتاب التجهد).الحادي عشر - ومن منافع الصيام أن يتدرب المؤمن في هذا الشهر على التخلي عن حقوقه المشروعة.إنه يتدرب خلال أحد عشر شهرا على ترك الحرام، ولكنه في الشهر الثاني عشر -رمضان- لا يترك الحرام فقط، وإنما يتدرب على ترك الحلال.وكأننا في غير أيام الصيام نقدم نموذجا لترك الحرام لوجه الله، ولكن في الصيام نقدم نموذجا لترك الحلال أيضا لوجهه تعالى.والحق أنه لا يمكن تحقيق نجاح حقيقي في الدنيا إلا إذا تعودنا على ترك الحلال أحيانا.إن أكثر الفتن في العالم لا تحدث لأن

Page 440

٤٣٧ سورة البقرة الجزء الثاني الناس لا يريدون ترك الحرام، وإنما لأنهم غير مستعدين لترك الحلال.إن الذين يهضمون حقوق الناس الآخرين بطريق غير شرعي قلة، ولكن ما أكثر الذين هـــم مستعدون للقتال والتراع بدل أن يتخلوا عن الحلال.هناك كثير من المجانين والحمقى الذين يثيرون فتنا عظيمة وفسادا كبيرا في العالم لنيل حقوقهم غير مكترثين لتدمير سلام العالم..مع أنهم لو قدموا التضحية بحقوقهم لتم القضاء على كثير من التراعات والمفاسد، ولتوطد جو الأمن والوئام، فشهر رمضان يعلم ألا تترك الحرام فحسب، بل إذا دعت الحاجة فاترك الحلال لوج الله، جه حتى يتوطـــد الخير، وينتشر في الدنيا وتكون كلمة الله هي العليا.ويجب أن نتذكر أن العبادات الإسلامية تشتمل على كثير من الدروس، وبعض هذه الدروس في كل عبادة وبعضها نتلقاها في أكثر من عبادة، وبعضها تتجلى في مجموعة من العبادات.ونفس هذا المشهد نراه في العالم المادي الذي خلقه الله تعالى..ففي كل فرد منه حقيقة، ولكن في فردين معا حقيقة أخرى، وإذا اجتمـــع أكثر من اثنين ففيهم حقيقة أخرى، ثم في العالم كله حقيقة أيضا.وكما نجد ترتيبا ونظاما وربطا بين قانون الطبيعة كذلك نجد ربطا ونظاما بين العبادات.ولكن هذا لا يوجد إلا في الشريعة الإسلامية دون غيرها.هناك في الشرائع الأخرى صلاة وزكاة وصوم وغيرها من العبادات ولكن لا ربط بينها ومثالها كاللبنات المبعثرة ولكن لو نظرنا في الشريعة الإسلامية لوجدنا في كل تعليم منها حقيقة.ثم في اجتماع أكثر من تعليم حقيقة وحكمة أخرى.ومثال ذلك الصلاة والصوم.فالصلاة في حد ذاتها تحتوي على درس والصوم يحتوي على درس، ولكنهما معـــا يشتملان على درس إضافي آخر.ولو لم تكن الصلاة مع الصيام أو لم يكن الصيام الصلاة لفقدنا هذا الدرس.صحيح أن الصيام في حد ذاتــــه نــــافع، والصلاة بنفسها نافعة أيضا..شأن كل العبادات الإسلامية التي تقدم كل منها نفعا عظيما، إلا أن الصلاة والصوم معا تعلماننا درسا أريد ذكره الآن.مع

Page 441

الجزء الثاني ٤٣٨ سورة البقرة إن المقام الأصلي للصلاة هو الطهارة، ويسمى الوضوء، لذلك قال النبي ﷺ إذا توضأ أحدكم وجلس في مصلاه فهو في صلاة (مسلم، كتاب المساجد).الصلاة إنما هي الذروة من هذه الحالة وإلا فإن الصلاة الحقيقية هى تلك الكيفية القلبية الطاهرة للمؤمن التي تتعلق بالوضوء.صحيح هي تعالوا الآن ننظر ما إلى أن يخرج من الجسم شيء، كالبول أو البراز أو ما يخرج عند اللقاء الجنسي بين الزوجين، أو ما يُحدثه المرء وينقض الطهارة.إذن فمدار الوضوء على عدم خروج شيء من الجسم.وبناء على ذلك يمكن القول أن مدار طهارة الصلاة على عدم خروج شيء من الجسم، أما مدار طهارة الصوم فعلى عدم دخول شيء في الجسم.أننا نُهينا عن العلاقات الزوجية أثناء الصوم ولكن ذلك لكيلا ينحرف اتجاهنا عن الصوم..وإلا فإن المدار الحقيقي للصوم هو عدم دخول شيء في الجسم.لو كان هناك الصلاة فقط، ولو كان الوضوء للطهارة الظاهرية فقط..لقيل إنما المقصود منه هو غسل الوجه والأطراف فقط.وكذلك لو كـــان هنــاك الصوم فقط.ولو كان هناك رخصة لأكل شيء قليل لقيل إنما المراد من الصوم الجوع فقط.ولكن نقض الوضوء بخروج شيء من الجسم، وبطلان الصوم بدخول شيء في الجسم..ليدل على أن هناك علاقة بين خروج شيء من البـــدن وبـــين الصلاة، وعلاقة بين دخول شيء في البدن وبين الصوم.وبالجمع بين هذين الأمرين نتوصل إلى نتيجة أن الإنسان لا يمكن أن يكتمل طهارة ما لم يأخذ حذره مـــن جانبين..أي لا يسمح لبعض الأشياء بالدخول في جسمه، ولا يسمح لبعض الأشياء الأخرى بالخروج منه.فإذا أخذنا هذين الاحتياطين كملت طهارتنا.فبالصلاة والصوم معا..عُلّمنا أن علينا أن نضع في الاعتبار أنه بخروج بعض الأشياء حقيقة الوضوء.إن العمل الذي نقوم به في الوضوء يستمر من الجسم يصبح الإنسان غير طاهر، فلا يسمح لها بالخروج: وأنه بدخول بعض الأشياء في الجسم يصبح غير طاهر ، فلا يسمح لها بالدخول.والسؤال الآن: ما هي تلك النجاسات التي يضر خروجها من الإنسان بروحانيته؟ في الأمور الدنيوية نرى أن خروج النجاسة من الجسم هو الخير والأفضل، فهل

Page 442

٤٣٩ سورة البقرة الجزء الثاني هناك نجاسات يكون عدم خروجها هو الأفضل؟ نعرف من القرآن الكريم ومن أقوال النبي الله أن هناك فعلا بعض النجاسات والفسادات التي يكون عدم خروجها هو الأفضل والخير.فمثلا يكون أحد كثير الغضب، فلو ثار غضبه في مناسبة ولكنه كظم غيظه فإن الله يمدحه ويقول (والكاظمين الغيظ) (آل عمران: ١٣٥).فالإنسان الصالح المتقي أيضا يغضب، ولكنه يكظم غيظه..مثلما يفعل في الصلاة حيث يراعي أن لا يخرج منه أشياء تنقض الوضوء.هناك بعض الكيفيات التي إذا كبتها الإنسان قل ظهورها، وإذا تركها حرة ظهرت أكثر.والغضب أيضا من هذه الكيفيات.وفي لغتنا يقولون : لقد أخرجت عليه غضبك فاتركه الآن.أي لقـــد عبرت عن غضبك بلومه وضربه فاتركه الآن ولكنه لو كبته وكظمه کسب حسنة.ويقول الرسول : إذا هم الإنسان بسيئة ولكنه لم يعمل بها وردع نفسه عن فعلها..فإنه يثاب على ذلك (مسلم) الإيمان).إذن فهناك بعض الكيفيات القلبية التي إذا أظهرها الإنسان بطلت طهارته، وإذا كظمها أصبحت حسنة.وهذا الدرس نتعلمه من الصلاة.والأمر الثاني ألا نسمح لبعض الأشياء بالدخول في أجسامنا، ومثال ذلك الكــذب والاستهزاء والنميمة والغيبة وغيرها فعدم سماع هذه الأشياء أيضا حسنة.يصبح لأن الاشتراك فيها يعرّي الإنسان من الروحانية.فالصوم يعلمنا أن نتجنب بعض الأمور النجسة التى إذا دخلت في نفوسنا أبطلت روحانيتنا وحرمتنا من قرب الله عز وجل.يسمح فلكي يكتمل الإنسان في الأخلاق السامية لا بد له من مراعاة الأمـــرين؛ أي لا لبعض المفاسد من أن تخرج من جسمه، ولا يسمح لبعضها أن تدخل فيه.وإذا قيل: لماذا أمر الله بالصيام في شهر رمضان فقط، ولم يوزع أيامه على مدار السنة؟ فالجواب أنه إذا لم يعمل الإنسان عملا ما بتواتر ومن دون انقطاع لم يحصل على تدريب صحيح فلو صمنا كل شهر يومين لم ننتفع منها.الإنسان أحيانا يتأخر عن أكل وجبة بسبب خروجه للترهة مثلا، وأحيانا لا يأكل طعامه لانشغاله ببعض الأمور..لكن هل يعوّده هذا على تحمل المشقة والجوع والعطش؟ إن

Page 443

٤٤٠ سورة البقرة الله الجزء الثاني الحكومات أيضا تقوم بتدريب الجنود تدريبًا متسلسلاً، لا ليوم أو يومين في الشهر.فالعمل الذي يؤديه الإنسان أداء متقطعا لا يتدرب عليه، وإنما يحتاج التدريب إلى القيام بالعمل باستمرار وبدون انقطاع.لذلك فرض الله صوم شهر كامـــل حــتى يتعود المؤمن على تحمل الجوع والعطش لوجه الله ويتدرب على قيام الليل، وذكر الله وتلاوة القرآن وقت النهار، فتزدهر مواهبه الروحانية وترتقي.فشهر رمضان يأتي من الله تعالى ببركات ورحمات خاصة.إن أبــواب نعـــم وأفضاله مفتوحة في كل وقت عموما، ويمكن أن ينهل منها الإنسان متى شاء.فقط هناك حاجة لأن يسأله إياها وإلا فإن الله لا يتأخر في إعطائها، لأنه سبحانه لا يخذل عباده أبدًا، وإنما العباد هم الذين يتركون بـاب الله ويذهبون إلى أبواب الآخرين أحيانًا بعد وقعة بدر رأى النبي الله امرأة تجري هنا وهناك في قلق وفزع، وكلما رأت ولدا أخذته وضمته إلى صدرها فقبلته وتركته.وفي آخر المطاف عثرت على ولدها، فاحتضنته وجلست مطمئنة.فقال النبي ﷺ الصحابته: (الله أرحم هذه بعباده من بولدها) (مسلم التوبة).فليس من الصعب أن ينشئ العبد صلته بهذا الإله الرحيم الكريم.إن كل ساعة بمكن أن تصبح ساعة من رمضان، وإن كـــل لحظة يمكن أن تتحول لحظة لقبول الدعاء.إذا كان تأخير فإنما يكون من العبد ومع ذلك فإنه من جليل نعم الله أنه عيّن شهر رمضان للصيام، ولكي يتدرب على الاستيقاظ والتهجد تحت هذا النظام من لا يستطيع أن يستيقظ بنفسه حتى لا فقط.تهلكه غفلته.فتذكروا أن الصيام ليس بمصيبة.لو كان فيه أذى لجاز للإنسان أن يقول لماذا أتأذى به؟ ولكن كما ذكرت من قبل..فإن الصيام سبب لحماية الإنسان من الأذى والشر والآثام، ووسيلة للقاء الله تعالى.صحيح أن الصوم يبدو في الظاهر سببا للهلاك، لأن الإنسان يضطر فيه إلى الجوع، ويتناول الطعام في غير موعده مما قد يربك معدته، ويسهر ويقل نومه.ثم هو مأمور أن يُكثر من الصدقة، ويزيـد مـــــن الجود ويهتم برعاية الفقراء..ولكن الحقيقة أن هذه التضحيات هي التي تجعلــه محبوبا الله تعالى، وهي التي تؤدي إلى الرقي القومي.

Page 444

الجزء الثاني ٤٤١ سورة البقرة أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٥) التفسير : يتبين بكل وضوح من قوله تعالى (أياما معدودات) و (فعدّة من أيام أُخر) أن الصيام الذي أمرنا به ليس صيام تطوع، وإنما هو الصيام المفروض الواجب.لذلك قال إنه إذا كان أحدكم مريضا أو مسافرا فعليه أن يكمل عدة أيام الصيام المقررة بصوم أيام أخرى على أية حال، ولا يمكن أن يقول إنني كنت مريضا أو مسافرا في رمضان..فلماذا أصوم بعد رمضان؟ فيخطئ الذين يرون أن قوله تعالى كتب عليكم (الصيام لا يتناول ذكر صيام رمضان المبارك وإنما يذكر الصيام التطوعي.فأولا يتبين من قوله تعالى (أياما معدودات) أنه لم يتناول إلا ذكر صيام حدد له الشرع أياما معينة، وثانيا يتبين من قوله تعالى (عدة من أيام أخر) أن هـذا الصيام في أيام معينة في شهر معين، وإلا فلا معنى لقوله تعالى (عدة من أيام أخر).الله بأن من يكون مريضا أو على سفر فلا يصم في مرضه أو سفره، بل ثم ينصح يسد هذا الفراغ في أيام أخرى.لقد رأيت بالتجربة أن هناك إفراطا وتفريطا عند المسلمين بصدد الصيام.فهنــاك بعض المثقفين الذين لا يؤمنون ببركات ،رمضان ويتركون الصوم بدون مرض أو عذر شرعي.وعلى النقيض..هناك من المسلمين من يحصرون الإسلام في الصيام، ويتوقعون من كل شخص، وإن كان مريضاً أو ضعيفًا أو شيخًا هرما فانيًا أو طفلاً صغيرًا أو سيدة حاملاً أو مرضعة أن يصوم في كل حال، وإن زاده الصوم مرضا أو أضر بصحته.كلا الفريقين واقع إما في الإفراط أو التفريط.إن الإسلام لا يريد أبدا أن يُبعد الإنسان عن طريق نجاحه وفلاحه.لو كانت الشريعة غرامة لاضطر كـــل شخص لتحملها سواء قدر عليها أم لم يقدر كغرامات الحكومات.إذا فرضت الحكومة على شخص غرامة فلا تنظر الى مقدرته أو عدم مقدرته على أدائها، وإنما تطالبه بأدائها وإن اضطر إلى بيع داره أو إلى الجوع والدين.ولكن يتجلـــى مـــن

Page 445

الجزء الثاني ٤٤٢ سورة البقرة القرآن أن الأحكام الإسلامية ليست غُرما ، وإنما هي لفائدة الإنسان ولمنفعته، وينال بالعمل بها راحة وتنفتح أمامه طرق رقيه.إن الأديان التي تعتبر الشريعة غرامة لا بد لأتباعها من العمل بأوامرها مهما حدث ولكن الدين الذي لا يستهدف إلا منفعة الإنسان فإنه عند العمل بأحكامه يُقارن بين ما ينفع ويضر، ويُختار ما نفعه أكثر.ولذلك فإن الإسلام قيد كل أحكامه ببعض الشروط، وإذا توافرت في أحد عمل بها، وإن لم تتوافر تركها وهو معذور.و لم يضع الإسلام هذه الشروط في العبادات البدنية فقط، بل في العبادات المالية أيضا مثل الزكاة، وفيما يهدف إلى التضحية من أجل الشعب، وإلى الاتحاد والتواصل مثل الحج.فالحج مشروط بتوافر المال والصحة والأمن؛ والزكاة مشروطة بتوافر مقدار معين من المال يزيد على حاجاته ويبقى عنده لسنة؛ والصلاة مشروطة بالصحة فيصلي المرء جالسا إذا لم يستطع القيام، أو مستلقيا إذا لم يستطع الجلوس.كذلك اشترط الإسلام لصيام رمضان أن لا يكون الإنسان مريضا..سواء كان قد أصيب بالمرض فعلا، أو يتهدده المرض إن صام.كما في حالة الحامل والمرضع، أو الشيخ الفاني الذي تدهورت ،قواه، أو الطفل الصغير الذي في طور النمو..فعلــى كل هؤلاء ألا يصوموا إن صوم المسافر أو المريض لغو كصوم الحائض، مــــن ذا الذي لا يعرف أن الحائض إذا صامت فليس فيه أي حسنة، بل هو جهل وغباء.كذلك صوم المريض أو المسافر ليس حسنة.كذلك ليس من البر أن يصوم شيخ هرم اضمحلت قواه ويحول الصوم دون قيامه بأشغال الحياة الأخرى.كذلك ليس الحسنة صوم طفل تنمو قواه، ويدخر جسمه الطاقة والقوة ذخيرة تكفيـــه لخمسين أو ستين سنة قادمة في حياته.ولكن القادر على الصوم بمعنى الكلمة..إذا لم يصم فهو آثم.من من ولنعلم أن الشريعة الإسلامية قد منعت الصغار الذين هم في سن صغير جدا من أن يصوموا، ولكن إذا أوشكوا على البلوغ وجب تدريبهم على بعض الصيام.إن سيدنا المهدي والمسيح الموعود عليه السلام قد سمح لي بالصوم فيما أذكر عندما كنتُ في الثانية أو الثالثة عشرة من عمري.ولكن بعض الحمقى يُكرهون صغارهم

Page 446

٤٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني على الصوم وهم في السادسة أو السابعة من عمرهم.ويظنون أن هذا عمل صالح.هذا ليس عمل ثواب وإنما ظلم.هذا السن سن نموهم نعم عندما يوشكون علــــى سن البلوغ والصوم يجب تدريبهم على الصيام.ولو نظرنا إلى وسنة سيدنا المهدي..فالسن المناسب لذلك هو الثاني أو الثالث عشر.فيجب أن يصوموا عندئذ بضعة أيام في كل رمضان..إلى أن يبلغوا الثامنة عشرة –وهو سن البلوغ عندي.أتذكر أن سيدنا المهدي سمح لي بالصوم ليوم واحد في أول مرة.في هـذا السن يكون عند الصغار شوق للصيام.ويريدون أن يصوموا أكثر من يوم، ولكن من واجب الآباء أن يمنعوهم من ذلك.ثم يأتي سن يجب فيـه علـى الآبـاء أن يشجعوهم على صيام بضعة أيام ويراقبوهم حتى لا يتجاوزوا الحد.وكذلك يجب على الآخرين أن لا يعترضوا على الصغار ويقولوا لماذا لا يصومون؟ فهذا الصغير لو صام في هذا السن الباكر لم يقدر على الصوم عندما يكبر.ثم إن بعض الأطفال ضعيفو البنية والخلقة.ولقد رأيت بعض الأطفال يأتون مع آبائهم لزيارتي، ويخبرني أنه الأب أن الطفل في الخامسة عشرة مثلا من عمره..مع يبدو ابن سبع سنوات.أرى أن مثل هذا الطفل لا يبلغ سن الصيام إلا قريبا من الحادي والعشرين.وعلى النقيض يكون هناك بعض الأطفال الأقوياء الذين يبدون في الثامنـــة عـشـرة مـــن عمرهم بينما في الحقيقة هم في الخامسة عشرة.ولو أن هؤلاء أخذوا بظاهر كلماتي، وقالوا إن سن الصوم هو الثامنة عشرة، فإنهم لا يظلمونني، ولكن أنفسهم يظلمون.وكذلك لو أن أحدا عاب صغيرا لم يصم صوما كاملا..فلا يظلم إلا نفسه.على الإنسان أن يكون حذرا في هذه الأمور، فينتهى حيث ينهاه الشرع ويعمل بما يأمر به الشرع.ولكن المسلمين في هذه الأيام قد تركوا جادة الاعتدال، فبعضهم لا يصوم إطلاقا، والبعض الآخر يواظب على الصوم لدرجة أنه يرى الصوم ضروريا حتى في السفر والمرض.وبعضهم يتشدد فيه، فيجبرن الصغار على الصوم، ولــو أرادوا الإفطار قبل الغروب فلا يسمح لهم بذلك.وهناك أحداث عديدة صام فيها الصغار في سن السابعة أو الثامنة، وراقبهم آباؤهم حتى لا يفطروا، فماتوا من شدة

Page 447

الجزء الثاني ٤٤٤ سورة البقرة مع الجوع.ولا شك أن من واجب الآباء أن يولدوا في قلوب الصغار أدبا واحترامـــــا للصيام، ويخبروهم أنهم إذا لم يستطيعوا إكمال الصوم فعليهم ألا يصوموا.ولكنهم إذا صاموا وراقبهم آباؤهم حتى لا يفطروا وإن أوشكوا على الموت..فهذا ظلــم شنيع ومخالفة صريحة لتعاليم الإسلام وعلى جانب آخر هناك فئة لا تؤمن بضرورة الصيام وخاصة المثقفين منهم.أتذكر جيدا أنني في زمن سيدنا المهدي قرأت في الجرائد أن شخصا من تركيا أو مـصر يزور الهند ويقول في خطاباته أن الرسول الله له ولو كان في هذا الزمن لغير شكل الصيام، فلنغير معالم الصوم الآن..لأن الزمن قد تغير.وكان يقترح ألا يأكل الصائم الخبز.ولكن يُسمح له بأكل الكعك والبسكويت وغيره! فهناك إذن طبقة من المسلمين مالت إلى الإفراط وطبقة أخرى مالت إلى التفريط..أن الإسلام دين الوسط.فإذا كان يسمح للمسافر والمريض بـألا يـصوما في السفر أو المرض..فإنه يفرض على المسلم البالغ الصحيح أن يصوم شهر رمضان، ويقضي هذه الأيام المباركة في عبادة الله وتسبيحه وتحميده وتلاوة القرآن الكــريم والأدعية والذكر ليحظى بقرب الله تعالى.على أية حال، فإن الشرع الإسلامي قد أكد على الصيام أيما تأكيد، وكما أنه لا يجوز التشدد في الصيام كذلك لا تجوز الاستهانة به إذن، فعلينا ألا نتشدد فنزهق الأرواح والنفوس، كمـا يجــب نتهاون فيه بما يُعتبر هتكا للصيام وتنصلا من أداء الواجب بمختلف الأعذار.قد رأيت أن بعض الناس لا يصومون بحجة أن الصوم يسبب لهم ضعفا، وبعضهم يقولون لو صاموا يصابون بالإسهال..مع أن هذه الأعذار لا تكفي للإعفاء مـــــن الصوم.ما لم يُصب الإنسان بالإسهال بسبب الصيام يجب أن يصوم، وعندما يصاب بالإسهال يتوقف عن الصوم.وحجة الضعف أيضا ليست مقبولة، وإنمــــا يمكن أن يترك الإنسان الصوم بسبب ضعف يوافق عليه الطبيب ويُعفى بــه مــن الصوم.وإلا فإن بعض الناس ضعفاء على الدوام، فهل يمتنعون عن الصوم أبــــدا؟ كنت في الثالثة من عمري عندما أصبت بالسعال الديكي، ومنذ ذلك الوقت لا تزال صحتي متأثرة.ولو كان مثل هذا الضعف يجيز ترك الصوم لم تكـــن أمــامي الا

Page 448

٤٤٥ سورة البقرة الجزء الثاني فرصة لصوم يوم واحد طيلة حياتي.إن الضعف الذي يتخذونه مبررا لترك الصيام ما فُرض الصيام إلا لتدريبهم على تحمل نفس هذا الضعف.فمثلهم كمثل الذي يقول إن القرآن يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأنا لا أصلي لأن الصلاة سوف تضطرني لترك الفحشاء والمنكر ! الغاية والهدف من الصيام هــو أن يتدرب الإنسان على تحمل الشدائد ويتعود على التغلب والضعف..وإلا لكـــــان لكل امرئ أن يمتنع عن الصوم قائلا: لا يمكن أن أصوم لأني أصاب بشدة الجوع والعطش.هل يتوقع الصائم أن الملائكة سوف تملأ بطنه طوال اليوم بالشواء؟ كلا، بل كلما يصوم يضطر لتحمل شدة الجوع والعطش ويصاب بشيء من الضعف؟ مما لا شك فيه أن للصوم حكما أخرى منها أن الصائم يلتفت بصيامه إلى إعانة الفقراء والجياع، ولكن لا يصوم الإنسان كي يتعرض للمشقة والضعف، وإنما يصوم ليتعود على تحمل هذه المشقة والضعف.فليس من الجائز أن يترك الإنسان الصوم خوفا من الضعف إلا أن يكون قد بلغ سن الشيخوخة، أو أن الطبيب يعتبر ضعفه مرضًا.إلا أن القرار بضعف أحد لا يؤخذ بظاهر صحته وبادي حاله.فبعض الناس يبدون أصحاء في الظاهر ويمشون كالأصحاء، ولكنهم في الحقيقة مرضى، ولا يجوز أن يصوموا..خاصة أولئك الذين هم مصابون بمرض القلب، ويعرضهم الجوع والعطش الخطر كبير.فمعرفة ضعف الإنسان لا يتوقف على مظهره، وإنما يجب أن يُترك لرأي الطبيب.وللأسف أن كثيرا من الأطباء في بلادنا لا يــؤدون واجبهم بأمانة..لو حياهم أحد وانحنى لهم لكتبوا له من الوصفات ما شاء.ومثـل هـذه الشهادة لا اعتبار لها ولا قيمة ولكن إذا أشار الطبيب بالفعل أن الصوم ضـــار بصحة أحد فلا يُنظر إلى ظاهر ،صحته، بل لا يجوز الصوم له.وهذه هي الفتوى التي أصدرها سيدنا المهدي عليه السلام..إذ قال: إن" الذي يصوم في شهر الصيام في مرضه أو سفره فإنه يخالف حكمًا صريحًا الله تعالى.لقد نهى الله صراحة عن ا يصوم المريض أو المسافر ، بل عليهما أن يصوما بعد الشفاء أو بعد انتهاء السفر.يجب العمل بما أمر به الله.فالنجاة متوقفة على فضل الله، وليس من الممكن أن ينال

Page 449

٤٤٦ سورة البقرة الجزء الثاني أحد النجاة بقوة أعماله.إن الله تعالى لم يصرّح عما إذا كان المرض بسيطا أو شديدا، أو إذا كان السفر قصيرًا أو طويلاً..بل الحكم عام ويجب العمل به.فإذا صام المريض والمسافر فلا بد أن يفتى ضدهما بمخالفة الأمر الإلهي ".(الفتاوى لسيدنا المهدي.ص ۱۳۲).قوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين).لقد عانى المفسرون صعوبة كبيرة في تفسير هذه الجملة.وفسروها بعدة أوجه..وكانت هذه الصعوبة بسبب اختلافهم في تعيين مرجع الضمير ه في كلمة يطيقونه.فبعضهم أرجعه إلى الصوم وبعضهم أرجعه إلى فدية طعام مسكين منهم الشاه ولي الله الدهلوي (كتاب الفوز الكبير، تحت هذه الآية).لكن يرد على هذا القول اعتراض بأنه إضمار قبل الذكر..أي أن الضمير ذكر قبل الاسم؛ مع أن الواجـــــب ورود الاسم أولاً ثم ضميره.وقد ردّ الشاه ولي الله أن "فدية" مقـــدم نــــوا..أي مبتدأ، لذلك ذكر ضميره قبل ذكره.والاعتراض الثاني على ما ذهب إليه الشاه الدهلوي أن كلمة (فدية) مؤنثة والضمير للمذكر؟ فرد عليه بأن الفدية بدل من طعام والطعام ،مذكر ، ولذلك يمكن أن يرجع أن الضمير إلى فدية مذكرا.والمعنى عنده أن الذين يقدرون على أداء الفدية عليهم يؤدوها في صورة طعام مسكين.ويرى أن في هذا إشارة إلى صدقة الفطر التي يجب أداؤها قبل صلاة العيد حتى تُوزع على الفقراء، فيشتركوا في أفراح العيد.والمعنى الثاني الذي ذكره المفسرون أن على المؤمنين القادرين على الصوم أن يصوموا وأن يقدموا فدية طعام مسكين أيضًا (القرطبي).ولكن ليس بثابت من سنة النبي ولا من أحاديثه أن على المسلم أن يصوم يؤدي الفدية أيضا، ولذلك لا يمكن أن يُقبل هذا المعنى.وكذلك من الناحية المنطقية هذا المعنى غير مقبول..لأن الفدية تكون على من لم يصُم.أما الذي واظب على الصوم فأي فدية عليه؟ نعـــــم إذا فكر أحد أن الله قد من عليه بتوفيقه لهذه العبادة فصام وأطعم مسكينا فهذا يزيده ،ثوابا ولكن هذه حسنة زائدة لم يُلزم بها القرآن.

Page 450

٤٤٧ سورة البقرة الجزء الثاني والمعنى الثالث الذي ذكره المفسرون هو أن هناك محذوفا قبل الفعل يطيقونه تقديره "لا" والضمير في هذه الحالة يرجع إلى الصوم (البحر المحيط).والمعنى أن على الذين لا يقدرون على الصوم أن يُطعموا مسكينا فدية لذلك.ودليلهم على حذف "لا" هنا قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا) (النساء (۱۷۷) والمعنى: أن لا تضلوا.هذا وإن كان بالإمكان هنا تقدير محذوف هو "مخافة" والمعنى: يبين الله لكم مخافـــــة.• أن تضلوا.والمعنى الرابع هو قولهم إن كلمة أطاق في العربية تعني أن يقوم أحد بعمل ما بجهد جهيد ومشقة بالغة، أي لا يقدر على القيام به إلا بإرهاق نفسه إرهاقــــا شـــديدا (البحر المحيط).فالمعنى عندهم أن الذين يصومون بمشقة بالغة وتضمحل قواهم البدنية حتى يغشى عليهم أحيانا من شدة الضعف مثل العجوز الفاني أو المريض بقلبه أو ضعيف الأعصاب أو الحامل والمرضع هؤلاء الذين لا يبدون مرضى في الظاهر ولكنهم إذا صاموا مرضوا..فمسموح لهم أن يعطوا طعام مسكين كفدية بدلا من أن يصوموا.ويؤيد هذا المعنى قراءة ذكرها العلامة القرطبي وهي (يُطَوقونه)..أي الذين يصومون ببالغ الشدة والصعوبة والذين تتدهور صحتهم بالصوم تدهورا مخيفــــا..فيجوز لهم ألا يصوموا، ولكن عليهم إطعام مسكين فدية (القرطبي).وعندي أن "أطاق يطيق من باب الإفعال، ومن خصائص هذا الباب سلب المعنى العادي وإعطاء المعنى المضاد فيعني قوله تعالى (الذين يطيقونه)..الذين سُلبت قوتهم وضاعت ولا يطيقون الصوم..فلهم ألا يصوموا ، ولكن ما داموا يتركون الصوم بمحض الاجتهاد الذي فيه احتمال الخطأ وليس بمرض ظاهري وإنما بناء على خوف متوقع، لذلك عليهم أن يُكفّروا عن هذا الخطأ الاجتهادي بتقديم طعام كفدية إن استطاعوا ذلك.وهناك معنى آخر فتحه الله علي..ذلك أن الضمير في (يطيقونه) يعود على الصوم، والمراد أن الذين مرضهم شديد وسفرهم شاق..عليهم (عدة من أيام آخر..فيكملون ما فاتهم من صيام في أيام ،أخر، ولكن المصابين بمرض عادي بسيط أو

Page 451

الجزء الثاني ٤٤٨ سورة البقرة الذين خرجوا لسفر غير شاق غير صائمين فعليهم أن يقدموا طعام مسكين فدية..ذلك لأنه من المحتمل أن يكونوا مخطئين في ترك الصوم، ويظنون أنهـ الله ليسوا في مرض يعفيهم من الصوم، أو يظنون أنهم علــى سـفر مرضی ولكنهم ولكنهم ليسوا عند الله في سفر.وما دام قرارهم معرّضا لاحتمال خطأ في كل حال..فيجب على هؤلاء إذا كانوا قادرين على الصوم أن يكملوا عدة أيام الصيام الفائتة في أيام أخر..ذلك فضلا عن أن يطمعوا مسكينا حتى يكون كفارة لخطـأ محتمل من جانبهم.فالفدية أما إذا كان الضمير في (يطيقونه) راجعا إلى (فدية طعام مسكين) كما قال الشاه ولي الله الدهلوي..فليس المراد من الفدية صدقة الفطر، وإنما يكون قوله تعالى فدية طعام مسكين متعلقا بقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو علـــى ســـفر) والمعنى: وإن كان قد رُخص للمريض والمسافر بالصيام في أيام أخرى..ولكن مَنْ كان في سعة وقادرا على إطعام شخص فليطعم مسكينا فدية لتركه الصوم أياما من رمضان.أما إذا لم يكن عنده القدرة على إطعام مسكين فلا معنى ولا مجال لأداء فدية لصيام رمضان.وإذا كان المانع مؤقتا وزال فيما بعد فلا بد أن يصوم، لا تُسقط عنه الصوم الفائت، وإنما هي فدية لأنه لم يستطع بسبب عذر شرعي أن يشترك في العبادة مع سائر المسلمين في هذه الأيام المباركة.فالأعذار علــى نوعين: عذر مؤقت وعذر دائم، ويجب أداء الفدية بشرط القدرة عليه سواء كان العذر مؤقتا أو دائما.أما إذا زال العذر ولو بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات فعليه أن يصوم أيضا، وإن أدى الفدية..اللهم إلا إذا كان عذر المرض مؤقتا من قبل..وكان ينوي الصوم عندما يسترد صحته غدا أو بعد غد..ولكـ تدهورت أكثر.وهذا هو مذهب الإمام المهدي والمسيح الموعود إذ كــان يــؤدي الفدية دائما للأيام الفائتة في رمضان وبعد ذلك يصوم أيضا؛ وهذا ما كان ينصح به الآخرين (الملفوظات شرح الكلمات: ٣ ص ٥٦٣).وكلمة (الذين) في قوله (وعلى الذين يطيقونه يمكن أن تكون بدلا من الفئتين: إما من المذكورين في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)، أو صحته

Page 452

٤٤٩ سورة البقرة الجزء الثاني المذكورين في قوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر).ولو اعتبرناها بدلا من (الذين آمنوا فالمعنى: أن الذين يُعانون صعوبة بالغة في الصيام لضعفهم ويقعون بسببه في مشقة شديدة عليهم ألا يصوموا، بل يعطوا فدية طعام مسكين.وإذا اعتبرناها بدلا من فمن كان منكم مريضا أو على سفر) فالمراد أن المرضى والمسافرين الذين يقدرون على أداء الفدية عليهم أن يؤدوها إلى جانب الصيام في أيام أخرى.فمن الأمراض والأسفار ما يكون ترك الطعام فيه اجتهادا مشتبها.وقد ورد في الأحاديث أن بعض المشتبهات تندرج تحت المحارم..لأن الذي يصل إلى حد المشتبهات يتدرج إلى المحارم أيضا (البخاري، البيوع).فإذا كان سفرهم أو مرضهم من الأمور المشتبهة المشكوك فيها، فعليهم أن يؤدوا الفدية، ويستفيدوا من هذه الرخصة، فلا يصوموا في أيام رمضان وإنما يصومون الفائتة في فرصة أخرى.الأيام قوله تعالى (فمن تطوع خيرا فهو خير له أي أن الذي يعمل الحسنات ببشاشة وشوق، ولو تكلّفا في بادئ الأمر ومع شعور بثقل على نفسه، فسوف يـــرى أن هذه الحسنة تأتي له بنتائج جيدة.فالتطوع في اللغة العربية يعني أن يُثقل الإنـسـان على نفسه ويتكلف الطاعة (المفردات).فالله ينبه هنا إلى أن الإنسان إذا لم يقــدر على العمل الحسن بانشراح الصدر..فعلى الأقل يُكره نفسه عليه ويُظهر بشاشة في وجهة ولو تكلفا، ولو فعل ذلك فتح الله له طرق الخير والبركة، أي أنه يرتقي في الحسنات حتى يصل إلى مقام يصبح فيه فعل الخير غذاء لروحه، ويسهل عليه تلبية النداء إلى أعمال الخير بمثل ما يسهل على المؤمنين الكمل.إلا أن هناك معنى آخر للتطوع وهو أن يتبرع المرء بعمل ما لم يُلزم به صرح الإمام الراغب في كتابه الشهير (المفردات).وبناء على هذا فالمعنى أن الذي يقــوم بأعمال الخير نافلة فهذا خير له.لقد أمرنا بالصوم في شهر رمضان وإطعام مسكين كفدية..ولو زاد أحد على ذلك احتسابا الله فله ذلك..يمكنه أن يطعم مسكينين بدلا من مسكين واحد كفدية، أو يصوم رمضان وأيضا يطعــــم مــــسكينا ثوابــا بذلك

Page 453

الجزء الثاني ٤٥٠ سورة البقرة الله.واحتسابًا، أو يصوم أياما أخرى علاوة على صوم رمضان، فكل هذه أعمال يثاب صاحبها، ويمكن لأي مؤمن أن يشترك فيها قدر المستطاع لينال بها رضوان وقوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم..يفسره البعض: لو صُمتم فهو خير لكـــــم.ولكن هذا المعنى غير صحيح، وإلا لقيل وإن تصوموا) بدلا من (وأن تصوموا) وإنما المعنى الصحيح لو أدركتم وعرفتم فإن الصيام خير لكم.أي أننا مهدنا لأمر ذي بركات وخير كثير..فمن واجبكم أن تصغوا إليه وتعملوا به.شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أَخَرَ يُرِيدُ اللهُ بكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٦) شرح الكلمات : هدى مصدر بمعنى الفاعل، أي هادٍ للناس.بينات-جمع بينة وهي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة (المفردات).التفسير : يذكرنا شهر رمضان بتلك الأيام المقدسة التي نزل فيها للعالم كتاب كامل کالقرآن الكريم تلك الأيام المباركة التي كانت فيها بداية سعادة الدنيا.الأيام التي فتحت أبواب رحمة الله وبركاته للعالم.الأيام التي ضاق فيها محمد رسول الله ﷺ برؤية وجه كريه للدنيا وسيئات أهلها..وتوجه إلى غار حراء معرضا عن العالم، و تاركًا أقاربه وأصدقاءه، ليشتغل في ذكر الله تعالى..ظنا منه أنه بفراره من الدنيا هكذا سوف يتمكن من أداء واجبه الذي خلقه الله لأجله.في هذه اللحظات من ،الوحدة وفي هذه الأوقات من الخلوة.وفي هذه الساعات من التدبر والتفكر..جاء عليه شهر رمضان.وبحسب الراويات الموثوقة..في الرابع والعشرين من رمضان.تلقى هذا الذي أعرض عن الدنيا وآثر الانفراد والعزلة أمرا من خالقه وربه ومعلمه ومحبه أن اذهب إلى الناس وادْعُهم ودلّهم على طريق

Page 454

الجزء الثاني ٤٥١ سورة البقرة الهدى.أنت تبحث عني في هذه الخلوة في غار حراء..ولكنك ستجدني في أزقــــة مكة بين شغب الناس وضجيجهم.اذهب وبلغ قومك بأنني ما خلقتكم في هذه الدنيا في حالة أدنى ثم منها ربيتكم ورقّيتكم..لتأكلوا وتشربوا وتموتوا بــدون أن تُسألوا عما فعلتم.عندما تلقى هذا الصوت أخذته الدهشة، فقال لجبريل في حيرة: ما أنــا بقـــارئ (البخاري الوحي)..أي أنني أستغرب هذه الرسالة.هل تليق هذه الكلمات مـــــن فمي أمام أهل مكة؟ هل يُعير قومي أذنا صاغية لهذه الرسالة ويقبلونها؟ ولكــــــن الله أمره باستمرار : اذهب واقرأ هذه الرسالة على الناس.عندئذ - تلبية لهذا الصوت وامتثالا لهذا الأمر - خرج النبي له الا الله من هذه العزلة واختار الجلوة وبرز لمحافل الناس.و لم تكن هذه المحافل بالنسبة إليه مكانا يجد فيه الإنسان صديقا يبث إليه شكواه، أو يسمع منه ما يفرحه ويسره أو تزول فيه متاعبه النفسية ولم تكن بالنسبة إليه مجالس للقصص والأساطير ، والشعر، أو مجالس يتجاذب فيها الناس أطراف الحديث في المناظرات والمباحثات..وإنما كانت ندوات يُبدي فيها النبي ﷺ حبه وإخلاصـــــه للطرف المقابل..ويتلقى منه السباب والشتائم والتهديد والتخوف دائما.كانت ندوات لو زارها الإنسان مرة لم يبق في قلبه رغبة لزيارتها بعد ذلك.كان يتلقى من السباب والوعيد ما يجعلهم يظنون أنه لو كان عنده أدنى حس وشعور فلن يكـــــرر حديثه لهم غدا.كانوا يفرحون أنهم أسكتوا محمدا ،اليوم، ولكن عند طلوع شمــــ يوم جديد كان هذا العاشق الصادق الله يخرج مرة أخرى لتبليغ رسالة ربه لأهـــــل مكة، ومرة أخرى يتلقى نفس السباب والوعيد والتخويف إلى أن يحل المساء.وعندما يحول حاجز الليل بينهم وبينه كانوا يرجون أن يكون قد آثر السكوت وقرر الصمت من اليوم.ولكن كيف يمكن لمن كان نداء الله يدوي في آذانه أن يرتعب منهم فيسكت؟ لو كان يقضي ليله نائما لنسي هذه الرسالة، ولكن من نومه كيقظته كيف ينساها؟ إن الدرس الذي لا يعاد ولا يراجع يمكن نسيانه، ولكنه كان بمجرد أن يأوي إلى فراشه يسمع نداء (اقرأ) فكيف يمكن والحال هذه أن ينسى الرسالة؟

Page 455

٤٥٢ سورة البقرة الجزء الثاني في شهر رمضان تلقى النبي هذا النداء، وفي رمضان نفسه خرج من غار حـــــراء لتبليغ الناس رسالة الله، وإلى ذلك يشير قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيـــه القرآن) وأيضا قوله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر) (القدر).ورمضان من الرمض الذي يعني الحرقة (الأقرب)، وسواء كانت حرقة الشمس أو حرقة المرض.فمعنى :رمضان موسم الشدة والصعوبة.وفي سورة القدر قال: إنــا أنزلناه في ليلة، والليل أيضا يدل على الظلام والمصيبة.وهكذا بين الله في الآيتين أن نزول الوحي والإلهام يتم في أيام الشدائد والمصائب.فما لم يتعرض قـوم إلى المصائب والبلايا، وما لم يتحول نهارهم إلى ليال حالكة، وما لم يذوقوا شدة الجوع والعطش، وما لم يتحمل الجسم الإنساني الشدائد من الداخل والخارج..لا يمكن أن ينزل عليهم كلام الله تعالى.و بانتخاب هذا الشهر لتزول القرآن أمّل الله المسلمين أنكم إذا أردتم أن ينفتح عليكم باب كلام الله، فلا بد لكم من المرور من أتون المصائب والمحن، وبــــدون ذلك لا يمكن أن تتيسر لكم نعمة مكالمة الله تعالى.فرمضان يذكر المسلمين بكلام الله، ومن أجل ذلك أمر النبي لها بالإكثار من تلاوة القرآن في رمضان، ولذلك نهتم نحن الجماعة الإسلامية الأحمدية بإلقاء دروس القرآن الكريم فيه.فعلى الإخوة أن يكثروا في هذا الشهر من تلاوة القرآن الكريم، والتدبر في معانيه، حتى تتولد فيهم روح التضحية التي لا يمكن أن تزدهر أمة بدونها.هذا الشهر يعلم أن الذي يريد الغلبة على الدنيا فعليه أن يختار عزلة كعزلـــة غــــار حراء، فالدنيا لا تُنال إلا بتركها.يجب الابتعاد عنها وتركها أولاً..وعندئذ يمكـــــن التغلب عليها.ولكنها غلبة روحانية.هناك غلبة مادية مثل التي حققها "الدجال" وسبيلها أن يقف الإنسان نفسه لأجل الدنيا، ولكن الذي يريد الغلبة على الدنيا مع بقائه عبدا لله فلا سبيل له إليها إلا بتركها.إن أبا جهل سعى لينال الدنيا فنالهـا، ولكن رسول الله ﷺ تركها ومع ذلك ،نالها بل نالها بما هو أعظم من أبي جهل.كان أبو جهل رئيسا وكبيرا من كبار أهل مكة، ولكن الرسول أصـ

Page 456

بجهد وسعي ٤٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني حياته ملكا على الجزيرة العربية ثم صار فيما بعد ملكا على العالم كله.فمتى نال أبو جهل من الدنيا ما ناله الرسول ؟ ولكن ما حققه أبو جهل من الدنيا حققــــه لها، ولكن ما ناله المصطفى منها فقد ناله بتركهـا.فالــــدنيـا تـأتي للجماعات الروحية إذا تركوها.أما أهل الدنيا فينالونها بكسبها وبذل الجهود لها.يعلمنا رمضان أنكم إذا أردتم النجاح في أهدافكم للزم أن تقبلـوا الشدائد والمصائب، وترضوا بظلمات الليالي وألا تخافوا منها لأنها سبب نجاحكم.فرمضان شهر له أهمية كبيرة خاصة والذي في قلبه حب صادق للإسلام واهتمام بالإيمان لا بد أن يشعر بهيجان خاص في قلبه ورعدة سارية في جسمه كلما حل شهر رمضان..مهما طالت القرون بيننا وبين سيدنا محمد..ومهما باعـــــدت السنون والأيام بيننا وبين سيدنا محمد..إلا كلما حل علينا رمضان شعرنا أن هذا الشهر طوى كل هذه الشقة من الشهور والسنين والقرون، وقربنا من محمــد رسول الله ﷺ لم يقربنا إليه فحسب، بل بما أن القرآن نزل من الله فيخيل إلينا أن رمضان قد طوى هذه المسافة وأوصلنا إلى الله.هذه المسافة التي تكون بين الإنسان وبين الله والبعد الذي يكون بين المخلوق ،والخالق والشقة التي تكون بـيـن عبـــد ضعیف حقير وبين خالق السماوات والأرض..قد انكمشت وانمحت وزالت زوال ظلمة الليل بأشعة الشمس.وإلى هذه الحالة يشير الله في قوله تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب عند حلول رمضان يسألك عبادي: كيف يمكن لنا الوصول إلى الله؟ فقل لهم إن مجيء رمضان هو بمثابة مجيء الله تعالى.إن هذا هـو الشهر الذي تجلّى الله فيه لعباده وأراد فيه أن يجتذبهم إليه بكلامه الذي هو بمثابــــة حبل الله..طرف له عند الله وطرفه الآخر في يد العباد، ومن واجبهم أن يتسلقوا بهذا الحبل ليصلوا به إلى الله تعالى.ولقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ثلاثة معان: الأول وردت (في) بمعنى السبب ،والعلة والمعنى أن شهر رمضان هو ذلك الشهر الذي لأجله نزل القرآن الكريم.أي أن صيام رمضان المبارك من الأهمية بمكان حتى

Page 457

الجزء الثاني ٤٥٤ سورة البقرة أن الله تعالى أنزل الوحي في بيان أحكامه في القرآن الكريم.والأمر الذي ينزل فيه الوحي القرآني يمكن أن يقدّر الإنسان أهميته وضرورته.هذا المعنى ثابت من اللغة.يقولون تكلمت معك في هذا الأمر.ونظيره في القرآن الكريم قول الله حكاية عن امرأة العزيز (فذلكُنَّ الذي لمتني فيه) (يوسف: ٣٣)..أي هذا هو الشخص الذي وجهتن اللوم إلى بسببه.وكذلك ورد في الحديث عُذِّبت امرأة في هرة حبستها) (البخاري، المساقاة..أي أن الله عذب امرأة لأنها حبست قطة ولم تطعمها فهلكت.والمعنى الثاني - أن بداية نزول القرآن الكريم كانت في شهر رمضان.والثابت من الحديث أن القرآن الكريم بدأ نزوله في رمضان.هناك اختلاف في تعيين التاريخ ولكن المحدثين عامة يرجحون يوم الرابع والعشرين من رمضان (ومنهم العلامة ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري ،والإصابة والعلامة الزرقاني صاحب شرح المواهب اللدنية وصاحب تفسير البحر المحيط).والمعنى الثالث هو أن كل القرآن نزل في رمضان، وقد ورد في الحديث رواية عن الله عنها..أن رسول ﷺ وهو في مرض الموت قال للسيدة فاطمة الله عنها..إن جبريل يعارضني بالقرآن كل سنة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي (البخاري فضائل القرآن أي أن جبريل في شهر رمضان من كل سنة كان يراجع معي ما ينزل علي من القرآن، ولكنه في رمضان هذه السنة من القرآن مرتين..وأرى من ذلك أن أجلي قد اقترب.ولا شك أن نزول القرآن كان يتم في شهور أخرى غير رمضان، ولكنه يتميـــز عليها بأن جبريل كان يقرأ مع النبي ﷺ ما نزل من القرآن الكريم حتى هذا الشهر، عائشة رضي رضي ختم معي وكأن نزول القرآن على النبي كان يتم مرة أخرى في هذا الشهر في كل سنة.وذكر هذا الموضوع نفسه في رواية عن ابن عباس قال: (كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن.فلرسول الله له أجود بالخير من الريح المرسلة) ) (البخاري، بدء الوحي.

Page 458

الجزء الثاني يتأكد من ٤٥٥ سورة البقرة هذه الراويات أن بداية نزول القرآن كانت في شهر رمضان، ثم في كل رمضان كان جبريل عليه السلام يراجع مع النبي ﷺ ما نزل إلى ذلك الوقت منه، وبناء على ذلك يمكن القول بأن كل القرآن كان يتزل في رمضان..بل كانت بعض أجزائه قد نزلت عدة مرات حتى يمكن لنا القول بأن الرسول..مضى عليه منذ مبعثه إلى وفاته ثلاثة وعشرون شهرا من رمضان..وبالتالي نزلت عليـــه بعض أجزاء من القرآن الكريم ثلاثا وعشرين مرة وبعضها اثنتين وعشرين وبعضها إحدى وعشرين مرة وهكذا.أما الآيات التي نزلت في السنة الأخيرة من حياتــــه الشريفة فقد نزلت مرتين، لأن جبريل راجع معه القرآن مرتين فيها.والثابت من القرآن الكريم أن ما تفعله الملائكة إنما تفعله بأمر من الله (التحريم: ٧)، لذلك لا يمكن القول بأن ما كان يفعله جبريل ليس نزولا لأن الملائكة لا تنزل إلا بأمر الله، وهذا هو التزول والإنزال في المصطلح الإسلامي.إذن فمن معاني (أنزل فيـه القرآن) أن جميع القرآن نزل في رمضان.ويجب أن نتذكر أيضا أن (رمضان) اسم إسلامي لهذا الشهر، أما اسمــه في زمـــــن الجاهلية فهو الناتق (فتح البيان، تحت هذا الآية...وقوله تعالى هدى للناس وبينات من الهدى هدى وبينات حال، والمعنى أن هذا القرآن أولا سبب لهداية الناس، وثانيا أن فيه أدلة على الهدى..لأنه لا يقول للناس: افعلوا ولا تفعلوا فقط، وإنما يسوق أحكامه مع الأدلة أيضا.وقوله للناس يشير إلى أن هذا القرآن هداية للعالم أجمع وليس لبعض الناس وكلمة الفرقان’ تشير إلى أن فيه من الأدلة التي تميز بين الحق والباطل.قوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه أي أن من وفقه الله لأن يُدرك هــذا الشهر المبارك وهو ليس مسافرا أو مريضا فعليه أن يصوم الشهر كلـه بـدون انقطاع..ويجمع له ما يكون سبب خير وبركة، ولا يضيع هذه الأيام المباركة في كسل وغفلة.وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر أي فرضنا عليكم صيام رمضان لأننا لا نرضى أن تؤمنوا ومع ذلك تعيشوا في عُسر.كيف قال ذلك مع أن

Page 459

الجزء الثاني آکله سورة البقرة المؤمنين في أيام الصوم يشقون على أنفسهم أكثر فيما يبدو ؟ الحقيقة أن هذه الآية تبين نكتة عظيمة..ألا وهي أن تحمل الجوع في سبيل الله وتقديم التضحيات لدينه لا يضر الإنسان أبدا وإنما ينفعه تماما.فالذي يظن أن الإنسان يجوع في رمضان يكذب القرآن الكريم، لأنه تعالى يقول: كنتم جياعا ففرضنا عليكم الصيام لتأكلوا.فتبين أن الطعام الحقيقي هو ما يطعمه الله، والحياة الحقيقية هي أن يضحي الإنسان لوجه الله تعالى ثم يأكل ما تيسر له شاكرا ربه.وأما ما سواه من الطعام فيُهلك روحانيا.فعلى المؤمن أن يفكر عند تناول كل لقمة..لأجل من يأكلها؟ فإذا كان يتناولها الله تعالى فهي الطعام، وإذا كان يأكلها لنفسه فليست طعاما وإنما هي حجر يأكله.كذلك إذا لبس لوجه الله تعالى فهذا هو اللباس، أما إذا لبس لنفسه فهو عريان.فانظروا كيف بين الله - بأسلوب لطيف - أنكم ما لم تصبروا علـــى الشدائد والمصائب لمرضاته لن تستمتعوا بالرفاهية واليسر حقيقة.وهذه الآية تبطل عمل أولئك الذين يتخذون من رمضان ذريعة للأكـــل حــتى يسمنوا، كما قال الإمام المهدي: إن رمضان عند بعض الناس بمثابة أيــــام الأكــــل والراحة.يكثرون فيه من أكل الحلوى والمشويات والمقليات فيخرجون منه سمانــــا أيام راحته وأكله هذه الأمور تحرم الإنسان من الكثير من بركات رمضان.كذلك يجب أن لا يكون هناك تكلف وتنوع في الإفطار والسحور، ولا يظنن الإنسان أنه ما دام قد جاع طوال النهار فليأكل الآن كثيرا متنوعا.إن أصحاب الرسول الله في زمنه لم يكونوا يتكلفون في إفطارهم وسحورهم، وإنما كانوا يرون الكفاية في الإفطار ببعض التمر أو الملح أو الماء أو الخبز.ومن واجبنا أيضا أن نتبع هذا الطريق ونحيي سنة الرسول ﷺ وصحابته مرة كما يخرج أخرى.الحصان قوله تعالى (ولتكملوا العدة ذكر المفسرون لهذه الجملة معنى كنتُ أبينه أنا أيضا، وهو أن الله ذكر هنا سبب فرض الصيام لشهر كامل قائلا: إننا عينا شهر رمضان للصيام لكي تكتمل عدة أيام الصوم.لو أنه فرض الصيام بدون تعيين لصام بعض الناس عشرة أيام مثلا، وصام بعضهم أقل من ذلك وصام آخرون الدهر.لذلك

Page 460

الجزء الثاني الله فرض الروحانية.٤٥٧ سورة البقرة الصوم لشهر كامل كي يصوم المؤمنون كلهم أياما هي ضرورية لتكميل يصوم هذا المعنى صحيح في محله، ولكن هناك أيضا معنى آخر..هو أن الحياة الحقيقية للإنسان إنما هي ما ينقضي منها في الخير.أما ما ينقضى منها في كسب الدنيا فيضيع سدى.والله قد فرض الصيام لكي يكمل الإنسان عمره الحقيقي، لأن الذين يشتغلون في كسب الدنيا وحدها ليسوا أحياء، بل هم أموات بحسب المصطلح القرآني: (ومن) كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) (الإسراء: ۷۳).ولما كان لا مناص للإنسان من المأكل والمشرب لاستمرار حياته..فلا يستطيع أن طوال السنة، ولذلك فرض الله صيام شهر، وقال الحسنة بعشر أمثالهــا (الأنعـــام: ١٦١)..وهكذا جعل صيام شهر رمضان بمثابة صوم السنة كلها..فكأن الذي صام هذا الشهر صام العام كله، وصارت حياته حياة حقيقية.ثم قال (ولتكبروا الله على ما هداكم).من العجيب أن الله ذكر من قبــــل فـــضيلة صيام رمضان بقوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) هنا استخدم قولـــه ولتكملوا العدة إزاء كلمة (شهر) لبيان أنه لو لم يعين شهرا للصيام لاختلـف الناس في قدر أيام الصيام فنقصوا أو زادوا..وهكذا ما استطاعوا تحقيق الرقي الروحاني الذي يتحقق بصوم شهر كامل.ثم قال هنا ولتكبروا الله علــى مــا هداكم) مقابل قوله (رمضان الذي أنزل فيه القرآن لبيان أننا لم نحدد لكم أي شهر آخر، لأنكم إذا تذكرتم أن نزول القرآن قد تم في رمضان يتولد في قلوبكم حماس خاص لفعل الخيرات، فكلما جاء شهر رمضان فكرتم أن هذا هـو الشهر الذي مَنَّ الله علينا فيه منة عظيمة؛ إذ أنزل فيه كتابا عظيما مثل القرآن..وبالتالي سوف تميل قلوبكم تلقائيا إلى أن تكبروا اسم الله.ثم بقوله تعالى (ولتكبروا الله على ما هداكم نبه على أن هذه الأيام هي لتكبروا الله فيها شكرا على أنه هداكم ، وليس لأن تشكو إليه شدة الجوع.بـــل علــيكم أن تفكروا أن الله قد مَنَّ عليكم منة عظيمة إذ أنزل عليكم نعمة الصيام.الحق أن الله قد وضح هنا ما هي وجهة نظر المؤمن.إنه كلما وجد فرصة للتضحية اعتبرهــا

Page 461

الجزء الثاني ٤٥٨ سورة البقرة فضلا من الله.والأمة التي تكون هذه تكون هذه وجهتها لا يمكن أن يهلكها أحد، بل لا بد أن تفوز وتنجح.وهي التي تحيا حقا.إن الذي يفكر أن ما أُلقي عليه من واجبات دينية هو فضل خاص من الله لا بد أن يكبر الله، والذي يشتغل في تكبير الله تعالى لا بد أن يكبّره الله.لقد أمرنا الله في القرآن الكريم أنكم (إذا حييتم بتحية فحيـــوا بأحسن منها) (النساء: ۸۷)..فلا بد أن يعمل هو أيضا بهذا المبدأ، وإذا قدَّم لـــه الإنسان هدية ردَّ عليه بأحسن منها.فالذي يكبر الله فلا بد أن يكبره الله، ولكــ بشرط ألا يكون هذا التكبير بكلمات الفم فحسب إن التكبير الذي يسره سبحانه وتعالى هو أن يتحمل الإنسان في سبيله السب والضرب والرجم، ومع ذلك يكبره ويشكره لأنه هيّأ له هذه الفرصة للتضحية وكأن التكبير الحقيقي هو أنـــه كلمـــا تعرض الإنسان للاضطهاد خضع الله قائلا: ما أكثر نعم الله على! وكلما علي! وكلما حلّت به مصيبة كبر الله وأثنى عليه.ومن كبر الله هكذا فلا بد أن یزیده الله فضلا أسبابا لرفع مكانته..وإلا فإن التكبيرات من اللسان فقط لا تجديه نفعا.وأما قوله تعالى (ولعلكم تشكرون) فجاء به إزاء قوله (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر..ليشير إلى أننا أعطيناكم هذه الرخصة لتكونوا شاكرين..وتتحدثوا كيف أن الله قد هيّأ لنا هذه التسهيلات لنيل المدارج العليا..ويهيئ وتبقى جباهكم ساجدة على عتبتي دائما، وتضيئوا صدوركم وقلوبكم بحي.فهنا ذكر الله ثلاثة أحكام، وذكر إزاءها ثلاث حكم.والأحكام هي أولا – أن تصوموا شهرا، وثانيا أن تصوموا في رمضان وثالثا - أن للمرضى والمسافرين رخصة إكمال هذه العدة في أيام أخر.والحكم الثلاث إزاءها هي: أولا حكمة صيام شهر كامل..وهي أننا حددنا عدد أيام الصوم حتى لا يختلف الناس، فلا تكتمل العدة التي هي ضرورية للرقي الروحاني وثانيا حكمة الصيام في رمضان..وهي ألا يختلف الناس ويختار كل منهم شهرا خاصا به، فعينا رمضان للجميع لكي يتذكروا نزول القرآن في هذا الشهر، فيتحمسوا لذكر الله وعبادتـــــه أكثر.وثالثا - حكمة الترخيص لبعض المرضى والمسافرين بعدم الصوم، لكي تــــروا

Page 462

الجزء الثاني ٤٥٩ سورة البقرة هذه التسهيلات، فتميل قلوبكم إلى شكر الله أنه رعانا هذه الرعاية..أنزل هذه الأوامر لصالحنا، ثم منحنا هذه التسهيلات أيضا.ويشير قوله تعالى (لعلكم تشكرون أيضا إلى أننا فرضنا صيام رمضان لكي تكونوا شاكرين.فعند كل تكبيرة تشكرون الله، لأنه وفقكم لهذا التكبير، ثم تشكرونه على هذا التوفيق للشكر السابق، ثم تشكرون على هذا التوفيق للشكر اللاحق..وهكذا تستمر سلسلة من حلقات الشكر لا تنتهى، فيبقى الإنسان ساجدا على عتبة الله في كل حين، ويصبح عبدا لا يترك باب سيده بحال من الأحوال.وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (۱۸۷) شرح الكلمات أجيب - الإجابة العطاء من الله والطاعة من العبد (المفردات).فمعنى قوله (أجيــــب دعوة الداع إذا دعان أنني أسمع دعاءه وأجازيه.فليؤمنوا آمن به صدقه؛ اعترف بصفاته.لعلكم ذكر بعض المفسرين أن (لعل) من الله واجب (المفردات)..أي إذا وردت (لعل) في حق الله فهي بمعنى اليقين.التفسير: يقول الله تعالى: يا أيها النبي إذا سألك عني عبادي..أي عشاقي، وقالوا: أين ربنا..كما يسأل العاشق الولهان عن حبيبه، فقل لهم : لا تراعوا فإنـه قـريـــب جدا، فإني لا أكسر قلوب عشاقي ولا أخيّبهم.والدليل على كوني قريبا منهم أني (أجيب دعوة الداع إذا دعان)..عندما يتوسل إلي أحـــد في اضطراب ولوعـــــة وحرقة، فإني أستجيب دعاءه وأقبله.لو كنت بعيدا عنه فكيف سمعـت صـوته الخافت وهو في السجود؟ لو كنت بعيدا عنه كيف وصل إلى سمعي ابتهاله وهو في خلوة يرفع أكفّه ؟ إن سماعي دعاءه واستجابتي له لدليل على أنني قريب منه.

Page 463

٤٦٠ سورة البقرة الجزء الثاني وإلى نفس هذه الحقيقة أشار الله بقوله (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (ق: ۱۷)، ومعنى ذلك أنه ليس قريبا فقط، بل هو موجود داخل الإنسان.والظاهر أن الجالس بالقرب يسمع الصوت الخارج من الفم، أما الجالس في داخله فإنه يسمع ما يقوله قلبه فكأن الله فسّر هنا معنى قربه..وقال: قربي يعني أنني أقرب إلى الإنسان من شريان حياته، وأسمع دعاء الداعي سواء ناداني بلسانه أو تمثل النداء رغبــة في قلبه..لأنني شديد القرب منه، بل إنني في قلبه.يقول البعض: إننا دعونا الله بكل اضطرار ولكن لم تُستجب دعواتنا..فكيف تصح هذه الآية؟ صحيح أن معنى الداعي لغةً هو من يدعو، ولكن الداعي هنا يعني من يدعو الله تعالى متصفا بالصفات المذكورة هنا.فالمعنى أن الذين يدعونني للقائي، وينسون لأجلي كل شيء، يطلبون مني قربي ووصالي فقط..فإنني أستجيب لدعائهم وأقربهم مني.لذلك قال وإذا سألك عبادي عني..أي أنهم يبحثون عني، ولا يبحثون عن الخبز أو الوظيفة.فالذي يسأل الله قربه ولا يستجاب دعاؤه فله حـــــق الاعتراض، أما الآخرون فلا مجال لاعتراضهم.كما أن أسلوب العبارة في الآية يتضمن معنى الاضطراب والقلق.هناك بعض المفاهيم لا يعبر عنها بالكلمات، وإنما هي مستورة في العبارة، وهذا هو الحال هنا.يقول الله ، عندما يجري عبادي إلي باضطراب وعشق ووله..ويتلهفون: أين ربنا؟ فقل لعبادي هؤلاء إنني لا أردّ دعاء هؤلاء الداعين أبدا، بل أسمعه وأقبله.وقد ورد نفس هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت (۷۰).أي أن الذين يسعون جاهدين للقائنا..فنقسم أننا لا بـد أن نوفقهم لسلوك طرق تؤدي بهم إلينا.وهذا يبيّن أن الله مستعد ليدل كل إنسان، أيا كان دينه وثقافته على طرق قربه، ويستجيب لدعواته باليقين..شريطة أن يبذل الإنسان الجهود لذلك.أما الأدعية الأخرى فإن الله يضع في الاعتبـار مــصالح الإنسان بصدد قبولها فإذا كان ما يسأله الإنسان مهلكا وضارا به في علم الله فلا يعطيه ما سأل.وبعض الأحيان تكون الوظيفة الشاغرة واحدة، ويكون لها اثنان من

Page 464

الجزء الثاني تعالى مع ٤٦١ سورة البقرة الطلاب، فلا بد أن توهب لمن هو أحق بها.وإذا كانت ضارة بمن يطلبها، فإن الله ذلك لا يعطي عبده المؤمن إياها لأن الصديق لا يمكن أن يضر حبيبـــه، فكيف يمكن أن يعطيه إياها مع أنه يراها بمثابة النار لمن يحب.إذن فهناك عوائق في طريق قبول بعض الأدعية.ولكن هناك مطلبا لا بأس بأن يطلبه الإنسان، ولا يحول دون سؤاله وقبوله حائل، وهو مطلب لا ينقص إذا وُزِّع على الناس جميعا..ألا وهو الله جل شأنه.الأشياء الأخرى محدودة، وأحيانا تكون ضارة بالإنسان كل شيء في الدنيا يمكن أن يكون فيه شر وسوء، مثلا يقول الله: (ويل للمصلين) (الماعون : ٥)..فهناك نــــوع مـــن الصلاة تهلك أصحابها.ولكن لا ويل لمن يسأل الله إياه.لم يحدث قط أن سأل أحد الله إياه ولم يشرفه الله بلقائه مخافة أن يُهلك السائل هذا اللقاء..أو ينقص هذا من ذات الله تعالى ولا ينقص هذا من الله شيئا.يتنفس كل كائن في هذا الهواء ولا ينقص الهواء..كذلك كل إنسان يستطيع لقاء الله تعالى ولا ينقص هــذا مـــن الله شيئا.كل الخلق يتمتع وينتفع بأشعة الشمس ولا يترتب على هذا نقص في أشعة الشمس، ويستمتع الناس بنور القمر ويجلسون فيه ساعات وساعات ولا ينقص هذا من القمر شيئا، وتبقى أنواره كما هي.والله تعالى أكمل موجود، ولا ينقص منـــه شيء لو لقيه الناس جميعا.يقول الله تعالى لعباده حاولوا أن تسيروا إلي..وعندئذ ترون كيف تسرع خطاكم في طريق يصل بكم إلي وتنالون قُربي.إنني لا تدركني الأبصار..إلا أنكم سوف تنالونني وتحظون بوصالي.الحقيقة أننا لو تدبرنا في الآية لوجدنا أنه ذكرت ثلاثة تغيرات لا بد منها لمن أراد رقيا روحانيا ووصالا بالله تعالى وبدونها لا يمكن أن يتحقق هذا لأحد.أولها أن تتولد في قلب الإنسان رغبة صادقة للوصال بالله تعالى والتقرب إليـــه.ولكن الواضح أن مجرد الرغبة لا يمكن أن توصل الإنسان إلى الله عز وجـــل، بـــل الضروري أن يتيسر له هادٍ يأخذ بيده على طريق النجاح في هذا الهــدف ويزيـــل مشاكله.

Page 465

٤٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني وثانيها لقد اعترف الإسلام بأهمية هذا المقتضى الفطري، وقال: صحيح أن هؤلاء قد تولدت في قلوبهم رغبة للوصال بالله تعالى ولكن يجب أن يحدث في قلوبهم تغير آخر..هو أن يسألوك عن الله.فليتجهوا إلى نبيهم محمد الله ويسألوه: أين يجدون ﷺ حبيبهم الحقيقي؟ وكيف يهتدون إليه؟ فكما أن شفاء المريض يتطلب أن يعرف أنه مريض، ثم يسلم بضرورة ذهابه إلى الطبيب الحاذق..كذلك يتطلب الوصول إلى الله أن تتولد رغبة صادقة في قلب الإنسان للوصال به عز وجل..ولا يكفي هذا، بل عليه أن يتبع محمد ا لتحقيق هذه الرغبة، فهو الذي يوصله إلى الله تعالى.والتغير الثالث الذي لا بد من حصوله في طالب القرب الإلهي هو ما تشير إليه هذه الآية أن يسأل عني وأن يكون هدفه الوصال بي فقط.الناس يدخلون في دين ما بأهداف مختلفة: فبعضهم يدخلون فيه لينخرطوا في سلك جماعة، وبعضهم يقبلونه للتحلى بأخلاق سامية، وبعضهم ينضمون إليه من أجل الاجتماع والحضارة.ولكن الله يقول : يجب أن يدخل الإنسان في دين صادق بهدف الاتصال بالله تعالى والتقرب إليه.ولا يكون وراء دخوله أي رغبة أخرى.نعم، إذا تحققت له منافع ضمنية أخرى فلا بأس، ولكن يجب أن يكون هدفه الحقيقي هو الوصال بالله تعالى.ومن قواعد اللغة العربية أنه إذا جاءت الفاء بعد إذا فهي للعاقبة والنتيجة.فمعــــى قوله إذا سألك عبادي عني فإني (قريب أن هذه التغيرات الثلاثة إذا اجتمعت في أحد..أي إذا بدأ أحد يسأل عن الله تعالى مدركا ضرورة الوصال به عز وجل ثم جاءك ليسألك أنت لا يسأل الفلاسفة والعلماء، ولا موسى ولا عيسى ولا غيرهما، بل جاءك أنت يسأل، أو يسأل القرآن الذي جئت به، أو يسأل خلفاءك، ولا يكون سؤاله عن شيء سواي..بل يسأل عني وحدي..فلا بد أن يجدني قريبا منه..وأريه وجهي.هناك سؤال يجب الرد عليه: لقد سبق أن قال الله في سورة (ق) وهي مكية (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فما الداعي أن يقول في سورتنا هذه وهي مدنية ومتأخرة نزولا (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ؟ ما داموا قد عرفوا في ســــورة مكية أن الله تعالى قريب جدا..فلماذا يسألون هذا السؤال؟ ولا حاجة لإنزال هذه

Page 466

الجزء الثاني ٤٦٣ سورة البقرة الآية.لو أن أحدا سأل النبي عن ذلك لأخبره بقول الله تعالى (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).القرآن الكريم كلام الله تعالى، ولا يكون فيه شيء بدون ضــــرورة وداع، فلا بد أن هناك حكمة في ذكر الناس هذا السؤال والجواب عليه.ولا بد أن يكون لكلمة قريب معنى خاص غير معناها العادي.ولنتذكر هنا أن الله جعل فرقًا غريبا بين الآيتين..ذلك أن القرب والبعد أمر نسبي على الدوام.فهذا الشيء قريب مني وهو بعيد عن غيري.عندما نقول عن شيء إنه قريب فذلك من جهة، ولكن من جهة أخرى يعتبر نفس الشيء بعيدا.في ســــورة "ق"يقول الله (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه.ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فهو أقرب بالنسبة لذلك الإنسان.وفي قوله تعالى (وإذا سألك عني عبادي فإني (قريب لم يذكر أي نسبة أو جهة، فهو قريب مطلقا دون تحديد.وفي عدم التحديد هذا نكتة لطيفة جدا..ذلك أن الإنسان يسأل ربه حاجات مختلفـــــة في أوقات مختلفة، أحيانا يطلب منه ما يتعلق بالناس، وأحيانا ما يتعلق بالحيوانات، وأحيانا بالجمادات، وأحيانا ما يتعلق بالله، وأحيانا بالملائكة، وأحيانا بهذا العــــالم، وأحيانا بالآخرة.فحاجات الإنسان واسعة ولا يمكن أن تحدد.ولكن من فطرة الإنسان أنه عندما يطلب شيئا يبحث عن أقرب وسيلة للحصول عليه.وهـذا القرب له جهات مختلفة، فمن القرب أن يجد بأسرع ما يمكن ذريعة تقربــه مـــن الغاية؛ ومن القرب أيضا أن يجد وسيلة تقربه من غايته في أقرب وقت ممكن.فهناك معان مختلفة للقرب ينظر إليها الإنسان، وإذا وجد في وسيلة كـــل هـذه المعـــاني للقُرب..اختارها للحصول على غايته، وهذا ما يقول الله هنا (إذا سألك عبــــادي عني فإني قريب)..أي أن الإنسان يهدف إلى غايات مختلفة، وينظر إلى الوسائل المؤدية إليها، فيختار منها الأسرع ، فإذا رأى بعد التفكير في وسائل مختلفة أخرى أن يدعو الله..فقل له (إني قريب).لم يقل هنا "إني قريب إليه "..لأن الله ليس قريبا من هذا الداعي وحده بل إنه قريب من كل شيء..وهو أقرب وسيلة للحصول على أي غاية فكون الشيء قريبا من شيء أمر.ولكن تقريب أحد من هدفه فأمر آخر.لذلك يقول الله تعالى (إني قريب أي قريب منكم، وأيضا قريب من غايتكم و

Page 467

الجزء الثاني ٤٦٤ سورة البقرة التي تريدون تحقيقها كأن هذه الآية لا تتحدث عن قرب مكاني، وإنما تبين أن كل أنواع القرب التي يحتاج إليها الإنسان للحصول على غايته موجودة في الله تعالى.مثلا يكون لنا صديق في الخارج محتاج للمال، ويكتب لنا طالبا المساعدة..ولـ أردنا إرسال المال إليه لاستغرق ذلك أياما، ولكن لو دعونا الله لأجلـــه..فمـــن الممكن أن يحقق الله له أمنيته ويهيئ له المال بمجرد خروج كلمات الدعاء من فمنا.يقول الله تعالى إذا أردتم المعونة فقولوا لي.والمثول بين يدي الله تعالى لا يحتاج من الإنسان تحريك يد أو رجل..بل يستطيع أن يمثل أمامه بالقلب، لأنه يقول (إني قريب).ثم إن الله ليس قريبا من الإنسان فقط، بل إنه قريب أيضا من غايته أيضا، ومــا أن يدعو ربه ليعطيه شيئا..فإنه تعالى يخصصه له..وإن كان هذا الشيء علــى بعـــد آلاف الأميال، لأنه كما كان قريبا من الداعي كذلك هو قريب من الشيء الذي دعاه لأجله.وهذه أكبر وأنفع الوسائل لتحقيق أي نجاح.كما أن الله بقوله (إني قريب) وجّه الأنظار إلى موضوع آخر لطيف، وهو أنكم إذا لم تستطيعوا رؤيتي فلا تظنوا أني بعيد عنكم.بل إني قريب جدا مــنكم، ولنفس السبب لا تستطيعون رؤيتي..إذا لا يستطيع الإنسان رؤية الأشياء البعيدة عنه جدا، كما لا يستطيع أيضا رؤية الأشياء القريبة جدا منه.لذلك لا يستطيع سماع الصوت الناشئ في باطنه.هناك صوت للضمير، ولكن آذانه لا تسمعه، لأن الآذان تسمع الصوت الصادر من بعيد.عندما نسمع صوتا فمعنى ذلك أن الهواء هو الذي حمل الصوت الخارج إلى الأذن.لقد خلق الله طبلة الأذن بحيث تتلقى الموجات الصوتية القادمة إليها من بعيد فتحدث فيها ذبذبات تنتقل إلى المخ فيترجمها إلى أصوات مفهومة.كذلك يتلقى المذياع الموجات وذبذباتها وتحولها صماماته إلى كلمات مسموعة.فالأذن بمثابة المذياع (جهاز استقبال في الإنسان ، وأعصاب السمع بمثابة صماماته التي توصل الذبذبات إلى المخ فيترجمها في صورة كلمات.أن شيئا فالصوت يعني الشيء القادم من الخارج، وعندما نسمع صوتا فذلك يعني جاءنا من الخارج..لأننا إنما نسمع من الأصوات ما يأتينــا مـــن الخــارج.نـــارج.أمــــا

Page 468

٤٦٥ سورة البقرة الجزء الثاني الأصوات الداخلية كصوت الغازات في الأمعاء فنسمعها لأن ذبذباتها تصل إلى الخارج وترتد إلى الأذن، وإلا فإن ما يحدث من أصوات في داخلنا لا نستطيع سماعه لأنه شديد القرب منا، فكما لا نستطيع رؤية شيء بعيد جدا، ولا نستطيع رؤيــــة شيء قريب جدا..كذلك لا نستطيع سماع صوت بعيد جدا أو قريب جدا.الذين لا يعرفون هذه الأمور سوف يتعجبون لها ولكن هذا النظام جميعه قائم بالفعل على الحركة والموجة ما تسمعونه هو حركات ذبذبات" يترجمها المخ إلى أصوات، وما ترونه أيضا حركات "ذبذبات" تحولها العيون والمخ إلى صـــور.مـــا ترونه أمامكم ليس بصورة وإنما هي نقوش تصل إلى المخ عن طريق الأعين فتحولها إلى صورة.لذلك بدعوا بجهاز المذياع ينقلون الصور أيضا.وقاعدة هذه الحركات كلها، سواء كانت حركات الأذن أو العين، أن لها حدا أدنى وحـــدا أعلـى.فالموجات الضوئية أو الصوتية التي تقع بين الحدين يمكن للعين أن تراها وللأذن أن تسمعها.أما ما فوق هذا الحد أو دون ذاك الحد فلا يُرى ولا يُسمع.هناك كثير من الأصوات التي تتولد في جو السماء نتيجة تصادم السحب أو الأجرام الفلكية، ولكنها شديدة جدًا لذلك لا نسمعها.وكما أن الآذن لا تسمع ترددات فـــوق سألك عني طاقتها أو دونها كذلك لا تستطيع العين رؤية شيء فوق طاقة العين أو دونها.أشار الله بقوله إني قريب إلى أن عدم رؤيتكم أو سماعكم لي ليس بسبب بعدي عنكم فلست ببعيد عنكم، وإنما أنا قريب منكم قربا شديدا لذلك لا تستطيعون رؤيتي ولا سماع صوتي.وهنا سؤال: ما دام الإنسان لا يستطيع رؤية الله، فلماذا قيل هنا (وإذا عبادي فإني قريب)..فالإنسان يسأل ويبحث عمن يستطيع رؤيته.فلنتذكر أن السؤال يكون أحيانا عن شيء مبهم، كأن يكون أحد مسافرا في ظلمة الليل ويشعر بخطر فيقول: هل هناك أحد؟ ولا يعني ذلك أنه متأكد من وجود يراه بعينه، وإنما ينادي على افتراض أنه لو كان هناك أحد فليأت لنجدته..حتى يزيل عنه وحشته وخوفه من الظلام.كذلك يقول الله هنا: إذا شعر أحد إنسان

Page 469

٤٦٦ من الجزء الثاني سورة البقرة بالوحدة في الدنيا، ورأى أنه بحاجة إلى نجدة، وناداني وهو لا يراني: إذا كان هناك إله فليأت لنجدتي؛ فقل لعبدي :هذا إني قريب منه ولست بعيدا عنه.أحيانا لا يفكر في نجدة المستغيث ويقول: فليمت، ولا حاجة لي لمساعدته.وأحيانا لا يقدر هذا القريب على مساعدة المظلوم ضد المعتدي، كأن يدخل أسد في قرية ويهاجم أحد سكانها، فيفرون بدلا من السعي لنجدته.ولكن لا يحدث هذا الله.إذا نادى أحد ربه وهو خائف لوجد الله هناك.يقول الله: إن عبدي هذا..وإن كان نادى نداء مبهما، ولكنني أعتبر نداءه موجها إلي، وأرى أنه يخاطبني أنا..بغض النظر عن أن نداءه فيه إبهام وخيال..لا أبالي بهذه التفاصيل، وإنما أُسرع لنجدته.لذلك إذا سأل عني فقل له: إني قريب ولست ببعيد.صحيح أن الناس لا يأتون أحيانا لنجدة المستجير وإن كانوا على مقربة منه أو لا يستطيعون نجدته..أما أنا فإنني مصمم على نجدته وقادر على مساعدته أيضا.صحيح ويتبين من هذا أن الله لا يستجيب دعاء المسلمين فقط، بل إن أي إنسان..سواء كان مسيحيا أو هندوسيا أو سيخيا أو آريا..لو دعا الله وتوسل إليه في ضراعة وابتهال وبقلب صادق واستغاثه بضعف حيلته، فلا بد أن يسمع الله دعاءه ويقبله.أن الله يستجيب لأدعية المسلمين الصادقين أكثر من الآخرين..ولكن هذا أنه سد باب رحمته على الأمم والأفراد الآخرين بل كل من يقرع بابه ويخر على عتبته فإنه يرحمه ويسد حاجته إنه يقول بكلمات صريحة: أجيب دعوة الداع إذا دعان..كل من يناديني لنجدته فإنني أستجيب لندائه، ولا أرده من عندي خاوي الوفاض.لا يعني ثم يقول (فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي).ما دمتُ أسمع دعاءكم وأستجيب له..يحب عليكم أن تقوموا بما يجعلني أستجيب دعاءكم.ولا تظنوا أني أقبل كل دعاء، بل كل دعاء يخالف أحكامي ونظام الأخلاق لن أقبله كيف يمكن أن أقبله وأهلك رسولي؟ هل أقبله وأفسد نظام الأخلاق ؟ إذا أردتم أن تستجاب دعواتكم فينبغي ألا يتعارض دعاؤكم مع نظامي وديني وأخلاقي.

Page 470

الجزء الثاني ٤٦٧ سورة البقرة يقال إن أحد العرب ذهب إلى الحج وأخذ يدعو الله دعاء فاسدا وهو واقف في الكعبة.فسمعته الشرطة واعتقلته كان يدعو يا إلهي، ليت حبيبتي تغضب على زوجها وتأتي إلي !! وكأنه-والعياذ بالله يريد أن يشترك الله معه في هذه السيئة! كذلك قال أحد السارقين مرة: قبل خروجي للسرقة أصلي ركعتين حتى أستعين بالله وأنجح في سرقاتي! هناك إعلانات تُنشر في الجرائد عموما عن أنواع التمائم والتعاويذ، ويقولون عنها إن من احتفظ بواحدة منه فبوسعه أن يدعو أي امرأة فتأتي إليه تلقائيا بتأثير التميمة ويعلّلون ذلك بأن فلانا من أولياء الله هو الذي أعدّ هذه التعاويذ بما يعلمه من أسرار الكلام هذا استهزاء وسخرية بالدين إن الله سبحانه لا يشترك في ارتكاب المساوئ والسيئات كهذه ؛ ومهما قال القائل فهذا خطأ.فالله يقول: لا تظنوا من قولي أجيب دعوة الداع إذا دعان أنني أسمع كل دعاء.إنما أسمع الدعاء بشرطين: أولهما أن يكون الداعي مستجيبا لندائي.وثانيهما أن يستيقن بي ولا يسيء بي الظن إذا كان الداعي لا يؤمن بقوتي وقدرتي..فكيف يمكن أن أستجيب لدعائه؟ لقد عرف كلمة الداعي بــ بـ "ال" دلالة على أنه داع خاص.الأخلاق ثم ذكر بعد ذلك شرطين يجب وجودهما في الداعي وهما أن يكون نداءه بحسب ما وضعت من قواعد ومبادئ، فلا يكون الدعاء في حرام، ولا يتعارض ولا مع سنتي.لو دعا أحد يا رب أخي أخي الذي مات، فهذا دعاء يتعارض مع القرآن الكريم وتعاليم الرسول..وما دام الداعي لم يعمل بالقرآن، و لم يقبل قول الرسول..فلماذا يستجيب الله لدعائه هذا؟ هناك شرطان لقبولية الدعاء: (فليستجيبوا لي: أن يقبلوا ما أقول؛ (وليؤمنوا بي) ويوقنوا بي.والذي لا يستوفي هذين الشرطين ليس مؤمنا ولا يتبع أوامري، لذلك لا أعِده بقبول كل دعاء منه.صحيح أنني أقبل أدعيته أيضا، ولكن بحسب هذا القانون لم أقبل كل دعاء له.أما الذي يتبع هذا القانون ثم يدعوني فأقبل كل دعاء له.

Page 471

٤٦٨ سورة البقرة الجزء الثاني حكى سيدنا الإمام المهدي أن بعض التجار الهندوس كانوا جالسين يوما في السوق يقولون: هل هناك أحد تناول نصف رطل من حبات السمسم؟ رأوا أن أكل هذا القدر من السمسم أمر صعب وأعلن أحدهم عن جائزة قدرها خمس روبيات لمن يفعل ذلك.ومر بهم فلاح ،قروي، فلما سمعهم لم يفهم الأمر وتحيّر، وحدث نفسه: أي صعوبة في تناول نصف رطل من السمسم حتى يضعوا له هذه الجائزة؟ لا بد أن هناك شرطا آخر أيضا.فتقدم وسأل: هل تشترطون أكل السمسم بقشره أم مقشورا؟! كان هذا الفلاح لا يرى أي صعوبة في أكل هذه الكمية من السمسم، أما هؤلاء فكانوا تجارا هندوسا لا يستطيع أحدهم أن يأكل أكثر من نصف رغيف.فقال التاجر صاحب الاقتراح للفلاح: يا سيدنا الفلاح، دعك من هذا، فنحن نتحدث عن الآدميين! فعندما يقول الله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان) فإنه يخاطب الآدميين، ولا يخاطب الحيوانات.إنه لا يستجيب دعاء كل ،داع، وإنما يستجيب دعاء داع يشعر ويدرك أن عليه أيضا بعض الواجبات..وليس على الله وحده.فمثلا لو دعا أحد أن يمكنه الله من خطف ابنة فلان، أو سلب مال فلان أو هلاك عدوه فلان..فإن الله تعالى لن يعتبر نفسه مخاطبا بمثل هذه الدعوات.فقوله فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي يعني أن من يتبعون أوامره ويؤمنون بقدرته لا يسألونه بمثل هذه الأسئلة.هل كان النبي الا الله وأصحابه يدعون الله بأن يعطيهم مال أحد ظلما؟ فالله يخاطب الناس ولا يخاطب الأنعام ولا يَعِدهم، وإنما يشترط أن يكون الداعي تابعا لأوامره تماما، وأن يكون مستيقنا بقدرته.فثقته هذه تستثير الله لقبول دعائه.سئل ابن عباس رضي الله عنهما من ذا الذي تدعو له أكثر؟ فقال: الذي يأتني ويقول: ليس هناك من يدعو لي، فادْعُ لي.وما دام يعتمد علي ويثق في رغم عدم معرفته بي، فلماذا لا أثق به؟ كذلك يقول الله: من يثق في ويعمل أستجيب لدعائه ولكن الذي لا يثق بي ولا يعمل بأوامري فلا أستجيب لدعواته.وإلى ذلك يشير حديث الرسول ﷺ: (لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمِ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ حسن مشيئتي..

Page 472

الجزء الثاني ٤٦٩ سورة البقرة الدُّعَاءَ الله في وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ (مسلم، کتاب الذكر والدعاء.فيستلزم قبول الدعاء أن يكون الداعى مؤمنا واثقا تمام الإيمان والثقة بالله تعالى، ولا يَدَعُ اليأس يقترب منه.ثم يقول (لعلهم يرشدون) والرشد يعني أن يعرف الإنسان الطريق الصحيح (الأقرب).فالمراد من قوله (لعلهم يرشدون) أنهم نتيجة لذلك سوف يعرفون الطريق الذي يؤدي بهم إلى الفلاح والنجاح يقينا.وكلمة "لعل" تُستخدم عموما للرجاء والأمل، ولكنها لم ترد هنا بهذا المعنى، وإنما بمعنى اليقين..كأسلوب كلام الملوك والحكام الذين عادة يقولون: لو قدمت الطلب فربما ندرس الأمر.ومثل هذه الكلمات لا تدل على الرجاء والاحتمال ولكنها في الحقيقة تعني اليقين واللزوم.أي أننا سوف نحقق ما تريد ويقول اللغويون أيضا إن "لعل" إذا استخدمها كلامه فهي بمعنى الوجوب واليقين (المفردات).فقوله تعالى (لعلهم يرشدون) يعني: من قبل كنت أنا آتيهم لنجدتهم، ولكنهم عندما ينالون هذا المقام سوف يتمكنون بأنفسهم من الوصول إلي.كان أشار بقوله إني قريب إلى أنني أتيهم أما بقوله (لعلهم يرشدون) فبيّن أن العبد يترقى بالتدريج حتى يتخذ لونا من صفات الله تعالى.في البداية كان كالأعمى يجلس صديقه بجواره، أما بعد نوال هذا المقام فيصبح بصيرا يجلس بقرب حبيبه.وإلى هذا المقام أشار النبي الله في قوله تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (البخاري (الإيمان).ورؤية الله تعالى إنما تعنى أنه صار قريبا من العبد..وإلا فإنه يراه من العرش أيضا.فالمعنى أن الله يقترب من العبد في البداية حتى أنه يستيقن بأن الله يراه..ثم يرتقى العبد ويحوز مقاما يشعر فيه أنه هو يرى الله تعالى..وهكذا يصل إلى أسمى درجات الروحانية.ولما كانت هذه الآيات تتحدث عن الصيام..فإن الله تعالى قد وجه فيها أنظار المؤمنين إلى أنه يستجيب عموما لدعوات عباده ويسد حاجاتهم، ولكن أيام رمضان أيام استجابة الدعاء على وجه الخصوص، فعليكم بالانتفاع من هذه الفرصة والتقرب إلى الله، أما إذا خرجتم من شهر رمضان أيضا أصفار الأيدي فلن يبقى

Page 473

٤٧٠ سورة البقرة الجزء الثاني شك في شقاوتكم.كل عمل في الدنيا مرهون بوقته، وإذا لم يُنجز في موعده فلن يأتي بنفس النتائج الجيدة التي تتحقق لو تم في موعده.هناك موسم خاص لزرع الغلال والخضار وإذا لم يُراع هذا الموعد فلا ينبت منها شيء.ولكن هذا لا يعني أن هذا الموعد بمثابة السحر والتميمة..أي له تأثير خاص يتمم العمل، وإنما المراد أنه حينما تتيسر الأسباب لنجاح عمل فهو الموعد لإنجازه.إذا كان لنمو حبات القمح وقت خاص فلا يعني ذلك أن شيئا خاصا يحدث في البذرة عند ذلك الوقت وإنما يعني أن الأسباب اللازمة لنموه تتهيأ عندئذ.ولو تيسرت تلك الأسباب في موعد آخر لنبت القمح في ذلك الموعد أيضا.إذن هناك موعد تتيسر فيه الأسباب لإنجاز جميع الأعمال.وكذلك للدعاء مو عد محدد، وإذا تم الدعاء فيه أتى بنتائج رائعة.قال النبي ﷺ: "اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها الله "حجاب" (البخاري، المظالم..ذلك أن المظلوم يرى نفسه محاصرا بين المصائب ولا يجد من ينصره..فيتجه كلية إلى الله ويخر على عتبته، وكل دعاء يدعوه يستجاب..لأن من أفضل أسباب استجابة الدعاء أن ينقطع فكر الإنسان عن أي جهة أخرى إلى الله وحده فقبولية الدعاء لها أوقات ومواسم.لكنها لا تتحدد بالأسباب الظاهرة، وإنما لها علاقة لما يطرأ على قلب الإنسان من أحول وكيفيات خاصة لا يعرفها إلا من طرأت عليه مثلها.بيد أن هناك موسما خاصا لاستجابة الدعاء لا يحتاج الإنسان بمعرفته إلى معرفة كيفيات قلبية خاصة..وهو موسم شهر رمضان..لقد جاءت هذه الآية في سياق مما أن لها علاقة خاصة عميقة بالصيام، ومعناها: أنه كما أن فكر الصيام يعني المظلوم ينقطع عن أي شيء ويرتكز ويتجه إلى الله فقط، كذلك يرتكز اهتمام المسلمين في شهر الصيام على الله تعالى والقاعدة أنه إذا تم ضغط وتضييق شيء عة منبسط فإنه يكتسب قوة كبيرة..مثل النهر الذي إذا ضاق مجراه زادت سر جريانه.كذلك في شهر الصيام يتهيأ العديد من دواعي استجابة الدعاء حيث ينهض عدد كبير من المسلمين للعبادة وقت الليل، ويستيقظون لتناول السحور، فيجد كل واحد فرصة طويلة أو قصيرة للعبادة في ذلك الوقت تصل دعوات

Page 474

٤٧١ سورة البقرة الجزء الثاني آلاف العابدين المضطرين المكروبين إلى عرش الرحمان، ولا يمكن أن يردها..بل يقبلها، لأن الدعاء الذي يخرج في حالة الكرب والألم يستجاب على كل حال.كما حدث لقوم يونس إذ استجاب الله دعاءهم الذي قاموا به معا في ضراعة وكرب وألم، فغفر لهم، وصرف عنهم عذابه (يونس: ٩٩).الله لمن فهناك علاقة عميقة لاستجابة الدعاء بشهر الصيام.إنه الشهر الذي وعد يدعو فيه إني قريب).وإذا لم يجده العباد وهو قريب..فمتى يجدونه؟ عندما يتمسك العبد بربه بكل قوة، ويُثبت بعمله أنه لن يترك بابه إلى باب آخر، فالله يفتح عليه أبواب فضله وتلتقط آذانُ العبد صوت (إني قريب).ولا يعني ذلك إلا أن يكون الله معه في كل حين.عندما يصل العبد إلى هذا المقام فليدرك أنه قد وجد الله.أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصَّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَحْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (١٨٨) شرح الكلمات: الرفث: كلام يتضمن ما يُستقبح ذكره من أمور الجماع ودواعيه، وجعل كناية عن الجماع (المفردات).اللباس اللباس أصلا هو الستر، أي ما يستر ويخفي ويغطي، ولكن القرآن بين له معاني أخرى.ففي سورة الأعراف ذكر فائدتين للباس ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا) (الأعراف: (۲۷) فكأن اللباس ستر للعورة وزينة

Page 475

٤٧٢ سورة البقرة الجزء الثاني للمرء.ثم ذكر فائدة أخرى فقال (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) (النحل: (۸۲).فاللباس أيضا للوقاية من ضرر الحر والبرد والبأس.تختانون – افتعال من خان يخون.يقال اختانه اختيانا: أُؤتمن فلم ينصح.وخان العهد: نقضه (الأقرب).عفا-عفا عنه، وله، وعن ذنبه صفح عنه وترك عقوبته وهو يستحقها، وأعرض عن مؤاخذته عفا الله عن فلان محا ذنوبه.وقد يُستعمل دعاء عفا الله عنكم فيما لم يسبق ذنب ولا يُتصور منه ارتكاب الذنب (الأقرب).باشروهن باشر الأمر : تولاه بنفسه وباشره النعيم أفاض عليه حتى كأنه مس بشرته (الأقرب).المباشرة: الإفضاء بالبشرتين وَكُنّي به عن الجماع (المفردات).عاكفون الاعتكاف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم (المفردات).التفسير : يقول الله إنه يجوز لكم أن تعاملوا زوجاتكم في ليالي الصيام بدون تكلف، لأنهن لباس لكم وأنتم لباس لهن.وكما سبق ذكره، فإننا نعرف من القرآن ثلاثة منافع للباس: ستر العورة والزينة والوقاية من الحر والبرد ومن الحرب باستخدام الدروع فبقوله تعالى (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن بين كيف ينبغي أن تكون العلاقات بين الزوجين.قال: يجب أن يكون الزوجان كاللباس لبعضهما البعض دائما.أي أولا أن يستر كل واحد عيوب الآخر.ثانيا أن يكون زينة له وثالثا أن يكون عونا للآخر في ساعات العسر وسبب سكينة وطمأنينة في حزنه وقلقه.فكما أن اللباس يحفظ الجسم ويحميه من تأثيرات الحر والبرد والحرب..كذلك يجب أن يكون كل واحد من الزوجين محافظا على الآخر.انظروا إلى نموذج السيدة خديجة رضي الله عنها..كيف أنها بعد زواجها من النبي ﷺ قدمت إليه كل مالها على الفور حتى لا يعاني أي صعوبة من قلة المال وليستمر في أعمال خدمة الخلق بكل طمأنينة وسكينة.ما أعظمه وأروعه من نموذج قدمته لتحسين الحياة الزوجية وتوطيدها.

Page 476

الجزء الثاني ٤٧٣ سورة البقرة قوله (عَلِم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يعني أن الله يعرف جيدا أنكم كنتم تتلفون حقوق أنفسكم ولا تؤدونها، فالآن قد تفضل عليكم وأصلح حالكم.الحقيقة أن الله أشار بذلك إلى ما كان الصحابة يكنونه من حب وعشق للعبادة وذكر الله.فلما رأوا بركات رمضان، وأن الله يتزل من السماء إلى الأرض في هذه الأيام المباركة ويمطر على عباده أنواره وبركاته..أرادوا أن يبيتوا ليالي رمضان في ذكر الله وعبادته وأن يترفعوا عن العلاقات الجنسية.كما فرضوا على أنفسهم قيودا لا داعي لها فيما يتعلق بالطعام والشراب.فقد ورد في الحديث عن البراء أنه – قبل نزول هذه الآية - كان إذا نام أحد من الصحابة وقت الإفطار لم يتناول شيئا طوال الليل ولا في السحور حتى يحل مساء اليوم القادم ومرة كان أحد الأنصار صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ وأطلب لك.وحيث إنه كان يعمل طوال يومه، فقد غلبته عينه فجاءت امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غُشِيَ عليه.فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام.....وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من (الفجر) (البخاري، الصوم).الواقع أن هذه القيود التي فرضها المسلمون على أنفسهم كانت نتيجة لبعض التقاليد اليهودية.فاليهود إذا صاموا يوم الكفارة صاموا من الصبح إلى الصبح التالي (الموسوعة اليهودية، جه ، كلمة Fasts Private).وتقليدا لليهود ظن المسلمين أيضا أن الإنسان إذا نام فلا يجوز له بعد ذلك أكل شيء، وكذلك لا يجوز للمتزوجين ممارسة علاقاتهم الزوجية خلال رمضان.لقد ظنوا أنه كما يحظر الطعام يحظر عليهم العلاقات الجنسية.يقول الله: لا نفع ولا داعي لهذه المشقة وإنما ينفع الإنسان ويباركه أن يتقيد بما فرضه الله عليه ولا داعي أن يفرض الإنسان على نفسه قيودًا من عنده، فهذا غير سليم.قوله فتاب عليكم وعفا عنكم) : أي رحمكم ومنَّ عليكم بهذا التيسير، فوجب عليكم الشكر الله تعالى.والقيام بأعمال الخير بمزيد من الشوق والنشاط.

Page 477

الجزء الثاني ٤٧٤ سورة البقرة الله فإن يتبين من ذلك أن عباد الله المؤمنين عندما يتحملون المشاق ابتغاء مرضاة رحمته تجيش وتفور وتهيئ لهم السهولة بشكل أو آخر.وكأن الله يجازيهم على إخلاصهم يدا بيد.قوله فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم.هناك فرق بين كتب عليه وكتب له.كتب عليه أي فرض عليه، كتب له أي عيَّن له حقا أو جائزة، وتعني مجازا قدر له وقضى، فالمعنى: ابتغوا ما جعله الله لكم حقا، وافعلوا ما لم يحرمه الله عليكم بل أجازه لكم، ولا داعي لتركه أو ابتغوا ما قدّره الله لكم من أولاد، واتبعوا السبيل الذي قرّره لكم للحصول عليهم.وأيضا يعني قوله وابتغوا ما كتب الله لكم اسعوا جاهدين في طلب ما قدره لكم من بركات في هذا الشهر إن عادتكم السابقة المتسببة في ضياع حقوقكم كان الممكن أن تلحق بأجسامكم ضررا يمنعكم من تحمل المشقة وبذل المجهود، ولكن الله قد تدارك هذا الأمر وحمى أجسامكم من مشقة لا داعي لها.فمن واجبكم أن تشمروا وتسعوا لنيل رضوان الله تعالى وتبحثوا عن تلك الدرجات العالية التي قدرها الله لكم في رمضان.قوله تعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) يعني كلوا واشربوا إلى أن يتضح خيط الصبح من خيط الظلام جليا.يتبين من الحديث الشريف أنه عندما نزلت هذه الآية كان بعض الصحابة يحتفظون بخيط أبيض وخيط أسود ظنا منهم أن لهم أن يأكلوا ويشربوا إلى أن يستطيعوا التمييز بين الخيطين، فقد ورد أن عديًا جاء مرة إلى النبي ﷺ وقال له: "يا رسول الله، جَعَلْتُ تَحْتَ وِسَادِي عِقَالَيْنِ، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ وِسَادَكَ إِذًا لَعَرِيضُ أَنْ كَانَ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ تَحْتَ وسَادَتِكَ، إنما هو سواد الليل وبياض النهار (البخاري، الصيام).كذلك كان هنا آخرون منهم يحتفظون بالخيط الأبيض والأسود، وكانوا لا ينفكون يأكلون

Page 478

الجزء الثاني ٤٧٥ سورة البقرة ويشربون حتى يظهر لأعينهم الفرق بين الخيطين..إلى أن أنزل الله كلمة (من الفجر)، فأدركوا أن ليس المراد خيطين ،ماديين وإنما المراد أن يتضح الفرق بين الصبح الصادق والصبح الكاذب.وفي بلدنا البنجاب هناك بعض الفلاحين الذين يحتفظون بالخيطين الأبيض والأسود، ولما كان الإنسان لا يرى الخيط إلا في ضوء كاف لذلك يستمرون في الأكل والشرب إلى أن يسطع ضوء النهار، ولما كان منهم من هو مصاب بضعف البصر فمن الممكن أن يستدل بعضهم من ذلك على جواز الأكل والشرب حتى بعد طلوع الشمس حين يتمكنون من التمييز بين الخيطين.فهذا التعبير على سبيل المجاز، وإنما المراد ألا تتركوا الأكل والشرب بناء على الوهم وتقولوا لعل الصبح قد طلع، بل لكم أن تأكلوا حتى يتبين الفرق بين الفجر الصادق والفجر الكاذب.وفي قوله (ثم أتموا الصيام إلى الليل لا يعني الليل الظلمة الشديدة، وإنما المراد هو غروب الشمس.فقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " (مسلم، الصيام..أي ما دام الناس يبادرون إلى الإفطار بمجرد غروب الشمس فسيبقون بخير..أي تبقى فيهم الروح الحقيقية للأحكام الإسلامية الصحيحة، أما إذا وقعوا في اتباع التقاليد والأوهام فإنهم يغفلون عن الفرائض، وتدفعهم أوهامهم إلى دوار يتخبطون فيه إلى ما طائل منه..ويشبهون في ذلك شخصا ينوي الصلاة، فيمد يده ليمس كتف الإمام ويقول: نويت أن أصلي خلف هذا الإمام؟ ثم بالتدرج يتقدم إلى أن يدفع الإمام دفعا ويقول: وراء هذا الإمام أصلي! هؤلاء الذين يصبحون فريسة للأوهام ينتظرون أولا مغيب الشمس، ولكن ما داموا يرون الشفق الأحمر في السماء فإنهم لا يطمئنون..وينتظرون وقتا أطول حتى تخيم الظلمة الشديدة فيفطرون.هذا الطريق مخالف للشرع.يقول الله تعالى (أتموا الصيام إلى الليل ووقت الليل يبدأ من مغيب الشمس، فلا ذلك أن تنتظروا إلى الظلمة الشديدة كي تفطروا).يعني

Page 479

٤٧٦ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد).هناك اختلاف في الرأي عما إذا كان هذا النهي عن جماع النساء بسبب الاعتكاف أم لحرمة المساجد.(التفسير الكبير الرازي).أرى أن هذا النهي ليس بسبب الاعتكاف، وإنما لحرمة المساجد.ويشير إلى ذلك قوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد).رضي الله 6 ولنتذكر أن المباشرة تعني أيضا مجرد اللمس.والثابت من الحديث أن السيدة عائشة عنها كانت تغسل رأس النبي ، وتمشط شعره وهو معتكف في المسجد (البخاري، الصوم فالنهي هنا إنما هو عن العلاقات الخاصة بين الزوجين أو ما يؤدي إلى ذلك، وليس مجرد اللمس.قوله (تلك حدود الله فلا تقربوها)..أي لا تقربوا هذه الحدود حتى لا تزل قدمكم إلى محارم الله.وقد نبه النبي إلى ذلك صحابته فقال : الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَن اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ.أَلا لِكُلِّ مَلِكٍ حِمى أَلَا حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ".(البخاري، الإيمان) حماه، فإذا اقترب منها الإنسان تعرض لخطر الوقوع فيها وارتكاب المحرمات التي توجب غضب الله فالتقوى الحقيقية أن يتجنب الإنسان الاقتراب من وَإِنَّ فمحارم حدود الله الله هي حتى لا يُزلّ الشيطان قدمه.(كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون)..المراد من آيات الله أوامره.يقول إن الغرض الحقيقي من أوامر الله هو أن تتولد التقوى فيكم، فيجب أن تضعوا دائما التقوى نصب أعينكم..فلا تتعدوا حدود الله فحسب..بل تتجنبوا الشبهات مخافة الزلل والابتعاد عن التقوى.

Page 480

الجزء الثاني ٤٧٧ سورة البقرة ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (۱۸۹) شرح الكلمات : تأكلوا -أكل: تناول الغذاء والطعام، ولكن إذا استخدمت كلمة الأكل لغير الطعام فتعني أفنى الشيء وأهلكه.تدلوا أدلى إدلاء: أرسل الدلو في البئر.أدلى فلان في فلان: قال فيه قبيحا.وأدلى بحجته: أحضرها واحتج بها وأدلى إليه بمال: دفعه إليه (الأقرب).وقوله وتدلوا بها يعني ولا تدلوا بها.والمراد أولا لا تأخذوا أموال الناس إلى الحكام، أي لا تسلبوهم أموالهم بإقامة القضايا الكاذبة ضدهم.وثانيا: لا تعطوا الحكام الرشاوى.: التفسير : الإنسان لا يسلب مال نفسه، فالمراد لا تأكلوا أموال بعضكم عن طريق الباطل.الإنسان يأكل مال غيره بعدة طرق أولا بالكذب ثانيا: بسلبها عن طريق غير شرعي، ثالثا: عن طريق الربا، رابعا الرشاوى.كل هذه الأمور تندرج تحت كلمة (الباطل).وبقوله تدلوا بها إلى (الحكام بيّن أنه كما هو حرام أكل مال بعضكم البعض، كذلك لا تُغروا الحكام بالمال لتأكلوا به أموال الآخرين، فالآية تنهى عن تقديم الرشوة للمسؤولين وتحرمها.والمعنى الثاني : لا تأخذوا أموالكم إلى الحكام لتأكلوا أموال الآخرين بالإثم..أي لا تقيموا ضدهم قضايا باطلة ظنا أن الحاكم أو القاضي إذا حكم لكم بهذا المال بناء على قانون البلد يجوز لكم أن تأخذوه كلا، فهناك محكمة سماوية فوق المحاكم الدنيوية، وما دامت هذه المحكمة السماوية قد حرمت عليكم بقانونها مثل هذا المال..فمهما قضت المحاكم الدنيوية لكم به فهو حرام غير جائز لكم.وقد قال

Page 481

ΣΥΛ سورة البقرة الجزء الثاني النبي ﷺ: "فمن قطعتُ له من حق أخيه شيء فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار" (البخاري، الأحكام).كذلك روي عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول ﷺ سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر يأتيني الخصم، ولعل بعضكم أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك.فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يتركها ".(البخاري، الأحكام، ومسلم، الأقضية).يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأَتُوا الْبَيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (۱۹۰) شرح الكلمات: الأهلة جمع هلال، قيل يسمى هلال لليلتين أو ثلاث أو إلى سبع (الأقرب).المواقيت جمع ميقات، وهو الوقت، وقيل الوقت المضروب للشيء، والموعد الذي جعل له وقت.وقد يستعار للموضع الذي جعل وقتا للشيء (الأقرب).التفسير: لما رأى الصحابة أن الله تعالى يتقرب منهم في رمضان ويستجيب لدعائهم بكثرة..اشتاقت قلوبهم لسؤال النبي الا الله عن باقي الشهور، ليتمتعوا ببركاتها أيضا.فيقول الله: إنهم يسألونك عن الأهلة فقل لهم : هى مواقيت للناس، أي هي وسيلة ليعرف الناس بها الوقت.بمعنى أن الشهور القمرية لم تتحد بدورة القمر لأن لكل منها علاقة بأمر من أمور الشرع، إنما ارتبطت بالقمر ليعرف الناس موعد أمر أو عمل في المستقبل أو في الماضي، وأشار بقوله (للناس) إلى أن عامة الناس يمكن أن ينتفعوا بالشهور القمرية، أما الحساب الذي يتأسس على دوران الشمس فإنما ينتفع به أهل العلم دون العامة.

Page 482

الجزء الثاني ٤٧٩ سورة البقرة وقال (والحج)..أي هناك فائدة أخرى للشهور القمرية إذ لها علاقة بالحج، فبما أن فريضة الحج تؤدى في شهر قمري معين، وفي كل مرة يتغير موعده فهذا يمكن ذوي الطبائع والبلاد المختلفة حارة أو باردة..أن يشتركوا في هذه العبادة بحسب طبائعهم وأحوالهم.ولو فُرض أداء الحج في شهر شمسي لتقيدت هذه العبادة بشهر واحد من السنة ولاستحال على العديد من الناس أداؤه، ولكن ربط عبادة الحج بشهر قمري يجعل موسمه يحل في مختلف فصول السنة مما يتيح للناس السفر إلى بيت الله حسب أحوالهم ليتمتعوا من بركات الحج.ويجب ألا يُظن من قوله (قل هي مواقيت للناس) أن الإسلام يعتبر الإسلام يعتبر أن القمر وحده وسيلة لتحديد الوقت لأن القرآن الكريم ذكر في آيات أخرى أن الشمس أيضا وسيلة لمعرفة الوقت وتقديره فقال: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) (يونس: (٦).ومعنى (ضياء) أن ضوءها والحساب)(يونس:٦).ذاتي غير مكتسب، ومعنى (نورا) أن القمر يكتسب ضوءه من الشمس.وقال أيضا: (فالِقُ الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا.ذلك تقدير العزيز العليم (الإنعام (۹۷) فذكر بقوله (حسبانا) أن الشمس والقمر وسيلتان للحساب.وقال الشمس والقمر بحسبان الرحمان (٦ أي أن الشمس والقمر يعملان وفق حساب ونظام، وحركتهما تابعة لقانون معين.ثم قال (والنجم والشجر يسجدان الرحمان (۷ ونتيجة لهذا القانون المحدد فإن نبات الأرض وأشجارها تتبع دورة الشمس والقمر في نموها وإثمارها، وتتأثر بتأثيراتها.يتبين من هذه الآيات أن للشمس والقمر علاقة بالتواريخ والحساب ولولاهما لم تظهر هذه العلوم، ولم يمكن تقدير السنين والأيام..ذلك لأن تقدير الشيء ومعرفة المسافة بين شيئين يتطلب وجود نقطة ثابتة.فمثلا رجال المساحة عندما يقيسون المسافة فيقولون إن الأرض الفلانية تبعد كذا مترا عن بئر كذا أو شجرة كذا.فمعرفة المسافة غير ممكنة بدون نقطة لبداية القياس.لذلك نقول لولا الشمس والقمر ما استطاع الناس قياس السنين والأيام.

Page 483

٤٨٠ سورة البقرة الجزء الثاني وقد ربط الإسلام مواقيت عبادته بكل من الشمس والقمر.فمثلا ربط بالشمس مواعيد الصلاة وبداية الصوم ونهايته.ولكن العبادات التي ترتبط بشهر خاص فهي تابعة للقمر، فاختار الشهور القمرية لرمضان وأيام الحج لكي تمضي هاتان العبادتان برحلة على مدار السنة، فيجد كل مؤمن شرفا وسعادة أن الله تعالى مکنه عبادته في كل جزء من السنة.فصيام رمضان ترتبط مواقيته بالشهور القمرية، ويُكمل رحلته على مدار السنين في ثلاث وثلاثين سنة، وهكذا يهل رمضان أحيانا في يناير أو في فبراير أو سائر شهور السنة الشمسية..ليرجع مرة أخرى إلى يناير بعد ٣٣ سنة، وهكذا يكون المؤمن قد صام في كل يوم من وهي ولكن لو كان الصيام مرتبطا بالسنة الشمسية وكان في شهر يناير مثلا لجاء كل عام في نفس الشهر، و لم تتسع هذه العبادة.فلتوسيع رقعة عبادة الصوم، ولكي يستطيع كل الإنسان قضاء كل لحظة من السنة في عبادة الله ربطت بشهر قمري.ولكن فيما يتعلق ببداية السنة ونهايتها فإن العقل الإنساني يطمئن إلى الشمس أكثر.(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها.يقال إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أحرم أحدهم للحج ثم مسته الحاجة لدخول بيت لم يدخله من الباب.وإنما تسلق الجدار من الخلف ودخله (البخاري، التفسير).أيام السنة الله والآن دلّنا.٣٦٥ على وقد يكون نزول هذه الآية لهيا عن هذا الأمر، ولكنني أرى أنه لم يسبق الآية ذكر دخول البيوت من ظهورها فلا تعني هذا المعنى الظاهري، وإنما المراد منها أنه لإنجاز أي عمل هناك أسلوب محدد فاختاروه واتبعوه وإلا لن تفلحوا في مرامكم.كان السؤال من قبل أننا تحملنا المشقة في رمضان وتقربنا إلى طرق إذا اتبعناها في شهور أخرى تمكنا من قمع النفس.فقال الله: نيتكم سليمة وطيبة، ولكن تذكروا أن الإنسان لا يصل إلى الله بتحمل المشقة الزائدة، وإنما الوسيلة الحقيقية للرقي الروحاني هي اتباع طرق عينها الله لذلك.فإذا فعلتم هذا تمتعتم بقرب الله، وإذا لم تفعلوه فمثلكم كمثل خادم يدعوه سيده فيتأخر، وإذا سأله: لماذا تأخرت؟ يجيب لم آت من الباب وإنما تسلقت الجدار، صحيح أن

Page 484

٤٨١ سورة البقرة الجزء الثاني وهذا ما أخرني ! فهل تظنون أن سيده يفرح بجوابه ويجازيه ويرفع مكانته، ويقول له: لقد أرهقت نفسك في تسلق الجدار لأجلي..لذلك أرفع مكانتك؟ فليس من البر أن يتكبد الإنسان المشقة عبثا، ويبتدع طرقا تضيع وقته وتبدد قواه، وإنما البر أن يلبي نداء الله ويختار الطرق التي حددها له في الشرع.لو حاولتم الوصول إلي بالطرق التي بينتها لكم فسوف تصلون إلي، أما إذا سلكتم سبلا أخرى فسوف تبذلون جهودا أكثر، وتتحملون مشقة أكبر، ومع ذلك لن تصلوا إلي.فبعض الهندوس يعلّقون أنفسهم من الأقدام لمدة طويلة، وبعضهم يرفعون أيديهم حتى تجف.ولكن هذا لا يكسبهم رضوان الله تعالى.وعلى النقيض يقوم المسلمون بعبادات تقل مشقة عن أفعال الهندوس كثيرا، ومع ذلك يفوزون برضوان الله.وللأسف أن المسلمين في زمن الفيج الأعوج أيضا حملوا أنفسهم مشقات شديدة، وسلكوا طرقا خاطئة، واخترعوا من عند أنفسهم أنواع الاعتكافات، وابتدعوا عشرات الأذكار ، ولو أنهم بدلا من تحمل المشقة الشديدة عملوا بما أمر الله في القرآن من تعاليم..لقطعوا من منازل القرب الإلهي في أيام ما لم يستطيعوا قطعها في سنين.لقد مات نتيجة لهذه المشقات الكثير منهم بأمراض كالسُّل والحمى، وأصيب العديد بالجنون والصرع.وبين الله في قوله (وأتوا البيوت من أبوابها أن الإنسان إنما ينال الفلاح والنجاح بالدخول من الأبواب.وإن لم تفعلوا ذلك وتسلقتم الجدران فلن تفلحوا أبدا.فمثلا في أيام الحرب..لو لم تتدربوا على استخدام السلاح، ولم تتعلموا فنون وخرجتم للقاء العدو متهورين طائشين فلن تفوزوا ، ولكن لو كان بيدك سلاح، ولو بسيط، أو تعلمت استخدام العصا لنفعت القوم، فلا بد إذن للنجاح أخذ الأسباب واتباع الطرق التي حددها الله لذلك.القتال، من ثم يقول (واتقوا الله ليشير إلى أن التساهل في أخذ الذرائع والأسباب يُعتبر انتهاكا لقانون الله ونظامه، فاتقوا الله واتبعوا فقط الطرق التي وضعها واتبعوا فقط الطرق التي وضعها الله لنيل أي شي ء،

Page 485

٤٨٢ سورة البقرة الجزء الثاني ولا تتبعوا طرقا جديدة من عند أنفسكم.مثلا، الصوم في الشهر الصيام حسنة عظيمة، لكن لو قاس الإنسان على ذلك، وبدأ يصوم في شهر آخر ثلاثين يوما، وظن أنه سوف يُرضى ربه بهذا..فمثله كمثل الذي لا يدخل من الباب، بل يتسلق الجدار، ويقول انظروا كيف تحمَّلتُ المشاق لوصولي إليك! لن يمدح الناس مثل هذا الإنسان وإنما يلومونه ويذمون ما فعل.وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.(۱۹۱) التفسير : من هنا بدأ الله بيان تعليمه فيما يتعلق بالحروب الدينية.فذكر في هذه الآية وحدها كل الشروط التي تجب مراعاتها في هذه الحروب.وقال أيها المسلمون، قاتلوا الذين يقاتلونكم من الكفار، ولكن بنية الجهاد في سبيل الله، وبدون أدنى شائبة للغضب من الهوى من أنفسكم وتذكروا ألا ترتكبوا أي عمل فيه ظلم أو تعد، لأن الله لا يحب الظالمين بأي حال.لقد تبين من هذه الآية أن الحرب التي أُمر المسلمون بخوضها إنما هي تلك التي تكون في سبيل الله، فلا يحاربون لمطامع النفس أو لغصب البلاد، أو لبسط النفوذ..وإنما تكون حربهم لوجه الله تعالى أي لإزالة العراقيل التي توضع في سبيل الله أو في وجه دينه.إذا لم تكن حربا دينية فلا يمكن أن تسمّى في سبيل الله.وقد انخدع الكتاب المسيحيون بكلمة (في سبيل الله)، وظنوا أنها تعني إكراه غير المسلمين على قبول الإسلام ولكن هذا خطأ تماما.وإنما المعنى أنه يجوز من الحروب فقط ما يكون وفق مشيئة الله وابتغاء مرضاته وقد وردت هذه الكلمة أيضا في الآية ٢٦٣ من هذه السورة (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)، فقد فُسرت كلمة (في سبيل الله في الآية ٢٦٦ ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله).

Page 486

الجزء الثاني ٤٨٣ سورة البقرة وكذلك ورد: كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله..أي من الطرق إلى الله (لسان العرب).وقيل: وسبيل الله عام يقع على كل عمل خالص سُلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات النهاية في غريب الحديث والأثر، مادة سُبل).فلا يعني قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله أن اجعلوا الآخرين مسلمين بالجبر والإكراه، وإنما معناه أنه إذا قاتلكم قوم بسبب دينكم، وحاولوا فصلكم عن عقائدكم بالجبر، فمن واجبكم أن تحاربوا العدو فقط ابتغاء مرضاة الله، ولإزالة المشاكل التي قامت في وجوهكم بسبب اتباعكم دينكم..فليس هناك أي ذكر لإكراه أحد على الإسلام، وإنما الأمر هنا بإزالة الجبر والإكراه الذي يفرضه الكفار ليسلبوا المسلمين حريتهم الدينية.والشرط الثاني هو أن يحارب المسلمون فقط قوما حملوا السلاح في وجههم أولا، فقال (الذين يقاتلونكم.والشرط الثالث أيضا يستنبط من قوله تعالى (يقاتلونكم) أي يجوز لكم قتال من يقاتلونكم، ولا تقتلوا من ليس مقاتلا في جيوش الكفار فعلا..مثل الصغار والعجائز والنساء.وكأنه استثنى من دائرة الحرب كل المدنيين.لقد شرح سيدنا محمد المصطفى هلا والله هذا الأمر الإلهي بتعاليمه التي كان يوجهها إلى أمراء الجيوش عندما كان يرسلهم للقاء العدو.فقد ورد أن النبي ﷺ عندما كان يؤمر أحدا على جيش فإنه ينصحه ومن معه بقوله: "اتقوا سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله" ولا يعني الله الله ذلك أن تقاتلوا كل كافر وإنما معناه أنه واغزوا باسم في إذا أسلم من يحاربكم فلا تقاتلوه..وإنما يُسمح لكم بقتال من يظل كافرًا مقاتلاً لكم.

Page 487

الجزء الثاني ٤٨٤ سورة البقرة لو أن أحدا بدأكم بالحرب ثم أسلم قبل لقائكم فلا تقاتلوه وكفّوا عنه.ثم قال: اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا "..أي لا تخلفوا عهودكم ولا تخدعوا، إذا وعدتم العدو بشيء فلا تخلفوه لأي عذر ولا تمثلوا...لو اتبع الكفار عادتهم في التمثيل بالقتلى فقطعوا الآذن أو جدعوا الأنوف فلا تفعلوا مثلهم بقتالهم.ثم قال: (ولا تقتلوا وليدا)..أي الصغار قبل البلوغ، لأنهم لا يشتركون في الحرب)(مسلم، الجهاد).وهناك نصائح أخرى للنبي ﷺ وردت في (السيرة الحلبية)، فقد جاء فيها أن الرسول ﷺ كان يوجه من يخرجون للقاء العدو: "لا تقتلوا امرأة ولا شيخا فانيا، ولا معتزلا في صومعة"..أي نهى عن قتل المعتزلين في المعابد وإن كانوا من قوم عدو، لأنهم في عزلتهم يتعبدون ولا تقربوا..خلا" أي لا تحاولوا قطعها لأن هذا يؤثر على أرزاق الناس.إنكم إنما خرجتم لدفع هجومهم وليس لتدمير مستقبلهم.ثم قال: ولا تقطعوا شجرا..لأن هذا يضر المسافرين والفقراء والعامة.لقد خرجتم لمحاربة العدو المقاتل وليس لحرمان القوم حتى من الظل.ثم قال: " ولا تقدموا بناء "..إن هدم القلاع أمر مختلف لأن هدفها إضعاف المقاتلين، ولكن لا يجوز هدم الديار وإحراقها وإخراج الناس من مساكنهم.وهناك توجيهات نبوية أخرى، منها ألا يُفزعوا الناس إن جيوش الدول الدنيوية عندما تدخل بلدا فإنها ترتكب المظالم وتضطهد الناس بلا هوادة، لكي يبثوا الرعب في النفوس، ولكن الإسلام لا يسمح بهذا، كذلك أمر النبي أنكم إذا دخلتم بلدا فلا تأمروا بما يشق على الناس، بل بما فيه راحتهم (السيرة الحلبية).وقال إذا تحركت جيوشكم فلا يعرقلوا طرق المسافرين.قال أحد الصحابة إن جيش المسلمين خرج ذات مرة فصعب على الناس مغادرة بيوتهم والسير في طرقهم، فأمر النبيل مناديا لينادي بأن من أغلق على الناس بيوتهم أو سد طريقهم فليس قتاله جهادا.فحسب تعاليم الإسلام لا يجوز للمسلمين أن يقتلوا النسوة أو الصبية أو العجائز، أو يخلفوا الوعد أو يغدروا بالعدو، أو يمثلوا بجثث القتلى، أو يتعرضوا للقساوسة

Page 488

٤٨٥ الجزء الثاني سورة البقرة والرهبان والكهان، أو يدمروا بستانا، أو يقطعوا شجرا، أو يهدموا بناء أو يحرقوا عمارة، ولقد سخط النبي ﷺ أشد السخط على من يخالف تعاليمه هذه.كانت النسوة حسب عادات العرب يشتركن في الحرب، يقاتلن ويقتلن، فكان لا بد من قتلهن، ولكن في إحدى المرات رأى النبي الله بعد الحرب جثة امرأة فبدت على وجهه الكريم أثار الغضب والحزن الشديد وأنكر ذلك (مسلم، الجهاد والسير).وفي غزوة أحد أخرج النبي ﷺ سيفه وقال: سأعطيه من يؤديه حقه.فقام كثيرون لتناوله، ولكن الرسول ناوله لأبي دجانة الأنصاري، وأثناء المعركة هاجمه عدد من المكيين الكفار، وكان أحدهم أشدهم حماسة في القتال فأسرع إليه أبو دجانة مشهرا سيفه ثم انصرف عنه.وسأله أحد الصحابة بعد ذلك: لماذا تركت هذا المقاتل؟ فقال: عندما هجمت عليه لقتله صدر منه کلام عرفت به أنه امرأة.فقال صاحبه: لكنها كانت تحارب المسلمين على أي حال وتشترك مع جنود الكفار، فلماذا تركتها؟ فقال أبو دجانة: (أكرمت سيف رسول الله ﷺ أن أضرب به امرأة) (مسلم، الفضائل، المغازي للواقدي، السيرة لابن هشام، غزوة أحد).كان النبي يأمر دائما باحترام النسوة مما شجع الكافرات على الإكثار من إلحاق الضرر بالمسلمين، ولكنهم تحملوهن رغم ذلك.هناك امرأة شاركت في حروب الكفار كلها ضد المسلمين منذ البداية واشتهرت بالتمثيل بجثث شهداء المسلمين، هي هند زوجة أبي سفيان وهي الوحيدة التي أمر الرسول ﷺ بقتلها عند فتح مكة، ولكنها اختفت في مجموعة من النسوة وبايعت النبي ،وأسلمت، فلم يعاقبها النبي ﷺ وقال: إن توبتها قد محت ذنوبها (السيرة الحلبية، فتح مكة).والشرط الرابع هو (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.حتى وإن كان العدو هو البادئ بالقتال..فالتزموا بقتال المقاتلين ولا توسعوا نطاق الحرب لا من حيث المناطق، ولا من حيث وسائل القتال.وبين السبب وقال إن الله لا يحب

Page 489

٤٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني المعتدين)..أو بعبارة أخرى إن الذين يتعدون الحدود لا يمكن أن ينالوا حب الله.الحق أن مثل هذا المعتدي لا يمكن أن يحب الله طبعا لأنه يتجاوز الحد في المطالبة بحقه، فمثلا لو أن شخصا غضب ولطم غيره فهذا ولا شك خطأ يجب أن يعاقب عليه.ويكون العقاب بأن نؤنبه ونلومه: لماذا لطمت فلانا؟ ولكن هناك طبائع لا تكتفي بمثل هذا اللوم ولا ترضى حتى تقطع المعتدي إربا إربا، وربما لا تكتفي بهذا، بل تريد أن يُلقي به الله في نار جهنم في الآخرة ويعذبه عذابا لا يعذبه أحدا! ولكن الله رحيم كريم لا يحب الذين يتجاوزون الحدود ولا يحبونه سبحانه وتعالى.هناك قوى عظمى في هذا الزمن تدعى بأنها تراعى منتهى العدل والإنصاف في المعاملات، ولكنها في الحرب تلجأ إلى كل صنوف الكذب والظلم والخداع والغدر.وما لم تمزق عدوها وتسحقه لا تخمد نيران قلوبها.وأحيانا يستخدمون الغازات السامة لإهلاك عدوهم، وأحيانا يضعون أسرى العدو أمامهم وقاية، وأحيانا يموهون باستخدام زي جنود العدو وشعاراته في الهجوم، وأحيانا يخرقون عهود الصلح والهدنة.كل هذه أمور محرمة ومخالفة لتعاليم الإسلام.يُستنبط من الآيتين السابقتين هذه الأمور الستة: أولا - أن العمل الجائز يصبح حراما إذا اتبع الإنسان طرقا غير شرعية لإنجازه فقال: من حقكم أن تدخلوا بيوتكم متى شئتم ولكنكم لو دخلتموها بتسلق الجدران، فهذا ليس من البر، ولا يعتبر حسنة عند الله بضرب هذا المثال بين الله أنه قد وضع لكل عمل طريقا، فإذا أنجز الإنسان العمل باتباع هذا الطريق اعتبر عمله وبرا.أما إذا كان العمل صالحا وكان الطريق لإنجازه غير شرعي لم يُعتبر صالحا.فمثلا أداء الصلاة عمل صالح.ولكن لو صلى الإنسان بدون وضوء، أو صلى أولا ثم توضأ، أو صلى في غير وقتها..فإنه وإن أدى عبادة الله إلا أنه لا حسنة يمكن أن يرضي الله بها، وإنما يعتبر مرتكبا سيئة.

Page 490

٤٨٧ الجزء الثاني ونفس الحال بالنسبة للتعبير عن الغضب.إن إظهار الغيرة حسن عند سورة البقرة الله فهو أيضا غيور، ويغضب على السيئات، ولكن لو عبّر أحد عن غيرته في محلها بطريقة خاطئة، فإن غيرته وغضبه بهذه الطريقة سوف تُعتبر إثما، لأنه ما اختار الطريق الصحيح للتعبير عنها.لقد بين الشرع أن من أساليب التعبير عن الغيرة والغضب أن يترك المؤمن المكان الذي يستهزأ فيه بآيات الله مثلا.فلو لم يترك المؤمن المكان وشرع يتقاتل معهم، اعتبر أثما أمام الشريعة.ثانيا- أن الحسنة اسم للتقوى..أي القيام بالعمل الحسن بطريق حسن.فمن واجب المؤمن أن يدخل البيت من بابه، أي ينجز كل عمل صالح بالطريق الذي حدده الله لإنجازه، والذي لا ينجز العمل بهذا الطريق لا يعتبر باراً صالحا.ثالثا- إن اتباع الطريق الذي وضعه الله لإنجاز العمل يُرضي الله، فضلا عن أن في اتباعه نجاح الإنسان وفلاحه في عمله..فقال (لعلكم تفلحون) أي أننا لم نأمركم بهذه الأوامر عبثا، بل رقيكم ونجاحكم منوط باتباعها.وتوقف النجاح في عمل على اتباع الطرق الصحيحة لأمر واضح ولو أراد الإنسان الدخول في بناية، ودخلها بالطريق المجهز لذلك فسوف يدخلها بسهولة وبدون أذى، ولكنه لو ترك هذا الطريق وتسلق الجدران فسوف يعاني مشقة وأذى.كما يشتهر بين الناس بالغباء.رابعا أن الشريعة الإسلامية ترى الهجوم على أحد بظلم خروجا عليها.تقول الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم..أي يجوز أن تدافعوا عن أنفسكم لو هاجمكم أحد للقضاء عليكم، ولكن لا يجوز أن تكونوا البادئين في الهجوم.خامسا أنه يجوز لكم الدفاع ما دام داخل الحدود التي حددها الله.أي أن الإنسان ليس حُرًّا في الدفاع أيضا.بل عليه أن يلتزم عندئذ ببعض القيود والشرائط، وإذا تجاوزها وقت الدفاع فعمله حرام وغير جائز.فمثلا لو لطم أحد غيره لطمة، فلا يجوز للمعتدي عليه أن يشجّ رأسه عقابا على لطمه.

Page 491

الجزء الثاني ΕΛΛ سورة البقرة سادسا - أنه عند الانتقام..لو تجاوز أحد المظلومين هذه الحدود التي عينها الله، فمع كونه مظلوما سوف يسقط من نظر الله يقول تعالى (إن الله لا يحب المعتدين)..أي إذا اعتديتم في الدفاع والانتقام وتجاهلتم الحدود التي وضعها الله فسوف تُحرمون من من حب الله تعالى وتفقدون نصرته.وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (۱۹۲) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۱۹۳ شرح الكلمات : الفتنة العذاب؛ الابتلاء؛ اختلاف الناس في الآراء؛ وما يقع بينهم من قتال (الأقرب).التفسير: يقول أعداء الإسلام إن هذه الآية تعلم المسلمين أن يقتلوا الكافر حيثما وجدوه.ولكن الأمر ليس كذلك أبدا، وإنما يندرج من الكفار تحت قوله تعالى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم مَن ذُكروا من قبل، والذين هم بادئون بالعمليات الحربية ضد المسلمين وليس هناك أي اعتراض أخلاقي أو شرعي في المضي في محاربة هؤلاء.لقد وجه النظر بقوله (حيث ثقفتموهم إلى وجوب محاربتهم في مكان المعركة الذي يصطدمون بكم فيه، وليس أن تقتلوا كل كافر تجدونه هنا وهناك.يجب أن يكون القتال مع جيش الكفار، سواء كانوا هم القوة التي بدأتكم بالقتال، أو قوة أخرى ملحقة بهم وتساعدهم.(وأخرجوهم من حيث أخرجوكم هذه الكلمات تتضمن نبأ بأنه سيأتي زمن ينال فيه المسلمون من القوة ما يستطيعون به الدخول إلى المكان الذي اضطروا للخروج

Page 492

الجزء الثاني ٤٨٩ النبي..ويعودون إليه غالبين فاتحين بأمر منه مع سورة البقرة الله تعالى.المسلمون عرضة الآن لاضطهاد الكفار، ولكن سيأتي وقت يتوسل فيه الكفار إلى المسلمين ويسترحمونهم.وقد أشير إلى هذه الغلبة والفتح في قول الله (براءة (براءة من الله الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) (التوبة: ١)..أي كان مشركو مكة يقولون إن بأنه النبي المبعوث في مكة مصداقا للنبأ الإبراهيمي، ولكن ها هو قد محمدا يدعي يرد الله هاجر من مكة إلى المدينة، فكيف يمكن اعتباره مصداقا لهذا النبأ حقا؟ عليهم: ها قد مَكَّنتُ محمدا من فتح المناطق العربية الأخرى، لأنه بدون ذلك لا يمكن أن يدخل في مكة وها إني قد دحضت حجتكم هذه، وبرأته وأصحابه من هذا الطعن.ثم قال فسيحوا) في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله) (التوبة (٢)..يمكن أن تنطلقوا في أنحاء الجزيرة العربية في رحلة لمدة أربعة أشهر، وتروا وتعرفوا أنكم لا تستطيعون أن تعجزوا الله.أي أنكم سوف تعرفون بهذا السفر أن الإسلام قد تغلب على بلاد العرب، وثبت بطلان مطاعنكم.فقوله هنا (أخرجوهم من حيث أخرجوكم) إنما هو نبأ بهذه الغلبة التي تمت فيما بعد، وأمر الله به المسلمين أنهم كما أخرجوكم من هذه البلاد ظلما وعدوانا كذلك عليكم أن تقضوا على حكمهم فيها.فأخرجوهم لا يعني الطرد الظاهري، وإنما يعني القضاء على حكمهم وتصرفهم، لأن الرسول ﷺ لم يُخرج مشركي مكة منها، وإنما سمح بنفسه لأولادهم بالإقامة فيها.كان أبو جهل أكبر المشركين وأعداء الإسلام، وعند فتح مكة فَكَّر ابنه عكرمة في الفرار إلى الحبشة وخرج من مكة ولكن زوجته استأذنت واستأمنت النبي له، فعاش في مكة حرا (السيرة النبوية لابن هشام فتح مكة.وهكذا شرح الرسول بعمله معنى (أخرجوهم) وبين أنه لا يعني إكراه الكفار على الخروج من بيوتهم، وإنما يعني القضاء على سلطانهم ونفوذهم، أو يعني على الأكثر طرد الأشرار منهم الذين يحيكون المؤامرات ضد المسلمين ، وكل حكومة في الدنيا تطردهم ولا ترى في ذلك بأسا.

Page 493

٤٩٠ سورة البقرة الجزء الثاني ويقول والفتنة أشد من (القتل أي أن إيقاع أحد في الفتنة بسبب دينه أشد وأكبر إثما من القتل والحروب فلا تفعلوه أبدا لأنه دأب الكفار والمراد من الفتنة هنا فترة الابتلاء التي كان المسلمون يمرون بها، والتي ذكرت من قبل بأن الكفار بدون مبرر، وبسبب الاختلاف العقائدي فقط يضربون المسلمين ويخرجونهم من ديارهم.يقول الله إن إيذاء قوم وإخراجهم لاختلاف في الدين أخطر وأهول من الحروب السياسة الأخرى التي تنشب على حقوق قومية؛ لأنه لا وزن للدنيا أمام الدين.والفتنة هنا أيضا تعني تعذيب المؤمنين لصرفهم عن دينهم، فقال إن تعذيب المؤمنين هكذا أشد من قتل نفس.ذلك أن النفس أيضا لا أهمية لها إزاء الدين، وأيضا لأن هذه المظالم تؤدي إلى فساد كبير في الأرض، وتسلب الحرية العقلية، وتولد البغض والعناد في القلوب.فقال إن قتل المسلمين لهؤلاء الظالمين ليس ظلما، لأن القتال صار جائزا للمسلمين بعد أن بدأ هؤلاء بالقتال ولا يزالون يتدخلون في حرية المسلمين الدينية ويعذبونهم بسبب اختلافهم في العقيدة.كما أن قوله والفتنة أشد من القتل يشير إلى أن القتل عمل شنيع بلا شك، ولكن بثّ الفتنة أشنع وأسوأ من ذلك، لأن الفتنة في بعض الأحيان تؤدي إلى إزهاق الآلاف بل الملايين من الأرواح.إن القتل يؤدي إلى إزهاق نفس أو بضع نفوس، ولكن قد تدفع كلمة من فم فتان الأمم إلى حروب تقع آلاف الأرواح ضحية لها، وتؤدي بالجماعات إلى الفرقة والشقاق.إن أصحاب الفتنة يزعمون أنهم قالوا كلمات بسيطة، ولكن كلماتهم هذه في الحقيقة سم له تأثير بعيد.صحيح أن الفتنة تبدو في بادئ الأمر عملا هينا ولكن عاقبتها وخيمة خطيرة.ولقد نهى الإسلام عن القتل، ولكنه نهى عن الفتنة نهيا أشد.وللأسف أن الناس عموما يسعون لتجنب جريمة القتل، ولكنهم لا يسعون لاجتناب الفتنة..مع أنهم ما لم يدركوا أن الفتنة أشد من القتل وأشنع..لا يمكن أن يستتب الأمن في العالم.

Page 494

وهنا نصح ٤٩١ سورة البقرة الجزء الثاني ثم يقول (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) لأن ذلك سوف يعرقل قيام الناس بالعمرة والحج.فإن قاتلوكم فاقتلوهم.نعم، إذا بدءوا الحرب في المسجد الحرام فأنتم مضطرون لرد هجومهم.كذلك جزاء الكافرين) أي أن الذين يرفضون تعاليم مبنية على المنطق والعدل يستحقون هذا الجزاء وهذه المعاملة.الله المسلمين ألا يحولوا بين الناس وبين أدائهم طقوسهم وفرائضهم الدينية.وما لم يبدأ العدو قتالكم في مكان يعطّل القتال فيه عبادة الناس فلا تحاربوهم فيه.لكن إذا اتخذ العدو من هذه الأماكن ميدانا للحرب فقتاله فيه يُعد أمرا اضطراريا.وهكذا نبّه إلى ضرورة تجنب القتال حول أماكن العبادة، دعك من الهجوم على المعابد أو هدمها.ولكن لو اتخذت هذه المعابد قلاعا للحرب وبدأ العدوان منها..فإن مسئولية إلحاق ضرر بما تقع على المعتدي.قوله فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم..أي لو عاد العدو إلى صوابه وارتدع عن عدوانه فإن الله غفور رحيم أي لو بدأ العدو القتال من أماكن عبادته، ثم تنبه إلى النتائج الخطيرة لعدوانه، وخرج من معابده إلى مكان آخر لحربكم، فلا تلحقوا الضرر بمعابده بحجة أنه بدأ القتال منها فتهدموها كلاً، بل يجب على الفور أن تتجهوا إلى حربه حيث اتجه واحفظوا لهذه الأماكن المقدسة احترامها وحرمتها.وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ( ١٩٤) التفسير : يقول الله: ما دام الكفار هم الذين بدءوا القتال فامضوا في قتالهم إلى أن ير تدعوا عن التدخل في الدين، ويعترفوا أن أمر الدين في يد الله وحده، ولا يحق للإنسان الجبر فيه.فإذا كفّوا عن التدخل في دين الآخرين، فكفوا أنتم أيضا عن حربهم فورا إذ لا يجوز لكم محاربتهم عندئذ لأن العقوبة إنما تنزل بالظالمين.يجب ملاحظة أن الله تعالى قال في الآية السابقة والفتنة أشد من القتل، وعرف "الـ" التعريف.وهنا قال فتنةً بدون تعريف..ذلك أنه في الآية السابقة الفتنة ب

Page 495

٤٩٢ سورة البقرة الجزء الثاني أشار إلى فتنة الكفار، وقارن بينها وبين القتال نفسه.لذلك جعل الفتنة معرفة بـ"الـ".وهنا لم يكن أية مقارنة لذلك استخدم الكلمة نكرة دليلا على عظمها.والمعنى: عليكم أن تستمروا في الحرب حتى تزول هذه الفتنة الكبيرة.ويرى البعض أن المعنى هنا إلى أن لا يبقى الكفر (القرطبي).ولكن هذا خطأ، فليست الفتنة هنا بمعنى الكفر، وإنما بمعنى التدخل في دين الآخرين..كما ذكر في قوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم ٤٠-٤١).أي أن المسلمين وهم قد ظُلموا وبدأهم العدو بالقتال..مأذون لهم بالقتال..والله قادر على نصرتهم ولا شك.هؤلاء المسلمون الذين أُخرجوا من ديارهم، ولا جريمة لهم إلا قولهم ربنا الله ولولا أن الله يدفع الظالمين بيد غيرهم لهدموا أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله كثيرا.فلتوطيد الحرية الدينية في العالم يأذن الله بالحرب للذين أعلنت عليهم الحرب من قبل أعدائهم الظالمين.الله الله كثيرا)(الحج: فالله بين أنه يجوز لكم الاستمرار في الحرب فقط إلى زمن بقاء الفتنة، أي ما دام الناس يتدخلون في حرية الدين ولكن إذا تغير الحال وانتهى تدخلهم هذا، وتركوا أمر الدين لضمائر الناس، فلا يجوز لكم الحرب إلا أن تدافعوا عن أنفسكم.ونرى أن الصحابة الكرام فهموا نفس المعنى من هذه الآية.فقد ورد أن شخصا جاء إلى بن عمر أيام الحرب بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، وقال: لماذا لا تشترك في هذه الحرب في صف علي..مع أن القرآن يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة).فقال (فعلنا على عهد رسول الله ﷺ وكان الإسلام قليلا، فكان الرجل يُفتَن في دينه: إما قتلوه وإما يعذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة) (البخاري، التفسير).عبد يتضح من ذلك جليا أن المراد من قوله (حتى لا تكون فتنة) عند الصحابة أيضا ألا يتدخل الناس في دين الآخرين بالجبر والإكراه فلا يقتلون ولا يعذبون أحدا

Page 496

٤٩٣ سورة البقرة الجزء الثاني لاعتناقه دينا آخر.وإلا، فما معنى قوله تعالى فإن انتهوا؟ فهذه العبارة تخالف المعنى الذي ذهب إليه العلماء الآخرون وتؤيد ما ذهبنا إليه.وقوله (ويكون الدين الله) يؤيد أيضا تفسيرنا ويبين أن المراد أن يكون أمر إنزال العقاب على اختيار دين أو رفضه في يد الله، ولا يكون هناك خوف من أحد.أي يكون الإنسان حرا في اختيار الدين الذي يريد، فإذا أراد الناس أن يدخلوا في الإسلام فليدخلوا بدون خوف من أحد.فمن الخطأ أن يقال بأن هذه الآية تعلم الجبر في الدين أو تعني الاستمرار في قتال المشركين إلى أن يدخلوا في الإسلام وينمحي الشرك والكفر.ولو كان كما يظن هؤلاء لما تصالح النبي الله مع المشركين في معاهداته.الشَّهْرُ الْحَرَامُ بالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْل مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٥) شرح الكلمات: الحرام-الممنوع الحرام - الممنوع منه (المفردات).اعتدوا عليه من قواعد العربية أنهم يستخدمون الفعل كجزاء على فعل سابق، فقد قال صاحب المفردات: من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليم) أي قابلوه بحسب اعتدائه، وتجاوزوا إليه بمثل ما تجاوزه".وقد تناولنا هذا البحث عند تفسير قوله تعالى الله يستهزئ بهم) (البقرة: (١٦).وهنا أيضا جاءت للجزاء كلمة الجريمة نفسها.وليس المعنى أن يعتدوا على الآخرين وإنما أن يعاقبوهم على جريمة عدو الهم.التفسير: يقول الله: إذا لم يقاتلكم الكفار في الأشهر الحرم مراعين حرمتها.وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم ورجب..فلا تقاتلوهم فيها.أما إذا لم يحترموها وقاتلوكم فيها فأنتم مضطرون لمحاربتهم إلى أن ينتهوا عن ذلك.

Page 497

٤٩٤ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى (والحرمات قصاص يتضمن تعليما مبدئيا بأن يُقتص للأشياء ذات الحرمة، فحرمتها لا تمنع من أخذ القصاص.وقد شرح ذلك في قوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم..أي لو اعتدوا عليكم ولم يحترموا الأماكن المقدسة، فعاقبوهم على شرهم واعتدائهم هذا، ولا تحترموا أماكنهم المقدسة، لأنهم قد هتكوا حرمتها بأنفسهم، ولكنه أضاف (واتقوا الله واعلموا أن المتقين)..عليكم أن تخافوا الله دائما، ولا تتجاوزوا الحدود، بل تذكروا مع دائما أن الله ينصر المتقين.لقد سمحنا لكم بالقصاص إذا هتكوا حرمة الأماكن المقدسة، ولكن الذي يريد مقاما عاليا في التقوى عليه أن يضع في الاعتبار قول الله (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى (٤١) فلو عفا عن العدو، إذا كان العفو وسيلة لإصلاح العدو، فهذا عمل مستحسن، وينال فاعله الأجر من الله الله تعالى.وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٦) سبيل مع الله التفسير : لقد أخطأ الناس في فهم هذه الآية.فكلما يطالبون بعمل فيه مشقة في يقولون على الفور كيف نفعل ذلك، إنه بمثابة إلقاء النفس في التهلكة؟ أن الآية لا تعني أبدا أن يجبن المؤمن أو يخاف من موقف فيه خطر الموت، وإنما المعنى الحقيقي لها أنكم إذا كنتم في حرب العدو فيجب أن تكثروا من إنفاق أموالكم في سبيل الله، أما إذا بخلتم بها فهو بمثابة إلقاء أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم.فقد ورد في الحديث عن أبي أيوب الأنصاري وهو مع الجيش لفتح القسطنطينية، فقال إن هذه الآية نزلت فينا نحن الأنصار.(لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها.فأنزل الله وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى (التهلكة فالإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا و نصلحها وندع الجهاد) (أبو داود،الجهاد).فلا تجمعوا الأموال وتبخلوا بها، بل

Page 498

الجزء الثاني ٤٩٥ سورة البقرة أنفقوها في سبيل الله بكثرة وإلا تملكون أنفسكم لأن العدو يهاجمكم وتكون العاقبة هلاككم.كما أن الآية تنبه المسلمين إلى إعانة إخوانهم الفقراء وتقول: أدوا ما عليكم من زكاة وعُشر، إلى جانب اشتراكات تطوعية عليكم أداؤها.فأنفقوا في سبيل الله على إخوانكم الفقراء، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أيها الأثرياء، لو تطوعتم بأموالكم الزائدة عن حاجاتكم..فهي أموال لن يضركم إنفاقها لأنها فوق حاجتكم، ولكن إذا لم تفعلوا ذلك فسوف تملكون.وكأن الله قد صوّر هنا أفضل تصوير الأحداث التي وقعت مؤخرا للقيصر الروسي، فكأنه قال: إذا لم تفعلوا ما أوصيكم به فسوف تتعرضون لما تعرّض له هذا الملك والأمراء الروس، وكذلك الملك والأمراء الفرنسيين فإن عامة الناس سوف يضيقون بكم ذرعا ويضطرون لنهب أموالكم ويقرءون عليكم الفاتحة كما قرأها أهل شاهبور وقصة أهل شاهبور هذه كان يرويها سيدنا الخليفة الأول للإمام المهدي، وتتلخص في أن الفلاحين هناك كانوا يستدينون من تجار هندوس، وكان الدين يتراكم عليهم بحيث لا يستطيعون سداده.فكانوا يجتمعون ويبحثون فيما بينهم كيف يدفعون للتاجر، فلا يجدون وسيلة فيقولون: لنقرأ الفاتحة ثم يذهبون إلى قصره ويقتلونه وينهبونه ويحرقون دفاتر الديون.وهكذا كانوا يفعلون مع التجار واحدا بعد الآخر.فالله يشير هنا إلى هذه الحقيقة نفسها، ويقول : نأمركم بإنفاق ما زاد من أموالكم في سبيل الله، وألا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة اكتسبوا الأموال كما يحلو لكم، ولكن لا تجمعوها وتكتروها في بيوتكم، وإلا فإن الناس سوف يثورون عليكم في يوم من الأيام فتهلكون.(وأحسنوا أي أدوا واجباتكم أحسن أداء أو إذا كان الله قد أعطاكم سعة من المال فيجب أن تتحملوا نفقات إخوانكم الفقراء، وتبحثوا عن طرق جديدة للخير والبر..بأن تقللوا من نفقاتكم ،الذاتية، وتوفروا مزيدا من المال للإنفاق في سبيل الله.ويجب ألا تفعلوا ذلك خشية الناس، بل لتفعلوا ذلك عن طيب خاطر.لو

Page 499

الجزء الثاني ٤٩٦ سورة البقرة فعلتم ذلك مخافة الناس لتحققت معونة الفقراء، ولكن الله لن يرضي عنكم.أما إذا قدمتم هذه التضحية عن طيب خاطر..جمعتم بين فرح الفقراء ورضوان الله.(إن الله يحب المحسنين) لو فكرتم ما الفائدة من كسب الأموال؟ فالجواب أنكم سوف تنالون الجزاء على إنفاق هذه الأموال..أي تكونون محل رضا الله ومحبته، وبذلك تصلحون عقباكم فضلا عن دنياكم.هذا المعنى لقوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة يُفهم بالنظر إلى السياق، ولكن هناك معنى آخر وهو فيما يتعلق بالعبادات أو الأكل والشرب أو بذل المجهود وتحمل المشقة أو النظافة والطهارة..لا تسلكوا طريقا يؤدي إلى الإضرار بصحتكم أو نفسكم أو عقلكم أو أخلاقكم.فكلمة (التهلكة) تعني كل فعل تكون نتيجته هلاكا وعقباه سيئة، وباستخدامها أشار الله إلى أن الإسلام لا يمنع من تعريض النفس للموت لأجل الحفاظ على الدين والشرف والجاه والحضارة، وإنما يمنع من أعمال لا يُرجى منها نتائج طيبة وفيها خطر ضياع النفس أو ضياع أي منفعة.ریکی وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أَحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكِ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكِ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَهُ حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العِقاب (۱۹۷) التفسير: من هنا يبدأ ذكر الأحكام الخاصة بالحج والعمرة.الحج ركن هام من أركان الإسلام.وكل من يريد حج بيت الله الحرام عليه أن يُحرم عند وصوله إلى الميقات.والميقات اسم للأماكن التي يُحرم من عندها الحجاج بحسب التعاليم الإسلامية والميقات للحجاج القادمين من المدينة المنورة ذو الحليفة" ولأهل الشام "الجحفة " ولأهل العراق "ذات العرق" ولأهل نجد "قرن المنازل " ولأهل اليمن

Page 500

٤٩٧ سورة البقرة الجزء الثاني "يلملم " وميقات الحجاج من باكستان أيضا يلملم، ويحرمون داخل السفينة بإزائها.ومن هم دون هذه المواقيت لا حاجة بهم إليها، وإنما عليهم أن يُحرموا من حيث يقيمون.ويبدأ الإحرام بأن يقُصَّ المحرم ،شعره، ويستحم ، ويتعطر، ثم يستبدل الثياب المخيطة بازار حول خصره، ورداء على جسمه، ويترك رأسه حاسرا، ويصلي ركعتين نفلا، ثم يقضي أوقاته في التكبير والتلبية والتسبيح والتحميد، ويردد (لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك).ويجب أن يردد هذه التلبية بعد كل صلاة بصوت مرتفع ولا يجوز للمحرم لبس الثياب المخيطة كالسروال والقميص والبيجاما والمعطف، وأغطية الرأس والجورب، واستخدام العطر، ولبس الثياب المعطرة أو الملونة، أو قص الشعر أو نتفه، أو تقليم الأظافر، أو التفلية من القمل أو قتله أو صيد حيوانات البر، أو ذبح الصيد، أو تحريض أحد على الصيد، أو إعانة الصائد، أو العلاقات الجنسية، أو الكلام الشهواني أو فحش ،الحديث أو ترديد الغناء الفاحش أو الوقوف مواقف الفسق، أو الفجور ، أو الشجار.كل هذه أمور محرمة على المحرم.ويجوز للمحرم أن يغتسل ويغسل ثيابه ويصطاد صيد البحر، ويجب على النسوة أن يلتزمن بكل هذه الأمور..إلا أنه ليس ضروريا لهن لبس الثياب غير المخيطة، وإنما لهن أن يلبسن الملابس العادية، ويغطين رؤوسهن دون ستر الوجه.وعلى الحاج أن يراعي آداب الحرم عندما يقترب من حدوده في مكة وما حولها.وعندما يقع نظره لأول مرة على بيت الله تعالى فليرفع يديه للدعاء، فهذا وقت قبول الدعاء.وعندما يصل إلى البيت الحرام يطوف بالكعبة المشرفة سبع مرات، بادئا طوافه من عند الحجر الأسود، وإذا أمكن له فليقبل الحجر الأسود في كل شوط، وإذ لم يستطع ذلك فعليه أن يشير إليه بيده.وبعد الفراغ من الطواف يصلي ركعتين نفلا ثم يقوم بالسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط.ويبدأ أول شوط من الصفا، وينتهي الأخير عند المروة.

Page 501

٤٩٨ سورة البقرة الجزء الثاني ثم يقيم الحاج في مكة المشرفة حتى الثامن من ذي الحجة، وفيه يخرج إلى منى ويصلي هناك الصلوات الخمس من الظهر إلى الفجر، وفي الصباح من يوم التاسع بعد صلاة الفجر يخرج من منى ليصل إلى عرفات بعد الزوال، وهناك يصلي الظهر والعصر جمعا، ويبقى في عرفات حتى بعد مغيب الشمس ويقضي أوقاته في الذكر والدعاء والعبادة.وبعد غروب الشمس يرجع إلى المزدلفة ليصلي المغرب والعشاء جمعا، ويبيت هناك منهمكا في العبادة والدعاء، وبعد صلاة الفجر لليوم العاشر من ذي الحجة، وقبل طلوع الشمس يذهب إلى المشعر الحرام ليدعو هناك، ثم يذهب إلى منى.وعندما يصلها بعد طلوع الشمس يرمي فقط جمرة العقبة حصوات، ويردد عند كل رمية الله وأكبر ثم يذبح أضحيته ويحلق رأسه.ثم يذهب في هذا اليوم أو اليوم التالي إلى مكة المكرمة ليطوف حول الكعبة.والأفضل أن يقوم بهذا الطواف طواف الإفاضة مساء هذا اليوم وفي اليوم التالي يرجع إلى منى ليرمي الجمار كلها قبل الزوال بدءًا بالجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم العقبة..سبع حصوات في كل مرة.ويكرر هذا العمل في اليوم الثالث والرابع أيضا.وتسمى الأيام التالية ليوم النحر : ۱۱ و ۱۲ و ۱۳ من شهر ذي الحجة "أيام التشريق".ومن الثالث عشر يعود الحاج من منى ويقوم بطواف البيت الحرام طواف الوداع.اليوم سبع والذي يقوم بكل هذه المناسك يكون قد أدى فريضة الحج وأرضى الله تعالى.والعمرة أن يُحرم الإنسان من داخل الحرم إن كان هناك أما إذا كان قادما من خارج الحرم فليحرم من ميقاته ويقوم المعتمر بالطواف بالكعبة سبع مرات ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم يحلق رأسه أو يقصر شعره.وإذا أراد أن يقدم الهدي فليذبحه.ولكن ليس بضروري أن يقدم هديا للعمرة.والفرق بين الحج والعمرة أن العمرة تؤدّى في أي وقت من السنة، أما الحج ففي شهور معينة..هي شوال وذو القعدة وذو الحجة.عن جابر أن رسول الله ﷺ سئل عن العمرة: أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمروا خير لكم (الترمذي، الحج).(فإذ أحصرتم فما استيسر من الهدي)..هنا بين الله أنه إذا خرج المسلم بنية الحج أو العمرة، ثم اضطر للتوقف في الطريق لمرض أو حرب أو أي سبب قهري آخر..فلم

Page 502

٤٩٩ سورة البقرة الجزء الثاني يستطع الوصول إلى مكة المكرمة ليقوم بمناسك الحج أو العمرة، فعليه أن يقدّم ما تيسر من الهدي ولا يخرج من إحرامه إلا بعد أن يبلغ الهدي محله، أي يصل الهدي إلى مكان ذبحه، ويقول ابن القاسم: إذا كان معه الهدي قدمه وإلا فلا.وقول الجمهور إنه يقدم الهدي حيث أُحصر ثم يقوم بحلق رأسه وهو آخر منسك في الحج، ثم يخرج من الإحرام ويقول الإمامان الشافعي ومالك إن المراد من (مَحِلِّه) نفس المكان الذي أُحصر فيه ولكن الإمام أبا حنيفة فيرى أن الحرم هو محل الهدي (البحر المحيط).ولكنني لا أرى داعيا لهذا الاختلاف، لأنه لو كان هناك حرب أو حال العدو دون وصوله إلى مكة فكيف يمكن أن يوصل هديه إلى مكة؟ فلا بد في هذا الحال أن يقدم الهدي حيث أُحصر ويحلق رأسه.وإذا كان قد اضطر للوقوف في الطريق بسبب مؤقت كالمرض، يرسل هديه مع الآخرين إلى الحرم إذا استطاع ذلك، كي يُذبح داخل حدود الحرم، ثم يحلق رأسه.تتضمن هذه الآية إشارة أيضا إلى أنه سيأتي وقت على المسلمين يمنعون فيه جبرا من زيارة بيت الله الحرام، ولكن الله سوف يمكنهم من التغلب على الكفار، ويستطيعون أداء الحج في أمن وسلام، وهذا ما حدث في صلح الحديبية حين خرج النبي ﷺ بنية الطواف ببيت الله الحرام ، ولكن قريشا لبسوا جلود النمور، وأخذوا معهم نساءهم وأطفالهم وأقسموا على الموت أنهم لن يسمحوا للمسلمين بدخول البيت الحرام.وفي آخر المطاف تصالح الطرفان على ألا يدخل المسلمون مكة هذا العام، وإنما يأتون في السنة التالية للطواف حول الكعبة، فرجع النبي وصحابته، ولم تمض فترة طويلة حتى فتح المسلمون مكة وبدءوا يزورون الكعبة بحرية تامة.فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)..هنا يقول الله إنه إذا أصيب الحاج مرض أو أذى في رأسه مما يضطره لحلق الرأس..كأن يكثر في شعره القمل، أو تخرج بثور في جلد رأسه، فله أن يحلق رأسه، وعليه في هذا الحال أن يؤدي فدية صيام أو صدقة أو نسك.

Page 503

۵۰۰ سورة البقرة الجزء الثاني و لم يحدد هنا الفدية بأقسامها الثلاثة..ولكن الرسول الله عينها في أحد أحاديثه.فقد ورد أن الصحابي كعب بن عجرة أصيب في رأسه بالقمل، وكثرت الحشرات حتى كانت تتساقط على وجهة ولما رآه الرسول في هذا الحال قال له لعلك آذاك هوامك؟ فقلت: نعم، يا رسول الله.فقال رسول الله ﷺ: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة) (الموطأ، الحج).وأرى أن ترتيب الفدية في الآية وارد بالنظر إلى فقر الإنسان أو ثرائه، فإذا كان فقيرا صام ثلاثة أيام، وإذا كان متيسرا فعليه إطعام ستة مساكين، وإذا كان ثريا فليقدم نسكا.فالأولى أن يقدم الذبيحة، وإلا فالصدقة وإلا فالصيام.وهذا الحكم ليس للمحصر فقط وإنما لغير المحصر أيضا.(فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي)..إذا انتهت الحرب أو زالت العوائق الأخرى، فمن أراد بعد ذلك أن يجمع بين العمرة والحج..أي يؤدي جمع القران أو جمع التمتع فعليه أن يقدم من الهدي ما تيسر.أولا ذكر أحكام الحج والعمرة على حدة، والآن يذكر أحكامهما معا.وأرى أن المراد من التمتع ليس التمتع الاصطلاحي، وإنما حج القرآن وحج التمتع كلاهما، يزور الناس مكة المشرفة بأربعة صور :أولا للحج فقط؛ وثانيا: للعمرة فقط؛ وثالثا: للتمتع، ورابعا: للقران.والقران أن يخرج الإنسان في أشهر الحج ويُحرم من الميقات بنية الحج والعمرة معا، وبعد وصوله إلى مكة المكرمة يقوم بمناسك العمرة، ويبقى على إحرامه حتى يفرغ من مناسك الحج.وبعض الناس يرون أن على القرآن طوافا واحدا وسعيا واحدا، ويرى البعض الآخرون أن عليه طوافين وسعيين وعندما يرجع يطوف طواف الوداع (فتح الباري، الحج).أما التمتع فهو أن يخرج الإنسان في أشهر الحرم بنية العمرة والحج، محرما من ميقاته، وعندما يدخل مكة يطوف ويسعى، ثم يحلق أو يقصر شعره، ثم يُحِل من إحرامه، وينتظر يوم الثامن من ذي الحجة ليحرم مرة أخرى إحراما جديدا بنية الحج ويؤدي مناسكه.

Page 504

الجزء الثاني ٥٠١ سورة البقرة وفي كل من القران والتمتع يجب تقديم الهدي..أما في الأفراد بالعمرة وحدها أو الحج وحده فتقديم الهدي مستحب، وإذا خرج بنية الحج أو العمرة ثم أحصر فيجب عليه أن يقدم الهدي، وما لم يُذبح الهدي فلا يجوز له أن يحل من الإحرام بتقصير أو حلق رأسه.وإذا استطاع فليبلغ هديه إلى مكة ويظل على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله.ثم أضاف (فإذا أمنتم) ليبين أن هذا الحكم للتمتع أو القران خلاف الحكم السابق.ففي صورتي القران والتمتع يجب تقديم الهدي.أما في صورة الإفراد بالحج أو العمرة فتقديم الهدي ليس ضروريا..إلا إذا أحصر الحاج.وإذا لم يستطع القارن أو المتمتع تقديم الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في مكة وسبعة أخرى بعد رجوعه منها.قوله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم.تلك عشرة كاملة) للعلماء في (ثلاثة أيام) أقوال: ۱ - رأى البعض أن يصوم هذه الأيام في السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة؛ قال الإمام أبو حنيفة: إذا لم يصم في هذه الأيام فعليه تقديم الهدي أيضا؛ قال البعض إنه ما دام صومها عوضا عن الهدي فيجب أن يصومها بعد الحج؛ قالوا أن يصومها في مكة قبل رجوعه؛ ه أن يصومها فيما بين إحرام العمرة والحج (البحر المحيط).وأرى أنه يجب صيام هذه الأيام الثلاثة في أيام التشريق (۱۱، ۱۲، ۱۳ من ذي الحجة)، فقوله (في الحج) يعني في أيام الحج.أما الأيام السبعة الأخرى فيصومها عندما يرجع إلى بيته.ولقد زاد عبارة تلك عشرة (كاملة) كي لا يُظن أن "واو العطف" في قوله (وسبعة إذا رجعتم بمعنى "أو " ، فيقول أحد خطأ أن له أن ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع.فبيّن أن المراد إكمال أيام الصوم إلى عشرة أيام.أو جاءت هذه الجملة للتأكيد، بمعنى أن صيام الأيام العشرة فدية كاملة أو تعويض عن ثوابه.عن يصوم الهدي

Page 505

٥٠٢ سورة البقرة الجزء الثاني قوله (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)..أي أن التمتع والقران لمن ليس من أهل مكة، لأن هؤلاء يتحملون المشقة في السفر إليها.أما أهل مكة فيمكن لهم أن يؤدوا العمرة في أي وقت ولا مشقة عليهم في ذلك، فلا تمتع ولا قرآن لهم.وهناك اختلاف بين المفسرين في معنى قوله ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فيرى البعض أن رخصة الصيام عند عدم تيسر الهدي إنما هي لمن ليس من أهل مكة؛ أما أهل مكة فيمكنهم الحصول على الهدي بسهولة من بلدتهم فلا رخصة لهم.وهذا مذهب الإمام الشافعي.ويرى الآخرون أن الأمر بالصيام ليس موجها لأهل مكة وإنما لمن هو خارجها.ولكنني أرى أن كلا المعنيين غير صحيح، لأن في هذا تيسيرا وسهولة لأهل مكة.ويرى الإمام أبو حنيفة أن في هذه العبارة إشارة إلى التمتع والقرآن..أي أن التمتع والقرآن لا يجوز لأهل مكة (المرجع السابق.وأرى أن هذا الرأي هو الأصح والأقرب للمنطق والعقل..لأن أهل مكة يستطيعون القيام بالعمرة في أي وقت.ثم هناك اختلاف في تعيين معنى قوله (حاضري المسجد الحرام) يرى ابن عباس ومجاهد أن المراد هم كل من في الحرم.ويرى عطاء أنهم كل من دون المواقيت.وقال الزهري هم كل من يقيم على مسافة يوم أو يومين من الحرم.وقال البعض: حجه هم أهل مكة (المرجع السابق).وأرى أن هذا المعنى الأخير هو الأقرب للقياس.وأخيرا قال (واتقوا الله)..أي أن الغاية من عبادة الحج أن تتولد التقوى في قلوبكم، وألا تنظروا إلا إلى الله.وتجعلوه جُنّة لكم.إذا لم تحصل هذه الغاية للحاج من أو عمرته لبيت الله فليدرك أن كبرا خفيا فيه قد حال دونه ودون هذه السعادة.فعليه أن يضع جبينه أمام الله على الأرض وفي وقت انفراد، في زاوية من الخمول، ويستغل ما بقي في قلبه من إخلاص للبكاء والابتهال، أو على الأقل يتباكى، ويتوسل لربه في خشوع وضراعة يا رب لقد بذر الآخرون بذرهم، فنبت وأثمر، هم مسرورون سعداء لأنهم تمكنوا من إعداد بساتين روحانية لأنفسهم ولأجيالهم.وأرى يا رب، أن بذرتي لم تنبت..فلعل طائر استكباري قد أكلها، أو ا،

Page 506

٥٠٣ سورة البقرة الجزء الثاني وحش همجيتي قد داسها، أو وبال أعمالي السابقة تحول إلى حجر وقعت عليها فحالت دون إنباتها! يا رب ماذا أفعل الآن؟ عندما كنت أملك شيئا أنفقه دون حذر واحتياط فلم ينفعني.أما اليوم فليس في قلبي شيء! ليس في بيتي حبة من إيمان لأزرعها.فيا رب، هيّئ بذرتي الضائعة، وأرجع لي متاع الإيمان الذي فقدته! إذا كان إيماني قد ضاع فأتوسل إليك أن تهب لي بيدك ومن خزائنك بذرة من رحمتك..هبها لهذا العبد المطرود المردود حتى لا أصبح أنا وأجيالي محرومين من رحمتك، وحتى لا تتأخر أقدامنا عن مقام إخواننا الصادقين الذين يضحون تضحيات صادقة عالية، وحتى نسير كتفا إلى كتف مع عبادك المقبولين! وبقوله (واعلموا أن الله شديد العقاب نبّه أن تكونوا دائما في خشية من مؤاخذة الله، وأن تؤسسوا أعمالكم على تقوى الله، وإلا يضيع إيمانكم السابق، وتصبحون محطا لغضب الله.الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرِ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ ه و يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ (۱۹۸) شرح الكلمات: رفت الرفث كلام متضمن لما يُستقبح ذكره من الجماع ودواعيه، وجعل كناية عن الجماع (المفردات).وقال الطبري: الرفث اللغو من الكلام.فسوق الفسوق هو عدم طاعة أوامر الله عن عصيان؛ الانحراف عن قصد السبيل (الأقرب).التفسير : أشار بقوله (الحج أشهر معلومات) إلى أن القرآن لم يأت في صدد الحج بحكم جديد، وإنما استبقى ما كان يفعله الناس منذ زمن إبراهيم، ولذلك فإن شهور الحج معروفة لدى الناس..أي شوال وذو القعدة، وذو الحجة.

Page 507

الجزء الثاني ٥٠٤ سورة البقرة ويرى الإمامان أبو حنيفة والشافعي أن الأيام العشرة من ذي الحجة من أشهر الحج وليس كل ذي الحجة (البحر المحيط).(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)..أي من انتوى الحج فيها وخرج لأداء هذه الفريضة فعليه أن يحفظ لسانه طاهرا، فلا ينطق بما يثير الأهواء الجنسية.ويقول البعض إن إنشاد الشعر الغزلي لا يندرج تحته، لأن ابن عباس أنشد ذات مرة شعرا جاهليا أيام الحج.ومثل هذه الرواية لا يمكن أن تُعتبر صحيحة بعد هذا الأمر القرآني الواضح.أما لو قبلناها على سبيل الافتراض، فلا نستطيع الجزم بنوع هذه الأبيات بعد مرور زمن طويل.فقد يكون قد أنشدها استدلالا في حديثه على ما يقول، وظن السامع أنه ينشدها للمتعة.وعلى أية حال..يجب اجتناب هذا الكلام نظما كان أو نثرا، وعلى الإنسان أن يقضي هذه الأيام في ذكر الله وعبادته فقط.ولا يعني أسلوب النهي هذا أن الرفث والفسوق والجدال جائز في الأيام الأخرى، وإنما الحكمة فيه أن الإنسان لو ضغط على نفسه ليتجنب عملا لفترة فإن الله تعالى يوفقه لاجتنابه في الأيام الأخرى أيضا..لأن التدريب يسهل عليه هذه المهمة.وبعض الأحيان لا يجد الإنسان بسبب ضعفه البشري – في نفسه الهمة على ترك أمر لمدة طويلة، ولا بد لتأهيله لهذا الأمر من تدريبه بأن يُنهى عنه لبعض الوقت، وعندما يمتنع عن فعله لمدة مناسبة تتولد فيه القدرة على ضبط النفس، وهكذا يستعد بالتدريج للامتناع عنه كلية ونظرا إلى نفس هذه الحكمة قال سيدنا المهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) إنه يجب على الإنسان في شهر رمضان كل مرة أن يحاول التغلب على أي تقصير أو ضعف فيه.ساعيا إلى تجنبه طوال الشهر، وعندئذ سوف تشمله رحمة الله وتأييده بعد رمضان أيضا، ويُوفق للتغلب على هذه السيئة للأبد.لقد ذكرت الآية ضرورة اجتناب ثلاث مساوئ هي: الرفث والفسوق والجدال، والرفث ما يكون بين الزوجين من علاقة خاصة، وكذلك يُطلق على فاحش الكلام والسباب، وسماع لغو الحديث وتافهه والفسوق هي تلك الآثام التي تتعلق بذات

Page 508

الجزء الثاني ٥٠٥ سورة البقرة الله تعالى والتي بارتكابها يخرج الإنسان عن طاعته والاستسلام له.ثم الجدال وهو ما يقطع الصلات بين الناس.والحقيقة أن الله بهذه الأمور الثلاث وجه النظر إلى الإصلاح من ثلاثة أنواع: أولا يجب أن تصلحوا أنفسكم وتطهروا قلوبكم من كل أنواع الميول السيئة غير الطاهرة.وثانيا - أن تبقوا على صلة إخلاص بالله تعالى.وثالثا-أن تنشئوا علاقات المحبة مع الآخرين.وكأنه تعالى لم ينه هنا عن ثلاثة أنواع من السيئات فقط، بل قد نهى عن كل السيئات..إذ لا سيئة تبقى خارجة عن الثلاث.فالسيئة إما تتعلق بالإنسان نفسه أو بالله تعالى أو بسائر الخلق.ومن الضروري للرقي الروحاني أن يهتم الإنسان بعد إصلاح نفسه بأداء حقوق الله تعالى وحقوق العباد.خفيا.صحيح هذه (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)..نعلم أن اجتنابكم هذه الأمور سوف يعرضكم لأنواع الصعاب..فمثلا لو سبّكم أحد يصعب عليكم الصبر عليه، وعندما تتقيدون بهذه القيود لوجه الله تعالى، وتشتركون في فعل الخيرات، فمهما تفعلوا من خير فإن الله يُظهره لا محالة، لأن من سنة الله تعالى أنه لا يُبقي أي حسنة وخير أن بعض الحسنات تبقى في طي الكتمان أحيانا، ولكن لا بد في آخر الأمر أن تظهر، ولا يملك العدو إلا أن يعرفها ويعترف بها.انظروا إلى معارضي النبي..كيف كانوا يسبونه، ولكن أبا سفيان لم يستطع أن يعيبه أمام الإمبراطور هرقل، وكل ما استطاع أن ينال منه هو أن قال: بيننا وبينه معاهدة ولا ندري هل سيفي بها أم يخلفها (البخاري، الوحي.فالله يقول: مهما فعلتم من خير فإن الله سوف يظهره لا محالة، ولا بد أن يترك حسن سلوككم وسمو أخلاقكم وقعا طيبا في الناس.(وتزودوا) أي إذا خرجتم للسفر فخذوا معكم زادكم قال من قبل (وما تفعلوا من خير يعلمه الله)..وبذلك حث على الرقي في فعل الخيرات والحسنات على وجه الخصوص، والآن أضاف وتزودوا)..أي صحيح أن أداء الحج والعمرة فيه ثواب كبير، ولكن ذلك لا يعني أن تخرجوا شوقا إلى الكعبة صفر الأيادي، ثم تتسولوا وتسألوا الناس لتصلوا إلى الكعبة وإنما عليكم أن تأخذوا معكم زاد

Page 509

الجزء الثاني ٥٠٦ سورة البقرة السفر.ينبغي أن توفروا معكم نفقات الذهاب والإياب والإقامة والطعام وما إلى ذلك، ثم تخرجوا إلى هذا السفر.فإن خير الزاد التقوى) وتذكروا أن أفضل الزاد هو ما تتجنبون به عن السؤال والإثم.وللأسف أن المسلمين في هذا الزمن عموما يظنون أن الإسلام يأمر الإنسان بعدم الأخذ بالأسباب وترك كل أمره على الله ولكن هذا خطأ ومخالف تماما لتعاليم الإسلام.لذلك ينصح الله المسلمين هنا أنكم إذا خرجتم فلا تتغافلوا عما تحتاجون إليه من زاد في هذا السفر.أيضا قوله ( وتزودوا) أن تأخذوا زاد التقوى في هذا السفر.ولما كان زاد ويعني التقوى خفيا؛ لذلك زاد في توضيحه وقال إن خير الزاد التقوى)..أي أن التقوى هي أفضل زاد ينفعكم في رحلتكم إلى الآخرة.وبهذا المعنى نصح مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية أفرادها: الوقت قليل، ولا ضمان للعمر.أسرعوا الخطى، لأن المساء قريب، وافحصوا مرة بعد أخرى ما تريدون تقديمه كيلا تنسوا وراءكم شيئا فتخسروا، أو تأخذوا ما هو فاسد ومتاع كاسد لا يليق بالتقديم إلى الملك) (سفينة نوح ص ٢٦ ، الخزائن الروحانية، ج۱۹).ولما كان الحديث من قبل عن الحج فنبه بقوله إن خير الزاد التقوى) أن مسئوليتكم قد ازدوجت وزادت ويجب أن تلتزموا التقوى أكثر..كالذي يلبس ثيابا نظيفة ويلتزم الحذر كله حتى لا يصاب لباسه بما يلوثه ولو قليلا.(واتقون يا أولي الألباب).أيها العقلاء، إذا أردتم الأخذ بأسباب نجاتكم فاخضعوا لي، وأنيبوا إلي، واتخذوني وحدي سببا لحفاظتكم..لأن الأسباب الأخرى لا تساوي شيئا أمام هذه الوسيلة.

Page 510

الجزء الثاني ۵۰۷ سورة البقرة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ ( ۱۹۹) شرح الكلمات: كما – تأتي أيضا بمعنى "بما" وضرب سيبويه لذلك مثالا فقال: كما إنه لا يعلم تجاوز الله عنه..أي بما أنه لا يعلم البحر المحيط، تحت هذه الآية).وإن كنتم إن مخففة من إن.ويقول الفرّاء إنها نافية، أما الكسائي فيقول إنها بمعنى إنَّ.قد (المرجع السابق).وهي هنا بمعنى قد.التفسير: يقول الله تعالى إنه ليس من الإثم أن تبتغوا في أيام الحج فضلا آخر من ربكم.يقول البعض: المراد هنا بالفعل التجارة.وهذا صحيح عندي، ولكن حصر الفضل في التجارة تحديد لموضوع واسع.الواقع أن من أكبر المصائب على الإسلام اليوم أن الكفر غالب ومستول على العالم في كل النواحي، والمسلمون مصابون بالجمود وانعدام الإحساس، ولا يتولد في قلوبهم شعور بأن عليهم أن يعملوا لنشر الإسلام بنفس (الجنون) الذي عمل به المسلمون في القرون الأولى، فتمكنوا في فترة قصيرة جدا من جعل الإسلام غالبا على العالم المعلوم عندئذ.أرى أنه تعالى بذكر ابتغاء فضل الله في أيام الحج وجه النظر إلى أن عليكم كسب منافع وأفضال أخرى من هذا الاجتماع العظيم..مما يخرج بالمسلمين من قاع المذلة، ويوصلهم إلى قمة المجد.يجب عندئذ أن تتفكروا وتتشاوروا مع الشخصيات الكبيرة ذات النفوذ من بلاد أخرى لوضع مخططات لنشر الإسلام..بالعمل بها ينزل فضل الله تعالى، ويصبح الإسلام غالبا على الدنيا كلها.يجب أن تبتغوا هناك فضلا منه تترتب عليه غلبة الإسلام وأسلوب الكلام الذي اختاره في قوله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم أسلوب ينبه إلى خير كبير.يقول تعالى: هذه فرصة ذهبية سانحة، فهل ابتغاء فضل الله فيها إثم حتى تتركوا هذا

Page 511

الجزء الثاني سورة البقرة العمل، ولا تنتهزوها؟ في هذه المناسبة اجتمعتم بهذه الكثرة من كل أنحاء العالم، وهذه فرصة ثمينة، يجب ألا تدعوها تنفلت من أيديكم.وقوله (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم هو كقوله من قبل (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة: ١٥٩) فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام.عرفات ميدان واسع في شمال شرق مكة على تسعة أميال تقريبا.ويجتمع هناك كل الحجيج في التاسع من ذي الحجة.والإقامة في هذا المكان وعبادة الله هناك على درجة من الأهمية بحيث أنه لو أدى الإنسان كل مناسك الحج ولم يقف بعرفات لا يصح حجه.والمشعر الحرام جبل صغير في المزدلفة.يقول الله تعالى، إذا فرغتم من العبادة في موقف عرفات ورجعتم من هناك، فينبغي أن تذكروا الله كثيرا عند المشعر الحرام.ومن سنة الرسول لا أنه كان يدعو الله في المشعر الحرام (المشكاة المناسك).ولكن الناس عامة لا يدعون في هذا المكان الآن بل في العثور عليه صعوبة كبيرة، وهذا ما حدث معي، فقد بذلنا جهدا كبيرا للعثور عليه ولكن لم ننجح، فدعونا هكذا وانصرفنا من هناك.ويبدو أن المشعر الحرام ليس جبلا كبيرا وإنما هو تل، وهناك تلال كثيرة وازدحام كبير من الناس لذلك لا يسهل العثور عليه.وبقوله (أفضتم) أشار إلى أنكم عندما ترجعون من عرفات يجب أن تكون قلوبكم مليئة بالبركات وفياضة بأنوار من الله تعالى كما يمتلأ الإناء بالماء حتى يفيض منه، وأن تصلوا إلى المشعر الحرام وأفئدتكم مفعمة تماما من الخمر الروحاني لساقي الكوثر، وأن تذكروا الله هناك.أي أن مياه مطر النعم الإلهية الذي نزل عليكم بعرفات يجب أن يفيض بكم إلى المشعر الحرام.ويوصلكم إلى قدم حبيبكم تبارك وتعالى.قوله تعالى (واذكروه كما هداكم له معنيان الأول اذكروه ذكرا كما هداكم، أي اذكروه بما أمركم به وبينه لكم، وثانيا - اذكروه لأنه هداكم.وكما هنا كقوله تعالى (كما أنزلنا على المقتسمين) (الحجر: (۹۱)..أي لأننا أنزلنا عليهم.

Page 512

۵۰۹ الجزء الثاني سورة البقرة (وإن كنتم من قبله لمن (الضالين.إن هنا مخففة.ويقول الفراء إنها بمعنى النفي، واللام بمعنى إلا..أي لم تكونوا من قبله إلا من الضالين.وقال الكسائي.إن بمعنى قد، واللام زائدة والمعنى قد كنتم من قبله من الضالين.ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۲۰۰) شرح الكلمات : أفيضوا - قال الإمام الراغب: أفيضوا من حيث أفاض الناس: ادفعوا [أي ارجعوا ] منها بكثرة تشبيها بفيض الماء (المفردات).التفسير : هنا سؤال: إن الإفاضة قد تمت من قبل في الآية السابقة، فبأي إفاضة يأمر الله هنا في قوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ؟ لقد رجع الناس من عرفات فمن أين يرجعون بعد ذلك؟ فلنتذكر أن "ثم" هنا لا تعني الترتيب.وفي قوله (فإذا أفضتم) لم يذكر الله أمره بالإفاضة، وإنما ذكر الأمر الواقع.وهنا يأمر أن ترجعوا من حيث يرجع الناس.وقد أمر بذلك لأن قريشا وأصحابهم كانوا يرجعون من المزدلفة ولا يذهبون إلى عرفات، وكانوا يحتجون بأن عرفات ليس من الحرم وإنما هو خارج حدوده.لذلك نبقى داخل الحرم عند المزدلفة نحن سكان الحرم ولن نخرج منه.أما القبائل الأخرى فكانت تذهب إلى عرفات في الحج (المشكاة المناسك).وهنا خاطب الله قريشا وأصحابهم وأخبرهم بضرورة أن يذهبوا إلى عرفات كما يذهب الآخرون، ويرجعوا منها كما يرجعون.وإذا كانت "ثم" للترتيب فالمعنى أن عليكم بعد الرجوع من عرفات أن ترجعوا من من حيث يرجع الناس، وحتى إن قريشا وبني كنانة الذين كانوا يسمون مزدلفة "الحمس" أي المتدينين الكبار أيضا كانوا يرجعون هناك (المرجع السابق).

Page 513

۵۱۰ سورة البقرة الجزء الثاني وحكم الرجوع من مزدلفة بيانه أن على جميع الحجاج أن يخرجوا من مزدلفة بعد صلاة الفجر والدعاء، ويصلوا إلى منى قبل طلوع الشمس..حيث يقومون برمي الجمرات، ويقدمون الهدي ويحِلّون..أي يخرجون من حالة الإحرام.فهذه الآية حجة على الجكرالوبين ١٣ لأن الله تعالى لم يذكر هنا المكان الذي يرجع منه الناس.فَلِفَهم الآية وتطبيقها لا بد من تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)..مع أداء هذه المناسك عليكم أن تطلبوا المغفرة من الله تعالى، لأن الحج ابتلاء كبير.لقد ذكر لي كثيرون أن قلوبهم بعد أداء الحج قد قست أكثر من ذي قبل.كذلك قال لي آخرون أنهم كانوا في حماس شديد في الحج، ولكن بعد ذلك كان التأثير سلبيا ومما لا شك فيه أن في الحج تركيزا كبيرا على الظاهر بحيث يختفى الباطن من هذه العبادات إلى حد كبير.فمثلا يقومون بتقبيل الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والطواف ببيت الله.ثم برمي الجمار عند ثلاثة تلال أصبحت كأبراج.كما يضطر الإنسان هناك للقيام بالعبادة لحوالي خمس ساعات، فإذا لم يكن مع أداء هذا المناسك استغفار لأصاب الصدأ القلوب إنني لم أر في جموع الآلاف هذه شخصا واحدا يدعو، وإنما يرون أن الحج هو أن يحرك الإنسان منديله عندما يحرك المطوّف منديله.لكن الله تعالى وفقني لدعاء كثير هناك.فبما أن هذه العبادة ليست عبادة معينة كالصلاة مثلا، لذلك لا يعرف الناس أهمية الدعاء فيها.لقد ركزت الشريعة على الظاهر وتركت أمر الباطن في يد الإنسان ولكن ما يحدث أن الكثير لا يعرفون أن عليهم الإكثار من الدعاء والعبادة هناك.لذلك قال الله تعالى إن عليكم الإكثار من الاستغفار في أيام الحج، وأنتم في حاجة ماسة إلى ذلك..لأن الحج يركز على الظاهر أكثر ويختفي فيه الباطن الذي هو جوهر العبادة.فإذا لم يهتم الإنسان بالباطن وقام بأعمال الظاهر فقط وظن أنه عمل بأوامر الشرع..فلا بد أن يصاب قلبه بالصدأ.۱۳ فرقة بالهند..لا تأخذ بالحديث والسنة النبوية، وتقول إن القرآن فيه الكفاية.

Page 514

الجزء الثاني ۵۱۱ سورة البقرة فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (۲۰۱) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (۲۰۲) التفسير: يقول الله تعالى: إذا أديتم فريضة حج البيت الحرام بحسب ما أمرتكم به، فاذكروني كما تذكرون آباءكم.كان من عادة العرب بعد فراغهم من فريضة الحج أن يعقدوا المحافل لثلاثة أيام في منى..ينشدون فيها القصائد ويذكرون أمجاد الآباء، ويمدحون قبائلهم، ويشيدون بما عرفت به من شجاعة وسمعة وكرم يقول الله تعالى: أما هؤلاء فكانوا يمجدون آباءهم في قصائدهم، وننصحكم أن تذكروا الله بعد مناسك الحج كما تذكرون آباءكم.فكما أن الطفل الصغير إذا فُصل عن أمه بكى وصرخ ملحا أن يذهب إلى أمه..كذلك اذكروا الله مرة أخرى حتى تسري محبته في كل ذرة من كيانكم.إن الله تعالى لا تدركه الأبصار، ولا يتجلى حُسنه للإنسان مباشرة، وإنما بكثير من الوسائل ولو عبرنا عن حسنه بالكلمات، وتدبرنا فيه لتجلى لنا شكله المعنوي بالتدريج.لو قلتم إنه مالك، ثم فكرتم في مالكيته؛ ولو قلتم إنه قدوس، ثم فكرتم في قدوسيته؛ ولو قلتم إنه ستار ، ثم فكرتم في ستره؛ ولو قلتم إنه غفور،ثم فكرتم في غفرانه..لارتسمت في ذهنكم صورة معنوية الله تعالى.بترديد هذه الصفات الإلهية مرة بعد أخرى وترسيخها في أذهاننا تتجلى صورة الله أمام أعيننا، فنزداد حبا الله.إذ من الضروري لحب شيء أن يكون ماثلا أمام الإنسان، أو على الأقل تكون صورته موجودة.وعن هذه الحقيقة عبر سيدنا الإمام المهدي في شعر له بالأردو دیدار گر نہیں ھے تو گفتار ہی سہی حسن و جمال یار کے آثار ہی سہی ومعناه: إذا لم يكن الحبيب أمام الإنسان فعلى الأقل يسمع الإنسان صوته، ويرى بعض آثار جماله وحسنه البراهين الأحمدية جه، الخزائن الروحانية، ج ۲۱ ص ۱۷ ).

Page 515

۵۱۲ سورة البقرة الجزء الثاني لذلك يقول الله تعالى كما أن الأولاد يشتاقون إلى لقاء آبائهم كذلك يجب أن تنشئوا علاقة حب روحاني مع الله حتى تكون كل راحتكم وسكينتكم منوطة بالله، لأن هذا هو المدار لحياتكم الروحانية.لقد أمر بذكر الله بعد أداء الحج ليقول: أما وقد توطدت لكم صلة روحانية بالله، فيجب من الآن أن تصبحوا مرآة لصفات الله تعالى وأن تعيشوا تحت ظل كنفه..كالأطفال الذين يعيشون في أحضان آبائهم ويسعون ليتخلقوا بأخلاقهم وعاداتهم.(أو أشد ذكرا لقد أمرناكم من قبل أن تذكروا الله كما تذكرون آباءكم، ولكن هذا المستوى هو لمن لم يحققوا بعد درجة عالية في الروحانية.أما الذين يرون يدا خفية لحب الله تعالى في حب الآباء لهم..فهم لا يقيمون لحب الآباء أي قيمة أمام حب الله.فهؤلاء عليهم أن يذكروا الله ذكرا لا نظير له في علاقتهم الدنيوية، حتى يتضاءل تماما ذكرهم لآبائهم أمام ذكر الله تعالى.ثم يقول: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق).هناك من الناس من يسألون الله الدنيا..مثل النصارى الذين يدعون "خبزنا كفافنا.أعطنا اليوم (متى (١٢:٦).ولا يهمهم الحلال أو الحرام ، ولا يرون ما إذا كان الشيء نافعا أو ضارا، وإنما غايتهم أن ينالوا الدنيا.ولذلك لم يقل الله إنهم يدعون "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وإنما يقولون ربنا آتنا في الدنيا)..وفيه إشارة إلى أن هؤلاء إنما يريدون الدنيا ويموتون من أجلها، مع أن الجاه الدنيوي بدون العزة الأخروية لعنة..كما حدث بالنسبة إلى اليهود والنصارى فإنهم قد نالوا اليوم عزة دنيوية فحسب، وما لهم نصيب من عزة الآخرة، ولذلك قال (وما له في الآخرة من خلاق).قد نعطيهم الدنيا، ولكن لا نعطيهم أي نصيب من النعم الأخروية.بيد أن العزة الأخروية وحدها أمر لا دليل عليه وإنما يتم الدليل عليه إذا نال الإنسان حسنة في الدنيا حسنة في الآخرة ولذلك ذكر أن هناك طائفة تقول ربنا آتنا مع في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا رب حقق لنا عزة دنيوية، وآتنا أيضا مقاما عاليا في الآخرة.إذا أعطيتنا الدنيا فلا تجعلنا نستغلها في

Page 516

۵۱۳ سورة البقرة الجزء الثاني منافعنا الشخصية، وإنما نستخدمها لإظهار عظمة دينك، ولكسب رضوانك.فإذا فعل الإنسان ذلك تحقق له العز الدنيوي، كما ينال درجة عند الله.هذا الدعاء الذي عَلّمنا الإسلام إياه..يبدو في الظاهر دعاء قصيرا، ولكنه يغطي الحاجات الإنسانية بكل أنواعها.يبدو أن كلمة (حسنة) غير كافية، ويجب أن نقول "حسنات، ولكن هذه فكرة تدل على جهل باللغة العربية.الحقيقة أنه لو استخدم كلمة "حسنات" لكان المعنى أن تعطى بعض ما هو خير، ولكن استخدام كلمة (حسنة) يعني أن تعطى الخير كله فالمعنى يا رب أعطنا ما هو حسن.إذا أعطيتنا الخبز فليكن حلالا طيبا وهنيًا مريا؛ وإذا أعطيتنا اللباس فليكن حلالا طيبا ساترا للعورة جميلا، وإذا أعطيتنا زوجة فلتكن مواسية متفهمة متدينة متعاونة على البر والتقوى، ودودة ولودة، مربية للأولاد تربية حسنة؛ وإذا أعطيتنا دارا فلتكن طاهرة مباركة خالية من مسببات الأمراض، وليس فيها ما يضر بالصحة، وجيرانها مسالمون لا يؤذون أحدا، وفي حي أهله غير أشرار، وفي مدينة تراها خيرا لي؛ وإذا أعطيتنا حكاما فليكونوا ،رحماء أهل تقوى ،وعدل محبين لرعاياهم؛ وإذا أعطيتنا أساتذة فليكونوا ذوي ،علم يُحسنون تعليمنا بشوق وإخلاص، لا يظلموننا ولا يفسدوننا ولا يضلوننا، وإذا أعطيتنا أصدقاء فليكونوا ناصحين محبين متعاونين عند حلول المحن والمصائب يشاركوننا في الفرح والترح، وبالجملة فإن قول (آتنا في الدنيا حسنة يعني آتنا كل ما هو حسن يناسب حاجاتنا، ويكون خيرا.فبترك كلمة "حسنات" واختيار (حسنة) وسع الله في هذه المعاني.هناك كلمات أخرى بمعنى خير وأفضل، ولكن الله تعالى لم يستخدمها واختار كلمة حسنة.ذلك لأن هذه الكلمة تدل على ما هو خير وحسن ظاهرا وباطنا، إذ يمكن أن يكون شيء ما خيرا من حيث المنافع والفوائد ولكنه ليس خيرا في شكله الظاهر.فقد تكون مثلا الزوجة ذات أخلاق طيبة، ولكنها جدعاء أو عمياء أو صماء..فلا يمكن أن تسمّى هذه حسنة، وإنما الزوجة التي تسمى حسنة هي من تكون ذات

Page 517

الجزء الثاني ٥١٤ سورة البقرة أخلاق حسنة وأيضا صورة جميلة، فيكون ظاهرها خيرا وباطنها خيرا.فالمؤمن يدعو الله تعالى ليعطيه ما هو جميل حسن من حيث الظاهر ومن حيث الباطن.(وفي الآخرة حسنة أي أعطني في الآخرة أيضا ما هو حسن، أي يكون خيرا في الظاهر والباطن.يمكن القول بأن كل شيء في الآخرة حسن، فلماذا قال (وفي الآخرة حسنة)؟ الجواب أن بعض الأشياء في الآخرة تكون حسنة في باطنها، ولكن ظاهرها غير ذلك.نعرف من القرآن الكريم أن جهنم وسيلة لإصلاح الإنسان..لأنها في آخر المطاف بعد التطهير تقربه إلى الله تعالى، ومن هذه الناحية هي خير، ولكن من الناحية الظاهرية ليست حسنة وإنما هي عذاب.فبقوله (وفي الآخرة حسنة دل على ضرورة الدعاء أن يا ربنا لا تُصلِحنا بعذاب جهنم وإنما أصلحنا بفضلك، ولا تعطنا في الآخرة ما هو خير فقط في الباطن مثل عذاب فالحسنة في الآخرة إنما هي الجنة، فظاهرها حسن وباطنها حسن.جهنم.وقنا عذاب النار)..لا يعني "عذاب النار" هنا فقط العذاب الذي يكون في الآخرة؛ وإنما عذاب النار يكون في الدنيا أيضا وما دام قد علمنا الله هذا الدعاء بعد أدعية تتعلق بالدنيا والآخرة فالمعنى: نحنا من عذاب النار في الدنيا، ونجنا من عذاب النار في الآخرة.إن كثيرا من الناس واقعون في عذاب النار في الدنيا بأنواع الآلام والحسرات والمصائب ولكن الإنسان عندما يدعو ربه احمني من عذاب النار، فإن الله تعالى ينجيه من هذا العذاب الدنيوي، وتصبح الأشياء التي كانت نارا من قبل جنة.ويعني (عذاب النار) أيضا العذاب في الآخرة..فالدعاء يشمل النجاة من العذابين.والمراد من عذاب النار أيضا الحروب الدنيوية، لأن الحرب أيضا عذاب من نار.فالذي يدعو بهذا الدعاء كأنه يقول: يا رب لا تُرني ساعة عُسر وسوء، وجنبني الحروب فلا يقترب مني عذاب النار هذا!

Page 518

الجزء الثاني ٥١٥ سورة البقرة وإذا كان أحد الجنود مشتركا في الحرب..فإن دعاءه هذا يعني: يا رب احمني من شرور الحرب وتأثيراتها السيئة، فإذا أُطلقت عليَّ قذيفة فلا تصبني، بل تفوتني في أية حال، فهذا دعاء قصير في الظاهر ولكنه واسع وجامع، علمنا الله إياه، وكان الرسول يردده كثيرا.أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (۲۰۳) التفسير: الكسب هو بذل المجهود لنيل شيء، وقد استُخدم الفعل (كسبوا) إشارة إلى دعائهم السابق..مما يعني أن فعل اللسان والقلب أيضا يُطلق عليه فعل الكسب.والمراد أن الذين يسألون الله في دعائهم نعماء الدنيا والآخرة سينالون أجرهم الله بحسب إخلاصهم وإيمانهم.قوله ( والله سريع الحساب) يعني أنه لا يؤخر الجزاء على الحسنة والسيئة.بل بمجرد أن يقع الفعل يترتب الجزاء..أي كل عمل للإنسان يؤثر في جوارحه تأثيرا فوريا.وهذا الموضوع مذكور في مواضع عديدة من القرآن الكريم، وأشار إليها الرسول في أحاديثه أيضا.فقد قال إن الإنسان عندما يعمل سيئة تترك على قلبه بقعة سوداء.فإذا لم يتب وازداد في السيئات ازدادت هذه البقع حتى يسود قلبه كله.وإذا عمل الإنسان خيرا ترك ذلك نكتة بيضاء في قلبه، وإذا استمر في أعمال الخير ازدادت هذه النكات حتى يصير قلبه أبيض منورا (مسند أحمد ج ۲، ص ۲۹۷).وفي قوله (سريع الحساب) إشارة إلى سنته هذه بأن الإنسان إذا عمل عملا أثر هذا في قلبه على الفور، وهذا أيضا نوع من تسوية الحساب الله تعالى.والثابت من البحوث العلمية الجديدة أن كل عمل أو حركة للإنسان تُحفظ في الفضاء.فالعمل وجزاؤه توءمان يستلزم ظهور أحدهما ظهور الآخر.

Page 519

الجزء الثاني سورة البقرة وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ أيام أيام فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَن اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٤) التفسير: الأيام التي أمر الله بالإكثار من ذكره فيها على وجه الخصوص هي التشريق، أي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، أو هي منى..أي من العاشر إلى الثالث عشر من ذي الحجة.وقوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه أي من كان في عجلة ورجع بعد يومين فلا إثم عليه.هناك بعد العاشر من ذي الحجة ثلاثة أيام لرمي الجمار، ولكن الله رخص لمن رجع بعد يومين.وهناك اختلاف بين الفقهاء في هذا الصدد.فيرى أبو حنيفة أن للحاج أن يرجع في اليوم الثالث من أيام التشريق بعد الصباح، ويقول البعض الآخر أن للحاج أن يرجع في اليوم الثاني بعد رمي الجمار.وهناك من يقول إن له أن يرجع قبل العصر لا بعده في اليوم الثاني..وكأن رمي الجمار في اليوم الثالث قد عُفي عنه ويقول البعض إنه لو كان في نيته التعجيل فليقم برمي الجمار يوم النحر (البحر المحيط).(ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى): فمن رمي الجمار في اليوم الثالث و لم يتعجل فلا إثم عليه، وهذا وعد لمن اتقى يظن البعض أن (لمن اتقى) يتعلق بالتعجيل، ولكني أرى أنه لا علاقة له بالتعجيل أو التأخير، وإنما علاقته بقوله (فلا إثم عليه).فإذا كان الإنسان آثما فهو آثم ولا يصح فيه فلا إثم عليه فهذا النفي للإثم في حق المتقي.إذا لم يكن آثما بطريق آخر فلا إثم عليه إذا تأخر أو تعجل.(واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) نبه هنا إلى أن الغرض الحقيقى من مناسك الحج أن تنشأ التقوى في قلوبكم فطوافكم ببيت الله الحرام، وتقبيلكم للحجر الأسود، وسعيكم بين الصفا والمروة، وذكركم الله في مزدلفة ومنى وعرفات والمشعر الحرام، ورميكم الجمرات..كل هذا هدفه أن يتولد في قلبكم حب صادق الله تعالى، وتدركوا أنكم هكذا سوف تحشرون إلى الله في يوم من الأيام.فإذا وثقتم

Page 520

۵۱۷ سورة البقرة الجزء الثاني صلتكم بالله وتحملتم أنواع المشقة، ولم تترددوا في تقديم أي تضحية في سبيله، فسوف يبارك الله فيكم كما بارك في إسماعيل وإبراهيم وهاجر، وسوف يحمي ذريتكم في حماه على الدوام.فلتتخذوا التقوى شعارا لكم، وتذكروا يوما تحشرون فيه إلى الله ليحاسبكم على أعمالكم.إلى هنا انتهت الأحكام الخاصة بالحج.ولكن هناك سؤال: ما الحكمة في زيارة هذه الأماكن والطواف هناك؟ أرى أن من أكبر الحكم الظاهرة من ذلك وأهمها أن الله قال في موضع آخر في القرآن الكريم (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) (آل عمران: ٩٧).فأول بيت تم بناؤه لنفع العالم هو ذلك البيت الذي في مكة المشرفة.لم يبنه سيدنا إبراهيم، وإنما هو موجود منذ سيدنا آدم أيا كان آدم هذا.وكان في قوله (وضع للناس) نبأ بأنه ما دام هذا البيت قد بني لجمع العالم كله، فلا بد أن يُجمعوا هناك، ولهذا عيّن الله التواريخ المحددة للحج.وبعبارة أخرى وجه الله دعوة عظيمة على مائدته الروحانية لتوحيد الإنسانية، ولجمع الأتقياء والصلحاء من كل مكان.ولخلق قوة ووحدة عالمية بين العالم الإسلامي أجمع..كي يزول ما بينهم من فروق وكراهيات بسبب اختلاف أقوامهم أو بلادهم وتتسع وتتقوى علاقتهم ويزدادوا حبا فيما بينهم.أرى أن الله جعل ثلاثة أيام فارغة للناس في منى، لكي يقضوا أوقاتهم في ذكر الله تعالى وعبادته، فضلا عن أن تتم اللقاءات فيما بينهم ويتعرفوا على أحوال بعضهم البعض.إن إخواننا يزورون قاديان وربوة من وقت لآخر، ولكن العلاقات لا تزداد ولا تتوثق مثلما يحدث في أيام الاجتماع السنوي فأرى أن المسلمين لو استغلوا أيام الحج لذلك الهدف لانمحت من بينهم أنواع الفرقة والشقاق التي أضعفتهم، ولتمكنوا من تحقيق وحدة عظيمة رغم اختلافهم في بعض العقائد.صحيح أن الحج عبادة دينية، ولكنها إلى جانب فوائدها الروحانية تتضمن منفعة ملية وسياسية أن للمسلمين: وهي يجتمع هناك في كل سنة جماعة كبيرة من أصحاب النفوذ

Page 521

۵۱۸ سورة البقرة الجزء الثاني والتأثير ليطلعوا على أحوال المسلمين في أنحاء العالم، فيزدادوا أخوة ومحبة، واطلاعا على مشاكل بعضهم البعض، وتعاونا فيما بينهم، ويأخذوا عن إخوانهم من محاسن وميزات، ولكن الأسف أنهم لا يجنون هذه الفوائد كما ينبغي.والسؤال هنا الآن إذا كان هذا هو الغرض من الحج، فكان يكفي للمسلمين أن يجتمعوا في مكة، فلماذا يذهبون إلى منى وعرفات ومزدلفة؟ صحيح، الله أرى من حكم اجتماعهم في عرفات ومنى ومزدلفة أنه لا يمكن اجتماعهم بهذه الأعداد في مدينة مثل مكة، وكذلك لا يمكن أن تتم بينهم المقابلات على وجه فأمرهم بالاجتماع في ميادين فسيحة واسعة، لكي تتم اللقاءات بينهم بسهولة لسعة المكان وتوافر الوقت الكافي..فيتحقق هذا الهدف على أحسن وجه.وهناك حكمة أخرى لتشريف هذه الأماكن لتكون ملتقى هذه الاجتماعات، وهي عرفات على ناحية ساحل البحر الأحمر، وأرى أن إبراهيم جاء من هذا الطريق بهاجر وإسماعيل من الشام ليتركهما في مكة.ثم إن عرفات هو ذلك المكان الذي تجلّى فيه الله لإبراهيم.أما المزدلفة فهو المقام الذي وعد الله فيه إبراهيم برفع درجاته نتيجة لهذه التضحية.أما منى فهو المقام الذي جرت فيه هاجر وراء إبراهيم في فزع، ولما أخبرها أنه تركها هناك بأمر من الله قالت (إذا لا يضيعنا) ورجعت (البخاري، الأنبياء).وكأنه قد قُضي هناك على الشيطان للأبد، ولذلك يقومون أن برجمه هناك بالجمرات.ومن هذه الحكم أن الغرض من حج الله الحرام هو توطيد الاحترام والتعظيم لشعائر الله في قلوب الناس والظاهر من كلمة شعائر (الله أنها من آيات الله.ولما كان من ينتقل ذهنهم من الظاهر إلى الباطن، لذلك جعل الله لهم في حج بيته علامات وآيات تذكرهم بالله وتجدد في قلوبهم حبه تعالى.هناك والواقع أن الحج ذكرى لتلك التضحية العظيمة التي قدمها إبراهيم بترك هاجر وإسماعيل (عليهم السلام).عند بيت الله الحرام في واد غير ذي زرع، وهما في

Page 522

الجزء الثاني ۵۱۹ سورة البقرة حالة غاية من العسر وقلة الحيلة.يظن بعض الناس خطأ أن الله تعالى أقام ذكراهم في صورة الحج لأن إبراهيم استعد لذبح ابنه إسماعيل بالسكين.لو كان هذا صحيحا لكان مقام الحج في الشام حيث تم حادث الذبح بدلا من أن يكون في الحجاز، وأن يجتمع الناس هناك في الشام لذكر الله تعالى، ويقولوا: انظروا ما أعظم ما قدمه إبراهيم من تضحية! ولكن الله تعالى اختار مكة مقاما للحج، وفرض على الحجاج زيارة منى وعرفات ومزدلفة لأداء بعض مناسك الحج هناك.فأرى أن الحج لا علاقة له بحادث ذبح إبراهيم ابنه إسماعيل، وإنما يتعلق بما فعل إبراهيم مع هاجر وإسماعيل، إذ تركهما بأمر من الله في واد ذي غير زرع، ليس فيه قطرة ماء ولا حبة طعام.عندما يقوم الإنسان بالحج تتراءى كل هذه المشاهد أمام عينه: كيف أن الله تعالى ينجي من الهلاك من يضحي لأجله، ويكتب له العزة والشرف فوق العادة، فيزداد الحاج حبا لله تعالى ويقينا وثقة بذاته.: وعندما يرى الحاج نفسه أمام بيت ببني منذ البداية لذكر الله يشعر بعلاقة روحانية عجيبة بينه وبين الذين ما زالوا منذ آلاف السنين ينخرطون في هذا السلك الروحاني الذي انخرط هو فيه الآن..هذا السلك الروحاني لحب الله وذكره الذي جمع بين كل هؤلاء من السابقين أو الجدد.كذلك برؤية بيت الله تعالى تتجلى للحاج عظمة الله وجلاله، ويفكر بجمعه الناسَ من كل الأطراف حول بيته بطريقة غير عادية.عندما يقع نظر الحاج لأول مرة على بيت الله يكون لذلك وقع خاص على قلبه، وهذا الوقت له شأن عجيب لقبول الدعاء.كان الخليفة الأول للمهدي والمسيح الموعود (عليه السلام) يقول: عندما ذهبت إلى للحج، وكنت أعرف حديثا يقول إن الحاج عندما يقع بصره لأول مرة على بيت الله الحرام فإن دعاءه الذي يدعو به عندئذ يستجاب.ففكرت أن أقوم ببعض الأدعية، ثم خطر ببالي أنه لو دعوت بهذه الأدعية واستجيبت..فماذا أفعل بعد ذلك لو احتجت الدعاء لأمر آخر خارج الحج بعيدا عن الكعبة؟

Page 523

۵۲۰ سورة البقرة الجزء الثاني ففكرت أن أدعو الله قائلا "يا رب استجب لكل دعاء ابتهل به لك في حياتي"..وذلك لكي تستمر سلسة الاستجابة للدعاء بعد الحج.وعدت وكنت سمعت هذا من الخليفة الأول، فلما ذهبت أنا للحج تذكرت قوله هذا، وما أن وقع نظرنا على الكعبة المشرفة قال لي جدي لأمي : تعالوا ندعوا.وأخذ يردد بعض الدعوات، ولكنني دعوت قائلا ،رب أنى لي أن أحظى كل يوم برؤية بيتك.إن هذه فرصة العمر التي تيسرت لي كي أحج، وكل ما أدعوك هو أنك رسولك أنه عندما تقع أول نظرة لزائر بيتك عليه في أيام الحج، فكل دعاء يدعو به عندئذ مستجاب، فأتضرع إليك يا ربي أن تقبل كل دعواتي في حياتي".ومنذ ذلك الوقت لا زلت أرى بفضل الله تعالى ورحمته أن كل دعائي مستجاب بكثرة لا يقدر قناص ماهر إصابة هدفه بمثلها.كذلك عند الطواف ببيت الله الحرام..يرى الحاج آلافا من الناس يطوفون به، وآلافا آخرين يصلون حوله..فيتولد في قلبه إحساس عميق بأنني قد انقطعت عن الدنيا إلى الله..فمن واجبي الآن أن أبقى ساجدا على عتبته سبحانه وتعالى.ثم عند السعي بين الصفا والمروة يتذكر الإنسان حادث السيدة هاجر، فيمتلئ قلبه باليقين بأن الإنسان لو أقام لوجه الله في أرض قفر وبرية، فإن الله لن يضيعه، بل يهيئ له الأسباب من عنده ويعطيه نصيبا من المعجزات والآيات.كما أن كل الأماكن الموجودة هناك التي هي من شعائر الله قد سميت بأسماء تنبه الإنسان إلى الله تعالى فمثلا يذهب الناس إلى منى، وهذا الاسم مشتق من الأمنية، أي الهدف الذي يتمناه الإنسان.وفي هذا إشارة إلى أن الحاج يزور هذا المكان للقاء الله فقط، ولإظهار كراهيته التامة وبراءته من الشيطان.أما عرفات فهو إشارة إلى أننا قد عرفنا الله تعالى والتقينا به.و في مزدلفة معنى القرب والزلفي، وفيه إشارة إلى أن غايتنا قد اقتربت منا.

Page 524

۵۲۱ سورة البقرة الجزء الثاني أما المشعر الحرام وهو تل صغير فيولد في قلوبنا احتراما خالصا للنبي ﷺ وعواطف كعواطف إبراهيم، لأنه مقام كان النبي الله يكثر من الدعاء عنده خاصة.وهناك، مكة المكرمة، وهي مكان لا يوجد حوله إلا بعض الأشجار والإذخر..ترى الرمال والأحجار في كل مكان أو بعض الثنايا.إنه جاف للغاية، ولا خضرة فيه ولا بستان، وليس هناك من مغريات الدنيا شيء.فلا شك أن قصد هذا المكان لا يكون إلا لوجه الله والتقرب إليه وابتغاء مرضاته.وهذا هو الغرض من حج بيت الله الحرام.وهناك أمر آخر يشير إليه الإحرام.ذلك أن يتراءى للإنسان مشهد يوم الحشر.فكفن الإنسان قطعتان من القماش واحدة لأعلى الجسم وأخرى لأسفله، ويكون الرأس حاسرا؛ ونفس المشهد يكون في عرفات حيث يجتمع الناس بالآلاف على هذا الشكل، فيتراءى للإنسان مشهد كالحشر، ويُخيل له أنه أمام الله، وأن الناس قد خرجوا من قبورهم في أكفانهم ليمثلوا أمام الله تعالى.تحكي الله ثم في حج بيت وهاجر ومحمد عليهم السلام فينال إيمانا وعرفانا جديدا.إن الأمم الأخرى أيضا أحداث كبرائها بلغة الصور..كما يحكي الهندوس أحداثا تاريخية لهم في (دسهرا) ولكن الله تعالى سرد أحداثا تاريخية لآباء المسلمين سردا يحقق هدفين: يتجدد بذلك ذكرى الأحداث القديمة كما يتراءى لأعينهم مشهد لحدث قادم..وهو حادث يوم الحشر.تتراءى للإنسان الأحداث التي جرت في أيام إبراهيم وإسماعيل مكان يسمى ثم هناك رمي الجمرات والغرض الحقيقي منها هو البراءة من الشيطان وهناك حكمة في أسماء هذه الجمرات الدنيا والوسطى والعقبة..وهي أن يعد الإنسان أنه لن يسمح للشيطان أن يقترب منه في الدنيا، وسوف يدخل عالم البرزخ ثم العقبى خاليا من أي تأثير للشيطان على روحه.

Page 525

سورة البقرة الجزء الثاني ثم بتقديم الذبائح وجه الأنظار إلى أن على الإنسان أن يكون دائما مستعدا للتضحية بنفسه في سبيل الله تعالى.فكلما يناديه ربه يخضع على الفور ويحني رأسه في سبيل الله، ولا يتردد في أن يقدم رأسه في هذا السبيل.ثم الطواف والسعي والرمي كلها سبع مرات وفي ذلك إشارة إلى تكميل المدارج الروحانية السبعة التي يجب أن يسعى الإنسان لنيلها.وقد جاء تفصيل هذه الدرجات الروحانية السبعة في سورة (المؤمنون).كما أن تقبيل الحجر الأسود أيضا لغة تمثيلية.فبالتقبيل يعني الإنسان أن هذا الذي أقبله لا أستطيع الانفصال عنه ؛ بل أريد أن يكون جزءا من جسمي.إذًا، فالحج عبادة عظيمة يمكن أن ينال بها المؤمن الصادق آلاف البركات والأنوار.ولكن الأسف أن المسلمين في هذه الأيام يقومون بأداء هذه الفريضة أداء ظاهريا، فلا يتمتعون من بركاتها كما يجب.وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ الدُّ الْخِصَامِ (٢٠٥) شرح الكلمات: ألد الخصام ألد اسم التفضيل من لدّ يلد.والد الخصام: شديد الخصومة (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى إن هناك أناسا في الدنيا عندما يتكلمون في المجالس تقولون في أنفسكم ما أشدهم عقلا وذكاء ويُخيل إليكم أنهم محيطون بكل علوم الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يبلغ شأوهم.أما فيما يتعلق بصلاحهم ودينهم فيؤكدون للناس أن ليس في قلبنا إلا الخير ولا يعرفه إلا الله، فاستشيرونا وسوف نفعل كذا وكذا.إنه يكون معكم، ويسمّى مسلما، وعندما يكون في مجلس يستولي على

Page 526

الجزء الثاني ۵۲۳ سورة البقرة الحضور بطلاقة لسانه، ويُقسم على صلاحه وتدينه، ويدعي أن قلبه يذوب في.القوم وخيرهم وعندما يراه الرائي ويسمعه السامع يظنه أحد الأقطاب والصلحاء، ولكن الله تعالى يقول: الحقيقة على العكس من ذلك.إنه أخطر وأشد عداوة من أعدائكم اليهود أو النصارى وغيرهم من الأمم الأخرى.إنه في الظاهر يبدو تجسيدا للصلاح والتقوى، ولكن الحقيقة غير ذلك.لا يأتي بمعارف دينية، وإنما يتحدث عن أمور دنيوية بكلام يبدو جميلا في الظاهر، ولكن وراءه النفاق.والدليل على كذبه أنه يقسم بالله مرة بعد أخرى في كل صغيرة وكبيرة، ويقول: والله إني مخلص، وليس في قلبي إلا الإخلاص، ولا أفعل ذلك إلا لصلاح الناس وخيرهم.فلا تنخدعوا بكلماته المعسولة.وإذا رأيتم شخصا كهذا فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله وتجنبوه، واعلموا إنه شيطان يقسم ويؤكد للناس صلاحه وخلوص نيته ليخدعهم ويخونهم.وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (٢٠٦) شرح الكلمات : تولّى-التولي: الانصراف بالبدن أو القول والتولي أن يصبح الإنسان حاكما أو واليا(اللسان).الحرث-ما يُستنبت بالبذر والنوى والغرس (الأقرب).النسل العقب، أي الأولاد؛ الخلق؛ الجيل القادم (الأقرب)..أي ليس الأبناء فقط وإنما الأولاد إلى أجيال..كلهم يسمون نسلا.التفسير : يقول الله تعالى إن هؤلاء إذا نالوا السلطان وقبضوا على زمام باستخدام القوى التي خلقها الله لهم..فبدلاً من أن يخدموا الرعايا والبلد، وبدلا من

Page 527

الجزء الثاني ٥٢٤ سورة البقرة أن يفعلوا ما يبث السكينة والطمأنينة بين الناس، يلجأون إلى حِيلٍ تؤدي إلى الشجار والقتال بين قبيلة وأخرى، وبين أتباع دين وأتباع دين آخر؛ حتى يسود البلاد حالة من الفوضى والطائفية.الحرث تعني الزرع أو الحقل، وجاءت هنا بمعانٍ واسعة مجازا.والمعنى أنهم بدلاً من أن يعملوا بما يؤدي إلى تقدم الحالة الحضارية والاقتصادية والأخلاقية في البلد فإنهم يضعون قوانين مدمرة للحضارة والأخلاق والاقتصاد والوضع المالي للبلاد، وهكذا يعرقلون طريق الرقي في وجه الإنسانية، ويقضون على ما في الأجيال القادمة قوى، ويحرمونها من علوم وفنون لو أنهم تعلموها لازدهروا وحققوا رقيًا.من و الله لا يحب الفساد..لذلك ينظر الله تعالى إلى كل ملك ظالم أو حاكم مفسد نظرة غضب وسخط واحتقار.ثبت من هذا أن الملك الصالح في نظر الإسلام إنما ذلك الذي يهيئ الأمن بجميع أنواعه لرعاياه، فيصلح حالتهم الاقتصادية، ويصون أرواحهم، ويعتني بصحتهم، ولا يثير حروبا لا داعي لها، ولا يدفع أبناء أمته إلى الموت بدون مبرر وكأن الإسلام يرى أن من واجب الحكومة أن تحافظ هو على أمن المدنيين وأرواحهم وأموالهم ، وتهتم برقي البلاد ورفاهية الرعايا دائما.وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإِثْم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (۲۰۷) شرح الكلمات اتَّقِ افْتَعِلْ، من وقي يقي بصيغة الأمر.اتقى: تجنَّب خطرًا، ولكن هذا المعنى لا ينطبق هنا، لأن الإنسان لا يمكن أن يحمي نفسه الصحيح هنا أن يتخذ الله ذريعة لحمايته (اللسان).من الله مهما فرَّ منه.والمعنى أخذته الأخذ حوز الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتبادل وتارة بالقهر (المفردات).أخذتُه بكذا: حملته عليه.

Page 528

٥٢٥ سورة البقرة الجزء الثاني العزة تستعار للحمية والأنفة المذمومة كما ورد في القرآن (أخَذَتْه العزة بالإثم (الأقرب).جهنم دار العقاب بعد الموت (الأقرب).وقد استخدم القرآن الكريم كلمات أخرى لجهنم مثل جحيم، سعير، سقر.المهاد - هو المكان الذي يستريح فيه الإنسان بعد تعب مثل الفراش ونحوه (الأقرب).* التفسير : يقول الله تعالى أن هذا المذكور عندما يقال له اتق الله، فإنك لا تساوي شيئا في حد ذاتك، لأن كل ما عندك هو من عند الله تعالى..تأخذه العزة بالإثم.ولهذه العبارة معنيان: الأول أنه بسبب آثامه السابقة يصاب بجنون، لأنه يظن أنه قد أهين بهذا القول، فينأى عن الهداية أكثر.والثاني أن عزته الدنيوية تأخذه بالإثم..أي تحضه وترغبه وتزيده في ارتكاب الإثم يقول الله إن مثل هؤلاء يمكن أن يخدعوا الناس في هذه الدنيا، ولكن مصيرهم في الآخرة جهنم، ولبئس المهاد؛ أي ما أسوأه من مصير.صحيح أن جهنم في الآخرة، ولكن هناك نوعا من جهنم يعدّها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الشرفاء عندما يتصدّون لمثل هؤلاء الأشرار فإنهم يتلقون منهم ردّا يكون بمثابة جهنم لهم.للأسف أن كثير من الناس لا يهتمون بإصلاح نفوسهم، ولو دلّهم أحد على أخطائهم وقال لهم اتقوا الله..يظنون أنهم قد أهينوا، ويُحنّون غضبا، ولا ينتصحون بنصح الناصح، بل يتصدون له ويعارضونه.ولكن هذا لا يعني أن لكل إنسان الحق أنه إذا رأى في أحد عيبا أو خطأ يبدأ في لومه أمام الناس علنا في الطريق..بل يجب يتم النصح على انفراد، ويلاحظ الناصحُ صلاحيته..أي هل هو أهل لنصح المخطئ أم لا، حتى لا يكون للنصح أثر سلبي.فكما أن من واجب المخطئ أن يكون صبورا على الانتقاد، وأن يسمع لقول الناصح بهدوء..كذلك من واجب أن الناصح أن يكون محتاطًا في تقديم نصحه، فلا يهين أحدا أمام الناس بحجة النصح.

Page 529

الجزء الثاني ٥٢٦ سورة البقرة وذكر هذا الأمر مع موضوع الحج، لأن من أكبر أهداف ـوع الحج، لأن من أكبر أهداف الحج القضاء على الفروق القومية بين المسلمين ، وأن يزدادوا حبا ووحدة ووفاقا.ولكن هناك من دأبهم الشجار والفساد، فنبههم سبحانه وتعالى أنه يريد جمع العالم كله حول مركز واحد، فعليهم أن يعملوا بما يؤدي إلى الاتحاد والاتفاق وينسوا لوجه الله ما بينهم من بغض وعناد.والواقع أن الحاج الحقيقي إنما هو من يتجنب هذه الفتن والفساد، أما المفسد والمؤذي للناس فيضر بعمله الوحدة والمركزية التي لأجلها أمر الله الناس بحج بيته الحرام.وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (۲۰۸) التفسير : هنا بين الله تعالى أن من الناس من لا يبالون يبذل نفوسهم في سبيل الله، وهم مستعدون لفداء أرواحهم لوجهه..ولا يمكن أن يأتوا بما يضر الآخرين.وهكذا وجه النظر إلى أن عليكم اتباع سبيل هؤلاء، فلا تتجنبوا الفتن والفساد فقط، بل يجب أيضا أن تقفوا حياتكم لابتغاء مرضاة الله تعالى.والله رؤوف بالعباد) أي أن الله شديد الشفقة على عباده، وتقتضي شفقته هذه منكم أن تجتنبوا الفتن والفساد، وتُكرسوا حياتكم لخدمة الإنسانية وفلاحها حتى تكونوا مظاهر لرب رؤوف بالعباد.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ وو عَدُوٌّ مُبِينٌ (۲۰۹) شرح الكلمات السلم الصلح؛ السلام؛ الإسلام (الأقرب).

Page 530

۵۲۷ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير : يمكن أن تكون كلمة (كافة ) هنا حالا من الذين آمنوا، أو حالا من السلم.ويكون المعنى الأول: أيها المؤمنون، ادخلوا في الإسلام جميعا، وينبغي أن تدخلوا كلكم في طاعته، وتضعوا نير طاعته على أعناقكم جميعا.يجب ألا يكون منكم أحد لا يجوز مقام الطاعة والإسلام الله تعالى.والمعنى الثاني: أيها المؤمنون، يجب أن تقبلوا الإسلام كله، وتتخذوا كل السبل للطاعة والاستسلام الله تعالى ولا تتركوا أي أمر من أوامر الله.هذه هي التضحية التي يطلبها الله من المؤمن: يُضحي في سبيله بكل أمانيه وأهوائه وأهدافه.وليس أن يعمل بما شاء ويترك ما شاء..لو رأى أن الشرع يقضي عليه بالحق، رضي بحكم الشرع ونادى باتباعه؛ أما إذا وجد الشرع يقضي عليه بالحق، في حين أن القانون الوضعي يقف في صفه، قال أتبع قانون البلد.هذا الأسلوب يتنافى تماما مع الإيمان الحقيقي.في الآيات السابقة بين الله أن هناك ضعاف الإيمان بين المسلمين ويسعون بالفساد والفتنة في أيام الرقي القومي وفي زمن الرفاهية وينسون ما كانوا عليه من قبل، وأن كل ما عندهم هم من فضل الله، ولذلك ينصح الله المسلمين هنا ويقول: صحيح أنكم تُدْعَون مؤمنين، ولكن تذكروا أن التفوه بالإيمان لا يجعل الإنسان مستحقا للنجاة.فإذا أردتم أن تفوزوا بالنجاة فسبيل ذلك أولا-أن تسعوا لمحو كل صنوف النفاق وعدم الإيمان من بينكم وأن تجعلوا كل فرد من قومكم ثابتا على صخرة قوية من الإيمان والطاعة.وثانيا - ألا تفرحوا بالعمل ببعض أحكام الشرع، بل عليكم أن تعملوا بكل ما تؤمرون به من الله تعالى وأن تكونوا مظاهر كاملة للصفات الإلهية.ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين أشار بكلمة (خطوات) إلى أن الشيطان دائما يدفع الإنسان إلى الضلال خطوة خطوة، ولا يحضه على ارتكاب

Page 531

الجزء الثاني ۵۲۸ سورة البقرة الكبائر دفعة واحدة، وإنما يرغبه في السيئة بالتدريج؛ فإذا تخطى أول خطوة حضه على خطوة أخرى حتى يدفعه إلى ارتكاب الكبائر.يقول الله تعالى : ننصحكم أنكم إذا فرحتم بالعمل ببعض أحكام الشرع وأهملتم أحكاما أخرى، وظننتم أنكم مسلمون صادقون فهذه وسوسة شيطانية.ونحذركم أنكم لو أهملتم أحكام الله هكذا فسوف يأتي عليكم وقت لن تعملوا فيه بما كنتم تعملون من أحكام الشرع فيجب أن تراقبوا أعمالكم باستمرار، وتسعوا لتجنب وساوس الشيطان دوما.فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (۲۱۰) التفسير: يقول الله تعالى : إذا لم تهتموا بإصلاح أنفسكم، وإذا لم تعملوا على خدمة الإنسانية عند نيلكم السلطة والقوة، وبدأتم ظلم الناس واضطهادهم وإلحاق الأضرار بأرواحهم وأموالهم، فتذكروا أن فوق رؤوسكم إلها غالبا قادرا على أن يعاقبكم وعلى أن يسلب القوة من أيديكم.فخافوا الله القادر على أن يحوّلكم من ملوك إلى متسولين، ومن أثرياء إلى فقراء، ويجعلكم بعد العزة أذلاء.وبذكر (حكيم) بين أنه ليس في أفعاله أي ظلم وإنما كل أفعاله تنطوي على حكم عظيمة، فلن يكون في عقوبته ظلم وإنما إصلاح الإنسان.ولو أن الناس كفّوا عن همجيتهم، وأنشئوا علاقة بالله تعالى، وجعلوا خدمة الناس شعارا لهم، وتعاملوا بصدق وسداد وأمانة، وطهروا قلوبهم من كل غش وخداع، وأصبحوا طيبي الباطن صالحي القلوب، متحلين بمحاسن الأخلاق، خاشعين لله..فلا بد أن يرحم الله عباده ويستجيب أدعيتهم، ويحول فشلهم إلى نجاح، وذلتهم إلى عزة.

Page 532

الجزء الثاني ۵۲۹ سورة البقرة هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (۲۱۱) التفسير: لقد بين الله هنا أن هؤلاء الكفار الذين يعارضون المسلمين، وهؤلاء المنافقين الذين يوافقون الكفار في آرائهم..يحلمون بهلاك الإسلام.إنهم في الظاهر يتربصون يوما يتم فيه القضاء على الإسلام وتتمكن القوى الشيطانية من الاستيلاء على الحكومة الإلهية، ولكن الحقيقة أنهم بأعمالهم هذه ينتظرون يوما يأتيهم الله فيه في ظلال السحب..يعني يدمرهم ويهلكهم بأسباب خفية.ينتظرون أن ينــزل عليهم الملائكة من السماء فتمزقهم وتظهر آية إلهية بيئة متألقة تحسم كل هذه التراعات الناشبة كل يوم، وهكذا يرى الجميع ما يحكم الله به.ولسوف يحدث هذا في آخر الأمر، وسوف يظهر الله لأعينهم يوما ما، وسوف يرون هلاكهم محلقا فوق رؤوسهم.وفعلا، في غزوة بدر ظهر الله لهم من خلال السحب.فقبل بداية المعركة أنزل الله مطرا ألحق بالكفار ضررا بالغا من الناحية الحربية.ونفع المسلمين نفعا عظيما.كما أن الله تعالى أنزل ملائكته تثبت قلوب المؤمنين وتقويها، وتبث الرعب في قلوب الكفار، بل لقد رأى عدد منهم ملائكة الله بأعينهم عندئذ (الأنفال: ١٠ والسيرة النبوية لابن هشام موقعة بدر.وبحسب قوله تعالى (وقضي الأمر) أهلك نخبة كبراء قريش..حتى أن الذي كانوا يسمونه "سيد الوادي" لقي مصيره وحتفه على أيدي اثنين من صبية الأنصار (البخاري، العلم).وعم مكة البكاء والعويل، ولم يكن بيت من بيوتها إلا وفيه مأتم.أما اليهود فلم يكن لهذه الحرب تأثير مباشر عليهم ولكنها كشفت نواياهم الشريرة، وهلكوا على يد المسلمين أخيرا.وهكذا رأى الكفار الآية التي طلبوها بأنفسهم، وقضي على شوكتهم وعظمتهم.وهذا نفس ما عامل به الله الأعداء الذين كانوا بعدهم، فظهر الله لهم بتجلياته القاهرة مرة بعد أخرى حتى ظهر الإسلام على العالم.

Page 533

الجزء الثاني ٥٣٠ سورة البقرة سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (۲۱۲) التفسير : لقد سبق أن ذكرتُ عند تناول ترتيب الموضوع أن الخطاب هنا موجه إلى اليهود، وأن البحث يدور حول النبأ الإبراهيمي عن بعث سيدنا محمد ، وأنه هو المصداق لهذا النبأ، فقد قال الله في هذا السياق (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، وتنبأ بذلك عن فتح مكة على أيدي المسلمين.وقد أعلن عن هذا النبأ في وقت كان الكفار فيه غالبين حاكمين على مكة، وكان المسلمون يبحثون عن ملاذ لهم في المدينة.عندئذ أوحى الله إلى رسوله أنكم سوف تفتحون مكة، وبالتالي سوف تزول العراقيل الموجودة في طريق حجكم إلى بيت الله الحرام.ثم بيّن لهم ماذا عليهم أن يفعلوا إن أحصروا ومُنعوا من أداء العمرة.وهكذا تنبأ عن صلح الحديبية إذ قال بأنه سيأتي على المسلمين زمن يُمنعون فيه من أداء العمرة.كما أشار بقوله لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) (۱۹۷) إلى أن مكة سوف تصبح دار إقامة لكم في يوم من الأيام.سوف تفتح لكم أبواب مكة، وسوف تدخلونها آمنين.وبقوله فإذا أمنتم أشار إلى أنكم ستكونون في أمن وأمان، وعندئذ عليكم بعمل كذا وكذا.وبعد ذكر هذه الأنباء قال هنا للمسلمين : اسألوا بني إسرائيل: كم من آية بينة على صدق محمد و أريناهم، وإن في نبأ فتح مكة أيضا لآية عظيمة سوف تثبت صدق محمد.فالذين يكفرون بهذه النعمة العظيمة من الله تعالى أي محمد والإسلام – ويريدون القضاء عليه..عليهم أن يتذكروا أن الله تعالى سوف يعاقبهم عقابا شديدا.وفعلا تلقى اليهود بفتح مكة ذلة شديدة وبدأ هلاكهم بالتدريج.وقد تعني الآية أن الله أنعم على اليهود بنعم كثيرة من قبل.ولكنهم كفروا بها.الله فكان أكبر نعم عليهم أنه بعث فيهم أنبياء لهدايتهم بالتواتر والتوالي، ولكن اليهود دأبوا على تكذيبهم وجعلوا معارضتهم شعارا لهم حتى أنهم قتلوا بعضهم.وهذا كفران بنعمة الله كبير قد صدر عنهم.أما المسيحيون وهم فرع من اليهود

Page 534

۵۳۱ سورة البقرة الجزء الثاني فقد كفروا بنعمة الله كفرانا كبيرا؛ إذ اعتبروا الشريعة لعنة.ونتيجة لهذا التمرد الله منهم نعمة النبوة، لأن سنة الله تعالى أنه إذا من المستمر من جهة اليهود نزع أحد بنعمته حرمه منها، وأنزل به عذابا طويلا من آلام وهموم وحسرة کفر وقنوط.زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابِ (۲۱۳) التفسير: يقول الله تعالى إن هؤلاء لا يدركون الآن حقيقة هذه الأنباء لأن الدنيا ماثلة أمامهم بكل زخارفها ومفاتنها، وقد ثَمِلوا بقوتهم وأموالهم حتى قالوا في أنفسهم أنى للمسلمين أن يُلحقوا بنا الهزيمة؟ بل يسخرون منهم بسبب هذه الأنباء : ويضحكون منهم، ويعيرونهم قائلين: نحن نحصل على جزائنا نقدا ويدا بيد، فأين جزاؤكم؟ ولكن هؤلاء الكفار سيدركون في يوم قريب كيف نلحق الهزيمة بهم ونكتب الغلبة للمسلمين.فقال: (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)..عندما يأتي يوم القيامة سوف يتغلب المتقون على الكفار ، ولا شك أن مشهد (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) سوف يتكرر مرة بعد أخرى بعد الموت، عندما يدخل الكفار جهنم، ويدخل المؤمنون الجنة ويصبحون فوقهم للأبد..لأن الآخرة ليس بها مباراة حتى يكون هناك احتمال لتفوق أهل النار على أهل الجنة في أي وقت، ولكن الحقيقة أن الناس لا يعتبرون بما سوف يحدث يوم القيامة لأنه لم يأت بعد، فلا يمكن أن يقدم أمامهم كحجة أو دليل على صدق الإسلام.إذا، فالمراد من يوم القيامة هنا إنما هو ذلك اليوم الذي تم فيه فتح مكة على يد محمد رسول الله ﷺ ولحقت الهزيمة بالكفار.اليوم الذي رأت فيه الدنيا مشهدا عظيما عجيبا.فالذي كان وحيدا بدون معين ولا نصير، وكان عرضة لاضطهاد القوم..أصبح حاكما.أما الذين كانوا ملوكا وحكاما للبلد فأصبحوا محكومين

Page 535

۵۳۲ سورة البقرة الجزء الثاني خاضعين وبقوله (والذين اتقوا) نبّه المؤمنين أنكم أحوج ما تكونون إلى التقوى إذا أردتم تحقيق غلبة حقيقية.نعم، إن الإيمان متاع غال، ولكن إذا لم يصحبه العمل فلا قيمة له عند الله.وقوله: (والله يرزق من يشاء بغير حساب ليس في حق الكفار وإنما هو في حق المسلمين.عندما ينال الإنسان شيئا بغير حساب فمعنى ذلك أن يُعطى أكثر مما يستحق كجزاء.أما عندما يُعطى بحساب فيأخذ بقدر ما يستحق.وفيه إشارة إلى أن المؤمنين سوف يُعطون جزاء أكثر كثيرا مما يستحقون.كما قال فيه للكفار إنكم ستحاسبون على ما عندكم، وتسألون كيف أنفقتموه.أما ما يناله المسلمون فلا يحاسبون عليه أو كأنكم أيها الكفار..تعملون كموظفين وعمال، وتستوجبون العقوبة إذا خنتم في هذه الأموال.ولكن ما يُعطى المؤمنون فهو كهدية..لهم حق التصرف الكامل فيها.الحقيقة أن المعاملات على نوعين ما يتم بين الأصدقاء، وما بين السيد وخدمه.ولما لم يكن هناك غيرية أو دونية بين الأصدقاء لذلك يقول الله تعالى: إننا نعطي المؤمنين بغير حساب ونعاملهم معاملة الأصدقاء.والدليل على ذلك أن الرسول ﷺ قال: سوف يدخل أمتي في الجنة سبعون ألفا بغير حساب (البخاري، الرقاق).وأما إذا كانت هناك غيرية ودونية بين الإنسان ومن سواه فإنه يحاسبه بشدة ويجازيه بحساب.لذلك لا نجد في القرآن في حق الكفار أنهم يُعطون بغير حساب، وإنما ورد في حقهم (إن الله سريع الحساب (آل عمران (۲۰) وقال النبي ﷺ (من نوقش الحساب عُذب، فسألته السيدة عائشة : ألم يأت في القرآن (فسوف يحاسب حسابا يسيرا) فقال النبي ﷺ: (فذلك العرض) (المرجع السابق)..أي المراد بالحساب هنا أن يكون حسابا دقيقا..وإلا فإن المؤمن يحاسب حسابا عابرا.ويعني قوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب أيضا أنه سوف يجازيهم جزاء لن ينقطع.ولما كان الوعد في هذه الآية عن الغلبة المادية الدنيوية فيعني أن الله سوف

Page 536

الجزء الثاني سورة البقرة يجزيهم بأكثر مما بذلوا من تضحيات ونرى أن ما أعطى الله المسلمين كغلمان للمصطفى ﷺ في هذه الدنيا كان بلا حساب.صحيح أن تضحياتهم كانت تبهر العيون، ولكن ما أعطاهم الله من أجر غير عادي سواء في الدنيا أو في الدين، كان يفوق تضحياتهم كثيرا.فمن الناحية المادية بوءهم الروحانية أعطاهم بركات عظيمة توَّجَها بشهادة أبدية على رضوانه فقال (رضي الله كما عنهم ورضوا عنه) (التوبة: ١٠٠).الله عرش المجد، ومن الناحية رد بقوله (والله يرزق من يشاء بغير حساب) على شبهة عند الكفار: كيف تتغلب عليهم هذه الحفنة من المسلمين؟ فقال إنه إذا أنعم على قوم أعطاهم بغير حساب.أنتم ترون حسابيا أن تغلب الواحد على اثنين مستحيل، ولكن الله يعامل المسلمين معاملة مختلفة تماما، فلا يتغلب الواحد منهم على اثنين منكم، بل سوف يتغلب الواحد منهم على عشرة منكم ويرجع رافعا لواء الفتح والظفر خفاقا.كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِاذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٤) التفسير: هناك اختلاف كثير وحيرة بين المفسرين عن هذه الآية: فهل كان الناس أمة واحدة من الصلحاء ثم بعث الله النبيين وحصل الاختلاف...أم أن الناس كانوا أمة واحدة من الأشرار ثم بعث الله النبيين لهم؟ وعندي أن الناس صاروا أشرارا ،مختلفين فبعث الله النبيين والدليل على ذلك أن الله يقول في القرآن الكريم إنه يرسل أنبياءه عند فساد الناس بل يتأكد هذا من آيتنا هذه نفسها؛ حيث قال الله تعالى مبشرين منذرين.ويدل الإنذار على أنه كان هناك أناس قد ابتعدوا عن الله.والدليل الآخر أيضا في نفس هذه الآية وهو قوله تعالى (ليحكم بين الناس فيما

Page 537

الجزء الثاني اختلفوا فيه) مما يعني ٥٣٤ سورة البقرة أنه كان هناك اختلاف بين الناس في بعض المسائل، فجاء الأنبياء لإزالته ولتوحيد الناس.هي أما لماذا قال أمة واحدة فجوابها ما ورد في الحديث النبوي (الكفر ملة واحدة) أي أن أصل أصول الكفر هو إبعاد الناس عن الله تعالى كما قال أيضا إن الإسلام أن ملة واحدة بمعنى جميع الأمم التي أسلمت الله أمة واحدة، لأن مبادئها واحدة، وإن كان هناك اختلاف في تفاصيل الشرائع.فلا يعني قوله تعالى (أمة واحدة) أنهم كانوا على وفاق وحب، وإنما يعني أنهم جميعا كانوا كفارا ليس بينهم صلحاء.والجماعة المختلفة عن هؤلاء الكفار إنما هي جماعة المؤمنين فقط.فمهما كان الكفار مختلفين في بعض النواحي، إلا أنهم متفقون في العمل على أساس واحد..هو إبعاد الناس عن الله تعالى.أو يمكن اعتبار (كان) للحال وليس للماضي، ويكون المعنى أن الله قد جعل الإنسانية أمة واحدة..أي أن الحيوانات الأخرى أيضا أمم ولكنها ليس أمة واحدة، وإنما الإنسان أمة واحدة لأنه مدني الطبع ويعيش مع أبناء جنسه، والنتيجة الحتمية لذلك هو الاختلاف والشقاق.فالنعمة العظيمة محاطة أيضا بأخطار جسيمة، وعندما يعيش الإنسان بين أناس آخرين فإنه يتعلم منهم مساوئهم أيضًا.عندما تتفاقم هذه العيوب المدنية والاختلافات الناجمة عن عيشهم معا يرسل الله أنبياءه لإزالتها، ويجمعهم على دين واحد، بدلا من أن يتخذ كل منهم له دينا بسبب العناد.ويقال: إذا كان هذا المعنى صحيحا لقالت الآية: كان الناس أمة واحدة فتشاجروا واختلفوا، فبعث الله النبيين والجواب أن الفاء في قوله (فبعث) تدل على أن ما بعدها نتيجة لما قبلها.والواضح أن كون الناس أمة واحدة لا يترتب عليه بعث الأنبياء، فلا بد أن يكون هناك كلام مقدَّر يشير إليه قوله تعالى (فيما اختلفوا فيه).وقوله (وأنزل معهم الكتاب بالحق).قال (الكتاب)، ولم يقل (الكتب)..ذلك أن الكتاب يشير إلى جنس الكتاب والمعنى أن كل نبي يأتي بكتاب، سواء كان كتابا

Page 538

الجزء الثاني ٥٣٥ سورة البقرة قديما أو جديدا.يظن بعض الناس جهلا منهم أن كل نبي يأتي بكتاب منفصل مستقل، ولكن هذا خطأ تماما، ولا يؤيده أي دليل تاريخي، ولا القرآن الكريم ولو قالوا أنّ (أنزَل) تعني أن الله لا بد قد أنزل على كل نبي كتابا مستقلا، فنقول إن هذه الكلمة قد وردت في حق غير الأنبياء في القرآن الكريم، فهل نقول إن هؤلاء أيضا أُعطوا كتابا من عند الله؟ لا يقبل أحد بهذا القول.فمثلا يقول القرآن الكريم: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) (آل عمران ۷۳)..مع أن الجميع يعرفون أن ما نزل على المؤمنين إنما هو ما نزل على الرسول فلا يمكن أن يستدلوا بكلمة (أنزل معهم الكتاب أن كل نبي يُعطى كتابا مستقلا.كما أن كلمة الكتاب لا تثبت دعواهم.فلو كان كل نبي قد أعطي كتابا مستقلا لقال الله تعالى (أنزل معهم الكتب) بدلا من الكتاب.ولم يقل الله ذلك، لأن هناك آلافا من الأنبياء ولم تتزل آلاف من الكتب معهم.وقال الله في موضع آخر من القرآن الكريم: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل) (البقرة: (۸۸)..أي أرسلنا من بعد موسى الأنبياء بالتوالي، ولكن كانت مهمتهم فقط أن يروجوا للتوراة ويدعوا الناس للعمل بأحكامها.فالحقيقة أن الله قد بيّن أنه لا بد أن يكون مع كل نبي كتاب عندما يُبعث..أي ليجعل الناس يعملون بكتاب من عند الله تعالى.لم يقل القرآن هنا إن كل نبي يأتي بكتاب جديد، وإنما قال يأتي بكتاب، ويمكن أن يكون هذا الكتاب قديما أو جديدا.فعقيدة أنه لا بد لكل نبي أن يأتي بكتاب جديد مستقل عقيدة تتعارض صراحة مع القرآن الكريم، بل تتعارض مع تاريخ الأنبياء الطويل.وقوله (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه).ضمير الغائب للفعل يحكم يمكن أن يرجع إلى الله تعالى، أو إلى الرسول أو الكتاب، أي أن الله أو رسوله أو كتابه يزيل الاختلاف بين الناس وهذا يؤكد أن الاختلاف يكون قبل بعث الأنبياء فيزيله الله ورسوله وكتابه.

Page 539

الجزء الثاني ٥٣٦ سورة البقرة وقوله (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) يدعو إلى الشك في أن الاختلاف حصل بعدهم و لم يكن قبلهم ولكن هذا غير صحيح، لأنه بقوله (إلا) الذين أُوتوه) بيّن أن هذا الاختلاف هو عن الكتاب، وهذا ما يحدث حتما بمجيء الأنبياء، وليس هو ذلك الاختلاف الذي يكون قبل الأنبياء في صورة الفرقة والتشتت فالاختلاف الأول هو ما كان بينهم رغم كونهم أمة واحدة، أما هذا الاختلاف فهو اختلافهم عن صدق الكتاب بعد أن قام الدليل عليه.ولو قيل إنه لم يذكر من قبل مثل هذا الاختلاف الثاني..فما معنى قوله (وما اختلف فيه؟ والجواب: هناك سؤال مقدر ينشأ من قوله تعالى (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه..وهو إذا كان الغرض من بعث الأنبياء هو إزالة الاختلافات..فما الفائدة من بعثهم وقد خلقوا الاختلافات بمجيئهم؟ فرد الله تعالى: إن هذا الاختلاف غير الاختلاف السابق.ومثال الاختلاف الأول أن يمرض أحد ولا يكون هناك دواء، ومثال الاختلاف الثاني أن يوجد الدواء للمريض ولكنه لا يتناوله فالاختلاف الأول اختلاف الاضطرار وكان تداركه واجبا.أما هذا الاختلاف فقد حصل في معرفة الحق.الاختلاف الأول كان فسادا في فساد، أما هذا ففيه أمل لهداية الناس، فقد جاءهم الحق، فليقبلوه إذا أرادوا.أما إذا اختلفوا الآن فلا بد أن يكون هذا الاختلاف بسبب عنادهم.والجواب الثاني أن هذا الاختلاف الثاني قد حدث من قبل الذين أوتوا هذا الكتاب، أي لم يقع هذا الاختلاف إلا من قبل الذين أرسل إليهم هذا التعليم أو هذا النبي، أما الآخرون فلا يختلفون في هذا التعليم؛ وفي هذا دليل على أن الاختلاف السابق هذا ليس بسبب مجيء هذا النبي أو الكتاب أو التعليم، لأنه لو الأمر كذلك ما مدح.التعليم أولئك الذين لم يخاطبوا به أو الذين جاءوا بعده.الواقع أننا لو نظرنا لوجدنا أنه بعد مضي عهد الأنبياء يمدح الناس تعليمهم..كما يفعلون اليوم بتعليم المسيح وإبراهيم وموسى وزردشت عليهم السلام، فكل الناس يمدحون هذه التعاليم قائلين ما أروعها! بينما يعارضون الكتاب الموجه إليهم.فثبت أن التعليم أو النبي ليس

Page 540

الجزء الثاني ۵۳۷ سورة البقرة سببًا للاختلاف، وإنما يحدث الاختلاف بعد أن يأتي النبي بتعليم، فيقول الناس: لماذا نطيع هذا الرجل؟ أو كيف نتبع هذه التعاليم وهي تخل براحتنا؟ وقوله تعالى بغيا بينهم يبيّن أيضا أن هذا الاختلاف الثاني يرجع إلى ما يوجد بينهم من اختلاف سابق فهؤلاء يكونون معتادين على البغي والعداوة فيما بينهم قبل مجيء النبي ،أيضا وهذه العادة هي التي تدفعهم إلى معارضة النبي، فيقولون: كيف يمكن أن نتبع هذا الشخص؟ أو لماذا نصدقه ما دام فلان قد صدقه، أو أنه يتبع عقيدة كذا وهي عقيدة أعدائنا.فلن نصدقه حتى لا نهان أمام الأعداء.فمثلا في هذا الزمن رفض الأحناف تصديق سيدنا الإمام المهدي والمسيح الموعود لأنه قد أيد الوهابيين وأهل الحديث في أمر كذا وكذا وكذلك قال الوهابيون: لا نصدق به لأنه قد أيد الأحناف في عقيدة كذا وكذا فسبب اختلافهم مع النبي هو ما يوجد فيهم من عداوة سابقة قبل مجيئه.والحقيقة أنه بمجيء النبي الله النبي تتكون جماعة تؤمن بالله وتعمل بتعاليمه، لذلك فإن مجيئه يؤدي إلى اختلاف في الظاهر ولا شك، ولكن صاحب البصيرة الروحانية يدرك أن قوة الاختلاف تضعف بمجيء النبي..لأن عدد الذين ابتعدوا عن بتواجد جماعة كبيرة تعبد الله وحده.فالاختلاف لا يكون بسبب الكتاب، وإنما يؤدي الاختلاف السابق إلى الاختلاف اللاحق حول الكتاب، أو إنما البغى الموجود يقل وينقص، مع بينهم والذي لا دخل للرسول أو أتباعه فيه - هو الذي يدفعهم إلى الاختلاف هذا الكتاب، ويؤكد أنهم هم الذين يبغون..مع أن الله يهيئ لهم ما فيه مصلحتهم ورقيهم.وبقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) قدم ردا رابعا على هذا الاعتراض وقال : لا يمكن أن يتهم الأنبياء بإثارة الاختلاف ألا ترون أنه لم يكن قبلهم من يقبل الحق، وبمجيئهم وجدت الآن جماعة تقبل الحق؟ فالواقع أن الاختلاف لم يُخلق بمجيئهم.وإنما انمحى بهم.فعلى سبيل المثال: لو كان هناك مائة ألف واقعين في أوهام وظنون عن الله تعالى وقَبل ألف منهم هذا الرسول، وظل

Page 541

الجزء الثاني ٥٣٨ سورة البقرة ألف الآخرون على ما هم عليه، فمعنى ذلك أن الاختلاف قد قل.فقد خرج شخص من وحل الاختلاف الخيالي، وثبتوا على صخرة اليقين والثبوت، بحيث يستطيعون أن يشهدوا جلال الله تعالى.فمعنى هذه العبارة أن الله هدى المؤمنين إلى أمر اختلف فيه الناس.والضمير في كلمة "فيه" في قوله (وما اختلفوا فيه من الحق يرجع إلى الحق.فالحق صفته.والمعنى أن الشيء الذي اختلفوا فيه صفته أنه حق أو من الحق؛ فهدى الله إليه المؤمنين.أو تكون (من) بيانية، والمعنى أن الله هداهم إلى شيء اختلف فيه الناس مع أنه حق.وهناك سؤال: إذا كانوا مؤمنين مسبقا..فما معنى قوله فهدى الله الذين آمنوا)؟ والجواب أن الإنسان في بعض الأحيان ينادي شخصا باسمه الحالي ويشير إلى حاله السابق...كما يقال : هذا الملك عندما وُلد حدث كذا وكذا.فالحديث عنه عندما يصبح ملكا أو يقولون هذا العالم عندما كان يدرس في كان مولودا وقبل أن أنه صار عالما بعد الدراسة، ولم يكن عالما وقت الدراسة في المدرسة.المدرسة، ومع إذا فـ (المؤمنون) هي صفتهم الحالية وردت في ذكر أحداث سابقة تشريفا لهم، وكي لا ينسب إليهم الكفر في أي وقت أو أطلق عليهم هذا الاسم نظرا لقدرات إيمانية خفية فيهم..أي أنهم كانوا يتأهلون للإيمان ويعملون ما يؤدي إليه.فقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه الحق بإذنه يبين أن الناس لما خالفوا تعاليم الله فإنه وفى في حق حفنة من المؤمنين الوعود التي قطعها مع قوم النبي ككل، وحقق لهم كل الانتصارات التي كانت مقدرة للقوم ككل.وإلى ذلك يشير حديث للنبي ﷺ يقول فيه إن لكل شخص بيتين: بيت في الجنة وبيت في جهنم (البخاري: التفسير).وعندما يظلم أحد مؤمنا فإن الله يأخذ بيت الظالم في الجنة ويعطيه للمؤمن، ويعطي الظالم بيت المؤمن في جهنم.وبما أن الكفار خالفوا كتاب الله بدون مبرر، وعرَّضوا المؤمنين إلى أنواع العذاب..أمر الله أن يعطي هذه الحفنة من المسلمين كل النعم المقدّرة للقوم كله.ويحرم القوم منها بسبب ظلمهم.

Page 542

الجزء الثاني ۵۳۹ سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٥) شرح الكلمات: مستهم مسَّ الشيء لَمَسه؛ أفضى إليه بيده من غير حائل (الأقرب).البأساء - الشدة؛ واسم للحرب والمشقة والضر (الأقرب).والضراء - الزمانة والشدة أي المجاعة والقحط والنقص في الأموال والأنفس (الأقرب).التفسير : أشير في هذه الآيات إلى ما قدره الله للمسلمين من ابتلاء ومحن.لقد قال من قبل إنه عندما تسود الضلالة على الدنيا يبعث نبيه، فيخالفه الناس، والآن قال: لا تظنوا أنكم تحققون الرقي من دون محن وابتلاءات، بل أن رقيكم منوط بها، كما كانت الابتلاءات سببًا لرقي من كان قبلكم.فصوّر هذا المشهد وقال: (مستهم البأساء والضراء وزُلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله)..مستهم البأساء والضراء..أي لحقت بهم الخسائر في أموالهم ونفوسهم.والسؤال هنا: هل يأتي على أنبياء الله وعباده الصالحين وقت ييأسون فيه من نصره عز وجل حتى يقولوا متى نصر الله؟ إن الأنبياء وأتباعهم أسمى تماما من اليأس الذي يُتصور هنا في بادئ النظر..كما قال الله تعالى (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) (يوسف:۸۸).الحقيقة أن كلمة متي في اللغة العربية لا تفيد أن قائلها يائس، وإنما تعني أنه يريد أن يُضرب له موعد لأمر هو مهتم به، فلم يقولوا هنا متى نصر الله يأسا وقنوطا، وإنما قد التمسوا بهذه الكلمات موعد نصره.فكأنهم لمزيد من الاطمئنان والسكينة التمسوا من موعدا لنصرته المترقبة، وأرادوا أن يتزل نصره عاجلا.وهذا أسلوب مؤثر للدعاء.ويتضمن إشارة إلى أنهم تعرضوا للابتلاء والمهانة لدرجة أنهم زلزلوا حتى اضطروا للدعاء والابتهال.وهذا هو الغرض الحقيقي للابتلاء..أي أن الله

Page 543

٥٤٠ سورة البقرة الجزء الثاني تتقوى صلة المؤمنين بالله تعالى.فعندما تتحمس قلوبهم للدعاء يتزل الله نصرته من السماء فتنتهي مصاعبهم ومحنهم.ثم إن كلمة "حتى" تأتي بمعنى " كي"، كما ذكره النحويون في كتبهم، فقد قالوا: "حتى" ترادف "كي" التي تأتي لبيان السبب والتعليل؛ وأسلم حتى تدخل الجنة..أي لكي تدخل الجنة (مغني اللبيب).وقد وردت "حتى" بمعنى كي في موضع آخر في القرآن (هم) الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا) (المنافقون: (۸)..أي كي ينفضوا.وبناء على ذلك فتعني الآية أن هذه الزلزلة التي أحدثناها بأيدي الكفار ضد المؤمنين إنما كنا نستهدف بها أن يسألنا عبادنا فنعطيهم.فلكي نجذب أنظارهم إلينا ونظهر قوة فضلنا..ظللنا ساكتين إلى أن تولدت في قلوبهم الرغبة للدعاء والابتهال إلينا وقد فعلنا ذلك كي تزداد قلوبهم حبا لنا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يزداد إيمانهم لرؤية نصرتنا الإعجازية، ولكي يهتدي بذلك الكفار من عنده بقية من التفكر والاعتبار.وعندما يتحقق من هذا الغرض فإننا نقول لهم: ها قد جاء نصرنا.يجب أن نتذكر بأن الله يبتلي الإنسان بقدر طاقته فلا يمكن أن يبتليه بما يفوق قدرته وطاقته.ولذلك قال الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) يريد (البقرة:٢٨٧)..إنه يحمل الإنسان ما يستطيع تحمله، اللهم إلا إذا كان الله إهلاك قوم.أما الابتلاء الذي يكون لتحقيق الازدهار لقوم فلا يمكن أن يفوق قدرتهم، وإن كان المؤمن يتوهم أنه فوق قدرته، ويتبين خطأه فيما بعد، وهكذا لا ينفك مستعدا لتحمل اختبارات أعظم.إذن، فكلما تشجع على تحمل الابتلاءات تقدم.وهكذا فإنه يعرف قوة إيمانه ويشكر ربه بدلا من أن يشكو إليه، وكذلك يجد الفرصة ليسبق الآخرين في مجال التضحيات فيرتقي ويزدهر.فللاختبارات فائدتان: الأولى أن يعرف بها الإنسان قوة إيمانه، ويتبين إلى أي مدى يستطيع تحمل الأذى في سبيل الله، والثانية - أن يجد الجرأة للتقدم إلى الأمام.

Page 544

الجزء الثاني ٥٤١ سورة البقرة ومرور المؤمنين بالابتلاء ضروري لدرجة أنه لم تكن هناك جماعة نبي إلا ومرت بفترة من الابتلاءات.لذلك يقول الله تعالى : لا تظنوا أنكم تنالون -مجانا- جنتى التي لا يمكنكم تصور سعتها، أو تحققون الإنجازات والانتصارات المادية التي وعدتم بها من دون أي تضحية وبدون أن تمروا بالابتلاءات التي مر بها السابقون.كلا، لا بد أن تمروا بالمحن لتحقيق الفلاح والنجاح.لقد تعرضوا للأذى البدني والخسارة المالية، واضطروا للتخلي عن ممتلكاتهم، وتركوا أهليهم وأقاربهم، وذاقوا ألم الجوع والضرب والقتل وزلزلوا بكل الطرق، وكما يميل البناء يمينا ويسارا بتأثير الزلزال، كذلك ظن الراعون أنهم على وشك السقوط، ثم ازدادت المحن والشدائد حتى قال العدو أنهم قد سقطوا فعلا..عندئذ توسّل الرسل والمؤمنون وابتهلوا إلى الله: متى نصر الله؟ يا رب، لقد وصل الابتلاء لدرجة أننا نتوسل إليك أن تأتي لنصرتنا وتحقق لنا الفوز.الله غير صحيح، فالظن بأن الرسل والمؤمنين تشككوا في نصر لأنه أولا-قال (مستهم الضراء)..أي أنهم بالفعل وقعوا في الشدائد وتعرضوا للمشاكل؛ ولكن الشدائد لم تؤثر في قلوبهم، وإنما كان تأثيرها سطحيا، وكانوا رغم تعرضهم للشدائد ثابتين رابطي الجأش..فكيف يمكن أن ييأسوا؟ وثانيا - يكون السؤال أحيانا للتوسل يسأل الإنسان متى تفعل ذلك؟ ولا يعني يئس منه، وإنما يريد القول: افعل من فضلك.فمثلا لو سأل أحد الحاكم: متى يأتي أنه قد يئس من مجيء دوره، وإنما هو يقول: يا ليتك تدعوني دوري؟ فلا يعني أيضا ! عد يؤمن بو أنه أنا في غزوة بدر دعا النبي : (اللهم إن تملك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا) (مسند أحمد، ج۱، ص۳۰).ولا يعني ذلك أن الرسول ﷺ لم يكن الله تعالى معاذ الله، وإنما دعا بهذا الأسلوب ليستثير الغيرة الإلهية.وكذلك عندما عُلِّق على الصليب المسيح ابن مريم عليه السلام قال: إلهي..إلهي، لماذا تركتني؟ (متى (٤٦:٢٨.ولم يكن المسيح يعني بذلك أن الله تركه في هذا الوقت العصيب فعلا، وإنما كان يقصد : إن قلبي قلق..فتعال لنجدتي بسرعة.

Page 545

الجزء الثاني ٥٤٢ سورة البقرة فمثل هذا الدعاء لا يعني أن الداعي لا يؤمن باستجابة الدعاء وقد يئس منه، وإنما هكذا استثارة للغيرة الإلهية.كذلك المؤمن عندما يقول: "متى نصر الله " فإنما يدعو يهاجمهم.يرجوه ليسرع إلى نصرته.فيقول الله له: ها قد جاءتك نصرتي.فانظروا عندما ذهب الرسول الله إلى فتح مكة مع جيشه لم يكن يخطر ببال أهل مكة أنه سوف كان أبو سفيان قد رجع لتوه من المدينة بعد مقابلة النبي، وعندما رأى الناس جيش النبي ﷺ قالوا: هذا جيش محمد.فقال أبو سفيان: هل جننتم؟ إنني قادم من المدينة و لم يكن هناك أي جيش.ولكن بعد قليل جاء المسلمون وأسروه (البخاري، المغازي، وفي اليوم التالي تم فتح مكة.إن نصر الله هكذا يأتي فجأة ويحقق النجاح للمؤمنين.لقد تعرض المسيحيون الأوائل لمصاعب شديدة على مدى ثلاثة قرون، ولكنهم سمعوا ذات يوم أن الملك الروماني قد تنصر وأعلن أن المسيحية هي الدين الرسمي للبلد.وهكذا بكلمة واحدة انتهت سلسلة مصائبهم.فقوله تعالى (متى نصر الله) يعني أن المؤمنين يدعون: إلهنا.لقد زادت وطأة الابتلاءات علينا، فلتأت ،نصرتك، ويرد الله عليهم ألا إن نصر الله قريب)..أي ما دامت هذه الابتلاءات تأتيكم لتزدهروا وترتقوا، فلا تخافوا.إذا كان في نفوسكم عيوب ترون أن الله يعاقبكم عليها فلا شك أن نصرته لن تأتيكم.أما إذا كنتم مطهرين من العيوب، أقوياء الإيمان، سائرين على طريق التقوى، متحررين من وساوس الشيطان..فلا خطر ولا خوف عليكم من الابتلاءات.الواقع أن المؤمن الصادق عندما يمر بالمحن ابتلاء من الله فإنه على يقين من أن نصر الله قادم وراء الابتلاء.وقد عبر مولانا الرومي عن هذا المعنى في بيت شعر له بالفارسية معناه عندما يبتلى الله قوما بابتلاء يجعل تحته كترا من النعم الخفية مثنوي معنوي للرومي ذكر كرامات شيبان الراعي ص ۱۱۳)."I

Page 546

٥٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني فالابتلاء ليس فيه أي خطر، وإنما معناه أن الله سوف يحقق للمبتلي ازدهارا ورقيا.إنما الخوف يكون من النفس.فيجب أن يحاسب الإنسان ويراقب نفسه، ويرى هل فيه ما يؤدي به إلى الهلاك.إذا كان خاليا من الوساوس الشيطانية، قوي الإيمان مليئا قلبه بالشكر والامتنان الله تعالى..فليفرح عند نزول الابتلاءات، لأن الابتلاء في مثل هذا الحال بشارة بإنعامات عظيمة جدا.أما إذا أحاطت الوساوس بالإنسان عند الابتلاء، وشعر بضعف في الإيمان، فليتأكد أن هذا الابتلاء ليس باعث خير ورقي له، وإنما هو سبب شر وهلاك له.فالإيمان الحقيقي والأصيل هو ذلك الذي يناله الإنسان بعد المرور من بوتقة الابتلاءات..لأنه ينال به حياة أبدية.يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرِ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بهِ عَلِيمٌ (٢١٦) التفسير: لما بين الله في الآيات السابقة أن الأمم الماضية أيضا مروا بأنواع من الابتلاءات في الأموال والأرواح، وكانت سببا في رقيهم القومي، كما هو بين من قوله (مستهم البأساء والضراء)..وسمع الصحابة ذلك اشتاقت نفوسهم إلى التضحيات، ودفعهم ولَعُهم بالترقيات الروحانية لسؤال النبي : يا رسول الله، إذا كان الرقي القومي يتطلب تضحيات مالية فدلنا على ما ننفق حتى لا نتخلف عن أحد في ميدان العشق هذا.والسؤال التالي المتوقع طبعا يكون عن تضحية النفس، وقد رُدّ عليه في الآية التالية (كتب عليكم القتال..مما يدل على ما يتميز به القرآن الكريم من ترتيب قد بلغ الغاية في السمو والروعة.يعترض البعض على هذه الآية ويقولون إن الجواب هنا لا يتناسب مع السؤال.لقد سُئل ماذا ينفقون، فقيل لهم أنفقوا أموالكم على كيت وكيت.

Page 547

الجزء الثاني ٥٤٤ سورة البقرة هذا الاعتراض ناجم عن قلة التدبر، لأنه ما دام قد قال الله تعالى: (ما أنفقتم من خير) فقد رد على السؤال وقال : أولا ليس هناك حدود للإنفاق، أنفقوا بحسب توفيقكم.وثانيا كل ما تنفقون يجب أن يكون من مال طيب.فالذين يكسبون الحرام ثم ينفقون منه في سبيل الله تعالى ويحسبون أنهم قد كفروا عن المهم، فهم على خطأ، لأن الله تعالى إنما يتقبل ما هو خير.وثالثا يجب ألا يكون حلالا فقط بل وطيبا أيضا.أي لا يكون ثقيلا على نفس من يتلقاه منكم.ولو قيل هنا: الخير يعني المال، فكيف قلتم إن معناه المال الطيب الحسن؟ والجواب أن الخير يعني في الحقيقة أفضل الشيء.المال إنما يكون خيرًا إذا اكتسب من طريق طيب.فقد قال الإمام الراغب: قال بعض العلماء لا يسمّى المال خيرا حتى يكون كثيرا ومن مصدر طيب (المفردات).فبقوله ما أنفقتم من خير أشار القرآن الكريم باليقين إلى أن أنفقوا في سبيل الله تعالى من طيب أموالكم.فإذا قيل: لو أن شخصا اكتسب مالا من حرام وتصدق من طيب ماله الذي اكتسبه من حلال، أفلا يندرج تحت هذا الحكم؟ فالجواب أن القليل من النجاسة ينجس الشيء الكثير الطيب، فمهما كان كسب الراشي والسارق وغاصب الأموال من الحرام قليلا فإن هذا القليل ينجس ماله كله ويفسده، ولن يكون عاملا بهذا الأمر القرآني 6.کمالات وإذن فقد تناولت الآية جوابا كاملا على ما سئل بل زادت وبينت مصارف هذا المال أيضا.فكأن الآية أشارت إلى أن إنفاق المال ليس صعبا بقدر ما يكون الإنفاق في محله صعبا.فقال: أنفقوا، ولكن بحذر، وآتوه المستحقين.إنه من القرآن الكريم أنه بكلمات وجيزة يبيّن مواضيع واسعة.انظروا هنا أيضا كيف أنه بكلمات معدودة رد على السؤال، كما أضاف أن أنْفِقوا من المال الحلال، ويجب أن يكون هذا الحلال طيبا.فمثلا لو تصدق أحد بحذاء ممزق لفقير لا يستفيد به، فصحيح أنه أنفق من مال حلال ولكنه ليس طيبا، لأن آخذه لن ينتفع به.ولو جاء سائل يطلب طعاما، ولكن المتصدق لا يعطيه من الطعام الجاهز في البيت وإنما

Page 548

٥٤٥ سورة البقرة الجزء الثاني يعطيه طحينا.فهو ينفق من حلال ماله، ولكنه لا يسد حاجة السائل، فهو ليس طيبا، وإنما الإنفاق الطيب أن يكتفي بطعام أقل ويعطي السائل من طعامه حتى يتناوله فورا ويسد جوعه ثم زاد على ذلك وقال إن الأنسب هو الإنفاق على فلان وفلان.سبحان الله ! ما أروع هذا الكلام إعجازا! وهناك أمثلة أخرى في القرآن الكريم يرد فيها على سؤال السائل.ويزيد الرد موضوعا إضافيا.وكان الرسول الله يتكلم أيضا بمثل هذا الكلام.سأله أحدهم مرة عن ماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته الترمذي، الطهارة).فبين أن ماء البحر طاهر وأن ميتته حلال..لا ضرورة لذبح الحيوانات البحرية كالأسماك.فانظروا كيف رد على السؤال وأضاف موضوعا زائدا.ثم يجب أن نرى ما إذا كان هذا السؤال عن أقسام الصدقة أيضا..أي أنهم يسألون في أي مناسبة ننفق؟ فأرى أن هذا هو المراد على الأغلب.لأن السؤال عن كمية الصدقة يأتي فيما بعد.والسؤال بكلمة "ماذا يكون أحيانا عن عين الشيء وأحيانا عن صفاته.يقول النحويون إن السؤال إذا كان عن الصفات فلا بد أن يكون عن صفات العاقل فقط.ولكن لا مبرر لهذا التحديد وأرى أنهم لم يسألوا هنا عن الأشياء التي ينفقونها، وإنما سألوا عن مواصفات الصدقة فأجاب الله أنه ليس هناك شيء معين تتصدقون به، بل أنفقوا كل شيء خير..أي من مال طيب، وبحسب قدراتكم.وزاد على ذلك أن ما تنفقونه بحسب إيمانكم وظروفكم يجب أن ينفق في جهات كذا وكذا.ثم أضاف (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم..أي للتقرب إلى الله لا تحصروا أنفسكم في عمل حسنة واحدة، وإنما عليكم أن تعملوا كل الخيرات، وتفتحوا عليكم باب كل خير وبركة، فأمامكم حياة لا نهاية لها، تقوم فيها أراوحكم برحلة التقرب إلى الله، سالكة دقائق الطرق.فلا تكتفوا بحسنة واحدة أو بعض الحسنات، بل يجب عليكم أن تتنافسوا فيها كلها موقنين أن الله عليم يرى كل حركة وسكون منكم، وسوف يجازيكم أحسن الجزاء في الدنيا والآخرة.

Page 549

الجزء الثاني ٥٤٦ سورة البقرة كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (۲۱۷) التفسير: لا تعني هذه الآية أن الصحابة كانوا يكرهون القتال حبنا منهم معاذ الله، وإنما سبب كرههم للحرب أن المؤمن يكون مسالما، ويسعى كل السعي ليتجنب الحرب، ويحسم الأمر في نطاق السلم والصلح؛ وإذا حارب العدو فمضطرا.كان الصحابة رضوان الله عليهم مسالمين، وكانوا يريدون القضاء على هذه الفتنة بدون قتل ولا إراقة دماء إن أمكن ؛ ولكنهم اضطروا للحروب.فليس في ذلك ذم ولا لوم، وإنما هو مديح وثناء عليهم فكراهيتهم للحرب منقبة لهم، إذ إنهم رغم الشرور والفتن من قبل الأعداء يريدون حسم الأمر بالصلح، ويرونه أفضل.يقول الله تعالى: إنكم لا تحبون القتال، مع أن العدو يعتدي عليكم ويؤذيكم، ولكنني أعلم أن هذا العدو لن يرتدع ويكفّ عن هذه الفتنة بدون أن يكون بينكم وبينه قتال.فالوسيلة الوحيدة لإصلاحه هي الحرب، وأن يعاقب على ما فعل.لقد انخدع المسيحيون بهذه الآية وقالوا: لما كان المسلمون يخافون الحرب فلا شك أنهم كانوا جبناء (تفسير القرآن ،لويري تحت هذه الآية.ولكن هؤلاء النصارى الذين يرمون الصحابة بالجبن لا ينظرون إلى شجاعة الحواريين عندهم! أي شجاعة و بسالة أبدوا عندما تم القبض على المسيح! الإنجيل شاهد على أنه لم يكن أحد من هؤلاء التلاميذ لينصر المسيح بشجاعة، بل إن واحدا منهم أنكر المسيح ثلاث مرات، وأما الآخرون فخذلوه ساعة العسرة.هذه فالنصارى الذين يقدسون الحواريين الذين هذا هو مبلغ إيمانهم وشجاعتهم إذا طعنوا في الصحابة أثاروا العجب.دأبهم غريب عجيب.إذا ذكر خروج الصحابة للحرب يعترضون عليهم.وإذا قيل لم يكن الصحابة يريدون الخروج يعترضون عليهم أيضا.وإذا كان هناك ذكر للغنائم قالوا هم طامعون يقاتلون لسلب أموال الآخرين.أما هنا فيصمونهم بالجبن والخوف من الحرب.إذا كان الصحابة يحاربون رغبة في سلب الأموال

Page 550

٥٤٧ سورة البقرة الجزء الثاني ونهب الناس..فلماذا يكرهون القتال؟ وإذا كانوا يكرهون القتال..فأين رغبتهم في إراقة الدماء؟ الحقيقة أن الإنسان عندما يُلبس الكلام تفسيرا خاطئا فإنه يقع في وحل من التناقض هكذا.فليس المعنى الصحيح إلا ما ذهبتُ إليه من أن المؤمن يكون دائما مسالما، وإذا أجبر على الحرب يحارب، وإلا فإنه يؤثر ألا تضيع الأرواح وتزهق النفوس.أن قوله (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم).الحقيقة أن علم الإنسان وعقله محدودان جدا.ولذلك أحيانا يخطئ الإنسان ويرى الشيء الضار نافعا وأحيانا يرى الشيء النافع ضارا.ويرجع السبب في كلا الحالين إلى المحبة الزائدة أو الكراهية الشديدة..أي أحيانا لا يستطيع الإنسان بسبب حبه المفرط لشيء رؤية ما فيه من أضرار، وأحيانا أخرى لا يستطيع رؤية ما في الشيء من منافع بسبب كراهيته المفرطة له.فلا يستطيع أن يأخذ قرارا يقينيا عن شيء هل هو نافع له أم ضار.وإلى هذه الحالة في الإنسان يشير الله تعالى ويقول: (عسى تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم)..أي أنكم أحيانا تجمعون الأسباب للانتفاع من شيء، ولكن تكون النتيجة فسادا، والسبب أن هناك بعض الأسباب التي كان من الممكن أن تأتي بنتيجة صالحة..ولكنها اختفت عن أنظاركم.وما دام هذا هو حال الإنسان، فلا يستطيع في بعض الأحيان أن يجني من الشيء النتائج المرجوة، وإنما يرى النتائج المعاكسة..فماذا يفعل؟ علاج ذلك أن يخر بين يدي الله ويتوسل إليه في ضراعة وتواضع: اهدنا الصراط المستقيم)..يا رب، دلني على طريق صحيح سوي في كل أمر، سواء كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا..حتى أتجنب الخطأ.يجب ألا يعتمد الإنسان على حبه أو كراهيته للشيء وإنما يتسامى عن عواطف الحب والكراهية، وينظر إلى الله تعالى فقط، ويتوسل ويدعوه أن يهديه إلى طريق صحيح سليم، وأن يجعل نيته تابعة لمشيئته الإلهية.وعندئذ سوف ينال النجاح تلو النجاح، وسوف تنفتح أمامه أبواب الخير والبركة.

Page 551

٥٤٨ الجزء الثاني سورة البقرة ثم قال والله يعلم وأنتم لا تعلمون الله عليم بأحوال وأمور لا تعرفونها.تظنون أن قتال الكفار يتنافى مع الرحمة ولكن أحيانا يتحتم إنزال العقوبة بالشرير، أما إذا عُفيَ عنه تضرر وأضر بالآخرين وما دام هؤلاء لن يرتدعوا عن الفساد بدون الحرب، فيجب أن تتصدوا لهم.يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالِ فِيهِ قُلْ قِتَالُ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَةٌ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِحْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِه فَيَمُتْ وَهوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (۲۱۸) التفسير : يقول الله تعالى : يسألك هؤلاء عن القتال في الأشهر الحرم.وهي المحرم، ورجب، وذو القعدة وذو الحجة فما هي خلفية هذا السؤال.عندما هاجر النبي الله من مكة إلى المدينة لم يهدأ غضب الكفار، وإنما بدؤوا يهددون أهل المدينة بأنكم أويتم أعداءنا، فليس لكم إلا أن تقتلوهم جميعا أو تطردوهم من المدينة، وإلا فقَسَما سوف نهاجمكم ونقتلكم ونسبي نساءكم وذراريكم.ولم يكتفوا بالتهديد وإنما أخذوا يعدون عدتهم للهجوم (أبو داود، الخراج).أما الرسول ﷺ فقد كان يبيت الليالي ساهرا يترقب، وكان الصحابة يقضون الليالي والسلاح في أيديهم، حتى لا يفاجئهم هجوم العدو في ظلمة الليل، ونظرا لذلك شرع النبي ﷺ يعقد الاتفاقيات مع القبائل المجاورة للمدينة.كما أنه بناء على أخبار استعداد قريش لمهاجمة المدينة بعث اثني عشر من صحابته بقيادة عبد الله بن جحش في السنة الثانية الهجرية إلى مكان يُدعى نخلة، وأعطاهم رسالة وأمرهم أن يفتحوها ويقرؤوها بعد يومين.ولما فتح الرسالة وجد فيها أمر النبي ﷺ

Page 552

مع ٥٤٩ سورة البقرة الجزء الثاني أن أقيموا في نخلة وأفيدونا بإخبار قريش وتصادف أن قافلة تجارية لقريش قادمة أموال التجارة من الشام مرت بهؤلاء فقام عبد الله بن جحش باجتهاد شخصي منه - وشن الهجوم على القافلة، فقتل من الكفار عمرو بن الحضرمي وأسر اثنين منهم واستولى المسلمون على الغنائم، وعندما رجعوا إلى المدينة، وعرف النبي منهم بما جرى سخط عليهم سخطا شديدا وقال: لم أسمح لكم بقتالهم، ورفض قبول الغنائم منهم تاريخ الخميس، غزوة بدر الأولى).شهر وذكر ابن جرير رواية عن ابن عباس تقول إن عبد الله بن جحش وأصحابه ظنوا خطأ أنهم لا يزالون في الثلاثين من جمادى الثانية.مع أن كان قد بدأ.رجب فأثار المشركون ضجة بأن المسلمين لا يحترمون الشهور المحرمة التي يمتنع فيها القتال (تفسير الطبري).فردّ الله هنا على اعتراض الكفار وقال: صحيح أن القتال في هذه الشهور المحرمة أمر كريه حقا وإثم عند الله، ولكن الأشد من ذلك كراهة وإنما هو أن يصدّ أحد غيره عن صراط الله تعالى ويرفض وحدانية الله، ويهتك حرمة المسجد الحرام، ويخرج أهله منه دون جريمة إلا أن يقولوا ربنا الله الواحد الأحد.تفكرون في أمر ،واحد ولا تفكرون فيما تأتونه من جرائم كبيرة من كفر بالله ورسوله، وانتهاك حرمة المسجد الحرام وإخراج أهله منه بدون جريمة.وما دمتم ترتكبون هذه الأمور الشنيعة القبيحة، فكيف تلومون المسلمين وتعترضون عليهم؟ إنهم وقعوا في خطأ سهوا ونسيانا ولكن ما تفعلونه عمد مقصود.جر المسجد قوله (والمسجد الحرام.قال العلامة أبو البقاء إنه بدون تكرار حرف الجر هنا لا يمكن "المسجد الحرام"، لذلك يرى تقدير محذوف هنا هو وصد عن الحرام.وذكر صاحب الكشاف أيضا هذا التقدير (الإملاء، الكشاف).ولكن بعضهم قالوا المسجد الحرام معطوف على (به) أي كفر به وبالمسجد الحرام (روح المعاني).أما العطف بدون إعادة حرف الجر فيجوز، ومن أمثلة ذلك قول العرب: ما فيها غيره وفرسه."..أي ليس في الدار غيره وغير فرسه.فكلمة (فرسه) هنا معطوف بدون حرف جر ظاهري.

Page 553

٥٥٠ سورة البقرة الجزء الثاني قوله تعالى والفتنة أكبر من القتل).الفتنة المذكورة هي نفس الفتنة التي أشير إليها في قوله تعالى (ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) فقد أطلق كلمة الفتنة هنا على ما يقوم به الكفار من أعمال للضغط على المسلمين كي يرتدوا، واعتبر هذه العملية أشد وأخطر من القتل.يعني أن الكفار لا يستطيعون ردكم إلى الكفر، ولكن الغرض الحقيقي من محاربتهم إياكم هو ردكم عن دينكم.وفعلا نرى أن الله تعالى خيب نوايا الكفار هذه فلم يتمكنوا من التغلب على المسلمين.وإذا وقع أحد من المسلمين في يد الكفار بذلوا كل جهودهم ليردوه عن دينه.وما حدث مع بلال وأبي جندل وياسر يلقي ضوءا كافيا على هذه الحقيقة (السيرة النبوية لابن هشام عن هذه الأنشطة الجبرية لإخراج المسلمين عن دينهم قال الله تعالى والفتنة أكبر من القتل..أي أن إيذاء أحد بسبب دينه أخطر وأشد إثما عند الله الله من القتل والحرب.ثم يقول (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة.يعترض البعض على جملة (حبطت أعمالهم) هنا قائلا: ما دام قد قام بعمل فكيف يضيع عمله؟(تفسير الرازي).الحقيقة أنهم أثاروا هذا الاعتراض لأنهم لم يدركوا معنى (حبطت).وهناك آية أخرى توضح معنى (حبطت) وهي (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه) (فاطر: (١١)..أي أن من طلب العزة فعليه أن يطيع الله ويصلح عمله، لأن كل أنواع العزة عند الله تعالى، فإليه تصعد الأرواح الطاهرة، ويرفعها إليه العمل الذي يتم بحسب الإيمان.تبين من هذه الآية أنها لا تحظى بقبول من الله تعالى ولا تقرب الإنسان إليه..أن ضياع الأعمال يعني 6 ف ( حبطت أعمالهم) تعني أنهم لم يقوموا بهذه الأعمال لوجه الله، لذلك لن تحظى بالقبول لديه، ولن تصعد أرواحهم إلى السماء.

Page 554

الجزء الثاني ٥٥١ سورة البقرة أنه كذلك تعني لو وفق أحد للقيام بخدمات عظيمة للإسلام بعد الإيمان ، ، ولكنه مات على الكفر فإن خدماته هذه تضيع، لأنه أثبت بكفره أن خدماته كانت باطلة، فلن تنفعه أعماله هذه في الآخرة لأن عاقبته كانت سيئة.(وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)..أولئك الذين سوف يُلقون في جهنم، لأنهم أوقدوا في الدنيا نارا للفتنة والفساد بارتدادهم.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۲۱۹) التفسير في الآية السابقة ذكر الله الذين يموتون وهم في حال الارتداد، وبين أنهم لن يفلحوا في مساعيهم نحو الإسلام.والآن ذكر أولئك الذين وفقوا للتوبة بعد الارتداد وعادوا للإسلام مرة أخرى.ولما كانت وصمة الارتداد قبيحة للغاية، لذلك لم يشترط الحق تبارك وتعالى للتوبة الإيمان ،وحده بل قال: إنما نقبل التوبة فقط ممن يؤمن من جديد ثم يهاجر..أي يترك العادات القبيحة من الجبن وإخفاء الإيمان، أو يترك الأماكن التي يُمارس فيها الجبر في الدين، ثم يصبح في سبيل الله سيفا مسلولا، ويقوم بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.فإذا فعل ذلك وجد الله غفورا رحيما.بعد وفاة سيدنا أبي بكر جاء سيدنا عمر-رضي الله عنهما - يذكر التاريخ أنه للحج في مكة، وبعد أداء فريضة الحج جلس يستقبل الناس.وكان منهم جماعة من الشباب من أبناء أسياد مكة وكبراء قريش، فرحب بهم أمير المؤمنين بالتوقير والاحترام، وتحدث معهم في شتى الأمور..حتى دخل عبد من أصحاب النبي وكان آباء هؤلاء الشباب في بداية الإسلام يضربونه بنعالهم ويجرونه في الطرقات لإسلامه حتى يدمونه.فعندما دخل هذا الصحابي قال عمر للشباب: تنحوا قليلا، وأفسحوا المكان لهذا فهو صحابي للرسول.فتأخروا واقترب الصحابي من عمر

Page 555

٥٥٢ سورة البقرة الجزء الثاني وأخذ يتحدث معه، وجاء صحابي آخر، فأمر سيدنا عمر أن يتنحوا ويفسحوا له فهو من أصحاب النبي.وتكرر هذا الأمر إلى أن اضطر هؤلاء الشباب للجلوس في مكان النعال فقاموا وخرجوا من المجلس وقد اغرورقت عيونهم بالدموع.قال بعضهم لبعض: هل يمكن أن نتصور رؤية يوم نهان فيه هكذا؟ لقد قدم علينا الذين كانوا يفتخرون بحمل نعالنا وأجلسوا أمامنا ودفعوا بنا إلى الخلف حتى جلسنا في مكان النعال كأنما عزّ الأذلاء وذل الأعزاء.خرجت هذه الكلمات من أفواههم رغم كونهم مؤمنين..بسبب الغضب وحماس الشباب.ولكن شابا منهم، كان أقواهم إيمانا فقال: أيها الإخوة، صدقتم، ولكن من هو المسؤول عن ذلك؟ من الذي جعل آباءنا يرفضون محمدا لله ويعارضونه ؟ إن آباءنا عادوه، ولذلك رأينا هذا اليوم المشئوم..إذ اضطررنا للتأخر في المجلس.أما الذين خدموا النبي وضحوا لأجله بأرواحهم وأموالهم..فقد قتل بعضهم، ولكن الباقين منهم لهم كل الحق في التكريم والتبجيل والجلوس في المقدمة قبلنا.قالوا: صدقت، ولكن هل هناك سبيل لمحو هذه الوصمة من الذلة والعار ؟ هل هناك تضحية تكون كفارة لذنوبنا؟ فقال الشاب: تعالوا نذهب إلى أمير المؤمنين عمر ونسأله العلاج لذلك.فذهبوا إلى بيت عمر وطرقوا الباب، وكان المجلس قد انتهى، فدعاهم عمر وقال: ما وراءكم؟ قالوا: ألم تر كيف عوملنا اليوم؟ قال عمر : كنت معذورا، لأن هؤلاء الذين جاءوني عندئذ كانوا من أصحاب النبي ، وكان من واجبي أن أعزهم وأكرمهم.قالوا: نحن ندرك ذلك جيدا، ونعرف أن آباءنا قد جلبوا على أنفسهم ذلة وعارا بمخالفتهم النبي ﷺ ، ولكن هل من سبيل لمحو هذه الوصمة من جباهنا؟ ولما كان سيدنا عمر من أسرة شهيرة بمعرفة أنساب العرب، ويعرف ما كان يتمتع به آباء هؤلاء الشباب من عز وجاه دنيوي، حتى أن هؤلاء الكبار لو أعطوا الأمان لأحد المسلمين في زمن ضعف الإسلام لم يجرؤ أحد على إيذاء هذا المسلم.جرى مسلسل هذه الأحداث أمام سيدنا عمر حلقة حلقة، وأخذته الرقة بتذكرها، ولم يستطع الكلام فأشار بيده إلى الشمال حيث كانت الحرب دائرة بين المسلمين

Page 556

٥٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني والمسيحيين في الشام ليقول لهم: إن علاجكم هناك.فهذه الوصمة لن تزول إلا إذا ذهبتم إلى هناك واشتركتم في القتال وضحيتم بأنفسكم..وعندئذ سوف ينسى الناس تلقائيا تلك الأمور المؤلمة.فخرجوا من فورهم، وركبوا الإبل إلى الشام.وكان عددهم سبعة، واشتركوا في الجهاد للتخلص من وصمة العار القديمة.ويذكر التاريخ أنه لم يرجع أحد منهم إلى مكة وإنما استشهدوا جميعا في هذه الحرب (سيرة عمر للجوزي، باب٣٨).فكما نال هؤلاء الشباب رضوان الله بالتضحية بنفوسهم..كذلك إنما تُقبل التوبة حقا بعد الارتداد ممن يعلن الإيمان بلسانه ثم يقوم بالهجرة..ظاهرة أو معنوية، ثم يجاهد الكفار في سبيل الله.هذه هي الوسائل التي تجعله موردا لرحمة الله تعالى.يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْحَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (۲۲۰) شرح الكلمات : الخمر - اسم كل مسكر خامر العقل (الأقرب).الميسر اللعب بالقداح أو النرد أو كل قمار؛ الجزور التي كانوا يتقامرون عليها (الأقرب).الإثم الأفعال المبطئة عن الخير؛ العقوبة والأذى، من قبيل إطلاق اسم الشيء على نتيجته..لأن القاعدة أنهم يأتون بالسبب بدل المسبب أحيانا.وقد ورد هذا المعنى في قوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم حرم الله إلا بالحق ولا يزنون.ومن يفعل ذلك يلق أثاما) (الفرقان : ٦٩)، فأثاما) هنا بمعنى العقوبة.

Page 557

٥٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني العفو - خيار الشيء وأجوده؛ ما يفضل عن النفقة ولا عسر على صاحبه في إعطائه؛ المال الذي يُعطى بدون سؤال.يقال: أعطيته عفوا أو أعطيته عفو المال..أي بغير مسألة (الأقرب).التفسير : يقول الله: يسألك الناس هل شرب الخمر ولعب القمار جائز أم لا؟ فقل لهم للخمر والميسر بعض الفوائد، وكذلك فيهما الأضرار ، ولكن أضرارهما أكثر من منافعهما.ما ألطف هذا الجواب من الله تعالى، لم يصُدَّهم فور السؤال، و لم يقل: لا تشربوا الخمر ولا تلعبوا القمار، بل قال فيهما النفع، ولكن نفعهما أقل من ضررهما، وعليكم أن تفكروا الآن: ماذا تختارون؟ وفي هذا الجواب مبدأ هام، وهو أنكم إذا رأيتم الشيء منافعه أكثر من أضراره فاستعملوه، أما إذا وجدتم أضراره أكثر من منافعه فلا تختاروه، خاصة العمل الذي فيه إثم كبير والإثم هو الذنب ويعني أيضا الحرمان من الحسنات.وكأن الله قال: لا تفعلوا عملا تكونون به آثمين أو يحرمكم من الحسنات.وإن كان به في الظاهر بعض المنافع.ثم.علمنا الإسلام بقوله (منافع للناس أنه مهما كان الشيء معيبا وفاسدا في ظاهره إلا أنه من واجبكم ألا ترفضوا وجود بعض المزايا والمنافع فيه.فما دامت للأشياء مثل الخمر والميسر أيضا بعض الفوائد..فكيف يمكن أن تعتبروا الأشياء الأخرى التي تبدو ضارة في الظاهر خالية من بعض المنافع تماما؟ لا شك أن من واجبكم أن تجنبوا أنفسكم وأجيالكم أضراره، ولكن لا تكونوا ضعفاء البصيرة، فلا تروا في الشيء إلا جانبه المظلم فقط بل عليكم أن تروا الجانبين، المظلم والمضيء، ولا تبخلوا بالاعتراف بالحسن والجمال في الشيء.

Page 558

الجزء الثاني 000 سورة البقرة وقوله (يسألونك عن الخمر والميس) يبيّن أيضا أن المسلمين كانوا يأتون النبي ويسألونه في هذا الصدد، مع أن العرب كانوا معتادين على شرب الخمر حتى أنهم كانوا يتفاخرون بذلك.يقول أحد شعرائهم: ألا هبي بصَحْنك فاصبحينا ولا تُبقي حمور الأندرينا أي انهضي أيتها الحبيبة واسقينا خمر الصباح بكأسك الكبيرة، واسقينا كثيرا، ولا تدخري الخمر الجيدة التي من بلاد الأندرين في الشام (معلقة عمرو بن كلثوم).كذلك كانوا يشربون الخمر في أيام الحرب بصفة خاصة حتى يقاتلوا بدون مبالاة بالعواقب، ولا يفكروا في مصيرهم.وعلى الرغم من العيش في مثل هذه البيئة..فإن الصحابة كانوا يأتون النبى ويقولون يا رسول الله ما حكم الخمر والميسر عند الله تعالى.وهذا يدل على أن الخمر والميسر لم يكونا قد حرما إلى ذلك الوقت، إلا أنهم كانوا بفضل صحبتهم للنبي الله لا يشعرون أن هذه الأشياء تحول دون القرب من الله؛ ويجب أن يتزل الحكم في هذا الصدد واضحا من عند الله تعالى.فهذا السؤال في حد ذاته يشكل دليلا عظيما على ما كان يتمتع به صحابة النبي من طهارة القلب وسمو الأخلاق وحسن السيرة.لقد بذلت جهود جبارة لصرف الناس عن تعاطي الخمر ولعب الميسر، ولكن لم يفلح في منعهم منهما دين سوى الإسلام.وقد حقق في هذا نجاحا باهرا.وقبل إبراز محاسن التعليم الإسلامي وحقيقته في صدد الخمر نذكر هنا ما ذكرته الأديان الأخرى.ونبدأ بدين يدعي أنه أقدم الأديان..دين الفيدا الهندوسي.لا حاجة لنا بالبحث الكثير لأن هذا الدين يتأسس على ما جاء في كتب الفيدا، وقد ألقت على الموضوع ضوءا كافيا.وبإلقاء نظرة عابرة على كتب الفيدا الأربعة، وخاصة (رج فيد) وهو أهمها..نجد أن الخمر مسموح بها..بل من الضروري استخدامها في بعض المناسبات لكسب الثواب وكان الصلحاء عند الهندوس يعتبرون الخمر شيئا

Page 559

سورة البقرة الجزء الثاني مقدسا وطاهرا.وما ورد في الفيدا من فقرات يصور لنا مشهدا كاملا للمساعي الجادة التي يبذلها العابد الهندوسي لاجتذاب نظر الإله بتقديم الخمر إليه.ولو تدبرنا لوجدنا أن الخمر كانت تلعب الدور الأكبر في عبادة المتعبد الهندوسي القديم كان لا يشرب عصير (سوم) فحسب، بل كان يغسل به الأشياء الأخرى في عبادته، وكان يقدم هذا العصير لـ (إندر) وغيره من الآلهة الهندوسية لاجتذاب أنظارهم إليه.وكذلك يتبين من الاقتباسات التي عُلموها في أثر (فيد لعبادة الآلهة (أشوني كمار) أن العابد الهندوسي في قديم الزمان كان يرى عصير سوم مباركا لدرجة أنه كان لا يشربه فحسب، بل كان يلتمس من آلهته شُربها.فقد ورد: يا أيتها الآلهة (أشوني كمار الشراب الذي يكون في الجبال والغابات والحشائش البرية، والذي يُعصر في مناسبة (يكيه)، يجب أن يكون عصيره لي ولكم باب۹ فصل ۱، الجملة ١٧)..هنا التمسوا من إلههم أن يشرب الخمر ، ولكنهم عندما كانوا يعبدون الإله البلوري كانوا يفعلون أكثر من ذلك، إذ كانوا يغسلونه بهذا الخمر؛ وكأنهم يسقونه الخمر، كما كانوا يتوسلون إليه قائلين: يا أيها الإله المصنوع من البلور، نتوسل إليك أن تقيم في بيتنا ضيفا.سوف نقدم لك هكذا الزبد والخمر والعسل والأطعمة الحلوة.ففكر دائما فيما هو خير لنا كما يفكر الأب في مصلحة أولاده (أثر فيد، باب ۱۰، فصل ٦، سطر ٢٦).تلقي هذه الكلمات الضوء على أن العابد الهندوسي في قديم الزمن كان يلتمس من إلهه شرب الخمر كما كان يشربها، ويغطس فيها الإله المصنوع من البلور 6 ولكن في نفس المرجع مزيد من التوضيح من أن هذه الآلهة كانت تشرب الخمر فرحا بنجاحها : إن الإله (إندر) شرب كؤوس الخمر ليستولي على أعدائه عليهم(فصل١٠، سطر ١٠).وينتصر

Page 560

الجزء الثاني ٥٥٧ سورة البقرة 12 وفي هذه الأيام يحاول أتباع الآريا، وهي فرقة من الهندوس، أن يؤولوا عصير (سوم).هذا ليبينوا أنه ليس في الفيدا أي ذكر للخمر، وإنما المذكور هو عصير (جلو) ولكن عندما ننظر إلى عمل الأمة الهندوسية كلها، ثم نرى أنه لم يكن لها اتصال كامل لمدة طويلة مع قوم يشربون الخمر مما يُظن به أنهم قد تعودوا شرب الخمر تقليدا لهم، نجد ترددا وتأملا كبيرا في قبول هذه التأويلات من بعض الهندوس.إلا أننا عندما نقرأ ما يلي..يصبح قبول هذه التأويلات مستحيلا تماما.فقد ورد هذا (سوم) لذيذ وجيد الطعم جدا، فيه بعض الحلاوة وبعض الحموضة، ولا يستطيع أحد أن يقف في الحرب في وجه الإله (إندر) شارب عصير سوم "(نفس المرجع، باب ١٨، فصل١، سطر ٤٨).نتوصل من هذه الفقرات إلى أن الدين الهندوسي يسمح تماما بتعاطي الخمر، بل أنه يرى من الضروري استخدامها في بعض العبادات وأن الحضارة الهندوسية تصدق ذلك، وتاريخهم شاهد على صحة النتيجة التي توصلنا إليها.وثاني الأديان القديمة هو دين الفرس المجوس.إن الشعب الفارسي له تاريخ متواصل طويل، بل تدل البحوث الجديدة أنه لا غرابة أن تكون الحضارة الفارسية أقدم من الحضارة الهندوسية.ويتبين من ديانتهم الجديدة والقديمة أن تعاطي الخمر جائز لديهم.ويعرف المطلعون على الديانة الزردشتية أن زردشت لم يكن مؤسس ديانة جديدة، وإنما أحيا الديانة الفارسية القديمة التي تطرق إليها الفساد بمرور الزمن.ولمعرفة فتواهم الدينية عن الشراب لا بد لنا من إلقاء نظرة على فترة ما قبل أن زردشت وفترة ما بعده.صحيح التاريخ يبين أن الفرس كانوا يشربون الخمر بكثرة، ولكن ما هي نظرة دينهم إلى الخمر..فهذا لا نعرفه إلا من كتب زردشت.ورد في الكتب الفارسية البهلوية في صدد ولادة زردشت أن ملاكا قدم كأسا من الخمر لوالد زردشت يوروشاسب وبعد شربه هذا الخمر بفترة قصيرة حملت 12 سوم وجلو نوعان من الأعشاب.

Page 561

٥٥٨ سورة البقرة الجزء الثاني زوجته دوغدو، وولدت طفلا قدر له أن يحدث انقلابا عظيما في تاريخ الشرق.وفي سياق ولادة إنسان مقدس كزردشت فإن تقديم الملاك كأسا من الخمر لوالد زردشت لحادث يدل أن تعاطي الخمر قبل ولادته لم يكن جائزا دينيا فحسب، بل كان مستحسنا.كما تلعب الخمر دورا في طقس ترديد الأدعية المسمى بأدعية "أفر نحن "وهي الخاصة بعلماء الزردشتيين فالدستور كبير علمائهم يجلس على سجاد مفروش على الأرض عند ترديد هذه الأدعية.وأمامه صحن من معدن أو ورقة من شجرة..يوضع عليها الفواكه الجيدة والأزهار الموجودة في ذلك الموسم، إلى جانب الحليب الطازج والخمر والماء والمشروبات الأخرى في بعض الأواني.فتعاطي الخمر في الديانة الفارسية عمل مستحسن ومستحب.فكانوا يرون من الضروري استخدام الخمر في بعض الطقوس الدينية، أو على الأقل وضعها بجانبهم.وثالثة الديانات القديمة هي اليهودية التي تدعي كالزردشتية والهندوسية أن بدايتها كانت منذ بداية الكون إن هذا الدين..وإن كان مؤسسة سيدنا موسى..إلا أنه يربط نفسه عن طريق سلسلة من التاريخ مع أبي البشر سيدنا آدم عليهما السلام.وبدراسة كتب تاريخ هذا الدين أيضا يتبين أن استخدام الخمر جار منذ بداية الكون.فلم يكن استخدام الخمر أمرا منكرا في حين من الأحيان، بل كان أنبياؤهم يتعاطونها.وقد ورد في التوراة وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما، وشرب من الخمر وتعرى داخل خبائه..وستر عورة أبيهما "تكوين ۹ : ٢٠).هذا ما ورد عن نوح وهو النبي الأول الذي تاريخه محفوظ لحد ما والذي يأخذ التاريخ بعده مزيدا من التفصيل.وبعد نوح يأتي دور إبراهيم، ونقرأ عنه في التوراة أن الملك صادق ملك شاليم قدّم لإبراهيم في الوليمة خبزا وحمرا (تكوين ١٨:١٤).

Page 562

الجزء الثاني كذلك ٥٥٩ سورة البقرة ورد عن سيدنا لوط أن بناته سقينه خمرا (تكوين ٣٣:٩)..مما يبين أن الخمر لم يكن إلى زمنه ممنوعا، بل كان أيضا يعتبر من أساسيات الحياة، ذلك لأن هذا الحادث كان بعد واقعة العذاب السماوي..عندما خرج لوط مع بنتيه إلى الغابة ولجئوا إلى مغارة.فوجود الخمر معهم هناك يدل كما تحكي التوراة على ضرورة أن يأخذوا معهم الخمر بحسب متطلبات حياتهم مع ما أخذوا من أشياء أخرى عند خروجهم من قريتهم التي دمرت.وقد لعبت الخمر دورا كبيرا في انتقال النبوة داخل بني إسرائيل، فكما تقول التوراة..في البداية كان الميراث يؤول إلى الابن الأكبر، ومن نسله تعرف شجرة النسب.وطبقا لهذه العادة أراد إسحاق أن يبارك ابنه الأكبر عيسو، ولكن زوج إسحاق صنعت الطعام اللذيذ وأرسلته مع ابنها يعقوب، فأطعم أباه وسقاه الخمر متظاهرا أنه عيسو وهكذا دعا له إسحاق وباركه ومن ثم انتقلت النبوة من أسرة عيسو إلى أسرة يعقوب [وهو إسرائيل].ومن هنا فإن بني إسرائيل مدينون إلى حد كبير للخمر فيما يتعلق برقيهم الروحاني (تكوين ٢٥:٢٧).6 فكما تروي التوراة أن إسحاق شرب الخمر، ثم دعا لابنه يعقوب ظنا منه أنه عيسو -بالبركة في غلاله وخمره (تكوين ٢٨:٢٧).وهكذا فرض إسحاق على بني إسرائيل تعاطي الخمر للأبد، لأنهم لو تركوا شرب الخمر لبطل دعاء إسحاق هذا.ولقد ساند يعقوب دعاء أبيه عند وفاته إذ دعا وأخبر عن ابنه يهوذا وأولاده أن عيونهم ستبقى محمرَّة بشرب الخمر (تكوين ١٢:٤٩).وبعد ذلك فإن زمن موسى هو أكبر وأهم عهد في تاريخ بني إسرائيل، فهو مؤسس الديانة اليهودية والناسخ للشريعة السابقة له.لقد قام بإلغاء الكثير من القوانين والعادات التي كانت موجودة من قبل في بني إسرائيل، إلا أنه لم يبدل الخاص بالخمر، بل اعتبر الخمر من القرابين التي تقدم لوجه الله، وبذلك اعتبرها

Page 563

٥٦٠ الجزء الثاني سورة البقرة شيئا مقدسا.ويبدو من التوراة أن الله تعالى قد وعد هارون وأولاده الذين كان فيهم منصب الكهانة بأحسن خمر، وفرض على بني إسرائيل أن يقدموا للمعبد باسم الرب أفضل ما عندهم من الخمور ليستخدمها الكهنة (عدد ۱۲:۱۸).هذه الوعود وإن كانت خاصة لبني هارون ،والمعابد ولكن سائر بني إسرائيل لم يحرموا منها، بل إن الله وعد موسى أنهم إذا عملوا بحسب أمره واتبعوا شرعه سيكافئهم بما يلي (يحبك ويباركك ويكثرك ويبارك ثمرة بطنك وثمرة أرضك قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك على الأرض) (تثنية:١٣).ووعد بنو إسرائيل في أماكن أخرى من التوراة أيضا بكثرة الخمر.وعموما نجد ذكر الخمر في تاريخ جميع الأنبياء والحكام الإسرائيليين حتى زمن المسيح عليه السلام، فقد كثر استخدامه في تاريخ كل هؤلاء.وبعد موسى إلى زمن نبينا محمد و علم تأت شخصية عظيمة أحدثت انقلابا عظيما في عالم الأديان إلا سيدنا عيسى عليهم السلام ففي زمننا هذا يتمتع أتباعه بمكانة وعزة دنيوية على وجه الخصوص.ويظهرون تعليمه للناس كأنه تعليم كامل مكتمل.ولكن الفتوى التي أصدرها المسيح في الإنجيل عن الخمر كانت عن تقديسها.فالثابت من الإنجيل من المسيح لم يكن يستقبح الخمر، بل كان يتعاطاها، بل يصنعها ويسقيها الناس كمعجزة.أما تعاطيه الخمر بنفسه فثابت مما يلي: وأَخَذَ الكأس وشكر، وأعطاهم قائلا: اشربوا منه كلكم...وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي) (متى: ٢٦-٢٧).أما صنعه الخمر وتقديمها للناس فثابت هكذا: (وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك.ودعي أيضا يسوع وتلاميذه إلى العرس.ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر...قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماء، فملئوها إلى فوق، ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا.فلما

Page 564

سورة البقرة الجزء الثاني ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرا و لم يكن يعلم من أين هي- لكن الخدام الذين كانوا قد استقوا الماء ،علموا دعا رئيس المتكأ العريس وقال له: كل إنسان إنما الخمر الجيدة أولا، ومتى سكروا فحينئذ الدُّون، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده، فآمن تلاميذه) (يوحنا ٢ : ١-١٠) يصنع به كل هذا يدل على أنه حتى زمن بعث سيدنا محمد ﷺ كانت الديانات تبيح شرب الخمر؛ بل فرضت تناولها في بعض الطقوس الدينية، واعتبرتها مباركة ومفيدة.وبعث نبينا محمد ﷺ وهذه الديانات موجودة على الأرض، ولكنه علّم أتباعه أمرا إلهيا مخالفا لتعليم تلك الأديان، وقال: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْحَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).وفي موضع آخر من القرآن الكريم هناك فهي قطعي عن الخمر بكلمات أشد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالأَزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) * ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْحَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) * ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (المائدة: ۹۱-۹۳).سبق أن ذكرتُ أن الإسلام قد نهى عن شرب الخمر في وقت لم تكن تستقبح في أي من الديانات السابقة.بل كانت عموما تحبذ استخدامها وكانت طقوس بعضها ه و توجب استخدامها.ونَهْيُ الإسلام عن تعاطي الخمر في مثل هذه الأحوال لم يكن حدثا هينا.ولم يكن العالم جاهزا بعد لفهم ما في هذا النهي من مصالح وفوائد.بل إن الطب في ذلك العصر كان يعتبر الخمر غذاء مقويا جدا ونافعا للصحة.ورغم كل هذا نهى الإسلام عن تعاطي الخمر نهيا قاطعا و لم ينه اعتباطا بدون مبرر، وإنما قدم الأدلة على مضارها ولم يكن في أدلته متعصبا، وإنما ذكر ما في الخمر من بعض المزايا.من الممكن أن يكون بعض الفلاسفة قد كرهوا استخدام الخمر في بعض الأحوال، ولكن لم يجد أحد حلاً لهذه المسالة العويصة كما حلّها الإسلام.

Page 565

٥٦٢ الجزء الثاني فمثلا، هناك (الجينية) علما بأنها ليست دينا في الحقيقة، وإنما هي سورة البقرة فلسفة_نجد فيها بعض الآثار للنهي عن شرب الخمر، ولكن على أي أساس؟ لا يقوم هذا النهي على أي دليل من المنطق والعلم، وإنما يقوم على أنه في عملية تجهيز الخمر يموت عدد كبير من الديدان وما دام إهلاك أي نفس مخالفا لمبادئ الجينية، لذلك كان أتباعها الكاملون لا يتعاطون الخمر.ولم يكن هذا النهى كليا كما لم يكن يتأسس على التدبر في منافع الخمر ومضارها وما له من تأثير على من يتعاطونها.فالإسلام وحده يتميز بين الأديان والفلسفات..في مجال النهي عن تعاطي الخمر، وتقديم الأدلة والحكم..في وقت لم يكن الناس قادرين على فهم المصالح والحكم وراء هذا النهي فعلى الرغم من أن القرآن قد بيّن بكل صراحة أن مضار الخمر أكثر من منافعها..إلا أن الأطباء المسلمين لم ينفكوا يكتبون في مصنفاتهم عن مزايا الخمر ومحاسنها بطريقة يتحير منها الإنسان وأقتبس هنا عبارة مختصرة من كتاب الموجز، وهو كتاب يُدرس في بعض المدارس، يتحدث فيه كاتبه المسلم عن الخمر هكذا: يجب أن تكون المناظر في مجلس الخمر خلابة، فتوضع فيه الزهور والعطور، وتعزف الموسيقى المطربة، وينبغي أن يُستبعد من المكان كل ما يثير الحزن أو الضيق أو الغضب.ويجب مراعاة النظافة فلا تكون هناك رائحة غير مستحبة من العرق أو اللباس الوسخ البالي.ويجب شرب الخمر بعد الاستحمام وارتداء الملابس الجيدة، وترجيل الشعر وتقليم الأظافر.ويكون المكان فسيحا غير مغلق على شاطئ نهر جار، في صحبة أصدقاء يحكون الطرائف، لأن الخمر تحرك القوى النفسانية وتستثير الشهوات، وعندما لا تجد هذه القوى ما تريده تتألم النفس وتنقبض ولا تميل إلى تعاطي الخمر بشهية وشوق، ولا ينتفع شاربها كما ينبغي، وإنما تضره في بعض الأحيان.هذا الرأي عن الخمر أبداه كاتب مسلم مصري في القرن السابع الهجري، ومن ذلك يمكن أن يعرف المرء أن المسلمين -رغم ما حققه العلم من تقدم في سبعة قرون كانوا عاجزين عن إدراك ما في الخمر من مضار، وكتبوا متأثرين بما تم تحت

Page 566

الجزء الثاني ٥٦٣ سورة البقرة ذلك الوقت من بحوث أن نفع الخمر أكثر من ضررها، مع أن القرآن قد صرح تماما أن ضررها أكثر من نفعها.فالتعليم الذي قدّمه القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرنا عن الخمر، وبالطريقة التي قدمها خلافا لما كان الحال عليه في الأديان الأخرى..لم يكن العقل الإنساني بقادر على استيعابه، حتى أن الأطباء المسلمين لم يستطيعوا رغم هذا البيان القرآني الصريح - إثبات مضارها بطريقة علمية، واضطروا للقول بأن للخمر منافع كثيرة.ومضت الأيام والقرون ولكن البحوث عن الخمر منذ آلاف السنين بقيت كما هي، وكل من جاء أكد هذه البحوث السابقة.ولو كان لِعِلْمٍ أن يكذب كلام الله تعالى فيمكن القول بأنه علم الطب؛ إذ لم يزل يُكذِّب عبر القرون هذا البيان القرآني وبكل جرأة! ومع أنهم عند انتهاء عصر الطب اليوناني وظهور الطب الحديث..ألقوا آلاف البحوث باعتبارها من سقط المتاع، ولكن فيما يتعلق بالخمر فقد ظلوا يؤكدون أكثر على محاسنها.فإذا كان الطب القديم اعتبر الخمر مفيدة للمحافظة على صحة الإنسان ولتقويته من ضعف، فإن الطب الجديد وصف البراندي (نوع من الخمر) علاجا وحيدا لأمراض خطيرة، وأكدوا على منافعه حتى أنهم لم يعتبروا المستشفى كاملة التجهيز ما لم يكن بها قوارير البراندي.واعتبروا الخمر بمثابة ماء الحياة.وقال البعض علنًا إنه ما لم يُحِلَّ الإسلامُ الخمر فلا يمكن أن يميل العالم إلى الإسلام.ورغم هذه البحوث وهذه الشهادات الطبية..فإن الحكم القرآني كان يتلألأ بحروف مضيئة قائلا: إن مضار الخمر أكثر من منافعه.ورغم الأحوال غير الملائمة لم يستطع أحد أن يغير هذا القرار، لأن القرآن الكريم كلام الله وشرعه الأخير الذي لا شرع بعده.ومن الحقائق التي لا يحوم حولها شك أن الخمر لا تضر بالجسم فقط، بل لها تأثير شديد جدا على أخلاق الإنسان أيضا كما أشار الله تعالى إلى ذلك في سورة المائدة بقوله تعالى (إنَّما يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِ (الآية (۹۲)، ولكن قليل هم الذين يستعدون ليولوا اهتماما لما لهذه الأطعمة والأشربة من تأثير ضار على الأخلاق ومن أكبر البلايا في هذا الزمن أن

Page 567

سورة البقرة الجزء الثاني الأمة الإسلامية التي تتجنب تعاطى الخمر أيضا قد تدنت في أخلاقها كثيرا بسبب ما تطرق إلى المدنية من فساد وزوال وانحطاط ؛ فكيف يمكن بعد ذلك أن نقارن بين أخلاقهم وأخلاق الأمم الأخرى؟ لا يمكن توضيح القضية من خلال تقديم بضعة أمثلة من الأفراد، بل تحسم القضايا المتعلقة بالأمم بتقديم أمثلة من الأمم وليس أمثلة من أفراد.وتقديم هذه الأمثلة أصبح محالا ؛ فلم يكن هناك سبيل إلا حل هذه المسألة على ضوء علم الطب حتى تُحسم نهائيا.إن القرآن الكريم كلام الله تعالى وكل المعاني المودعة في أي لفظ منه يُظهر الله بنفسه صدقها، ويجليها بآيات قوية.لقد أظهر الله صدق بعض هذه المعاني منذ البداية وعلى مرّ الأيام ليكون ذلك حجة على الناس في كل زمن.ولكن الله تعالى يظهر صدق بعض هذه المعاني بالتدريج في مختلف الأزمان والعصور، ليعرفوا أن القرآن الكريم كلام الله ولا دخل لأي إنسان في تأليفه.لأن فيه أمورا لم تصل إليها العلوم في ذلك العصر.وكل من هذين الأمرين قد تمت مراعاته في النهي عن شرب الخمر.فمضارها الأخلاقية يمكن إثباتها في أي زمن اهتم بها الناس أم لم يهتموا، وإن كان إثباتها في بعض الأزمان أصعب منه في زمن آخر.أما عن مضارها الجثمانية فالخمر ،شراب، والتأثير الأول للمشروبات يكون على الجسم، والإنسان عادة لا يهتم إلا بمعرفة تأثيرها على الجسم..لذلك لم تكن أهمية ومحاسن هذا النهي القرآني عن الخمر لتنكشف بصورة واضحة ما لم تتبين أضرارها على جسم الإنسان وضوح الشمس في رابعة النهار وما لم يثبت أن مضارها أكثر من منافعها.فجاء أخيرا وقت انكشاف هذا الحقيقة، فمكن الله الإنسان من اكتشافات واختراعات استطاع بها أن يعرف ما لأنواع الأغذية والأدوية والفصول والأحاسيس من تأثير على الأعصاب والألياف الرقيقة في الجسم الإنساني.وإلى جانب ما أحدثت هذه المخترعات من انقلاب عظيم في العالم، فإنها أيضا أثبتت خطأ وبطلان البحوث العلمية القديمة عن الخمر واضطر معظم العلماء إلى الاعتراف بأن ضرر الخمر أكثر من نفعها، ويرجع الفضل في إبطال هذه الأفكار القديمة المستحكمة إلى العالم النفسي (كربلن) بالتعاون مع زملائه المتفقين معه في الرأي.لقد بذلوا جهودا

Page 568

سورة البقرة الجزء الثاني وأثبتوا أن تناول جرعة ضئيلة من الخمر، ولو مرة واحدة تضر بألياف رقيقة وخلايا حساسة في المخ الإنساني كذلك قام الأستاذ (هوج) باختبارات تتعلق بتأثير الكحول على عضلات الإنسان وتوصل بها إلى أن تناول الخمر يضر ضررا بالغا بقوة التحمل والجلد والذكاء كما أن الدكتور الكسندر برايس هو من كبار علماء الأغذية..قدّم بحوثه في صدد الخمر فقال: لم يبق هناك أدنى شك في أن الخمر في الحقيقة سم قاتل يدمر الألياف فهو :أولا يبدي تأثيره المسكر، ثم يحدث ضررا بالغا بالأعصاب.والحق أن الخمر غير جديرة أبدا أن تُدرج ضمن الأدوية المقوية، لأنها في البداية تثير القوى إثارة وقتية ثم يظل الإنسان لمدة طويلة مصابا بالضعف.لقد أجمع تقريبا كل الأطباء الأذكياء الآن على أنه في أيام الصحة لا حاجة إطلاقا لشرب الخمر، أما فيما يتعلق بعلاج الأمراض، فلو لم نعتبر نفعها مشكوكا فيه، إلا أنه أصبح من المتحقق أن من الأفضل استخدام أدوية أخرى هي أقل منها ضررا.وكان لا بد لهذه الاكتشافات أن تترك أثرا قويا في علوم الطب.وبالفعل حدث ذلك، ومنذ سنة ١٩٠٠ لم يزل مهرة الأطباء يميلون إلى التقليل من استخدام الخمر في العلاج.ففي مستشفي بـ (أيدنبرج) كان معدل ما أنفقوا على الخمر لمريض واحد ٩ روبيات في سنة ١٨٩١، أما في سنة ۱۹۰ فقد انخفض هذا المعدل 34 روبية فقط • واجتذب نجاح هذه التجربة أنظارهم أكثر ، ففي سنة ١٩٠٩ قرر سير توماس – أحد كبار الأطباء - ألا يعطي مرضاه حتى جرعة واحدة من الخمر.وفي هذه الأيام تكثر مثل هذه التجارب في العديد من المشافي، فلا تستخدم الخمر إلا مع قلة من المرضى المصابين بالالتهاب الرئوي والخناق (الدفتيريا) والحمى، ويرون استخدام الخمر ضارا بالأصحاء.إذن فبعد مرور ثلاثة عشر قرنا انكشف اليوم للعالم صدق القرار القرآني الذي أعلن أن أضرار الخمر أكثر من نفعها، وقد تحقق هذا وثبت علميا.والذين يتمتعون بعادة قبول كل ما هو خير وحسن ولا يكترثون بما في مجتمعهم من تقاليد وعادات

Page 569

سورة البقرة الجزء الثاني وأفكار ومبادئ..شرعوا الآن يهتمون بإصلاح أخطائهم، والله تعالى أعلم إذا كانوا سيفلحون في مساعيهم هذه أم أن أصحاب العادات والتقاليد والأفكار الدينية القديمة هم الذين سيتغلبون إلا أنه قد أصبح من الواضح البين أن هذه المساعي والبحوث العلمية الجديدة تشكل دليلا قاطعا على أن تعاليم القرآن الكريم تتفوق تفوقا عظيما على تعليم الديانات الأخرى كلها..حتى أن العالم قد احتاج إلى البحث لمدة أربعة عشر قرنا ليعرف حقيقة بعض الأحكام الإسلامية والتي عارض فيها الأديان كلها، وبعد هذا البحث الطويل والمضني، وبعد كل هذه المتاعب توصل العالم إلى أن ما يقوله الإسلام هو الصحيح وأود الآن بيان أن الإسلام لا يتفوق على جميع الأديان والحركات المهتمة بأخلاق الناس من حيث تعليمه في صدد الخمر فحسب..بل يتفوق عليها من حيث تأثير تعليمه في أتباعه في هذا الشأن.فمن درس أحوال مدمني الخمر دراسة فاحصة، أو تعامل معهم، يدرك جيدا أن مدمن الخمر يتعذر عليه التخلي عن هذه العادة.فمن خصائص الخمر التي تميزها عن المسكرات الأخرى أن مدمنيها إدمانا شديدا يولعون بها وَلَعًا جنونيا ينتقل بالوراثة إلى أولادهم ولا يجدون راحة ما لم يكونوا في ثمالة وسكر، ولا يرتدعون عن ارتكاب أشنع الجرائم للحصول على الخمر، فكف الإسلام أتباعه عن تعاطي الخمر ليس بأمر هين لقد بينت من قبل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي نهى أتباعه عن الخمر وتعاطيها نهيا رائعا مصحوبا بالدليل والحكمة، أما الأديان الأخرى فهي لا تنهى أتباعها عن الخمر، بل إن بعضها قد أدخل الخمر في طقوسها الدينية.إنني أرى من الضروري بيان أنه على الرغم من ترخيص وأمر بعض هذه الأديان بتعاطي الخمر..إلا أن زعماءها وقاداتها لما رأوا أضرار الخمر أدركوا أن الناس لو استمروا في شربها هكذا فإن الشعوب سوف تنهار صحيا وخلقيا.فنجد في التاريخ منذ بداية العالم، رجالا دعوا الناس إلى التقليل من استخدام الخمر والاعتدال في تعاطيها في كل حال.إن تاريخ البلاد الشرقية كلها وهي البلاد التي كانت حاملة لواء الحضارة والمدنية في العصور القديمة، شاهد على أنه منذ أقدم العصور لم ينفك علماء الدين والفلاسفة

Page 570

٥٦٧ سورة البقرة الجزء الثاني والمشرعون في الهند وإيران والصين والشام ومصر واليونان وقرطاجة يبذلون أن جهودهم لإبعاد الناس عن السكر.ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كل ما حصل امتنع بعض الناس عن تعاطي الخمر لفترة ثم اندفع الجميع إلى إنعاش أرواحهم بماء الحياة هذا.خذوا على سبيل المثال ،أمريكا، كم من جهود بذلتها الحكومة هناك لكف الناس عن شرب الخمر! ولكن لما كانت قلوب الناس فارغة من الإيمان، وليس وراء النهي عن الخمر سوى قانون حكومي، لذلك فشلت هذه المحاولات، ومات الآلاف لأنهم شفاء لغليلهم إلى الخمر كانوا يشربون الكحول الذي يحتوي على مزيج من السموم.فهلك كثير من المتعاطين وأصيب كثير بالعمى.وعمل كثير من الأمريكان في تهريب الخمر من الخارج.وسنّت الحكومة قانونا يمنع الحصول على الخمر إلا بتصريح من طبيب، فعمد كثير من الأطباء إلى تقاضي المال نظير إعطاء شهادات طبية تصرح لحامليها بالحصول على الخمر، للعلاج، وكان آلاف الأطباء يعيشون على إصدار هذه الشهادات وجنوا منها ثروات كبيرة.وإذن لم تؤد جهود أحد من هؤلاء الفلاسفة والمفكرين والواعظين والمشرعين في أي بلد إلى التزام الناس بالتقليل من تعاطي الخمور وفاء لهذه الأفكار المضادة للخمر.فلو أن جماعة قللت من تعاطي الخمر فإن غيرها سدّت هذا الفراغ وأكثرت من تعاطيها، وبقيت الخمر على مكانتها في المجتمع لا يزعزعها أحد.الآن تعالوا نقارن هذا بما كان يتمتع به الإسلام من تأثير ونفوذ على أتباعه فيما يتعلق بالقضاء على تعاطي الخمر.لقد ظهر الإسلام في وقت لم يكن في الدنيا رواج كبير للعلوم كانت العلوم اليونانية بعد بلوغها الذروة قد توارت في زاوية الخمول نتيجة لمساعي القسس المسيحيين، ولم يكن يعرفها إلا قلة من الناس.وكانت آسيا الصغرى خاصة، التي كان لها سهم كبير في ترقية هذه العلوم تغطيها ظلمات الجهل.أما الفلسفة الهندية فكانت في طريقها إلى الزوال.أما فارس فكانت تنحط أخلاقيا وعلميا وأما العرب فكانت حالهم سيئة ومؤسفة للغاية.و كانت القراءة والكتابة هي أكبر علم عند عرب الحجاز، وكان

Page 571

الجزء الثاني ٥٦٨ سورة البقرة الواقفون على هذا الفن منهم قلة.أما علم الأخلاق لديهم فكان يتمثل فيما نظمه الشعراء في قصائدهم وكان كل ما عندهم من علم الطب هو ما كانت تحكيه العجائز من وصفات طبية عائلية على مر العصور.وعلم الأخلاق الذي ذكره الشعراء يقول إن الخمر تحسن أخلاق الإنسان وتجعله شجاعا وجوادا.وكان العرب يهتمون بهذين الخلقين..الشجاعة والكرم، ويرون أن علم الأخلاق يرتكز على هاتين الصفتين.وكان علم الطب عندهم يحثهم على أن كأسا من الخمر علاج لكل داء.فلم تكن العرب، بناء على علومهم، كارهين للخمر، بل كانوا مولعين بها.وكان كل عربي مدمنا للخمر، بحيث كان شرب الخمر هو شغلهم الشاغل في حياتهم اليومية، اقرءوا شعر العرب، قلما تخلو قصيدة من ذكر الخمر وشربها ومجالسها.قال طرفة بن العبد، وهو من شعراء الطبقة الأولى في جمال لغته وسمو أفكاره بين العرب فإن تَبْغِني في حلقة القوم تُلْفِني وإن تَقْتَنصُني في الحوانيت تَصْطَد ستعلم إن متنا غدا أينـــا الصدي كريم يروي نفسه في حياتـــه أي إن أردت لقائي فسوف تجدني في مجلس الشورى للقوم-رغم صغر سنه، وقد مات في العشرين وإذا أردت أن تضمن لقائي ففي حوانيت الخمر.أنا كريم شريف أروي نفسي من الخمر في حياتي، وبعد الموت ستعرف من منا العطشان.ولم يكن طرفة يقول أي كلام بل كان يقول ما يفعل.عندما هجا طرفة في بعض قصائده ملك العرب عمرو بن هند، غضب عليه الملك وأمر واليه على نجران أن يقتله وهو لا يزال في عنفوان الشباب.فلما أسَرَه طلب منه أن يختار الطريقة التي يموت بها، فاختار أن يوضع الكثير من الخمر فيشرب منها، وأثناء ذلك يترفون الدم من أحد عروقه حتى الموت.معه ويقول أبو محجن الثقفي يوصي ابنه:

Page 572

الجزء الثاني ٥٦٩ سورة البقرة إذا مت فادفني إلى أصل كرمة تُرَوِّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تَدْفَنَني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها يريد الشاعر أن يُدفن عند شجرة عنب حتى يرتوي من خمر عصيرها، ويخشى إذا دفن في أرض قفر أن يُحرم من ذوق الخمر (الشعر والشعراء لابن قتيبة)." وعلاوة على كلام شعراء العرب فإننا نجد في لغتهم ما يدل على ولعهم الشديد بالخمر.ففي اللغة العربية يجد الإنسان أسماء كثيرة للخمر بحيث يتحير من كثرتها، ولا تجد نظيرا لذلك في لغة أخرى.والحضارة العربية شاهدة على أن العربي لم يكن خاملا في تعاطي الخمر ؛ بل سبق العالم كله في هذا المضمار.جاء في الموسوعة البريطانية: يبدو أن الناس منذ قديم الزمان يعرفون صناعة الخمر، فكان العرب في زمن الظلام يصنعون الخمر تحت كلمة الخمر).وتدل هذه الشهادة التاريخية على أن العرب كانوا سبّاقين للأمم الأخرى فيما يتعلق بصناعة الشراب وتعاطيه.وقد أصبحت الجزيرة العربية سوقا وحيدة في العالم للخمر المعتق شديد التأثير.في مثل هذه البلاد بعث سيدنا محمد ، وهذه هي الأمة التي أراد كفّها عن شرب الخمر.فما هي الأساليب التي اتبعها لتحقيق هدفه؟ وما هي النتيجة؟ هذا حادث تاريخي بهر العقول وأدهش الحكماء العقلاء إلى هؤلاء القوم الذين كانوا لا يكادون يفيقون من سكرة الخمر ويرونها الوسيلة الوحيدة لتسليتهم..إلى هؤلاء القوم خرج النبي الله في يوم من الأيام يبلغهم رسالة الله بكلمات وجيزة، ولكنها واضحة بينة، فقال: ما دامت مضار الخمر أكثر من منافعها لذلك حرمها الله عليكم من الآن، وعلى كل مسلم أن يجتنبها، فيمتنع عن صنعها وبيعها وشرائها وشرابها وسقيها.وبسماع هذا الأمر، خضعت رؤوس هؤلاء المولعين بالخمر طاعة، ولم يخرج من فم أحد كلمة احتجاج، وإنما منهم

Page 573

۵۷۰ سورة البقرة الجزء الثاني تقبل الأمر في انشراح صدر ، و لم يقرب بعد ذلك كأس الخمر من شفته! إنهم لم يطالبوا بمهلة طويلة أو قصيرة، ولم يسألوا عن شرب قليل أو كثير..لأن الرسول ﷺ قد سبق وقال لهم أن ما يحرم كثيره يحرم قليله أيضا.فلا يحتاج الرسول إلى إلقاء خطب طويلة لتوضيح الأمر لهم، ولا لترسيخ مضارها في أذهانهم، لأن الإسلام قد صقل أذهانهم، وخلصهم من التعصب والأنانية حتى كانت أخطاؤهم تتراءى لأعينهم تلقائيا.فلم يكونوا بحاجة إلى خطاب خطيب أو لصور الفانوس السحري، وإنما تكفيهم إشارة وجيزة وكلمة قصيرة إلى الحق، حتى يتضح وينكشف الأمر لهم تماما.كانت نفوسهم هي واعظهم، و كانت خلايا مخهم هي الشاشة التي يستطيعون بكل سهولة أن يروا على صفحتها مشاهد السكر والعربدة والهمجية التي تنجم عن تعاطي الخمر.كانوا لا يحتاجون إلى صور كاذبة مزورة، وإنما تكفي الصور الحقيقية لهدايتهم.والحادث التالي خير مثال لبيان ما تركه هذا الأمر الإلهي من تأثير عليهم.يروي أنس الأنصاري خادم رسول الله (ص) أن أناسا كانوا يشربون الخمر في بيت أبي طلحة وكنت ساقيهم.فبدءوا يترنحون من الثمالة، فنادى مناد أن الخمر قد حُرّمت، فقال بعض القوم: ليذهب أحدنا ويعرف صحة الخبر.وقال آخرون: لا، بل نهريق الخمر أولاً ثم نتحرى عن الخبر.وأمروني بكسر آنية الشراب وإراقة ما فيها فكسرت جرة الشراب بالعصا ولم يقترب هؤلاء من الخمر بعد ذلك (مسلم، الأشربة ومسند أحمد ج۳ ص۱۸۹).يبين هذا الحادث مدى تأثير الإسلام على قلوب الناس، فبينما هم في مجلس الشراب قد ثملوا من تعاطي الخمر..يأتيهم شخص بخبر عن تحريمها، فيسكبونها دون أن يتحروا عن حقيقة الخبر هذا ليس أمرا عاديا.إن الأمم المدمنة على الخمر تستطيع أن تدرك أهمية هذا الحادث أكثر من غيرها، ذلك لأنه ما دام الذين لا خبرة لهم بتعاطي الخمر يندهشون ويتحيرون من هذا الحادث لهذه الدرجة، فإن الذين لهم خبرة في هذا المجال لا بد أن تكون قلوبهم أكثر إدراكا

Page 574

۵۷۱ سورة البقرة الجزء الثاني لأهميته وعظمته.قارنوا هذا التأثير مع تأثير الأديان والحضارات الأخرى..ألا تجدون بينهما بعد السماء عن الأرض؟ اليوم وقد أثبتت العلوم الطبيعية مضار الخمر ومفاسدها، ويأمل الناس أن ينهض ترك الخمر بالبلاد وأن يحقق لهم رخاء ماديا..إلا أنهم غير مستعدين للإقلاع عنها.ولكن المسلم العربي السكران..ما يسمع صوت منادٍ واحد يسير في الطريق قائلا: لقد حُرمت الخمر، يهب من مجلسه ويكسر الجرار ويجري نهرا من الخمر في شوارع المدينة! اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك وسلم إنك حميد مجيد! أن والشيء الثاني الذي نهى الله عنه هنا هو القمار.كان القمار بالنسبة للعرب أول ما تتفتح عليه عينا الوليد فكلما أرادوا إقامة وليمة كبيرة جمعوا نفقاتها بالقمار.فكان علية القوم وكبراؤهم يلعبون القمار، ومن خسر تحمل نفقات الوليمة.كما كانوا يقترعون عند التجهز للحرب، ومن يخرج سهمه تعين عليه تجهيز الطعام للجنود، كما يهيئ لهم الخمور.وكأن الميسر وسيلة لجمع نفقات الحرب.ولكن الله تعالى نهى المسلمين أيضا عن القمار، لأنه كالخمر..هي تدمر جسم الإنسان وأخلاقه وروحانيته والقمار يدمر الأخلاق والحضارة.إن عادة القمار تؤدي إلى خراب آلاف من البيوت والأسر.ثم إن المقامر يعتاد على إضاعة ماله وعقاراته غير مكترث، وقلما يوجد مقامر يحافظ على أمواله.فهو من ناحية يدمر الآخرين، ومن ناحية يضيع أمواله أيضا ولا ينتفع بها، لأنه لا يبذل جهدا بناء لكسب المال.ثم إن القمار يُضعف عقل الإنسان وفكره.والمقامرون عموما مستعدون لتدمير وإضاعة ما لا يُقدم على إضاعته أحد من العقلاء.وهي قوله تعالى (ويسألونك ماذا ينفقون عندما نُهي المسلمون عن تعاطي الخمر، أكبر ذريعة لدفع الجنود إلى التهور والاندفاع في الحرب؛ وكذلك نهوا عن القمار، وهو طريق لسلب أموال الناس لتغطية نفقات الحرب..لم يشعر المسلمون في قلوبهم بانقباض أو ضيق، وإنما تقدموا خطوة أخرى في مجال

Page 575

الجزء الثاني ۵۷۲ سورة البقرة التضحيات، وبدءوا يسألون عن أموالهم التي اكتسبوها بطرق شرعية، ويقولون: أي قدر ننفق منها في سبيل الله سبق أن مر سؤال مشابه في الآية ٢١٦، لنتذكر أنه كان سؤال عن أقسام الصدقة، أما هنا فالسؤال عن مقدار الصدقة.لما نُهوا عن القمار أدركوا أنه سوف يُفرض عليهم المزيد من التضحيات، فسألوا: سوف ننفق، ولكن بأي مقدار ؟ فردّ الله عليهم فقط بكلمة: (العفو).ويعني العفو ما يزيد من المال على الحاجات الضرورية للإنسان، ولا يشق عليه إنفاقه.ويعني أيضا خيار الشيء وأجوده.ويعني ثالثا ما يُعطى بدون سؤال.ولقد اختلف المفسرون في معاني قول الله هذا..فمنهم من قال إن المراد من الإنفاق هنا هو الإنفاق في القتال في سبيل الله تعالى، وليس في الصدقات.والمعنى أنه إذا دعت الحاجة للحرب في سبيل الله فقدموا من أموالكم.ومن المفسرين من قال إن الإنفاق ليس للحرب، وإنما هو للصدقات.ثم نظراً لاختلافهم في معنى العفو قالوا: أولا أن العفو ما يزيد عن حاجة الإنسان كان المسلمون في أول الأمر مأمورين بالإنفاق في سبيل الله كان ما يزيد عن حاجتهم لسنة، ولكن بعد نزول آية الزكاة ألغى هذا الأمر ونسخت آية الزكاة هذه الآية.وثانيا أن هذا الأمر هو عن الزكاة، وذكر هنا مُجملا، وجاء تفصيله في موضع آخر من القرآن الكريم.وثالثا أن العفو يعني المال الذي لا يشق على الإنسان إنفاقه.ورابعا أن العفو هو إنفاق وسَط لا يكون قليلا جدا ولا زائدا عن الحد.و خامسا أن العفو هو خير المال ،وأطيبه فلا تعطوا في سبيل الله مالاً قديما خامسا_أن رديئا، أو ما أخذتم من أموال الآخرين.

Page 576

۵۷۳ سورة البقرة الجزء الثاني و سادسا أن تنفقوا في سبيل الله صدقات وخيرات بانشراح صدر دون أن تُسألوا.والجماعة التي قالت إن معناه ما يزيد عن الحاجة فهم أيضا طبقوا قول الله هذا على الجهاد أو اعتبروه منسوخا وكانوا مكرهين على ذلك لأنهم رأوا عمل الصحابة والأمة مخالفا له كما أن الأحاديث لا تأمر أن ينفق الإنسان كل ما يزيد عن حاجته ويفرّقه على الناس.فقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال ( يعمد أحدكم إلى ماله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس.إنما الصدقة عن ظهر غنًى) (الدارمي الزكاة وكذلك قال في حديث آخر (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير أن تذرهم عالة يتكففون الناس) من (الترمذي، الوصايا).كذلك ورد أن سعد بن أبي وقاص_رضي الله عنه_أراد أن يوصي بجميع ماله في سبيل الله ، ولكن الرسول نهاه عن ذلك.فقال أوصى بنصفه؟ فمنعه النبي عن ذلك.فقال: بثلث المال؟ فسمح له النبي بذلك وقال الثلث، والثلث كثير (المرجع السابق).فالظن بأن الإسلام يأمر بأن ينفق الإنسان في سبيل الله ما زاد عن حاجته ظنّ يتنافى مع تعاليم الإسلام ويخالف عمل الصحابة؛ لأن بعضهم ترك لورثته إرثا يبلغ الآلاف (أسد الغابة، ذكر عبد الرحمن بن عوف).ثم لو كان هذا تعليم الإسلام ما كانت هناك حاجة لتشريع الزكاة ما دام الناس كانوا ينفقون كل ما يزيد عن حاجاتهم في سبيل الله تعالى..فما الداعي للأمر بأداء الزكاة؟ ثم إن اصطلاح ما يزيد عن الحاجة أيضا اصطلاح مبهم، فبعض الناس لو وقعت في أيديهم الأموال بالآلاف ينفقونها ويرون أنه ليس عندهم مال يزيد عن حاجتهم، وهناك أناس يستثمرون كل أموالهم في التجارة، ولا يبقى بعد الضروريات شيء من المال الزائد.كما أن العقل أيضا يثبت بطلان هذه الفكرة، لأنه لو لم يكن هناك جماعة من الأثرياء في المجتمع لن يتم الرقي العام للبلد، وأيضا يتضرر الفقراء.لا شك في أن بعض الناس الروحانيين يبذلون أموالهم قدر المستطاع على الفقراء، والإسلام لا

Page 577

الجزء الثاني ٥٧٤ سورة البقرة يمنع من ذلك بل يحبذه ولكن الخطأ القول بأن الإسلام يأمر بإقامة مساواة اقتصادية بين الناس، ويُلزم كل إنسان بإنفاق ما يزيد عن حاجته.ولو سلمنا بما تحديد الضرورة نظرا للحالة الاقتصادية العامة للبلد، وإلا يتم يقولون لوجب أن لو أُعطي كل إنسان الحرية لتحديد ضرورته فلن تتم أيضا أي مساواة مالية بين الناس..ذلك لأن المرء لو احتفظ بالمال لأطعمة شهية وثياب بهية وديار واسعة مزخرفة ورياش ناعمة ومروج جميلة وبساتين مثمرة..ثم أنفق ما بقي عنده على الفقراء لم يكن في نصيبهم إلا أخشن اللباس وأسوأ المساكن.الحقيقة أن تعاليم الإسلام تفرض على الحكومة المسلمة ألا يبقى أحد من رعاياها جائعا، وان يجد من الثياب ما يستر به عورته أي أن تحافظ الحكومة على حياة الناس حفاظا كاملا، ولذلك فإنها تأخذ الزكاة من أموال الأثرياء وتنفقها على الفقراء.أما إذا أراد الثري أن ينفق أكثر من ذلك فله ما يريد.وإذا رأى أحدهم بعد أداء الزكاة أن شخصا يموت جوعا فمن واجبه أن بماله يسعى لإنقاذ حياته.والدليل على ما ذهبنا إليه موجود في الحديث النبوي.فقد جاء النبي شخص وسأله ما الإسلام؟ فذكر النبي له مبادئ الإسلام ومنها الزكاة ذلك قال لن أنقص من ذلك ولا أزيد عليه.فقال النبي : لقد أيضا.فلما سمع أفلح إن صدق (مسند أحمد، ج ١ ص٢٥٠).فتبين من هذا أنه ليس من واجب الأثرياء أن ينفقوا على الفقراء أكثر من الزكاة ولكن من أنفق أكثر منها فهذا حسن يثاب عليه.والحقيقة أن (العفو) يتضمن ثلاثة أحكام لثلاث طبقات من الناس.فالحكم الأول لمن هم على درجة أدنى من الإيمان فقيل لهم: أنفقوا بالقدر الذي لا يحدث ضررا بإيمانكم ودينكم.لقد رأينا البعض يتحمسون فينفقون في سبيل الحاجات الدينية مالا كثيرا، ولكن عندما يقعون في مشاكل دنيوية يلومون فالله تعالى يأمر هؤلاء قائلا بدلا من أن تضيعوا إيمانكم غدا..عليكم ألا تبسطوا أيديكم اليوم بإنفاق يسبب عثرة لكم.الدين.

Page 578

الجزء الثاني ٥٧٥ سورة البقرة والحكم الثاني لمن هم على درجة وسطى من الإيمان، فقال لهم: أنفقوا من أموالكم في سبيل الله.خير والحكم الثالث لمن هم على درجة عليا من الإيمان، فقال لهم: أنفقوا أموالكم في سبيل الله من دون سؤال من أحد وكأن عليهم أن يكونوا دائما متنبهين إلى الحاجات الدينية والقومية متأهبين لإنفاق أموالهم في هذه السبيل.وقوله (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة).الـ "كاف" في (ذلك) ضمير للواحد، مع أن (لكم) خطاب للجماعة.يتبين من ذلك أن القرآن بعض الأحيان يستخدم صيغة الواحد بينما يعني الجمع.يقول أبو حيان اللغوي: وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد (البحر المحيط).ويقولون: قد كثر الدراهم والدينار..أي الدنانير، وكذلك: فقلنا أسلموا إنا أخوكم..أي إخوتكم، وأيضا كلوا في نصف بطنكم تعيشوا..أي بطونكم (الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص١٨٠).هنا بين أنه لما كانت الأحكام الشرعية تؤثر على الحياة الدنيوية وكذلك على الحياة الأخروية..لذلك نبين لكم أوامرنا بوضوح لكي تتفكروا فيها وتفهموها وتأخذوا كل خطوة على وجه البصيرة ولا تقبلوا شيئا قبولا أعمى.وقد يكون قوله (لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة) إشارة إلى قوله تعالى والمهما أكبر من نفعهما، فقال هنا: صحيح أن هناك بعض المنافع في الخمر والميسر..ولكن مضارها أكثر من الناحية الدنيوية وكذلك من الناحية الدينية، ولقد أعطيناكم الأوامر الأخرى أيضا لمنفعتكم، فعليكم إعمال الفكر والتدبر لتتخيروا طريقا يؤدي إلى النجاح في الدنيا والآخرة.

Page 579

الجزء الثاني ٥٧٦ سورة البقرة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحَ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (۲۲۱) شرح الكلمات : لأعنتكم_أعنت الراكب الدابة حملها ما لا تحتمله (الأقرب).التفسير : هناك ظلم وإجحاف يتعرض له اليتامى في عالم اليوم، فإما أنهم يعاملون بقسوة، أو برفق وحب مبالغ فيه وبالتالي يفسدون.يقال إن أباهم قد مات، ويرحمونهم رحمة كاذبة تفسد أخلاقهم وتدمر حياتهم، مع أن الواجب ألا يعاملوا بقسوة ولا أن يدلّلوا فيفسدوا.يقول القرآن: يجب أن تراعوا الإصلاح في كل حال، وتسلكوا سبيلا وسطا معتدلا في معاملتهم.وفي موضع آخر حث الله على تفقد أحوال اليتامى، وقال للذين يهملون في أمرهم وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم) (النساء: ١٠).وهكذا نبه الله إلى العناية باليتامى وتربيتهم، وبين أن هذه فريضة هامة.فالناس إنما يخافون الموت فقط لأنهم يرون أحدهم قد مات وترك أطفالا يلتمسون المساعدة من كل بيت، أو يضطرون للخدمة عند من يسيء معاملتهم ويقسو عليهم فيضربهم ويلطمهم غير مكترث لصراخهم وبكائهم، فيقول المرء: لو مت عامل الناس أولادي هكذا.أما إذا كان السلوك القومي عاليا ساميا، بحيث إذا مات أحدهم وترك يتامى تحركت عاطفة الحب والإخوة في القوم كلهم تجاه أولاده، وقال كل واحد هؤلاء أولاد أخي، يجب أن يسلّموا إلي لأربيهم كما أربي أولادي..فعندئذ يخلو كل قلب من خوف الموت، ويوقن كل واحد أنه لو مات وترك أيتاما فإن أبناء قومه ،موجودون وهم طيبون، وسوف يرعون أولاده كرعايته لهم، ولن يكون نصيبهم اللطم والركل بالأقدام.إذا ، فتفقد اليتامى وحسن معاملة الأرامل

Page 580

OVV سورة البقرة الجزء الثاني يخلق في القوم الشجاعة والبسالة.أما إذا كانت الأمة عارية عن هاتين الصفتين، واعتبر أبناؤها اليتامى خدماً في بيوتهم ، أو عاملوهم بأسوأ من معاملة الخدم، وأهانوهم على كل صغيرة، فمنذا الذي يريد أن يموت؟ كل امرئ سوف يفر من الموت في سبيل القوم، ويرى أن في موته موت أولاده وزوجته..فكيف يموت؟ ولأي غرض يضحى بنفسه؟ إذاً، يجب أن يصبح سلوك القوم كله سويا قويا بحيث إذا مات أحدهم لا يكون هناك سؤال : فمنذا الذي سوف يتفقد أولاده اليتامى؟ بل يُهرع الناس ويحتضنون أولاده ويأخذونهم إلى بيوتهم، ويربونهم كما يربون أولادهم بحب ورفق وشفقة.في زمن النبي تيتم طفل فتشاجر الصحابة أيهم يكفله.كان كل منهم يريد أن يرعاه ويربيه ووصل الخبر إلى النبي الله الله فقال : أحضروا اليتيم واتركوه ليختار بنفسه من يشاء.أما في أيامنا هذه فإذا أشرف أحد على الموت فإنه يكون أخوف ما يكون على زوجته وأولاده، ويفكر من ذا الذي يرعاهم ويربيهم، وينظر إليهم نظرة محبة ولطف؟ وبعد موته تنشأ قضية تربية أولاده، فتسمع كل واحد يقول: ليتني أستطيع رعايته ولكنني مثقل بأعباء كثيرة، وظروفي صعبة.وهكذا يتهرب كل منهم من هذا العبء.ولكن الصحابة لم يكونوا يفرون منه، وإنما كانوا يسعون لينالوا هذا الثواب.فإذا تحلى قوم بهذا الخلق، واعتنوا باليتامى والمساكين، وتولد في قلوبهم تقدير واحترام ،تجاههم، واعتبروا تربيتهم مدعاة لسكينتهم وراحتهم واعتبروا اليتامى بمثابة أولادهم الحقيقيين..فإن هذا القوم يكونون شجعانا ولا شك، وإن لم يكونوا من المؤمنين.فإذا جمعوا هذا الإيمان بالحياة بعد الموت، والتوكل على الإله الحي..نالت قلوبهم قوة لا يدنو منهم خوف الموت.إذا كنا نجد في الأمم الأوربية شجاعة، فذلك راجع أيضا إلى شعور شبابهم أنه إذا حلت بهم مصيبة الموت فإن قومهم سوف يُعنون بأولادهم وأراملهم لذلك لا يخافون فيتقدمون ويقدمون أرواحهم.الإيمان شيء آخر، ويتحلى به أولئك الذين ينالون نعمة تصديق نبي من عند الله تعالى، مع

Page 581

۵۷۸ سورة البقرة الجزء الثاني ولكن مثل هذا السلوك القوي لقوم أيضا يجعل أفراده شجعانا وإن لم يكونوا مؤمنين.قوله (وإن تخالطوهم فإخوانكم)..لو أشركتموهم في أمور الحياة المتنوعة فلكم أن تفعلوا ذلك.ونبه بقول (فإخوانكم) إلى أن تكون المعاملة بينكم وبينهم كما تكون معاملة الإخوة الكبار مع الإخوة الصغار.فالإخوة الكبار المسئولون عن أخوتهم الصغار يرعونهم بالحفاظ على أموالهم، وإطعامهم، ورد مالهم إليهم عندما يكبرون.وكذلك تبه الله تعالى بقوله (فإخوانكم) إلى أن الإخوة الكبار لا يتوقعون أن يأخذوا من إخوتهم الصغار، وإنما يعطونهم من عندهم.وهذا هو ما يتوقع منكم.وأشار بقوله (والله يعلم المفسد من (المصلح أنكم لو أفسدتم باسم الإصلاح، وعاملتم اليتامى بالقسوة والإيذاء، أو خربتم أخلاقهم بتدليل مبالغ فيه..فسوف تحاسبون عند الله على ذلك.وقوله تعالى (ولو شاء الله لأعنتكم)..أي لو أراد الله لأمركم بما يشق عليكم، كأن يأمركم بوضع أموال اليتامى على حدة، والإنفاق عليهم من أموالكم، ولكنه رحمكم وأمركم بما فيه تيسير عليكم.فيجب ألا تؤدي بكم هذه السهولة إلى الإهمال في تربية اليتامى أو إلى اغتصاب شيء من أموالهم.ثم قال (إن الله عزيز حكيم).وبهاتين الصفتين_العزيز والحكيم_وجه الانتباه إلى أمرين أولا بين أن اليتيم لا يقدر على أخذ حقوقه من الآخرين، ولكن الله (عزيز) فإذا كنتم غالبين على اليتيم فالله غالب عليكم، وإذا حاولتم إضاعة حقوقه، أو مارستم عليه ضغطا وقسوة لا داعي لهما، أو أكلتم ماله..فإن الله سوف يبطش بكم، وثانيا قال (حكيم): أي يجب أن تعاملوا اليتيم برفق،

Page 582

۵۷۹ سورة البقرة الجزء الثاني وتخلطوا ماله إلى مالكم بحكمة، فإن الله تعالى حكيم، فعليكم أن تفعلوا ما فيه الخير والنفع والصلاح.الترتيب والربط إن علاقة هذه الآية بالآيات التي قبلها هي أنه كان من الطبيعي أن ينشأ سؤال: بسبب الحرب سوف يستشهد كثير من الناس ويصبح أولادهم أيتاما..فكيف يعاملون؟ فرد الله على هذا السؤال الطبيعي، ونظم الموضوع كله في سلسلة من الحلقات.والواقع أن ترتيب مواضيع القرآن ليس كترتيب الكتب العادية، بل هو ترتيب طبعي، ويخالف ترتيب الناس في كتبهم.إن القرآن الكريم يذكر أولا ما يستحق أن يُذكر أولا، ثم يزيل الوساوس التي تتولد في قلب الإنسان عن الموضوع.فعن الحرب مثلا يتناول أولا السؤال المتعلق بالحرب، ثم يردّ على الأسئلة التي تنشأ عن هذا السؤال، ثم يذكر الأمور التي يمكن أن ينتقل إليها ذهن الإنسان.ولما كانت هذه الأسئلة طبعية يكون للرد عليها وقع خاص على القلب..لذلك يراعي القرآن الكريم هذا الترتيب الطبعي.وقد راعاه هنا.فعندما تناول موضوع الحرب ذكر معه الخمر والميسر اللذين لهما علاقة مباشرة بالحرب.وعندما منع من القمار لتغطية الحرب نشأ سؤال طبعي من أين نغطي هذه النفقات؟ فقال: تغطونها بما يزيد عن حاجاتكم الضرورية للحياة.ثم باستخدام كلمة واحدة (العفو) بين المدارج المختلفة للإنفاق من الدرجة العليا حتى الدرجة الدنيا.ثم تناول ذكر حقوق اليتامى لأن هذه القضية ستبرز وتزداد أهميتها بعد الحرب.إذا، فمن كمالات القرآن الكريم ومزاياه أنه راعى في تناوله للمواضيع ترتيبا رائعا يتفق مع فطرة الإنسان.فبمجرد أن ينشأ سؤال في الفطرة الإنسانية يجد الإنسان جوابا عليه في القرآن الكريم فورا.

Page 583

الجزء الثاني 01.سورة البقرة وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكِ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (۲۲۲)..شرح الكلمات: لا تنكحوا_نكح المرأة تزوجها (الأقرب).التفسير: يقول الله: لا تتزوجوا النسوة المشركات ما لم يدخلن في الإسلام.يعني إذا أسرتم بعض المشركات في الحرب فلا تتزوجوهن.أما إذا آمن فلكم أن تتزوجوهن.وهذا أيضا من أحكام ،الحرب، لأن المسلمين في أيامها كانوا يمكثون بعيدين عن بيوتهم، وكان من الممكن أن يخطر ببال أحدهم أن يتزوج امرأة مشركة وقعت في أسره.وقوله تعالى (ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) يعتبر هنا الأمة المؤمنة خيراً من المشركة الحرة، لأن المؤمنة لا يكون منها تحت العبودية سوى جسدها، أما المشركة الحرة فروحها أسيرة لدى الشيطان وعبودية الجسم لا حقيقة لها أمام عبودية الروح.ثم أمر ألا يزوّج المؤمنون نساءهم بالمشركين حتى يؤمنوا.والسبب أن المشركين يدعون إلى النار، بمعنى أن المؤمن إذا تزوج بامرأة مشركة أو إذا تزوجت المؤمنة برجل مشرك..فبما أن العلاقات الزوجية تؤثر على كل منهما..فإن هذا الزواج يُبعد المؤمنين عن الله تعالى وعن دينه، ويدفعهم إلى جهنم..مع أن الله يدعوهم إلى الجنة والمغفرة من عنده والجنة هي المكان الذي يُترع من قلوب سكانه كل نوع من الضغن والغل، ولكن لا يمكن للمؤمن والكافرة، أو للمؤمنة والكافر أن يتفقا أبدا، لأن هناك بعداً كبعد المشرق والمغرب بين التوحيد

Page 584

۵۸۱ الجزء الثاني سورة البقرة والشرك..وما دام لا يمكن أن يتحدا في عقائدهما الدينية والحضارة والفكر..فكيف يمكن أن يتفقا ويقضيا حياتهما الزوجية في وفاق ووئام؟ مع العلم بأن المشرك في الاصطلاح الشرعي يراد به من لا شريعة له.أما أهل الكتاب فلا يندرجون تحت المشركين.وكلمة (بإذنه) ترد دائما بمعنى أن الله يخلق الأسباب لإنجاز ما يريد..سواء كانت هذه الأسباب قدره العام أو قدره الخاص ولكن لا يعني ذلك أن الله ينجز هذا الأمر بخرق قانونه الطبيعي، وإنما يعني أنه بأمره الخاص يخلق عوامل لتحقق هذا الأمر.وقد وردت هذه الكلمة في أماكن أخرى من القرآن الكريم أيضا بهذا المعنى.وأخيرا قال ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون فنبّه إلى أننا قد بينا قانون الزواج، فمن واجبكم مراعاته والعمل بالهدي السماوي حتى في حالة الحرب التي تعمى الإنسان بسبب العداوة بين المتحاربين.وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (۲۲۳) شرح الكلمات : المحيض_الحيض، ووقته وموضعه(المفردات).أذى_الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر.وقوله (يسألونك عن المحيض قل هو أذى فسماه أذى باعتبار الشرع وباعتبار الطب على حسب ما يذكره أصحاب هذه الصناعة (المفردات).المتطهرين_تطهرت المرأة اغتسلت (الأقرب).

Page 585

الجزء الثاني سورة البقرة التفسير: عندما تنشأ العلاقة بين الرجل والمرأة بالزواج تزداد بالتدريج المسؤوليات الزوجية، وتتولد في قلب الإنسان بعض الأسئلة ولا بد من الإجابة عليها، وهنا رد الله على واحد من هذه الأسئلة وقال: يسألونك هل يجوز في أيام الحيض أن يمارس الرجل علاقاته الخاصة مع الزوجة؟ فقال إن الحيض نجاسة، فيجب تجنب العلاقات الجنسية في أيامه إلى أن تتطهر المرأة وتغتسل.الله أما قوله تعالى (ولا تقربوهن فلا يعني أنه لا يجوز لمس النساء باليد أو الجلوس بقرهن.وإنما النهي هن عن العلاقة الخاصة، فقد روت السيدة عائشة رضي عنها أن النبي ﷺ كان يقبلها ويجلس عندها في أيام حيضها (الترمذي، الطهارة).واختلف الفقهاء في الوقت الذي يجوز فيه اللقاء بين الزوجين..أهو بعد انقطاع دم الحيض أم بعد الاغتسال.الحقيقة أنه يجوز فيه بعد انقطاع الدم، ولكن الأحب إلى الله تعالى أن يكون ذلك بعد أن تغتسل.أما عن تطهر المرأة فقد قال النبي الله أن تضع المرأة شيئا من المسك في الماء وتغسل بها أعضاءها الداخلية وتنظفها (البخاري ، الحيض).وقد تبين طبيا أن هذه العملية تترك أثرا طيبا على صحة المرأة وعلى أولادها.وقوله تعالى (فأتوهن من حيث ما أمركم الله يدل على أن هناك أمراً سبق نزوله في هذا الصدد، وهو (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم) (البقرة: ١٨٨)..أي اتبعوا الطريق الطبيعي الذي حدده الله لكم.وابتغوا الذرية التي كتبها الله لكم.وكأنه قال : أقيموا علاقتكم الزوجية بحيث تُرزقون الأولاد، ولا تتبعوا أي طريق يتنافى مع الفطرة.وقوله تعالى (إن الله يحب التوابين وجه أنظارنا إلى أن الإنسان إذا ارتكب معصية فيجب أن تتولد في قلبه الندامة عليها فورا، وأن يتوب إلى الله تعالى، لأنه عز وجل يحب التوابين.

Page 586

۵۸۳ سورة البقرة الجزء الثاني ثم إن "التواب" يعني من يرجع إلى الله مرة أخرى ويدعوه ويتوسل إليه.وبناء على هذا يكون المعنى أن الذين يوقنون بأن نجاح أعمالهم منوط بالدعاء، فيرجعون إلى الله عند كل خطوة ويسألونه المعونة..فهؤلاء ينالون آخر المطاف الله ورضوانه.وكأن الندامة على الذنوب وإظهار التوبة، ثم التوجه إلى الله في كل وقت عصيب هي من الذرائع التي تفتح أبواب حب الله تعالى.ثم وجه الله أنظارنا بقوله ( ويحب المتطهرين) أيضا إلى أمرين: الأول_أن الله يحب المهتمين بالنظافة والواقع أن النظافة من أهم المقتضيات الطبيعية الإنسانية؛ أي يهتم الإنسان بنظافة الجسم والفم ،والثياب ولا يستخدم من الأشياء ما يؤذي حاسة الشم، بل يستخدم ما يبعث على الراحة.لقد اعتبر بعض الناس خطاً أن العمل بهذا المقتضى مخالف لطريق أهل الصلاح والتقوى الكبار، فاختاروا طريقا تصبح بها الطيبات التي خلقها الله للناس عقيمة لا فائدة منها، أو تلمح إلى عباد الله الذين يستخدمونها آثمين.إن الرسول ﷺ قد هتك حجاب هذا الصلاح المصطنع والتقوى الكاذبة، وأخبر أن الله طاهر يحب أهل الطهارة والنظافة.وكان النبي صلى الله وعليه وسلم يستحم مرارا، وفرض الاستحمام في كثير من المناسبات (أبو داود الطهارة).إن الإنسان بسبب انشغاله في أعمال البيت يتكاسل في شأن النظافة، لذلك فرض النبي بأمر من الله تعالى أن الزوجان بعد اللقاء (الترمذي (الطهارة.وكان النبي يغسل أعضاءه تتعرض عموما للغبار والوسخ قبل الصلوات الخمس اليومية، كما أمر الآخرين يستحم التي بذلك (المرجع السابق).وكان يحب نظافة الثياب، ويحبذ ارتداء الملابس النظيفة واستخدام العطر يوم الجمعة.كما كان يأمر الآخرين بالتعطر لحضور المناسبات والاجتماعات.ونظرًا لأن اجتماع الناس في مكان واحد يحمل خطر تفشي بعض الأمراض المعدية لذلك كان النبي يأمر بنظافة هذه الأماكن وتعطيرها المشكاة، الصلاة.البخاري، اللباس.وكان النبي يتجنب استخدام المواد التي تحدث رائحة كريهة وكان ينهى من تناول الأطعمة ذات

Page 587

الجزء الثاني ٥٨٤ سورة البقرة الرائحة الكريهة أن يحضروا هذه الأماكن الترمذي، أبواب الأطعمة).فكان يراعي طهارة الجسم ونظافة اللباس، ويهتم خاصة بما يؤذي حاسة الشم، ويوصي الآخرين بذلك.كما كان ينصح أيضا ألا ينهمك المرء في نظافة جسمه بحيث ينسى طهارة روحه، وألا يهتم بطهارة اللباس بما يعطله عن خدمة دينه وبلده وينأى عن صحبة الناس.كما أوصى ألا يبالغ الإنسان في الاحتياط حتى يترك بعض الأطعمة الضرورية النافعة.نعم، عليه ألا يؤذي أهل المجالس حتى يعتبروه من المتمدنين الطيبين، وحتى لا تثقل عليهم صحبته، بل يرحبون به ويحبون لقاءه.إذن فهؤلاء نصحوا بأن يُهمل الإنسان النظافة واستخدام العطور لأن ذلك في ظنهم يطهر الجسم ولكنه ينجس القلب..ولكن الإسلام يعلن أن الله (يحب المتطهرين)..أي يحب الطهارة الظاهرة والباطنة.وكأن الإسلام بإعلانه هذا قد دحض أقوال الفرق المسيحية والهندوسية التي تحرم النظافة والتعطر على صلحائها، ويعتبرون من أعظم آيات الصلاح أن يلبس الإنسان أسمالا متسخة منتنة، ولا يقلم أظافره، ولا يخلص جسده من الأوساخ بالاستحمام.لقد أبطل الإسلام هذه النظرية، وبين أن الله يحب من يرجع إليه مرة بعد أخرى، ويحب من يهتم بطهارة جسمه ونظافة لباسه ويتجنب كل الأوساخ.ونظرا لهذا المعنى فإن قوله تعالى ( ويحب المتطهرين) يوجه النظر إلى أن الله يحب للرجل أن يباشر زوجته بعد أن تستحم من الحيض؛ وأن اللقاء الجنسي معها قبل ذلك ينافي قوله (ويحب المتطهرين).والمعنى الثاني للمتطهر : الذي يتطهر بالجهد والسعي الزائد.فيكون قوله (يحب المتطهرين) إشارة إلى أنه يحب من يجتهد ويسعى ليكون مثله سبحانه وتعالى.فعلى الإنسان أن يحاول التحلّي بالصفات الإلهية المذكورة في القرآن الكريم.إنك لا تستطيع أن تكون مُحْيِبًا مثل الله تعالى، ولكن تستطيع أن تكون متصفا بصفة الإحياء بأن تعالج المرضى.إنك لا تستطيع أن تكون مميتا مثل الله، ولكن بوسعك

Page 588

оло سورة البقرة الجزء الثاني أن تتشبه بالرب المميت بأن تقضي على الشر.إنك لا تستطيع أن تكون "خالقا" مثل الله، ولكن يمكنك أن تشبهه بإنجاب ذرية صالحة.يقول عز وجل: إذا كنتم تحبوني فقلّدوني، واسعوا للاتصاف بصفاتي تنالوا حبي.نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لَأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ( ٢٢٤) شرح الكلمات انى: معناه: أين؛ من أين؛ كيف (الأقرب).التفسير : هنا مثل الله المرأة بالحرث لينبهنا أولا إلى ضرورة السعي ليكون هذا الحرث مثمرا، وإلى ذلك يشير حديث النبي تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم) (أبو داود والنسائي النكاح..أي تزوجوا من النسوة من تلد كثيرا من الأولاد وتحب الزوج..لأنني سوف أفاخر الأنبياء الآخرين يوم القيامة بكثرة أمتي.وثانيا - إلى ضرورة معاملة نسائكم بحيث لا تضيع قواكم وقواهن.إذا ألقى الفلاح بذرا أكثر من الحاجة فسد البذر ونقص المحصول.وإذا زرع النبات زرعا متتاليا بدون فترة للراحة أجهد الأرض وضعُف المحصول.فيجب أن يقوم الإنسان بكل عمل في الحدود المناسبة..كما أن الفلاح العاقل يعامل زرعه بتعقل وحكمة.ويستدل أيضا من قول الله هذا جواز ضبط النسل في بعض الأحوال، لأن الإنسان إذا زرع الأرض بعد حصادها مباشرة ضعف المحصول التالي، أما في الزرعة الثالثة فسيكون الحال أسوأ.إن الإسلام لا يمنع من الأولاد، بل يحث ويقول (وقدموا لأنفسكم)..أي باشروا نساءكم بما يحقق لكم الذرية ويُبقي ذكركم، ولكنه أيضا بين أن القانون الذي تراعونه في حرثكم لا بد من مراعاته فيما يتعلق بإنجاب الأولاد، فإذا كانت صحة المرأة ضعيفة، أو كانت تربية الطفل لا تتم كما يجب..فيجب أن توقفوا سلسلة الولادة.

Page 589

٥٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني وثالثا- أن تنشئوا مع المرأة علاقة تكون ثمرتها الأولاد ومن هذا المعنى يُستدل على النهي عن كل عمل غير فطري.إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، ويتحدث بحذر في كل أمر بحيث يحقق الغرض بدون أن يضر حديثه أخلاق الإنسان.ولكن بعض الناس لجهلهم أخطأوا في فهم قوله تعالى (أنى شئتم)، واستدلوا منه استدلالات خاطئة إن الآريين والهندوس على وجه الخصوص اعترفوا وقالوا: إن الإسلام قد رخص بذلك لأتباعه أن يعاملوهن بدون تعقل وهوادة، وأن يختاروا أي طريق – لو كان مخالفا للفطرة - في العلاقات الجنسية بين الزوج وامرأته (ستيارث بركاش، باب ١٤ ص ٦٧٦) ، ولكن هذا الظن باطل تماما.فإن الله بهذه الكلمات قد حذر الإنسان وقال: إن نساءكم حرث لكم، فعاملوهن كما يعامل الحرث، وتذكروا أن تفعلوا ما فيه الخير لكم وإلا فسوف تتحملون الوبال.عندما يزوّج الناس بناتهم يقولون لأهل العريس: لقد أعطيناكم ابنتنا فعاملوها كما شئتم، ولا يعنون أن يضربوها ويهينوها، ولكن يعنون أنها أصبحت ملكا لكم فاحتفظوا بها في عنايتكم.وقوله تعالى (أنى شئتم) يعني أن الزوجة أصبحت شيئا يخصكم، فالخيار لكم الآن: فإذا أسأتم معاملتها فسوف تتحملون أنتم النتائج السيئة، وإذا عاملتموها بالحسنى فسوف تجنون أطيب الثمار، وتنالون ذكرا حسنا في الدنيا، وتصونون أرواحكم في الآخرة.لا شك أنه فلاح أحمق ذلك الذي يبذر بذرا فاسدا، أو لا يتفقد حرثه بعد إلقاء البذر، ولا يحاول الحصول على محصول جيد.ولكن الناس عموما يغضون النظر عن هذا القانون فيما يتعلق بمعاملاتهم مع النساء، فلا يحافظون على هذا البذر كما يجب..لا من حيث الجسم ولا من حيث الأخلاق، كما لا يهتمون بصحة المرأة وحاجاتها ولا يولون عناية صحيحة بتربية الأولاد..مما يضر بصحة الأزواج هم وبصحة الزوجات، كما أن أولادهم لا يشبون ليكونوا ذرية نافعة للشعب.إن الله تعالى قد وجه هنا نظر الناس إلى هذا الأمر الهام، وبين أنكم كما تحافظون على حرثكم وتبذلون الجهود لمحصول أفضل..كذلك عليكم أن تحافظوا على

Page 590

الجزء الثاني أكلا ۵۸۷ سورة البقرة النسوة، وتولوا اهتماما خاصا بتربية الجيل القادم وتعليمه، حتى يؤتيكم حرثكم روحانيا ينفع العالم، وتنالوا به حياة جديدة.وبقوله تعالى (وقدموا لأنفسكم أمرنا أن نقوم بما تكون نتيجته طيبة وصالحة لنا من حيث الصحة ومن حيث النسل.وقوله (وقدموا لأنفسكم) يشابه قوله تعالى (وابتغوا ما كتب الله لكم.إن أطفال اليوم آباء الغد، لذلك اعملوا لتحصلوا على ويعني أولاد ينشرون اسمكم في الدنيا، ويحققون لكم عزة وذكرا خيرا في الآخرة.أيضا قوله (وقدموا لأنفسكم أن الدنيا بمثابة الحرث الذي يؤتي محصولا لا ينتفع به الإنسان في الآخرة، فمن واجبكم أن تهتموا بهذا الحرث وتعملوا أعمالا يجلب كل عمل منها آلافا من النعم الإلهية.وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٥) شرح الكلمات : عُرضة: ما يُجعل مُعرَّضا للشيء، وما يتخذ ذريعة لتحقيق ضرورة، فيقال: البعير عرضة للسفر (المفردات).والعرضة: حيلة في المصارعة (الأقرب).أيمان جمعُ يمين واليمين: الجهة اليمنى؛ الجانب الأيمن من الجسم؛ القسم؛ البركة؛ القوة (الأقرب).ويقال للشيء الذي يُقسم لأجله، قال النبي ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة: (إذا حَلَفْتَ على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك) (مسند أحمد جزء ٥ ص ٦٣).التفسير: يقول الله تعالى : لا تتخذوا الله عرضة فكما يطلق الرامي بالسهام عُرضته مرة بعد أخرى، كذلك لا تقسموا باسمي مرة بعد أخرى وتقولوا: والله سوف نفعل كذا، بالله سوف نقوم بكذا.وقوله أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس جملة استئنافية منفصلة، هي مبتدأ خبرها محذوف وتقديره: أولى وأحق أي بركم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس

Page 591

الجزء الثاني أن ۵۸۸ سورة البقرة أمثل وأولى.لا يليق بالإنسان أن يكتفي بالقسم، بل عليه أن ينجز عملا بدلا من يقسم قسما.ما الفائدة في أن يقسم قبل أن يفعل شيئا؟ هذا هو ما قاله النحوي الشهير والأديب الزجاج (البحر المحيط).والمعنى الثاني ألا تجعلوا الله عائقا يحول دون إتيانكم الأمور التي تقسمون لأجلها..من البر والتقوى والإصلاح بين الناس.وباعتبار هذا المعنى تكون هذه الخيرات الثلاثة عطف بيان، ولا تكون الأيمان بمعنى الأقسام، وإنما بمعنى الأمور التي يُقسم عليها أو لأجلها.والمراد: لا تحلفوا بالله ألا تفعلوا كذا من البر والعمل الصالح..تنصلا من سؤال الناس ولا تتذرعوا بالقسم لتتهربوا من القيام بهذه الأعمال.فمثلا يأتي أحد المحتاجين ويطلب بعض المال فيرد المسئول : لقد أقسمت ألا أقرض أحدا.العلامة أبو حيان أن الأفضل اعتبار قوله تعالى أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) بدلا وليس عطف بيان..لأن الأعلام هي التي تكون عطف بيان (المرجع السابق).على أية حال فالمعنى في كلتا الصورتين : إذا دعاكم أحد لعمل من أعمال ویری البر والتقوى والإصلاح بين الناس فلا تقولوا: لقد أقسمنا بالله أن لا نفعلها.والصورة الثالثة أن يعتبر قوله أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) مفعولا لأجله، والمعنى: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم كراهة أن تبروا..والمراد: لا تقسموا بأنكم لن تفعلوا هذه الأعمال وإلا تحرمون من هذه الحسنات عليكم تجنب هذا الأسلوب التافه لكي تتقدموا في البر والتقوى والإصلاح بين الناس.الحقيقة أن كل هذه المعاني المذكورة آنفا متشابهة مترادفة.وقد لجأ المفسرون إلى هذه الطرق المختلفة لحل المشكلة الموجودة في العبارة العربية.أما ما يتفقون عليه جميعا فهو أن هذه الآية تعني ألا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم في كل صغيرة وكبيرة، فإن هذا يتنافى مع احترام الدين، والذي يقسم على كل شيء يمكن أن يقسم في أمور الدين والخيرات أنه لن يفعل أمرا كهذا، والنتيجة أنه إما أن يسيء الأدب تجاه الدين، أو يُحرم من حسنات كثيرة.أو لا تجعلوا الله عائقا يحول دون إتيانكم الأعمال الحسنة.وفي هذه الصورة ينطبق معنى اليمين أي الحيلة في المصارعة انطباقا جيدا.والمراد أن بعض الناس يتهربون من

Page 592

۵۸۹ سورة البقرة الجزء الثاني فعل الخيرات كأداء صدقة مثلا بأنواع الحيل ويتخذون القسم بالله ذريعة للتنصل منها.وكأن القسم بالله أيضا من الحيل التي يصرع بها الإنسان الآخرين.فلا تستخدموا اسم الله لمثل هذه الحيل الخبيثة.وأرى أن أفضل شرح قدمه العلامة أبو حيان لا تجعلوا الله عائقا يحول دون إتيانكم فعل الخيرات والإحسان إلى الناس.وقوله تعالى (والله سميع عليم) بيّن أنه إذا واجهتم المشاكل والعوائق في سبيل البر والتقوى والإصلاح بين الناس فاستعينوا بالله على إزالتها واشتغلوا بالدعاء دائما..لأن هذه المهام لا تتم إلا بالدعاء.ثم بين أن الله إذا أنبتم إليه-سوف يعلمكم من علمه الخاص، ولن تبقى قدمكم على الدرجة الدنيا من سلم التقوى والبر.لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٦) شرح الكلمات : حليم من الحلم هو الصبر والحليم كثير الروية والأناة، الذي لا يقوم بأي عمل طائش والحلم العقل، وقد يقابل به الجهل والسفاهة (الأقرب).التفسير : الأيمان التي تُعتبر من اللغو على ثلاثة أقسام: الأول – ما يكون بسبب العادة، كأن يقول الإنسان دائما: والله، تالله.والثاني – أن يقسم بيقين على أن قوله صحيح مع أنه مخطئ في يقينه هذا..كأن يقول: والله فلان في مكان كذا، في حين أن فلانا هذا يكون قد ترك المكان.والثالث- يقسمه الإنسان في شدة الغضب عندما يفقد صوابه، أو أن يقسم على تناول حرام أو ترك فرض بسبب حماس مؤقت.كل هذه من لغو الأيمان ولا كفارة عليها.قبل ذلك نهى الله عن القسم، والآن يبيّن أنه لا يؤاخذ على اللغو من الأيمان.ولكن ذلك لا يعني أن الإنسان لا يحتاج إلى الاحتياط والحذر في القسم، فيحلف لغو الأيمان ليل نهار.فالله يقول عن المؤمنين والذي هم عن اللغو معرضون)(المؤمنون:

Page 593

۵۹۰ سورة البقرة الجزء الثاني ٤).فالذي يقسم لغو الأيمان لا شك أنه مخطئ مذنب، ولا بد له من التوبة على هذا الذنب وإظهار الندامة.ولكن إذا حنث الإنسان في مثل هذه الأيمان فلا كفارة عليه، ولبيان هذا المعنى قال تعالى (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم).وقد قال البعض (لا يؤاخذكم الله يعني لا بأس ولا حرج في ذلك.ولكن هذا غير صحيح.فهنا ينفي الله المؤاخذة على هذه الأيمان، ويوصي بتجنب لغو الأيمان.وقوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم لا يتضمن الأنواع الثلاثة للأيمان، لأن القسم بسبب العادة أو الغضب أو عدم الحذر والحيطة لا يكون عمدا، بل إن الإنسان في بعض الأحيان لا يدرك أنه يقسم.فقوله ما كسبت قلوبكم) يدل على أن القسم المذكور هنا هو القسم المتعمد..أي أنه يعرف الأمر.ولكنه يخالفه في قسمه.وقد ذكر الله ما يكفر عن اليمين المتعمد في قوله (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) (المائدة: ٩٠).وهنا سؤال: هل يجوز القسم بالقرآن؟ والجواب عندي أنه إذا كان ذلك في بلد يعتاد أهله القسم بالقرآن فيجوز ، لأن القسم بالقرآن الكريم يترك أثرا غير عادي في قلب الخصم.ويتبين من قوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم أنه لو تولد في قلب الإنسان أفكار تُعد من سوء الأخلاق، كأن يسيء الظن بأخيه، أو تنشأ فيه عاطفة الاستكبار والحسد والنفور تجاهه، ولكنه يكبتها ويقاومها فهذا لا يُعد من سوء أخلاقه..لأنه في الحقيقة يقاوم سوء الأخلاق ويستحق على ذلك ثناء.ومن يتولد في قلبه فكرة لعمل الخير أو يميل طبعه إلى حسن معاملة أحد، ولكنه يكبت هذه الفكرة ويمنعها من الخروج إلى حيز العمل فلا يعتبر هذا أيضا صاحب أخلاق حسنة، وإن كانت عاطفته المؤقتة هذه جديرة بالمدح، لأن الأخلاق هي ما يقوم به الإنسان بالإرادة.ولكن ما ذكر من قبل من أفكار سيئة أو حسنة لا تكون بإرادة الإنسان وإنما تحدث بتأثيرات خارجية لا يتعمدها وتزول.فورا.وإلى هذا الأمر يشير القرآن بقوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم)..إنما يؤاخذكم الله ويعاقبكم

Page 594

الجزء الثاني ۰۹۱ سورة البقرة على أفكار تتولد بإرادتكم، وليس على تلك التي تتولد في أذهانكم فجأة ثم تزول أيضا فورا.وقد شرح النبي الله هذا الأمر في حديث يقول فيه إنه إذا تولدت فكرة سيئة في قلب إنسان فنفضها عنه فإنه يثاب عليها، ونص الحديث: (وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) (البخاري،الرقاق).ثم قال (والله غفور حليم فدل بكلمة (غفور أنكم لو تجنبتم مثل هذه الأيمان وتبتم فسوف نغفر لكم، ونبه بكلمة ( حليم) إلى أننا لم نؤاخذكم على هذا اللغو من الأيمان لأننا لو فعلنا ما استطعتم النجاة.لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءِوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (۲۲۷) وإِنْ عَزَمَوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٍ (۲۲۸) شرح الكلمات : يُؤْلُون: آلى يؤلي إيلاء: أي أقسم ألوتُ في الأمر: قصرت فيه.والإيلاء في الشرع للحلف المانع من جماع المرأة (المفردات)..لأن في هذا هضم وإتلاف لحقوق المرأة ولذلك سمي إيلاء.فاءوا: فاء وا: فاء يفيء فتا: رجع.فاء الأمر: رجع إليه (الأقرب).والفيء: الرجوع إلى أمور محمودة (المفردات).والفيء في الحقيقة التعاون على إنجاز أمر فيه صالح الفريقين.والفيء الظل، لأنه يتحرك هنا وهناك مع الشمس.وبناء على هذا المعنى فإن الفيء تستخدم عموما في معان حسنة.التفسير: الإيلاء هو الحلف، ولكنه في الاصطلاح أن يحلف الإنسان أن ينفصل عن زوجته.كان من عادة العرب أن البعض منهم كانوا لا يطلقون زوجاتهم، وإنما يقسمون ألا يقيموا معهن أي علاقة وكانوا يظنون أنهم بحلفهم هذا قد تحرروا من المسئوليات الملقاة عليهم تجاه زوجاتهم، ظنا منهم أن الوفاء بالحلف مسئولية تجاه الله، وهي أهم من مسئولياتهم تجاه الناس وكانوا يرون أن الحلف بالله صار عائقا،

Page 595

۵۹۲ سورة البقرة الجزء الثاني وليس من الإثم ألا يؤدوا حقوق المرأة.وهذه الفكرة السيئة لا تزال موجودة إلى اليوم، بل إن بعض المسلمين أيضا ينقطعون عن زوجاتهم ولا يطلقونهن.يقول الله: إذا فعل المرء هذا فأمامه مهلة أربعة أشهر؛ فإن تصالح معها في هذه الفترة وإلا فإن القاضي سوف يحكم بطلاقها منه كما تبين الآية التالية.والواقع أن الله أمر في هذه الآية بألا تترك المرأة كالمعلقة فإما أن يطلقها أو يرجع إليها.للرجل أن يؤلي ويعزم على عدم الاقتراب من زوجته لأربعة أشهر كحد أقصى، أما الذي يؤلي لأكثر من أربعة أشهر فلزوجته الحق في أن تحصل على الطلاق منه ولا يحدث الطلاق في هذه الفترة تلقائيا لأن الحكم في ذلك مذكور فيما بعد، ولكن للمرأة الحق في الحصول على الطلاق.أما الذي يؤلي لمدة أقل من أربعة أشهر، كأن يعلن الإيلاء لمدة عشرة أيام مثلا ثم يرجع إليها، ثم يعلن لمدة أخرى ويرجع إليها وهكذا..فإن وصل المجموع إلى أربعة أشهر ثم الى بعد ذلك فلا يجوز إيلاؤه، وللزوجة حق الطلاق حتما.فبعض الناس يؤذون زوجاتهم بإيلاء فترات أقصر من أربعة أشهر حتى لا تنتهي أربعة أشهر ولا هي تحصل على الطلاق، ولكن هذا الطريق خطأ تماما.وقد اختلف الفقهاء في تفاصيل أحكام هذه الآية.فمنهم من يقول إنه إذا انقضت هذه الفترة، و لم يباشر فيها الرجل زوجته، و لم يرجع إليها باللسان..فيفصل بينهما القاضي، وهذا قول الإمام مالك، ولكن الإمام أبا حنيفة يرى أن رجوع الزوج عن الإيلاء جائز قبل انتهاء فترة أربعة أشهر.فإن انتهت فلا حق له في الرجوع إلى زوجته، ويحصل الطلاق بينهما تلقائيا مع انتهاء هذه الفترة.هذا القول أفضل، ولكن قول الإمام مالك أحوط.أما الإمامان الشافعي وابن حنبل فرأيهما أنه لو لم يرجع في مدة أربعة أشهر فعلى القاضي أن يجبره إما على الرجوع أو على الطلاق.وإذا لم يرض بأحدهما فرق القاضي بينها بحكم الطلاق، وهذا الرأي أيضا قريب من قول الإمام مالك.أما الإمام النخعى فيقول إن رجوعه لا يتم سرا ولا بالإشارة، وإنما يجب أن يتم باللسان أمام الشهود (الفقه) على المذاهب الأربعة للجزيري، والكشاف).

Page 596

الجزء الثاني ۵۹۳ سورة البقرة وأشار بقوله تعالى (فإن الله غفور رحيم) إلى أن مثل هذه الحلف دون أي ومضايقة الزوجة هكذا إثم يجب أن يتوب صاحبه فلا يضايقها.مبرر وقوله (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم)..حذر الله الرجل بقوله (سميع) أنه لو ظلم زوجته فليعلم أنه لن ينجو من عواقبه الوخيمة، لأن الله يسمع تظلم المرأة ويستجيب لها.وبقوله (عليم) بين أن الله مُطَّلِع على ما يختلج في قلوبكم من أفكار، وسوف يعاملك بحسبها، فيجب أن تكونوا حذرين في تعاملكم، لأن بوسعكم خداع الدنيا، ولكنكم لن تستطيعوا خداع الله جل وعلا.يتحدث الله هنا عن حسن معاملة النساء، فإذا أقسم أحد أنه لن يعامل زوجته معاملة حسنة فإن قَسَمَهُ هذا يكون بمثابة الأيمان المذكورة من قبل في قوله (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) - ٢٢٥.وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يَوْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (۲۲۹) التفسير : هنا بدأ الله مسائل الطلاق.وأول ما أمر ثلاثة قروء، فما هو المراد من القروء؟ رضي الله أن تنتظر المطلقة به وجوب لقد اختلف علماء الأمة في هذا فرقتين: فالقرء الحيض، وذلك عند الخلفاء الأربعة عنهم..أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويرى عبد الله بن مسعود وأبو حنيفة هذا الرأي أيضا (تفسير ابن كثير والطبري ولكن السيدة عائشة رضي الله بن عمر وزيد بن ثابت والإمام مالك والإمام الشافعي فيقولون إن القرء هو الطهر.ويقول الشيخ محي الدين بن العربي أنه رأى في المنام فقال له: عنها وعبد الله مراد يا رسول الله، يرى العرب أن القرء هو الحيض، والطهر أيضا..فما هو مرا ذلك؟ ويتبين من جواب النبي له في المنام أنه أفتى بصحة المعنيين، ولكنه الله في رجح

Page 597

٥٩٤ سورة البقرة الجزء الثاني معنى الطهر إذا قال له ثلاث مرات : إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء، وكلوا مما رزقكم الله (الفتوحات المكية، ج ٤ ، باب ٥٦٠).أن الحكمة وراء العدة - وهي فترة انتظار المطلقة واضحة جدا إذ يجد فيها الزوج فرصة للتفكير، وإذا كان في قلبه حب لزوجته احتفظ بها.وبقوله (ولا) يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) يأمر المرأة إن كانت حاملا أن تخبر زوجها.لأن معرفة الزوج بذلك قد يحيي عاطفة الحب بينهما ويتصالحان.و(ذلك) في قوله (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك يشير إلى فترة التربص والانتظار.يقول الله تعالى إنه إذا أراد الزوج إعادة العلاقة مرة أخرى أثناء هذه الفترة فيجب أن لا يحول دون ذلك أحد.ومن أكبر أسباب هذا الهدي القرآني أن أقارب المرأة عموما يقولون إن الزوج لم يحسن معاملتها وطلقها مرة ولسنا الآن مستعدين لاستمرار العلاقات معه، يقول الله: يجب على أقارب الزوجة ألا يقفوا حائلا دون تجديد العلاقات بين الزوجين.إذا أدرك الزوج خطأه وأراد الرجوع إليها، فهو أحق بها من أي أحد غيره وله أن يرجع إليها في فترة العدة.وفي قوله تعالى ولهن) مثل الذي عليهن بالمعروف بين قاعدة عامة بأن المرأة والرجل كليهما متساوية حقوقهما على صعيد الإنسانية.فكما أن على المرأة أداء بعض الحقوق للرجل، كذلك على الرجل أداء بعض الحقوق تجاه المرأة.ويجب ألا يفعل أحد منهما ما لا يناسب.لم يكن قبل النبي أي اعتراف بحقوق للمرأة على الرجل، وإنما كانوا يعتبرونها كالعقار والمال..تنتقل من يد إلى أخرى كالإرث.وكانوا يرون أن مولدها مجلبة للمسرة والمتعة للرجل، بل إن المسيحيين الذي يدعون بأنهم حماة حقوق المرأة قد ورد في كتبهم المقدسة عن المرأة ما يلي: يجب ألا يغطي الرجل رأسه لأنه صورة الرب ومجده، أما المرأة فهي مجد الرجل) (كورنثوس: ٧:١١).كذلك جاء: ولست أذن للمرأة أن تعلّم تيموثاوس (۱۲:۲.إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أبرز مكانة المرأة كإنسانة، وإن الرسول لله هو الإنسان الأول الذي أمر

Page 598

٥٩٥ سورة البقرة الجزء الثاني للمرأة بحقوق مساوية للرجل على أساس من الإنسانية، ورسّخ في أذهان الناس معنى قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وما جاء في كلامه من نصائح تحض على حسن معاشرة النساء وأداء حقوقهن وتبرز قدراتهن الكاملة..فإنه لا يوجد عشر معشاره في توجيهات أي زعيم ديني آخر.هناك ضجة اليوم في العالم بشأن أداء حقوق النسوة، بل إن بعض الشباب المتأثرين من الحضارة الغربية يقولون إن المسيحية هي التي أدت حقوق المرأة إليها، ولكن التعاليم والنصائح التي قدمها الإسلام فيما يتعلق بأداء حقوق النسوة لا تبلغ التعاليم المسيحية شأوها.كانت عادة العرب أن توزع أمهاتهم في الإرث، ولكن الإسلام جاء فوضع المرأة في قائمة الورثة أنفسهم، فترث الزوجة زوجها والبنت أباها، وأحيانا ترث الأخت أخاها.نعم الله فقوله (ولهن مثل الذي عليهن يعني أنه فيما يتعلق بالحقوق على صعيد الإنسانية فللنسوة حقوق كمثل حقوق الرجال، ولا فرق بين الجنسين في هذا الأمر.فكما أن الله قد وجه بعض الأوامر إلى الجنسين على السواء، كذلك جعلهما شركاء في الله على السواء.وكما سينال المرء نعم يوم القيامة بحسب تعليم الإسلام كذلك ستحظى المرأة أيضا بهذه النعم إن الله تعالى لم يهضم لهن حقا في هذه الدنيا، ولم يحرمهن في الآخرة من أي نعمة إلا أنه أعلن أن للرجال عليهن درجة.من حيث الحقوق..المرأة والرجل ،متساويان ولكن من ناحية النظام والإدارة، فللرجال على النسوة نوع من الفوقية.مثال ذلك القاضي.فهو متساو مع سائر الرجال في الحقوق، وكما أنه لا يجوز لأي إنسان صغر أو كبر، أن يظلم..كذلك لا يجوز هذا للقاضي، ولكنه لكونه قاضيا يحظى بدرجة على غيره، لأن عنده السلطة لإنزال العقوبة على الآخرين بحسب القانون.كذلك تماما فيما يتعلق بالمعاملات الدينية والمدنية فإن الرجل والمرأة ،سيان لكن أعطى الله الرجل نوعا من الفضيلة لكونه قوّاما.وفي نفس الوقت زوّد الله المرأة بقوة استمالة قلب الرجل مما يجعلها في كثير من الأحيان غالبة عليه إن النسوة في البنغال كما هو مشهور عنهن يملكن من الفتنة والجمال ما يسحرن به الرجال.وبالفعل هناك كثير من

Page 599

٥٩٦ سورة البقرة الجزء الثاني النسوة يتحكمن في الرجال بسبب هذه الفتنة حتى يبدو كأن الأمر كله في يد المرأة.فالحقيقة أن سلطة وحكم كل إنسان مختلف عن غيره.ففيما يتعلق بتنفيذ أحكام الشرع وتوطيد النظام فإن الله تعالى قد وهب الرجل فضيلة على المرأة.فمثلا، يأمر شرعنا بأنه لا يجوز للفتاة الزواج إلا بأذن أبيها (البخاري، النكاح).وفي هذه الوصية كثير من المنافع والمصالح.هناك آلاف من الأحداث وقعت في أوروبا تمكن فيها المخادعون بمظهرهم الوسيم من الزواج بفتيات من أسر كبيرة، ثم حدثت كثير من المفاسد والشرور.ولكن هذا لا يحدث في بلادنا، لأنه قبل الزواج يشترك الآباء والإخوة والأقارب في البحث والتحري وما يتم بعد ذلك يكون عموما خاليا من هذه النقائص والعيوب الموجودة في الغرب.لقد تفاقم هذا العيب في المجتمع الغربي حتى أن أخت إمبراطور ألمانيا السابق تزوجت لجهالتها بطباخ لأنه جميل المظهر، وأشاع بين الناس أنه أمير من أمراء روسيا، وبعد الزواج تبين أنه كان يعمل طباخا.تقع هذه الأحداث في أوروبا بكثرة لتؤكد صحة ما قرره الله من أن الرجل هو القوام.ولكن لا يعني الشرع بذلك أن يظلم الرجل المرأة أو يهضم حقوقها، وإنما يستهدف حماية المرأة من ضرر قد يصيبها في بعض الأمور.أما الأمور التي لا يمكن أن تتضرر فيها فإن حق القرار أبقاه الله في يد المرأة.فالأوامر القرآنية تتضمن كثيرا من الحكم والمصالح، وإذا خالفتها الدنيا عانت كثيرا من الأضرار، مما يؤكد أن مخالفة تعاليم الإسلام لا تأتي بنتائج طيبة محمودة.قوله تعالى (والله عزيز حكيم ينبه الرجال أن لا يستغلوا ما أعطاهم الله من درجة على النساء فيهضموا حقوقهن، وليتذكروا أن هناك حاكما عزيزا فوقهم، يملك القوة الحقيقية.وتدل كلمة (حكيم) على أن السلطة التي أُعطيها الرجل لإدارة الأمور وإقامة النظام مبنية على الحكمة الكاملة، وإلا ضاع الأمن من البيوت.لا بد للزوجين أن يعيشا معا ولا يمكن أن يتوطد النظام ما لم يكن لأحدهما درجة.ولهذا السبب أعطي المرء درجة.وفي موضع آخر بين سببا آخر لذلك وقال لأن الرجل ينفق على المرأة فاستحق بذلك الفوقية لإدارة الأمور (النساء: (٣٥).

Page 600

الجزء الثاني ۵۹۷ سورة البقرة الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا أَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَحَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (۲۳۰) التفسير : المراد من قوله الطلاق مرتان أن الطلاق الذي يمكن للزوج بعده أن يرجع إلى زوجته مرتان ولا يجوز للرجل أن يطلق المرأة مرة بعد أخرى، ثم عندما توشك فترة العدة على الانتهاء يرجع إليها..لأن هذه سخرية خبيثة بأحكام الدين لا يسمح بها الإسلام أبدا.تذكر الأحاديث صراحة أنه في زمن النبي ﷺ قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك أبدا فتبينين [أي تنفصلين مني، ولا آويك أبدا.قالت كيف ذلك؟ قال: أطلقك حتى إذا جاء أجلك أراجعك.فجاءت النبي ﷺ وحكت له ما جرى، فترل قول الله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) (الترمذي، الطلاق).يتضح من هذه الرواية جليا أن للرجل حق إعادة زوجته إليه بعد كل تطليقة من تطليقتين، ولكن بعد الطلاق الثالث لا حق له في إرجاعها ولا تتم التطليقتان دفعة واحدة، بل لا بد أن تتم الطلقة الأولى ثم الطلقة الثانية كما يشير قوله تعالى (مرتان)..أي مرة بعد مرة.وتكون لكل طلقة منهما فترة للعدة وهي ثلاثة قروء ورد في الآية السابقة.وسواء أعلن لها طلاقه هذا أول مرة أو كرره عند كل كما قرء فهو تطليقة واحدة.أما قول الفقهاء أن يطلقها في كل قرء (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاشاني) فذلك ليتذكر الإنسان ويراجع نفسه لعله يفكر في إعادتها إلى عصمته.وعندي فإنها تطليقة واحدة سواء أعلن الطلاق مرة واحدة أو كرره عند بداية كل قرء، وبعد انقضاء فترة العدة يمكن للرجل أن يتزوجها.وتجوز مثل هذه التطليقة مرتين فقط..أي يطلقها وبعد انقضاء العدة يتزوجها من جديد.أما إذا طلقها للمرة الثالثة فلا يجوز أن يتزوجها مرة أخرى إلا بعد أن تتزوج بشخص آخر زواجا شرعيا حقيقيا،

Page 601

يستطيع ۵۹۸ سورة البقرة توضح أن الجزء الثاني وليس زواجا يراد به التحليل..لأنه لا وجود لهذا النوع من الزواج في الإسلام.فالمراد بالطلاق التطليقة التي انقضت عدتها، وليس التي لم تنقض عدتها، لأنه أن يرجع إليها ما دامت في هذه العدة.أما التطليقة التي انتهت عدتها فيمكن له أن يتزوجها بعدها، وهذا مباح له مرتين فقط.أما بعد المرة الثالثة فلا.أن هناك روايات في كتب الحديث وأقوالا للفقهاء تخالف هذا الأمر.ولكن صحيح كلمات القرآن واضحة صريحة الطلاق) (مرتان).والآية السابقة أيضا فترة الطلاق ثلاثة قروء؛ ويمكن للزوج في هذه الفترة أن يُرجع مطلقته دون عقد جديد..حيث يقول الله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهم إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر.وبعولتهم أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ثم بعد آيتنا هذه بآيات قال تعالى (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)-۲۳۳.فهذا يبيّن أنه بعد انقضاء العدة - أي ثلاثة قروء يمكن أن مطلقته، ولكن بعقد جديد وهذه الفرصة يمكن أن تكرر له مرتين فقط.فإذا حدث هذا مرتين، ثم طلقها مرة ثالثة، فلا يجوز أن ترجع إليه مرة أخرى.ولا قبل انتهاء العدة ولا بعدها ولا بعقد جديد.يمكن له العقد عليها مرة ثالثة في حالة واحدة فقط..ذلك إذا تزوجت مطلقته من رجل آخر زواجا شرعيا، ثم يحدث أن يطلقها الزوج الثاني لسبب أو لآخر..فتكون حرة ليتزوجها مطلقها الأول وتكون زوجة له من جديد مرة ثالثة.هذا هو معنى قوله تعالى (الطلاق مرتان وقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) بين فيه أنه بعد هاتين التطليقتين على الرجل إما أن يمسكها في بيته بالمعروف أو يطلقها بالإحسان، هناك حديث نبوي يشرح قوله (تسريح بإحسان) فعن أبي ذر قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال يا رسول الله، أرأيت قول عز وجل فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فأين الثالثة؟ قال: (تسريح بإحسان) (تفسير القرطبي).فتبين من ذلك أن التسريح يتزوج بإحسان هو التطليقة الثالثة.

Page 602

۵۹۹ سورة البقرة الجزء الثاني وقد ذكر كلمة (بإحسان) لتوجيه النظر إلى أن على الإنسان أن يعامل المرأة عند الطلاق بإحسان ويعطيها حقها ،زائدا ويودعها باحترام وإكرام.كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم - يعطون الزوجة عند تسريحها أكثر من عشرة آلاف روبية.وفي قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا يصرح أنه بعد الطلاق لا يجوز أن يسترد الرجل مما أعطى زوجته التي طلقها من حلى أو ثياب أو مال أو عقار، بل عليه أن يؤدي للمرأة مالها من صداق ومهر إذا كان عليه منه شيء.ثم ذكر استثناء فقال (إلا) أن يخافا ألا يقيما حدود (الله أي إلا إذا خيف ألا يؤدي الرجل حقوق المرأة، أو لا تؤدي المرأة حقوق الرجل، وفي هذه الحالة قال (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)..أي إذا رأى القاضي أن كلا من الفريقين يريد أن يضر بالآخر، وأن كلا الطرفين مدان والتقصير مشترك، فعلى القاضي أن يقبل من المرأة تخليها عن بعض المال للرجل، ولا خطأ في ذلك، وهذا يسمى في الاصطلاح الفقهي خُلْقًا.والعجيب أن الله قد استخدم ضميرين للجمع "تأخذوا" ، "خفتم"، الأول في تأخذوا يرجع إلى الأزواج، والثاني في خفتم يرجع إلى أولياء الأمور..أي القضاء (تفسير الرازي).وهذا يسمى في اصطلاح النحويين انتشار الضمائر".والمعنى: إذا خاف أولياء الأمور والقضاء أن الزوجة غير راضية عن زوجها وبالتالي لن يؤدي الرجل حقوقها بالعدل إذا أرادوا الصلح بينهما..وأبدت المرأة استعدادها للتنازل عن بعض حقوقها للرجل لتحصل على الطلاق فهذا جائز، ولا جناح في ذلك.وقد وردت حادثة في زمن النبي ﷺ تلقي الضوء على هذه المسألة، فقد جاءت بنت الله بن أبي سلول زوجة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبي وقالت: والله ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني..لا أطيقه بغضا.فقال لها النبي ﷺ: (أتردين عليه حديقته؟ فقالت نعم فأمره رسول الله أن يأخذ حديقته ولا يزداد) (النسائي وابن ماجة، أبي أب (الطلاق.وفي رواية أخرى أن هذه السيدة عبد

Page 603

الجزء الثاني سورة البقرة أبدت استعدادها لأن تعطيه أكثر من هذا فقال النبي : أما الزيادة فلا.وتقول بعض الروايات إن هذه الواقعة كانت مع حبيبة بنت سهيل (المرجع السابق).على أية حال فقد أرجع النبي ﷺ الحديقة من المرأة إلى الرجل وفرّق بينهما بالطلاق، ولم يسمح للزوج أن يأخذ أكثر من ذلك.فتبين من ذلك أنها تعيد للزوج مما أعطاها إياه ولا أكثر من ذلك.أما قوله تعالى (فلا جناح عليهما فله سببان: الأول أن الله قال قبل ذلك (لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا)..وبذلك اعتبر استرداد شيء من المرأة إثما، وكانت هناك شبهة إثم الرجل في هذه الحالة ولإزالة هذه الشبهة قال فلا جناح عليهما في هذه الحالة.الثاني: أن إعطاء المرأة بعض المال للتحرر يدل على رغبتها في الانفصال، وهذه الرغبة إثم فقد جاء عن ثوبان أن رسول الله الله قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) (المرجع السابق).فالله تعالى يقول: إذا كان هناك اضطرار أو مبرر حقيقى لطلب الطلاق فليس إنما في هذه الحالة أن تطلب المرأة الطلاق.كذلك فإن تسريح الرجل المرأة بأخذ بعض المال منها دليل على طمعه وجشعه وهذا أيضا إثم.فما دام هناك احتمال الإثم من كلا الطرفين أمر الله أن يقوم القاضي أو الفريق الثالث بالتحقيق في الأمر، فإن رأى أن ذلك هو الطريق الأمثل للانفصال، وفرق بينهما برد بعض المال من المرأة للرجل فلا جناح في ذلك.وفي قوله (تلك حدود الله فلا تعتدوها بيّن أن هذه هي الحدود التي وضعها الله وعليكم ألا تخرجوا عنها.ولكن الأسف أن المسلمين يخالفون هذه الأحكام حتى أن البعض قالوا إن الرجل لو طلق زوجته ثلاث تطليقات في مجلس واحد كان الطلاق فراقا باتا الفقه على المذاهب الأربعة)، مع أن هذا السؤال قد وُجّه إلى النبي هل هو طلاق واحد أم ثلاثة فقال: هو طلاق واحد.وروي عن ابن ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله عباس: طلق

Page 604

٦٠١ سورة البقرة الجزء الثاني النبي : كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد.قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها (سنن أبي داود، الطلاق) وفي رواية عن محمود بن لبيد أن رسول الله ﷺ أخبر عن رجل طلق زوجته ثلاث تطليقات، فغضب ال وقال : أيلعب بكتاب الله عز وجل وأنا بين أظهر كم؟) (النسائي الطلاق).وهناك رواية عن ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاثِ ،واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (مسلم، الطلاق).فإن هؤلاء بدءوا يستعجلون في أمر يجب ألا يستعجلوا فيه، ولذلك قرر سيدنا عمر قرارا مؤقتا بأن من طلق ثلاث مرات في مجلس واحد سوف يُنفذ کطلاق البتة.وقد وضح الإمام ابن القيم هذه المسألة أيما توضيح في كتابه (إعلام الموقعين).ذلك..مع ولسوء الحظ أن الناس في بلادنا لجهلهم بالتعاليم الإسلامية قد اعتادوا لخلافات وأسباب تافهة أن يقولوا للزوجة: أنت طالق ثلاثا، أو أنت طالق ألف طلقة وما يشبه ذلك.ولكن الإسلام لا يسمح بهذه الحماقة.ثم إن الذين هم غير واقفين على أحكام الشريعة يقولون إن هذه تطليقات ثلاث تحرّم المرأة ولا يجوز له زواجها بعد أنها تطليقة واحدة من حيث الشرع، ولا تحرم عليه أن يردها قبل انتهاء العدة أو العقد عليها انقضاء العدة ولكن كما ذكرت آنفا فإن سيدنا عمر أمضاها طلقة باتة لأن الناس قد أكثروا من هذه الحماقة، فأصدر أمرا مفاده أن من طلق زوجته ثلاث مرات في مجلس واحد فسيعاقب بالفصل بينه وبين زوجته.ولما سئل عمر أن النبي ﷺ لم يأمر بذلك فكيف يفعله هو ؟ قال : إنما أراد الرسول ﷺ أن ينتهي الناس عن هذا الأسلوب في الطلاق، ولكن الناس لا ينتهون، لذلك سأعاقبهم بتنفيذ هذا الطلاق وقد قام بذلك ،فعلا، فكان عمله هذا لمصلحة مؤقتة، ولانزال العقاب وليس كحكم مستقل دائم.

Page 605

٦٠٢ سورة البقرة الجزء الثاني على أية حال، فقد قال النبي (أبغض الحلال عند الله الطلاق) (أبو داود، الطلاق)..فهو حلال ولكنه مكروه ولا يحبذه الله تعالى، والسبب أن الأشياء التي لا بد منها للإنسان في حياته الدنيوية والتي تجلب عليه الراحة والسكينة هي العلاقات بين الزوجين.والحقيقة أن السكينة والراحة التي تتأتى للإنسان بالعلاقات الزوجية لا تتيسر له بأي طريق آخر.ولقد قال القرآن عن الزوجين (وجعل بينهما مودة ورحمة الروم (۲۲ وورد في التوراة أن الله خلق حواء لتكون راحة وسكينة لآدم (تكوين (٢٤:٢..أي أنه لم يكن هناك سبيل لراحة آدم وسكينته بدون حواء.ولكن هذين الكائنين اللذين يجلبان السكينة والراحة لبعضهما البعض يتسببان أحيانا في الخصومة والشجار، وبدلا من جلب السكينة والراحة يجلبان الأذى والألم أكثر من أي شيء في الدنيا.هناك آلاف من الأزواج يسببون أشد العذاب لزوجاتهم، وهناك آلاف الزوجات يوقعن أشد العذاب والنكد بأزواجهن.وفي هذه الأحوال أباح الإسلام للرجل أن يطلق المرأة، أو للمرأة أن تطلب الطلاق.ولكن قبل الطلاق أو الخلع بين الإسلام أمورا تجب مراعاتها على الرجل والمرأة وعلى الحكم بينهما..حتى لا تكثر حالات الطلاق والخلع دون حساب.يقول النبي (إن أبغض الحلال عند الله الطلاق)..وما دام الأمر كذلك فكيف لمؤمن يحب الله أن يقترب من عمل يعرف أنه من أبغض الأمور إلى الله تعالى.ليس ضروريا أن يعمل الإنسان بكل أمر جائز مباح، فمثلا معلوم للجميع أن السفر إلى البلاد الأخرى حلال ولكن كم من الناس سافروا وزاروا تلك الأماكن؟ لو كان معنى الحلال أنه لا بد للمرء أن يفعله لكان لزاما على كل من لم يسافر ليزور العالم يبيع ما عنده من عقار ويرحل لزيارتها ولكن هذا لا يحدث أبدا، مما يدل على أنهم يدركون أنه لا لزوم لأن يفعل المرء كل ما هو حلال، بل لا بد من مراعاة ما يناسب وما هو في محله من الحلال.فإذا كان العمل به يؤدي إلى خلق كراهية لدى الآخرين فالأفضل تجنبه في كل حال.مثلا، أكل البصل حلال، ومع ذلك نهينا عن الذهاب إلى المسجد بعد أكله، لأن الناس سوف يتأذون برائحته (البخاري أن

Page 606

٦٠٣ سورة البقرة الجزء الثاني الأطعمة).كذلك يحل للمرء أن يلبس رداء أخضر أو أصفر، ولكن البعض لا يشتري ثوبا من هذا اللون أو ذاك لأنه لا يحبه لأن الحلال عنده ما يحبه ويوافق طبعه ومزاجه.إن الله تعالى قد أمرنا بتناول الحلال والطيب من الأشياء، ولكن بعض الناس لا يأكلون الباذنجان وبعضهم لا يحبون القرع، ولو سئلوا لقالوا: لا نحبه.وكذلك يبني الناس بيوتهم بحسب ذوقهم وطبعهم، فهذا يحب طابقا واحدا والآخر يفضل طابقين، منهم من يفضل وجود حديقة، وغيره لا يحب ذلك، وهلم جرا.كل هذه الأمور حلال، ولكن لا يعمل بها كل الناس لأن العمل بكل حلال ليس ضروريا.ولكن فيما يتعلق بتطليق المرأة فإن المرء يفكر بأن هذا حلال فيطلقها بدون تأن وتفكير!..مع أن الإنسان في كثير من أن الإنسان في كثير من الأحيان يترك بعض الحلال لأجل مصلحة شخصية أو لأجل أصدقائه أو المجتمع.الحقيقة أن المؤمن يترك هذا الحلال أي الطلاق من أجل الله تعالى يقول: هذا العمل بغيض عند لا أُسخط الله فلن أفعله حتى ربي.فليس من الرشد في شيء أن يكثر الطلاق؛ وإنما الرشد والهداية تجنبه.الحلال يعني أنه يجوز لكم فعله إن أردتم فهو ليس منهيا عنه من حيث الشرع، ولكن يجب أن تُراعى أفكار الآخرين وعواطفهم وحبهم لكم أيضا.فالحلال الذي يؤدي العمل به إلى جرح مشاعر الآخرين وحرمانكم من حبهم وتعاطفهم فهذا من الحلال الذي له وجه محرّم ما دام المرء لا يأتي ما يُسْخِط أصدقاءه وقومه..فكيف يليق به أن يأتي ودونما اكتراث..ما يُسخط الله؟ هل الله ضعيف بحيث لا يبالي الإنسان بعمل ما يسخطه؟ حاشا لله ! ما دام أصحاب العشق المادي يخافون من إسخاط أحبائهم ولا يأتون ما يثير حفيظتهم..فكيف يليق بالمؤمن أن يسمع حديث الرسول الله إن أبغض الحلال عند الله الطلاق..ثم يتجاسر على مخالفة هذا الأمر؟ ما دام الشرع يوصي باجتناب أبغض الحلال هذا...فمن واجب كل مؤمن أن يبذل جهودا صادقة للتقليل من هذه الأحداث.ولا ينسى هذا النصح النبوي عند توتر العلاقات بين الناس.

Page 607

الجزء الثاني ٦٠٤ سورة البقرة ويجب أن نتذكر هنا أن الطلاق والخلع في الحقيقة شيء واحد.إذا ترك الرجل المرأة فهذا هو الطلاق.أما إذا طالبت المرأة بالانفصال عنه فهذا هو الخلع.ويندرج الخلع أيضا تحت أبغض الحلال عند الله.وفيما يتعلق بحقوق النساء فإن المسلمين قد نسوا مسألة الخلع تماما مما عرض النساء إلى مشاكل كثيرة كبيرة، ولكن الأحمدية أحيت لهن هذا الحق، وساعدتهن على التخلص من هذه المعاناة التي كن يواجهنها بسبب تناسي هذه الحقوق.كما وضحت للناس موضوع هذا الحديث النبوي، وبينت أن الطلاق أو الخلع هو من أبغض الحلال عند الله تعالى يأمرنا القرآن الكريم عند نشوب خصومة بين الزوجين أن تشكل لجنة تحكيم تبذل جهودها لإزالة الخصومة حتى يعيشا مرة أخرى في أُلفة ومودة كسابق عهدهما، ولكن إذا تعذر الصلح بينهما في كل حال يرفع الأمر إلى القاضي ليفصل بينهما.ومهما كان الأمر فيجب أن نتذكر جيدا أنه من المؤسف جدا الاستعجال بالخلع أو الطلاق لكل صغيرة من المشاكل، فهو من الأمور الكريهة التي يجب على كل إنسان شريف النفس أن يمقتها.فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (۲۳۱) التفسير : سبق أن ذكر الله الخيارين في قوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح.بإحسان وهنا يذكر الخيار الثاني منهما وهو الطلاق فيقول : إذا تمت التطليقة الثالثة فلا تحل هذه السيدة لهذا الرجل أبدا بعد ذلك..اللهم إلا إذا حدث أن تزوجت من رجل آخر، ثم انفصل عنها بالطلاق أو الوفاة مثلا، عندئذ يجوز للزوج السابق أن يتزوج منها..إذا كانا على يقين أنهما سوف يقيمان حدود الله.فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق زوجته ثلاثا، ثم تزوجها غيرُه وطلقها من قبل أن يمسها،

Page 608

٦٠٥ سورة البقرة الجزء الثاني فرأى زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل رسول الله له عن ذلك فقال: (لا ينكحها الأول حَتَّى تَذُوقِ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَها (مسلم، الطلاق)..أي حتى يتم جماع بينها وبين الزوج الثاني، ثم يحدث الطلاق بينهما لسبب ما ، عندئذ تحل هذه للزوج الأول.وللأسف أن المسلمين في زمن انحطاطهم ابتدعوا إلى جانب البدع الكثيرة الأخرى بدعة التحليل الشنيعة..أي أن بعد حصول الطلاق البات احتالوا حيلة يمكنون بها الزوج الأول من الزواج من مطلقته مرة أخرى..وذلك بأن يعقدوا لهذه السيدة على رجل آخر ليبيت معها ليلة ،ويجامعها، وفي الصباح يطلقها لتعود إلى زوجها الأول.ولكن الإسلام حرَّم هذا الطريق ولعن من يقوم بهذه البدعة..بدعة التحليل.وقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال (لعن الله المحلل والمحلل له) (الترمذي (النكاح فلا مكان لبدعة التحليل في الإسلام.إنما يقضي الشرع الإسلامي أنه إذا تم الطلاق الثالث بين الزوج وزوجته فلا تحل له مطلقا إلا في حالة هذه السيدة زواجا شرعيا مع زوج جديد، وتعيش معه في بيته، ثم إذا طلقها هذا الزوج أو مات عنها فللزوج الأول أن يتزوجها زواجا جديدا بمهر جديد وبرضاء أوليائها..وبدون ذلك لا يجوز أن يتزوجها.معينة: أن تتزوج وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَبِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (۲۳۲) شرح الكلمات : هُزُوًا : مصدرٌ بمعنى المفعول به أي الذي يُستهزأ به، وقد استخدم المصدر لأجل المبالغة، لأن العرب إذا أرادوا المبالغة في الأمر جاءوا بالمصدر؛ أو بتقدير محذوف تقديره: محلّ الهزو (إعراب القرآن للدرويش).

Page 609

٦٠٦ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير : المراد من قوله طلقتم النساء طلاق ،الرجعة، أما قوله (فبلغن أجلهن) فله معنيان: الأول - إذا أوشكت مدة العدة على الانتهاء، والثاني انتهت (اللسان).والمراد هنا المعنى الأول أي إذا قاربت المدة على الانتهاء فللرجل مراجعتها.وفي قوله (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ركز مرة أخرى على جواز معاملة الزوج المرأة بطريقتين اثنتين فقط: إما أن يعيش معها بعد ذلك بمعروف، أو أن يودعها بمعروف.وليس أن يرجعها ويمسكها عنده لإيذائها.(ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)..من يمسكها بغير المعروف فإنه في الظاهر يؤذيهما، ولكنه في الحقيقة يظلم نفسه، سواء من ناحية أنه بذلك يحدث الفساد والفوضى في المجتمع، أو من ناحية أنه بظلم المرأة يدل على شقاوة قلبه.وقوله (واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) يبين أن الأمم السابقة لم تحظ بهذا التعليم، ولكن الله قد آتاكم هذه التعاليم القائمة على الحكمة، ومن واجبكم العمل بها وشكر الله تعالى إذ نجاكم من العثار كالأمم السابقة.أما إذا لم تنتفعوا بها واتبعتم أهواءكم النفسانية فمنذا يكون أشقى منكم؟! فعليكم أن تعملوا بهذه الأحكام ولا تتبعوا طريقا يخالف التقوى.وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (۲۳۳) شرح الكلمات : تعضلوهن عضل عليه عضلا: ضيّق عليه وحبسه ومنعه (الأقرب).فيعني قوله تعالى (لا تعضلوهن : لا تضايقوهن، أو لا تحبسوهن، أو لا تمنعوهن.أزكى: أنفع أو أطهر (الأقرب).

Page 610

٦٠٧ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير: قوله (بلغن أجلهن ليس هنا بالمعنى الوارد في الآية السابقة، وإنما يعني انتهاء فترة العدة ودخول المرأة في فترة الحرية.أما قوله تعالى فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ففيه اختلاف حول معنى أزواج.قال البعض هو الزوج الأول.والمراد أنه إذا صالحها وأراد إعادة الزوج منها فلا تمنعوها.ويكون الطلاق في هذه الحالة هو الطلاق الرجعي وليس التطليقة الباتة.وقال البعض إن المراد هنا هو الزوج الجديد، والطلاق هنا الطلاق البائن، أنه ما دام قد ذكر من قبلُ الطلاق النهائي لذلك فالمراد من الأزواج هنا الزوج الجديد وليس الأول.وأرى أن كلا المعنيين ،ممكن لأن النوعين من الناس موجودان.فهناك منهم من إذا حصلت خصومة بين الزوجين ثم أرادا الصلح يحولون دون رغبتهما، ويقولون إن تجديد العلاقة مع مثل هذا الرجل يمس كرامتنا ،وغيرتنا، وكفى ما حدث من الفضائح إلى الآن؛ فينصحهم الله هنا أنه إذا تصالح المطلقان وأرادا الزواج مرة أخرى فلا يحولنّ أحد دون رغبتهما خوفا من الفضيحة أو سخطا على ما سبق من خلافات مع الزوج.وفي مقابل ذلك هناك أناس يطلقون الزوجات ومع ذلك لا يكفون عن مضايقتهن ومطاردتهن، وإذا أرادت الزواج من أحد سعوا بأنواع الحيل لعرقلة زواجها، فيذكرون عيوبها للخاطب الجديد حتى يفر منها ولا يتزوجها.وأصحاب المراكز الكبيرة هم الذين يفعلون ذلك عموما، يطلقون النسوة ثم يضعون العراقيل كي لا أحد يتزوجن من بعدهم.ولا يعني قوله تعالى (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أن للمرأة أن تزوج نفسها بدون وساطة الولي، بل لا بد من وجود ولي.أما إذا لم يرض وليها فلا بد من الاستعانة بولي الأمر.وهنا سؤال: هل لأولياء المرأة أن يمنعوها من الزواج من أحد أم لا؟ يرى الإمامان مالك والشافعي أن للولي أن يرفض زواج المرأة من أحد مرة أو مرتين..أما إذا

Page 611

7+1 سورة البقرة الجزء الثاني استمر في رفض كل من يتقدم للزواج منها فهذا لا يجوز.فالرفض مرة أو مرتين يعتبر من باب الاحتياط والحذر..ولكن لو استغل الولي ولايته لها ومنعها من الزواج فلا يحق له ذلك.وقال البعض إنه إذا لم يرض وليها الذي هو أحق بولايتها فلها أن تتزوج بإذن من ولي هو أدنى منه درجة.وقال البعض الآخر: إنه لا يجوز للمرأة أن تتزوج بدون إذن من وليها الحقيقي أو السلطان الحاكم (الفقه على المذاهب الأربعة).وهذا هو الموقف الصحيح.ولكن إذا لم يرض أولياؤها بزواجها بأي صورة من الصور فلها أن تستأذن من الحاكم أو من القاضي كي تتزوج بخاطبها، أو يمكن أن تمارس الضغط على أوليائها عن طريق القاضي حتى لا يحولوا دون زواجها.وبين في قوله (ذلكم أزكى لكم وأطهر أن هذا القانون جد مبارك ونافع لكم في الدين والدنيا..أي إذا عملتم به فسوف يفيدكم من الناحية الاجتماعية، وأيضا سوف ينفعكم من الناحية الأخلاقية إذ يخلق فيكم روح الطهارة.وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلِّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضِ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٤) شرح الكلمات تسترضعوا استرضع طلب مرضعة.استرضع الرجل واستعرضت المرأة الطفل أي طلبت مرضعة له (التاج).

Page 612

الجزء الثاني ٦٠٩ سورة البقرة التفسير: كان من الممكن أن ينخدع أحد بقوله حولين كاملين) ويحسب أن الرضاعة ضرورية لسنتين، ولذلك أضاف قوله (لمن أراد أن يتم الرضاعة).وهذا يدل على أن هذه الفترة يمكن أن تقل عن عامين، ولكن فيه أيضا نفي لإطالة هذه الفترة أكثر من سنتين، لأن كلمة ( كاملين) تدل على عدم الرضاعة أكثر منهما.وقوله (وعلى المولودة له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) لا يعني الطعام واللباس فقط..وإنما يراد بذلك كل النفقات علاوة على المأكل والملبس.و (بالمعروف) يعنى حسب مقدرة الوالد فإذا كان موسرا فبقدر ثرائه، وإذا كان فقيرا فعلى قدره.وليس الحديث هنا عن المرضعات الأجيرات وإنما الوالدة المطلقة نفسها..لأن الحديث هنا في سياق الطلاق.يقول الله إن الوالدة المرضعة لطفل لو طلقها والده فعليها أن ترضع طفله سنتين كاملتين، وإزاء ذلك يجب على الوالد أن ينفق عليها بحسب مقدرته، وليس أن يعطيها بعض المال كأنها مرضعة أجيرة..لأن إجبار الأم المطلقة على إرضاع طفلها يجرح إحساسها ويمس كرامتها إذا عوملت باعتبارها أجيرة.ولكن الآية أضافت لا تكلف نفس إلا وسعها) لتشير إلى أنه ليس من المناسب أن يطالب الوالد بما يفوق مقدرته ، كما ليس من المناسب أيضا أن تعيش الأم بعد الطلاق كمرضعة أجيرة.وقوله تعالى (لا) تضار والدة بولدها ولا مولود له (بولده يمكن أن يكون معناه: ألا تضايق المرأة الرجل بسبب طفله أو لا تضار الوالدة بسبب طفلها.فبهذا القول نصح الله الرجل والمرأة كليهما بألا يُتخذ الرضيع ذريعة ليضايق أحد منهما الآخر.ولكن الكثير من الحمقى يرتكبون هذا الخطأ مما يؤدي إلى هلاك الأطفال أو فساد تربيتهم.والحقيقة أن مثل هذه العملية بمثابة قتل الأولاد ولقد أسدى القرآن الكريم معروفا عظيما للأجيال القادمة بالنهي عن هذه الأمور.

Page 613

٦١٠ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى (وعلى الوارث مثل ذلك معطوف على قوله (وعلى المولود له رزقهن و كسوتهن بالمعروف).وهنا قرر الله حقا عجيبا يُحدث انقلابا في الاجتماع، ويغير وجه المدنية..إذ أمر أنه إذا توفي أبو الوليد فعلى الورثة أن ينفقوا على مرضعة وليده.وكأن ورثته لا يشتركون في أخذ ميراثه فقط وإنما فرض عليهم أيضا تحمل هذه النفقات..سواء كانت للمتوفى تركة كبيرة أو صغيرة أو لم يترك شيئا.فقال: من واجب الوارث أن يتحمل ما كان على الوالد أن يتحمله، سواء أكان هذا الوارث ابنا للمتوفى أو أحد أقاربه..فعليه عبء تربية وإرضاع الطفل.ولا يتحمله كإحسان وصنيع إلى الطفل وأمه.وإنما هو فريضة فرضها الله عليه.ويعني أيضا أن على ورثته أن ينفقوا على رضاعة هذا الطفل من نصيبه في إرث أبيه.على أية حال لقد وضع الله بهذا الأمر أساسا جديدا للمدنية، ففرض على ورثة المتوفى تربية أولاده الضعاف.ولا يمكن القول هنا إنه إذا انتهت فترة الرضاعة يُترك هؤلاء الأولاد دون ولاية ورعاية، بل لا بد أن تُمد هذه الفترة إلى حين بلوغهم، ويكون من واجب الورثة أن يتحملوا نفقاتهم من مأكل وملبس ودراسة حتى يبلغوا، ويحسنوا تربيتهم حتى يكونوا أعضاء نافعين في المجتمع.يقول البعض إن هذه النفقة توزّع على ورثة المتوفى بقدر نصيبهم الشرعي من إرثه، بينما يقول الآخرون أن يتحملها من هو أولى بالوراثة سواء ورث شيئا أم لا.وقوله تعالى فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) يتبين منه أن القرآن الكريم لم يخير المرأة وحدها أو الرجل وحده في اتخاذ القرار فيما يتعلق بإرضاع الطفل وفصاله، وإنما جعل الأمر مشتركا بينهما بالتشاور والتراضي.وهذا مثال فريد في تاريخ الشرائع كلها.إذ أقام الإسلام المرأة مع الرجل على قدم المساواة فيما يتعلق بالأمور العائلية، وأعطاهما خيارا مشتركا..ولكن بشرط ألا يجبر الزوج مطلقته على إرضاع الطفل، ولا تصر هي على رضاعته أكثر من الفترة التي فرضها القرآن الكريم وما دام الإسلام يؤكد على الزوج هذا التأكيد لمراعاة

Page 614

1 ད ད سورة البقرة الجزء الثاني عواطف المرأة المطلقة في هذه الأمور..فما بالك بوصيته له بمراعاة عواطف المرأة التي هي زوجة له.وبقوله تعالى (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف بيّن أن استرضاع الوليد من امرأة أخرى لا يتنافى مع حقوق الوالد أو حقوق الوالدة وليس إثما، ولكنه يعتبر إثما إذا أكرهتم أحدا على الإرضاع بدون تقديم أجر له..لأنكم ترتكبون بهذا إثمين: أولهما هضم مال أحد، والثاني عدم تأدية حقوق الوليد وهذا المعنى يفسر كلمة (لا) جناح).فثبت من كل ذلك أن حقوق الولد واجبة، والتقصير فيها إثم.وقوله تعالى (إذا) سلمتم ما آتيتم بالمعروف)..قد تبدو هذه الفقرة بلا معنى في هذا السياق لأن معناها في الظاهر: إذا آتيتم ما آتيتم بالمعروف، مع أن الأجرة التي يدفعها الإنسان مرة كيف يدفعها مرة أخرى؟ ونظرا لهذه المعضلة قال البعض أن هذا يدل أن على الإنسان أداء أجرة المرضع قبل الإرضاع.ولكني لا أرى هذا.ذلك أن التسليم لا يعني إعطاء الشيء فقط، وإنما يعني أيضا القبول والرضا بالشيء.فيقولون: سلم به أي رضي به (الأقرب).وقد استخدم القرآن الكريم الكلمة بنفس المعنى فقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء: (٦٦)..أي يرضوا رضاء كاملا.وبناء على هذا فيعني قوله (إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف أنكم إذا رضيتم بإعطاء أجرة مناسبة بالمعروف للمرضعة، ونويتم إعطاء هذه الأجرة في كل حال..فلا حرج في استرضاع الوليد من امرأة أخرى غير أمه.ونظرا لذلك المعنى فمن اللازم أن تتقرر الأجرة وتتحدد قبل الرضاعة، وليس ضروريا أن تؤدى قبل الرضاعة.أما إذا أخذنا بالمعنى الأول لـ (سلمتم) أي الإيتاء فلا يعني أيضا أن تسلموا الأجرة للمرضعة قبل الرضاعة، وعندئذ يجوز الاسترضاع.وإنما بين هنا قاعدة هي أنكم إذا

Page 615

الجزء الثاني ٦١٢ سورة البقرة لم تؤدوا الأجر فهذا إثم.كأن قوله إذا سلمتم متعلق بقوله (فلا جناح عليكم) وليس (أن تسترضعوا).وبعد حل مشكلة (سلمتم تبقى هناك مشكلة أخرى هي كلمة (آتيتم)..لأن معناها الحرفي: أعطيتم وقدّمتم.فيكون المعنى الظاهري لقوله تعالى (إذا سلمتم ما آتيتم): إذا تراضيتم على حق قد آتيتموه فهذه جملة لا معنى لها.فلنتذكر هنا أن من أساليب اللغة العربية أنهم يستخدمون للمستقبل صيغة الماضي للدلالة على القرار القطعي..كما قال الله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) (المائدة: (۷)..مع أن الإنسان يتوضأ أولا ثم يقوم المرافق)(المائدة:۷)..للصلاة، ولا يتوضأ وهو قائم للصلاة.فالمراد: إذا نويتم الصلاة فيجب أن تتوضئوا قبل ذلك.وهذا هو معنى (سلّمتم)..أي إذا ما قررتم إعطاءه إياها.الحقيقة أن معنی الآية أنكم إذا أردتم استرضاع أولادكم من امرأة غير والدته فلا حرج ولا ذنب في ذلك، ولكن بشرط أن ما اتخذتم من قرار بإعطائها أجرا يجب أن تعملوا به دائما، ولا تلجئوا إلى الحيل لعدم إعطائها الأجر.ولقد علمنا الله بذلك درسا أن حق المرضع حق ضروري وهام بحيث ينبغي على الإنسان أن يعد بأدائه وعدا جازما كأنه قد أدّاه.وبقوله (بالمعروف) أشار إلى أن عليه أن يؤدي أجر المرضع بحسب الحالة الاقتصادية في البلد، ولا يعطي قليلا لا يمكن المرضعة من العيش وكذلك في قوله (بالمعروف) إشارة إلى أنه إذا كانت حالتكم الاقتصادية أفضل من الأشخاص العاديين فلا تتقيدوا بالوعد الذي قطعتموه على أنفسكم من قبل، بل زيدوا أجرة الرضاعة بما يتفق مع حالتكم المالية.وكأن الحد الأدنى لأجر الرضاعة هو ما يكفي لسد حاجاتها بحسب الحالة الاقتصادية العامة ولكن إذا استطعتم فلا تكتفوا بدفع الحد الأدنى، بل ادفعوا لها بحسب حالتكم المالية.

Page 616

الجزء الثاني ٦١٣ سورة البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٥) شرح الكلمات: يتربصن أي ينتظرن وهناك مبتدأ محذوف قبله تقديره: "حكم زوجاتهم أن"، أو "زوجاتهم يتربصن" (إملاء ما من به الرحمن).التفسير : يستدل بعض الناس من هذه الآية أن المرأة التي توفي زوجها..إذا أقدمت على خطوة حول مستقبلها بعد فترة العدة المقررة وهي أربعة أشهر وعشرا، فالذنب عليها وليس على ورثة زوجها..لأن الله تعالى يقول في مكان آخر (متاعا إلى الحول غير إخراج) (البقرة: ٢٤١).ولكني أرى أن هذا الاستدلال غير صحيح، فلو تزوجت المرأة من رجل آخر في خلال العام بعد انتهاء المدة المقررة فلا ذنب في ذلك، بل هو مستحب محمود..لأن الله تعالى قال هنا (بالمعروف) والعمل بالمعروف معناه أنه عمل بحسب قانون البلد أو عاطفة الفطرة أو بحسب العقل العام.وكل عمل يتم هكذا فلا يمكن أن يعده الإنسان العاقل ذنبا أو خطأ.الحقيقة أن هذه الآية زجر لأولئك الذين يمنعون الأرامل من زواج ثان.يقول الله تعالى: إذا تزوجن فلا إثم عليكم..أي ليس في فعلهن هذا أي إثم أبدا..فلماذا تمنعونهن من الزواج الثاني؟ لهن الحق في أن يتصرفن في أنفسهن كما يشأن.إلا أن هناك إشارة إلى أنهن لو فعلن بأنفسهن شيئا ليس من المعروف، ومع ذلك لم يمنعهن أولياؤهن أو الحاكم ففى هذا إثم.ومن أهم الأسباب لتحديد الأشهر الأربعة والأيام العشرة عدة للأرملة أنه إذا كانت حاملا تحرك الجنين في هذه الفترة وتبين حملها يقينا، وهذا يحتم عليها أن تنتظر فلا تتزوج ثانية حتى تضع حملها.

Page 617

الجزء الثاني ٦١٤ سورة البقرة وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسَكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٦) شرح الكلمات : عرضتم عرّضت له و به تعريضا: إذا قلت قولا وأنت تعنيه.فالتعريض ضد التصريح من القول (الأقرب).والتعريض كلام له وجهان من صدق وكذب وظاهر وباطن.(المفردات).تعزموا عزم الأمر :وعليه عقد الضمير عليه (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى لا حرج أن تلمّحوا لأرملة بنية الزواج منها، كأن تقولوا لها: المشورة مفيدة، وإذا احتجت إلى ذلك فأنا مستعد لأقدم لك مشورة مخلصة.فكلمة المشورة لها دلالة عامة تصلح له ولغيره.وهكذا يبقى الأمر خفيا في الظاهر ومعبرا عنه بالتلميح.كما يقول الله تعالى إنه من الجائز أيضا أن تخفوا في قلوبكم نية الزواج من أرملة إلى أن تنقضي فترة عدتها أربعة أشهر وعشرا.ونهى الله بقوله ( ولكن لا تواعدهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا) نهيا تاما عن أن يتفق الرجل مع الأرملة اتفاقا خفيا في أثناء العدة.ولكنه سمح بقول معروف، وهذا القول المعروف لا يعني أن يطلب الإنسان الزواج منها صراحة قبل انتهاء العدة، فهذا لا يجوز أبدا، وإنما يعني أن يواسيها ويعزيها بحيث تشعر أن هذا الشخص مخلص وناصح لها، وتستطيع أن تستشيره عند الحاجة.ويقول الله تعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) أي لا يتفق هذان الرجل والأرملة على الزواج أثناء العدة ولا يوطدا العزم صراحة على الزواج.من قبل نصح الرجل بقوله (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من النساء أو أكننتم في أنفسكم أي لا يفصح عن نيته بالزواج من أرملة، نعم..يمكن خطبة

Page 618

٦١٥ سورة البقرة الجزء الثاني أن ينوي الزواج في قلبه.أما هنا فمنع الأرملة من التصريح بالموافقة إذا فهمت نية الرجل، بل عليها أن تسكت ولا تعبر عن نية الزواج ما دامت في فترة العدة.الناس عموما لا يأخذون الحيطة في هذا الصدد، وإنما تغلبهم أهواؤهم الهائجة.لذلك يقول تعالى : لا يجوز لكم أثناء فترة العدة أن تتفقوا مع الأرامل على قرار الزواج بهن.ثم يقول واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)..الله يعلم ما تخفونه في صدوركم وإن لم يعلمه الناس فكونوا حذرين يقظين ولا تتجاسروا على مخالفة أوامر الله.ويمكن أن يكون قوله (ولا تعزموا عقدة (النكاح أمر ثانيا، ويكون قوله (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه تتمة لقوله ولا تواعدوهن سرا).وبين فيه ألا يقطعا أي عهد فيما بينهما ، لأن الله يعلم ما في الصدور.وقوله واعلموا أن الله غفور رحيم) لا يعني أن الله سوف يغفر لكم مخالفة هذه الأوامر.كلا، بل بين هنا الحكمة في قوله (ولا تعزموا عقدة النكاح) فبقوله (غفور) بين أن الله يستر ضعف الإنسان لأنه يعلم نقاط الضعف فيه، ولذلك اكتفى بتحديد فترة العدة بأربعة أشهر وعشرا فقط، ولم يُصدر أية أحكام قاسية أخرى.وبقوله (حليم) بيّن أن الله ذو حكمة عالية، يعلم الفترة المناسبة التي يجب أن تنتظروها.وإذا لم يصدر هذه الأوامر لحدثت مفاسد كثيرة في المجتمع ولاختل نظامه.فلا تتعجلوا بالزواج بحجة أن الزواج وسيلة للتقوى، فالله أعلم بفترة الانتظار المناسبة لهذا الموضوع.لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى و الْمُحْسِنِينَ (۲۳۷) شرح الكلمات : الموسع أوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى.وأوسع الله على فلان: أغناه (الأقرب).

Page 619

٦١٦ الجزء الثاني سورة البقرة المقتر: أقترَ على عياله : قل ماله وافتقر.وأقتر الله رزقه: ضيقه وقلّله (الأقرب).التفسير: لقد ذكر الله هنا أحكاما أخرى عن الطلاق.فالنوع الأول من الطلاق المذكور من قبل هو ما يقع بسبب شدة الخصومة بين الزوجين، ولكن يحدث الطلاق أحيانا حتى قبل أن يجتمع الزوجان فمثلا يظهر بعد عقد القران شهود يذكرون ما يفسخ الزواج بينهما، أو ما يجعل الزواج أمرا مكروها في تلك الظروف..كأن يشهد أحدٌ بأن الزوجين أخوان في الرضاعة.هذه الشهادة وإن كانت ناقصة ضعيفة..فقد تُكرّه الزوج بالزواج.وفعلا تظهر مثل هذه الشهادات أحيانا بعد عقد الزواج، وفي هذه الحالة يضطر الإنسان إلى الطلاق قبل أن يمس الزوجة.وفي بعض الأحيان يبلغ خبر الزواج كبار الأسرتين الذين لم يكونوا على علم به، فيقررون أن الظروف بين الأسرتين لا تسمح بهذا الزواج، فالأفضل أن يطلقها.وهكذا يحدث الطلاق حتى قبل أن يتماسا.وقوله تعالى (أو تفرضوا لهن فريضة يدل على أن القران الذي لم يحدد فيه المهر جائز، ولكن كما صرح الفقهاء..فإنه يقرّر فيه مهر المثل، أي يُؤخذ فيه بالنظر إلى مهور نساء الأسرة ويقدّر المهر بحسب ذلك الهداية وشرح البداية، كتاب النكاح).وقوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين)..أي إذا طلقتم النساء قبل الدخول بهن أو قبل أن تفرضوا لهن مهرا، فمن واجبكم في كلا الحالين أن تعاملوهن بالحسنى وتسرحوهن بمنحهن بعض المال بما يليق.فميسور الحال يُعطي بحسب ميسرته، والفقير يُعطي بحسب مقدرته.وهذا ليس عملا تطوعيا وإنما حق على المحسنين.أي يجب على أصحاب التقوى والصلاح أن يودعوا مطلقاتهم بمعاملة حسنة.وَرَدَ في الحديث الشريف أن أنصاريا تزوج امرأة بدون أن يعين لها مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فلما رفع الأمر إلى النبي ﷺ سأله أن يعطيها شيئا إحسانا منه

Page 620

٦١٧ سورة البقرة الجزء الثاني بالمعروف.قال: إنني لا أملك شيئا.فقال: متعها بقلنسوتك (البحر المحيط)..أي إذا لم يجد شيئا تمنحها إياه فأعطها ولو غطاء رأسك.ومن هنا يمكن أن يقدر الإنسان شدة وصية الإسلام بحسن معاملة المرأة عند تسريحها، حتى أن الإنسان إذا لم يكن يملك شيئا فليحسن إليها بعمامته ولا يفارقها دون أن تأخذ شيئا.ولكن إذا حدث شجار بينهما فقد قدم القرآن تعليما مبدئيا آخر، وأمر برفع الأمر إلى القاضي ليتحرى الأحوال ويرى ما إذا كان الزوج قد أعطاها شيئا مناسبا بحسب مقدرته أم لا.وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (۲۳۸) : التفسير في الآية السابقة بين كيفية التعامل في حالة عقد القران بدون تعيين المهر واضطرار الرجل إلى الطلاق، وهنا يبيّن كيفية التعامل إذا حصل الطلاق بدون دخول على الزوجة، ولكنه قد عيّن لها مهرا فقال عليه أن يؤدي نصف المهر.وهناك اختلاف حول المس في قوله من قبل أن تمسوهن فقال البعض: المس هو أن يرى الزوجان بعضهما البعض ويجلسا معا، ولكن بدون أن يحدث لقاء جنسي بينهما (التفسير المظهري للعثماني).ويقول البعض الآخر إن المراد من المس هو حدوث علاقة خاصة بينهما...لأن كلمة "مس" تعني أيضا المباشرة الزوجية أو الجماع (إملاء ما من به الرحمان).وهناك حديث للرسول ﷺ يشرح هذا الموضوع، فعندما تم فتح الجزيرة العربية وأخذ الإسلام في الانتشار جاء شاب إلى النبي ممثلا قبيلته كندة، وكانت معه أخته واسمها أسماء أو أميمة ولقبها الجونية أو بنت الجون، سأل الشاب النبي أن يتزوج من أخته الأرملة، وهي على قسط طيب من الجمال والكفاءة.ولما كان من

Page 621

٦١٨ سورة البقرة الجزء الثاني أهداف النبي ﷺ توحيد القبائل العربية قبل طلبه هذا وأعلن قرانه عليها بمهر قدره اثنتا عشرة أوقية من الفضة فقال الشاب للنبي : يا رسول الله نحن من علية القوم، وهذا المهر قليل.فقال النبي: لم تمهر أي من زوجاتي أو بناتي بأكثر من ذلك.فقبل الشاب، وتم عقد القران، وطلب النبي أن يرسل أحدا ليأتي بالزوجة.فبعث النبي أبا أسيد فذهب، ودعته الجونية في بيتها، فقال: لقد نزل الحجاب على أزواج النبي.فسألته عن أمور أخرى فذكرها لها.ثم أركبها بعيرا وجاء بها إلى المدينة.فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها خادمة لها.وفي بلادنا أيضا يبعثون أحد الخدم مع العروس حتى لا تلقى صعوبة من أي نوع.ولما كانت هذه المرأة شهيرة بجمالها وبالنساء فضول للتعرف على العروس، توجهت نسوة من المدينة لرؤيتها.ويبدو أن إحدى النسوة قالت لها يجب أن تشتدي على زوجك، فإذا جاءك رسول الله فتمنعي وقولي: أعوذ بالله منك، فيحبك أكثر، ولا غرابة في ذلك، فلعل أحد المنافقين أثار هذه الفتنة عن طريق زوجته أو قريبته.فجاءها النبي في خباء ضُرب لها.يقول راوي الحديث : فلما دخل عليها النبي ﷺ قال: هي نفسك لي.فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فأهوى بيده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك! فقال: قد عُذت بمعاذ.وفي رواية: لقد عُذتِ بعظيم ثم خرج علينا، وقال: يا أبا أسيد اكسها رازقيتين، وأَلْحِقها بأهلها (البخاري، كتاب الطلاق، مسند أحمد جزء ٣ ص ٤٩٨).فأخذها أبو أسيد إلى أهلها.فشق ذلك على قبيلتها ولاموها كثيرا، ولكنها أصرت على أن هذا من شقاوتي وأن هناك من غرّر بها وقال لها: إنه عندما يأتيك النبي ﷺ فأظهري البعد عنه والنفور منه، فهذا سوف يخيفه.وسواء كان هذا ما حدث بالضبط أم لا فإنها أظهرت النفور فتركها النبي ﷺ وسرحها.فعلاوة على المهر أعطاها النبي رداءين إحسانا منه عملا بقوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم) فهذا الحكم فيما يتعلق بالمرأة التي لم يمسها زوجها.

Page 622

٦١٩ سورة البقرة الجزء الثاني ويتبين من هذا الحديث أن المراد من المس ليس المس الظاهري، وإنما العلاقات الزوجية الخاصة، وإلا فإن النبي ﷺ قد وضع يده عليها ومسها ظاهريا.من هو الذي بيده عقد النكاح في قوله تعالى (إلا) أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح؟ قال البعض إنه الزوج، لأنه بعد عقد القران تكون بيده عقدة النكاح.والمراد من عفو الزوج ألا يكتفي بإعطائها نصف المهر، وإنما يعطيها المهر كاملا.ويقول البعض إن الذي بيده عقدة النكاح هم أولياء المرأة، وقد خيّروا هنا ألا يأخذوا نصف المهر إذا شاءوا.ومعنى كون عقدة النكاح بيدهم أن زواج المرأة لا يتم إلا بإذهم.وقد اعترض البعض على المعنى الأول وقالوا إن على الزوج أن يؤدي المهر، والذي يؤدي لا يقال عنه إنه عفا (تفسير الرازي).ولكن هذا الاعتراض يدل على عدم إلمام باللغة العربية لأن العفو لغة يعني الزيادة أيضا، فيقال: عفا فلان الشعر: أطاله (اللسان).وجاء في الحديث : أعفوا اللحى أي أطيلوها (مسلم، الطهارة).وكان من عادة العرب أن يؤدوا المهر قبل الزواج.والعفو من الزوج ألا يسترد النصف الذي أعطاه.فالمعنى أنكم إذا طلقتم النساء قبل المس فزيدوا على النصف، أو إذا كنتم قد دفعتم المهر كاملا أو نصفه فلا تستردوه.وقد فسر السلف العبارة بهذين التفسيرين..قال القاضي شريح: أنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن (البحر المحيط).والواقع أنه لا مجال للكراهية أو عدمها من قِبَل المرأة في قول القاضي شريح وإنما المراد أنه إذا لم تستطع المرأة أن تعفو مثلا كأن تكون دون سن الرشد ولا تستطيع التصرف في أموالها، فيمكن لوليها أن يعلن هذا العفو، وهو عفو من قبل المرأة نفسها ولا حاجة أن تسأل عن ذلك.ومما يؤكد عفو الزوج أيضا ما جاء في الأثر : فقد تزوج الصحابي جبير بن مطعم فتاة، فلما طلقها أعطاها المهر الذي عينه مع الزيادة، ثم قال: أنا أحق بالعفو (الكشاف).

Page 623

٦٢٠ سورة البقرة الجزء الثاني وفي قوله (وأن تعفوا أقرب للتقوى وجّه الخطاب إلى أولياء المرأة وأقارب الزوج، وبين هنا مبدأ هاما بأن التخلّي عن الحقوق أفضل من المطالبة بها وهذا هو مقتضى التقوى.وللأسف أن الناس لا يعملون بهذا التعليم، بل يطالبون بحقوقهم دائما ويتخاصمون عليها، بدلا من أن يُقدموا على الإحسان إلى الطرف الآخر، مع أن بكلمات صريحة أن العفو أقرب للتقوى.يوصي والمعنى أن على المرأة أن تفكر أنها ما دامت لم تسكن في بيت الرجل، فما الحرج لو عفت عن المهر له؟ كذلك يفكر الرجل: صحيح أنها لم تسكن في بيتي، ولكنها قد نُسبت إلي، فعلي أن أعطيها بعض الزيادة وكذلك على الأولياء أن يرضوا بما لا يبقى معه فتنة.الله الله وقوله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم.النسيان هنا لا يعني النسيان العام، ولكنه بمعنى الترك والتخلي، كما قال في موضع آخر (نسوا فنسيهم) (التوبة: ٦٧)..أي أنهم تركوا الله فتركهم.والمراد من الفضل هنا العمل الذي يفضل به الإنسان الآخرين.وبهذا يوصي الله تعالى أن يسعى كل فرد أن يزيد عن صاحبه برا ومروءة في المعاملات وأن يسبقه في أعمال الخير.(إن الله بما تعملون بصير)..أي تذكروا أن الله يرى أعمالكم، ولا يترك حسنة إلا ويجازيكم عليها بأحسن ما عملتم فاعملوا بهذه الأوامر لتنالوا رضوان الله.حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (۲۳۹) شرح الكلمات: قانتين - القنوت: الطاعة؛ القيام في الصلاة؛ الدعاء؛ الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات مِن رَهَب الله (الأقرب).

Page 624

٦٢١ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير : في سياق الزواج ذكر الله هنا الصلوات، لأن الناس عموما يتكاسلون عن الصلاة بسبب الزواج.فأولا: يسهرون إلى وقت متأخر من الليل مما يؤدي إلى التغافل عن صلاة التهجد وأداء صلاة الفجر مع الجماعة، وثانيا: تشغلهم أعمالهم اليومية عن الصلوات.فالزواج يؤدي إلى نقص في العبادات، لأن مشاغل الإنسان تزداد بالعلاقات بين الزوجين وبالرعاية والعناية بالأطفال وبالكد لكسب المعاش، وبالنقصان في الطهارة..ولكن الله تعالى يقول: مهما زادت مشاغلكم، ومهما بذلتم من جهود إضافية لكسب المعاش، ومهما تشتتت أفكاركم هنا وهناك..فحذار أن تتكاسلوا عن الصلوات..وخاصة الصلاة الوسطى..فحافظوا عليها دوما.فما هي هذا الصلاة الوسطى؟ قال البعض صلاة التهجد وإني أميل إلى هذا الرأي، فهي بين صلاة العشاء والصبح وقال البعض إنها الصلاة التي تحين وقت انشغال الإنسان بأعماله الكشاف والبحر المحيط).وهناك بعض الأحاديث التي تبين أن النبي ﷺ قال : إنها صلاة العصر.فعن سمرة بن جندب أن النبي يوم غزوة الخندق قال : حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس.ملأ الله بيوتهم وقبورهم وأجوافهم (نارا) (البخاري والترمذي، التفسير).ونفس هذا الحديث يثبت أيضا أن الصلاة الوسطى هي التي تحين وقت انشغال الإنسان في عمله، وقد جاءت صلاة العصر يوم الخندق أثناء انشغال المسلمين في القتال، ولعل هذا هو السبب في أن النبي سماها الصلاة الوسطى.والوسطى تعني أيضا الفضلى والعليا (الكشاف).والواضح أن الصلاة التي يؤديها الإنسان بترك مشاغله الكثيرة هي التي تكون له الوسطى، وسببا في كثرة نزول البركات والأنوار.وأرى أن كلمة (حافظوا) تشير إلى أمر آخر أيضا.فالمحافظة من باب المفاعلة الذي يدل على الاشتراك.فالله ينصح الرجل والمرأة أنهما بهذا الزواج أصبحا شريكين،

Page 625

الجزء الثاني ٦٢٢ سورة البقرة صلاة ومن واجبهما أن يحافظا معا على الصلاة وخصوصا الصلاة الوسطى..وهي التهجد.وقد ورد في الحديث أن الرجل لو استيقظ لصلاة التهجد فليوقظ أهله، وإذا لم تستيقظ فليرش وجهها خفيفا بالماء.أما إذا استيقظت المرأة فلتوقظ زوجها ولترش الماء عليه لإيقاظه إذا لم يستيقظ (المشكاة (الصلاة).فما دام النبي ﷺ قد أكد على صلاة التهجد فيمكن أن تقدر مدى تأكيده على المحافظة على الصلوات الأخرى.والمعنى أن على الزوجين أن يحافظا على صلاة بعضهما، وأن يعملا على رقي كل واحد منهما في العبادة.قوله (وقوموا الله قانتين) يعني ألا تتشتت أفكارهم أثناء الصلاة، وإنما عليكم بالتفرغ إلى العبادة بإخلاص تام وطاعة كاملة وتبتل صادق كان الصحابة قبل نزول هذا ذلك من أثناء الصلاة، وبعد نزوله امتنعوا تماما الأمر أحيانا يتحدثون فيما بينهم (الترمذي، التفسير).فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٤٠) التفسير : يركز الله هنا على أهمية الصلاة أكثر فيقول: دعك من الحديث عن العلاقات الزوجية، فلو كنتم مطاردين من العدو، سواء كنتم مشاة أو على ظهور الدواب، فينبغي أن لا تهملوا الصلاة فكأنه يقول: لا يجوز التغافل عن الصلاة في أي حال..في الخوف أو في الأمن، حتى لا يجوز لكم ترك الصلاة وأنتم في خطر أشد من الخطر الذي يدعو لصلاة الخوف وقت القتال.فمهما كان حالكم يجب أن تُصَلوا.ورد في الحديث أن عبد الله بن عمر سئل عن صلاة الخوف، فبين طريقتها ثم قال (فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامكم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها).قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله قد ذكر ذلك إلا عن رسول الله ﷺ (البخاري، التفسير).

Page 626

الجزء الثاني فيتبين من ذلك أن ٦٢٣ سورة البقرة كان النبي يرى من هذه الآية أنها أشد خطرا من القتال الذي تُؤَدِّى فيه صلاة الخوف التي يصلي فيها الناس خلف إمام (النساء: ١٠٣).أما في هذه الحالة فلا يجد الإنسان الفرصة ليتوقف ويصلي، وإنما يضطر لأداء الصلاة وهو يعدو.على سبيل المثال..لو أن أحدا من عيون المسلمين شعر العدو بوجوده، ففر في اتجاه جيش المسلمين يعدو أو راكبا جواده، ويطارده عدد من جنود العدو، فلا يستطيع أن يتوقف ليترجل عن الحصان ويصلي إذا حان وقت الصلاة ، فيدركه العدو ويُحرم جيش المسلمين من المعلومات التي جمعها والتي أُرسل من أجلها.وما دام من الضروري له أن ينجو ويصل بالمعلومات سالما، لذلك يرخص له الصلاة على ظهر جواده وكما يرخص للمريض أن يصلي وهو مستلق أو بالإشارة في بعض الأحيان، كذلك يرخص لهذا أن يؤدي الصلاة كما يشاء..كأن يردد كلمات الصلاة وهو على ظهر جواده، وعندما يركع أو يسجد يحرك رأسه قليلا، ويكتفي بالتسبيح ،مرتين ويكمل صلاته هكذا بسرعة..وتكون صلاته مقبولة حتى ولو لم يكن مستقبل القبلة.نعم، إذا وجد فرصة ليستقبل القبلة عند بداية الصلاة فليفعل، وبعدها تجوز صلاته أينما توجّه.فأداء الصلاة بصورة مختلفة جائز وقت الخوف.سواء أدّاها راكبا حصانه أو بالإشارات فلا بأس.قد يكون منبطحا ومصوبا بندقيته إلى العدو وتحين الصلاة فإنه يستطيع أن يصلي وهو في هذا الوضع ويطلق النار على العدو عند الضرورة.ويمكن أن تؤدى صلاة الخوف هذه داخل المدن عند الضرورة في حالة الخوف..كأن يكون هناك قتال بين بلدين..فيجوز لسكان القرى المجاورة للحدود أن يرددوا كلمات الصلاة وهم قيام يطلقون النار على العدو المهاجم.وقوله تعالى (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يبين أنه عند زوال الخوف ودخول الأمن يجب أداء الصلاة كما أمرتم في قوله تعالى (قوموا الله قانتين) أي صامتين ثابتين.

Page 627

٦٢٤ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله (كما علمكم ما لم تكونوا (تعلمون أي بالكيفية التي علمكم الله إياها..أو اذكروا الله لأنه علمكم ما لم تكونوا تعلمون من قبل.بهذه الكلمات أعلن القرآن الكريم أمام العالم أن الله علّم الناس بهذا الكتاب علوما روحانية لم تذكر في أي كتاب سماوي لأي دين من قبل.وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجِ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٤١) يوصي التفسير : في قوله (وصية) هناك فعل محذوف قبلها تقديره "يوصون" أي يوصون وصية لأزواجهم.وهناك أيضا محذوف قبل (متاعا) تقديره: أن يمتعوهن متاعا إلى الحول غير إخراج.فعلى المتوفى أن أهله الذين سيقومون بتنفيذ وصيته أن يمتعوا زوجته بالإقامة في بيته إلى انقضاء سنة كاملة ولا يخرجوها من البيت خلال هذه الفترة.(وغير إخراج) بدل من (متاعا) والمعنى المراد من هذا المتاع ألا يخرجوهن إملاء ما مَنَّ به (الرحمان).حتى وإن كان بيت المتوفى في نصيب أحد ورثته عند تقسيم الإرث، فمع ذلك يترك الأرملة تعيش في البيت لمدة سنة كاملة.ولا يعني ذلك أن الأرملة لا تستطيع مفارقة بيت زوجها المتوفى، بل لها أن تخرج وتترك البيت لمصلحتها إذا رأت ذلك بعد انقضاء العدة.قد فرض على الورثة شرط انقضاء سنة كاملة لمصلحة المرأة المتوفى عنها زوجها وراحتها.فعليها أن تبقى في بيته أيام العدة فقط، وأما بعدها فلها أن تترك هذا البيت لما فيه مصلحتها.وهناك اختلاف فيما إذا كانت فترة العدة متضمنة في هذه السنة أم لا.وعندي أن نقبل بما فيه صالح المرأة أي أن السنة الكاملة علاوة على فترة العدة.ولكن الأسف أنه لا يعمل أحد بهذا التعليم.لا أهل المتوفى ولا أرملته.إذا كان للأرملة أطفال فإن الأقارب يصبرون بعض الوقت، وإذا لم يكن له أولاد منها فإنهم بعد بضعة أشهر

Page 628

الجزء الثاني ٦٢٥ سورة البقرة يطالبون بتوزيع أملاكه وبيته على الورثة، مع أنه من الضروري أن تمكث الأرملة في بيته سنة كاملة، وقد أكد الله على ذلك تأكيدا شديدا.وقال البعض إن هذه الآية منسوخة بآية الميراث وما ورد فيها من أحكام (تفسير الرازي).ولكن هذا خطأ، فليس هناك أي علاقة بين ما تناله الأرملة من ميراث زوجها وبين موضوع آيتنا هذه.فذلك حكم منفصل مستقل.وإنما الواقع أن الله تعالى قد فرض أن تنال المرأة نصيبها من إرث زوجها..فضلا عن أن تتمتع بالإقامة مع نفقات طعامها ومعيشتها.في بيته سنة كاملة وبقوله (فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف) بين أنه ليس المراد أن تحتجزوا الأرملة سنة كاملة في البيت وإنما أن تكون لها حرية كاملة للإقامة في بيت زوجها لسنة كاملة، ولكن إذا تركت البيت قبل انقضاء السنة فلا تمنعوها من ذلك.في أيام العدة خروجها من بيتها محرم عليها، ولكن ليس هناك إثم في أن تغادره بعد انقضاء العدة.فمن الخطأ إذن اعتبار هذه الآية منسوخة بآية العدة أيضا، وإنما الواقع أن في ذلك تأكيدا زائدا على أهل المتوفى بحسن معاملة الأرملة، لأنها لا تستطيع أن تؤسس بيتا جديدا أو تجد زوجا بسهولة.إنها لا تستطيع الخروج قبل أربعة أشهر وعشرا، ولكن بعد ذلك يجب ألا يخرجها أحد لمدة سنة، اللهم إلا إذا أرادت هي أن تخرج الله لها بذلك إذ اعتبر هذا العمل معروفا في قوله ما فعلن في أنفسهن من معروف) وكلمة (معروف) تتردد في القرآن الكريم كثيرا، وهي مشتقة من (عُرف) ومعناه ما يُعرف.وقد كتب الإمام الراغب المعروف اسم لكل فعل يُعرف بالعقل والشرع حسنه (المفردات).فقد سمح فإذا عُرف حُسن فعل عند الشرع، فيسمى مطابقا للقانون، وإذا عرف حسنه عند العقل العام فيسمى مطابقا للعادة؛ لأن الأمر الذي يعرف حسنه كل إنسان يصبح مروجًا بين الناس، والأمر الذي يعرف حسنه عند شخص معين فيسمى مناسبا

Page 629

٦٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني لحاله، لأنه لا يخص فردا من الأفراد من الحسنات إلا ما يكون مطابقا لحاله، فالمعروف هو ما يطابق القانون أو عادات القوم، ولكنه يعني هنا ما هو محبذ ومفضّل.والمراد من الآية هنا سواء تزوجت هذه الأرامل بعد العدة أو ذهبن إلى بيوت آبائهن أو أقاربهن، أو توظفن في مكان.فلا اعتراض عليكم، كما لا يحق لكم أن تمانعوهن.وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤٢) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٣) التفسير : عند نهاية موضوع الطلاق كرر الله وصيته بحسن معاملة المطلقات.هناك عموما سخط تجاه المطلقات، ولذلك قال عاملوهن بالحسنى.وبعطف قوله وللمطلقات متاع بالمعروف على ما قبله من الآيات بيّن أن المطلقات أيضا لو اضطررن للإقامة في بيوتهم أكثر من فترة العدة فيجب أن تسمحوا لهن بذلك وتمتعوهن متاعا بالمعروف فهذا واجب على المتقين.فالواجب ألا تعامل المطلقة بما يخالف المروءة، ولا تخرج من البيت بمجرد انتهاء فترة العدة فورا، بل يجب إعطاءها فرصة كافية لتنتقل من هناك براحتها، وذلك على سبيل الإحسان إليها.والعجب أن المسلمين الذين أمرهم الله أن يُسدوا معروفا إلى المطلقات علاوة على أداء مهورهن..يهضمون مهورهن أيضا.والواقع أنه لو عمل الناس بهذا التعليم القرآني لتم القضاء على كثير من المفاسد والخصومات وهذا الطلاق الذي أحله الله على سبيل الاضطرار..لم يؤد إلى هذه الخشونة التي تحدث بين الطرفين، ولشعر الطرفان أنهما ينفصلان مضطرين..وإلا فليس هناك أي خشونة ومرارة بينهما.ثم قال (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون أي يفصل الله آياته لمصلحتكم ومنفعتكم ولتتقوا الأخطاء والتقصيرات.

Page 630

الجزء الثاني ٦٢٧ سورة البقرة والمعنى العام لكلمة "آية" هو العلامة، ولكن القرآن قد استخدمها حينا في معنى ما يوجه الأنظار إلى الله تعالى؛ وآخر بما يهدي إلى الإيمان وتارة بما يحمي الإنسان من العذاب؛ وأخرى بما يهدي إلى الصراط السوي من المدنية والحضارة (الأقرب).وقد وردت كلمة آيات هنا بمعنى الأحكام التي ترشد إلى المدنية الصحيحة، والمعنى أنه قد لوحظ في بيان الأحكام الشرعية أن يكون هناك تعليم في كل أمر ضروري، وبطريقة تحمي الناس من السيئات والتقصيرات.ويدل على ذلك قوله تعالى (لعلكم تتقون).أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( ٢٤٤) التفسير : مَنْ هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ثم بعثهم الله بعد الموت وأعطاهم حياة جديدة؟ فلنتذكر أن هؤلاء هم بنو إسرائيل الذين خرجوا من مصر مخافة الموت.والدليل على ذلك أن كل الأمور المذكورة في هذه الآية تنطبق على أحداث بني إسرائيل.فخروجهم خوفا من الموت مذكور في قوله تعالى (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم (البقرة: ٥٠).أما خروجهم من ديارهم فقد جاء في قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون) (الشعراء: ٥٣)..أي أمرنا موسى أن يخرج بقومه بني إسرائيل ليلا وأنهم سوف يطاردون.وعلامة أنهم ألوف أيضا تنطبق على بني إسرائيل، لأنهم وقت خروجهم من مصر كانوا يبلغون عدة آلاف وتخبرنا التوراة أن بني إسرائيل عندما دخلوا مصر كانوا "." (تكوين (٢٧:٤٦.وعند خروجهم منها بعد ٢١٥ سنة في زمن كلهم

Page 631

الجزء الثاني موسی ٦٢٨ ٥٠ سورة البقرة وصل عددهم إلى ٦٠٠,٠٠٠ غير الأطفال والنسوة، فقد جاء أنهم سافروا من رعميس إلى سكوت نحو ٦٠٠,٠٠٠ ماش من الرجال عدا الأولاد (خروج ۳۷:۱۲).وكذلك جاء أنهم كانوا ٦٠٣,٥٥٠ شخصا (عدد٤٦:١).ولو جمعنا إليهم الإناث والأولاد الصغار لوصل هذا العدد إلى مليونين ونصف تقريبا.ولكن مما يخالف العقل والواقع أن يتكاثر ٧٠ ليصلوا إلى.....٢,٥ خلال ٢١٥ عاما.ثم عندما خرج موسى مع قومه من مصر إلى كنعان تاهوا في الطريق أربعين سنة في البرية.فهل يمكن توفير الطعام لأربعين سنة في البرية لشعب يبلغ مليونين ونصف؟! صحيح أن التوراة تذكر أن الرب أنزل لهم السماني وأخرج لهم من الأرض الفطر (خروج ١٣:١٦)، ولكن التوراة نفسها تقول إن الطعام لم يتيسر لهم طوال هذه الفترة المرجع السابق.فكيف تهيأ لهم الرزق طول هذه المدة؟ ثم إن التوراة تقول إنهم كانوا يشربون من عين واحدة خروج ٧:١٧).لا يقبل العقل السليم أن كل هذا العدد البالغ مليونين ونصف كانوا يروون عطشهم من عين واحدة.الحقيقة أن بيان التوراة مبالغ فيه جدا، والواقع ما ذكره القرآن الكريم من أن بني إسرائيل الهاربين من ظلم فرعون كان عددهم بضعة ألوف، وإلا فكيف يمكن أن يخاف اليهود الذين بلغ عددهم مليونين ونصف من القبائل الفلسطينية الصغيرة، وكان عدد سكان فلسطين - حتى في زمن ازدهارها - لم يتجاوز مليونين ونصف أو ثلاثة ملايين على الأكثر، بل في الزمن الحاضر كان عدد سكان فلسطين قبل التقسيم مليونا وثمانمائة ألف تقريبا.أما في الزمن القديم حينما لم تتيسر وسائل نقل الطعام فمن المستحيل أن يكون هناك تجمع سكاني كبير كهذا في مناطق غير زراعية.إذا، ففي زمن موسى لم يتجاوز عدد الفلسطينيين بضعة آلاف يقينا.ففي أحداث القتال بين بني إسرائيل وأعدائهم لا نجد إلا عدد المئات دائما.ولو كان عدد القادمين مع موسى إلى فلسطين مليونين ونصف فلا يمكن تدبير طعامهم حتى وإن كانوا حكاما في ذلك الوقت..دعك من تدبير طعامهم في وقت السفر.

Page 632

الجزء الثاني ٦٢٩ سورة البقرة وعندئذ ما كان بهم حاجة لقتال قبائل فلسطين، وإنما كان يكفيهم أن يدفعوا بالأكتاف أعداءهم الذين كانوا أيضا عدة آلاف فالمراد من (وهم ألوف) هم بنو إسرائيل المزيد من التفاصيل راجع تفسير سورة مريم).والعلامة الرابعة أن الله قال لهم موتوا.وقد ذكرت هذه العلامة للإسرائيليين في مكان آخر من القرآن الكريم فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة: ٣٧).والعلامة الخامسة أنهم بعثوا بعد الموت، وقد ذُكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون.ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) (البقرة: ٥٧,٥٦).وعندي أن المراد من (حتى نرى الله جهرة هو قولُهم فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (المائدة (۲٥) فعوقبوا بالتيه لأربعين سنة، وقد أشير إلى ذلك بقوله (فأخذتكم الصاعقة).فالمراد إذن من قوله (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم..هم بنو إسرائيل الذين صاروا عرضة لاضطهاد مستمر من فرعون، وكانوا واقعين في هوة الهلاك.كان أبناؤهم يُقتلون ودُمرت حياتهم القومية تماما، ولكن الله نجاهم من بلاد مصر، ووعدهم أرض فلسطين، وأمرهم أن يحاربوا عدوهم وينتصروا عليه، ولكنهم الجهلهم قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا (قاعدون (المائدة (٢٥ وكانت النتيجة أن الله أنزل عليهم الموت..أي تعرضوا لسخط الله أربعين سنة في التيه.ثم عندما كبرت ذريتهم و شبت، وقدمت التضحيات كما أراد الله بعثهم سبحانه من جديد، وفتح لهم أبواب كنعان، واستولوا على الحكم فيها، وإلى ذلك أشير في قوله (ثم أحياهم) وكذلك في قوله (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون).

Page 633

٦٣٠ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى (فقال لهم الله موتوا يشير أيضا إلى أنهم عندما خرجوا من بيوتهم حذر الموت وأرادوا أن تكتب لهم الحياة..أشار الله عليهم لكي يتحقق لهم ما أرادوا - بأن يوردوا الموت على أنفسهم.وبالطبع كان هذا العلاج عجيبا جدا في نظر قوم غادروا بيوتهم خوفا من الموت.هؤلاء الذين تركوا وراءهم كل ما يملكون من وطن، وإن لم يكن أصليا؛ ومن ممتلكات، وإن كانت قليلة؛ ومكانة وعزة، وأن كانت ضئيلة؛ وأصدقاء وجلساء وبلدا كانوا يفهمون لغته؛ وارتحلوا بأمر من الله إلى بلد لم يكونوا يعرفونه ولا يتكلمون لغته، وليس لهم فيه ممتلكات، ولم يكونوا مطلعين على أمانة أهله، و لم يكن أهله مطلعين على أمانتهم، ولم يكن أهله يفرقون بين صغيرهم وكبيرهم.لم تكن هذه تضحية عادية، ومع ذلك بذلوها لأنهم كانوا يحبون الحياة أشد الحب، وإلا ما تركوا بلادهم ولكنهم عندما وصلوا إلى الأرض الموعودة وسألوا الله: أين تلك الحياة التي وعدتنا بها؟ قال لهم الله : موتوا لتحيوا! فتحيروا..ما هذا الذي يقال لهم؟ لقد قدّم لنا فرعون كأس الموت، وها هو الرب يقدم لنا نفس الكأس! لقد أراد فرعون ،موتهم فقالوا بل نريد الحياة..وسوف نتوسل ونتضرع إلى الله؛ ولكن بعد الضراعة نالوا نفس الجواب: موتوا إنهم في حيرة هل يعتبرون فرعون صديقا لهم أم يعتبرون الله - تعالى عدوا لهم؟ هل يريد فرعون إحياءهم أم أن الله يريد هلاكهم..لأن المكتوب على الكأسين كلتيهما هو الموت؟ ففزعوا، وقال ضعفاء الإيمان منهم: لقد جئنا هنا فارين من الموت.لو كان علينا شرب كأس الموت فلِمَ لَمْ نشربها هناك؟ ما الداعي لتحمل كل هذا العناء؟ لسنا مستعدين لشربه.لقد خُدعنا.لو كان الموت نصيبنا هنا أيضا فلماذا وعدنا بالحياة؟ بعد كل هذه الوعود والآمال تعرضنا لشماتة الأعداء، ولسوف يضحكون منا ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الحمقى الذين فروا من الموت وكان الموت ينتظرهم هناك أيضا !

Page 634

٦٣١ سورة البقرة الجزء الثاني هؤلاء هم قوم موسى كان فرعون يريد إبادتهم، ولكن موسى قال لهم: سوف يتزوجون بناتكم، ويقتلون رجالكم ويباد ،نسلكم ويبدأ نسل الأعداء منهم..فاتقوا هذا الموت وهذه الإبادة ولا تحتملوا حياة الذل وقال لهم الله إن كأس الحياة والعز تنتظركم في أرض كنعان فتركوا ديارهم وأموالهم، وجاههم وراحتهم التي كانوا يتمتعون بها في ظل الحكومة المصرية.كثير من منهم يقول الله تعالى إن هؤلاء الخارجين من بيوتهم كانوا أُلوفا، وكان معهم الصغار والنساء والشيوخ والمألوف أن يكون %۲۰% من القوم رجالا بالغين.وعادة يكون عدد الرجال الصالحين للحرب في الأمم المتحضرة ٦%، أما في الأمم غير المتحضرة فتزيد هذه النسبة إلى ١٦.فلو كان عددهم..., لكان ۸,۰۰۰ صالحين للحرب.ولكن لم تكن عندهم خبرة قتالية، فأنى لصانعي اللبن أن يعرفوا أساليب القتال وفنون الحرب؟ فأشار موسى إلى أمة من ذوي الوجوه الحمراء..كانوا يتصدون لقتال العرب يمينا، ويقفون في وجه هجمات اليونان يسارا، وكانوا يحتكون بثلاث من الأمم التي تربت في مهد الحضارة: هم اليونان والفرس والمصريون..لذلك كانوا يعرفون أساليبهم جميعا، ثم كانوا بأنفسهم متحضرين يعيشون في مدن كبيرة، وكانوا يزيدون على بني إسرائيل عشر مرات..إلى هذه الأمة شديدة البأس المتمرسة في القتال..أشار موسى وقال لقومه: قاتلوهم واستولوا على السلطة! من هنا من السهل أن يبدي الإنسان الدهشة من سلوك الإسرائيليين، ولكن فكر: إذا دعاك صديق للطعام، ثم صحبك في الموعد إلى السوق، ودخل بك إلى مطعم كبير حيث يباع الطعام بسعر أعلى خمسة أو ستة أضعاف..وقال لك: اشتر طعاما كما تشاء!..أو قال ها هو البيت في الجانب الآخر، تفوح منه رائحة الطعام الجيد، وما عليك إلا أن تقتحمه وتشج رأس صاحبه وتأخذ الطعام!..ماذا يكون حالك بسماع هذا القول؟ سوف تعتبر كلام صديقك سخرية مهينة، وسوف تغضب عليه، وربما تهاجمه من شدة الغضب.هكذا كان الحال هنا.جاء موسى منه

Page 635

٦٣٢ سورة البقرة الجزء الثاني بقومه من مئات الأميال على وعد أنهم إذا وصلوا هناك نالوا الحكم.ولكن بعد وصولهم قال لهم: قاتلوا الحكام في أرض كنعان تنالوا الحكم.ونظرا للجهالة في بني إسرائيل حينئذ..يمكن القول إنهم لا بد أن يكونوا قد لطموا الوجوه، ونظروا إلى موسى في حيرة وقالوا لقد وعدتنا شيئا آخر..ماذا تقول؟ لماذا لم تقل لنا في مصر: قاتلوا فرعون وخذوا الحكم منه، وكان من الممكن أن نفعل ذلك هناك، لأن رجالنا كانوا يعملون في بيوتهم، وكان وزراؤهم من معارفنا، وكنا نتمتع بكثير من التسهيلات هناك، أما هنا فلغتنا تختلف عن لغة القوم، ولا نستطيع التجسس عليهم، وليس عندنا الوسائل التي كنا نتمتع بها في مصر.متى كان القضاء على هذا القوم مهمة سهلة حتى أخرجتنا من مصر وقلت: اقضوا عليهم وانتزعوا منهم الملك؟ هذا كان وعدا من الله..ولكنهم لم يكونوا يستطيعون رؤية الله لتشاجروا أيضا معه سبحانه ولما كانوا يرون موسى أمامهم خاطبوه..وفي الظاهر تصرفوا معه بمروءة وأدب..وإلا كان من الممكن أن يهاجموه قائلين: لقد خدعتنا.تقول التوراة إنهم بكوا وضربوا الصدور وغضبوا كما يغضب الأطفال الصغار (تثنية: (۱).أما القرآن الكريم فيقول إنهم قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا (قاعدون (المائدة: ٢٥).إن أعداءنا قوم أشداء متمرسون بفنون القتال مزودون بأسلحة أكثر مما عندنا، وهم على أرض وطنهم يعرفون طرقهم جيدا؛ أما نحن فلا نعرف حتى كيف نطاردهم.إنهم في قلاع حصينة، ونحن في البراري.لقد وعدتنا أننا سنعطى الملك؛ فلن نحرك ساكنا وسوف نجلس هنا، فاذهب أنت وربك وافتحا لنا البلد.وإلا يبدو من الظاهر أن موسى لم يف حرفيا بما وعد به بني إسرائيل؛ ولكن إذا نظرنا إلى الموقف من زاوية أخرى تتغير الصورة تماما.بعد فتح مكة، وبعد الرجوع من إحدى الغزوات قال النبي الله للأنصار : لقد بلغني أنكم تقولون إن محمدا يقسم الغنائم على المهاجرين مع أن التي تقطر دما.فقالوا: نعم، يا رسول الله، قال بذلك أحد شبابنا جهلا منه.فقال النبي : إنه يحق لكم أن تقولوا وجدنا سيوفنا هي

Page 636

الجزء الثاني ٦٣٣ سورة البقرة محمدا مشردا فآويناه في بيوتنا، وكان قومه متعطشين لدمه فدافعنا عنه ضدهم.لم يكن أحد يستجيب لقوله فصدقناه، وبلغنا الناس رسالته.وعندما تم الفتح قسم الغنائم على قومه ولم يعطنا شيئا، ولكن يمكن أن تقولوا أيضا: إن محمدا مكن لنا وهيأ لنا نعمة التقوى الجليلة، ويسر لنا حب الله.ثم إن الله الله، أن نتقرب من بفضله كتب له الفتح، وقام جنوده القدوسيون بفتح مكة.كانت مكة مولدا لمحمد وموطنا للمهاجرين، وكان هؤلاء المهاجرون المكيون يتوقعون أنهم يستعيدون بيوتهم مكة، ولكنهم رجعوا ببعض الجمال والشياه، أما نحن فقد رجعنا بمحمد رسول الله (البخاري: المغازي).بفتح من هاتين الزاويتين يمكن رؤية هذا المشهد.إذا كان الله يريد لهم حكما ماديا ظاهريا كحكم فرعون فلماذا لم يترعه الله من فرعون ويعطه بني إسرائيل؟ كلا، كان الله يريد لهم حكما متأسسا على أخلاق حميدة لم يكن يريد أن يعطيهم حياة تافهة، فمثل هذه الحياة يعطيها حتى أدنى السوقة لولده حين يُنجبه.ولكن الله أراد أن يهب لهم حياة دائمة تقوم على مكارم الأخلاق التي لم يكن فرعون يستطيع إعطاءهم إياها.مثل هذه الحياة لا تتيسر إلا بالتربية والتعود على بذل التضحيات.لقد أراد الله إحياءهم بآياته المتجددة حتى يتصدى أحدهم لعشرة، ثم إذا كتب لهم الفتح بعد ذلك لرأوا فيه آية حية، ولَتَم به إصلاحهم ونالوا حياة حقيقية.فكأن الكأسين وإن كانتا للموت..فإن في كأس فرعون شراب الموت، وفي كأس الله ماء الحياة.هذا هو الفرق الذي لم يستطيعوا فهمه.لو شربوا كأس فرعون لماتوا للأبد، ولو شربوا كأس الله لماتوا موتا مؤقتا نالوا بعده حياة أبدية.ولكنهم لم يتبينوا هذا الفرق، ورفضوا شرب كأس قدمها الله لهم كما رفضوا كأسا قدمها لهم فرعون.عندئذ قال لهم الله: موتوا.لقد رفضتم أن تقبلوا الموت بأيديكم، والآن سوف نهلككم بأيدينا.ولكن الله فرّق بين الموت الذي أورده فرعون عليهم وبين

Page 637

الجزء الثاني ٦٣٤ سورة البقرة الموت الذي أورده الله عليهم.لما كان هؤلاء قد خرجوا من ديارهم بوعد لذلك أحياهم بعد فترة من الموت المؤقت، وهكذا حقق سبحانه وعده.الله من ففي هذه الآية الوجيزة صوّر الله صراع البقاء بين الأمم تصويرا رائعا.في الدعاء الإبراهيمي ذكرت أربع مهام للنبي يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (البقرة: ۱۳۰)..أي ۱ - تلاوة آيات الله ٢- تعليم الكتاب ٣- تعليم حكم الشرع ٤ - تزكية النفوس.والآية التي نحن بصدد تفسيرها تندرج تحت تعليم الحكمة.فقد بين الله بضرب هذا المثال هنا سبل رقي الأمم وقال: إذا كانت أمة في خطر الموت فعلاجها إما أن تقبل الموت بنفسها أو بيد الله.هناك كثير من السهولة والمنفعة في قبول الموت بيدها.ولقد بين الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام أن الإنسان لو قبل الابتلاء بيده لاستطاع تخفيفه، كما أن الإنسان إذا توضأ في البرد يستطيع تخفيف برودة الماء.كذلك عندما يقبل الإنسان الموت ويدخل في الحرب فإنه يستطيع أن يخفف تأثير الموت بأخذ سيف وارتداء درع، وإذا أصيب عالج جرحه، أو إذا أصيب بشوكة فيستطيع إخراجها بيده، لأنه لا يتوقع من الآخرين الرفق والتخفيف من المعاناة كما يستطيع بيده، ولكنه لا يستطيع النجاة من الموت المفروض من الله، وإنما يسري القانون الإلهي بصرف النظر عما يعانيه المحكوم عليه قليلا أو كثيرا.فمثلا عندما يتفشى وباء الطاعون أو الكوليرا فإنه يكتسح أهل البلاد بلا تفريق.فإذا أتى موت قوم من الله تعالى فليس علاجه أن يبحثوا عن الحياة، وإنما علاجه أن يقبلوا الموت.هناك ثلاثة أنواع من الأمم أمة تقبل الموت بنفسها، فينالون بذلك حياة أبدية، كما فعل أصحاب الرسول ﷺ لقد عُرض الموت على الصحابة رضوان الله عليهم فقبلوه، فنالوا حياة أبدية عند غزوة بدر لم يخرج جميع الصحابة مع الرسول لأنه لم يخبرهم بالحرب لبعض المصالح، وإن كان يعرف أن الاشتباك بالعدو حتمي.وعندما النبي من خرج من المدينة وقصد القتال جمع الأنصار والمهاجرين وقال: أيها الناس، أشيروا عليَّ، ماذا نفعل؟ فقام أحد المهاجرين وقال يا رسول الله، فيم نتشاور؟

Page 638

٦٣٥ سورة البقرة الجزء الثاني نحن هنا للقتال.ولكن الرسول كرّر سؤاله وقال: أيها الناس، أشيروا علي.عندئذ أدرك الأنصار أنه الا الله يخاطبهم ويقصدهم، فقام أحدهم وقال: يا رسول الله، لعلك تريدنا نحن بسؤالك؟ قال: نعم.فقال الأنصاري: يا رسول الله ربما تشير بهذا إلى الاتفاق الذي تم بيننا وبينك قبل الهجرة..بأننا سوف نقاتل معك إذا هاجم العدو المدينة، ولم يُذكر فيه أن نحارب معك خارج المدينة؟ قال النبي: نعم.فقال: يا رسول الله، نعم، لقد بايعناك على القتال في المدينة ولم نتفق على القتال معك خارجها، ولكن هذا كان في أول الأمر، أما الآن فقد شهدنا نور الله يترل أمام أعيننا، فكيف نتركك تخرج إلى ساحة القتال ولا نخرج معك؟ إننا يا رسول الله – ونيابة عن إخواننا من الأنصار الذين لم يخرجوا معك لعدم علمهم بالحرب، ولو علموا أن هناك قتالا لخرجوا واشتركوا فيها إلى جوارك نقول باسمنا جميعا: دعك من حديث الاتفاق القديم والله لو أمرتنا أن نخوض بخيلنا في البحر لخضناه.ما تخلف منا رجل واحد.والله لو قاتلنا عدوك فسوف نقاتله عن يمينك وعن شمالك ومن خلفك، ولن يخلص العدو إليك ما لم يطأ على جثثنا الهامدة أمامك ومن (البخاري، المغازي، مسلم، الجهاد السيرة النبوية لابن هشام، غزوة بدر).وكانت هذه المقولة الرائعة محببة إلى الصحابة حتى أن أحدهم وقد اشترك في أربعة عشر أو ثمانية عشر لقاء كان يقول: على الرغم من شرف الاشتراك في هذه المواقع إلا أني أرى مقولته هذه أفضل من قتالي في كل هذه الحروب..ليتها خرجت من فمي وكنت قائلها (البخاري، المغازي).انظر إلى هذه الأمة التي قبلت الموت ببشاشة فعوملت بحسب هذه البشاشة، ثم.وعلى النقيض من ذلك انظر إلى أمة موسى وعدهم الله بالحياة، فطالبوه الوفاء بوعده وفاء حرفيا، وقالوا: جئت بنا هنا بوعد الحياة والملك..فلن نستولي على هذا الملك بالقتال.ففرض الله عليهم الموت وحرمهم من هذا الملك أربعين سنة.ولأنه وعدهم بالحياة أعطاهم الحياة فيما بعد..وذلك بعد أن مات في البرية ذلك الجيل الذي تقاعس ورفض قبول الموت وأخرج الله من ظهور القائلين (إنا هاهنا

Page 639

٦٣٦ سورة البقرة الجزء الثاني قاعدون ذرية لا تقول ذلك، فنهض بهم الله وأتم على يدهم وعد الحياة في بني إسرائيل.وإلى ذلك يشير قول تعالى ثم أحياهم).والنوع الثالث من الأمم هي الأمة التي ليس معها أي وعد، وعندما يُدفعون إلى فم الموت يعاملون بحسب همتهم أحيانا ينجون من الموت بجهودهم وتضحياتهم، وأحيانا يهلكون.وبإيجاز: لقد بين الله هنا نقطة عجيبة..هي أن الأمم المغلوبة على أمرها والمستعبدة لا يمكن أن تنال الحياة ما لم تقبل الموت على نفسها.ثم قال (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).أي أن ما يصفه الله لقوم من علاج في شكل كفاح وجهاد يكون ضروريا لرقيهم الناس يصرخون ويقولون: لقد هلكنا وأثقلت علينا الأعباء.ولكن الحقيقة أنها تكون لمصلحتهم.وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٥) الله التفسير: يقول الله تعالى يا أمة محمد انظروا إلى أحوال تلك الأمة التي أتى بها موسى من مصر لينالوا الحكم على بلد وعدهم به..ولكنهم عندما أمروا أعدائهم القابضين على البلد رفضوا، فحرمهم من تلك الأرض الله بالقتال مع وماتوا تائهين في البرية.كان الموت سيأتيهم ولو كانوا في فراشهم، ولكنهم لم يقبلوا كأس الموت فهلكوا وبادوا، فيا أمة محمد، اعتبروا من أحوال هؤلاء القوم.ولا ترفضوا الجهاد في سبيل الله أبدا.إن الأمة التي تخاف الموت لا تنال الحياة أبدا..لأن خوفها من الموت هو عين الموت.وفي قوله (واعلموا أن الله سميع عليم بين أن الله يعلم ضعفكم وقلة عددكم وعدتكم، وأن عدوكم خبير بالقتال، مزود بالسلاح والعتاد، ولكن الله تعالى (سميع) يستجيب لدعواتكم (وعليم) بكل ما يحيط بكم من مشاكل، فاتكلوا عليه ولسوف يجيب دعاءكم ويكتب لكم النصر على العدو.

Page 640

الجزء الثاني ٦٣٧ سورة البقرة مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٦) شرح الكلمات : يقرض-أقرضه: قطع له قطعة ؛ أعطاه قرضا (الأقرب).القرض: القطع؛ وهو أسلفه الإنسان من إحسان أو إساءة وليس من الضروري أن يكون مالا.يقول الشاعر أمية: كل امرئ سوف يُجزى قرضه حسنا أو سيئًا ومدينا مثلما دانا والقرض كل ما يتجازى به من الناس.وقرضته جازيته.تقول العرب: لك عندي قرض حسن وقرض سيئ وأصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه.والله لا يستقرض من عوز ولكنه يبلو عباده.قال لبيد: وإذا جُوزيت قرضا فاجزهِ إِنما يَجزي الفتى ليس الجَمَل كذلك قالوا: القرض في قوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) اسم وليس بمصدر، ولو كان مصدرا لكان إقراضا ولكن القرض هنا كل ما يلتمس عليه الجزاء.وقال الأخفش: يُقرض الله : يفعل حسنا في اتباع أمر الله وطاعته.والعرب تقول لكل من فعل خيرا لقد أحسنت قرضي يقولون: ولقد أقرضتني قرضا حسنا أي أديت إلي خيرا (اللسان).فتعني الآية ما يلي: أولا من ذا الذي يطيع الله في أوامره طاعة يرجو عليها الجزاء.ذا الذي يعطي جزءا من ماله في سبيل الله تعالى.فكأن المعنى المشترك هو ثانيا: من من ذا الذي يطيع الله وينفق في سبيله.أضعافا - الضعف : أن يعطي بنفس المقدار أو مرتين وقالوا إن هذه الزيادة على أقل تقدير.أما الحد الأقصى من الزيادة فلا يُحد.(الأقرب)

Page 641

٦٣٨ سورة البقرة الجزء الثاني التفسير تعني الآية من ذا الذي يُقرض الله أحسن ماله لينميه الله لصالح المقرض ويزيده له باستمرار.لقد حث الله هنا المؤمنين بأسلوب لطيف على الإنفاق في سبيله وقال إننا لا نطالبكم بإنفاق جميع ما تملكون من مال، وإنما بإنفاق جزء منه.ثم نطالبكم بإنفاقه لتزيده فإذا أنفقتم دينارا نرده لكم عشرة.فما أسهله من سبيل للحصول على رضوان الله وحبه وقربه! ويجب عند الأنفاق في سبيل الله مراعاة ثلاثة أمور.١ - أن ينفق دون أي انقباض في قلبه بل ببشاشة وطيب نفس.٢ - إذا أنفق على أحد فلا يمن ولا يثقل عليه عبئا لا يليق، بل يقول في نفسه أن الله وفقني بفضله ورحمته لفعل هذا الخير.- أن ينفق أفضل ماله.هذه الأمور الثلاثة تستنبط من الآيات التالية: قال تعالى عن المنافقين: (ولا ينفقون إلا وهم كارهون (التوبة: (٥٤) وقال: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى (البقرة: (٢٦٣ وقال لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (آل عمران: ۹۳).فقوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) يعني: هل منكم أحد ينفق أحسن جزء من ماله في سبيلي، بدون أن ينقبض قلبه عن الإنفاق، وبدون أن يمن على أحد بعد الإنفاق ويجرح مشاعره بأي طريق؟ إن الذين يفعلون ذلك سوف يجازيهم الله عليه أحسن الجزاء، والعمل الواحد منهم يجلب عليهم آلافا من البركات.وقوله من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا أسلوب استفهام أريد به التحريض (من والترغيب والمراد هل أحد ينفق في سبيل الله ليزيد الله ماله ويرده إليه.وتعني الآية أيضا أقرضوا عبادي قرضا حسنا.أي أحسنوا إليهم وأعينوا الفقراء منهم، لأن أحدا لا يعطي الله أبدا وإنما يعطي عباده وإعطاء العباد يسمى إعطاء الله كما ورد في الحديث: قال النبي الله يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تعدني قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما

Page 642

الجزء الثاني ٦٣٩ سورة البقرة علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلانا فلم تطعمه.أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه.أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟ (مسلم، البر) اعترض المسيحيون على هذا الحديث النبوي مع أن إنجيلهم ذكر نفس كلمات الحديث، فقد ورد فيه: (ثم يقول الملك للذين عن يمينه، تعالوا يا مباركي أبي، رثُوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم لأني جعتُ فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلي.فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك أو عطشانا فسقيناك متى رأيناك غريبا فآويناك، أو عريانا فكسوناك، ومتى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم، بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر في فعلتم) (متى ٢٥: ٣٤-٤٥) تبين هذه الفقرة الإنجيلية أن إعطاء العباد يُعتبر إعطاء الله تعالى، وكأن العبارة هنا هي من ذا الذي يقرض عباد الله قرضا حسنا؟ ولما كان الحديث هنا عن القتال في سبيل الله في قوله (وقاتلوا في سبيل الله..لذلك يعني قوله (من ذا الذي يقرض قرضا حسنا أنه في أيام الحرب سوف تلحق أضرار مادية ببعض الناس فعليكم بإسداء المعروف كقرض حسن إليهم لإصلاح أحوالهم.وهذا القرض سيعتبر قرضا الله تعالى.وتذكروا أن الله تعالى يزيد المال، ولو كان مقدار حبة، ويضاعفه أضعافا كثيرة بحيث لا تتصورونه.انظروا إلى إبراهيم كيف أنه ضحى بابن واحد في سبيل الله فوعده الله بذرية لا تُعد كتراب الأرض لكثرتها (تكوين:١٣).كذلك رضي إسماعيل بالبقاء في واد غير ذي زرع لوجه الله تعالى فنال جزاء على ذلك أن ولد من ذريته سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد المصطفى.فالله تعالى يوصي الله الا

Page 643

الجزء الثاني تظنوا بأن تضحياتكم في سبيل الله تصوركم وتقديركم.٦٤٠ سورة البقرة تضيع.كلا، وإنما يجازيكم الله عليها جزاء يفوق لقد اعترض البعض على قوله فيضاعفه له أضعافا كثيرة، وقالوا: الأصح أن يقال ضعافا بدلا من أضعافا وقد رد بعضهم على ذلك وقال بأن (أضعافا) تشير إلى تعدد أنواع هذا الجزاء.لو استخدمت كلمة "ضعاف" لأفادت الكثرة فقط، ولكن أضعاف تعني الزيادة وتعدد أنواعها (التفسير المظهري).ثم قال (والله يقبض ويبسط)..أي كما حلّت المصيبة بإخوانكم فيمكن أيضا أن تحل بكم، فأيام العسر واليسر تتغير وتتبدل، فمن واجبكم الأول أن تقدموا يد المعونة إليهم.وفي قوله (والله يقبض ويبسط شرح للجملة السابقة.حيث بين ماذا يعني أخذ الله القرض من عباده فذكر أن من سنة الله أنه يأخذ من عباده أموالهم، ثم يزيدها ويحقق لهم الازدهار.وما لم يُضح العبد في سبيل الله تعالى لا يترل عليه الفضل الله والمشار إليه في قوله (يبسط).الخاص من وما دام العسر واليسر بيد الله فكل من يطيع أوامره قدّر له البسط، والذي يعصي قدر عليه القبض، أي يعذبه كذلك يعني قوله (والله يقبض ويبسط أن الإنسان يطرأ عليه حالان: حال القبض وحال البسط جاء صحابي إلى النبي الله وقال : يا رسول الله.أصبحت منافقا.فقال النبي: أنت مؤمن.فلماذا تقول ذلك؟ قال: يا رسول الله: عندما أكون في مجلسك يُخيّل إلي أنني أرى النار والجنة أمامي، تستولي علي خشية الله.ولكن عندما أرجع إلى البيت لا أبقى في هذه الحال.فقال النبي: هذا هو الإيمان.لو بقي الإنسان على حال واحد لمات ١٥.ا ورد في ابن ماجة أبواب الزهد حديث قريب المعنى سبق الإشارة إليه.

Page 644

٦٤١ سورة البقرة الجزء الثاني فهناك حالتان روحيتان القبض والبسط، ولو بقى الإنسان في حالة واحدة منها باستمرار فإن يموت عقليا ويُجَن.هذا هو الفارق بين المجانين والعقلاء.المجنون تستولي عليه حالة واحدة باستمرار، أما العاقل فيأتي عليه حال من القبض والبسط.إن المجنون يظل في أفكار واحدة، ولكن أفكار العاقل تتغير ولا تبقى في حيز واحد.لقد جعل الله للإنسان حالين لازمين هما القبض والبسط.أحيانا تتولد فيه موجة من البسط فيستعد للتضحية بكل ما يملك في سبيل الله والدين، وأحيانا يجلس ويُجري الحسابات ليرى كم ينفق وكم يُبقي.وهذه هي حالة القبض.أما إذا استعد للإنفاق من كل ما يملك وكان بذلك في فرحة غامرة فهذه حالة البسط.يوصي الله بالإنفاق في الحالتين: القبض والبسط؛ لأن العسر مؤقت واليسر أيضا مؤقت.كان من الممكن أن يقال: إذا كان مالي عند الله يزداد، فما الفائدة بالنسبة لي.فأضاف (وإليه ترجعون)..أي إنما بيتكم الحقيقي هو عندنا، وكل ما تقدمونه إلينا نزيده، وعندما تأتون إلى الله تجدون هذا المال قد ازداد عنده زيادة كبيرة، وسوف تحصلون عليه ويشبه هذا رجلا يعمل في الخارج، ويرسل مرتبه إلى زوجته، فتحفظه وتجمعه له ولكن الله تعالى لا يجمع المال فقط، وإنما ينميه ويزيده.فبقوله (وإليه ترجعون) بيّن أنكم سوف ترجعون إلى الله في يوم من الأيام حيث تنتظركم حياة أبدية، فلا تضروا هذه الحياة الأبدية لمنافع مؤقتة، وساهموا في الخير ما استطعتم.انظروا إلى بلاغة القرآن الكريم كيف راعى الترتيب في ذكر الأنفس والأموال بطريقة رائعة.ففي وقت الحرب تكون الحاجة الأولى إلى النفس، فالمطلوب من الجنود أن يضحوا بأنفسهم من أجل الدين والقوم، ولذلك ذكر هذا الأمر أولا فطالب المؤمنين بالتضحية بنفوسهم في الآية السالفة: (قاتلوا في سبيل الله).وتراعي الحكومة أن تكون خزائنها مليئة، لأن القوم عندما يخرجون إلى ساحة القتال تُلقى أعباء ثقيلة غير عادية على خزانة الدولة بسبب النفقات الحربية، ولا بد من سد هذا الفراغ، وإلا لا يستطيع المحاربون الاستمرار في القتال لمدة طويلة، ولذلك ذكر الله التضحيات المالية في المكان الثاني.وهكذا أعطى الله تضحيات

Page 645

الجزء الثاني ٦٤٢ سورة البقرة النفوس والأموال أهمية أساسية فيما يتعلق بالرقي القومي والديني، كما راعى الترتيب الطبيعي في هذا لبيان أن تضحيات النفوس لها المقام الأعلى ثم تضحيات المال.أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَالٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا تُقَاتِلْ فِي سَبِيلَ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا تُقَاتِلَ فِي سَبيل اللهِ وَقَدْ أَخْرَجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٧) شرح الكلمات: الملأ - من ملأ الإناء ماء وملىء رعبا أي امتلأ قبله رعبا.والملأ كبار القوم وسادتهم، لأن كبير القوم عندما يحضر في المجلس يقولون الآن امتلأ المجلس ولا حاجة لأحد.فمهما كان عدد الفقراء في المجلس إلا أنه ما لم يأت كبير القوم يقولون ليس للمجلس ،رونق، ولا يبدءون العمل حتى يحضر كبيرهم.لذلك يسمون كبار القوم "الملا".كذلك تمتلئ قلوب الناس هيبة أو محبة لكبار القوم ولذلك أيضا يسمون ملأ (الأقرب) عسيتم عسى للاحتمال والإمكانية وأحيانا للتوقع وعندما تستخدم في حق الله فإنها تعني الاحتمال الكبير (المفردات).التفسير: في الآيات السابقة ذكر الله حادثا لبني إسرائيل.ونصح المسلمين بأن لا يرفضوا قبول الموت لوجه الله أبدا.والآن يذكر حادثا آخر لرؤساء بني إسرائيل، إذ أ طلبوا من أحد أنبيائهم أن يعين لهم ملكا قائلين: طالما ظلمونا وأخرجونا من ديارنا وممتلكاتنا، وفرقوا بيننا وبين أبنائنا؛ فنحن بحاجة إلى ملك حتى نقاتل في سبيل الله.

Page 646

الجزء الثاني يعني ٦٤٣ سورة البقرة وكلمة (من بعد موسى) لا أن هذا الحادث وقع بعد موسى فورا، وإنما كان بعده يشوع الذي كان نبيا وملكا أيضا.بل إن الحادث المذكور قد وقع بعد موسى بمئات السنين كما سوف يتبين في السطور القادمة.وقوله (هل عسيتم هو من كلام هذا النبي يقول : إذا فرض عليكم القتال فربما لا تقاتلون، فيجب أن تفحصوا نياتكم وقلوبكم جيدا حتى إذا فرضت الحرب لا تألموا برفض القتال.بزمن بعيد.لأن بني وقوله (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا بمعنى أنهم استولوا على ممتلكاتنا وديارنا، وقتلوا أولادنا أو استولوا عليهم أيضا، وما دمنا قد تحملنا هذه الشدائد في سبيل الله إلى الآن فلماذا نُمنع من قتالهم.وهذا أيضا يؤكد أن هذا الحادث وقع بعد موسى إسرائيل في زمن موسى رفضوا القتال صراحة عندما قالوا فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.أما هنا فلا يقولون هذا، بل يقولون نريد الحرب، وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا.صحيح أنهم عندما جاء وقت الحرب، كما تذكر الآيات القادمة تزلزل كثير منهم ولم يثبتوا على عزيمتهم، ولكنهم في البداية أبدوا رغبة في القتال، وطلبوا أن يعين عليهم ملك حتى يضعوا حدا لاضطهاد العدو.وَقَالَ لَهُمْ نَبيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٨) التفسير: عندما طالب كبراء بني إسرائيل تعيين ملك لهم يحاربون العدو تحت قيادته..كانوا يظنون أن واحدا منهم سوف يعين ملكا، ولكن الله أراد ابتلاءهم،

Page 647

٦٤٤ سورة البقرة الجزء الثاني فعين شخصا غيرهم خلافا لما أرادوا.وهنا تجلّى ضعف إيمانهم الذي كان مستورا من قبل، وأخذوا يعترضون كيف يكون ملكا علينا؟ زوده الله وبنوا اعتراضهم على أمرين: الأول - أنه لم يُؤت جاها ظاهريا.نحن من أسر كبيرة وهو من أسرة ،وضعية، ولذلك نحن أحق بالملك منه والثاني أنه أقل منا مالا.فهو فقير، والواجب أن يكون الملك ثريا فلا نقبل تعيينه ملكا علينا.فرد عليهم نبيهم: (إن الله اصطفاه عليكم..أي الجواب على حجتكم الأولى أن الله هو الذي اختاره، وفضيلة الإنسان تبدو باختيار الله له، فعندما يصطفى الله أحدا على الآخرين يجعله ناجحا رغم معارضتهم.كذلك اختار الله عليكم طالوت، وهذا دليل على فضيلته والجواب على حجتكم الثانية هو (وزاده بسطة في العلم والجسم فرغم عدم ثرائه إلا أنه أكثر منكم علما وبالعلم أشار إلى أن المال يُكتسب في الدنيا بالعلم، أما الأحمق فإنه يبدد ويقضى على ما كسبه آباؤه.ولقد بالعلم، وبه يستطيع كسب المال الكثير.وذكر فضل علمه عليهم أيضا ليشير إلى أن الثراء لا يجعل الإنسان أهلا للحكم، وإنما يتطلب الحكم أن يكون في الإنسان قدرات لإدارة الأمور.وطالوت مزود بهذه المؤهلات أكثر منكم، ويعرف كيف يدير دفة الحكم، ومطلع على مجريات الأمور السياسية اطلاعا جيدا، فلا تعترضوا عليه لقلة ،ماله، ولسوف تظهر قدراته الكامنة في الوقت المناسب.ثم ذكر بسطته في الجسم، ليقول : أنتم تريدون الحرب وهو رجل ذو كفاءات جسدية عظيمة، ففيه الهمة والعزيمة والثبات والشجاعة والثقة بالنفس.فمنذا يكون أنسب منه للقيادة في الحرب؟ ولا يعني قوله هذا أنه ضخم الجسم، وإنما المراد منه أنه قوي وشجاع جلد وفيه التضحية.يقول العرب المرء بأصغريه قلبه ولسانه (الأقرب)..أي قوة الإنسان تكمن في عضوين صغيرين هما القلب واللسان.وهذه أيضا علامة الخلفاء الصادقين.عندما صار سيدنا أبو بكر خليفة، أشار عليه سيدنا عمر في شأن مانعي الزكاة قائلا : إذا كان الناس لا يريدون أداء الزكاة فاتركهم وشأنهم، فمحاربتهم في روح

Page 648

٦٤٥ الجزء الثاني سورة البقرة هذه الأيام سوف تضعف المسلمين (البخاري الزكاة ولكن عندما تولى سيدنا عمر نفسه الخلافة قام بأعمال عظيمة.فالحق أن الهمة والثبات والاستقامة علامة كبيرة يهبها للخلفاء الصادقين.وقوله (والله يؤتي ملكه من يشاء) بين فيه نبيهم أنه لو افترضنا صحة ما تقولون فمع ذلك لا يحق لكم الاعتراض، لأن اتخاذ القرار دائما في يد المالك، وما دام الملك لله يعطيه من يشاء فلا مجال للاعتراض من المبادئ المسلم بها في الدنيا أنه إذا حصل اختلاف على ملكية الشيء فيرجع الأمر إلى المالك الأصلي.وما دام الله قد اختاره لهذا المنصب، وما دام الحكم الحقيقي لله فلا يحق لكم الاعتراض على تعيينه ملكا.ويبدو أيضا من قوله والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) أنهم كانوا يريدون إثارة اعتراض آخر حول ما هو العلم وما هي البسطة التي بدت منه، لذلك أجاب الله على هذه الأسئلة المتوقعة منهم، فقال والله يؤتي ملكه من يشاء)..أي الاختلاف في الآراء يحدث دائما، ولكن الأمر يرجع إلى المالك، ويكون رأيه هو الفيصل والأفضل..فلماذا يتبع الله آراءكم ما دام هو المالك.وإذا قلتم إن طالوت عديم المال فالله (واسع)..قادر أن عليه ويؤتيه مالا.وإذا قلتم إنه ليس أهلا يوسع للحكم فالله (عليم)..أعلم منكم بالواقع ويعلم أنه أحق بالملك منكم.فإذا أردتم الخصام في كل حال فارجعوا إلى الله..هو صاحب الملك يعطيه من يشاء.ويتبين من هذه الآية أن الأنبياء السابقين قبل الرسول ﷺ لم يأتوا بشرائع كاملة..فكلما مست الحاجة إلى الوحى لإصلاح الخلق بعث الله نبيا، وخلع عليه النبوة مباشرة، وكلما حصل خلل في النظام والملك أقام الله ملكا.لم يكن الناس بعد قد حققوا رقيا عقليا بحيث يستطيعون بأنفسهم بذل الجهود لإصلاح أحوالهم، فكان الله يعين الملوك من عنده لإدارة النظام إلى جانب الأنبياء الذين كان يبعثهم مباشرة.و كما يظهر من هذه الآية أن الملوك لم يكونوا يُنتخبون، وإنما ينالون الحكم بالوراثة، أو أن نبيا من أنبياء الله تعالى كان يعين ملكا.

Page 649

។។ سورة البقرة الجزء الثاني ولما كان نبينا محمد ﷺ قد جاء بأكمل الشرائع، وبعث إلى قوم هم أفضل من الأمم الله السابقة، لذلك لم تبق هناك حاجة ليبعث الله بعده نبيا مستقلا.وكذلك ألغى تلك الصورة الأولية من تعيين الملوك وجَعَلها على صورة أفضل، واشترط لذلك أسلوب الانتخاب.وبذلك حافظ على الحقوق القومية ولم تكن مصونة من قبل في حكم الملوك.وَقَالَ لَهُمْ نَبيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ( ٢٤٩) شرح الكلمات : بقية البقية تُطلق على كل شيء أفضل وخير.يقال: فلان بقية قومه: أي من خيارهم (الأقرب).وقد وردت بهذا المعنى في قوله تعالى (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير (مردا) (مریم: ۷۷).ووردت بمعنى العقل في قوله (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض) (هود: ۱۱۷).ولما كان العقل بمعنى الخير، ونافعا للإنسان وحافظا له أُطلقت البقية على العقل.ترك - التركة يراد بها عموما الإرث ولكنها أيضا تعنى ما يرثه الإنسان من صفات طيبة من الآخرين.كما قال تعالى ( يرثني ويرث من آل يعقوب) (مريم:۷).كان لا يستطيع أن يرث بني إسرائيل إرثا ظاهريا، فالمراد أن يرث حسناتهم ويتصف بصفاتهم الطيبة.تحمله علاوة على معنى الحمل الظاهري فإن الكلمة تعني أيضا الإغراء: يقال حمله على كذا أي أغراه (اللسان).التفسير في الآية السابقة أجاب في ذلك الوقت على من اعترضوا على تعيين طالوت ملكا لهم: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)..أي أن

Page 650

٦٤٧ سورة البقرة الجزء الثاني الله تعالى هو الأعلم بما في الإنسان من قدرات خفية، وما دام هو الذي اختار طالوت ملكا عليكم فلا بد أنه الأفضل بينكم.كما أن الحكم لا يكون بقوة المال ولكن بالعلم وروح التضحية، وهو الأفضل بينكم في هذين الأمرين.فهو الأعلم والأكثر استعدادا لبذل قواه الجسمانية عند المواقف الصعبة الخطيرة.وفي هذه الآية ذكر دليلا آخر قدمه النبي لتبرير اختيار طالوت ملكا..هو أن ( يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل وموسى وآل هارون تحمله الملائكة).قال المفسرون إن التابوت هنا هو ذلك الصندوق الذي كان يحتفظ فيه بنو إسرائيل بالنسخة الأصلية للتوراة وبعض الآثار المباركة من موسى وهارون كانوا يأخذون معهم في السفر والحضر لأنهم يعتبرونه ذا بركة عظيمة الجواهر في تفسير القرآن).وقد جاء ذكر هذا التابوت في التوراة هكذا : فيصنعون) تابوتا من خشب السنط ١٠) والعجيب أن القرآن يقول إن الملائكة تحمل هذا التابوت، ولكن التوراة تذكر أن أعداء بني إسرائيل خطفوا هذا التابوت منهم قيل: (وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب..واشتبكت الحرب، فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين وضُربوا من الصف في الحقل نحو أربعة آلاف رجل فجاء الشعب إلى المحلة.وقال شيوخ إسرائيل لماذا كسرنا اليوم الربُّ أمام الفلسطينيين.لنأخذ لأنفسنا من شَيْلُوهَ تابوت عهد الرب فيدخل في وسطنا ويخلصنا من يد أعدائنا.فأرسل الشعب إلى شيلوه، وحملوا من هنا تابوت عهد رب الجنود الجالس على الكروبيم).وتقول التوراة إن الفلسطينيين خافوا من تأثير هذا التابوت على إسرائيل وتشددوا...فحارب الفلسطينيون وانكسر إسرائيل وهربوا كل واحد إلى خيمته.وكانت الضربة عظيمة جدا.وسقط من إسرائيل ثلاثون ألف راجل.وأخذ تابوت الله صموئيل الأول: ٤).فإذا كان المراد من التابوت هنا هو هذا التابوت نفسه فما كان مدعاة لأي مسرة سكينة لهم، لأنهم بالرغم من وجود هذا الصندوق بينهم منوا بالفشل الذريع والهزيمة النكراء، مع أنهم كانوا مستبشرين بهذا التابوت لدرجة أن كاهنهم الأكبر

Page 651

الجزء الثاني ٦٤٨ سورة البقرة عندما علم بوقوع هذا التابوت في يد الأعداء سقط ميتا (المرجع السابق).ولكن التابوت الذي يذكره القرآن الكريم موجب للسكينة ولا يمكن أن يكون التابوت المذكور في التوراة.ثابت إذا رجعنا إلى القواميس نجد أن التابوت يُطلق على الصندوق وكذلك على السفينة (اللسان).ولكنها مجازا تُطلق على القلب.ويؤيد ذلك قولهم عن القلب: بيت الحكمة صندوق الحكمة وعاء الحكمة (المفردات).كذلك يؤيد ذلك قولهم: ما أودعتُ شيئا تابوتي فقدتُه..أي أنني لست متلون المزاج وإنما أنا ذو مزاج مستقر..ما وقع في قلبي بقي فيه.وكذلك قيل: التابوت: الأضلاع وما تحويه كالقلب والكبد وغيرهما تشبيها بالصندوق الذي يُحرز فيه المتاع (التاج).فإيداع سرّ علمي أو روحاني في التابوت يعني أنه قد كُتب على جدران القلب وحفظ فيه كما يُحفظ المتاع في الصندوق.والتابوت : القلب (التاج).وقيل إنه عبارة عن القلب والسكينة وعمّا فيه من العلم (المفردات).كذلك فإن كلمات القرآن تدل صراحة على أن المراد من التابوت هنا هو القلب، لأنه يقول فيه سكينة من ربكم والظاهر أن السكينة لا تنزل في الصناديق وإنما تنزل في القلوب.كذلك وصف هذا التابوت بأنه تحمله الملائكة.ولو اعتبرنا التابوت صندوقا ظاهريا فهذا يتنافى مع تعاليم القرآن الكريم الذي يقول (وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لترلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) (الإسراء: ٩٥).فلو قلنا إنه تابوت ظاهري لأدى ذلك إلى الاعتقاد بأن الملائكة كانوا يحملونه ويمشون بين الناس، وهذا يتعارض مع تعاليم القرآن الكريم كما ذكرنا فلا بد أن يكون التابوت هنا بمعنى القلب.وحمل الملائكة للقلب يعني تشجيع صاحبه.يقال حمله على كذا أي أغراه (الأقرب).فقوله (يأتيكم التابوت فيه سكينة) يعني أن الملائكة سوف يشجعون ويحضون أتباع طالوت على بذل التضحيات، وسوف يؤيدون

Page 652

٦٤٩ سورة البقرة الجزء الثاني كل فرد منهم وينصرونه ويتفق المؤرخون على أن عدد جيش طالوت كان قليلا جدا، وكان من المحال أن يتغلبوا على أعداد غفيرة من العدو إلا بنصرة من الله تعالى وتأييد يقيمهم الملائكة من (تفسير الطبري).ويتبين من هذه الآية ضمنيا أن من أساليب اكتساب البركات الإلهية عن طريق الملائكة أن يُنشئ الإنسان علاقة إخلاص ووفاء وطاعة صادقة مع الخلفاء الذين الله تعالى.فقد ذكر هنا أن الدليل على أن يد القدرة الإلهية هي التي اصطفت طالوت ملكا..هو أنكم تنالون قلوبا جديدة من الله تعالى..تنزل فيها السكينة وتؤيدها الملائكة.أي أن إنشاء العلاقة بطالوت يُحدث انقلابا عظيما في نفوسكم.فتزدادون همة وإيمانا ويقينا وتقف الملائكة إلى جانبكم تؤيدكم وتنفخ في قلوبكم روح التضحية والاستقامة، فإنشاء علاقة حب وإخلاص ووفاء مع الخلفاء الصادقين يوطد العلاقة مع الملائكة ويجعل الإنسان مهبطا للأنوار الإلهية.وقوله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون)..البقية في اللغة هي أفضل شيء وخيره، فالمراد: الأخلاق الفاضلة التي ظهرت من موسى وهارون وأتباعهما المقربين.أي أن قلوبكم سوف تتحلّى بالمحاسن التي تركها آل موسى وآل هارون إرثا لكم.وهذا يشبه دعاء سيدنا زكريا (..فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب..مريم (٧,٦ أي هب لي ابنا يرث المحاسن والأخلاق الكريمة التي تركها آل يعقوب وليس أن يرث ما تركه هؤلاء من أموال وممتلكات..ذلك لأنه عندما دعا زكريا هذا الدعاء كان قد مضى على يعقوب أكثر من مائة جيل.وقوله تعالى آل موسى وآل هارون لا يعني أن لهما أمتين منفصلتين.فهذا خطأ بالبداهة، فكيف يكون هناك أمتان في قوم واحد وفي وقت واحد وفي شرع واحد؛ "آل" أهليهما وأقاربهما، والمراد أن هؤلاء أيضا يكونون متصفين بصفات وإنما يعني حميدة كانت في أولاد هذين النبيين.وإذا قيل: ليس من الضروري أن يكون الأهل متصفين بصفات أسلافهم..فالجواب أن الله تعالى استخدم كلمة (بقية) أي محاسنهم وخيرُ ما فيهم، فلا بد أن يكون أهلهما أصحاب محاسن.ثم إن التوراة أيضا تذكر أن الله أمر موسى أن يخلع على

Page 653

٦٥٠ سورة البقرة الجزء الثاني هارون لباسا مقدسا وأن يتم تكريمه، ويفرض أيضا على بني إسرائيل تكريم بني هارون، وأن يُعهد إلى هؤلاء نظام المعابد والكهنوت قيل: (وتقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء.وتلبس هارون الثياب المقدسة، وتمسحه و تقدسه ليَكْهَن لي : وتقدّم بنيه وتلبسهم ،أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم، ليكهنوا لي.ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتا أبديا في أجيالهم) (خروج ١٢:٤٠).فصحيح أن أهل الإنسان لا يكونون بالضرورة متحلين بصفاته الحسنة، ولكن فيما يتعلق بأهل موسى وهارون فإن الله أودعهم أخلاقا حميدة.وقد جعل الله علامة انتخاب طالوت ملكا لهم من لدن الله..أنه سوف يخلق في أصحابه نفس التقوى والروحانية والأخلاق السامية التي كان آل موسى وهارون يتحلون بها.مني فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(٢٥٠) شرح الكلمات : اغترف -لعبارة (اغترف غرفة معانٍ متعددة، ولذلك أضيفت كلمة (بيده) لتحديد المعنى وهو: شرب قليلا من الماء ياستعمال يده (الأقرب).كم تفيد معنى الكثرة.قال البعض إنها لا تدل على الكثرة بالضرورة تفسير الرازي).فئة الفئة: الجماعة وهي من فاء أي ومال (الأقرب).ولما كانت الجماعة رجع تعتمد على أفرادها، وأفرادها يعتمدون عليها عند حلول شدة لذلك يسمون فئة.

Page 654

الجزء الثاني ٦٥١ الله سورة البقرة التفسير: عندما خرج طالوت بجنوده لمبارزة جالوت، امتحنهم بنهر، لكي يفصل عنهم ضعاف الإيمان، ولا يتصدى للعدو إلا كاملو الإيمان منهم والذين تؤيدهم الملائكة والنهر بمعنى جدول ماء، وأيضا السعة والرخاء.(المفردات).وهنا يمكن أن يكون قد ورد بالمعنيين.فالمعنى أن الله أخبر هؤلاء الجنود عن طريق ملكهم أنكم سوف تُمتحنون بالمال والرخاء؛ وإذا اندفعتم وراء المتع الدنيوية والمال فلن تستطيعوا تقديم أي خدمة في سبيل الله تعالى وأما إذا لم تتأثروا بالمال فسوف تحققون النجاح.وفي هذا المعنى يكون قوله فمن شرب منه) على سبيل المجاز.ولكن بما أن طالوت وأصحابه قد اختبروا فعلا بجدول ماء فلا حرج الكلمة بمعناها الظاهري.تتطلب الحرب والقتال من الإنسان أن يكون سريع الحركة، أما إذا ملأ بطنه بالماء فلا يتمكن من الحركة السريعة، ولذلك أمرهم أن يبقوا خفيفي البطن ولا يشربوا من الماء إلا قليلا ليحاربوا بهمة ونشاط.ولكن معظمهم لم يدركوا حكمة الأمر الإلهي وشربوا ملء بطونهم، وكان هناك قلة منهم تقول التوراة إنهم ثلاثمائة (قضاة ٧- لم يشربوا إلا اغترافا بأيديهم حتى يظلوا على نشاطهم وخفة حركتهم، وجزاء على تضحيتهم هذه وتقديرا لإخلاصهم أمر الفتح على يد هؤلاء وحدهم، ولا يشترك في الحرب سواهم.وبالفعل يتم أن تؤخذ الله الله أن سار طالوت بهؤلاء دون غيرهم إلى الحرب، وتم الفتح بإذن الله على أيديهم.وقوله (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة يعني أن الكثير من الجماعات الصغيرة تغلبت على جماعات كبيرة بفضل الله تعالى.ذلك أنهم يتمتعون بروح التضحية والإيثار ويعتادون على استغلال أوقاتهم في أمور مفيدة بدلا من إضاعتها في اللغو.ثم إنهم أمناء صادقون، مجتهدون ذوو همم عالية، وعزائم قوية.أما خصومهم أهل الكثرة العددية فإنهم يكونون عراة من هذه الصفات الحميدة.والنتيجة أن هذه الجماعة القليلة تغلب الجماعة الكبيرة.الحقيقة أن شخصا واحدا يتمتع بروح الإيثار والإخلاص يتغلب على عشرات.خذوا مثلا المجنون يخاف الناس من التصدي له وحيد.ذلك أنهم يخافون من الإصابة بضربة أو جرح، فيستخدمون قوتهم مع أنه

Page 655

٦٥٢ سورة البقرة الجزء الثاني إلى حد محدود ولكن المجنون لا يبالي بالضرب والجرح ولا بالموت، ولذلك يستخدم كل قواه فيتغلب على الكثيرين مع أنه وحيد كذلك كل جماعة يتمتع أفرادها بروح التضحية والإيثار وينهمكون في خدمة الدين كالمجانين، ويبلغون في بذل الجهود والتضحيات حدا يخاف الآخرون من بلوغه.فالواحد منهم يساوي عشرة بل عشرين من الآخرين.ففي وقعتي بدر والخندق تغلبت جماعة صغيرة من المسلمين على جماعة أكبر منها عدة أضعاف.وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٥١) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٢٥٢) شرح الكلمات: برز-خرج (الأقرب).أفرغ-فرغ الماء: صبَّه (الأقرب).أفرغ علينا صبرا: أعطنا نصيبا وافرا من الصبر..أي اجعلنا صابرين كاملين فلا يظهر منا ما يدل على الجزع والفزع.انصرنا نصر المظلوم أعانه نصر فلانا على عدوه.نجاه منه وخلصه وأعانه وقواه عليه (الأقرب).التفسير : يقول إن طالوت وأصحابه هزموا جالوت ومن معه بإذن الله تعالى.والإذن هو السماح والعلم، ولكنه هنا بمعنى المشيئة والإرادة (المفردات).هناك اختلاف في زمن هذه الواقعة بين المفسرين، حتى اعترض المسيحيون أيضا وقالوا إن القرآن الكريم خلط هنا بين أحداث وقعت في زمنين منفصلين.أما قدامى المفسرين فيقولون إن هذا الملك هو "شاول" (تفسير الطبري)..عينه النبي صموئيل، وكان جالوت من أعدائه.

Page 656

٦٥٣ سورة البقرة الجزء الثاني وتذكر التوراة قامة وجسامة شاول ذكرا خاصا فقد ورد عنه: وكان له ابن اسمه شاول شاب وحسن، و لم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه.من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب) (صموئيل الأول (۲۹) وكذلك ورد في التوراة أن شاول كان من قبيلة أدنى (المرجع نفسه (۲۱).ولكن الثابت منها أيضا أن الله سخط على شاول، وانتزع منه ملك بني إسرائيل المرجع نفسه: ٢٦:١٥).وأن شاول مني بهزيمة نكراء على يد الفلسطينيين، وقتلوا ثلاثة من أولاده، وانتحر هو أخيرا (المرجع نفسه ١:٣١-٥).ولكن القرآن الكريم يذكر أن الملائكة تنصر هذا الملك وينال الفتح تلو الفتح.فإذا قلنا إن طالوت الملك هو شاول فلا تنطبق عليه العلامات القرآنية.وعندما تدبرت في هذه الآيات أعجبت بالمعنى الذي يعترض عليه الأعداء جهلهم، حيث يقولون إن القرآن خلط حدثين وقعا في زمنين مختلفين تماما.أما المفسرون فقد حاولوا إثبات أن زمن طالوت و جالوت وداود واحد، ويطبقون هذا الحادث على شاول، لأنه كان طويل القامة، وكان من أعدائه شخص يسمى جليات (صموئيل الأول ٤:١٧).بسبب ولكنني أرى أنه قبل تعيين أي شخص يجب علينا أن نلقي نظرة شاملة على كل العلامات التي ذكرها القرآن عن هذا الحادث.أولا : بين قولهم (أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)..أن بني إسرائيل أُخرجوا من ديارهم.ثانيا: أنه عُين عليهم ملك لم يكن من أسرة كبيرة ولا من نسل الملوك.ثالثا: كان الله تعالى ينصره وأصحابه، وكان عندهم تابوت.رابعا: اختبر هؤلاء بنهر.خامسا: كان عددهم قليلا جدا إزاء أعدائهم.وقلوا أكثر بعد الاختبار.سادسا: تغلب هذا الملك على أعدائه رغم كل ذلك.نعم، تنطبق بعض هذه العلامات على شاول، فقد صار ملكا بتعيين من نبي، وحقق انتصارات على الأعداء وكان من عدائه شخص اسمه جالوت، ولكن أرى أن هناك

Page 657

٦٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني أمورا أكثر أهمية من هذه، وتفرض علينا البحث عن شخص آخر بدلا من شاول وهذه الأمور هي: ١.قوله من بعد موسى، وهذه العبارة تدفعني إلى الاعتقاد بأن هذا الحادث وقع في زمن يبدأ منه تاريخ بني إسرائيل، إذا ذكر داود تبين أنهم يهود، وهذا شيء ، فما الحاجة إلى أن يقول من بعد موسى الحق أن هذه الكلمات تشير إلى بديهي، تاریخ قومي لبني إسرائيل.٢.يقول القرآن (تحمله (الملائكة مما يوجب أن يحقق هذا الانتصار دائما، ولكن شاول مني بالهزائم، وكان مصيره مؤلما باعثا على الحسرة (المرجع السابق ٢٨)...يقول القرآن إن الله مبتليكم بنهر أي أن هؤلاء قد اختبروا بنهر، ولكن لا نجد أي ذكر في التوراة في زمن شاول عن ابتلائهم بنهر فعند البحث عن هذا الشخص لا بد من النظر إلى حادث النهر أيضا.ومن الغريب أننا نجد في التوراة حادثة عن نهر، وأن قوما اختبروا به وطلب منهم صراحة ألا يشربوا منه، ولكن معظمهم شربوا منه فتأخروا.أما الذين لم يشربوا فهاجموا العدو وتغلبوا عليه (قضاة..فكأن هذا الحادث الوارد في موضع آخر من التوراة ومن غير زمن شاول يؤكد البيان القرآني.لقد اعترض المسيحيون على هذا البيان القرآني وقالوا أن هذا الحادث من زمن جدعون وخلط القرآن بين الحادثين، وقوله وقتل داود جالوت) خطأ، لأن داود جاء بعد جالوت أو جدعون بمائتي سنة فكيف يقتله؟ وأرى أن القرآن يشير هنا إلى حادث جدعون، والتوراة لم تذكر أن الله عينه ولكن القرآن يذكر ذلك، وهذا هو كل الفرق.وما ورد في التوراة هو أن الله بعث نبيا إلى بني إسرائيل، وقال لهم نبيهم هذا قال الله لكم لا تخافوا من آلهة الأموريين الذين تقيمون في بلدهم، ولكنكم لم تعملوا بوصيتي (قضاة٦: ١٠)، ثم تذكر التوراة أن جدعون رأى ملكا قال له : قم نج بني إسرائيل من أيدي المديانيين

Page 658

الجزء الثاني ٦٥٥ سورة البقرة قضاة ٦ : (١٤).أما العلامات الأخرى المذكورة في القرآن فهي كلها مذكورة في هذا الحادث الوارد في التوراة أيضا.سنة تقريبا.إن زمن وفاة موسى ١٤٥١ هو ق.م.أما جدعون فكان حادثته بعد وفاة موسى عام ١٢٦٦ ق.م.إذن هناك فاصل زمني بعد موسى وبين جدعون يبلغ مائتي وورد في الموسوعة الكتابية Encyc biblica أن بني إسرائيل بعد مجيئهم من مصر إلى كنعان لم يصبحوا أمة واحدة، وإنما كانوا يعيشون في أراض مختلفة في صورة قبائل منفصلة لا يجمعهم ملك؛ بل لم يكن لهم ملوك لمدة مائتي سنة.فلا جنود ولا ملك (تحت كلمة إسرائيل).وورد في التوراة أنه عام ۱۲٥٦ ق.م.ارتكب بنو إسرائيل إنما أمام الله، فجعلهم الله تحت المديانيين لسبع سنين، وكانت يدهم فوق إسرائيل، والتجأ بنو إسرائيل إلى الكهوف واتخذوا منها بيوتا لهم (قضاة ٦ : ١-٢).وهذا قريب من قوله تعالى (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا).(وإذا زرع إسرائيل يترلون عليهم ويتلفون غلة الأرض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوت الحياة ولا غنما ولا بقرا ولا حميرا.فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين.وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب..إن الرب أرسل رجلا نبيا إلى بني إسرائيل فقال لهم: هكذا قال الرب إله إسرائيل: إني قد أصعدتكم من مصر، وأخرجتكم من بيت العبودية، وأنقذتكم من يد المصريين ومن يد جميع مُضايقيكم، وطردتهم من أمامكم، وأعطيتكم أرضهم، وقلت لكم إن الرب إلهكم، ولا تخافوا آلهة الأموريين الذين أنتم ساكنون أرضهم، ولم تسمعوا لصوتي) (قضاة٦: ٤-١٠) هنا ذكر نبي ولكن لم يرد أنه عين ملكا، وكل ما جاء فيه أن ملاكا ظهر لجدعون هكذا: (وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفرة التي ليوآش الأبيعَزَرِي.وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة لكي يهربها من المديانيين.فظهر له ملاك الرب قال له: الرب معك يا جبار البأس.فقال له :جدعون: أسألك يا سيدي، إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا قائلين: ألم يُصعدنا الرب من مصر؟ والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان.

Page 659

الجزء الثاني سورة البقرة فالتفت إليه الرب، وقال: اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان.أما أرسلتك ؟ فقال له: أسألك يا سيدي، بماذا أخلص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذلي في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي.فقال له الرب إني أكون معك، وستضرب المديانيين كرجل واحد) (قضاة ٦ : ١١-١٦).يذكر القرآن كلمة "جنود".وتذكر التوراة أيضا أن المديانيين والعمالقة وبني المشرق كانوا موجودين هنا.ثم جاء في التوراة (وقال الرب لجدعون: لم يزل الشعب كثيرا.أنزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك.ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك، وكل من أقول لك عنه هذا لا يذهب معك فهو لا يذهب.فنزل بالشعب إلى الماء.وقال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده، وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب، وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة ،رجل، وأما باقي الشعب فجثوا على ركبهم لشرب الماء، فقال الرب لجدعون: بالثلاثمائة رجل الذين ولغوا أخلّصكم وأدفع المديانيين ليدك.وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه.فأخذ الشعب زادا بيدهم مع أبواقهم.وأرسل سائر رجال إسرائيل كل واحد إلى خيمته وأمسك الثلاثمائة الرجل وكانت محلة المديانيين تحته في الوادي).(نفس المرجع ٧: ٤-٨) ثم هناك ذكر لنجاة بني إسرائيل من المديانيين حيث أخذ جدعون معه ثلاثمائة من الرجال وحارب بهم وانتصر على المديانيين فقرة (٢٥ هذا الحادث يشبه ما رواه القرآن حرفا حرفا.ويؤيد ذلك ما ورد البخاري أيضا عن البراء بن عازب يقول: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَاب طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَ مِائَةٍ (البخاري، المغازي، باب عدة أصحاب بدر).وهنا ينشأ سؤال: القرآن يذكر اسم هذا الملك طالوت ولكن التوراة تسميه جدعون، فكيف يمكن التوفيق بين هذين الأمرين؟

Page 660

٦٥٧ سورة البقرة الجزء الثاني ولأتحدث أولا عن جدعون العجيب أن معنى جدعون في العبرانية هو كمعنى طالوت في اللغة العربية.فكلمة جدع تعني في العبرانية أن يقطع الإنسان شيئا ويسقطه على الأرض، أو يقشره أو يقطعه بالفأس فجدعون هو من يقطع عدوه ويصرعه.وقد ورد في التوراة عن جدعون أنه كان بطلا كبيرا ومحاربا شجاعا (قضاة ٦ : ١١).أما طالوت فهو اسم وصفي الجدعون من طال أي تفوّق.فطالوت هو الذي تفوق على الآخرين وصار صاحب مجد ورفعة فوق الآخرين كأن هذا الاسم يشير إلى أن هذا الشخص كان قبل ذلك من أدنى الرجال، ولكنه طال وتفوق على الآخرين فيما بعد بإذن الله.الله وقد ذكرت مثل هذه الأسماء الوصفية في أماكن أخرى من القرآن الكريم، فقد قال عن رسوله محمد ﷺ (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) (الجن: ۲۰)..يقول إنه عندما يقوم عبد الله هذا محمد ليدعوا إلى ربه فإن أهل مكة يجتمعون لمهاجمته.فاسم عبد الله اسم وصفي للرسول ﷺ واسمه الحقيقي هو محمد.وبالمثل كان طالوت اسما وصفيا لجدعون فجدعون وطالوت في معنى واحد تقريبا.أما جالوت فلنعلم أيضا أنه اسم وصفي وليس اسما *شخصيا، وهو اسم جماعة كانت تعيث في الأرض فسادا وهذا الاسم في اللغة الإنجليزية هو جوليت ومعناه الأرواح المخربة، أو التي تدمر وتجري هنا وهناك بالفساد.وتعريب جالوت، جائل..وهم قوم يقومون بالقتل والاغتيال والتدمير.والثابت من التوراة أن عصابة كان تعادي جدعون ويعيثون في الأرض فسادا وأنهم عند غاراتهم يدمرون كل شيء (قضاة (٤) فلا يُراد بجالوت شخص معين، وإنما هو وصف لجماعة ضيقت الحياة على بني إسرائيل.تقول التوراة إن جدعون هزمهم، واستمر حكمه بعد ذلك لسبعين سنة..أربعين منها حكمها بنفسه وثلاثين بابنه.وازدادت في إسرائيل روح الوحدة القومية بسبب حكمه (قضاة۸).י بحسب ما جاء في القضاة ٩ : (۲۲) لم يكن حكم ابنه ٣٠ سنة بل ٣ سنوات..(المترجم)

Page 661

الجزء الثاني чол سورة البقرة قوله (وقتل داود جالوت هنا في تسلسل حادث جدعون ذكر حادثا آخر منفصلا يتعلق بداود عليه السلام.لوجود تشابه كبير بين ما حدث من جدعون وما حدث أن الفلسطينيين حاولوا طرد الإسرائيليين من فلسطين، فحاربهم من داود.صحيح جدعون وهزمهم قضاة (٦-٨.ولكن هذه كانت بداية الحروب التي انتهت في زمن داود الذي قضى على العدو كلية وبسبب هذه المشابهة ذكر حادث داود هنا، وإلا فإن حادث جالوت [جدعون] على حدة ومنفصل عن حادث داود، وبينهما فاصل زمني يبلغ مائتي سنة.بقيت بعد ذلك مسألة ينبغي حلها وهي أن التوراة تذكر أن داود هو الذي قتل جالوت صموئيل الأول (١٧) ولكن القرآن يذكر جالوت أيضا مع جدعون [طالوت فقال: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).فلنتذكر هنا كما سبق القول أن جالوت اسم ،وصفي، والمراد منه عصابة تفسد في الأرض، وكان أعداء جدعون عصابة يفسدون في الأرض، وكذلك كان الأعداء الذين حاربهم داود وأقر الأمن بإلحاق الهزيمة بهم عصابة مفسدة.لذلك سميت العصابتان باسم وصفي واحد هو جالوت.وقد ذكر الحادثان هنا معا لأن جدعون هو أول من ألحق بهم الهزيمة، أمّا داود فقد دمرهم وأبادهم تماما، فقال القرآن الكريم وقتل داود جالوت..أي قضى عليهم داود.وأما عن طالوت فقد قال فقط فهزموهم بإذن الله والثابت من التاريخ أن جدعون ألحق الهزيمة بالأعداء في ١٢٥٦ ق.م.واستمر حكمه وحكم ابنه ١١٦١ ق.م.وفي ١٠٥٠ ق.م.استولى بنو إسرائيل على كنعان بيد داود عليه السلام.فالحكمة في ذكر جدعون وداود معا، وفي ربط الحادثين..هي أن جدعون هو الملك الأول الذي حارب أعداء بني إسرائيل وخلق فيهم روح الوحدة القومية، وداود هو الملك

Page 662

الجزء الثاني ٦٥٩ سورة البقرة الأخير الذي قضى على الأعداء كلية كان جدعون نقطة البداية وداود النقطة الأخيرة في هذه الحروب.ثم قال (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)..ذلك لأن حروب جدعون وداود كانت حروبا دينية، فقد كان أعداؤهما يهدمون معابدهم ويبنون لهم معابد مكانها قضاة ٦ صموئيل الثاني: (١١).ولما كان من المحتم أن يواجه المسلمون حروبا دينية، لذلك ذكر الله أمامهم أحداث جدعون وداود لينبههم كي يهبوا ويحاربوا الأشرار، وينشروا في الدنيا الخير والتقوى، فقد ظهر الفساد في البر والبحر وقال : تذكروا أن الله تعالى نصر جدعون وداود، ولسوف يُظهر لكم نصرته المعجزة..لأنه لولا ذلك لفسدت الأرض وما استتب الأمن في العالم أبدا.تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ تَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٣) التفسير : يقول الله هنا إننا لم نذكر أحداث طالوت وجالوت على أنها قصص وأساطير، وإنما هي أنباء تؤكد أن المصطفى سوف يتعرض لمثلها، وسوف ينال تأييدا ونصرة من الله تعالى كما نالها الأنبياء من قبله.وهكذا يتجلى للدنيا أنه من أنبياء الله الأخيار الصادقين عليهم السلام.تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ برُوح الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِن اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ( ٢٥٤) التفسير : يقول الله تعالى إن هؤلاء الرسل الذين سبق ذكرهم، كان بعضهم أفضل من البعض الآخر مقاما ومكانة.وقال هذا لأنه بذكر الأنبياء السابقين نشأ سؤال طبعي : هؤلاء الأنبياء السابقون قد بعثوا إلى أممهم وعارضتهم أممهم فقط، ولم تكن

Page 663

٦٦٠ سورة البقرة الجزء الثاني مواجهتهم معارضة عالمية ولكن محمدا لله يُعلن أنه مرسل إلى العالم كله بشيرا ونذيرا (الفرقان) (۲) فكيف يمكن التغلب على العالم كله؟ فرد الله أن للكمال آلاف الدرجات، هناك مدارج مختلفة تمتع بها الأنبياء بحسب درجاتهم، وكون الرسول نبيا منهم لا يعني أنه لا يفضلهم، فداود كان نبيا وملكا أيضا وبذلك كان له فضل على بعض الأنبياء؛ وكذلك فُضّل محمد.كان داود أفضل من بعض الأنبياء ولكن محمدا أفضل الأنبياء جميعا.ولقد صرح النبي أنه لو كان موسى الله وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي) (اليواقيت والجواهر للشعراني، وابن كثير).قال البعض عن قوله (منهم من كلم الله أن معناه أن الله تعالى كلمهم مشافهة بدون واسطة جبريل.وأرى أن المراد منه الأنبياء الذين جاءوا بشرع جديد.أما من ذكروا في (رفع بعضهم درجات) فهم الذين لم يأتوا بشرع جديد.ذلك لأن كلام يتم مع كل رسول..وإلا لا يمكن أن يكون نبيا.ثم إن كل نبي هو على درجة عالية عند الله..لكن تكون المقارنة بينهم على ضوء الشرع، فبعضهم أصحاب شرع جديد وبعضهم نال النبوة بدون شرع جديد..مثل عيسى بن مريم، فإنه لم يُعط شرعا جديدا.وإنما أعطي النبوة فقط.ويؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى عن موسى (وكلم الله موسى تكليما) (النساء: ١٦٥).ويؤكد أيضا حديث للنبي ﷺ عن أبي ذر أن رسول الله ﷺ قال (أول نبي كان آدم فقلت: وني كان ؟ فقال : نعم.نبي مكلَّم (مسند أحمد).فثبت من ذلك أن من الأنبياء من ليس مُكَلَّما.ولما كان جميع الأنبياء يتشرفون بكلام الله..كان المراد من الكلام هنا كلام الشرع الجديد.ومعنى قوله ورفع بعضهم درجات) أنهم وإن لم يكن لهم شرع جديد ولكنهم نالوا درجة النبوة الرفيعة.كما قال الله في موضع آخر: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل) (البقرة: (۸۸)..أي آتينا موسى شرعا، ثم بعثنا بعده أنبياء كثيرين على التوالي لنشر تعليمه وشرعه كل هؤلاء الأنبياء لم يكن لهم شرع جديد، وإنما كانوا تابعين لشرع موسى عليهم السلام..

Page 664

القصد ٦٦١ سورة البقرة الجزء الثاني قوله (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) لنتذكر أن الخطاب هنا لليهود، ولذلك ذكر المسيح ببعض صفاته لإقامة الحجة على اليهود.ولم يكن من ذلك بيان ميزة خاصة للمسيح لا توجد في الآخرين كما يظن المسيحيون.وبقوله (وأيدناه بروح القدس يشير أيضا إلى أن المسيح لم يأت بشرع جديد، وإنما قدَّم بعض ما جاءت به التوراة بصورة بارزة، وكان الله تعالى يؤيده.ذلك لأن شرع بني إسرائيل كان قد اكتمل وقتئذ، ولكنهم بالتدريج أهملوا مغزى الأحكام واكتفوا بالقشور.فجاء عيسى عليه السلام لدعوتهم إلى العمل بالتوراة كما قال المسيح نفسه "لا تظنوا أنني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل" (متى ١٧:٥)..أي أنه لم يُبعث لنسخ شريعة التوراة وكتب الأنبياء وإنما بعث لإكمالها.وفي الجانب الآخر كان لا بد أيضا من إصلاح الذين تمسكوا بالقشور دون مغزاها وأن يبين لهم صراحة أن الهدف من ظاهر الشرع هو إصلاح الحياة الدنيا والاستعانة به على إقامة الشرع الباطن..لأن الأصل الحقيقي هو الطهارة الباطنة والقداسة الروحية.وهذه المهمة أناط الله بها عيسى.فهو من ناحية قدّم للناس التعاليم الموسوية بالصورة الأصلية، ومن ناحية أخرى بين للمتمسكين بالقشور أن لهذا الظاهر باطنا أيضا ولو لم تراعوا الباطن والمغزى فسوف يصبح الظاهر لعنة (متى ٦ : ٤-١٨.فالصلاة على سبيل المثال خير، ولكن إذا اكتفيتم بأداء الصلاة الظاهرة، ولم تقيموا الصلاة الباطنة..فسوف تصبح هذه الصلاة لعنة لكم.والصوم عمل طيب ولكنكم إذا اكتفيتم بالجوع ولم تصوموا صوما باطنا..فسوف يصبح صومكم لعنة.وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة بكلمات أخرى فقال ويل للمصلين (الماعون (٥).أي أن هناك من المصلين من تكون صلاتهم لعنة لهم.وقد وضح الرسول للمسلمين هذه الأمور تماما ولذلك لم ينخدعوا إن قيام الرسول ﷺ بتوضيح هذه الأمور مذكور في نبأ للمسيح ابن مريم فقال: "وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم (به (يوحنا (١٣:١٦).ومع أن الرسول ﷺ قد قال نفس ما قاله المسيح عليه السلام..إلا أنه وضحه للمسلمين أيما إيضاح،

Page 665

٦٦٢ سورة البقرة الجزء الثاني ولذلك لم ينخدعوا ولم يعتبروا الشرع لعنة إلا إذا كان العمل غير مصحوب بطهارة القلب والإخلاص والتقوى.أما المسيحيون فقد انخدعوا بكلام المسيح عندما ضعفت فيهم الروحانية، وأساءوا التأويل واعتبروا الشرع لعنة، غاضين الطرف عن أن الشرع لو كان لعنة فلماذا صام المسيح وحواريوه، ولماذا عبدوا الله تعالى.هذا يؤكد أنهم لم يعتبروا ظاهر الشرع لعنة وإنما كانوا يرون أنه إذا لم يصحب العمل الظاهري إصلاح الباطن يصبح القدس) يعني لعنة.فبقوله (وأيدناه بروح وأمرناه بالتركيز على الطهارة الباطنية، وعلمناه حِكَما خفية لأحكام ظاهرة.وكأنه في زمنه بدأ التصوف يدخل في مرحلة البلوغ.أننا أخبرنا عيسى بأسرار خاصة لطهارة القلب، وقوله (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن أنه بعد رؤية كل هذه الأحداث التي وقعت للأنبياء كان على أن يرجعوا إلى الصواب ولا يميلوا إلى المعارضة في المستقبل، ولكن اختلفوا)..يعني هؤلاء الناس عندما بعث هذا النبي أيضا اختلفوا معه فبعضهم آمنوا به وبعضهم رفضوه.ثم قال ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد لو أراد الله أن يهدي الناس بالإكراه لهداهم و لم يختلف أحد، ولكن لما كان الهدف من خلق الإنسان أن تتاح له فرصة لعمل الخير أو الشر بكل حرية، وما دام قد قرر أن يمنح الإنسان القدرة على فعل الخير أو الشر، ثم يحاسبه بحسب ما يختار لذلك فإنه يعمل بحسب قراره هذا، ولا يبالي باعتراض الناس.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا حُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالكافِرونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٥) شرح الكلمات : حلة الخلة: الصداقة.تخلت القلب : دخلت خلاله.الخليل من خلته مقصورة على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من مَحَاب الدنيا والآخرة (مجمع

Page 666

الجزء الثاني ٦٦٣ سورة البقرة البحار).ورد في الحديث قول النبي : أبرأ إلى كل خليل من خلته.ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا) (الترمذي، المناقب).شفاعة - يقال شفع العدد وشفع الصلاة صيَّرها شفْعًا أي زوجًا (الأقرب).التفسير : يتبيَّن من هذه الآية أن الإسلام لم يكتف بفتح صندوق من أموال الزكاة والغنائم لمساعدة الفقراء والمساكين، وإنما أوصى المسلمين مرة بعد أخرى بالصدقة وفعل الخيرات لصالح الفقراء والمساكين، وقال: لا تظنوا بسبب وعودنا بالرقي والازدهار أنكم لا تحتاجون الآن لمزيد من التضحيات بل لا بد لكم من بذلها عند كل خطوة، وعند كل مرحلة.(لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة): البيع الذي يُشير إليه مذكور في موضع آخر في قوله تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) (التوبة: ۱۱۱).عقد الله معكم هذه الصفقة، ولكن هذا البيع يمكن أن يتم في الدنيا فقط وليس في الآخرة.يوم ولا) خُلَّة) أي لن يكون هناك خليل دون الله القيامة، والسؤال هنا أن القرآن قال في مكان آخر الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) (الزخرف: ٦٨).فما دام المتقون يكونون أخلاء لبعضهم البعض فما المراد من قوله (ولا خلة) في ذلك اليوم؟ الجواب أنه ما دام المتقون يعتبرون الله خليلا لهم لذلك فإن خلة بعضهم لبعض لا تتصور منفصلة عن خلتهم الله، ولا يتنافى مع قوله (ولا) (خلة).إنما الموضوع الحقيقي الذي أراد أن ينبه إليه هو أنكم لو أردتم أن تتخذوا الله خليلا لكم فاتخذوه الآن..وإلا لن يكون لكم خليلا في ذلك اليوم؛ وعندئذ لن تنفعكم خلة أولئك الذين تتخذونهم اليوم أخلاء، وإنما يصبحون لكم أعداء.ولكن المتقين فقط هم الذين لن يعادوا أخلاءهم، لأن المؤمن خليله هو الله.فالمراد نفي الخلة التي تتعارض مع الله تعالى.خلة

Page 667

الجزء الثاني ٦٦٤ سورة البقرة وقوله ( ولا شفاعة يعني عليكم أن تنشئوا الصلة بالله هنا وتتخذوه صديقا لكم وإلا لن يكون لكم صديق في الآخرة.وقال في موضع آخر: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (الأنعام: ٥٢).وكذلك قال في موضع آخر (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت، ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل ولا يؤخذ منها) (الأنعام: ۷۱).يتبين من هذه الآيات أن الذين يتخذون الله في هذه الدنيا وليا وشفيعا لهم، هم الذين ينالون حق الشجاعة يوم القيامة، أما من سواهم فلن يكون لهم هذا الحق ولن يُشفع لهم أبدا.ووُصف الله هنا بالشفيع لأنه بدون إذنه لا يمكن أن يشفع أحد، القيامة من فهو الشفيع الحقيقي.قال الله تعالى (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) (طه: ۱۱۰).فثبت بذلك أن الشفاعة يوم أحد لا تتم إلا بإذن من الله تعالى والذين يتخذون الله شفيعا يُعطون حق الشفاعة، ولكن غيرهم لا يعطون هذا الحق.وقال الله في موضع آخر (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) (الأنبياء (۲۹ وقال أيضا في الآية القادمة منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه).صحيح أنه يتبين من وبعضا من أمة محمد ﷺ سوف يشفعون يوم القيامة (ابن ماجة، الزهد).ولكن هذه الأحاديث تعني أن شفاعة أفراد من الأمة المحمدية تكون شفاعة ظلية لشفاعة محمد..لأن الشفاعة الحقيقية هي شفاعته.فهؤلاء يشفعون إلى محمد، وهو يشفع لأجلهم عند الله تعالى.وقد بين الإمام المهدي مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية عليه السلام هذه العقيدة فقال : ليس لبنى آدم الآن على وجه الأرض أي رسول ولا شفيع إلا محمد المصطفى..فحاولوا أنتم أن تحبوا هذا النبي ذا الجاه والجلال حبا صادقا، ولا تفضلوا عليه أحدا بأي نوع من الفضيلة، لكي تكتبوا في السماء من الناجين (سفينة نوح، ص ١٥).الأحاديث أن النبي والأنبياء السابقين عليهم السلام، بل

Page 668

سورة البقرة الجزء الثاني فما لم يصل الإنسان نفسه بالله تعالى ورسوله، وما لم يتخذهما شفيعا لن تتيسر له أية شفاعة.ثم قال والكافرون هم الظالمون..أي إننا لم نظلم الكفار، ولكنهم هم الظالمون لأنفسهم.الله لا إلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَتُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ( ٢٥٦) شرح الكلمات: الحي صاحب الحياة الكاملة.عندما يوصف الله بالحياة فإن "الـ" تفيد الكمال..فحياته لا تحتاج أي شيء، و لم يعطه أحد شيئا لهذه الحياة، بل إنه بذاته الأزل إلى الأبد.حي منذ القيوم قام يقوم، ومنه القيم : المراقب المتولي.والقيم المستقيم.أمر قيم: لا عوج فيه القيوم والقيام: الذي يقوم بذاته ولا تكون له بداية الأقرب).والقيوم ليس من يقوم بذاته فحسب، وإنما يقيم الآخرين ويحفظهم القائم.الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه.فالله قيوم لأنه قائم بذاته، كما يودع هو الأشياء الأخرى القوى التي تقوم بها (المفردات).وصفة القيوم تشير إشارة ما يوجد بين الأجرام الفلكية من قوى الجاذبية وما يوجد بين الجسيمات الدقيقة من روابط تحفظها في دوران بعضها حول بعض.سنة السنة من الوسن.وسَن الرجل: أخذه ثقل النوم.والسنة هي النعاس الذي يستولي على الإنسان بسبب غلبة النوم (الأقرب).كرسيه الكرسي من الكَرْس، وهو جمع الأجزاء المتفرقة.يقال كرست البناء فتكرس: وضعت اللبنات فوق بعض حتى صار بناء.والكرسي: العلم؛ الحكم

Page 669

٦٦٦ سورة البقرة الجزء الثاني (المفردات).والمعنى الحقيقي للكرسي هو جمع الشيء وتركيبه.وما دام العلم يجمع المعلومات المتفرقة، والحكم يضم المناطق المتفرقة لذلك يسمى كل منهما الكرسي.التفسير: أول ما وجه الله به نظر الإنسان إليه هو حقيقة أن الله لا إله إلا هو...أي أيها الإنسان، انظر إلى الله..فهو معبودك الوحيد الذي لا معبود سواه.إن كل شيء في العالم يكتسب قدره وقيمته بندرته.فمثلا، الماء ضروري جدا للحياة، ولكن الناس عموما لا يحتفظون به لأنهم يعرفون أنهم يستطيعون الحصول عليه بسهولة عند الحاجة.كذلك الهواء ضروري للحياة، ولكن لا يحتفظ به الإنسان لأنه يعرف أنه في متناوله عند الحاجة يتنفس منه ما يشاء.ولكن نفس هذا الماء الضروري الذي لا يقيم له الناس وزنا كبيرا..يصبح شيئا ثمينا غاليا جدا إذا كان الإنسان في فلاة لا ماء فيها.لو كان عند المرء قطرات من الماء فلن يستبدل بها شيئا مهما غلا.فالشيء تزداد قيمته وتقل بقدر الحاجة إليه وإقبال الناس عليه.الغلال مثلا إذا كثرت هبط ثمنها ، وإذا شحت ارتفع ثمنها أضعافا.كذلك لو كان في الدنيا أكثر من إله لقال البعض: إذا لم يتيسر لي هذا الإله فسأجد إلها غيره.ولكن الله يقول : كلا، بل الله واحد لا إله إلا هو.فلو قال أحد إنني أترك هذا وأذهب إلى ذاك فلن يجد سواه...لأنه إله واحد..لا اثنان أو مائة أو آلاف فما دام واحدا فكيف تتركونه وتذهبون إلى آخر غير موجود.أنتم في حاجة إليه في كل وقت وحين لو غضب ملك في الدنيا على أحد، استطاع هذا أن يقول : لا بأس أترك بلده وأذهب إلى بلد آخر.إذا ظلمني ملك الصين أذهب إلى ملك إيران، وإذا وجدت هذا ظالما ذهبت إلى ملك إنجلترا.ولكن أين يفرون من الله تعالى؟ ليس هناك أرض إلا وهى الله ، وليس هناك حكم إلا هو تحت قبضته سبحانه.ثم ليس هناك إله آخر يستطيع الإنسان الاستعانة به.يعتقد الهندوس في آلهة كثيرة، وأن هؤلاء الآلهة يتشاجرون فيما بينهم.والمشهور عندهم أن الإله (شو) غضب على أحد الناس وأهلكه ولكن الإله (براهما) كان يحب هذا الإنسان فقال: أنا الخالق وسوف ،أحييه، فأحياه، ولكن (شو) أهلكه مرة

Page 670

٦٦٧ الجزء الثاني سورة البقرة أخرى، فأحياه براهما ثانية، وهكذا استمرت الخصومة بينهما: هذا يهلكه وذاك يحييه! هذه أفكار الهندوس.أما عندنا فلا وجود لمثل هذه الآلهة..واحد يُهلك والثاني يُحيي، أو هذا يغضب وذاك يرضى.إذا كان عند سيد خادم فيمكن أن يرفض الخادم خدمته، لأنه يعلم أنه سيجد عملا عند سيد آخر، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يقول ذلك الله لأنه السيد الوحيد جل علاه.ثم إن إلهنا إله حي يبقى حيا إلى الأبد.كان حيا زمن ،آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين..وهو لا يزال حيا إلى اليوم، وسوف يبقى حيا مهما طال الزمن ولسوف يُظهر الآيات الدالة على حياته إلى الأبد..لأنه الحي القيوم ولأنه لا تأخذه سنة ولا نوم فكيف يمكن أن تنتهي آيات حياته؟ عندما ينشئ الإنسان صلة بإله كهذا فإنه -عز وجل- يكفله ويسد حاجاته بنفسه، ويُظهر لتأييده آيات غير عادية باستمرار.لقد رأينا الناس يأتمنون الخليفة الأول للمهدي، وكان ينفق من هذه الأمانات بحسب الحاجة؛ فيقول : إن الله تعالى يرزقنا بهذا السبيل من فضله.وقد جربنا معه أن أصحاب الأمانات كانوا يأتونه فجأة ليستردوها.وكان حضرته بسيط الطبع، لا يحب أن يفرط في شيء حتى قصاصات الورق، وعندما كان يطالبه صاحب الأمانة كان يأخذ ورقة عادية ويكتب فيها لأهله أن أرسلوا أمانة فلان مائة روبية مثلا.وكان أهله أحيانا يقولون: لقد أنفقنا هذا المال أو بقي منه كذا فقط.فكان يقول لصاحب الأمانة انتظر قليلا فلسوف يأتي المال إن شاء الله.وبينما نحن في هذا إذا بشخص رث الثياب يأتي من مكان بعيد ويسلمه مالا بنفس المقدار المطلوب ليحفظه أمانة له.في أحد الأيام وقع حادث غريب طريف.جاءه صاحب أمانة يطلبها ولكن لم يكن عنده أي مال، وفي نفس الوقت جاء شخص للعلاج وقدم إليه ظرفا فيه بعض ١٧كان حضرته طبيبا مشهورا في الهند كلها.۱۷

Page 671

٦٦٨ سورة البقرة الجزء الثاني المال.وكان الحافظ روشن علي رضي الله عنه يعرف مقدار المبلغ الذي يطالب به صاحب الأمانة، فقال الخليفة الأول للحافظ، انظر كم من المبلغ في الظرف.فعده وقال نفس المبلغ الذي تحتاج إليه.فقال: أعط صاحب الأمانة إياه ! وكان يحكى لنا قصة أحد الأسلاف الأولياء..قال في إحدى المرات جاءه أحد الدائنين وقال له: لي عليك مبلغ كذا وقد مضت عليه مدة طويلة، فعليك أن تسدده الآن.فقال: ليس معي شيء لأدفعه لك، وعندما يأتيني مال فسأرده لك.فقال الرجل: تتظاهر أمام الناس بالصلاح والولاية ولا تسدد للناس أموالهم! أهذا دأب الصالحين؟ بينما هم في ذلك إذ جاء صبي يبيع الحلوى، فاشترى منه الولي بعض الحلوى بنصف دينار ووزعه على الحاضرين بما فيهم هذا الدائن.وعندما طالبه الصبي بدفع ثمن الحلوى قال : ليس معي حتى ربع دينار، وأنت تطالبني بنصف دينار! فبدأ الصبي يبكي ويصرخ وبرؤية هذا المشهد قال الدائن: ما أغرب سيرتك! لقد سلبتني مالي، والآن تسلب هذا الصبي ربع دينار أيضا.وطفق الدائنان يصيحان، والرجل الصالح جالس في مكانه مطمئنا، حتى جاء شخص وأخرج من جيبه كيسا وسلمه له قائلا أرسل لك الأمير هدية وعندما فتحه وجد فيه مالا بقدر ما يطلبه الدائن، ولكن لم يكن هناك ربع دينار للصبي.فقال للرسول: هذا الكيس لا يخصني فخذه، وبسماع ذلك اصفر وجه الرسول، وأخرج على الفور من جيبه كيسا آخر وقال : لقد أخطأت فهذا هو الكيس الذي لك.ولما فتحه وجد فيه نفس المبلغ الذي يطلبه الدائن ومعه أيضا ربع الدينار.فسلم المبلغ لهما.فالله تعالى حي، يُري مثل هذه الآيات نصرة وتأييدا لعباده على الدوام.ثم إنه (القيوم).قد يفكر أحدهم: إنني أخدم هذا السيد الآن، ولكن من قبل كنت أعمل عند ذلك فله على أياد، ويجب أن أحترمه هو أيضا.يقول الله تعالى: لست إلها لكم اليوم فحسب، بل أنا إلهكم منذ بدايتكم.وليس لأحد سواي يد عليكم بل أنا الإله القائم منذ الأزل الذي يعطي الجميع وجودهم، فلا يمكن أن يكون لأحد غيري منة عليكم.

Page 672

الجزء الثاني ٦٦٩ سورة البقرة ثم يقول لا تأخذه سنة ولا نوم).قد يقول أحد قبلنا أنه لا يكون إله إلا الله، وأنه حي أزلي أبدي، وهو سيدنا الآن ومن قبل أيضا..ولكن قد يستولي عليه النوم أو النعاس..فتقوم حاشيته ،مقامه ولا بد عندئذ من إرضائهم وكسب ودهم.يقول الله تعالى : إن إلهكم إله لا تأخذه سنة ولا نوم ولا تظنوه كالملوك والحكام الدنيويين الذين تحتاجون لإرضاء حاشيتهم.إن إلهكم يقظ دائما يراقب كل شيء بنفسه.ما ألطف كلام الله ! يقول (لا تأخذه سنة ولا نوم في حين أن القاعدة في ترتيب الكلام أن يُبدأ بالصغير ثم الكبير وإلا كان خطأ، فعند النفي لا يقال مثلا: فلان لا هو أعرج ولا كسيح، وإنما يقال: لا هو كسيح ولا أعرج.ما دام الله قد نفى هنا عن نفسه السنة فقد نفى النوم تلقائيا، فلماذا قال بعد ذكر السنة ولا نوم؟ فلنتذكر أن هناك حكمة في هذا الترتيب.فالسنة تستولي على الإنسان من شدة النوم، وما لم يكن الإنسان في نوم عميق لا تأخذه سنة.فيقول الله تعالى إنه لا يرهقه عمله بحيث يصاب بالسنة وتشتد عليه غلبة النوم ويغلق جفنه، كما لا يصاب بالنوم العادي.فبحسب الترتيب البياني وجب أن يذكر السنة أولا ثم النوم، وهذا ما فعل.قوله (له ما في السماوات وما في الأرض)..إن سيدكم وإلهكم يملك كل ما في السماوات والأرض جميعا، فكيف يمكن أن تتخذوا من دونه سيدا؟ ويقول البعض: لا نعبد أحدا سوى الله، ولكننا نقدم النذور لبعض خلقه، ونطلب الحاجات، لأنهم مقربون إلى الله تعالى وسوف يشفعون لنا عنده.منهم شيئا من فيرد الله: (منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)؟..من يملك الشفاعة أمامنا بدون إذن منا؟ آمالكم هذه في غير محلها وخاطئة.في زمننا هذا..منذا الذي يكون أقرب إلى الله من المهدي والمسيح الموعود؟ كان مرة يدعو الله تعالى من أجل عبد الرحيم خان ابن النواب محمد علي خان، وكان هذا الولد مصابا بمرض شديد جدا، وأثناء الابتهال والدعاء تلقى سيدنا المهدي إلهاما يقول القدر مُبرم والهلاك مقدر.ففكر حضرته أن الرجل هاجر إلى قاديان تاركا وراءه كل ما كان يملك، فإذا توفي ابنه

Page 673

٦٧٠ سورة البقرة الجزء الثاني فسوف يمر في ابتلاء شديد الوطأة..لذلك مضى سيدنا المهدي يتوسل إلى الله تعالى ويلح في الدعاء وقال: يا رب إني أشفع عندك لشفاء هذا الولد.فتلقى إلهاما شديدا يقول: منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ قال: عندما تلقيتُ هذا الوحي سقطتُ على الأرض، وأخذتني رعدة شديدة، وأوشكت على الموت.وعندئذ قائلا: إنك أنت المجاز.أي الآن نأذن لك بالشفاعة.فشفعت له، وتقبل ناداني ربي الله الشفاعة.وشفى عبد الرحيم خان (التذكرة، مجموعة إلهامات وكشوف سيدنا المهدي، ص٤٩٦).انظروا إلى سيدنا المهدي.كم كان محظوظا بقرب من الله تعالى، وكان إنسانا ذا الله قدر عظيم كان الناس ينتظرونه منذ ثلاثة عشر قرنا، ولكن عندما يشفع يؤنبه تعالى: منذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ فما بالك بالأناس العاديين ليشفعوا عنده! يتبين من الأحاديث أنه يوم القيامة يأذن الله لسيدنا محمد ثم يشفع للناس ﷺ (الترمذي، صفة القيامة.فما دام الأمر كذلك، فما أشد حمقا من يظن أن فلانا سوف يشفع له عند الله ! بقيت مسألة ربما يقول أحد: نعم، لا يمكن أن يشفع أحد إلا بإذنه، ولكن كما يكون للملك حاشية يمكن أن يكون للمواطن أن يتوسل إلى الملك عن طريقهم..كذلك يكون الله تعالى حاشية.يدحض الله هذه الفكرة ويقول: ألا يعرف هؤلاء الحمقى لماذا يكون مع الملك الدنيوي حاشية؟ إنه يحتفظ بحاشية ليجمعوا له المعلومات ويخبروه بما يجري في البلد..لأنه لا يعرف ما يدور في البلد.أما الله تعالى فيعلم كل ما قدمتم وأخرتم في حياتكم، فلا حاجة له في حاشية ليستعين بهم.وقوله (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم له مدلولان الأول: أن الله يعلم ما فعلوا في الماضي وما سيفعلون في المستقبل، والثاني: أنه تعالى يعلم ما يفعلون حاليا، ويعلم ما كان يجب عليهم أن يفعلوه في الماضي ولكنهم لم يفعلوه وتركوه وراء ظهورهم.فما الداعي لأن تكون له حاشية؟

Page 674

الجزء الثاني ٦٧١ سورة البقرة وقوله (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء يعني لا يستطيع أحد بجهوده الشخصية أن يعرف حقيقة علومه.نعم، إذا أطلع الله أحدا على بعض علمه فإنه يعرف بقدر ما يكشفه الله له ولا شيء أكثر من ذلك.لقد بين الله في هذه الآية أنه لا يستطيع أحد الإحاطة بعلومه..لا محمد ولا أي شخص آخر.صحيح أن النبي محمد الله لو كان سيد الأنبياء عليهم السلام، وأحب الناس إلى الله، بل إن اتباع محمد يُكسب الإنسان حب الله تعالى..ومع ذلك كان مخلوقا لله محتاجا إليه، وكان يتصف بصفات العباد، ولم يتصف بصفات الله الخاصة كما أن قوله ولا يحيطون بشيء من علمه يوجه النظر إلى أنه لا نهاية ولا حدَّ لسبل ومدارج التقرب إلى الله، حتى لا يظن أحد أنه يستطيع أن يحوز عليها كلية.كلما اقترب الإنسان إلى الله وجذب في نفسه بحسب درجته ومرتبته في التقرب إلى الله أنواره وبركاته..تفضل الله تعالى عليه بتجليه الثاني.وعندما يتحمل هذا التجلي الثاني، ويرى الله أنه صار جديرا لتحمل التجلي الثالث تجلى به الله عليه..وهكذا يزداد قربا إلى الله باستمرار.وقد وضح النبي ﷺ هذه الكيفية بمثال رائع جدا..فقال: يقول الله لآخر نزيل في جهنم: سلني ما بدا لك، فيقول: أسألك أن تخرجني من جهنم فيخرجه منها.فترتفع له شجرة، فيقول، أي رب، أذنني من هذه الشجرة، فلأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يارب، ويعاهده ألا يسأل غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب ماءها.ثم تُرفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها.فيقول يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاعده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها و يشرب ماءها.ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه فلأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها.فيقول: يابن أدم، ألم تعاهدني ألا

Page 675

٦٧٢ الله أن سورة البقرة الجزء الثاني تسألني غيرها؟ و ربه يعذره، لأنه يرى ما لا له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه صبر منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي ربِّ، أدخلنيها.فيقول: يا ابن آدم، ما ابن آدم ما يصريني [ أي يخلصني منك؟ أرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟..فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قدير (مشكاة الفتن).وفي رواية (فيضحك الله -عز وجل- منه، ثم يأذن له في دخول الجنة) (البخاري ، الأذان).هكذا يُري الله في البداية تجليا خفيفا، فلا يصبر أولئك الذين يشبهون الملائكة في صفاتهم على هذا التجلي، وإنما يدعون من يريهم تجليا كاملا..فيريهم الله تعالى تجليا أعلى، ثم تجليا أكمل..ويستمر هذا الموضوع، وعلى أية حال، فإن ذات الله تعالى غير محدودة ولا يمكن أن يحيط به أحد.قوله: (وسع كرسيه السماوات والأرض) يعني أن علم والأرض.فعلمه نهائي بكل شيء، وليس هناك ما يخرج عن علمه.إن علم الإنسان محدود جدا.أحيانا يظن شيئا خيرا له ولكن تكون النتيجة وخيمة، كما جرى مع سيدنا المهدي، فقد علم عن (مير عباس علي اللدهيانوي) المرتد أنه رجل صالح، فبدأ في مدحه..لأنه لم يُعط حتى ذلك الوقت علما بمصيره، ولم يعرف أنه في يوم من الأيام، ولكن الله بعد ذلك أعلمه بهذا الأمر.فعلم الإنسان إذن محدود الله يحيط ويسع السماوات سيرتد جدا، وعلم الله هو الكامل الشامل لكل شيء، ولا يستطيع أحد أن يحيط بعلومه.كما أن قوله (وسع كرسيه السماوات والأرض يشير إلى أمر علمي عظيم..ذلك أنه لا أحد سوى الله يقدر على معرفة سعة هذا الكون.إن التقدم العلمي الذي أحرزه علم الفلك في هذه الأيام لم يكن من قبل أبدا، إنهم اليوم لا يقيسون أبعاد الكون بالأميال ويقولون إن الأرض تبعد عن نجم كذا بعدد كذا من الأميال أو حتى من آلاف الأميال؛ بل يقيسونها بالسنة الضوئية..أي ما يقطعه الضوء في سنة، وكأن هذا دليل على صدق الله تعالى الله نور السماوات والأرض) (النور: (٣٦).لأن هذه الآية تبين أنكم لا تستطيعون تقدير سعة السماوات والأرض إلا بالنور و سرعته.

Page 676

الجزء الثاني ٦٧٣ سورة البقرة وإذا كانت سرعة الضوء......كم في الثانية الواحدة..فإنه يقطع ۱۸ كيلوا متر في الدقيقة؛ و • ،۰۸۰ ،1 في الساعة؛ و ۰ ، ۹۲۰، في اليوم؛ و ، ٤٦٠ ٩٠ كم في السنة.وهذا ما يسمى بالسنة الضوئية أو المسافة التي يقطعها الضوء في سنة أرضية.ويقول علماء الفلك إن سعة الكون تقدر بثلاثة آلاف من السنين الضوئية.ومن هذا الرقم تقدر سعة الكون بأنها ،۳۸۰ ،٢٨ كم..أي ثمانية وعشرون ألف مليون مليون كم، ومثل هذه الأعداد التي تفوق التصور تخرج من نطاق الحساب البشري.ثم مع تقدم العلوم يثبت خطأ هذه الأرقام ويتبين أن الكون أوسع من ذلك كثيرا.فبعد الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٨) أعلنوا أن سعة الكون ستة آلاف من السنين الضوئية، ولكن كشفت البحوث التي تمت بعد ذلك خطأ هذا التقدير، وقالوا: لا نستطيع تقدير سعة هذا الكون، لأنه يمتد ويزداد في كل اتجاه كما تنتشر الموجة، وقدروه الآن باثني عشر ألف سنة ضوئية، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه (الزمر: (٦٨.والشيء الذي يكون في يد الله تعالى..كيف يمكن للإنسان أن يقدره؟ ومن أجل ذلك كلما بلغ العلم البشري قريبا من التقدير الصحيح لسعة الكون، زاده الله اتساعا.وإذن فقد اعترف هذا العلم الجديد أخيرا بصدق قول الله وسع كرسيه السماوات والأرض)، وأنه لا يستطيع أحد تقدير سعة هذا الكون إلا الله تعالى.له (ولا يؤوده حفظهما)..قد يقول البعض إنه إذا لم يكن الله حاشيته لجمع المعلومات عن هذا الكون الشاسع..فلعل له مساعدين يساعدونه في إدارة الكون.ويعلن الله تعالى أنه لا حاجة إلى المساعدين، لأنه سبحانه ينجز كل المهمات بنفسه، وهو قادر على كل شيء، الجميع في قبضته، ولا يصيبه من ذلك تعب أو إرهاق.وقد يعترض البعض: صحيح أن الله لا يحتاج إلى حاشية أو مساعدين، ولكن ربما يحتاج لما يُظهر جلاله وشوكته..فيرد الله بقوله (وهو العلي العظيم)! إنه كامل العظمة..بحيث ليس هناك شيء يزيد من جلاله بالانضمام إليه..بل كل من يتصل

Page 677

الجزء الثاني ٦٧٤ سورة البقرة بالله ينال جلالا وشأنا.فلا تظنوا أن الله حاشية من أي نوع..لا لجمع المعلومات، ولا للمساعدة في الأعمال، ولا لإظهار قوته وجلاله وكلمة (العلي) تشير إلى رفعته وسموه، (والعظيم) إلى عظمة قدراته.هذا هو الإله الذي يقدمه الإسلام وما أدعى للأسف من أن يتجه الإنسان إلى الآخرين رغم وجود هذا الإله! إذا ترك الإنسان طعاما طيبا شهيا ليأكل النجاسات، أو يدع ملبسا بهيا ليضع على جسده خرقة وسخة..فهل هذا يُسمى عاقلا؟ كلا، ثم كلا، إنما العاقل من يفضل الأفضل.ولا أحد أفضل من وعلا.الله جل لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٧) شرح الكلمات : الرشد-الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه؛ ضد الغي (الأقرب).الغى الضلالة؛ الهلاك؛ الخيبة (الأقرب).الطاغوت من طغا يطغى.الطاغوت كل شيء يخرج عن حده ويتمرد.وبهذا المعنى يُطلق الطاغوت على الشيطان الأقرب).لأنه يحرض الإنسان على التمرد.وكذلك يُطلق على الناس الذين يُبعدون غيرهم عن الله تعالى.العروة-من الدلو والكوز المقبض أو الأذن؛ وما يوثق به؛ ما لا يضيع أبدا، فيقال للكلأ الذي يبقى مخضرا عروة النفيس من المال (الأقرب).التفسير: من العجيب أن الناس يعترضون على الإسلام أنه يأمر بممارسة الجبر لنشر الدين.مع أن الإسلام إذا كان يأمر بالجهاد والقتال كما قال في هذه السورة (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) (۱۹۱)..فإنه أيضا يأمرهم (لا إكراه في الدين).أي إذا سمحنا لكم بالحرب فلا يعني ذلك أن تجبروا الناس على الإسلام، وإنما سمحنا بالقتال لدفع شر العدو وكف أذاه ومفاسده.لو أن الإسلام أجاز الجبر

Page 678

٦٧٥ سورة البقرة الجزء الثاني في الدين ما قال من جهة (قاتلوا الذين يقاتلونكم) ومن جهة أخرى (لا إكراه في الدين).فهذه الكلمات الصريحة تدل على أن الإسلام لا يسمح بالجبر في المعاملات الدينية، بل إن السياق يوضح أن الإسلام يخالف مبدأ الجبر في الدين.فمن الخطأ تماما اعتراض المستشرقين المسيحيين أن الإسلام يأمر اتباعه بإدخال الناس فيه بحد السيف.إنما الحقيقة أن الإسلام هو الدين الأول والأوحد الذي علم الدنيا أن كل إنسان يتمتع بحرية كاملة فيما يتعلق بالدين.ولا يحق لأحد ممارسة الإكراه في الدين.قوله تعالى (قد تبين الرشد من الغي جملة مستأنفة، جاءت جوابا لسؤال مقدر.ذلك أنه بعد قول (لا إكراه في الدين نشأ سؤال طبعي : إذا كان الدين شيئا طيبا فلماذا لا يجبر الناس عليه كي يتمتعوا بهذه النعمة.فأجاب الله تعالى: (قد تبين الرشد من الغي فلا داعي لممارسة الجبر بعد ذلك، وإنما يكفي تقديم هذا الهدي للناس، لأن الحق قد تبين وتميز عن الباطل.تماما.وهكذا تبين هذه الآية السبب وراء الإسلام عن ممارسة الجبر في أمور الدين.إنما يمارس الجبر من لا يستطيع إثبات وجهة نظره بالدليل والبرهان، أو أن الطرف الآخر لا يقدر على الفهم، فمثلا لأن الطفل صغير ضعيف العقل يكره على عمل لا يرضاه، ولكن عندما يبلغ الرشد نهي عن والعقل ويفهم الأمور بنفسه ويميز بين ما يضره وما ينفعه، لا يكره.يقول الله الإسلام: لقد بينا كل الأدلة والبراهين فلا حاجة لأن يُقبل بطريق الجبر والإكراه.بل إن الإسلام يرفض أن يقبل أحد دينا دون تعقل وروية..خوفا أو طمعا في شيء.يقول القرآن الكريم : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله.والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (المنافقون:٢).إذا كان الإسلام يدعو إلى الانتشار بحد السيف فهل يُعقل أن يصف القرآن بهذه الكلمات من دخلوا في الإسلام نفاقا؟ ذلك أن إيمانهم في هذه الحالة لا بد أن يُعتبر ثمرة هذا التعليم المزعوم.ثم من ذا الذي يدّعي أن تكوين جماعة من المخلصين بحد السيف ممكن؟

Page 679

فمن ٦٧٦ أخرجوا سورة البقرة الجزء الثاني كما يقول الله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة: (۱۹۱)..أي إنما يأمر الإسلام بقتال من يحاربون المسلمين باسم الدين ويريدون ردهم عن الإسلام بالإكراه، ومع ذلك يأمر المسلمين (ولا تعتدوا)، وإذا كفوا عن قتالكم فكفوا أنتم أيضا عن محاربتهم.وما دام الحال هذه الخطأ الفاحش القول بأن الإسلام يأمر أتباعه بالحرب لكي يُدخلوا الآخرين في دين الإسلام الإسلام لا يأمر بالقتال للقضاء على أديان أخرى مختلفة، وإنما يأمر بالقتال للحفاظ على أديان مختلفة..كما قال الله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.الذين جوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.ولينصرن الله من ينصره.إن الله لقوي عزيز) (الحج: ٤٠ - ٤١.فيعلن هنا بكل صراحة وجلاء أن الحروب الدينية إنما تجوز ضد قوم يمنعون الآخرين من قول ربنا الله)..أي يتدخلون في دينهم، ويريدون هدم معابدهم، وردهم عن دينهم أو يقتلونهم.في هذا الحال يسمح الإسلام بالحرب ضد المعتدين، لأن الإسلام جاء كشاهد محافظ وليس كجبار ظالم.وقال فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.ولنعلم أن الكفر يعني الرفض أيا كان الشيء المرفوض.وقد وردت كلمة الكفر في القرآن بالمعنى الحسن والمعنى السيئ أيضا.وفي هذه الآية جاءت بالمعنى الحسن.يقول الله تعالى إن الذين يرفضون ما يأمر به الشيطان أو أصحاب العادات الشيطانية، ويؤمنون بالله إيمانا صادقا، هم ثابتون على صخرة صلبة قوية.وعلى النقيض يقول القرآن أيضا (إن الذين يكفرون بالله..) (النساء: ١٥١)، أي أن هناك أناسا يكفرون بالله أيضا، فالمعنى الظاهري للكلمة ليس رديئا ولا حسنا، وهو الإخفاء والتغطية.وفي اللغة تغطية الشيء السيئ كفر، وتغطية الشيء الحسن أيضا كفر، وإخفاء الحق كفر، وإخفاء الشر أيضا كفر.ولكن ما دامت الكلمة قد استخدمت في القرآن كثيرا بمعنى رفض الحق، لذلك إذا وردت بدون أي قرينة فيراد بها المعنى السيئ وكذلك الحال بالنسبة للإيمان.فالمؤمن يؤمن بشيء حسن أو

Page 680

٦٧٧ سورة البقرة الجزء الثاني بشيء سيئ.ولكن يكثر استخدامه في الإيمان بما هو حسن، لذلك عندما يُستخدم الإيمان بدون قرينة أدى معنى حسنا، وإن كانت قد وردت كلمة الإيمان في القرآن الكريم بالمعنى السيئ في قوله تعالى (يؤمنون بالجبت والطاغوت) (النساء: ٥٢).أي أنهم يؤمنون بأمور لا نفع فيها ويؤمنون بما هو تعد للحدود.الله وقوله (فمن يكفر بالطاغوت) لا يعني من يكفر بوجود الطاغوت، وإنما من يرفض ما يأمر به الطاغوت، لأن الله قال في مقابل ذلك (يؤمن بالله) أي يطيع ما يأمر به الله.أما إذا قلنا إن المعنى هو أن يكفر بذات الطاغوت فيكون معنى الآية أنه الهلاك من يرفض وجود الشيطان ويؤمن بوجود تعالى، ولكن هذا المعنى خطأ تماما..لأن القرآن في كلمات صريحة يقول بوجود الله سبحانه ويقول بوجود الشيطان.فالمراد من الكفر والإيمان هنا هو أن من رفض ما يأمر به الشيطان وقبل ما يأمر به الله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.قد ينجو من العروة هي ١- المقبض الذي يقبض به على الشيء؛ ۲ العماد الذي يُعتمد عليه؛ الشيء الذي يرجع إليه الإنسان عند الحاجة ٤- الشيء الذي يبقى دائما ولا يضيع؛ ٥- النفيس من المال.فإذا أخذنا العروة بمعنى المقبض فيكون الله قد شبه الدين هنا بشيء لطيف موضوع في إناء محفوظ فيه، ويتقدم الإنسان ليأخذ هذا الإناء من عروته، ويمسك به جيدا ويحتفظ به.والمعنى الثاني أن الدين عماد للإنسان يعتمد عليه كيلا يسقط.فكما أن الإنسان صعوده السلم يحتاج متكأ يستند إليه، كذلك الدين مثل متكأ إذا أمسك به عند الإنسان لا يسقط.والمعنى الثالث أن الإنسان إذا تمسك بالدين بقوة، فإنه يستطيع أن يرجع إليه عند حلول أي مصيبة ويستعين به.

Page 681

الجزء الثاني ٦٧٨ سورة البقرة والمعنى الرابع أن الدين هو الشيء القوي الذي يستطيع أن يلوذ به الإنسان في الدنيا والآخرة.أما العلاقات الأخرى فهي مؤقتة وتنقطع واحدة تلو أخرى عند الشدائد.أن الإنسان يعتبر أقاربه وأصدقاءه رفقة له، ولكن قد يحدث منهم ضعف صحیح وعدم وفاء؛ وعندئذ يدرك الإنسان أن العلاقات الحقيقية هي تلك التي تتأسس على الدين، وهي التي تكون مباركة.اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٥٨) التفسير : عندما يقال في العربية إن زيدا أخذ عمرا من الظلمات إلى النور فيعني أنه هداه إلى طريق النجاح.سواء كان هذا النجاح ماديا أو روحانيا.وهنا يقول الله إنه يأخذ جماعة المؤمنين إلى طريق النجاح روحانيا وماديا، وينجيهم من الفشل والأذى.قوله (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات المراد من الطاغوت هنا أولئك الذين يقومون مقام الشيطان.هؤلاء يرمون بالناس بعيدا عما يكون عندهم من هدي قليل لا تظنوا أن الكفار محرمون تماما من النور، فعندما أعلن النبي النبوة لم يكن أبو جهل سيئا إلى هذه الدرجة التي قتل عليها.وإنما الواقع أن الإنسان عندما يرفض الحق يصاب قلبه بالصدأ، وتدريجيا يزول عن قلبه فيه من نور قليل كان هناك كثير من الحقائق التي تمسّك بها الناس قبل زمن الإمام المهدي عليه السلام ولكنهم يرفضونها الآن.فمثلا، كان علماء المسلمين يقولون على المنابر منشدين بيتا معناه أين موسى وأين عيسى؟ هذا ما يحزننا.أن موسى وعيسى قد ماتا..أين هما؟ أين هما ؟ ولكنهم اليوم قد حذفوا هذا البيت يريدون

Page 682

الجزء الثاني من الكتب ٦٧٩ سورة البقرة ١٨.كذلك كان منهم من يؤمن باستمرار النبوة بعد سيدنا محمد..ومن هؤلاء الملوي محمد قاسم النانوتوي.فقد قال بكل صراحة في كتابه (تحذير الناس، ص (٤٣) أنه يمكن أن يأتي نبي بدون شرع بعد سيدنا محمد ﷺ.ولكن الناس الآن يرفضون ذلك.فقبل مبعث النبي يكون عند بعض الناس عقائد طيبة، ولكنهم يرفضون نبيهم، وتقام عليهم الحجة بحسب عقائدهم، فإنهم يتهربون ويرفضون هذه العقائد أيضا.ولكن الذي يقبل الحق يزداد إيمانه يوما بعد يوم.عندما لقد قلت من قبل إن معنى قوله يخرجهم من الظلمات إلى النور أن الذين يصبحون الله يحقق لهم الازدهار كقوم.ولكن لما كان الإنسان يواجه المشاكل عند كل خطوة، فينخدع بعض الناس ويقولون: إذا كان الله يريد النجاح والفلاح للمؤمنين فلماذا تواجههم المشاكل والشدائد.فلنتذكر أن وعود الازدهار هذه هي للقوم في مجموعهم ولا تكون للأفراد فقط فلا تتنافى مواجهة بعض الأفراد للمشاكل مع هذا الوعد.إذا مات أحد فإن موته ينفع القوم في مجموعهم فلا يعتبر ميتا بل يبقى حيا.إذا نظرنا إلى الشدائد الظاهرة فإن سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه قد استشهد، ولكنه لم يفشل في مرامه بل فاز، ولا تزال المبادئ التي ضحى لأجلها موجودة إلى اليوم، وستبقى إلى يوم الدين.كذلك استشهد بعض الأنبياء، كما قال سيدنا المهدي صراحة أن سيدنا يحيى قتل (حمامة البشرى، ص ٤٩.فما دام النبي نفسه يُقتل، فمنذا الذي ينجو من هذه الشدائد؟ ليس موت فرد أو أفراد دليلا على فشل القوم في مجموعهم..فاستشهاد الإمام الحسين حقيقة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ هل يستحسن أحد ما فعله يزيد؟ ۱۸ أي أنهم كانوا يقولون بوفاة عيسى بن مريم، ولكن عندما أعلن سيدنا المهدي أن عيسى قد توفي كالأنبياء الآخرين عارضه المشائخ عنادا، وحذفوا هذا البيت من كتبهم وخطبهم.

Page 683

٦٨٠ سورة البقرة الجزء الثاني أما الإمام الحسين فيحظى بحب الجميع واحترامهم ويذكرون اسمه بالتوقير والإجلال.(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قال من قبل إنه لا داعي لممارسة الجبر لنشر الإسلام، لأن الهدى قد تميز من الضلال، أما القتال فقد أمرناكم به لأن العدو يعتدي عليكم ويهاجمكم؛ وهنا بيّن أن مصيركم سيكون حسنا، أما أعداؤكم فستكون عاقبتهم غاية في السوء.سوف يكتب الله لكم النجاة، ويلقي بأعدائكم في أغوار الهلاك، فيحترقون دائما في نيران الغيظ والحسرة ولا يرون حولهم إلا جهنم، ولا يجدون لهم منها مخرجا.أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين ( ٢٥٩) شرح الكلمات: حاج حاجه ؛ خاصمه (الأقرب).كلما وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم جاءت بالمعنى السيئ إلا في مكان واحد ويقول اللغويون إنها لا تأتي بمعنى حسن.فمعناها: الاعوجاج في البحث؛ المجادلة؛ المكابرة.الملك الحكم؛ البلد (الأقرب).يُحيي الإحياء أن ينفخ الحياة في شيء، أو يسره، أو يزوده بقوة النمو، أو يعمره المكان (الأقرب).يميت-الإماتة جعلُ الشيء يموت، أو يحزنه، أو يترع منه قوة النمو (الأقرب).بهت- فُقع لونه؛ فزع؛ انغلق فمه و لم يستطع الجواب (الأقرب).

Page 684

سورة البقرة الجزء الثاني التفسير: يقول المفسرون عن هذه الآية إنها تتحدث عن نقاش كان بين إبراهيم وبين الملك الكافر نمرود حول وجود الله تعالى.قال إبراهيم ربي الذي يُحيي ويميت؛ وقال الملك: أنا أيضا أحيي وأميت؛ ودعا ببعض السجناء المحكوم عليهم بالإعدام..فعفا عن بعضهم وأعدم البعض.وعندما رأى إبراهيم أن دليله الأول لم ينفع، فكر في دليل آخر..قال ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.فبهت الذي كفر.وتغلب إبراهيم عليه (الدر المنثور).- ولكنني أرى أن هذا التفسير غير صحيح..لأن الاثنين -حسب هذا التفسير - سكتا وبهتا..بُهت إبراهيم في المسألة الأولى، وبُهت نمرود في المسألة الثانية..ولذلك لا أرضى بهذا التأويل وما دام الملك كذابا وجريئا لدرجة أنه يعتبر نفسه إلها..فكان الممكن أن يرد على الحجة الثانية لإبراهيم قائلا: أنا الذي آتي بالشمس من المشرق، فقل لإلهك أن يأت بها من المغرب.ولكنه لم يقل ذلك؛ ويحكي القرآن أنه بهت وسكت.وهذا يدل بصراحة على أن المراد غير ما قاله المفسرون.وإلا فإن الناس لا يكفون عن البحث عند الجدال وإنما يستمرون فيه حول أمور لا جدوى منها، حتى إنهم لا يزالون يجادلون إلى اليوم هل الإنسان موجود أم لا!! ولكن هذا الملك صمت، مما يعني أن هناك موضوعا آخر سكت عنه، وقال: لو أجبت عنه لوقعتُ في مشكلة أخرى فلا بد لي من السكوت.وقد ذكرت الموسوعة اليهودية هذا البحث كما يلي: مَثَل إبراهيم أمام ملك اسمه نمرود.فقال الملك له: ألا تعلم أني أنا الإله أحكم العالم، وأنا أحيى وأنا أميت؟ ولما كان الملك وقومه يعتبرون الشمس أكبر الآلهة، وكانوا يعتبرونها سيدهم.فقال له إبراهيم: لو كنت إلها وحاكما على الكون فأت بالشمس من المغرب بدلا من المشرق، وإذا كنت إلها وحاكما على الكون فأخبرني ماذا في قلبي الآن، وماذا يكون مصيري بعد ذلك، فبهت نمرود ولم يستطع الجواب.واستمر إبراهيم في كلامه وقال: أنت ابن كونس، وستفى كما فني

Page 685

الجزء الثاني ٦٨٢ سورة البقرة أبوك.إنك لم تملك أن تنجي أباك من الموت، ولا تملك نجاة نفسك من الموت (Jewish Encyc تحت كلمة إبراهيم) كذلك ذكر هذا الموضوع في التلمود.وهناك فرق بين بيان القرآن الكريم والتلمود يذكر القرآن موضوع الإحياء والإماتة ،أولا، ثم يذكر موضوع الشمس، ولكن التلمود يذكر قضية الشمس أولا ثم إن التلمود يذكر أنه عندما مثل إبراهيم أمام الملك قال الملك: لماذا لا تعبد الأصنام؟ قال إبراهيم: لماذا أعبد ما تحرقه النار؟ فقال الملك: أعبد النار إذن.فقال : لماذا أعبد ما يخمده الماء؟ قال الملك: اعبد الماء.قال: الماء تأتي به السحب؟ قال: لماذا لا تعبد السحب؟ قال: الريح تحرك السحب وتذهب بها.فقال لماذا لا تعبد الريح؟ قال: الإنسان يستطيع الاحتماء منها ولا يستطيع الريح التغلب عليه.قال : الملك: إذن اعبدني، فأنا إله للناس.قال إبراهيم: أنت لا تملك شيئا.وما ورد في التلمود عن هذا الموضوع يشكل بنفسه دليلا عن أن ذكر الحديث عن الشمس لم يدر أولا وإنما بعد ذكر الإحياء والإماتة.لأنه لو دخل في النقاش عن الشمس لم يستطع أن يمضي فيه، لأنهم كانوا يعتبرون الشمس أكبر الآلهة، والباعث الحقيقي الأول لكل نجاح وفشل ورقي وانحطاط عندهم.فقد ورد أن ميري داك، كان إلههم الأول، وكان يُعتبر شعاعا من الشمس أو ضوءا للنهار، وكانوا يعتبرونه باعثا حقيقيا لرقي الناس وانحطاطهم.(موسوعة نلسن Nelson تحت كلمة بابلونيا).: ثم إن العقل يؤكد صحة ما قاله القرآن أولا لأن البحث يستمر من الأدنى إلى الأعلى، فكان لا بد أن يكون النقاش أولا عن الموت والحياة، ثم يتطرق إلى الشمس، وثانيا: إن سكوت نمرود يدل على أن الحديث عن الشمس كان في آخر الأمر.وثالثا: إنما جيء بإبراهيم إلى نمرود في جريمة كسر الأصنام، ويبدو أن ادعاء نمرود بالألوهية جاء في معرض النقاش، وإلا يكون الكلام بدون ترابط.القرآن يقول أن النقاش كان يدور حول ربِّه..أي ربه الواحد الأحد، وأثناء النقاش قال

Page 686

الجزء الثاني ٦٨٣ سورة البقرة الملك: سأقتلك وأدمرك لأني أنا الحاكم، فقال إبراهيم: إن الله تعالى هو الذي يملك الحياة والموت.قال: لا، أنا أملك الحياة والموت فأسرع إبراهيم وأوقعه في ورطة بحسب عقيدته وقال: فالشمس هي أكبر الآلهة عندك - عبث إذن.فبهت الذي لقد وعده كفر.هناك بعض الفروق بين الأسماء المذكورة في هذا الحادث، ولكن تبين جليا مما ورد في كتب اليهود أن القرآن الكريم يشير إلى نفس الحادث، ويؤكد ذلك أيضا قوله تعالى: (ألم تر فالله يشير بهذه الكلمة إلى حادث له وجود وأثر.إلا أن هناك تقديما وتأخيرا في ذكر بعض الأحداث في البيان اليهودي كما هو المعتاد عندهم.وقد جاء في التلمود أن هذا الحوار بين إبراهيم ونمرود كان قبل أن يقيم إبراهيم في كنعان وأرى أن قول إبراهيم لنمرود ربي) الذي يحيي ويميت) لا يعني الموت والحياة في الظاهر، وإنما يعني النجاح والفشل والعزة والذلة والعمران والدمار.الله بأرض كنعان و بازدهار ،أولاده، لذلك قال إبراهيم (ربي الذي يحيي ويميت)..أي هو سبحانه متصف بصفتي الإحياء والإماتة..يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويجعل النجاح لمن يشاء والفشل لمن يشاء، ويكتب الغلبة لمن يشاء ويلحق الهزيمة بمن يشاء.فقال الملك (أنا أحيي وأميت أي في يدي هذا الخيار أيضا، أعز أشاء وأذل من أشاء.وكما ذكر سابقا أنهم كانوا يعتبرون الشمس آلهتهم، وكان الملك نفسه يعبدها..لذلك رد عليه إبراهيم بأن الله قانونا يحكم الشمس، فيأتي بها من المشرق..فإذا كنت تملك نفع الدنيا وضرها..فها هي الشمس بازغة أمامك تسير نحو الغرب، فأرجعها من الغرب إلى الشرق، ليكون ذلك دليلا على قدرتك على التصرف في أمور العالم وفي الشمس أيضا.أي إذا كنت أنت الذي تملك زمام هذا العالم نفعا وضرا، فماذا تفعل الشمس إذن؟ وإذا كانت الشمس تنفع وتضر الناس فدعواك بأنك تملك التصرف في العالم باطلة.وكما يذكر التاريخ فإن نمرود بُهت عندئذ ولم يُحِرٌ جوابا، لأنه لو أجاب فإما أن يقول: إنني لا أملك النفع والضر، ولكن الشمس هي التي تملك ازدهار الناس من أكبر

Page 687

الجزء الثاني ٦٨٤ سورة البقرة وانحطاطهم.ولو قال ذلك لبطلت دعواه أنا أحيي وأميت) وإما أن يقول: أنا الذي أتصرف في نفع الناس وضرهم لا الشمس..فيثور قومه على هذا القول، لأنهم يعبدونها، وهو أيضا كان يعبدها ولهذا قال القرآن الكريم (فبهت الذي كفر).وبهذا الحادث دلّل ربنا سبحانه على صدق قوله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وبين كيف أنه عز وجل ينجي عباده من المشاكل، ويخرجهم الظلمات إلى النور ، ويهديهم من الفشل إلى النجاح.من أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ حَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَام فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّةَ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ تُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦٠) شرح الكلمات: كالذي الكاف للتشبيه والتمثيل وأيضا للتأكيد (الأقرب).وهنا وردت بالمعنى الأول.6 خاوية-خوى يخوي خواء البيتُ سقط وتهدم؛ فرغ وخلا (المنجد).بل- حرف إضراب أي صرف الأمر إلى ناحية أخرى (المنجد).والإضراب على نوعين: أحدهما للرفض، كما في جاء القرآن الكريم (وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه، بل عباد مكرمون) (الأنبياء (۲۷) والثاني لصرف الحديث إلى أمر آخر، ولا يراد عندئذ رفض ما سبق من كلام وهي هنا بهذا المعنى.لأنهه تعالى يتطرق في الحديث إلى معنى آخر.

Page 688

٦٨٥ الجزء الثاني سورة البقرة تنشيزها نشز: ارتفع.أنشزه: رفعه (الأقرب).ننشزها: نقيمها أو نرفعها.التفسير: يقول المفسرون أن هذا الحادث وقع مع النبي عُزير.فقد مرَّ ذات يوم على قرية خربة فقال الله تعالى : كيف تحيي أهل هذه القرية بعد موتهم؟ فأماته الله، وبقي في هذه الحالة مائة عام.وخلال هذه الفترة أحيا الله أهل القرية، ليقدم دليلا على قدرته على إحياء الموتى.وعندما أحياه الله بعد مائة عام قال له: انظر إلى طعامك وشرابك لم يفسدا، وانظر إلى حمارك فقد أحييناه، وكسونا عظامه باللحم بعد أن كانت رميما (الدر المنثور).وأرى أن ما ذهب إليه المفسرون تبطله الآية نفسها فأولا: يقول السائل: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها)..فهو يسأل عن إحياء هذه القرية وليس عن كيفية إحياء الموتى.لو كان السؤال عن إحياء الموتى فالسائل كان يرى الناس كل يوم يموتون ولا يبعثون في هذه الدنيا بعد موتهم، فكيف يمكن أن ينشأ في قلبه فجأة سؤال عن إحياء الموتى برؤية هذه القرية الخربة؟ كان سؤاله عن إحياء هذه القرية، وكل شخص يعرف أن إحياء القرية بعد خرابها يعني ،عمرانها، ولا علاقة له بإحياء الموتى.وثانيا ماذا يعني قوله (أنى) أيعني متى أم كيف ؟ إذا كان الجواب (مائة عام) فمعنى ذلك كلمة "أنى" تعنى متى.إذا كان السؤال عن كيفية إحياء الموتى هذه القرية فلا يمكن أن يرد عليه بعد مائة عام.فهذا الجواب يدل على أن السؤال كان عن مدة إحيائها وليس عن كيفية إحيائها..وثالثا - يقول الله (فأماته الله مائة عام ثم بعثه وهنا ينشأ سؤال: لماذا عومل السائل هكذا؟! إذا كان هدف سيدنا عزيز أن يرى كيف يحيي الله الموتى..فإن موته لا يحقق هذا الغرض، لأنه بعد موته لا يستطيع أن يرى كيف يحيا الأموات.ورابعا إذا كان الغرض قد تحقق بعودته من جديد إلى الحياة..فهناك اعتراض آخر يرد على قول (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) وهو: لِمَ لَمْ يكتف الله بإماتة الحمار ثم إحيائه كي يُريه قدرته على الإحياء؟ لماذا أماته الله مائة عام؟ هذه إجابة

Page 689

٦٨٦ سورة البقرة الجزء الثاني عجيبة أن يميته الله مائة عام حتى يموت أهله وأولاده في غيابه، ثم يبعثه بعد قرن في أناس غرباء عنه! كذلك لا يستطيع السائل أن يعرف كيفية إحياء الله الموتى بموته هو، وإنما يستطيع ذلك فقط إذا أمات الله أمامه أحدا ثم بعثه بمرأى منه.و خامسا لماذا لم يكتف الله بإماتة واحد من أهل القرية ولماذا أمات عزيرا نفسه؟ و سادسا - ماذا كان سؤاله حتى يرد الله عليه فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه)؟ سأل الرجل: متى تحيي هذه القرية؟..فهل يكون الجواب: انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه؟ فإن كلمة (هذه) نفسها تدل على أن السؤال لم يكن عن إحياء الموتى وبعثهم من جديد، وإنما كان عن إحياء هذه القرية وعمرانها من جديد.وعبارة مائة عام تدل على أن السؤال لم يكن لمعرفة كيفية الإحياء وإنما لمعرفة مدة إحياء هذه القرية.وسابعا ثم إن إحياء الميت فعلا مخالف لسنة الله تعالى فإنه لا يحيى الأموات في هذه الحياة الدنيا.وثامنا - إذا كان الله قد أماته مائة عام فلا يمكن أن يؤكد له موته بقوله فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه بل كان عليه أن يقول له: انظر حولك، لقد تغير العالم كله، وهذا دليل على موتك.إذن فكل هذه الأمور تبين أن ما ذهب إليه المفسرون خطأ.والآن أروي لكم حقيقة هذا الحادث كما أراه.يقول الله تعالى : انظر إلى ذلك الذي مر على قرية وهى خاوية على سقوفها فقال: يا رب متى تعمر هذه القرية مرة أخرى؟ فأراه الله في المنام أنه ميت لمدة مائة عام، ولما قام من نومه سأله: كم لبثت في هذا الحال؟ فقال: يوما أو بعض يوم.فقال صحيح، لكن تذكر أنك رأيت نفسك في هذا الحال ميتا لمدة مائة عام.والدليل على صحة ما تقول أن طعامك وشرابك لم يتغير، أما الدليل على صدق من أننا أريناك في الرؤيا مشهدا لما سيحدث في مائة عام قادمة..أنه عندما الله: هذا قولنا

Page 690

الجزء الثاني ٦٨٧ سورة البقرة يتحقق هذا سوف يسلّم الناس بأنك كنت على صلة صادقة بالله تعالى.وعندما تبينت له هذه الحقيقة قال: أؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وليس بعزيز عليه أن هذه القرية الخربة مرة أخرى بفضله.يعمر كان سيدنا الخليفة الأول للمهدي يقول إن هذه القرية هي قرية أورشليم القدس التي دمرها نبوخذنصر" وأن الذي مر عليها هو النبي "حزقيال" فكشف الله له أن هذه القرية سوف تعمر خلال مائة سنة (حقائق الفرقان، جزء ١ ص٤١٦).وأرى أن هذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية.ورد هنا أن هذه القرية كانت خاوية على عروشها أي أنها كانت خربة غير مسكونة بحيث سقطت سقوفها أولا، ثم تهاوت عليها الجدران..لأن الديار التي لا تسكن تتهاوى أولا سقوفها، ثم تتداعى الجدران..ذلك أن السقوف الخشبية ينخر فيها السوس وتزعزعها الرياح فتسقطها، وبعد ذلك تسقط الجدران بفعل المطر..وتقع على الأسقف.أما المنازل التي تسقط بسبب الزلزال وغيره فإن جدرانها تسقط أولا ثم السقوف.فبقوله هذا أشار إشارة لطيفة أن القرية لم تخرب بزلزال وإنما خربت بسبب هجرة أهلها عنها.عند رؤية أورشليم الخربة فكر النبي حزقيال في نفسه: متى يحيي الله هذه القرية الخربة؟ وليس المراد من إحياء القرية إحياء أهلها وإنما المراد عمرانها، كما قال القرآن في موضع آخر (وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا) (الفرقان: ٥٠,٤٩) وفي موضع ثان: (وأحيينا به بلدة ميتا) (ق: (۱۲)..أي بالمطر أحيينا البلدة الميتة.وإحياء المدينة يعني عمرانها وجلب الرفاهية والرخاء إلى أهلها.سأل النبي حزقيال متى تحيي هذه القرية، وبالرؤيا أخبره خلال مائة سنة.ستعمر وهذه الرؤيا التي رواها القرآن الكريم مذكورة في سفر حزقيال؛ والفرق بين الروايتين أن التوراة لا تذكر فترة السنوات المائة.إنه من الأدلة على صدق القرآن الله أنها

Page 691

سورة البقرة الجزء الثاني وكماله أنه يذكر أمورا ضرورية لم تذكرها الأسفار السابقة، وهكذا يسد النقص الموجود فيها.على أية حال، فقد ورد في سفر حزقيال: (كانت علي يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملانة عظاما.وأمرني عليها من حولها وإذا هي كثيرة جدا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدا.فقال: لي يا ابن آدم، أتحيا هذه العظام؟ فقلت: يا سيد الرب، أنت تعلم.فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة، اسمعي كلمة الرب.هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: هأنذا أدخل فيكم روحا فتحيون، وأضع عليكم عصبا وأكسيكم لحما وأبسط عليكم جلدا وأجعل فيكم روحا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب.فتنبأتُ كما أمرتُ.وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش، فتقاربت العظام كلُّ عظم إلى عظمة ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح.فقال لي: تنبأ للروح، تنبأ يا ابن آدم وقل للروح: هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهبي على هؤلاء القتلى ليحيوا.فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم..جيش عظيم جدا جدا..ثم قال لي يا ابن آدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل.ها هم يقولون: يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا لذلك تنبأ وقل لهم هكذا قال السيد الرب.هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل.فتعلمون أني أنا الرب عند فتحي قبوركم وإصعادي إياكم من قبوركم يا شعبي.وأجعل روحي فيكم فتحيون وأجعلكم في أرضكم، فتعلمون أني أنا الرب تكلمت وأفعل.يقول الرب) (حزقيال ١:٣٧-١٤).هذا هو النبأ الذي تنبأ به النبي حزقيال.والسؤال الآن إن النبي حزقيال كان عندئذ في السجن ببابل، فكيف مر على هذه القرية؟ يمكن أن يكون مروره على القرية أيضا في المنام..وهذا يتبين من كلمات التوراة أيضا.

Page 692

الجزء الثاني ٦٨٩ سورة البقرة والرد الثاني: أن الملك نبوخذ نصر البابلي كان هاجم أورشليم وفتحها ٥٨٦ ق.م.وهدم جزءا منها، وأسر ملكها وجميع أفراد عائلته إلى بلده، كما أخذ معه كبار القوم والصناع وأهل الحرف ولم يترك فيها إلا بعض الأراذل من القوم (الموسوعة اليهودية كلمة أورشليم).وكان النبي حزقيال من بين هؤلاء الأسرى (حزقيال۳).وقال المؤرخون بأن النبي حزقيال كان يحض الناس على محاربة نبوخذنصر، وعلى عدم ترك بلادهم، ولذلك أسره الملك.ويتبين من التاريخ القديم أن الملوك كانوا إذا هدموا قرية وخربوها أخذوا أهلها أسرى ومروا بهم على قريتهم الخربة ليشعروا بمزيد من الذلة ويحسوا بقلة حيلتهم.وأرى أنه عندما أخذوا النبي حزقيال وجعلوه يمر على قرية أورشليم الخربة..توسل قائلا: يا رب، ماذا حدث؟ فكلمات (وهي خاوية على عروشها) أيضا تدل على أن هذه الفكرة قد خطرت بباله عندما رأى عروشها المنهارة بعد الهدم فورا، وإلا فإن الناس بعد ذلك يأخذون الأمتعة.قال: يا رب كيف يتم عمران هذه المدينة المنهارة مرة أخرى؟ لقد أسَرَنا العدو نحن الكبار جميعا، وأخذنا فأراه الله ویری الله معه.مشهد الموت لمائة سنة؛ بمعنى أنه في عالم الكشف رأى نفسه قد مات ثم بعث بعد مائة سنة.وهذا يحدث في المنام، وليس فيه ما يدعو للعجب.الإنسان يموت في المنام الكثير من المشاهد والمناظر وهو في حالة الموت المنامية هذه.ولما كان حزقيال نبيا لقومه، فالمراد من موته في حالة الكشف هو في الحقيقة موت بني إسرائيل، وأخبره الله بذلك أن بني إسرائيل سوف يبقون في حالة العبودية والانحطاط هذه لمائة عام، وبعد ذلك يهب لهم حياة جديدة ويرجعون إلى مدينتهم مرة أخرى، فتعمر.لا شك أنه ليس هنا أية كلمة للرؤيا، ولكن من أساليب القرآن أنه يروي الرؤى دون ذكر كلمة الرؤيا..فعندما حكى سيدنا يوسف لأبيه رؤياه التي رأى فيها النجوم والشمس والقمر تسجد له قال القرآن إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (يوسف : (٥) فلم يستخدم هنا كلمة الرؤيا.

Page 693

الجزء الثاني ٦٩٠ سورة البقرة وعندما رأى حزقيال هذا المشهد بُعث أي خرج من هذه الحالة الكشفية، وسأله الله تعالى: كم لبثت في هذه الحالة؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم.وهذا أسلوب للكلام يعني أني لا أعرف تماما.وقد ورد هذا الأسلوب القرآني في مواضع أخرى مثلا: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين) (المؤمنون: (١١٣-١١٤)..يسأل الله الكفار كم لبثتم في الأرض من السنين؟ فيقولون: يوما أو بعض يوم، فاسأل من كانوا يعدون الزمن، يعني أننا مكثنا مدة قليلة جدا، أو لا نعرف كم لبثنا.فكان هذا الجواب من حزقيال تأدبا واحتراما وقال لا أدري مشيئة الله من هذا السؤال، ويبدو أنني مكثت بعض الوقت.فقال الله: (بل لبثت مائة عام..وعلاوة على ما في ذهنك، فهناك جانب آخر هو أنك مكثت مائة عام في هذه الحالة.و (بل) ليست هنا لنفي ما قبلها وإنما لاستئناف كلام جديد..كما ورد في القرآن الكريم (قد أفلح من تزكى.وذكر اسم ربه فصلى.بل تؤثرون الحياة الدنيا.والآخرة خير وأبقى) (الأعلى).فما ورد هنا بعد (بل) صحيح، وما جاء قبلها صحيح أيضا، وليس هناك نفي لأي شيء.فالمعنى أن ما فكر فيه حزقيال قول لأنه فعلا مكث بضعَ يوم.ثم سرعان ما وجه الله نظره إلى موضوع آخر أيضا، فقال: إنك مكثت في هذه الحالة مائة عام.ولما كان كلام حزقيال صحيحا وحتى لا يخطئ نفسه أخبره الله : إن ما تقوله أيضا صحيح، والدليل على ذلك أن طعامك وشرابك أمامك لم يطرأ عليهما تغير أو فساد وها هو حمارك أمامك لم ؛ يحدث له شيء.نعم، أنت مكثت بضع ساعات في حالة الكشف..وإلا فإن الذي مكث ميتا لمائة سنة لا يقال له : انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه.ثم قال: وأريناك هذه الرؤيا لنجعلك آية للناس وانظر إلى هذه العظام كيف ننشزها ونكسوها لحما ونقيمها أمامك.صحيح، بهذا الكشف والإلهام بشره الله بعمران هذه القرية خلال مائة العام القادمة.وبالفعل بعد مائة سنة تقريبا هيا الله أسباب عمران هذه المدينة ورقيها مرة أخرى.لقد تم دمار أورشليم مرتين.المرة الأولى عام ۵۹۷ ق.م.والثانية عام ٥٨٦

Page 694

٦٩١ سورة البقرة الجزء الثاني ق.م.عند تمرد أهلها وفي عام ۵۱۹ ق.م.بدأ إرساء الأساس لمدينة أورشليم مرة 0 أخرى، واستغرق عمرانها ٣٠ سنة، وتم ذلك بصورة كاملة عام ٤٨٩ ق.م.فهذه الفترة هي ۹۷ أي مائة سنة تقريبا بين ٥٨٦ ق.م.إلى ٤٨٩ ق.م.(الموسوعة اليهودية والقاموس التوراتي لـ Black تحت كلمة أورشليم).وقوله ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما) جاء مطابقا لقول التوراة الوارد في حزقيال (لقد يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا) (۱۱:۳۷).وبهذه الكلمات بين الله لهذا النبي | أنه سوف يحيي أمة اليهود مرة أخرى، وسوف يستعيدون قوتهم وعظمتهم.مائة وهكذا وجدنا من التوراة أيضا رؤيا تؤيد هذا الحادث.كما ثبت كساء عظام بني إسرائيل باللحم..ثبت أيضا أسر النبي حزقيال كما ثبت عمران قرية أورشليم بعد من السنين.كان النبي حزقيال حزينا بسبب ما حدث، ولكن عندما أخبره الله أن هذا الدمار ليس نهائيا، وإنما سيستمر فقط لمائة سنة قال (أعلم أن الله على كل شيء قدير).الآن قد اطمأن قلبي.إن تغير الأحوال يبدو في الظاهر مستحيلا، ولكن التغيير سوف يحدث يقينا، ولسوف يعمر الله القرية مرة أخرى، ويحقق الازدهار لبني إسرائيل.وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَحُدْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦١) شرح الكلمات: صُرهن صار يصور الشيء إلى نفسه: أماله إليه.وصار الشيء بدون حرف الجر إلى: قطعه (الأقرب).(صرهن إليك) يعني أمِلْهُنَّ إليك، من الصور أي الميل (المفردات).فالمعنى: ألف هذه الطيور معك.

Page 695

الجزء الثاني ٦٩٢ سورة البقرة التفسير: يقول الله تعالى: تذكَّرْ عندما قال إبراهيم: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى.فقال أو لم تؤمن؟ قال: بلا ، أي أؤمن إيمانا كاملا أن الله يحيي الموتى، وهو قادر على ذلك ولا شك أبدا ولنتذكر أن أداة (بلى) سواء سبقها نفي أو إثبات، فهي تفيد الإثبات.أما (نعم) فتفيد الإثبات والنفي.فلو أجاب إبراهيم هنا بنعم، لكان المعنى لا أؤمن، أو نعم أؤمن، ولكن بقوله (بلى) أزال كل شبهة للنفي، وبين أنه مؤمن حقا.مريض، وبعد ذلك قال ولكن ليطمئن قلبي)..فاستدرك بحرف (لكن) أي أنني أؤمن بقدرتك على إحياء الموتى.كل ما في الأمر أني أريد شيئا زائدا..أريد أن يطمئن قلبي بأن الله سوف يحيي قومي بصفة خاصة.ومثال ذلك أن يكون هناك وهو يؤمن أن الله قادر على شفاء المرضى، ولكنه لن يطمئن أن الله سوف يشفيه هو أيضا..ما لم يخبره الله بذلك، أو مثلا : يعرف الجميع أن الناس يشبعون بعد الجوع، ولكن هل هذا العلم يجعل أحد الجائعين يستيقن أنه سينال طعاما وأنه نفسه سوف يشبع؟ فالإيمان يتعلق بأمر غيبي مختف عن نظر المؤمن، ويدل على يقينه الكامل بحدوث ذلك الشيء أو إمكانية حدوثه.أما الاطمئنان فإنه يأتي مقابل الشك أو مقابل الكرب والاضطراب في الآية هنا لا يراد بالاطمئنان ذلك الذي يكون مقابل الشك، وإنما الذي يكون مقابل الكرب والاضطراب، ذلك لأن إيمانه ثابت مما قاله آنفا كان إبراهيم مؤمنا بأن الله قادر على إحياء الموتى، ولكنه كان يريد أن يزول اضطرابه ويطمئن أن الله سوف يتجلى بقدرة الإحياء على قومه، ويحييهم مرة أخرى من فضله.فقال الله له خذ أربعة من الطير، وعاملها بتودد حتى تألفك، ثم ضع جزءا منها على كل جبل ثم ادعها فتسرع إليك.واعلم أن الله غالب وذو حكمة.يقول المفسرون إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يأخذ أربعة من الطير ويفرم لحمها، ثم يضمه إليه، ثم يوزعه على الجبال.ولكن هذا المعنى خطأ ومخالف للأسلوب العربي.

Page 696

٦٩٣ سورة البقرة الجزء الثاني ذلك أنه لا معنى لأن يفرم المرء الطيور ويضم لحمها إليه.فالمعنى الصحيح هو أملهن إليك وألف بينها وبينك.كما ورد في المفردات والأقرب.ويستدل البعض بكلمة (جزءا) على أن المراد هو فرم لحم الطير، ثم يأخذ جزءا من هذا اللحم المفروم ويجعله على الجبال ؛ وهذا أيضا خطاً.فليس المراد جزءا من لحم الطيور، وإنما المراد جزء من هذه الطيور الأربعة، أي واحد منها..بمعنى: ضع كل واحد من هذه الطيور على جبل.ونظير ذلك في القرآن الكريم: (إن جهنم لموعدهم أجمعين.لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر٤٤-٤٥).أي أن لكل باب من أبواب جهنم جزءا من هؤلاء الكفار.لا يفسر أحد كلمة جزء هنا أن يفرم لحم الكفار ويخلطه ويُؤخذ جزء منه إلى كل باب من أبواب جهنم، بل أجمع المفسرون على أن بعضا من هؤلاء الكفار يدخلون من باب، والبعض الآخر من باب ثان، وهكذا روح البيان.فقد بينت هذه الآية معنى (جزء) ووضحت أن الجزء من جماعة فرد أو عدد من أفرادها.وفي آيتنا هذه (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا لا يعني جزءا من اللحم المفروم؛ بل المراد: ضع طائرا منها على جبل، وثانيا على جبل ثان..وهكذا.لو أخذنا بالمعنى الظاهري لكان محلا لاعتراضات كثيرة أولها: ما علاقة إحياء الموتى باستمالة الطيور؟ ثانيا : لماذا أربعة طيور؟ ألا يكفي واحد لتحقيق الغرض؟ ثالثا: ما الفائدة من وضعها على الجبال؟ ألا يكفي أن توضع في أي مكان آخر؟ الحقيقة أنه لا يمكن أخذ الكلام هنا حرفيا، وإنما له مدلول مجازي.لقد دعا إبراهيم: يا رب، لقد عهدت إلي بمهمة إحياء الموتى، فحقق لي هذه المهمة، وأرني كيف تنفخ الروح في قومي.لقد أصبحت شيخا كبيرا، والمهمة ضخمة.فقال الله: ما دمنا قد وعدناك فلسوف يتحقق هذا الوعد.قال إبراهيم: أعلم أن هذا سوف يتحقق، ولكن أسألك على سبيل الاطمئنان كيف تتغير هذه الأحوال غير المواتية؟ قال الله: عليك بتربية أربعة من أولادك، ليلبوا نداءك، ويكملوا مهمتك من إحياء القوم.وهؤلاء الطيور الأربعة الروحانيون هم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف

Page 697

٦٩٤ سورة البقرة الجزء الثاني عليهم السلام.لقد تمت تربية اثنين منهم على يد إبراهيم مباشرة، وتربية اثنين بطريق غير مباشر، والمراد من وضعهم على الجبل أن يربيهم في مستوى رفيع.وفي هذا أيضا إشارة إلى أنهم ذوو درجات عالية، ويبلغون الذرى في الروحانية.والمراد من وضع كل واحد منهم على جبل منفصل..أن هذا الإحياء لأمته سوف يتم على فترات أربعة منفصلة، وبذلك كشف الله له صورة للإحياء القومي الذي كان سيتم قريبا من بعده.كما أشير فيه أيضا إلى أربعة أدوار من الرقي تأتي على قوم إبراهيم على المدى البعيد.باختصار قال إبراهيم عليه السلام ربِّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله: ألم تؤمن بقدرتي ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..أي إني أرى أنك تحيي الموتى، فلا أملك إلا الإقرار بذلك، ولكن قلبي يريد أن تتحقق آيتك هذه في نفسي، فتظهر قدرتك هذه في حق أولادي أيضا، فقال الله: ستموت أمتك أربع مرات، وسوف نحييها أربع مرات.وبالفعل تم هذا، فأولا في زمن موسى عليه السلام رفع نداء إبراهيم على لسان موسى.فتم إحياء هذا الميت لأول مرة.ثم رفع هذا النداء في زمن عيسى عليه السلام، وأُحيي هذا الميت.ثم في زمن رسولنا محمد ﷺ رفع هذا النداء الإبراهيمي وقام قومه من الموت إلى الحياة.وفي المرة الرابعة في زمن الإمام المهدي رفع هذا النداء وأعيدت الحياة إلى هذا الميت.نادى إبراهيم ذريته أربع مرات، واجتمعوا حوله أربع مرات.الطير الأول الذي ناداه إبراهيم ونال بذلك اطمئنان القلب هو قوم موسى، والطير الثاني هو أمة والطير الثالث عیسی، ذات المظهر الجلالي المحمدي، والطير الرابع هو الجماعة الإسلامية الأحمدية ذات المظهر الجمالي الأحمدي.وهكذا أراح الله قلب إبراهيم.فقال: نعم، إن ربي يحيي الموتى.يعني هو جماعة محمد وقوله (بلى، ولكن ليطمئن قلبي) إنما أن لساني وعقلي وفكري وحواسي ومشاهدتي تقر بأنك تحيي الموتى، فكل يوم أرى أنك تحييهم، ولكن إذا لم يهتد أولادي فلن يطمئن قلبي ولاطمئنان قلبي أسألك آية تتحقق في أولادي.فقال الله

Page 698

٦٩٥ سورة البقرة الجزء الثاني له سوف نحيي أولادك أربع مرات ونتفضل عليهم بأفضال خاصة أربع مرات.ولقد تحقق هذا الوعد في هذه الأدوار الأربعة، وأنزل الله أفضالا خاصة على أولاد إبراهيم، وأحياهم حياة روحانية.فهذا نبأ للزمن البعيد والقريب كليهما بإحياء قوم إبراهيم، وقد تحقق النبأ في وقته بكل روعة، وتبين للناس أن الله عزيز حكيم.مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٢) شرح الكلمات : يضاعف أقل الضعف محصور وهو مثل الواحد، وأكثره غير محصور (كليات أبي البقاء).: التفسير في الآيات السابقة ضرب الله ثلاثة أمثلة للإحياء القومي، وفي هذه الآية ضرب المثال الرابع وقال: إذا أنفقتم أموالكم في خدمة الدين..فكما ينبت الله حبة واحدة سبعمائة حبة كذلك سوف يبارك الله في أموالكم بل يزيد على ذلك.قال (والله يضاعف لمن يشاء).والتاريخ شاهد على أن هذا ما يحدث تماما.أن صحیح أبا بكر قدم تضحيات جسيمة، ولكن أين هذه التضحيات من تلك النعمة العظيمة التي أسبغها الله على أبي بكر.إذ جعله الخليفة الأول للرسول ﷺ! كذلك أنفق عمر كثيرا، ولكن ما أعظم الجائزة التي نالها وبالمثل عثمان نال في هذه الدنيا آلاف الأضعاف لما أنفق في خدمة الدين.وإذا تحرّينا حال كل فرد من الصحابة وجدنا أن الله قد عامله بنفس المعاملة.خذوا على سبيل المثال عبد الرحمن بن عوف؛ عندما توفي ترك ما يساوي ثلاثين مليونا من الروبيات، فضلا عما كان ينفقه في حياته في سبيل الله بالملايين (أسد الغابة.وكذلك الصحابة الذين تركوا أوطانهم وجدوا أوطانا أفضل، والذين تركوا إخوانهم وأخواتهم وجودوا أفضل منهم،

Page 699

الجزء الثاني ٦٩٦ والذين غادروا آباءهم وجدوا أفضل أب في النبي.لم يحرم في سبيله من جزاء أفضل مما بذلوا وأنفقوا.يرمي لكان معنى سورة البقرة الله أحدا ممن ضحوا الله تعالى، (والله واسع عليم) قال: ما المبرر أن يبخل الله جل علاه؟ كان من الممكن أن يبخل لو كان يعاني من قلة فيما عنده.ولكنه (واسع)..ذو سعة ورخاء كبير.ثم هو (عليم)..يعلم كم يستحق كل واحد من الجائزة.فإذا كان أحد يستحق الملايين فهو قادر على أن يعطيه الملايين.إننا نرى كل يوم في حياتنا أن الفلاح الحبة في الأرض فيخرج الله له سبعمائة حبة.فالذي ينفق أمواله في سبيل الله..كيف يمكن أن يضيع الله أمواله؟ لا بد أن يعيدها إليه مضاعفة إلى سبعمائة ضعف.والله قادر على أن يعطيه أكثر من ذلك.لو أنه حدد حدا أقصى لعطائه ذلك أن ذات الله سبحانه محدودة.وهذا عيب لا يجوز على ولذلك قال لو أنفقتم في سبيل الله حبة واحدة لأعادها إليكم سبعمائة حبة على الأقل.أما الزيادة على ذلك فلا حد لها؛ كما لا نهاية لأنواع هذا الجزاء لقد قال المسيح في الإنجيل: (اكتروا لكم كنوزا في السماء حيث لا يُفسد سوس ولا صدأ وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون (متى (٢٠٦.أما القرآن فيقول عن الأموال أنكم لو جمعتموها في خزانة الله فلا يكون احتمال فساد أو سرقة، فضلا عن أنها سوف تُرَدّ إليكم هذه الأموال بزيادة تبلغ سبعمائة ضعف على الأقل، ويمكن أن تزيد عن ذلك بلا حدود.أما عن الغلال فيقول المسيح إنه في السماء ولا يصيبها السوس.ولكن القرآن يقول إن حباتكم التي تحفظونها عند الله لا محال للتفكير في إصابتها بالسوس، بل هناك زيادة وربح يصل إلى سبعمائة ضعف وأكثر..لا شك أن الله تعالى ليس بحاجة إلى معونة من أحد، ولكنه رحمة بعباده- يتيح لهم الفرص لأداء خدمة يرفع بها درجاتهم.فعندما يبعث الله أحد أنبيائه لا بد أن ينشئ جماعة تكون بدايتها بسيطة..بحيث لا يتصور عنها أهل الدنيا أنها تفلح في مرامها؛ ولكن الله يغيّر نظام العالم فعلا عن طريقهم، وعندئذ يدرك أهل الدنيا أن

Page 700

الجزء الثاني ٦٩٧ سورة البقرة الله تعالى موجود وحَيّ، وليس هناك مستحيل أمامه.وفي زمن الأنبياء الله يهيئ الفرصة لأممهم لخدمة الدين.وبما أن ذلك الوقت هو وقت إقامة عالم جديد، لذلك تفتح أمامهم أبواب بذل ،التضحيات وهذا هو وقت نيل الثواب.وعلاوة على المعنى المذكور آنفا فإن الآية توجه النظر إلى إمكانية زيادة الغلال أيضا، وتبين أنه في بعض الأحيان تنبت الحبة الواحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة..ويمكن أن تكون الزيادة أكبر من ذلك.في بلادنا مثلا يبذر الحب بمعدل ثلاثين كيلو جراما للفدان الواحد، وبحسب الآية الكريمة يمكن أن يكون المحصول ۳۰×۷۰۰ ۲۱۰۰۰ كيلوا جراما أي واحد وعشرين طنا من القمح.بل تفتح الآية مجالات لزيادة المحصول أكثر من ذلك إذا أراد الله.ولو بلغ محصول الفدان هذا القدر، ولو دون زيادة فوقها..فإن محصول القمح في العالم يمكن أن يكفى أضعاف ما في الأرض من سكان حاليا.وهناك كثير من المناطق في الأرض لا تزال بدون استزراع، ولو عُمرت وزرعت لزادت المحاصيل كثيرا.فعلا هناك مناطق في أفريقيا وأستراليا وكندا لم تُعمّر إلا قليلا.وهناك مساحات شاسعة في روسيا لم تعمر بعد.لو اهتم الناس بزراعة هذه المناطق مستفيدين من التجارب العلمية لحدث تغير عظيم في مقدار المحاصيل في العالم، ولاتسعت الرقعة المعمورة من الأرض أضعافا.الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنَّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٣) شرح الكلمات: منا: مَنَّ على فلان بما صنع عدد له ما فعله من الصنائع، كأن يقول: أعطيتك وفعلت لك.تقول العرب: المن أخو المن..أي أن الامتنان بتعديد الصنائع أخو القطع والهدم (الأقرب).والمن قد جاء هنا بهذا المعنى.

Page 701

٦٩٨ سورة البقرة الجزء الثاني أذى الأذى ما تأذيت به؛ النجاسة.وفي حديث العقيقة (أميطوا عنه الأذى) يريد الشعر والنجاسة وما يخرج على رأس الصبي حين يولد يُحلق عنه يوم سابعه (اللسان).التفسير : يقول الله تعالى إنكم إذا أنفقتم في سبيل الله فيجب ألا يؤدي ذلك إلى الاستكبار والخيلاء، وتقولوا لقد أعطينا كذا وضحينا بكذا..لأن هذا سوف يضيع حسناتكم.قال الله عن الأعراب (يَمُنّون عليك أن أسلموا.قل لا تمنوا علي إسلامكم.بل الله يمن عليكم أن هداكم (للإيمان (الحجرات: ١٨)..إنهم يتصرفون وكأنهم قد أحسنوا إليكم بقبول الإسلام.قل على رسلكم، إنما هو فضل الله عليكم أن وفقكم للاعتقاد في دين صادق.كذلك من الجهل الشديد أن يتفاخر الإنسان على الآخرين بتضحياته المالية، لأن ذلك يعني أنه لم يقم بما فعل لوجه الله، وإنما لكي يتعالى ويُمنّ على الناس وهذا يحرمه من الثواب.لقد نصح سيدنا المهدي جماعته وقال: (لا تظنوا أنكم تحسنون إلى الله وإلى من أرسله بإنفاق قدر من مالكم أو القيام بأي خدمة أخرى بل إنه من إحسان الله إليكم أنه وفقكم لهذه الخدمة..فحذار أن تتكبروا في قلوبكم أو تظنوا أنكم تقومون بخدمة مالية أو غير ذلك.أقول لكم مرة بعد أخرى إن الله تعالى لا يحتاج أبدا إلى خدمتكم، وإنما هو فضله عليكم أن وفقكم لهذه الخدمة..لو أنكم قدمتم خدمات كثيرة حتى أنفقتم كل أموالكم وعقاراتكم فإنه لمما ينافي الأدب ذلك مع أن تظنوا أنكم قمتم بأي خدمة..كل هذه الأفكار بعيدة عن الأدب.ولا يهلك أحد بأسرع مما يهلك سيئ الأدب (تبليغ الرسالة).وبكلمة (أذى) أشار إلى أنه ينبغي ألا يعتبر الإنسان من يحسن إليهم عبيدا له بسبب إحسانه إليهم، ويستغلهم استغلالا، أو يتبرع أحد ببعض ماله ثم يقول: لقد كنت أنفقت كذا وكذا، ويجب الآن على الجماعة أن تساعدني وتزيل مشاكلي المالية.وقوله (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يبشر الذين ينفقون في سبيله خالصا

Page 702

الجزء الثاني ٦٩٩ سورة البقرة لوجهه أنهم بسبب سمو سلوكهم سوف يدخلون في أمان الله وحفظه، وينالون سكينة القلب فيما يتعلق بماضيهم، ويكون مستقبلهم باهرا أيضا.قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْعُها أَذًى واللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٤) شرح الكلمات : قول معروف كلمة خير ونصح، مثلا: يعامل السائل معاملة لينة، أو يقول له مثلا: ليس معنا الآن ما نعطيك.مغفرة تغطية؛ وستر خطأ أحد؛ العفو عن ذنبه؛ الصفح عما ارتكب من خطأ في حقه (الأقرب).التفسير: نصح من قبل أن من قدم خدمة للدين، أو ضحى بماله لأولئك الذين يقفون حياتهم للدين ويهاجرون إلى المركز للإقامة هناك، أو أعان الفقراء بإنفاق ماله..عليه ألا يجرح مشاعر هؤلاء مثلا بقوله : أنتم تعيشون على تبرعاتنا؛ أو أحسنت إليك بكذا وكذا.والآن يخبر هؤلاء المنفقين أن الأفضل من هذا الإنفاق أن يقول المرء كلمة خير..كأن يقول..سد الله حاجاتك وفتح عليك أبواب فضله.وهكذا يعامل السائل بالرفق والحب، ويواسيه ويتعاطف معه بصدق.وبقوله (ومغفرة) وجّه النظر إلى أنه إذا التمس أحد منك المعونة وذكر عندك حاجته فينبغي أن تستر حاله ولا تذكر ضعفه المالي وحاجاته هنا وهناك.وتعني الآية أيضا أن الأمر بالمعروف أو العبادة باللسان، أو الدعاء للآخرين وغفران خطاياهم..أفضل من صدقه يتبعها سلسلة من الإيذاء للمحسن إليهم.فالقيام بحسنات عقلية وبدنية خير لكم من أن تحاولوا إسداء الخير للآخرين بأسلوب لا يحقق ذلك بل يؤذيهم ويجرح مشاعرهم.وبقوله (والله غني حليم أشار إلى أنكم إذا لم تمتنعوا عن المن والأذى بعد الإنفاق..فتذكروا أن الله (غني) وليس بحاجة إلى مالكم، ويمكن أن يأتي مكانكم بقوم آخرين يقومون بخدمة الدين أفضل منكم.وصفة (حليم) تشير إلى أن الله مع كونه

Page 703

الجزء الثاني ۷۰۰ سورة البقرة في غنى عن خدمتكم، إلا أن حلمه يقتضي أن يرحمكم وينجيكم من الهلاك.وقد قرَّب إليكم الجنة بهذه التعاليم وأنتم مخيرون الآن بين أن تقوموا بما يجعلكم عرضة لصفة (الغني) الإلهية، وبين أن تنتفعوا بصفة (حليم) الإلهية، فتحسنوا العمل ابتغاء مرضاته، وليس للمكاسب الدنيوية.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٥) شرح الكلمات: صفوان الصخر الأملس؛ ما لا ينبت شيئا من الحجارة ومن الأرضين.يقال: حجر صلد وأرض صلد (الأقرب).التفسير يقول عز وجل أيها المؤمنون لا تضيعوا صدقاتكم بالمن والأذى.وإضاعة الصدقات يعني إضاعة ثمراتها ونتائجها.وقوله (كالذي ينفق ماله رئاء (الناس) يبين أنه مهما كان العمل حسنا فإن الإنسان إذا قام به مراءاة للناس فهذا سيئ جدا، لأن المتصدق تبطل صدقته عندما يتبعها بالمن والأذى، أما المرائي فتبطل صدقته بمجرد تفكيره في المراءاة.على أية حال، يقول الله تعالى إن الذي يُتبع صدقته بالمن والأذى تضيع صدقته مثلما تضيع صدقة وإن لم يفكر في الرياء وقت الصدقة إلا أن فعله هذا يدل على أن في قلبه رياء كامنا، وإلا لم يمنن على أحد ولم يؤذه.المرائي، لأنه وعند الحديث عمن ينفق ماله رئاء الناس أضاف قوله ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) لأن الإنسان أحيانا ينفق ماله أمام الناس لحضهم على الإنفاق.كما قال الله في موضع آخر (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند

Page 704

V+1 سورة البقرة الجزء الثاني ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة : (۲۷۵) فتؤكد هذه الآية أن القيام بالعمل الحسن علانية أمام الناس يُكسب المرء ثوابا بشرط أن تكون نيته حسنة..أي حض الناس وترغيبهم في عمل الخير.أما إذا كانت نيته الرياء والفخر والمباهاة أمام الناس ضاعت أعماله الحسنة..كمثل صخرة عليها شيء من التراب..إذا نزل عليها المطر فإنه بدل من أن ينبت نباتا صالحا مفيدا يجرف التراب ولا يُبقي أي إمكانية لإنبات بذرة هناك.الواقع أن الإنسان عندما يأتي بعمل حسن فإنه يريد أن يعلم الآخرين بعمله هذا، فالبعض يريد ذلك تفاخرا وتباهيا، بينما البعض يريد ذلك بنية أن يُنتفع بعمله هذا.لذلك مرة يقول القرآن لا تكونوا كالذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ومرة أخرى يقول (وأما بنعمة ربك فحدث (الضحى).وهذا الحديث عن نعم الله ليس رياء، وإنما لكي يسعى الآخرون لنيل هذه النعم.فليس كل إظهار للعمل رياء، وإنما يكون أحيانا من الرياء وأحيانا من الحسنات.فمثلا لو ارتدى المرء رداء بهيا وخرج للناس ليتحدث الناس عن ثرائه فهذا تفاخر ورياء، أما إذا فعل ذلك وخرج يوم العيد أو يوم الجمعة عملا بسنة الرسول الله وأمره فهذا ليس من الرياء في شيء، أو مثلا لو كان هناك وباء منتشر وعند الإنسان كمية من الدواء، فيعلن للناس عن توافر هذا الدواء عنده..فهذا لا يعتبر رياء، ولن يقول عاقل إنه يتظاهر بذكائه أمام الآخرين، بل إن كل شخص ينتفع من هذا الدواء الذي يقيه من المرض.الله فيكون عمله رياء إذا لم يكن مؤمنا بالله واليوم الآخر، أي لا يبتغي ثوابا من تعالى، وإنما يريد أن يغبطه الناس.أما إذا قام الإنسان بعمل الخير أمام الناس وقلبه مطمئن بالإيمان بالله واليوم الآخر..ترغيبا لهم في عمل الخير..فلا يمنع الله ذلك، بل يثنى عليه ويقول: (إن) تبدوا الصدقات فنعما هى، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) (البقرة: ٢٧٢).من والمعنى الثاني أن المرائي لا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، إذ لا يَمُنُّ إِلا الذي ليس مؤمنا بالله واليوم الآخر.لو كان يعتبر أن هذه النعمة من الله تعالى ومنه يرجو

Page 705

۷۰۲ سورة البقرة الجزء الثاني الأجر..لم يرغب في الثناء من الناس على عمله كذلك لو اقتنع أنه ينال على إنفاقه في سبيل الله أجرا في اليوم الآخر ما فكر في أن ينال أجره من المسكين الذي أعانه بشيء من المعونة.لذلك استخدمت الآية كلمة (المن) وبإزائها (رئاء الناس)، وكلمة (أذى) ومعها كلمة (لا يؤمن بالله واليوم الآخر..لأن المن يكون وراءه مراءاة الناس، والأذى يحدث عندما لا يتوقع المرء جزاء من وليس في قلبه يقين بالله واليوم الآخر.الله ثم قال فمثله كمثل صفوان عليه تراب.وهنا بين الله مثالا آخر، فقال إن من ينفق رئاء للناس ينفق فعلا، ولكنه كمثل صخرة عليها تراب، فيترل عليها مطر شديد، وبدلا من أن يروي التربة لتنبت زرعا فإنه يجرفها ويزيل كل ما عليها من تراب.فهذا الذي يتصدق بماله كانت به بعض الخصال الطيبة، ولكنه بعد ما أتبع صدقته المن والأذى أو فعلها رياء للناس فإنه حوّلها إلى سيئة قبيحة، وبدلا من أن تنفعه جعلها ضارة به.وكأنه أضاع الأمل - وإن كان ضئيلا- في أن ينبت نباتا من عمله الصالح.وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٢٦٦) شرح الكلمات: ابتغاء-حالٌ ابتغاء - حال أي (وهم يبتغون)، أو مفعول له أي (ينفقون لابتغاء مرضاة الله).تثبيتا حال، أي وهُم يثبتون أنفسهم، أو مفعول له أي لتثبيت نفوسهم على ما يريدون تثبيتها عليه من أفعال الخير.بربوة الربوة: ما ارتفع من الأرض (الأقرب).

Page 706

الجزء الثاني سورة البقرة الوابل-المطر الشديد والضخم القطر (الأقرب).أفعاله ضعفين بالزيادة مرتين وأصلها ضعفا ضعفا (الأقرب).فطل-الطل: أضعف المطر؛ الندى (الأقرب).التفسير: استخدمت كلمة ربوة هنا، لأن المكان المرتفع يبقى دائما في مأمن من الفيضانات.عندما يتزل المطر يجتمع الماء في الأراضي المنخفضة ويضر الزروع، ولكن الأماكن المرتفعة تأخذ كفايتها من الماء وتبقى الزروع بمأمن من الضرر، ويزداد محصولها ضعفين، ولو كان المطر قليلا أفاد الزرع أيضا.بهذا التمثيل بيّن الله أن قلب المؤمن الصادق كبستان فيه أشجار خضراء من الحسنة، كلما تصدق وعمل الخير نال نتائج مباركة طيبة لصدقته حتى وإن كانت قليلة المقدار كالندى ولما كان أصحاب مثل هذه الصدقات القليلة من الفقراء، فمن الممكن أن يقولوا: صدقاتنا قليلة وليست كالوابل، لذلك قال الله: إذا لم تكن وابلا فالطل فيه الكفاية، ويزيد البستان ثمارا.فكأن صدقات الأثرياء بمثابة وابل، وصدقات الفقراء – الذين قال الله في حقهم (لا يجدون إلا جهدهم) (التوبة: (۷۹) فهي بمثابة الطل.ولما كانت قلوبهم عامرة بالإخلاص والتقوى..لذلك قال الله إن إنفاقهم القليل أيضا سوف ينفع زرع أعمالهم ويجعله مخضرا نضرا؛ لأن الله يجازيهم بحسب ما في القلوب من إخلاص، وليس بحسب مقدار المال.وكان الصحابة -رضوان الله عليهم من هذين النوعين.كان منهم الفقراء الذين ينفقون قليلا جدا، وكان منهم الأثرياء الذين ينفقون كثيرا.وكان من الممكن أن يدور بخلد الفقراء أن إنفاقهم لا يمكن أن يكون وابلا فطمأنهم الله وقال: إذا لم يكن وابلا فالطل فيه الكفاية والنفع كنفع الوابل.وبقوله ( والله بما تعملون بصير أشار إلى أن الله يرى حقيقة العمل؛ ولا يبالي بشكل العمل.فالذين ينفقون أقل من غيرهم، ولكنهم ينفقون بصدق حسب حالهم..سوف يكون طلهم نافعا نفع الوابل.

Page 707

٧٠٤ سورة البقرة الجزء الثاني ولنتذكر أن الله ذكر هنا غرضين للإنفاق في سبيله : الأول ابتغاء مرضاة الله، وهو الغرض الأعظم والهدف الحقيقي، والثاني تثبيتا من أنفسهم.فالواجب أن يكون الغرض من الإنفاق هو كسب رضوان الله وتقوية القوم؛ إذ في رعاية الفقير نفع للمنفق نفسه ذلك لأن الصدقات تهيئ الفرص لرقي الفقراء ليكونوا جزءا نافعا للمجتمع.فالأمم التي يكون معظم أفرادها منهارين لا يمكن أن تكون أمة قوية، لأن هؤلاء المتخاذلين يكونون عبئا عليها، ويعرقلون تقدمها نحو الازدهار.لذلك نرى الأمم الأوروبية التي لا علاقة لها بالله يُكثرون من الصدقات وفعل الخيرات، لأن ازدهار الفقراء عامل هام في ازدهار مجموع الشعب.والمعنى الآخر لقوله تثبيتا من أنفسهم أن المؤمن عندما ينفق لمساعدة الضعفاء الذين لا سند لهم فإن الله يعينه ويهيئ له أسباب الازدهار.وإلى هذا المعنى أشار الرسول بقوله من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) (مسلم، البر والصلة).ثم هناك فائدة روحانية للإنفاق.فعندما ينفق الإنسان في سبيل الله فإن إيمانه يتقوّى ويزداد، لذلك نصحت جماعتي وقلتُ مرارا إن الضعيف من الناحية الدينية..وإن لم يشترك في كثير من الحسنات الأخرى..ينبغي أن نجعله يشترك في التبرعات، لأنه عندما ينفق من ماله يزداد إيمانا وشجاعة على عمل الخير، مما يجعله يُقدم على عمل الحسنات الأخرى.أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٧) شرح الكلمات : نخيل-أشجار النخل أو بستان النخل (الأقرب).الكبر - كبر الرجل أو الدابة : طعن في السن (الأقرب).

Page 708

۷۰۵ سورة البقرة الجزء الثاني إعصار - ريح ترتفع بتراب بين السماء والأرض وتستدير كأنها عمود.وتُستخدم الكلمة للتعبير عن الشدة، يقول العرب: إن كنتَ ريحا فقد لاقيت إعصارا (الأقرب)..أي إذا كنت شديد المراس فقد وجدت من هو أشد منك.التفسير : الآن يضرب الله تمثيلا آخر كي يبرز أهمية الإنفاق في سبيله.فيقول إذا كان عند المرء مال قليل ثم ضاع منه فإنه يتأسف عليه، ولكن إذا كان عنده بستان من النخيل والأعناب تجري خلاله الأنهار ، ويؤتي أنواع الثمار، وكان المرء كبير السن، لا يأمل في البقاء حيًّا لمدة أطول، وذريته من صغار السن لا يُرجى منهم كسب أو جهد..فهل يتمنى هذا الشيخ المسن أن يأتي إعصار على بستانه ويحرقه؟ لقد استخدم هنا كلمة إعصار لأنه شديد السرعة، عنيف الأثر، يحدث الحريق ويصعب إطفاؤه.ويُرى هذا المشهد في حرائق الغابات أثناء الأعاصير.لو كان مال المرء قليلا لتعزى بأنه لا حرج في ضياعه فإنه قليل ضئيل ويوشك على النفاذ، ولو لم يكن طاعنا في السن لأمل أن أبناءه سوف يكبرون في حياته ويكتسبون المال ويعولون أنفسهم.ولكن إذا كان صاحب مال كثير، وهو في أرذل العمر، وله أولاد صغار..فإنه لا يريد أبدا أن تدمر أمواله أو تحترق ثروته هكذا في حادث.ويمكن أن تقدروا صدمته إذا حلت به هذه المصيبة واحترق بستانه وضاعت ثروته كلها وصارت رمادا هكذا يكون يوم القيامة حال أولئك الذين لا ينفقون أموالهم في سبيل الله في هذه الدنيا.لن يجدوا في أيديهم مالا ولن تنفعهم أولاد..لذلك قال: فكروا في مصيركم.تستطيعون اليوم أن تفعلوا ما تريدون ولكنكم لن تستطيعوا التصرف يوم القيامة.إذا أنفقتم اليوم أموالكم في سبيل الله فسوف تدَّخر لكم عند الله وسوف تنتفعون منها، وإلا تملكون.استخدم في الآية تعبيرا (ذرية ضعفاء) للتحذير خاصة..يقول: إذا كنتم لا تريدون لأولادكم في هذه الدنيا وهي حياة محدودة أن يؤول حالهم إلى عدم الحيلة..فلماذا لا تهتمون بنفوسكم التي تكون يوم القيامة أضعف من الطفل الصغير؟ لماذا لا تفكرون ولا تتدبرون؟ فأين من العقل أن تضيعوا نعمة الإيمان أو نعمة رضوان الله

Page 709

٧٠٦ سورة البقرة الجزء الثاني التي سوف تنفعكم أنتم..في وقت تكونون أضعف حيلة من الطفل الصغير؟ فاحذروا من الآن وادَّخِروا من الحسنات قبل أن يأتيكم الموت.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٨) شرح الكلمات: الخبيث - النجس؛ الرديء المستكره (الأقرب).لا تيمموا-تيمم الشيء: تعمَّدَه فمعنى قوله (ولا) تيمموا الخبيث) أي لا تختاروا الشيء الرديء عن قصد لتنفقوه في سبيل الله.أن تُغمضوا أغمض عينيه: أطبق أجفانهما.أغمض عن الشيء: تجاوزه.أغمض على كذا تحمّله ورضي به الأقرب).فمعنى إلا أن تغمضوا فيه): ١- تأخذوه مغمضي العين؛ ۲ - تتجاوزوا عن فعله هذا وتقبلوا ما يعطيكم؛ ٣- تأخذوه لأجله.التفسير: نصح الله هنا المؤمنين أن ما ينفقون في سبيله يجب أن يكون مما كسبوه بأيديهم ومن خير مالهم لا أن يستولوا على أموال الآخرين وينفقوا منها.هناك من الناس من يجدون في قلوبهم حماسا لإعانة الفقراء، فيشرعون في السرقة وقطع الطرق، ثم ينفقون معظم ما يجمعونه من هذا الطريق على الفقراء.والذين لا يقفون على فلسفة الأخلاق يمدحون عموما هؤلاء السارقين.ويقولون: إن هذا السارق رجل طيب لأنه يعين الفقراء.يقول الله: ليس من الخير في شيء أن يسرق الإنسان أموال الآخرين ويستولي عليها ثم يوزعها على الفقراء، فهذا ليس الطريق الصحيح لإعانة الفقراء، وإنما واجبكم أن تُنفقوا مما كسبتم بأيديكم، ثم اتركوا الباقي الله تعالى.إن إعانة الفقراء بسلب أموال الآخرين هي بمثابة إطفاء النار بالزيت.إذا رأيتم كثرة الفقراء فإطعامهم ليس ،واجبكم وإنما عليكم أن تنفقوا عليهم بقدر استطاعتكم، ودَعُوا الأمر بعد ذلك الله.

Page 710

الجزء الثاني ۷۰۷ سورة البقرة ولا يعني وقوله (من) طيبات ما كسبتم لا يعني أن بعض أموال المؤمن حلال وبعضها حرام، أن الآية تطلب منه ألا ينفق من الحرام وإنما يختار الحلال فقط.بل الحقيقة أن (طيبات) هي صفة ما كسبتم فالمراد أن ما كسبتم هو من الحلال؛ وعليكم أن تنفقوا منه في سبيل الله، سواء كان مالا أو علما أو غيرهما.وكأن قوله (من طيبات ما كسبتم) ثناء على المسلمين، أشار فيه بأن مالهم حلال وطيب دائما، وليس فيه شائبة.ثم يجب أن نعلم أنه لم يأت بكلمة (طيبات) مقابل حرام)، وإنما جاء بها مقابل (خبيث)..والمعنى أنكم لن تكونوا منفقين في سبيل الله حقا ما لم تنفقوا من أفضل أموالكم وأحبها.قد يعطي الإنسان الفقراء ما عنده من أشياء مستعملة، ولا مانع من إعطائها، كأن يعطي بعض ثيابه المستخدمة لفقير ينتفع بها، وهذا ليس ممنوعا بل يثاب عليه؛ ولكنه بإعطاء هذه الأشياء المستعملة لا يكون من العاملين بأمر الله أنفقوا من طيبات ما كسبتم وإنما يؤدي واجب الإنفاق في سبيل الله إذا أعطاها وهي صالحة للاستخدام، وفي حالة جيدة، ومن خير ماله، لكي تكون لتضحيته عظمة.وقوله (ومما أخرجنا لكم من الأرض..أي أنفقوا من المستخرج من الأرض.الحقيقة أن هناك نوعين من المال الأول - ما يكسبه الإنسان بالتجارة والوظيفة، والثاني: ما وضعه الله من الخيرات في الأرض ويستخرجها الإنسان ببذل الجهد..مثل الزروع والأشجار والمعادن والأحجار الثمينة في الأرض، فكل هذه تندرج تحت (ومما أخرجنا لكم من الأرض.يقول الله: سواء كسبتم المال بتجارة أو حرفة أو وظيفة أو مما تنبته الأرض أو مما يخرج منها من معادن..فعليكم أن تنفقوا من كل ذلك جزءا في سبيل الله.وفي قوله (ولا تيمموا الخبيث استخدم كلمة (الخبيث) على إطلاقه دون تحديد لما هو خبيث.فيمكن أن يفسر بعدة معان منها: أولا لا تعطوا ما يكون في ذاته خبيثا لا يصلح للاستعمال لا لكم ولا لغيركم.وهذا لا يندرج تحته ما لا يصلح للمعطي ولكنه يصلح للمعطى له.

Page 711

۷۰۸ سورة البقرة الجزء الثاني وثانيا - لا تعطوا شيئا يكرهه من تعطونه إياه وبذلك علم أنكم إذا أعطيتم أحدا شيئا فينبغي مراعاة مشاعره كيلا يكدر خاطره أو كيلا يُحرم من الانتفاع من الشيء.وثالثا - بناء على معنى التيمم..لا تتحروا للإنفاق أشياء غير مرغوب فيها لرداءتها.وقوله (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) يعني لا تنفقوا في سبيل شيئا إذا أعطيتموه لم تقبلوه إلا خجلا.وقوله (واعلموا أن الله غني (حميد بين فيه أن هذه الصدقات إنما هي لصالحكم، وليس لله حاجة إليها.فإذا أنفقتموها في سبيله أو آتيتموها عباده فكأنكم قدمتموها له سبحانه ولذلك عند إنفاقها ضعوا في الاعتبار عظمة الله.إنكم عندما تتعاملون مع الناس في الدنيا تراعون مقامهم ومنزلتهم مع أنهم خلق مثلكم، وإذا أنفقتم الصدقات تريدون بها رضوان الله فلماذا لا تراعون عظمته وشأنه جل وعلا.إنه (غني) ليس بحاجة إلى أي مساعدة منكم، وإنما أنتم محتاجون إليه.ثم إنه تعالى (حميد) يستحق كل حمد، فعاملوا عباده معاملة محمودة كي يعاملكم بمثلها.الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ٢٦٩) شرح الكلمات : يعدكم وعده الأمر : قال له إنه يجزيه له أو يُنيله إياه.ويقال: وعدت الرجل خيرا أو شرًا.قال الأزهري: كلام العرب وعدت الرجل خيرا ووعدته شرا: وأوعدته خيرا وأوعدته شرا (الأقرب).وغلب استخدام (أوعد) في الشر ما لم يكن هناك قرينة صارفة.وبالمثل يكثر استخدام (وعد) في الخير ما لم تكن هناك قرينة صارفة إلى معنى الشر..كأن يُذكر معه مفعول به، مثلا يقال: وعده الأمير بعشر جلدات، فالمعنى هنا بالشر.وكذلك في هذه الآية ورد بمعنى الشر لأن المفعول به هو الفقر وهو شر، والمراد يخوفكم الشيطان الفقر.

Page 712

۷۰۹ سورة البقرة الجزء الثاني الفحشاء-كل ما يشتد قبحه من الذنوب؛ البخل (الأقرب).التفسير : يقول الله: إن الشيطان يخوفكم الفقر، سواء كان تخويفه من تضحيات المال أو تضحيات النفس أو من أي نوع آخر.يقول لكم الشيطان إذا أنفقتم المال في سبيل الله فلن يبقى لكم شيء لسد حاجاتكم، ويترل بكم الفقر وتضطرون لسؤال الناس؛ أو إذا بذلتم أنفسكم هلكتم ودمرتم.وإلى جانب ذلك يحرضكم الشيطان على الفحشاء، ويحتكم على ارتكابها ولو بإنفاق المال دون هوادة.فكأن الإنسان إذا سلك طريق الخير يهب الشيطان ناصحا مشفقا يمنعه عن سلوكه؛ أما إذا اتجه إلى الشر شجّعه الشيطان على المضي قدما فالمؤمن يضحي والكافر أيضا يضحي، ولكن الأول يضحي لوجه الله تعالى، أما الثاني فيضحي لأمور تنأى به عن الله تعالى.والمعنى الثاني أن الشيطان يعد الإنسان من حيث الظاهر بالراحة والسكينة والمال والرخاء، فيقول: إذا لم تنفق في سبيل الله صنت مالك وأصبحت ثريا..تحوز الأملاك والعقارات، وتجمع أنواع المتاع والأثاث ولكن الواقع أنه يدل الإنسان على طريق الفقر والدمار والذل والهلاك.ذلك أن الأمم التي لا تعتني بالفقراء وتصرف همها إلى متعتها وراحتها تدمر وتباد..كما هو الظاهر من حال الأمم الميتة التي صارت كالجثث الهامدة.ثم يقول: ويأمركم بالفحشاء والفحشاء ما هو واضح القبح والفحش، أو هو البخل.فالمعنى أن ما يأمركم به الشيطان واضح العيب والفحش.فالمعنى الأول: إنه يأمركم بالبخل مع أن البخل عادة قبيحة؛ وكان العرب خاصة يكرهون البخل كراهية شديدة، أو المعنى أنه يأمركم دائما بما هو سيئ، فكأنه يأمر بما هو سيئ فعلا وأيضا بما هو ضار بالإنسان في كرامته وعزته.وهذان الأمران هما اللذان يمنعان الإنسان من فعل شيء.فإما أن ينظر الإنسان إلى عزته وجاهه، أو ينظر إلى منفعته.

Page 713

۷۱۰ سورة البقرة الجزء الثاني وفي مقابل ذلك يقول تعالى (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا)..أي أنه سوف يستر عيوبكم، ويمحو خطاياكم ثم يعطيكم أكثر من ذي قبل.ولم يطلق كلمة (مغفرة) لا يُظن أنها من العباد للعباد، وإنما قال مغفرة منه ليشير إلى أنها منه سبحانه، ولم يعد الله بالمغفرة فقط، بل يزيد عليها الفضل أي يكتب لكم مزيدا من الازدهار ويفتح عليكم أبواب البركات.حتى وإذا كان المراد بالفقر في قوله ( يعدكم الفقر) هو الإفلاس والاحتياج، فالمعنى أن الشيطان يعتبر الفقر شيئا خطيرا، أما الله تعالى فيرى الإثم هو الشيء الخطير.لذلك أولا قدَّم الفقر..أما هنا فقدم المغفرة..وهكذا بين الفرق بين الجماعات الشيطانية والجماعات الربانية فيما يتعلق بتعظيم الأشياء.وكان الخليفة الأول عند تفسير قوله تعالى الشيطان يعدكم الفقر يضرب مثالا ما حدث في ولاية (أوده) بالهند، ذلك أنه لما وقع الخلاف بين الإنجليز وحاكم (أوده) حذر الإنجليز كبار هذه الولاية ممن كان لهم أموال في البنوك الإنجليزية في (كلكتا)، و هددوهم أنكم لو تصديتم لنا وساندتم الحاكم ضدنا فسوف نصادر أموالكم في بنوكنا.فسكت هؤلاء ولم يحركوا ساكنا خوفا من الفقر، وأخيرا جاء الإنجليز واعتقلوا حاكم الولاية.ولكن الأمم الغربية الأوربية معتادة على التضحية، ولا تبالي بهذه التهديدات.ففي الحرب العالمية الأولى (۱۹۱٤ - ۱۹۱۸ ) كان هناك الملايين من أموال الإنجليز في بنوك ألمانيا، وبالمثل كان للألمان الملايين عند الإنجليز، فلم يبالوا بذلك ودخلوا الحرب بكل شدة وقوة.فالأمم الحية تعرف أن الأموال للإنفاق، فلا تتردد في إنفاقها، ولكن الأمم التي تبخل بالأموال ولا تنفقها على الفقراء فإنها تتضرر.يقول الله هنا: إن الشيطان يخوفكم الفقر، ولكن نتيجة اتباعه هو الدمار.عندما تعاملون إخوانكم الفقراء معاملة سيئة فإن أعداءكم سوف يرمونكم بخسة الطبع، إذ لا تراعون الفقراء منكم وإزاء ذلك يعدكم الله أنكم إذا تصدقتم فسوف تنالون مغفرة منه.أي أنكم عندما تنهضون بفقرائكم وتنفقون عليهم فسوف تختفي عيوبكم، لأن من ينفع الناس يستر الناس عيوبه.

Page 714

الجزء الثاني ۷۱۱ سورة البقرة الله أما إذا أخذنا بالمعنى الآخر وهو أن ما يأمركم به الشيطان يوقعكم في الفقر..فإن قوله تعالى (والله يعدكم مغفرة منه وفضلا) يعني أن ما يأمركم به الله نتيجته الأولى أن الناس سوف تستر عيوبكم، لأنكم سترتم عيوبهم، وهكذا تصبحون من الصالحين عند الناس وعند الله أيضا.ونتيجته الثانية أنه في هذه الدنيا أيضا تزداد أموالكم، لأن القوة الاقتصادية للقوم تزداد إذا أنفق الأثرياء في المشاريع القومية وفي تحسين أحوال الفقراء، فينتفع الفرد نفسه ماديا أيضا.أما في الآخرة فإن ما يعطيه إياه جزاء على إنفاقه لا يتصوره خيال.ثم يقول (والله واسع عليم)..أي إذا اتبعتم أوامر الله، فإن عنده كل شيء وسوف يجزل لكم العطاء، بل لا يمكن أن تقدروا سعة وعده بالمغفرة، ولا أن تتخيلوا معنى وعده بالفضل لأنه واسع.ثم إنه عليم..مطلع على كل صغيرة وكبيرة تأتون بها، ولا يخفى عليه شيء، وسوف يُعِينكم بطرق لا تخطر ببالكم.تدبروا هذه الآية وتأملوا ترتيب كلماتها الرائع.ففى الجزء الأول قدّم (الفقر) على (الفحشاء)، وفي الجزء الثاني قدم (المغفرة) على (الفضل)، مع أن الظاهر يقتضي أن يقدم الفضل على المغفرة لأنه يقابل الفقر.ثم يذكر المغفرة لأنها تقابل الفحشاء.لهذا الترتيب سببان: ظاهري، وروحاني.الظاهري هو أن الشيطان أولا يخوف من الفقر ثم يأمر بالفحشاء؛ ونتيجة لذلك ينصب على القوم الانحطاط والزوال، ثم يشتهر اسمه بالعار في العالم كله وإزاء ذلك يعامل الله هذا القوم أولا بالمغفرة ثم ينزل عليهم فضله حتما..ذلك إذا تجاهلوا أمر الشيطان وعاملوا إخوانهم الفقراء بالحسنى.هذا هو السبب الظاهري، ولكن هناك سببا روحانيا لهذا الترتيب.ذلك أن الشيطان يهتم بالمال أكثر من العزة والصيت، لذلك عندما ذكر هنا ما يفعله الشيطان ذكر المال أولا، ثم ذكر العزة والصيت.ولكن تأتي العزة والسمعة عند الله في المرتبة الأولى، ولذلك عندما ذكر ما يفعل الله تعالى فإنه ذكر المغفرة أولا ثم الفضل..أي أنه فضل الصيت والشرف على المال.كما أنه بهذا الترتيب بين الفرق بين الأديان الصادقة والأديان الباطلة، فهذه تؤثر المادة والدنيا، أما الصادقة فتُؤثر الدين لأن الآية تصرح بوضوح تام أن هناك من

Page 715

الجزء الثاني ۷۱۲ سورة البقرة ينفق الأشياء الرديئة خوفا من الفقر، وهناك من ينفق الحسن الطيب الأفضل لكي يزداد إيمانه ويرتقي فيه.يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُوْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ (۲۷۰) شرح الكلمات الألباب اللُّب خالص كل شيء؛ العقل؛ الخالص من الشوائب أو ما زكا من العقل.فكل لب عقل ولا عكس (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى إنها أسرار الرقي التي يكشفها لكم رسولنا مصداقا للدعاء الإبراهيمي الذي سأل فيه أن يبعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة..أي يكشف عليهم أسرار الرقي القومي.وتذكروا أن تعلم الحكمة ليس شيئا هينا، إنما إذا أُعطي أحد شيئا من الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.إذا وفق المرء لعمل حسن فهذا خير ، ولكن أن يطلع على أسرار الرقي في الحسنات أو أن يعرف حكم الأمور فهذا خير كثير، بل هو بمثابة أن يجد الإنسان منجما للجواهر الثمينة كالماس.فليس من شك أن كل تعليم حسن موجود في القرآن الكريم، ولكن إذا أدرك الإنسان الحكم وراء هذه التعاليم ازداد حماسا للعمل.أما في حالة عدم معرفته بها فإنه يتكاسل في العمل بها.فالاطلاع على حكم الأوامر نافع ومفيد جدا.ولكن الناس يقول الله لا يتذكرون ولا ينتصحون رغم ذلك، إلا الذين لا ينظرون إلى المصالح الشخصية وإنما عينهم على المنافع القومية، فهم الذين ينتفعون من هذه الأمور.

Page 716

الجزء الثاني ۷۱۳ سورة البقرة وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنصار (۲۷۱) شرح الكلمات: نذرتم نذر أوجب على نفسه ما ليس بواجب؛ أوجب على نفسه تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك.وقيل النذر ما كان وعدا على شرط (الأقرب)، كأن يقول أحد: إذا تمكنت من إنجاز عمل كذا فسوف أتصدق بكذا.التفسير: يتبين من كلمات الآية أن ما تنفقون وتنذرون يجب أن يكون صالحا للنفقة والنذر.يتضح من الحديث أن النبي ﷺ لم يكن يحب النذر، ولكن إذا نذر أحد شيئا فمن واجبه أن يفي بنذره (مسلم، النذر).و لم يحبذ النبي النذر لأنه نوع من المساومة، والمساومة مع الله عز وجل ليست بأمر مستحب.على الإنسان أن ينهمك في إعطاء الصدقات وفعل الخيرات والدعاء بدلا من النذر.نعم، إذا تصدق الإنسان وفعل الخير ودعا ربه، ثم نذر شيئا تعبيرا عن الشكر الله فلا حرج في ذلك.نستنبط هذا من قول الإمام المهدي، فعندما كان يأتيه الناس طالبين الدعاء كان يقول: سوف أدعو لك، ولكن عليك أن تحدد في قلبك مبلغا تنفقه في خدمة الدين عندما يتحقق ما تريد.ويتبين من هذا أن الإنسان لو نذر شيئا شكرا لله على تحقيق الله ما أراد فلا حرج في ذلك؛ بشرط أن يقوم إلى جانب ذلك بالتوسل والتضرع والبكاء إلى الله، وإيتاء الصدقات وفعل الخيرات.وبقوله (فإن الله يعلمه) بين أنكم إذا أنفقتم في سبيل الله أو نذرتم نذرا على أنفسكم، ثم وفيتم بنذركم هذا..فإن الله يعلم ذلك، ويعلم كم أعطيتم وكم أنفقتم ويعلم بأي إخلاص وبأي عاطفة إيمانية تصدقتم ولسوف يُجازيكم بحسب هذا، ولن يضيع إنفاقكم هذا، بل سيُنزل بسببه بركات كبيرة.ويتضمن قوله (فإن الله يعلمه إشارة لطيفة إلى أن الإنفاق والنذر وحدهما لا يكفيان، بل لا بد أن تكون النية أيضا صالحة، لأن النية تتعلق بالله تعالى، وهو يعلم ما إذا كان الإنفاق للرياء والسمعة والصيت أم لنيل رضوان الله ولخدمة الإنسانية.

Page 717

٧١٤ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله (وما للظالمين من أنصار يوجه النظر إلى أن كل إنسان يكون له أصدقاء قليلون أو كثيرون، ولكن الظالم عندما يحتاج إلى عون من أهل الدنيا فإن أصدقاءه الذين يستطيعون أن ينصروه هم أيضا يتخلون عنه، فيصبح وحيدا طريدا.أما من الناحية الروحانية فالعبارة تعني أن النصير الحقيقي هو الله وملائكته والصالحون من عباده وأوليائه، ولكن الظالم لا ينال نصرة منهم، فيصبح وحيدا منبوذا جزاء على جريمته.أحد والمراد من (الظالمين) هنا من يترددون عند الإنفاق في سبيل الله، ويبخلون، ويرون أن الإنفاق يسوقهم إلى الإفلاس والفقر.هؤلاء بظنهم وعملهم هذا يظلمون أنفسهم.يقول الله: إن نظرتهم هذه نظرة خاطئة من الناحية الدنيوية والروحانية أيضا.إن الذي ينفق على الآخرين ،ماله ويساهم في الأعمال الخيرية، أو في المرافق القومية، فإن الناس يُقبلون على مساعدته إذا احتاج ذلك، أو على الأقل يتعاطفون معه ويشجعونه معنويا، ولكن الذي يكف يده عن مساعدة الفقراء ولا يواسي الناس عند حلول الشدائد بهم فإنه يبقى ثَمِلاً وقت الرخاء، أما عند نزول المصائب والآفات به فإن الناس لا يبدون نحوه أي مواساة..مع أن كل إنسان مهما كان كبيرا – بحاجة إلى عون الآخرين عند حلول المصيبة به.أما من الناحية الروحانية فالبديهي أن الذي لا ينفق في سبيل الله تعالى أو لا يهتم بالعناية والنهوض بالفقراء فلن يحظى بنصرة من الله الملائكة، أو ينال دعاء من عباد الله الصالحين.إنه يبقى محروما من هذه النعم كلها، ويلقي بنفسه إلى التهلكة.

Page 718

الجزء الثاني ۷۱۵ سورة البقرة إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (۲۷۲) شرح الكلمات : يكفر عنكم كفر الشيء: ستره.كفّر الله له الذنب : محاه.وكفّر عن يمينه: أدّى عنها الكفارة (الأقرب).فقوله: (يكفّر عنكم يعني يستر تقصيراتكم ويمحو ذنوبكم.التفسير: في هذه الآية قال الله عن الصدقات التي يقوم بها الإنسان علنا (فنعما هي) وعبارة (نعما هي) أصلها: نعم هي (تفسير الخازن).وهذا أسلوب مخصوص بالمدح، والمراد: نعم الشيء شيئا.أما الصدقات التي ينفقها سرا فقال عنها (فهو خير لكم ذلك لأن الإنفاق العلني يؤثر في الآخرين ويحضهم على الإنفاق، أما الإنفاق السرّي فيؤثر في قلب المنفق نفسه ويحميه من الكبر والمن والأذى.فكأن قوله (فنعما هي إشارة إلى سعة نطاق هذه الصدقات وإلى كونها من درجة أدنى، وقوله (خير لكم إشارة إلى ضيق نطاقها وكونها من درجة عليا.وقوله (إن تبدوا) إشارة إلى النفقات القومية، أما قوله (إن تخفوها فإشارة إلى النفقات الفردية؛ الإنفاق الأول ينفع القوم كله والثاني ينفع صاحبه فقط ولذلك أضاف (خير لكم).وقوله (إن تبدوا الصدقات فنعما هي) يبدو أكثر أهمية من زاوية نظر أخرى، لأنه لم يحصر خيرها في أحد أما في الإنفاق السري فبيّن أنه خير لكم.وذلك لبيان أنكم لو أظهرتم الصدقة فسوف ينتفع بها الآخرون أيضا، لأن الناس عندما يرون أحدا يتصدق يقلدونه، ويتحمسون للعناية بالفقراء.لقد قال الرسول ﷺ: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (البخاري، الجمعة).فالراعي تقلده رعيته، فإذا تصدق أحد فإن أبناءه وإخوته وأقاربه وخدمه وأصدقاءه ومعارفه سوف يقلدونه ويتصدقون، وهكذا ينتشر هذا الخير.

Page 719

الجزء الثاني ٧١٦ سورة البقرة والفائدة الأخرى للإنفاق العلني أن الجيل القادم ينتفع به، ويتعود الصغار على البذل الله، لأنهم عندما يرون كبارهم يتصدقون يعرفون أن الصدقة عمل حسن، وهكذا تتم تربيتهم على الخير.في سبيل والفائدة الثالثة للإنفاق العلني أن الناس لا يعرفون أن فلانا يستحق العون في بعض الأحيان، ولكن عندما يرون أحدا يعينه فإنهم يعرفون بحاجته ويمدون له يد العون.وقوله (وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم يعني أن الإنفاق السري خير طريق لإصلاح أنفسكم، لأن الرياء المحتمل مع الإنفاق العلني لا يتولد مع الإنفاق الخفي.بل ذكر جزاء آخر فقال: إذا سترتم فقر الآخرين عند الإنفاق عليهم فإن الله يعاملكم بنفس المعاملة ويكفر عنكم من سيئاتكم).و(من) يمكن أن تكون تبعيضية أو زائدة فالمعنى الأول، باعتبار (من) للتبعيض..أن الله سوف يمحو بعض سيئاتكم، ولذلك لم يقل (يكفّر لكم) بل قال (يكفر عنكم)، ذلك أن ذنوب الإنسان على نوعين: نوع يتعلق بالناس، ونوع يتعلق بالله تعالى.فالله يغفر ما ارتكب الإنسان من ذنوب في حقه، ولكنه لا يغفر الذنوب المتعلقة بالعباد ما لم يغفرها هؤلاء فكأنه قال: لو سترتم عيوب الفقراء، وأنفقتم عليهم في الخفاء حتى لا يعرف الآخرون ضعفهم فإن الله تعالى سوف يمحو بعض سيئاتكم، أي يغفر لكم ذنوبكم في حقه.يصبح والمعنى الثاني أن الله يؤدي كفارة مساوئكم نيابة عنكم؛ أي أن الله يُعطي من ارتكبتم الذنوب في حقه الجزاء المناسب عليها، ويقول له: هذا تعويض عما ارتكبه عبدي في حقك فاغفر له وهكذا يدبر لمغفرة الذنوب التي ارتكبها الإنسان في حق غيره من العباد.ذلك أن الإنسان إذا وصل في عمل الخير حدا معنيا فإن الله وكيلا له أو محاميا عنه فيدبر لمغفرة ذنوبه في حق الآخرين، ويؤدي من عنده كفارة ذنوب العبد.ومن معاني العبارة أيضا أن الله يستر عيوبكم عن عيونكم.الحقيقة أن الإنسان - مهما قيل له أن ذنبه قد غُفر يبقى في قلبه اختلاج وقلق بأن ارتكب ذنبا كذا،

Page 720

الجزء الثاني ۷۱۷ سورة البقرة ولا ينفك يشعر بالندم والخجل، لذلك يقول الله إنه سوف يستر ذنوبكم عن أعينكم.أي أنه سوف يُنسيكم ذنوبكم ولن يبقى لها أثر في أذهانكم وذاكرتكم.سبحان الله! ما أكمل القول الإلهي: (ويكفر عنكم من سيئاتكم) وأبلغه! إنه قول رائع بليغ لا يمكن أن يُستبدل بعبارة أخرى، لأنه لا يدع نوعا من الذنوب إلا غطاه.وقال الأخفش إن (من) زائدة تفيد التوكيد إملاء ما من به الرحمان).فيكون المعنى أن الله سوف يمحو كل سيئاتكم محوا تاما.وهنا ينشأ سؤال: لماذا جعل الله الزكاة والصدقات كلا على حدة؟ فلنعلم أن الزكاة تُعتبر نوعا من الضريبة، لأن الحكومة هي التي تجمعها.ثم إن الزكاة فرضُ من المستحيل أن يتهرب منه الإنسان أو ينقص منها.وفرض الله الزكاة لينفق كل ثري بعض ماله ليكون كفارة عن ذنوبه، ولكي تتوفر النفقات للفقراء إلى حد ما.ولكن إلى جانب ذلك دبَّر الله طريقا آخر، وهو الصدقات.كي يتميز المخلص من غير المخلص، ولكي يتدرب الإنسان على الإنفاق بيده، يجد فرصة للإنفاق سرا وللإنفاق علنا.فالإنفاق السري يزيده حبا ويُكسبه مغفرة لذنوبه ويستر تقصيراته والإنفاق العلني يحض الآخرين على الصدقات.لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (۲۷۳) التفسير : لقد بين الله هنا خمسة أمور: أولا - قال للرسول الله إن هدى الناس ليس واجبا عليك وإنما هذا على الله تعالى.علما أن للهداية ثلاثة معان ۱.الدلالة إلى الطريق، ٢.الإيصال إلى الطريق، ٣.المصاحبة في الطريق والإيصال إلى الغاية.النوع الأول من الهداية يشترك فيه العباد أيضا لأنهم يدلون الناس على الطريق، ولكن نوعى الهداية الآخرين فيحُصان الله وحده..ولا يملك أحد من العباد هذا.ولما كان المراد هنا من الهداية النوعين

Page 721

۷۱۸ سورة البقرة الجزء الثاني الآخرين: الإيصال إلى الطريق والإيصال إلى الغاية..لذلك قال الله تعالى إن الهداية ليست من واجبك، بل إذا رأى الله أحدا جديرا بذلك أبقاه على الصراط المستقيم، وإذا لم ير أحدا أهلا لها أسقطه الله وتقول ثانيا قال إن ما تنفقون من خير فهو لأنفسكم، أي لصالحكم أنتم.لقد ذكر هنا كلمة (خير) لأن الخير يعني المال أو المال الجيد الذي اكتسب بطريق شرعي أو كان بمقدار كاف فبذكر كلمة (خير) بيّن أن الإنفاق ضروري، ولكن من الواجب أيضا أن يكون المال الذي تنفقونه مكتسبا بطريقة شرعية، ويكون بحسب مقدرتكم على الإنفاق.فلا يليق مثلا أن تربح مائة وتنفق منها واحدا في سبيل إنك قد أديت حق الإنفاق.ثالثا - قد يفكر أحدهم ويقول : إذا أنفقت المال على الناس فما الفائدة التي تعود علي؟ يقول الله: هذا التفكير غير سليم.إن ما تنفقه في سبيل الله هو بمثابة حبة يبذرها الفلاح في حقله، فتتحول إلى مئات الحبات، ولا يفكر الفلاح: لماذا أضيع الحبوب وألقيها في الأرض؟ كذلك لا تظنوا أنكم لو أنفقتم على الآخرين فلن تنتفعوا شيئا.كلا، بل إنفاقكم هذا يؤدي إلى ازدهار القوم، وازدهار القوم يؤدي إلى ازدهار الفرد الحقيقة أن هذه الفكرة تنشأ عن قلة التدبر..وإلا فإن الأمم الأوربية قد أدركت هذه النقطة أيما إدراك.فأثرياؤهم المشهورون بالانغماس في المتع المادية هم أيضا ينفقون دائما قدرا كبيرا من أموالهم للنهوض بالفقراء ولازدهار قومهم، وهكذا يتسببون في تقوية المسيحية.وفي قوله (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله بين أن إنفاق الأموال للنهوض بالفقراء مفيد حقا من الناحية القومية..ولكن لا تجعلوا هذا هو الغاية من الإنفاق، وإنما يُتوقع من المسلم أن ينفق أمواله خالصة لوجه الله وابتغاء مرضاته.وبهذه العبارة مدح الله عباده المؤمنين، إذ جاء بصيغة النفي، والمعنى أننا الآن نتوقع من المؤمنين أنهم لا ينفقون إلا لابتغاء مرضاة الله.وهذا الأسلوب للنفى وتأثيرا من أسلوب النهي.مثلا إذا قلت لأحد الناس أرجو أن تنتظرني، فهذا أبلغ أشد وقعا

Page 722

الجزء الثاني ۷۱۹ سورة البقرة من قولك: اجلس هنا ولا تتحرك قبل مجيئي.فهذا الأسلوب اللطيف يدفعه بنفسه للعمل بما تريد.الله ثم إن قوله (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله يشير أيضا إلى أن إنفاق المؤمنين وإن كان يؤدي إلى الرقي القومي المادي والمنافع الدينية أيضا – إلا أن المؤمن من الطراز الأول أسمى من ذلك، فهو لا يفكر في الرقي المادي ولا يجعل نعم الجنة هدفا له..بل إنما يعمل الحسنات بدافع أن يرضى عنه وينظر إليه بالود والمحبة.رابعا قال الله تعالى (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).وقد ذكره الله بعد قوله (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله)، مع أنه كان من الممكن أن يذكره بعد قوله (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)، وقد أخره لبيان معنى جديد آخر، وهو أن الذي ينفق أمواله ابتغاء مرضاة الله ينال جزاء أوفى على إنفاقه، ولكن الذي ينفق لأجل الدنيا فإنه ينال أجره في هذه الدنيا من رضاء الناس ومدحهم، ولكن لا نصيب له من جزاء الآخرة.وأخيرا، نفى ظلما آخر يتعلق بالحرب التي تحدثت عنها الآيات السابقة، وقال (وأنتم لا تظلمون..أي أن الأمة التي لا تنفق أموالها عند الحرب تهلك، وتتغلب عليها الأمم الأخرى، وتتعرض للمظالم والاضطهاد.يقول الله تعالى إنكم إذا أنفقتم أموالكم تغلبون ولا تقهركم أمة ولا تظلمكم.لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بسيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٤) شرح الكلمات ضربا ضرب في الأرض خرج تاجرا أو غازيا.وضرب: أسرع وذهب (الأقرب).

Page 723

الجزء الثاني من ۷۲۰ سورة البقرة التعفف -عفّ الرجل: كفّ عما لا يحل ولا يجمل قولا أو فعلا وامتنع (الأقرب).و(من) هنا سببية كما قوله تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا) (نوح: ٢٦).أي بسببها.سيما - الهيئة؛ العلامة (الأقرب).إلحافا ألْحَف السائل: أَلَحٌ وألحف فلانا الثوب ألبسه إياه (الأقرب).فمعنى الإلحاف أن يُلبسه سؤاله ولا يتركه، بل يستمر في سؤاله.التفسير : هناك مبتدأ محذوف تقديره (هي للفقراء)..أي أن الصدقات التي نأمركم بها هي للفقراء للذين أحصروا أو هناك فعل محذوف تقديره (اجعلوها للفقراء).و لم يذكر هنا الفاعل لـ (أحصروا) ولم يذكر السبب في حصرهم.ذلك أن الله أراد إطلاقها.لأن للإحصار أكثر من سبب محتمل ومهما يكن فمن المؤكد أنهم لم يجلسوا عاطلين بسبب الكسل أو البطالة، إنما هم مضطرون لذلك؟ و لم يذكر هذا الاضطرار لأنه قد يكون بسبب العدو، أو لأنهم منهمكون في خدمة الدين ليل ونهار، فتُسد أمامهم أبواب كسب الرزق والضروريات مثل أصحاب النبي ﷺ الذين كانوا لعشقهم له ورغبتهم في صحبته وشغفهم بتعلم أمور الدين قد شُغلوا كل شيء آخر.ومثال ذلك سيدنا أبو هريرة الذي أسلم في المدينة قبل وفاة ل بثلاثة أعوام قال: كنت أسلمت متأخرا، لذلك قررت ألا أترك باب النبي.يقضي حياته في المسجد، وإذا كانت له حاجة قضاها ثم يعود مخافة أن يقول النبي شيئا فيفوته سماعه.ولذلك نجد أنه رغم قصر مدة صحبته للنبي –روى من الحديث أكثر مما رواه أي من الصحابة الذين كانت لهم صحبة أطول من أضعافا.شكاه أخوه إلى النبي وقال: يا رسول الله، إن أخي أبا هريرة يبقى عن النبي صحبته فكان عاطلا كل اليوم، فأنصحه ليشتغل ويعمل شيئا.فقال النبي (لعلك تُرزق به)..أي من يدري؟ ربما يرزقك الله بفضل أبي هريرة".۱۹ ورد في الترمذي، أبواب الزهد رواية بهذا المعنى ولكن لم يذكر فيها اسم أبي هريرة.

Page 724

الجزء الثاني ۷۲۱ سورة البقرة فيندرج إذن تحت قوله الذين أحصروا في سبيل الله أيضا أولئك الذين وقفوا حياتهم لخدمة الدين، وكرسوا أوقاتهم الله ولرسوله ولا يتمكنون من الاشتغال بالتجارة أو أي عمل آخر.ويندرج أيضا تحته أولئك الذين قال الله عنهم: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة ١٢٢).ومثال ذلك ما يحدث هذه الأيام، فإن الناس يفدون إلى مركز الجماعة الإسلامية الأحمدية من مختلف الأمصار للتفقه في الدين، فيتعلمون الدين هنا لسنوات عديدة، ثم يرجعون إلى بلادهم ويهدون قومهم.إذن فمن الإحصار أيضا أن يترك الإنسان أشغال الدنيا لتعلم الدين.إنه لا يترك أشغال الدنيا طلبا لراحة نفسه أو تكاسلا عن واجباته وإنما يمنعه من الاشتغال بها خدمته للدين وابتغاء رضاة الله تعالى هؤلاء لا يستطيعون ضربا في الأرض؛ أي أنهم منهمكون كل وقتهم في أمور الدين، ويولعون بهذا العمل حتى أنهم لا يهتمون بكسب المعاش.إنهم رغم قلة مالهم يسكتون ويصونون أنفسهم من دناءة السؤال.ولذلك فإن الذين ليست عندهم عادة الفحص والتأمل في أحوال الناس فإنهم يظنونهم ميسوري الحال.يقول الله تعالى من واجبكم أن تهتموا بأنفسكم بحاجاتهم، وأن تنفقوا عليهم نصيبا من أموالكم.وقد يعني الإحصار أن الناس منعوهم من كسب المعاش، لأنهم سلكوا طريقا يؤدي إلى الله تعالى، كما حدث لكثير من المسلمين الأحمديين في جماعتنا الذين أُبعدوا م وظائفهم فقط لقبولهم الأحمدية، وأغلقت في وجوههم أبواب كسب الرزق.وقوله تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أنهم لا يمدون أيديهم بالسؤال، وبسبب تعففهم عن السؤال يظن الجاهل أنهم لا يحتاجون إلى معونة مادية.وإلا فإن عزة النفس هي التي طبعت على شفاههم الصمت مع أنهم أشد احتياجا من بعض الذين يبدون حاجتهم للناس.هؤلاء هم أحق بأن تقدم لهم المعونة المالية وتُرفع عنهم مشاكلهم حتى يقوموا بالخدمة قيامًا أفضل.

Page 725

الجزء الثاني ۷۲۲ سورة البقرة عن آية لقد رأيت الناس يقولون : إنه لم يسأل حتى نعطيه؛ مع أن هذه الآية تؤكد أن من الواجب الشخصي للمؤمن أن يدرس الأحوال فيما حوله بعين فاحصة، ويتنبه إلى من يستحق الإعانة ويتعرف على من منعته عزة النفس من السؤال.وقوله (تعرفهم (بسيماهم لو كانت السيما بمعنى الهيئة..فالمعنى أنك برؤية وجوههم تعرف أنهم في ضائقة مالية.وإذا كانت (سيما ) بمعنى علامة..فالمعنى أنك بالنظر إلى ملابسهم البالية أو أحذيتهم القديمة أو عمامتهم الخلقة أو أسلوب حياتهم البسيط..تدرك على الفور أنهم بحاجة إلى معونة.وهنا وجه الخطاب إلى النبي لتنبيه المؤمنين إلى أن رسولنا ما دام يعرف هؤلاء المتعففين، فلماذا لا تعرفونهم أنتم؟ لماذا لا تنظرون إلى من حولكم بعيون متفرسة؟ ورد في الحديث أن أبا هريرة كان يقول: (الله) الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع.ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر، فسألته كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل.ثم مر بي عمر، من فسألته عن من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل.ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال أبا هر.قلت: لبيك يا رسول الله قال : الْحَقِّ، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل، فوجد لبنا في قدح قال: من أين هذا اللبن ؟ قالوا أهداه لك فلان أو فلانة.قال: أبا هر.قلت: لبيك يا رسول الله، قال : الْحَقِّ إلى أهل الصُّفّة فادْعُهم لي.قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها.فساءني ذلك فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها..فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن.ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد.فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت.قال: أبا هر، قلت: لبيك يا رسول الله، قال خذ فأعطهم، قال فأخذت القدح فجعلت أعطيه آية

Page 726

أبا ۷۲۳ الجزء الثاني سورة البقرة الرجل فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يرتوي ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يرتوي ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي وقد ارتوى القوم كلهم.فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: هر، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله.قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت.فقال: اشرب فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال فأرني فأعطيته القدح.فحمد الله وشرب الفضلة) (البخاري، الرقاق).ألا ما أعظم وأروع هذا الحادث دليلا على صدق قوله تعالى (تعرفهم بسيماهم).فالآية إذن بينان الميزة النبي الله بأن رسولنا هذا يعرف المحتاجين بعلاماتهم.فيا معشر المسلمين، حاولوا أن تعرفوهم كما يعرفهم نبيكم.وقوله (لا) يسألون الناس إلحافا لا يعني أنهم يسألون برفق من دون إلحاح، وإنما يعني أنهم لا يسألون الناس إطلاقا.فكلمة (إلحافا) ليست تحديدا لأسلوب السؤال، وإنما تبين شناعة السؤال..أي أنه لا يمكن لهؤلاء أن يلحفوا، لأن الإلحاف يتطلب أن يلازم السائل المسئول دائما، ولكن هؤلاء قد وقفوا حياتهم لله تعالى، ولا يقبلون أن يلازموا الأثرياء كالظل، بل يخفون فقرهم، فيحرمون أنفسهم مما يجلبه السائل بسؤاله.فكأن هذه الجملة جاءت تفسيرا لفعل السؤال وليس تقييدا له.وهذا المعنى ثابت من قول النبي : ليس المسكين الذي ترده التمرة أو التمرتان، ولا اللقمة أو اللقمتان؛ وإنما المسكين الذي يتعفف) واقرءوا إن شئتم قوله تعالى (لا يسألون الناس إلحافا) (البخاري، التفسير.هذا هو معنى الإلحاف كما فسره النبي بنفسه.كذلك ورد في حديث آخر: ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غِنَّى يغنيه، ولا يُفطَن فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) (البخاري الزكاة يتضح من ذلك تماما أن المساكين نوعان: الأول الذين يسألون الناس، والثاني الذين لا يسألون الناس.وإنما يكسبون رزقهم، ولكن دخلهم ضئيل بحيث يستحقون المعونة.

Page 727

٧٢٤ سورة البقرة الجزء الثاني على أية حال، هناك نهي شديد عن السؤال ورد في الأحاديث.لقد أجيز السؤال لثلاثة كما جاء في الحديث عن أنس؛ قال رسول الله ﷺ: (إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غُرْم مُفظع ، أو لذي دم موجع) (المشكاة، الزكاة).فالأول الذي لا يجد شيئا للأكل، أو وصل إلى حال بحيث لا يجد طعاما بأي سبيل.والثاني: من أغرم غرامةً بدون ذنب ولا يستطيع أداءها.والثالث: الذي وقع في قتل خطأ ولا يستطيع أداء الدية لهؤلاء الثلاثة يجوز السؤال..أو يعني الحديث أن يسأل لهم الآخرون لمساعدتهم، لا يقوموا هم بسؤال الناس.وكذلك ورد في الحديث أن رجلين جاءا النبي ﷺ سائلين من الصدقة، فصوب نظره إليهما وقال: (إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا قوي مكتسب) (مسند ابن حنبل، ج ٥ ص (٣٦٢ أي أنه لا حق لصاحب مال أو قادر على الكسب في مال الصدقة.كذلك قال النبي في مناسبة أخرى: (من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار.قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ما يغديه وما يعشّيه)..أي ما يكفيه لوجبة الصبح ووجبة العشاء) (المرجع السابق، ج ٤ ص ١٨١).فقوله (لا يسألون الناس إلحافا) يعني لا يسألون الآخرين شيئا، لأن السؤال في حد ذاته إلحاف.الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٥) التفسير : هنا بين الله أمورا أخرى تتعلق بالصدقة فقال: إن عبادنا المؤمنين لا يخصصون للصدقة وقتا معينا أو يوما محددا، وإنما يتصدقون في الليل والنهار، ويتصدقون سرا وعلانية أيضا.لقد ذكر الليل والنهار والسر والعلانية لبيان أن الشريعة الإسلامية تقتضي من المؤمن ألا يأتي عليه وقت لا يشتغل فيه بالخيرات.ولنفس الغرض وزع الله الصلوات على الليل والنهار، وحدد للصيام والحج شهورا

Page 728

۷۲۵ الجزء الثاني سورة البقرة قمرية.فبين هنا أن عبادنا المؤمنين يتصدقون في مختلف الأوقات حتى لا يخلو وقت من الصدقة، وتمضي رحلة حسناتهم على مدار اليوم وعلى مدار السنة أيضا بسبب الشهور القمرية، فلا يخلو منها جزء من الحسنات.وقد ذكر الليل أولا ثم النهار، وذكر السر أولا ثم العلانية.وبعبارة أخرى جاء الليل ويقابله السر، ثم النهار وتقابله العلانية.وأشار بهذا الترتيب إلى أن المؤمنين يتصدقون بالليل خفية بعض الأحيان حتى لا يعرف الآخذ من المعطي؛ كيلا يخجل المتلقي، ولا يصاب المعطي بالكبر والرياء.ثم إنهم يتصدقون وقت النهار علانية لكي يراهم الآخرون، فيتحمسوا لمساعدة الفقراء، ويزدهر القوم..وإلا فإنهم لا يريدون بالعلانية أي سمعة أو صيت لهم.فالليل تفسير للسر، والنهار تفسير للعلانية.وبيّن أن عباد الله يراعون الأوقات والأحوال.وقد يعني (بالليل والنهار) أنهم يتصدقون في أحوال العسر واليسر كليهما.والواقع أننا لو تدبرنا لوجدنا أن شرع الإسلام قد فرض نوعين من الصدقات: الأول الزكاة، وتجمعها الحكومة.وقد أسس هذا النظام لكي تجمع الأموال بصورة مضمونة لإعانة الفقراء الزكاة إلزامية تأخذها الحكومة كضريبة، ولذلك يشترك فيها الجميع، المخلص وغير المخلص والثاني الصدقة، وذلك لكي يتميز المخلصون الذين يتصدقون من تلقاء أنفسهم عن غيرهم، ويرتقوا في المدارج الروحانية.ولكي يكون عند الناس إحساس شخصي بالإنفاق في سبيل الله، وتزدهر فيهم عاطفة العناية والرعاية للفقراء.ثم إن الزكاة قد فُرضت احتراما لعواطف الفقراء، لأن الحكومة هي التي تجمع أموال الزكاة، والمستحقون من الزكاة لا يعرفون من أعطاهم.ولكن إلى جانب ذلك فرض الصدقة لتحسين العلاقات بين المؤمنين، لأن الصدقة تزيدهم حبا.إنه من سنن الدنيا أنه إذا لم يُلق الإنسان البذرة في الحقل لا ينبت زرعه، وبحسب هذه السنة يقول الله تعالى: يجب أن تنفقوا شيئا من عندكم حتى نجازيكم.ومما لا شك فيه أن الله قادر على أن ينبت الزرع من دون أن يلقي الإنسان البذرة في

Page 729

٧٢٦ سورة البقرة الجزء الثاني الأرض.ولكن الله سن قانونا بأنه لا ينبت شيئا إلا إذا ألقى الإنسان البذرة في الأرض.ولذلك قال: أولا ألْقُوا أنتم البذرة ثم انظروا كيف نزيدها ونباركها.أما قوله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فيشير إلى أن الفلاح في بعض الأحيان يُحرم من ثمرات بذره، كأن يحترق زرعه أو يُسرق أو تصيبه آفة..فيستولي عليه الخوف والحزن، ولكن الله يقول: هذه الأمور لا تحدث عندنا.ثم إن الإنسان قد ينال محصولا يصل إلى سبعمائة حبة من كل حبة، ولكن الله يجازي بأكثر من ذلك؛ ويمن على الإنسان بنعم لا نهاية لها ولا انقطا باع.الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةً مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧٦) شرح الكلمات: يتخبطه - يضربه شديدا.تخبطه الشيطان: مسه بأذى (الأقرب).المس-الجنون لأنه عند العرب يعرض من مس الجن (الأقرب).التفسير : في هذه الآية ذكر الله عند الحديث عمن يأكلون الربا أضرارا تترتب على أكله، وتوسع الشقة بين الأثرياء والفقراء، بل تدمر السلام العالمي.يجب أن نتذكر أن كلمة الربا تشمل كل أنواع الربا.سواء كان هذا الربا من البنوك أو من مكاتب البريد أو من الجمعيات الخيرية أو من الأفراد فهو حرام في كل حال.ولكن الأسف أن المسلمين في هذا الزمن بدءوا يعرفون الربا تعريفات عجيبة مرتعبين من الأمم الأوربية.وقد قال البعض إن الإسلام نهى عن ذلك الربا الذي يأخذ فيه الإنسان مبلغا بربح كبير، ولكن إذا أخذ ربحا قليلا فهذا ليس من الربا الممنوع وإنما هو ربح ومثال ذلك كمثل الكشميري الذي سئل: كم عندك من الأولاد؟ قال: ليس لي أولاد؟ وعندما قام وخرج من تحت قميصه الطويل أربعة

Page 730

۷۲۷ الجزء الثاني سورة البقرة أطفال قال السائل: لمن هؤلاء الأولاد إذن؟ قال : وهل أربعة أولاد أولاد؟ كذلك يقول هؤلاء: وهل فائدة ٦ أو % ربا؟ إن الربا هي أن تكون الفائدة ١٠٠%! أما البعض الآخر فقد أجازوا الربا بأخذ الفائدة من غير المسلمين.وأفتى غيرهم أن المسلمين المقيمين تحت حكومات غير إسلامية يجوز لهم أخذ الربا منها فتاوى دار العلوم ديوبند للمفتي محمد شفيع حتى قال البعض إن الربا هو ما يكون فيه مال كبير.ولم يحددوا مقدار المال، وهكذا فتحوا الطريق لكل إنسان وأجازوا أخذ الربا أن الرسول اعتبر الربا لعنة شديدة حتى قال عنه إن آخذه ومعطيه للجميع.مع وشاهده كلهم في النار (الترمذي، البيوع).الحقيقة أن النهي عن الربا من أسمى تعاليم الإسلام لا يريد الإسلام أن تجتمع الثروة في أيدٍ قليلة بينما يهلك الآخرون جوعا، وإنما يريد أن تتاح لكل واحد، على قدم المساواة، فرصة للتسابق في مجال الرقي، وأن تتأسس المدنية على أسس سليمة صحيحة، ولذلك لا بد من أن ينتهي التعامل الربوي بكل أنواعه.لأن أكبر ضرر للربا هو أن الأثرياء يتمكنون من الحصول على المال، فيستولون على التجارة والزراعة والحرفة بكل أنواعها، ويعيش الآخرون تحت رحمتهم، فالربا هو الذي كدس الثروة في هذا الزمن في أيد قليلة، ووسع الشقة بين الأثرياء والفقراء.ولو تدبرنا لوجدنا أن الربا على نوعين: أحدهما ما يأخذه الثري من غيره من الأثرياء من المال لاستثمار أمواله فيؤدي عليه الزيادة، كما يفعل التجار وأصحاب البنوك.والنوع الثاني ما يأخذه الفقير لسد حاجته من ثري كقرض، ثم يؤدي عليه الفائدة.وقد منع الإسلام من النوعين كليهما ولم يمنع من إعطاء المال الآخر على زيادة فحسب، بل أيضا منع اقتراض المال من أحد على زيادة.وفضلاً عن منع التعامل الربوي، فإنه جرَّم الشاهدين عليها وكاتبيها أيضا.وإذا قال أحد التجار مثلا إن لديه عشرة آلاف ويمكنه أن يكتسب بها مليونا، فإذا لم يستثمرها بالاقتراض من البنك أو من الأثرياء فماذا يفعل؟ فنرد عليه ببساطة: لا بد أن تصبر؛ إن عشرة آلاف تكفيه للعيش فليكتف بها.وإذا قيل إن هناك فقيرا يموت جوعا، والأمطار قد تأخرت، والزرع قد تلف، فإذا لم يشتر أدوات الزراعة

Page 731

۷۲۸ أن سورة البقرة الجزء الثاني فكيف يعمل في حقله، وإذا لم يشتر بذرا فكيف يعمل في زراعته..هل يموت مع أولاده جوعا؟ ليس أمامه خيار إلا أن يقترض؛ ولكن الناس لا يُقرضونه إلا بالربا..فماذا يفعل؟ هذا السؤال يمثل صعوبة كبيرة..والمرء يتحير ولا يجد جوابا.من السهل أن نقول لتاجر غني يريد توسيع عمله ألا يقترض ولا يتعامل بالربا وأن يكتفي بما عنده؛ ولكن ماذا نقول لشخص فقير في مثل هذا العسر الشديد؟ لو قلنا فلتصبر على جوعك، فكأننا نقول له : مُتْ أنت وأولادك ! ولكن مثل هذا الجواب غير معقول.يجب أن يكون عندنا جواب يطمئن له السائل وتطمئن نفوسنا أيضا.فما هو الحل الذي يقدمه الإسلام لمثل هذا الإنسان ؟ لو نظرنا وجدنا أن الإسلام يقترح أن هذا المعسر إذا كان عنده عقار بوسع هنه ويأخذ المال.ولكن ير إذا لم يكن لدى الفقير المعسر عقار أو شيء يرهنه أو كان ما عنده لا يمكن الاستغناء عنه كأرض يزرعها مثلا أو معدات يعمل بها..لو رهنها عند صاحب المال ما استطاع أن يعمل ويسدد دينه..فالإسلام عندئذ يقدم له حلا عن طريق ما فرضه من ضريبة على الأثرياء؛ فيمكن أن تُستخدم لإعانة مثل هؤلاء الفقراء.ومن ناحية أخرى أوصى الإسلام أنه إذا لم تكف هذه الضريبة فعلى المعارف والأصدقاء من أهل الحي مثلا أن يُقرضوه قرضا حسنا، ثم يعطوه الوقت الكافي للسداد، فقال (فنظرة إلى ميسرة)، أي فلينظُروا المدين حتى يصلح حالته الاقتصادية بطمأنينة كي يسدد دينه.وفي مثل الجو الإسلامي لا يضطر هذا المعسر إلى اقتراض المال بالربا لأن حاجته قد سُدَّت.يقول البعض إنه لا يمكن للقوم التقدم والازدهار في هذا العصر إلا بالتعامل الربوي.هم كاذبون.لقد كان بين الصحابة من يملك عشرين مليونا (أسد الغابة، ذكر عبد الرحمن بن عوف)..فهل كانوا يتعاملون بالربا؟ لا، إنهم كانوا يعتبرون الربا حراما، الخطأ القول بأن استثمار المال وازدهار الأعمال لا يتم إلا بالربا.إذا كان الإسلام قد نهى عن الربا من ناحية فإنه من ناحية أخرى قد أسس نظام الزكاة ونظام الوراثة، مما يحول دون تكدس الثروة في أيدي أفراد وأسر معينة، فيجد كل مجتهد فرصة ليصبح ثريا، ولا يبقى أمام الفقراء أي عائق.فتحريم الربا أمر حكيم فمن

Page 732

۷۲۹ سورة البقرة الجزء الثاني للغاية.وقد كره الإسلام التعامل الربوي لدرجة أن من يأخذ الربا فكأنه يخرج على الله تعالى ويحاربه وكما أن الملوك يتعقبون الخارجين عليهم ويعاقبونهم كذلك يقول الله لمن يأخذون الربا ولا يتوقفون عن التعاملات الربوية: استعدوا لحرب من الله تعالى، لأنكم خرجتم عليه (البقرة: ۲۸۰).كما يقولون : إذا كان التعامل الربوي حراما فكيف يمكن العمل بتعليم الإسلام هذا في زمننا هذا؟ لنعلم أن الدين اسم لنظام ولا يمكن لنظام أن يأتي بنتائج طيبة إلا إذا توطّد بصورة كاملة.أما إذا طبق بصورة ناقصة فلا يمكن أن يتجلى شأنه.فمثلا في هذه الأيام أحد ضد الربا قال: لا يمكن العيش بدون الربا.ولا يعني ذلك أن إذا تحدثت مع هي المجتمع قد فسد في هذا الزمن لدرجة أن الإنسان مضطر لأكل الربا.وإنما يعني أن الربا هو العلاج عند المصيبة.مع أن الحقيقة أن الربا ليس علاجا لمشاكل الإنسان ، وإنما هو مرض يخلقه الإنسان بنفسه، وعلاجه في الإسلام، ولكن هذا العلاج متوقف على نظام وما لم يتوطد هذا النظام لا يمكن أن ينتفع الانتفاع.إنه مثل البيت الذي لا يهيئ الحماية والحفاظة ما لم يكتمل جدرانه وسقفه وأبوابه ونوافذه..كذلك إذا تم العمل بكل تعاليم الإسلام لم تبق هنا حاجة للربا، ولنجا العالم من أضراره يمكن أن يضطر الإنسان للتعامل الربوي للأسباب التالية.أولا- أن يقترض شخص فقير للعيش.ثانيا- أن يقترض تاجر أو صانع أو فلاح لتوسيع عمله.ثالثا- أن يقترض شخص عنده عقار ليدفع شدة حلت به فجأة.منه حق أما في الحالة الأولى...فكيف يمكن للفقير الذي لا يجد مائة جنيه أن يقترضها ليسددها مائة وعشرة مثلا والحال السيئ للفلاحين خير دليل على هذا؟ إن ضرب الميت قسوة وظلم بالغ ما معنى أن يُثقل إنسان بالأعباء وهو ميت؟ فبهذا الظلم يتولد ظلم آخر..إذ إن المقترضين عندما لا يجدون ما يسددون به الديون فإنهم ينكرون أن عليهم أي دين.

Page 733

۷۳۰ سورة البقرة الجزء الثاني وفي الحالة الثانية حيث يكون الاقتراض لتوسيع العمل، فإن الإسلام قد أجاز للفلاح أن يرهن شيئا من العقار، وبذلك منع الإسلام أن يقترض الإنسان ما لا يستطيع سداده، وفي نفس الوقت فتح طريقا لسد حاجته الضرورية.أما التاجر والصانع فبوسعه أن يعمل ويُشرك غيره في العمل.أما إذا سمح له أن يقترض مالا بالربا لتوسيع عمله أو تجارته فإنه إذا خسر في عمله أو تجارته فقد أضاع أموال الناس، وإذا نجح اجتمعت في يده ثروة كبيرة، مما يخالف العدل وضرورات المدنية.وفي الحالة الثالثة وهي الاقتراض مع وجود عقار للخروج من ورطة مفاجئة، فيفتي العقل في الظاهر أن يسمح له بالاقتراض الربوي، لأنه يستطيع سداد الدين عند اللزوم، فعنده عقار وعنده صلاحية لكسب المال، وفي ضمان لسداد القرض وعدم التلاعب بأموال الآخرين، كما أنه لن يجمع أموالا زائدة بدون وجه حق..فلا اعتراض عليه كما في الحالة الأولى أو الحالة الثانية، ولكن السؤال الآن أُمِنَ الأفضل أن يُسمح له بأخذ القرض بالربا لينفتح الباب للتعامل الربوي على مصراعيه، أم أن يُبحث له عن طريق آخر للخروج من مأزقه؟ من المؤكد أنه لو سمح له بالاقتراض الربوي فإن أصحاب الحالة الأولى والثانية عندئذ يطالبون بأن لهم أيضا بذلك، وهكذا تبقى هذه اللعنة قائمة في الدنيا.فمن الأفضل أن يفتح باب آخر لسداد حاجته.يسمح إن الإسلام بالنظر إلى هذه الأمور كلها قد قدم تعليما مفصلا، ومغزى هذا التعليم هو: أولا- ضرورة أن يتيسر لكل إنسان الطعام والشراب والثياب والسكن والعلم.ثانيا- يجب ألا عند يجتمع أحد مال بدون حدود.ثالثا- يجب ألا يبقى المال مدخرا عند أحد، بل يجب أن تدور الثروة دائما لينتفع بها الجميع.رابعا يجب على الحكومة والمجتمع أن يسدا حاجات المضطر حقا.

Page 734

الجزء الثاني ۷۳۱ سورة البقرة وتحقيقا للمبدأ الأول فإن الإسلام يأمر الحكومة أن تهيئ للناس الطعام واللباس والسكن وغيرها..ولذلك أسس نظام الزكاة والخراج وفرض على الأفراد أداء الصدقة.وتحقيق للمبدأ الثاني منع الإسلام من الربا التجاري، لأن الثروة تتراكم بلا حدود بسبب الربا.يقوم الإنسان بالمجازفة بأموال الآخرين..إذا نجح أصبح من أصحاب الملايين، وإذا خسر ضاعت الأموال، وهي ليست له وماذا يأخذ منه المقرضون؟ يسجنونه نه، ولكن ما جدوى ذلك؟ ومن ناحية ثانية أمر الإسلام بتوزيع الميراث..أي تفرق أملاكه وأمواله وأرضه على الورثة، ولم يسمح الإسلام للمورث أن يعطي أمواله واحدا من أولاده حتى لا قد يجتمع ما كسبه في يد واحدة، فينال بعض الناس تفوقا دائما على الآخرين.وتحقيقا للمبدأ الثالث أسس الإسلام نظام الزكاة والميراث ومنع التعامل الربوي.وتحقيقا للمبدأ الرابع أسس نظام الزكاة والصدقات والرهن أو القبض أو بيع السلم.وهكذا قدم الإسلام نظاما مكتملا مبينا على هذه الأسس.فإذا طبق هذا النظام بصورة كاملة، ومع ذلك بقي نقص أو عيب..عندئذ حق الاعتراض على تعاليم الإسلام.أما إذا عملوا بالنظام الربوي الغربي، وفي نفس الوقت اعترضوا على الإسلام، وقالوا ما هو العلاج الذي يقدمه الإسلام بديلا للربا، فهذا الاعتراض يعتبر لغوا محضا.وقوله (يتخبطه الشيطان من المس.المس هو الجنون.والجنون يسبب انحرافا في أعمال الإنسان، ويُفقده إعمال الفكر والتدبر.فقوله هذا يعني أن أعمال من يتعاملون بالربا تكون كأعمال شخص ركبه الجنون؛ فلا يتصرف في وقار واطمئنان، وإنما يأتي عمله بسرعة وعجلة وعدم مبالاة.كذلك آكلو الربا.تكون أعمالهم موصومة بعدم الأناة واللامبالاة وقلة الحذر ومن الملاحظ عموما بين المتعاملين بالربا أنهم يثيرون فتنا تؤدي إلى الحروب لكي تستثمر أموالهم.فكأنهم كالمجنون الذي لا يبالي بالنتائج..لأنهم يعطون أموالهم لتربو بالربا دون نظر إلى

Page 735

الجزء الثاني ۷۳۲ سورة البقرة النتيجة والمال.كل همهم أن تحدث الفتن، ويقترض الناس منهم الأموال بالربا..وهكذا تزداد ثروتهم.ثم إن الحكومات الكبيرة تقترض الأموال بالربا بما يفوق قدراتها، ثم تبدأ في الحروب الدموية غير مكترثة بالعواقب، والحقيقة أن الحروب الطويلة التي تنهك الأمم وتسحقها سحقا، ويُقتل فيها الرجال، وتترمل النساء، ويتيتّم الأطفال بالملايين، إنما تطول وتستمر فقط بدعم مالي من أموال الربا.ففي الحرب العالمية الأولى (1914 - ۱۹۱۸) بلغت تكلفة الحرب للحكومة الإنجليزية سبعين مليون روبية يوميا، أما الحكومة الألمانية فكانت تتكلف أكثر من ذلك.ولو لم يكن هناك طريق الأموال الربوية لما استطاعت حكومة ألمانيا تحمل هذه النفقات لسنة واحدة فقط، ولنفدت مدخراتها في فترة أقل من ذلك.ولكنها غطت نفقاتها هذه عن طريق أموال الربا لسنين طويلة كان الربا هو الأساس لهذه الحرب.صحيح أن دول الحلفاء حاربت دفاعا ولكن ما الذي شجع ألمانيا على شن الحرب؟ إنه الربا.كانت الحكومة الألمانية ترى أنها تستطيع في حالة الحرب الحصول على المال بطريق الربا لمواصلة الحرب.لو كان باب الحصول على الأموال بالربا مسدودا أمامها ما فكرت في استمرار هذه الحرب الكبيرة، لو أنها فرضت الضرائب مباشرة على الناس ما استمروا في الحرب لسنة واحدة ولحدثت ضجة في البلد وقالوا: لا نستطيع تحمل هذه الأعباء، ولكن الحكومات تترك الناس غافلين عن الأعباء الثقيلة التي تتحملها الحكومات لإطالة الحرب..مستعينة بأموال اقترضتها بالربا.فالربا من أهم أسباب الحروب.ولذلك ذكر الله مسألة الربا بعد ذكر الحرب.لأن للربا صلة عميقة بالحروب.ثم قال (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا أي أنهم يأكلون الربا بحجة أنه نوع من التجارة.فيرد الله عليهم مفندا قولهم: (وأحل الله البيع وحرم الربا)؛ إنهما في نظركم سيان، ولكن الله لا يراهما كذلك، بل أحل البيع وحرم الربا، فتحليله لشيء وتحريمه لشيء آخر يبين أنهما ليسا سين، وما دام الله قد منع أحدهما فلا بد أن وراءه حكمة.وقد سبق هذه الحكمة من قبل.ده

Page 736

الجزء الثاني ۷۳۳ سورة البقرة والواقع أن المدنية التي يريد الإسلام توطيدها إنما تتأسس على الإحسان للآخرين والنهوض بالفقراء، ولكن المتعاملين بالربا لا يعرفون الإحسان للآخرين، وإنما ينظرون دائما إلى ازدياد ،ثروتهم، ولو بخنق الآخرين فما دام التعامل الربوي يسد باب الإحسان للآخرين والنهوض بالفقراء، ويفتح باب الحروب على مصراعيه..الله عنه نهيا تاما.ده لذلك نهى أما إيجار البيت والمحل فهذا شيء آخر، لأن هذه الأموال تؤخذ في نظير استهلاك المبنى الذي قد يتهدم ويحتاج إلى صيانة وإصلاح ولا بد أن يكون هناك ضمان لذلك.وكذلك التجارة شيء آخر لأن فيها تبادل مال مكان مال آخر.ومن الحمق إذن اعتبار البيع والربا سيين.وقال (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله..من جاءته نصيحة من الله فارتدع بسماعها عن التعامل الربوي، فإننا لن نسأله عما سبق منه من تقصيرات، فعليكم أيضا أن تفوضوا أمره إلى الله، وتقبلوا منه توبته.أما إذا رجع عن توبته وتعامل بالربا فلا بد أن يستحق العقاب..قال (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون..فأشار بذلك إلى أن الناس يقولون لا فرق بين الربا والبيع ولكن لم لا يفكرون في أنه إذا لم يكن بينهما فرق فلماذا أحل الله أحدهما وحرَّم الآخر؟ ثم لماذا عفا عن الذين انتهوا عن التعامل الربوي، ولماذا يعاقب من يرجع إلى الربا مرة أخرى؟ هذا دليل على أن الربا والبيع لا يتماثلان النتيجة الحتمية للربا هي النار..سواء كانت في صورة حروب، أو في صورة فتن وفساد، ولكن البيع لا يؤدي إلى هذه النتيجة.ثم إن ضرر الربا هذا ليس مؤقتا، بل تستمر نار الفتن هذه في الاشتعال ما دامت اللعنة الربوية مستولية على العالم.وإلى ذلك يشير قوله (هم فيها خالدون الترتيب والربط: في الآيات السابقة ذكر الله إنفاق المال على الفقراء في سبيله.وقد يظن بذلك أحد: لماذا يُعطى المال بالربا حتى يجد الفقراء ما يسدون به حاجتهم، وكذلك ينفق

Page 737

٧٣٤ سورة البقرة الجزء الثاني المنفقون بشوق ورغبة؟ فيبين الله أن الذي يعطى الأموال بالربا يكون حاله كحال المجنون، ويصبح كدودة العلق يمتص الدماء، ولا يقدر على التفكر والتدبر، ولا تبقى فيه عاطفة المواساة والمؤاخاة.ثم إن المرابي يصبح كسولا..يعرف أنه سوف يحصل على المال في كل حال، ولا حاجة له في العمل المنتج، ويريد الإسلام أن يجتهد كل إنسان ويصبح وجودا نافعا للبلد والشعب.ثم ذكر الربا بعد الصدقات أيضا، لأن الذي يتخلّى عن أمواله الله..أي ينفقها في سبيله تعالى..يسهل عليه أن يَدَعَ أموال الآخرين الربوية ولا يأخذها.يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (۲۷۷) شرح الكلمات: يمحق محق الشيء أبطله ومحاه.ومحق فلانا أهلكه.ومحق الله الشيء: نقصه وذهب ببركته (الأقرب).يُربي- أربى الشيء: جعله يربو أي يزداد (الأقرب) التفسير : يقول الله تعالى إنه يمحق الربا ويربي الصدقات..أي أنه سوف يحقق از دهارا لمن يتجنبون التعامل الربوي ويهتمون بالصدقات.وفي هذا نبأ بأنه سيأتي على الناس زمان يعملون فيه بتعاليم الإسلام بصورة كاملة، ويتم القضاء على الربا الذي يبدو سببا في زيادة المال..أما الصدقات التي تبدو نقصا في المال فسوف يباركها الله تعالى ويزيدها وكأن النظام القديم سوف يُستبدل بنظام جديد.وسوف يتوطد حكم القرآن والإسلام، وكل هذا سوف يحدث بيد الله تعالى.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (۲۷۸) التفسير : ورد في الآيات السابقة حض كبير على الصدقات..وقد يظن البعض بسببها أنه يكفيهم للنجاة أن يقوموا بالصدقات، فأزال الله هنا هذه الشبهة وقال:

Page 738

۷۳۵ سورة البقرة الجزء الثاني إن ترك الربا وإعطاء الصدقات لا يكفي بل لا بد للإنسان من القيام بالأعمال الصالحة بكل أنواعها وأن يقيم الصلاة مواظبا عليها، ويؤدي الزكاة.إن النجاة لا ينالها الإنسان بالاعتماد على جانب واحد من الأحكام.وتفند هذه الآية الخطأ الشائع بأنه يكفي لدخول الجنة أن يقول المرء بلسانه (لا إله إلا الله، ولا حاجة له في القيام بالأعمال الصالحة.يقول الله تعالى: إن قولكم هذا خطأ؛ ما لم يكن الإيمان مصحوبا بصالح العمل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وما لم يكتمل الإيمان بالله والشفقة على خلقه..لن تتيسر النجاة لأحد.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (۲۷۹) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (۲۸۰) شرح الكلمات: فأذنوا أذن بالشيء: علمه (الأقرب).فقوله تعالى (فأذنوا بحرب من الله) يعني اعلموا وتيقنوا بحرب من عند الله.رؤوس أموالكم رأس المال هو المال الخالي من الربح، يقال: "أقرضني عشرة من الله برؤوسها، أي قرضا بلا ربح فيه فَيُرَدّ عليه رأس المال فقط" (الأقرب).التفسير : يقول الله تعالى : أيها المسلمون، اتركوا أموال الربا وإلا فاستعدوا لحرب ورسوله كان في هذا القول وعيد شديد للمسلمين ، ولكن الأسف أنهم خالفوا هذا التعليم، ورأوا النتائج الوخيمة لهذه المخالفة.فانتزعت منهم أراضيهم وعقاراتهم، ووقعت في أيدي الآخرين، وأمسوا مفلسين محتاجين.بل إن التعامل الربوي هو الذي كان وراء سقوط كل الحكومات الإسلامية الأخيرة.لقد دمرت إما لأخذ الربا أو لإعطاء الربا.إذا اقترضوا بالربا بدأ المقرضون يثبتون أقدامهم في بلاد المقترضين شيئا فشيئا، مرة بعقد صفقة لإنشاء سكك حديدية، ومرة لحفر المناجم، وتارة لغير ذلك..بالتدريج يستولون على البلد كله.أما إذا كان المسلمون

Page 739

٧٣٦ سورة البقرة الجزء الثاني هم المقرضون بالربا..فكلما توترت العلاقات بينهم وبين البلاد الأخرى كان المقرضون منهم يميلون إلى العدو الأجنبي لحماية مصالحهم المالية لديهم، وهذا ما فعله المسلمون في ولاية (لكناو) وفي ولاية (أوده) بالهند، فقد أقرضوا الآخرين بالربا، وجمعوا كثيرا من الأموال في البنوك الإنجليزية، وعندما هاجم الإنجليز ولاية لكناو، هددوا الأثرياء بمصادرة أموالهم المودعة في البنوك الإنجليزية، وكانت النتيجة أن هؤلاء قبعوا صامتين لا يحركون ساكنا لتأييد الحاكم المسلم.مع أنه لو قُتل لص أو قاطع طريق مجرم لثار أهله وأقاربه ولكن هؤلاء المسلمين المرابين لم يكونوا مستعدين للوقوف مع حاكم الولاية المسلم أو أن يثأروا لقتله.فمن الناحية السياسية أيضا كان تعاطي الربا شرا وبيلا على المسلمين..ذلك لأنهم خالفوا أمرا إلهيا واضحا مخالفة صريحة.إن الحكومات الأخرى تتعامل بالربا ولا تتضرر كل هذا الضرر الذي لحق بالمسلمين، ولذلك سبب روحاني..وهو أن الله تعالى ترك أتباع الديانات الأخرى وحالهم..كما ينبذ الأب ابنه العاق ويتركه وشأنه ولا يبقى معه على صلة، ولكن المسلمين بالنسبة الله كالابن الحبيب إلى أبيه.كلما خالف المسلمون أوامر الله وجّه إليهم لطمة كما يفعل الأب مع ابنه ذلك لأنه الله تبارك اسمه يريد إصلاحهم.أما إذا ترك مسلم دينه الإسلام واعتنق دينا آخر فإن الله يقطع صلته به، ولا يمد يد الإصلاح نحوه في هذه الدنيا.المسلمون من ناحية يعترفون بكل قوة بصدق نبيهم محمد ، ومن ناحية أخرى يخالفون أوامره، فتمتد يد الله لعقابهم، وتقوم بتأديبهم من وقت لآخر.أما الكفر فلا يُعاقب عليه الإنسان في هذه الدنيا بل في الآخرة.الكافر الذي لا يؤذي غيره، ويعمل بحسب ما يفهم عقيدته، فإنه لن يؤاخذ في هذه الدنيا، ولكن الذين يدينون بالإسلام ومع ذلك يخالفون أوامره فإنه يُعاقبون في الدنيا كي يرجعوا إلى ربهم، ولا تنقطع صلتهم أن الحكومات غير الإسلامية أيضا تعرضت للسقوط والانحطاط..ولكن كان ذلك لأسباب سياسية، أما الحكومات الإسلامية فدمرت وقُضي عليها فقط لأنها تعاملت بالربا مخالفة أوامر الله.به كلية، صحيح

Page 740

۷۳۷ سورة البقرة الجزء الثاني وقوله تعالى (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) يتبين منه أيضا أنه ينبغي مقاطعة الذي يتعامل أخذا وعطاء بالربا مقاطعة قومية..لأنه يخرج على الله ويخالف الله ورسوله في صريح أوامرهما.ثم يقول (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم.لنتذكر أن هذا الأمر خاص بأولئك الذين أعطوا أموالا ليحصلوا منها على الربا، ولكنهم تابوا بعد ذلك، يقول الله لهم: إذا تبتم عن التعامل الربوي فيجوز لكم أن تستردوا رؤوس أموالكم، وقد يمكن أن تكونوا قد حصلتم إلى الآن على ما يزيد على رأس مالكم أيضا.وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (۲۸۱) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (۲۸۲) شرح الكلمات: نظرة النظرة : التأخير والإهمال في الأمر (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى : إنكم لو عاملتم الناس بالحسنى اليوم، وراعيتم الرفق معهم عند تقاضي أموالكم التي أعطيتموها كقرض حسن، فلسوف يعاملكم الله أيضا بالرفق عندما يحاسبكم، ويعفو عن سيئاتكم.أما إذا لم تتعالموا معهم اليوم بالرفق فلن تجدوا من الله معاملة بالحسنى يوم القيامة وهذا هو نفس الأمر الذي نبهنا إليه مرارا بقوله (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (الترمذي، النبي البر.

Page 741

الجزء الثاني ۷۳۸ سورة البقرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بدَيْنِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلَيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهَا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوق بكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (۲۸۳) شرح الكلمات: داینتم تداين القوم استدان بعضهم من بعض (الأقرب).يُملل - أمللت الكتاب على الكاتب إملالا وأمليت عليه إملاء: ألقيته عليه، أي قلت له فكتبه عني (الأقرب).سفيها السفيه قليل العلم؛ الجاهل (الأقرب).قال الإمام الشافعي هو المسرف (روح المعاني).وهذا المعنى أميل إليه.فقد ورد في القرآن أنؤمن كما آمن السفهاء) أي يقول المنافقون: نكفر بمحمد ونحافظ على أموالنا ونحميها من النفاد ولكن هؤلاء المسلمين لا يعرفون كيف يحافظون عليها، إنهم بإيمانهم يضيعون أموالهم.التفسير في الآيات السابقة بين الله سببا من أكبر أسباب دمار الأمم، وهو الربا.وهنا بين سببا آخر لانحطاط الأمم فقال: إن الناس لا يأخذون الحيطة والحذر فيما يتم بينهم من معاملات عندما يقرضون أحدا ،مالا فإنهم بزعم المحبة والصداقة بينهم لا يحددون موعدا للسداد، ولا يضبطونه كتابة وعندما يرون المقترض لا يرد المال يبدأ الشجار والخصومة، ويصل الأمر إلى رفع القضايا إلى المحاكم،

Page 742

۷۳۹ سورة البقرة الجزء الثاني وتتحول الصداقة إلى عداوة.يقول الله تعالى : لا تفسدوا العلاقات بينكم، بل عليكم التمسك بنصيحتين منا عند التعامل: أولا عندما تتداينون حددوا موعد سداد القرض.وثانيا اكتبوا التعامل في وثيقة واضبطوه ومن أكبر منافع هذا أن المقترض سيفكر قبيل اقتراضه ما إذا كان بوسعه سداده في هذا الموعد أم لا.ثم إنه بعد أخذ الدين سوف يشعر دائما أن عليه سداد هذا الدين في هذا الموعد، وبالتالي سوف يجتهد لسداده.ومن فوائد هذا التسجيل التحريري أيضا أن يبقى المدين مطمئنا لفترة معينة، فلا تحيطه المخاوف : متى سيفاجئني صاحب المال ويطالبني بسداد القرض؟ كما أن المقرض يعرف متى يذهب للمدين ويطالبه بماله طبقا للتعهد الكتابي..فيذهب إليه في الموعد المحدد ولا يضطر إلى التردد عليه ومطالبته كل يوم.وهكذا ينتفع الدائن والمدين معا.أن ومن فوائد هذا الشرط أيضا أن بعض ضعاف الإيمان قد يحتجون بأننا نقرض المال بالربا لأن المدين هكذا يكون دائما مهتما بسرعة أداء ما عليه من دين، ويبذل جهودا للتخلص من أداء هذا العبء الواجب، ولكن إذا لم يكن عليه ربا فإنه لا يهتم بسداد دينه.ولإزالة هذه الوسوسة قال الله تعالى: إذا تداينتم بدين وجب تكتبوه كمعاهدة بأن المدين سوف يسدد الدين في موعد محدد، وهكذا تحفظ أموالكم ويشعر المدين بمسئوليته.ولكن لا يعني هذا أن الدين إذا كان إلى أجل مسمى فاكتبوه، أما إذا لم يكن إلى أجل مسمى فلا بأس إذا لم تكتبوه.ذلك لأن الإنسان إذا أقرض المال لغيره فإنه ولا شك يتوقع يسترده بعد أجل مسمى، قصيرا كان ذلك الأجل أم طويلا، وله كل الحق في أن يطالب بسداده بعد هذه المدة.لا يحدث أبدا أن يُقرض أحد غيره مالا ولا يفكر في استرداده.إذا أعطاه هدية أو معونة فهذا أمر آخر.ولكن المال المسمى قرضا لا بد أن يكون إلى أجل مسمى..سواء ذكر هذا الموعد باللسان أم لا.أما إذا لم يعط هذا المال لأجل مسمى، بل أعطاه لساعة أو ساعتين أو ليوم أو يومين فليس هناك إثم في ألا يكتبه الإنسان.أنه

Page 743

٧٤٠ الجزء الثاني سورة البقرة وللأسف أن المسلمين لا يهتمون بالأمرين: فلا يضربون موعدا لسداد الدين بسبب المحبة والصداقة بين الطرفين ويقولون: ترد الدين كما شئت كما لا يضبطون هذه المعاملة خطيًا.مما يؤدي إلى كثير من المفاسد ويجنون ثمارا مرّة لهذه المخالفة.ثم قال (وليكتب بينكم كاتب بالعدل وهذا أمر ثالث يجب أن يكون كاتب هذه المعاهدة شخصا ثالثا غير الدائن والمدين، وأن يكتب بالعدل والإنصاف..فلا يضيف ولا ينقص من المعاهدة شيئا، وإنما يكتب ما يملي عليه.ثم أمر (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب).ويعني قوله (كما علمه الله ( أن يكتب بقدر ما علمه الله الكتابة.ويمكن أن من أيضا أن يكتب لأن الله قد أنعم عليه وعلّمه الكتابة، فيجب أن ينفع الناس كما تفضل الله عليه، ولا يرفض مساعدة من يحتاجون إلى الكتابة، ولا يتركهم للمعاناة..أي أن يُحرَم الناسُ المحتاجون للقرض لأنهم لم يجدوا من يكتب لهم.يعني ثم قال (وليملل الذي عليه حق، وهذا أمر ،رابع، أي إن يملي هذا الصك أو المعاهدة مَن أخذ الدين، وفي هذا حكمة كبيرة.الظاهر يقتضي أن يملي صاحب الحق أي الدائن، ولكن الله لا يأمر بذلك، بل فرض هذه المسئولية على المدين، ذلك أن المدين عند تحقق حاجته بأخذ المال يشعر بشعور الفرح والرضا ولا يفكر في مقدار المال.فمن الممكن بعد سداد حاجته أن يدعي عدم إدراكه لما كان يكتب..لذلك أمر الله أن يملي المدين بنفسه لكي يكون هناك اعتراف بلسانه.أما صاحب المال فإنه يكون حذرا عندما يُعطي المال لأنه ماله، ولن ينسى في أي حال أنه أعطى كذا من المال.والسبب الثاني أن هذه المعاهدة الخطية تبقى محفوظة لدى الدائن وعنده الفرصة ليقرأها ويتعرف على ما فيها من خطأ أوصواب أما المدين فإنه لا يحتفظ بها، وإذا لم يملل هو بنفسه وبحذر ما يُكتب فيها وقت التعاهد فهناك احتمال أن يتضرر، ولذلك سوف يملي بكل حرص.ثم قال (ولا) يبخس منه شيئا وهذا أمر خامس بألا يُنقص المدين في إملائه أي شيء من الدين بل يمليه صحيحا.

Page 744

الجزء الثاني ٧٤١ سورة البقرة وهنا ينشأ سؤال : أنه لا يمكن أن ينقص من الدين، لأن الطرفين موجودان وجها لوجه، فلماذا أمر ألا يبخس منه شيئا؟ فلنتذكر أن بعض الاتفاقيات أو المعاهدات للقرض تكون عجيبة يتلاعب فيها الناس بكلمات معوجة مما يؤدي إلى خسارة الدائن، خاصة في الديون التي تكون طويلة الأجل، أو من أنواع مختلفة..بمثل ما يحدث في حالة الديون بين الحكومات.فبما أن الناس يلجئون عموما إلى المكر والخداع في الاتفاقيات للديون طويلة المدى..لذلك أمر الله أن تكونوا أمناء عند الإملاء ولا تنقصوا الدين شيئا.قوله (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل يعني لو كان المدين ضعيف العقل ولا يدرك أهمية المعاملات المالية، أو يكون ضعيفا كأن يكون صغير السن أو شيخا هرما ، أو يكون غير قادر على الإملاء لسبب مثل الخرس أو الأمية..فيجب أن يتولى أحد أوليائه الإملاء بالعدل والإنصاف بحسب قانون البلد.فالأصل أن يملي المدين بنفسه، أما إذا لم يستطع فيقوم بهذا الواجب وليه.ثم قال (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، وهنا جاء الأمر السابع، فقال يجب أن يشهد على هذا الصك أو المعاهدة شهيدان من الرجال الذين تعرفونهم وتعتمدون عليهم وتستطيعون دعوتهم والاستعانة بهم وقت الحاجة بسهولة، فلا يكون شخصا من غير بلدكم أو مسافرا أو أجنبيا ، فيكون هناك خطر ضياع شهادته ولا تعرفون أين تجدونه عند الحاجة.وقال فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما (الأخرى وهذا أمر ثامن..أي إذا لم يتوفر رجلان فيمكن الاستشهاد برجل واحد وامرأتين..على أن يكونوا جمعيا ممن ترضون.وذكر سبـ النص على امرأتين بدل رجل واحد، وقال: إذا نسيت واحدة منهما ذكرتها الأخرى.وقوله (إحداهما) يدل على أن أي واحدة منهما قد تنسى، ولا يمكن الجزم والتحديد أيتهما التي سوف تنسى وبناء على هذه الآية من الممكن اتخاذ امرأتين كشاهدتين على حدث واحد أمام المحكمة في وقت واحد، فتقول إحداهما

Page 745

٧٤٢ الجزء الثاني سورة البقرة إن الحدث جرى هكذا، وتؤيدها الأخرى في قولها أو تصححها.فكما يجيب الشاهد على أسئلة المحكمة بعد تفكر وتدبر..كذلك تتفاهم المرأتان معا وتتفقان على رواية الحدث لتنقلاه للقاضي والحكمة في اعتبار شهادة امرأتين معادلة لشهادة رجل واحد هى أن الذي اعتاد ممارسة عمل في مجال ما يكون أكثر خبرة فيه من الآخرين.والرجل عموما يمارس من الأعمال ما يتصل بالمعاملات التجارية والشئون العامة والقضائية ويدرك مسئولية الإدلاء بالشهادة.لذلك فهو يحفظ تفاصيل الأحداث بدقة، ويدلي ببيانه بحذر واحتياط أما النساء فإنهن يعملن في البيت عموما، فيحفظن ما يتعلق بالخصومات العائلية أكثر، ولكن لا يكون لهن دخل عادة بالمعاملات الخارجية الأخرى ولا يعرفن كيف تجري الأمور في المحاكم.لذلك يمكن أن لا تحفظ المرأة بعض الأمور حفظا كاملا، ومن أجل ذلك اعتبر شهادة امرأتين مساوية لشهادة رجل واحد.أما قوله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) فقد قال البعض إنه بدل من (رجالكم).وقال البعض إنه صفة (فرجل وامرأتان (روح المعاني).ولكن المفسر أبا حيان قال إنه متعلق بـ(استشهدوا).وهذا هو الصحيح، لأن شرط الأهلية والرضى يشمل الرجال والنساء، ولا يخص الرجال دون النساء ولا النساء دون الرجال..أي أن يكونوا جميعا مرضيين عند الفريقين وفيهم الأهلية للإدلاء بالشهادة حتى يُعتبروا شهود عدل.الله وقوله ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا هذا أمر تاسع..أي أن الشهداء إذا دعوا للإدلاء بالشهادة فلا يرفضوا.بل يجب أن يدلوا بها بصدق وبدون خوف من سخط أحد الفريقين.قوله (ولا تسئموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله هنا ذكر (أجله) ليشير إلى الأمر السابق المذكور في قوله تعالى (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فلا ذلك ألا تكتبوا القرض الذي لا أجل ،له أو أن تكتبوا موعد السداد فقط وتتركوا القرض مبهما، وإنما يعني أن تكتبوا بيانات القرض كاملة، ومدة السداد بصفة خاصة.وبما أن (إلى) بمعنى (مع) أيضا فقد يكون الأمر بأن تكتبوا القرض مع يعني

Page 746

٧٤٣ سورة البقرة الجزء الثاني أجله، وكأنه يقول: اكتبوا مبلغ القرض مع مدة السداد وأسماء الشهود لكي لا يكون هناك فرصة للخيانة.ثم قال (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة) أي أن هذا الأسلوب أدعى لتوطيد العدل وللمحافظة على الشهادة سليمة صحيحة وبدون هذا القانون لا يتوطد العدل ولا تبقى الشهادة سليمة.وفي قوله (وأدنى ألا ترتابوا) بين فيه أنه باتباع هذا التعليم ستكونون بمأمن من الوقوع في الوساوس والشبهات فيما يتعلق بصدق وأمانة بعضكم البعض، أي تكونوا في اطمئنان من ناحية المحافظة على أموالكم فلا تضيع.ثم قال (إلا) أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم وبه استثنى من هذا القانون موضوع التجارة الحاضرة أمام الطرفين، ففي هذا الحال لا إثم ولا حرج إذا لم يكتبوا هذا التعامل، لأن هذا ليس دينا.فلو كانت بضاعة موجودة أمام الأطراف وقال التاجر: بضاعتي في المخزن، ادفع مبلغ كذا وأحضرها لك من المخزن..فلا في أن يعطيه المبلغ دون كتابة تعهد خطي.ويتعرض التجار كثيرا إلى عندئذ حرج غير مثل هذه المواقف والتعاملات كل يوم.أنه يتجلى من قوله (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها أنه في وقت التجارة ليس من الإثم ألا تكتب، ولكن الأفضل أن تكتب في إيصال كما هي العادة في الشركات والتجار الإنجليز..فهم إذا اشترى المرء منهم شيئا أعطوه إيصالا، وبذلك كثير من التراعات والخصومات ولا يمكن أن يتهم أحد غيره بالنقص أو تحسم السرقة وغير ذلك.فهنا يذكر الله تجارة السلم وتجارة النقد في تجارة السلم لا بد من تعيين المدة لسداد المبلغ وكتابته أيضا، وكذلك من المفروض أن تكون هناك كتابة إذا أخذت البضاعة ووعد بتسديد المبلغ فيما بعد.أما إذا تمت الصفقة نقدا..أي أخذ السلعة ودفع الثمن فليست الكتابة فرضا في هذه الحالة وإن كانت العبارة تنم عن أن الكتابة أفضل.أما إذا لم تكن هناك كتابة فيجب أن يكون هناك شهود على التبايع كما

Page 747

٧٤٤ سورة البقرة الجزء الثاني هو ظاهر من قوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم حتى لا يتهمه صاحب البضاعة بالسرقة ولا تحدث فتنة.ثم قال ( ولا يضار كاتب ولا شهيد) وهذا هو الأمر الحادي عشر بصدد المعاملات.يجب ألا يكون استدعاء الكاتب والشهيد إلى المحاكم بدون إمدادهما بالنفقة اللازمة حتى لا يتضررا.وإذا كان الكاتب محترفا فلا يُجبر على الكتابة بدون أجر، بل يُدفع له أجر مناسب، ويجب ألا يُدعى الشاهد على حساب وقت عمله ورزقه..فيجب عدم تعريض أحد منهما إلى الضرر بأي شكل.ثم قال (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم..أي إذا ضايقتم الكاتب والشهيد فترتكبون مخالفة لأوامرنا وتلقون نير الطاعة عن أعناقكم.وقوله ( بكم) يعني فيكم أي أن هذا الأمر يخلق فيكم عادة الفسق والخروج عن الطاعة.ثم قال (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم).أي هذه أحكام مدنية يتوقف عليها رقي مجتمعكم، فيجب أن تضعوها في الاعتبار دائما، وتدركوا أنكم كلما ازددتم تقوى بوركت أعمالكم، وسوف يعطيكم الله من علمه، فإنه لا يخفى عليه طريق للرقي، ويعلم كل شيء علما تاما.وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٤) شرح الكلمات رهان جمع رهن.والرهن ما وُضع وثيقةً للدين.قيل: الرهن لغة الحبس مطلقا، وكثيرا ما يطلق على الشيء المرهون (الأقرب).أؤتُمن ائتمنه : عدّه أمينا، أو اتخذه أمينا (الأقرب).التفسير: يقول الله تعالى : إذا كنتم في سفر ولم تجدوا من يكتب لكم فيجب أن تعطوا المقرض رهنا حتى لا يخشى على ماله من الضياع.

Page 748

الجزء الثاني من ٧٤٥ سورة البقرة ذلك يمكن للإنسان أن يقدّر كيف أن الإسلام يحث على أخذ الحيطة وبعد النظر في شأن الدين وكيف أنه يحافظ على أموال المسلمين وإيمانهم عند كل خطوة.إذا لم تُراعَ هذه القواعد فقد ينكر المدين دينه، ويضار هو نفسه في إيمانه ضررا لا يمكن تداركه كما يضار الدائنَ ماليا.وقد وصف الإسلام علاجا لمثل هذه المخاوف فقال أولا – بوجوب تسجيل عملية التداين كتابة على شكل اتفاق أو معاهدة بين الطرفين تُسجَّل عليها شهادة الشهود.وثانيا بوجوب أن يضع المدين رهنا عند الدائن إذا لم يتم تحرير المعاهدة كأن يكونا في سفر و لم يجدا كاتبا لتسجيل الدين.والرهن جائز في الحضر أيضا، لأن الرسول ترك درعا له عند رجل استدان منه (مسند أحمد، ج٦ ،ص٤٢)، ولكن ذكر الرهن في السفر لأن هناك مشقة عدم يسر الكاتب والشهود.ثم استمر في توجيه النصح فقال (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته وليتق الله (به إذا اطمأن الرجل إلى أخيه وأعطاه المال قرضا بدون رهن..فعلى المدين أن يكون أمينا شاكرا لهذا الصنيع من أخيه، ويرد له المال في موعده، عند المطالبة به بدون أي تحايل أو تهرب وليتق الله ربه هنا سمى الله القرض أمانة لأن الناس يرون من الواجب أداء الأمانة عموما، ولكنهم يتكاسلون ويتغافلون عند سداد القرض.يقول الله تعالى : الدِّين في نظري أمانة..فهل تتكاسلون في أداء أمانة من سمح لكم باستخدام هذا المال وأحسن إليكم؟ ما هو الفرق بين الأمانة والقرض؟ الأمانة هى ما يضعه الإنسان عند غيره عندما لا يكون الأمين في حاجة إليه، والقرض يعطيه الدائن المدين عندما يكون المدين في حاجة إليه.فالقرض إحسان أما الأمانة فلا فمن واجب المدين إذن أن يسدد الدين في وقته مع بشاشة القلب.وهذه الآية تلقننا درسا ضمنيا للحفاظ على كل نوع من الأمانات، وردها إلى أهلها في موعدها كما صرح بذلك في موضع آخر في القرآن الكريم (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) (المؤمنون (۹) ونصح الله هنا أن ترك الأمانة عند أحد

Page 749

٧٤٦ سورة البقرة الجزء الثاني فرغ هام من فروع المدنية، فتجب مراعاة تقوى الله أيضا عند أداء الأمانة وليس في سداد القرض فقط، ويجب ألا تماطلوا وتُسَوِّفوا عندما يطالب بهما صاحبها.ثم قدم نصحا آخر فقال ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)..أي يجب أن تقولوا الحق دائما في معاملاتكم، ولا تحاولوا إخفاء الشهادة أبدا، وإلا قلبكم آلما.وإذا أثم القلب فأين يبقى نور الإيمان؟ يصبح ولم يكن هذا النصح إلى الشهداء فقط، وإنما وجهه الله إلى كل من يشارك في المعاملات وقال: يجب ألا يكون فيكم من يكذب أو يدلي بشهادة باطلة، وليس ذلك فحسب، بل لا يخفي شهادة حقة أبدا ، وإلا فرغم أنكم قد تجنون نفعا دنيويا، لكن القدرة على فعل الخيرات تنزع منكم، وتصبح قلوبكم مسودة.وباختصار، فإن الإسلام قدّم في هذه الآيات تعاليم جامعة وغاية في الشمول لو عمل بها المسلمون لتجنبوا شتى المشاكل المدنية.لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٥) النبي التفسير : يظن البعض أن قوله تعالى (وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الله قد نُسخ بقوله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).أي قيل من قبل أنكم تحاسبون على ما في قلوبكم من أفكار، سواء أبديتموها أي نفذتموها، أو أخفيتموها ولم تعملوا بها بجوار حكم؛ ولكنه بعد ذلك نسخ هذا الحكم وقال لن نحمل أحدا هذا الثقل الذي يفوق طاقته إذ لا أحد يملك قدرة على ما يتولد في قلبه من أفكار الناسخ والمنسوخ للنحاس).وهذا القول خطأ..لأن النسخ يتعلق بتغير الأحوال وليس بأفكار القلب.مثلا، كان أكل لحم الحمر الإنسية مسموحا به في الإسلام، ولكنه حرم فيما بعد..أما حالة قلوب الصحابة فكانت هي هي لم تتبدل..أي كما كانوا لا يملكون سلطانا

Page 750

الجزء الثاني على أفكارهم ٧٤٧ سورة البقرة معنى القلبية من قبل..فإنهم أيضا ما زالوا لا يملكونها من بعد؛ فلا للنسخ فيما يتعلق بأفكار القلب..لأنه إنما تُنسَخ الأحكام التي تتعلق بتغير الأحوال فقط، ولكن أمر الأفكار لا يتغير.الحقيقة أن هؤلاء لم يدركوا فحوى هذه الآية.لقد ظنوا أن الآية تتحدث عن كل ما يتولد في القلب من أفكار.مع أنها تتحدث عما يخفيه الإنسان في نفسه من أفكار فاسدة وأمور سيئة.إن الأفكار العابرة مغفورة بلا شك، ولا تتناولها الآية.إذا تولدت فكرة سيئة في قلبه، فنفضها فورا..فهذا ليس إثما، بل حسنة يثاب عليها.فلا مؤاخذة على أفكار القلب ما لم ينفذها الإنسان، أو لم يعزم عزما قويا على العمل بها.فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها..ما لم تعمل أو تكلم) (البخاري، العتق).ولكن هناك أفكار تبقى مكتومة وتظل جذروها ثابتة في القلب كعقيدة خاطئة، أو نوايا سيئة لا يزال يوطن نفسه عليها، ولا ينفك يفكر فيها، ويخطط لتنفيذها..كبغض أو غل أو سرقة أو قتل..فهذه لا تغفر له هكذا، وإن لم يستطع العمل بها.إذا غفر له عنها بدون توبة فلا يبقى للإيمان حقيقة، لذلك لا بد أن يؤاخذ عليها، لأن هذه هي أصل كل الآثام.ولذلك يقول الله (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت (قلوبكم (البقرة: ٢٢٦)، وقال أيضا (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) (الإسراء:۳۷).فالإنسان يحاسب إلى جانب ما ارتكبه بالعين والأذن على أفكار كانت تتولد في قلبه بصورة مستمرة.كذلك قال تعالى (إن الذين يحبون أن تشیع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (النور: (٢٠).هذه الآية لا تذكر لهؤلاء أي عمل ظاهري..وإنما تذكر هذه العقوبة على ما في قلوبهم من نوايا سيئة وقال أيضا ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة: ٢٨٤).

Page 751

٧٤٨ سورة البقرة الجزء الثاني وهناك حديث آخر عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا) (مسلم، الإيمان).هذه الآيات والأحاديث أن الأفكار الإنسانية على ثلاثة أنواع: الأول: ما ينشأ في القلب من وسوسة أو فكرة وتزول تلقائيا، فلا ثواب عليها ولا يتبين من عقاب.الثاني: تتولد في القلب عقيدة سيئة، أو رغبة شريرة، فيطردها بالتفل على يساره وبالاستغفار والحوقلة..تكتب له حسنة.لأنه قاومها وطردها.الثالث: أما إذا لم يطردها واحتفظ بها في طيات قلبه، ظنا منه أنها ملكه، ولم ينفك يفكر ويخطط لتنفيذها.فإنها وإن لم يتمكن من تنفيذها تُحتسب عليه سيئة.ورد في الحديث أنه اشتد نزول هذه الآية على أصحاب رسول الله ﷺ فأتوه ثم بركوا على ركبهم فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها.فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) (مسلم، الإيمان).يتبين من ذلك أن الصحابة الكرام اعترفوا بخطئهم على الفور بتوجيه النبي ﷺ فمدحهم الله وأثنى عليهم.فكيف يمكن أن تُنسخ هذه الآية..لأنه إنما ينسخ الحكم وليس هنا أي حكم عملي.الواقع أن الله تعالى قد بين هنا ضرورة طهارة الأفكار لتزكية النفس.صحيح أن من المستحيل لكل إنسان أن يبقي أفكاره طاهرة تماما، ولكن يمكن لكل واحد أن يطهر قلبه بطرد كل فكرة سيئة تتولد فيه.مثلا: إذا وسوست نفس أحد أن يرتشي..فعليه ألا يفكر في حيل للحصول على الرشوة.بل يحاول بكل وسعه نفض هذه الفكرة من قلبه وإلا تعمقت في قلبه بالتدريج حتى يصعب عليه محوها.

Page 752

الجزء الثاني ٧٤٩ سورة البقرة كذلك لو رأى أحد في طريقه مالا أو متاعا وفكر أن يلتقطه.فلا يؤاخذ على مجرد هذه الفكرة.ولكن إذا بدأ يفكر كيف آخذها ومتى أحصل عليها، وبدأ يخطط لذلك..فهو معرض للمؤاخذة وباختصار، فإن تزكية النفس تتأسس على طهارة القلب، وقد ألقى رسول الله لولا الضوء على أهمية هذا الأمر في حديث آخر يقول: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد كله، وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله..ألا وهي القلب) (البخاري، الإيمان).فالطهارة عند الإسلام لا تعني أن يكون الإنسان طاهر الحديث حسن العمل..بينما يُخفي السيئة في قلبه، وإنما الطهارة الحقيقية هي طهارة القلب..فغير طاهر القلب غير طاهر عند الله تعالى.إذا لم يرتكب أحد سيئة أبدا..ولكن في قلبه ألفة للإثم وحب للمعصية ويتلذذ بذكر الإثم فلا يُعتبر صالحا وطاهرا..ما لم يشعر في قلبه كراهة للمعصية.كذلك هناك كثير من الناس يغضبون ولكن لا يسبون باللسان..أما قلوبهم فتردد أفحش الشتائم، ولا نستطيع القول عن مثل هؤلاء إنهم أطهار، وإنما يكتمون سوءهم.فطهارة الإسلام هي طهارة القلب، أما الأعمال واللسان فهي أدوات لظهورها.لذلك قال الله هنا إن الإنسان يُحاسب على حال قلبه..سواء أخفيتم حال قلوبكم أو أبديتموه ما أروعها حكمة بينها الله هنا إذ قال إن الأعمال واللسان هي للتعبير عن حال القلب..فالأصل هو حال القلب، وعليه يحاسب الإنسان..فقال: سواء أبديتم حال قلوبكم أو أخفيتموه..أي لم تعبروا عن سيئة قلبكم بالعمل واللسان، فإنكم سوف تحاسبون على هذه السيئة.وقوله (يحاسبكم به الله..(الباء) هنا يمكن أن تكون لها ثلاثة معان: أولا- السببية..والمعنى أن الله سوف يحاسبكم بهذا الطريق..أي يؤسس أعمالكم على حال القلب، ولا ينظر إلى ظاهرها فقط، بل ينظر إلى النيات أيضا، كما ورد في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) (البخاري، بدء الوحي)

Page 753

الجزء الثاني ٧٥٠ سورة البقرة ثانيا الباء بمعنى (في)، والمراد : يحاسبكم في شأن ما تبدون وما تخفون..كما قال في آية أخرى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة: ٢٢٦).ثالثا- الباء بمعنى (على) أي يحاسبكم عليه.وفي قوله تعالى فيغر) لمن يشاء ويعذب من يشاء بيّن أن الإنسان يجازي بحسب نيته.فالمستحق للعقاب يعاقب، والمستحق للمغفرة يستره الله في كنف غفرانه.ذُكر من قبل أربعة مهام عظيمة للرسول ﷺ وهي: تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، وتعليم الحكمة، وتزكية النفوس، وحتى الآن في هذه السورة ألقى الضوء على المهام الثلاثة الأولى بالتفصيل، وبداية من هنا يُلقي الضوء على مهمة تزكية النفوس.وكل إنسان يفهم أن تزكية النفوس ليست في وُسع أحد.التزكية تستلزم أمرين: الأول ترك المعصية، والثاني- التقدم في الروحانية أما عن ترك المعصية فقال: نخبركم أن كل شيء ملك الله تعالى، وكل ذرة من السماوات والأرض تحت حكمه، فخذوا فقط ما يسمح لكم بأخذه، وانتهوا عما ينهاكم عنه؛ لأن من يستخدم الشيء بدون إذن ما يسمح من صاحبه يستوجب العقاب.أما في صدد التقدم في الروحانية فقال: كل شيء ملك لنا، وكل خير وبركة تُنال من أيدينا.فإذا عملتم بأوامرنا فإننا نستركم برداء مغفرتنا؛ ونوصلكم بيد قدرتنا إلى عتبة قربنا.آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٦) التفسير: بين هنا أن شعار المؤمن لكي يحقق تزكية النفس- هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا، وصرح أن الإنسان لا يفوز برضوان الله تعالى ما لم يصلح عقيدته وعمله معا.

Page 754

٧٥١ سورة البقرة الجزء الثاني ولكن الأسف أن الناس رغم وجود هذه الآية الصريحة..يظنون أنه يكفي للنجاة الإيمان بالله ولا ضرورة للإيمان بكتبه ورسله وملائكته.مثل هذه الأفكار كانت تحول بذهن الطبيب عبد الحكيم ،البتيالوي، وبسببها طرده سيدنا الإمام المهدي من جماعته، وقال بكل حسم وقوة: إن هذه العقيدة منافية للإسلام تماما.الإسلام يوجب الإيمان برسل الله جميعا، وخاصة محمد رسول الله ، حتى ينال الإنسان النجاة (حقيقة الوحي ١٢٢).بقوله (لا نفرق بين أحد من رسله نبه إلى أن رفض أي رسول منهم يجعل الإنسان موردا لغضب الله تعالى.فالإيمان بكل رسول ضروري، سواء كان ذا شرع قديم أو جديد، بعث في الماضي أو يبعث في المستقبل.الله صحيح لا شك أن هناك فرقا كبيرا بين الرسل درجة ومكانة.فالمكانة التي تبوءها الرسول الكريم لم يحزها موسى ولا عيسى ولا أي نبي من الأنبياء عليهم السلام.ولكن فيما يتعلق بموضوع الإيمان بالرسل..فكما أن الإيمان بمحمد ﷺ ضروري، كذلك بدون أي فرق من الضروري الإيمان بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل، ولا يجوز أي تفرقة بينهم في هذا الأمر.كذلك لا يجوز التفريق بينهم فيما يتعلق بضرورة العمل بما يتزل عليهم من وحي أن درجاتهم مختلفة، ولكن الذي يُنزل عليهم كلامه واحد فمثلا لو قال أحد إن النبي فلانا أعلى درجة من الآخر، فلذا أقبل ما نزل عليه من الوحي، ولكن هذا الآخر أدنى منه درجة فلا أصدق بما نزل عليه، فمثل هذا التفريق الأحمق هو كقول أحد : لقد أرسل إلي المدير أمره في بريد عادي، ولم يرسله في بريد مسجل، ولذلك لا أعمل به هل هناك أجهل ممن يقول بهذا العذر أو يقبل به؟ فإذا كان هذا لا يُقبل بالنسبة إلى المدير، فكيف يجوز أن يقال مثل ذلك بالنسبة إلى كلام الله؟ لذلك ذكر الله علامة المؤمنين أنهم قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)..أي أنهم لا يتهاونون ولا يتكاسلون لحظة في طاعة أوامر الله، بل بمجرد أن سمعوا حكمه قالوا سمعنا وأطعنا من صميم قلوبنا.

Page 755

٧٥٢ سورة البقرة الجزء الثاني (غفرانك ربنا وإليك المصير).هناك فعل محذوف قبل غفرانك) تقديره (اغفر) والمعنى يا رب أعطنا نصيبا من غفرانك واعف عنا.في الآيات السابقة، نبّه إلى تزكية النفوس خاصة.لذلك بيّن هنا أنه الآن قد وجدت ببركة القوة القدسية لمحمد رسول الله جماعة طاهرة تقول (سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير) وتحني رأسها في كل حال عند عتبة الله تعالى.لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الْكَافِرِينَ (۲۸۷) شرح الكلمات : يكلفكلّفه: أمره بما يشق عليه (الأقرب).ورد في الحديث (كلفنا من الأعمال ما نطيق) (مسلم، الإيمان).إصرا - الإصر : الثقل ؛ العهد الذنب (الأقرب).لا تحملنا - حمله الأمر : جعله يحمله وكلّفه بمحله (الأقرب).التفسير : في قوله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها بين أنه لا يأمر الإنسان بما يفوق قدرته أو استعداده.فما دامت أحكامه تكون دائما داخل نطاق قدرة الإنسان، فلا بد أن تكون المسئولية الكاملة عليه.فهو الذي يستحق بالعمل بها نعم الله وهو الذي يستحق بعدم العمل عقوبة منه تعالى ولذلك أتبعه الله بقوله (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت أي إذا عمل حسنا جنى هو نفعه، وإذا عمل سيئا يتضرر هو نفسه.ونبه هنا ضمنيا إلى الأمور التالية: أولا إن المهمة التي أنيطت بالأمة المحمدية في هذا العصر هي في نطاق قدرتها ووسعها، وسوف تُري هذه الأمة العالم في يوم من الأيام بإنجازها هذه المهمة أنهم

Page 756

الجزء الثاني ٧٥٣ سورة البقرة كانوا أولى وأحق بها.ولو أن هذه المهمة أنيطت بأمة نبي سابق ما استطاعوا إنجازها.وثانيا - تذكر هذه الفقرة أيضا فضيلة أخرى للإسلام أنه وضع في أحكامه كلها مرونة نظرا إلى ضعف الناس وحاجاتهم..بحيث يمكن العمل بها في أي ظرف أما الأديان الأخرى فإنها في تعاليمها مالت إلى الإفراط أو إلى التفريط، ففقدت الاعتدال والتوازن الحقيقي؛ وبالتالي زال تأثيرها وحكمها على القلوب.إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحكم قلوب الناس بفضل تعاليمه الموافقة للفطرة الإنسانية.وثالثا: إنه ما دامت جميع أوامرنا في نطاق قدرتكم واستعدادكم، و لم نحملكم ما لا طاقة لكم به..فمن واجبكم الآن أن تعملوا بها حق العمل بأمانة.رابعا إن هذه الفقرة تُبطل عقيدة الكفّارة، حيث بينت أن تجنب الإثم ليس فوق قدرة الإنسان ، بل كل إنسان قادر على أن يقهر المعصية إذا أراد.فلا حاجة له إلى أي كفّارة للنجاة، وإنما هناك حاجة لاستثارة قواه الفطرية وحسن استخدامها.وقوله (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت الفرق بين الكسب والاكتساب أن الاكتساب يدل على بذل المزيد من الجهد والمشقة.فباختيار كلمة (الكسب) للحسنة، و(الاكتساب) للسيئة أشار إلى أن الحسنة أمر فطري في الإنسان، ولا يحمله العمل بها مشقة، ولكن السيئة عمل غير فطري، وإنها تتولد بسوء استخدام القوى الخلقية، ولذلك يضطر مرتكبها لسلوك طريق يكلفه العناء والجهد.كما أن هذه الكلمات تشير إلى أن صاحب الحسنة ينال الجزاء في كل حال، ولكن من عمل سيئة فإنما يعاقب عليها فقط إذا كان قد اكتسبها..أي ارتكبها قصدا وعمدًا.وبعد هذا علم الله المؤمنين بعض الأدعية الخاصة لتزكية النفس..لأن الدعاء هو الوسيلة الوحيدة التي تمكن الإنسان من رؤية وجه الله تعالى، وتهب له الإيمان الحي بقدرة الله والدعاء الذي يعلمه بنفسه لا يبقى أي مجال للشك في استجابته وقبوله.يقول الله: إن عبادنا المؤمنين يدعون دائما (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا)..

Page 757

٧٥٤ سورة البقرة الجزء الثاني يا رب، إذا كنا قد نسينا العمل ببعض الأمور، ووقعنا في بعض الأخطاء، فلا تعاقبنا، بل ارحمنا وعاملنا بالعفو.عنه أثار البعض سؤالا بأن الخطأ والنسيان بمعنى واحد، فلماذا جاء بهما؟ ولكن هؤلاء لا يفهمون أن أخطاء الإنسان في العمل على نوعين: الأول- أنه لا يقوم بأعمال كان من الضروري القيام بها، والثاني - أن يقوم بأعمال واجبة ولكن بطريقة خاطئة.فمعنى إن نسينا يا رب لا تجعلنا نتغافل عن القيام بواجباتنا حتى لا تحرم من الرقي، فاحمنا من هذا الخطأ والحرمان.ومعنى (أو أخطأنا)..يا رب، احفظنا من أعمال يجب اجتنابها، أو احمنا من القيام بواجباتنا بالخطأ.فالنسيان يدل على عدم العمل، والخطأ يدل على العمل على غير الوجه الصحيح.فليس هناك زيادة..وكل كلمة منهما في مكانها المناسب.ومثال النسيان ما وقع فيه آدم، فقد قال الله (فنسي و لم نجد له عَزما) (طه: ١١٦).(ربنا لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا.والإصر يعني الإثم أيضا.فمعنى الدعاء: يا رب، لا تُلْقِ علينا الإثم كما ألقيته على من قبلنا من الأمم..أي احمنا بفضلك من الأعمال التي بسببها يُنسب الإثم إلينا، ويعتبرنا الناس ظالمين مسودي الوجوه وينسبون إلينا مختلف العيوب كما حدث للأمم السابقة.والإصر يعني العهد أيضا، فالمعنى: يا رب لا تأخذ منا عهدا نستوجب عقوبتك بإخلافه..كما استوجبتها الأمم من قبلنا.وهنا سؤال: إذا كان أخذ العهد شيئا كريها فلماذا أُخذت العهود من السابقة؟ وإذا كان أخذ العهد جيدا فلماذا لا يؤخذ من أمة الإسلام؟ بل كان من الضروري أن يؤخذ العهد من كل فرد منها لأنها خير الأمم.فلنعلم..أن هذه العبارة لا تعني ألا يأخذ ربنا أي عهد منا مطلقا، وإنما المراد يا رب، إذا أخذت منا عهدا فوفقنا للعمل بحسبه حتى لا نعد كالأمم السابقة من الغادرين المخلفين كأن هذا الدعاء ليس للفرار من العهد، وإنما هو دعاء للتوفيق في أداء ما يتطلبه العهد على أحسن وجه.الأمم

Page 758

الجزء الثاني ٧٥٥ سورة البقرة والإصر يعني الثقل أيضا.فالمراد يا رب لا تضع على كواهلنا ثقلا كما ألقيته على من سبقونا ولا يعني هذا الدعاء ألا تفرض علينا -مثلا- صلوات كثيرة لا نستطيع أن نؤديها، لأن الله تعالى سبق أن قال (لا يكلف نفسا إلا وسعها)، وإنما يعني: يا رب لا تفرض علينا عقوبات فرضتها على من قبلنا بسبب بعض جرائمهم ولا تجعلنا نرتكب ما ارتكبوه من أخطاء ونجم عنها هلاكهم.لقد عصوك وخالفوا أوامرك، فسلّطت عليهم حكومات، وفرضت عليهم قوانين ثقلت عليهم و لم يستطيعوا تحملها.فأقمنا بفضلك مقاما بحيث لا نرتكب مثل أخطائهم، ولا نتعرض لمثل عقوباتهم التي تفوق طاقة تحملنا.ولا يعني أن لا حرج عندنا في عقوبة إلهية تكون في نطاق قدرتنا.الواقع أن كل عقاب روحاني يفوق قدرة الإنسان، وإنما هي رذالة الإنسان التي بسببها يتحمل هذه العقوبة، وإلا فإن الإنسان الشريف النفس لا يتحمل حتى أدنى عقوبة.فمثلا إذا كان الإنسان عاشقا فإن أقل سخط من حبيبه يوقعه في قلق وهم، فأحيانا يقول: لم ينظر إلي المحبوب، وأحيانا يقول: لم يتكلم معي، أو تكلم ولم أشعر ببشاشة، ويثقل عليه ذلك حتى يمسي ويصبح في هم شديد.فلا يعني قوله تعالى (لا تحمل علينا إصرا) لا تعاقبنا عقوبة كبيرة، ولكن لا حرج في عقوبة صغيرة..وإنما المعنى: لا تعاقبنا عقابا كبيرا ولا صغيرا.ثم هناك من المصائب ما يحل بالإنسان دون جُرم منه.فقد يقع الجار في تقصير ويتضرر الإنسان منه، ويخطئ الصديق فيصيب الصاحب نصيب من العقاب..لذلك علم الله المؤمنين الدعاء المؤمنين الدعاء..أولا- أن الخطأ والنسيان حتى لا يستحقوا يجنبهم بهما العقاب، وثانيا - علمهم دعاء ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به)..يا رب، لا تعرضنا لموقف يُخطئ فيه من حولنا ونتحمل نحن آثار مصائبهم! ولكن زاد هنا شرطا وقال: (ما لا طاقة لنا به ذلك لأن الكلام هنا لا يتعلق بسخط الله تعالى، وإنما يتعلق بالمصائب والابتلاءات الدنيوية.السخط الإلهي لا يتحمل ولو كان ضئيلا، ولكن الأذى البسيط فيتحمله الإنسان.فعندما كان الحديث عن العقوبة الروحانية والسخط الإلهي علمنا أن ندعو بأننا لا نستطيع

Page 759

الجزء الثاني ٧٥٦ سورة البقرة تحمل أي سخط منك كبيرا أو صغيرا، ولكن عند الحديث عن مصائب الدنيا علّمنا أن ندعو بأن الابتلاء البسيط الذي في طاقتي احتماله فلا منه.لا أقول أن حرج أسير في طريق مفروش بالورود.غير أني ألتمس منك فيما يتعلق بالابتلاء الذي ليس وراءه سخطك، والذي يمر به الناس عموما..ألا تحملني منه ما لا طاقة لي به.وهذا لا يعني أن المؤمن يريد لنفسه الابتلاء..ولكن بما أن الله أخبر أنه يبتلي عباده المؤمنين، لذلك يقول المؤمن يا رب لا أقول لا تختبرني ولكني أقول ألا تختبرني بما لا أطيقه.ثم قال (واعف عنا) وهذا في مقابل (إن نسينا)..أي إذا لم نقم ببعض أعمال كان يجب أن نقوم بها ، فنتوسل إليك أن تعفو عنا واغفر لنا وهذا إزاء (أو أخطأنا)..أي احفظنا من وبال ما ارتكبنا من أخطاء فيما فعلنا وكأننا لم نقم بشيء.العفو يعني الرحمة أيضا، والرحمة بمن فاته شيء هي أن يُعطى عوضا عنه حتى لا يتحمل عاقبة نسيانه..ومن هنا يكون معنى واعف عنا أن هيئ لنا بفضلك ورحمتك ما فاتنا.أما فيما يتعلق بالخطأ في عمل فيمكن تداركه بمحو هذا الخطأ..لذلك قال (واغفر لنا بإزاء (أو أخطأنا).والغفران يعني المحو أيضا (اللسان).فالمعنى: امح من فضلك ما ارتكبنا من أخطاء في أعمالنا محوا كأنها لم تكن.فمن ناحية علّمنا أن ندعو كي يسد فراغ أعمال لم نقم بها نسيانا منا، ومن ناحية أخرى أن ندعو ليمحو أخطاءنا فيما عملناه.(وارحمنا)- أي أن الأخطاء التي نجمت عن الأعمال الخاطئة السابقة، والتي حالت دون رقينا..ارحمنا بصددها، وارفع برحمتك وفضلك العوائق الحائلة دون رقينا.(أنت (مولانا)..أنت سيدنا ومالكنا، ولا بد أن ينسب الناس تقصيراتنا إليك بطريق أو آخر.سيقولون: هؤلاء يُدعون (جماعة ربانية) ومع ذلك أصابهم الأذى ووقعوا في المصائب كغيرهم.فيا رب أنت سيدنا ونحن عبيدك، فارحمنا رحمة السيد لعبده..حتى لا تُنسب أخطاؤنا إليك - سبحانك، فتتسبب في حرمان الناس من الهدى.ورد في الحديث أن أبا سفيان في غزوة أحد هتف بكل قوة: لنا عُزّى ولا عُزّى لكم..يزهو بتأييد هذا الصنم له، ولكن ليس للمسلمين (عزى) يؤيدهم.

Page 760

VOV سورة البقرة الجزء الثاني فأمر الرسول له أن يقول المسلمون الله) مولانا ولا مولى لكم (البخاري، المغازي)..أي: والينا وناصرنا هو الله الحي القيوم.أما أنتم فلا والي ولا ناصر لكم.فما أروعها من شهادة عملية على صدقهم في قولهم (أنت مولانا)..حيث أعلنوا تحت ظلال السيوف أن ربنا قادر على حمايتنا.وأخيرا علم أن نستمر في دعاء (فانصرنا على القوم الكافرين)..إننا ضعفاء عديمو الحيلة، وعدونا قوي كثير..ولن يتحقق لنا النصر عليه ما لم تكن معنا، وما لم تنفخ بفضلك ورحمتك في كل فرد منا روحا تجعله يغلب مائة بل ألفا من الأعداء.لو تفضلت علينا بهذا عندئذ ننجو، وإلا فلا مجال لنجاتنا فيا رب، اجعلنا غالبين على من يعملون لعرقلة رقي الإسلام، وهيئ لنا أسبابا لنشر دعوتك وإعلاء كلمتك في العالمين.ثم إن هذا الدعاء ليس لغلبة مادية فحسب، بل إنه أيضا ابتهال خاشع متواضع يلتمس الغلبة الروحانية على الأعداء، ويتوسل به المؤمنون إلى ربهم ومولاهم داعين: إذا كان إيماننا برسولك الكريم..لم يخلق فينا تغيرا، بحيث يشعر الناس بفرق روحاني بيننا وبين الكفار، و لم تكن أخلاقنا وسيرتنا أسمى وأحسن منهم، ولم نكن معاملة..فإن الدنيا سوف تعيرنا : ماذا نفعتهم صحبة محمد والإيمان به؟ أفضل منهم إنها لم تُحدِث فيهم أي تغير حسن.فيا رب وفقنا بفضلك بإحداث تغيير صالح في نفوسنا نجذب به رحمتك وكرمك، فاجعلنا غالبين على الكفار، بارزين عليهم..ليس من الناحية المادية فقط..بل أيضا من الناحية الخلقية والروحانية..حتى ينتشر دينك في أرجاء الدنيا.

Page 760

← Previous BookNext Book →