Language: AR
هذا الكتاب يبحث في أمر عظيم؛ وهو إثبات أن اللغة العربية هي أمّ اللغات كلها.. بمعنى أنها أول لغة علّمها الله تعالى الإنسانَ بالوحي والإلهام, ومنها تفرعت اللغات الأخرى بمشيئة الله. وتكمن أهمية هذا البحث في أنه يُثبت تلقائيًا أن القرآن هو الوحي الحرفي الوحيد الكامل من الله تعالى, وأن اللغة العربية هي لغة الفطرة الإنسانية الأصلية وهي الوحيدة القادرة على تفصيل الإلهيات وعلوم الهداية للإنسان بكلمات وجيزة شاملة مذهلة, ولذلك اختارها الله تعالى ليُنزِل بها أُمَّ الكتاب.. القرآنَ الكريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نَحْمَدُهُ وَنُصَلِّي عَلَى رَسولِه الكريم خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ مِنَنُ الرَّحمن بقلم : سيدنا مرزا غلام أحمد القادياني الإمام المهدي والمسيح الموعود الكلية الشركة الإسلامية المحدودة
اسم الكتاب: منن الرحمن الطبعة الحديثة: 1431 هـ / ۲۰۱۰م Minanur-Rahmān By: Hadrat Mirzā Ghulām Aḥmad (Peace be on him), the Promised Messiah and Mahdi, Founder of the Ahmadiyyah Muslim Jama'at.© Al-Shirkatul Islamiyyah Limited First Published in UK in 2010 by: Al-Shirkatul Islamiyyah Limited Islamabad Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ United Kingdom Printed in UK at: Raqeem Press Tilford ISBN: 185372 870 5
พ พ
BEQUELO جسمین عربي كو من الانستہ ثابت کیا کیسے کو تصنیف لطیف حضرت مرزا غلام احمد سیح موعود السلام ا ان الیت ۲ جون تعداد.١٠٠٠+ صورة غلاف الطبعة الأولى لهذا الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم كلمة الناشر أ هذا الكتاب يبحث في أمر عظيم؛ وهو إثبات أن اللغة العربية هي أُمّ اللغات كلها..بمعنى أنها أوّل لغة علّمها الله تعالى الإنسان بالوحي والإلهام، ومنها تفرعت اللغات الأخرى بمشيئة الله.لقد قام سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي بتأليف هذا الكتاب بتوجيه من الله تعالى في وقت كان الإسلام فيه عرضة لسهام الأعداء، ولم يكن المسلمون قادرين على الدفاع عنه، فجاء كشفه ال عن لثام هذه الحقيقة الكبرى آية على صدق الإسلام وعلوّ مرتبة القرآن على سائر الصحف والأديان.وتكمن أهمية هذا البحث في أنه يُثبت تلقائيا أن القرآن هو الوحي الحرفي الوحيد الكامل من الله تعالى، وأن اللغة العربية هي لغة الفطرة الإنسانية الأصلية وهي الوحيدة القادرة على تفصيل الإلهيات وعلوم الهداية للإنسان بكلمات وجيزة شاملة مذهلة، ولذلك اختارها الله تعالى لينزل بها أُمَّ الكتاب..القرآن الكريم.وقد سار بعض خدام المسيح الموعود اللي على منهجه الذي وضعه لإثبات أن اللغة العربية هي الألسنة، غير أن الذي نال شرف البحث الشامل والمفصل هو المحامي الفاضل الشيخ محمد أحمد
مظهر - وهو ابن الصحابي الكبير منشي ظفر أحمد الكفورتهلوي اليه - الذي ظل طوال حياته عاكفا على دراسة أشهر لغات العالم كالإنكليزية والألمانية واللاتينية والفرنسية والصينية والفارسية والهندية والسنسكريتية، وحقق نجاحا باهرا، إذ أثبت من خلال ألف كلمة من أكثر من أربعين لغة هذه اللغات أن من عشرين جذورها تعود إلى العربية.ثمة أمور لا بد من التنويه إليها، وهي: ١- لقد بدأ المسيح الموعود اللي بتأليف هذا الكتاب عام ١٨٩٥، وأنهى مقدمته في ذلك العام، وذكر أن هذا الكتاب سيحتوي على مقدمة وأبواب ،وخاتمة ولكنه العلي توفي قبل أن يكمله، حيث صرف إلى أمور كثيرة أخرى، ولهذا لم يُنشَر في عهده، بل ظل كما هو حتى نُشر في عام ۱۹۲۲- زمن خليفته الثاني له وحيث إن المسيح الموعود الله لم يراجعه، فقد بقيت فيه أخطاء النسّاخ ، التي لم نُشِرْ إليها في الحواشي كما فعلنا في كثير كتبه العليا.من وكان الله قد كتب بعض أجزاء الكتاب بالأردية، فترجمناها وألحقناها بالنص العربي مع الإشارة إلى ذلك.٢- اعتمدنا في إخراج هذا الكتاب على طبعته الأولى المحفوظة حاليًا في مكتبة "الخلافة" المكتبة المركزية للجماعة بربوة، باكستان.
ج ٣- ثمة هوامش وضعها سيدنا أحمد ال بنفسه، وكَتَبَ - عمومًا - عند نهايتها: "منه" أي من المؤلف.٤- وهناك بضعة هوامش أخرى قد أضافتها اللجنة العاملة على إخراج هذه الطبعة، وقد ميّزت عن الهوامش الأصلية بالخط المائل.ه إن أرقام الآيات القرآنية وأسماء سورها لم ترد في الأصل بل أضيفت من قبل الناشر في الهامش.علما أن أرقام الآيات تبدأ باعتبار البسملة آية أولى من كل سورة وردت فيها.ولا يسعنا هنا إلا أن نشكر ونطلب الدعاء للذين ساهموا في إخراج هذه الطبعة، وهم السادة الأفاضل: مصطفى ثابت، تميم أبو دقة، هاني طاهر، خالد عزام سيد عبد الحي شاه، جميل الرحمن رفيق، مرزا محمد الدين ناز، رانا تصور أحمد خان، رفيق أحمد ناصر، عبد الرزاق فراز، أحمد خالد، محمد يوسف شاهد، نويد أحمد سعيد، حفيظ الله بهروانه، عبد المجيد عامر محمد أحمد نعيم محمد طاهر نديم، وعبد فهيم المؤمن طاهر.جزاهم الله أحسن الجزاء، آمين.عن نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الكتاب القيم سراجًا منيرا للباحثين الحق وسببًا لإرواء غليلهم الروحاني، ويهدي به كثيرا من عباده إلى الصدق والحق آمين وما ذلك على القدير بعزيز.الناشر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مولى النعم، والصلاة والسلام على سيد الرسل وسراج الأمم، وأصحابه الهادين المهديين وآله الطاهرين المطهرين.أما بعـد، فإن القرآن كجوهرة لامعة وقمر منير تلمع أشعة صدقه وبروق كونه من عند الله تعالى في آلاف الجهات وليس في جهة أو جهتين، وبقدر ما يسعى مناهضو هذا الدين المتين ليطفئوا هذا النور الرباني فإنه يضيء أكثر فأكثر ويصبي إليه كل أهل بصيرة بحسنه وجماله.ولما كان القسيسون والآريون الهندوس في هذا الزمن المظلم لم يألوا جهدًا بسبب عمايتهم في أن يشنّوا على هذا النور كل تلك الهجمات التي يمكن أن يشنّها أكبر الجاهلين المتعصبين، لذلك فإن هذا النور الأزلي قد دلّل من كل جانب على كونه مــــــن تعالى.إن من مزاياه العظيمة أنه بنفسه يدّعي بما يحتوي عليه مـــــن الله هدايات وكمالات، ثم يأتي بالأدلة على دعواه.وهي ميزة عظيمة لا قدمها توجد في أي كتاب آخر.ومن الأدلة والبراهين العظيمة التي القرآن الكريم على كونه من عند الله تعالى وعلى أفضليته دليـل من هنا تبدأ ترجمة عربية لمقدمة كتبها سيدنا المسيح الموعود العليا هنــــا باللغة الأردية (اللجنة)
عظیم ألفنا من أجله هذا الكتاب بالشرح والتفصيل، وهذا الدليل ينبع من عين أُمّ الألسنة الصافية الطاهرة التي يلمع زلالهــا لمــــان النجوم، وتروي كل متعطش للمعرفة بماء اليقين، وينقيه من درن الشكوك والشبهات.وهذا الدليل لم يقدمه أي كتاب سابق علـــى صدقه، وإذا كان الفيدا الهندوسي أو غيره من الكتب السابقة قـــد قدّم هذا الدليل على صدقه، فمن واجب أتباعه أن يقدموا تلـك العبارة من الفيدا أولاً عند المواجهة.وملخص هذا الدليل هو أن إلقاء نظرة على شتى اللغات يؤكــــد وجود اشتراك بين لغات العالم كلها.ثم إن نظرة عميقة أخرى في اللغات تثبت تماما أن أُمَّ جميع هذه اللغات المشتركة هـــي العربية، ومنها خرجت كل اللغات الأخرى.ثم إن البحث الكامل الواسع جدا؛ أعني الاطّلاع الكامل على الكمالات الخارقة للعربية، يجعـــل المرء يقرّ أن هذه اللغة ليست أُمَّ الألسنة فحسب، بل هي لغة إلهية علمها الله تعالى الإنسان بمشيئته الخاصة وبوحيه وبإلهامه، وأنها ليست اختراع بشر.وإذا كانت العربية هي اللغة الإلهية الإلهامية بين جميع اللغات، فلا بد من الاعتراف أيضا أنها وحدها كانت أهلاً لنزول الإلهي الأكمل والأتم؛ إذ من الضروري جدا أن كتاب الله الوحي الذي ينزل لهداية الأمم كلها لا بد أن ينزل بلغة إلهامية هي أُمُّ
الألسنة، لكي تكون لها علاقة طبيعية بكل لغة أخرى وأهلها، ولكي تنطوي كونها لغة إلهامية - على جميع البركات التي توجد في الأشياء التي تخرج من يد الله المباركة.وحيث إنّ اللغات الأخرى لم يخترعها الناس عمدا، بل تفرعت كلها بحكم الرب القدير من هذه اللغــة المباركة ثم تشوّهت، وهي ذريتها في الحقيقة، فما كان عبئًا أن تنزل بتلك اللغات أيضا صحفٌ ربانية إلى شعوب معينة.بيد أنــــه كان لزاما أن ينزل الكتاب الأقوى والأعلى باللغة العربية حتما، لأنها أم الألسنة، ولغة إلهامية أصلية خرجت من لدن الله تعالى.ولما كان القرآن هو الذي أتى بهذا الدليل، وهو الذي ادعـــى بهــذه الدعوى، وليس هناك كتاب مقدس سواه باللغة العربية يدعي بهذه الدعوى، فلا بد من الاعتراف أن القرآن الكريم من عند ا الله تعالى، وأنه مهيمن على الصحف كلها وإلا صارت كل الصحف الأخرى باطلة.وتحقيقا لهذا الهدف قد ألفت هذا الكتاب..أعني لكي أثبت أولاً بعونه تعالى اشتراك اللغات كلها، ثم أورد عليكم الأدلة علــــى كون العربية أُمَّ الألسنة واللغة الإلهاميــة الأصلية، ثم بنـــاء عـلـــى خصوصية العربية بكونها لغة كاملة خالصة وإلهامية، أُدلّـــل علـــى النتيجة القطعية اليقينية بأن القرآن الكريم هو أعلى الصحف وأرفعها،
٤ وأتمها وأكملها، وخاتمها وأمّ الكتب كلها، كمـا أن العربيـــة أم الألسنة.ولا بد لنا في هذا البحث والتحقيق أن نتخطى المراحل الثلاث التالية: المرحلة الأولى : إثبات اشتراك اللغات كلها.المرحلة الثانية: إثبات أن العربية هى أُمُّ الألسنة.المرحلة الثالثة: إثبات أن العربية لغة إلهامية لكمالاتها الخاصة ومزاياها الخارقة.يدرك معارضونا جيدا أنه لو حكم هذا البحث والتحقيق في صالح العربية، فلا بد من الإقرار أن القرآن من عند الله تعالى، وليس ذلك فحسب، بل لا بد من الإقرار أيضًا أن الكتاب الذي نزل بلغة إلهامية أصلية كاملة إنما هو القرآن ،وحده، وأن اللغات الأخرى كلها متطفلة عليها، وبعد انكشاف هذه الحقيقة لا بد أن يقام مأتم عند كل الأمم الأخرى، لا سيما الآريين الهندوس الذين يزعمون باطلا أن لغتهم السنسكريتية هي لغةُ بَرْميشَر..أي لغة الله، وأنها هي اللغة الكاملة الإلهامية، وأنها هي أم الألسنة، مع أنهم لم يقدموا حتى اليوم أي قول من كتابهم "الفيدا" يؤكد أن الفيدا قد ادعى بنفسه مثــل هـذه الدعوى.
وليكن معلوما أنه قد سبق أن تكلّم بعض الآريين (الهندوس) الجهلة البذيئي اللسان بهراء كثير ضد الإسلام، ورغم جهلهم الشديد وقلة بضاعتهم العلمية قد أقحموا أنفسهم في المباحثات الدينية، وقد أساء بعض الأشرار السَّفَلة العديمي الحياء منهم إلى القرآن الكريم - كلام الله المجيد المقدس - تعصبا لكتابهم "الفيدا"، وهكذا أظهروا مـــا في بواطنهم من خبث وسوء، وخدعوا البسطاء بأنهم كبار علماء "الفيدا" وحكماؤه، وأنهم رأوا في "الفيدا" فضائل كثيرة، فلذلك مالوا إليه.ولكن هذا البحث والتحقيق الذي نقدمه الآن علمي، فلا يمكن أن يتكلم فيه جهالُ أي دين، لأن الكلام في هذا المقام يتطلب علما ومعرفة، ولا ينفع فيه الكلام الفارغ الذي يُلقى هَذَرًا.هذا البحث كامل، أصله ثابت وفرعه في السماء، بمعنى أن المرء لا يزال أن يصعد في هذه الشجرة حتى يجني ثمرة الحقيقة الروحانية.وبديهي الفروع تتغذى وتتقوى من الأصل، إلا أن الثمار التي تؤكل لا يحملها الأصل، بل تحملها الفروع نفسها كذلك لا تظهر النتيجة الحقيقية لكل الوقائع إلا في فروع هذا العلم، فالذين يقومون ببحث موضوعي في هذه الوقائع ويحفظون الحقائق الثابتة في أذهانهم حفظًا جيدًا يرون بكل وضوح تلك الثمار التي تمتلئ بها تلـك الفـــــروع والأغصان.
وليكن معلوما أننا لكي نصل إلى حقيقة أن القرآن الكريم من عند الله تعالى وأنه أم الكتب فإن هناك ثلاثة أمور فقط تتطلب منا بحثًـ وإثباتًا، وقد ذكرنا هذه الأمور الثلاثة آنفا، ولا شك أن غشاوة الجهل ستزول عن عيون من يستوعبها جيدا، وسيعترف حتمـــا بالنتيجة التي توصل إليها هذه الوقائع.إن أول هذه الأمور الثلاثة التي هي بحاجة إلى البحث والإثبات هو اشتراك الألسنة كلها، وقد تم إثبات هذا الأمر في كتابنا هذا بوضوح - وجلاء لا يُتَصَوَّر أكثر منه في أي بحث وتحقيق؛ فبرغم أن إثبات اشتراك لفظ واحد بين جميع اللغات يكفي لإثبات هذا الاشتراك فيها، إلا أننا قد أثبتنا في هذا الكتاب اشتراك آلاف الكلمات بــين اللغات، وبرهنا بها بكل جلاء اشتراك العربية مع كل لغة أخرى.والقضية الثانية التي بحاجة إلى تحقيق وإثبات هي أن العربية هي وحدها أم الألسنة بين جميع اللغات المشتركة، وقد فصلنا الأدلة على ذلك في هذا الكتاب تفصيلا، وأثبتنا أن من الخواص الكمالية للعربية أن فيها نظامًا فطريا طبيعيا، وأنها تُري جمال الصنعة الإلهية كما هـو موجود في أفعاله الأخرى في الكون.كما أثبتنا أيضا أن اللغات جميع الأخرى صورة مشوهة للعربية، فبقدر ما حافظت هذه اللغة المباركة على هيئتها في اللغات الأخرى، فهي تلمع فيهـا لمعــان المـــاس
V والياقوت، وتصبي القلوب بحسنها الأخاذ، ولكن بقدر ما تشوهت هذه الكلمات العربية بعد انتقالها إلى اللغات الأخرى فقدت روعتها وجمالها.وواضح أن كل شيء خرج من يد الله تعالى ينطوي على خواص خارقة حتمًا ما دام محفوظًا بصورته الأصلية، ولا يقدر الإنسان على الإتيان بمثله، وبقدر ما يسقط من حالته الأصلية تتغير صورته ويتضاءل حسنه.خذوا الشجرة مثلاً، فكم هي تبدو جميلة ورائعــــة في حالتها الأصلية، وتتحدى بلسان حالها..بخضرتها الجميلة وظلها المنعش وأزهارها وثمارها..أن الإنسان ليس بقادر على الإتيان بمثلها، ولكنها عندما تسقط وتجفّ فإن خواصها تتغير وأحوالها تتبدل كليةً، فلا تبقى فيها نفس الألوان والروعة والنضرة ولا الخضرة الجميلة ولا يبقى هناك أمل لاخضرارها ونمائها وإثمارها في المستقبل.أو خذوا مثلا الإنسان فإنه عندما يكون شابا حيا يشع وجهه جمالاً وبهاء، وتعمل قواه كلها على ما يرام، ويلبس لباسا فاخرا جميلا، ولكن إذا مات فلا تبقى في عيونه ،ملاحة، ولا في وجهه نضارة، ولا يسمع ولا يرى، ولا يفهم ولا يعرف ولا يتكلم ولا يمشي..بـــل يفقد كل هذه الخواص الرائعة.
هذا هو الفرق بين اللغة العربية وغيرها من اللغات.إن العربية تعمل كما يعمل الإنسان اللطيف الطبع الذكي العقل، الذي يعبّر عن مراده بطرق شتى، فهو يعبّر أحيانًا بإشارة حاجبه أو أنفه أو يده عمّا يريد قوله بلسانه..أعني أنه يقدر على تبليغ مراده للمخاطب بأبسط إشارة.هذا من خصائص العربية أيضا، فهى تؤدي بـلام التعريف معنى تؤديه اللغات الأخرى ببضع كلمات، وأحيانا تؤدي بالتنوين معنى لا تؤديه اللغات الأخرى إلا بجمل طويلة، كما تؤدي الحركات في العربية من ضمّ وكسر وفتح ما لا تؤديه بضع جمل في اللغــات الأخرى.ثم إن بعض الكلمات العربية القصيرة جدا تؤدي معنى طويلا بطريق مذهل؛ حتى يقول المرء من أين هذا المعنى.فمثلاً: عرضتُ تعني: زرتُ مكة والمدينة وما حولها من القرى.وطهفلت يعني: أكلتُ خبز الذرة وعاهدت على أكله دائما، وجــــم يعني: انقضى الليل إلى منتصفه وحَيْعل يعني َتعالَ لأداء الصلاة فقد حان وقتها.وهناك كلمات أخرى كثيرة وهي حرف واحد، ولكن معانيهــــا تشتمل على كلمتين أو ثلاث، مثل: ف: أي أوف بعهدك.ق: أي قُمْ بالحماية.
ل: أي اقترب.ع: أي احفظ.إ: أي عِدْ وعدًا.خ: أي اقصد في مشيتك، فلا تسرع فيها ولا تبطئ هــ : أي اضعف وتمزق.د: أي أد الدية..(أي غرامة القتل).ر: أي اشتعل واتَّقِدْ واخرج من القداحة، وأيضا يعني اتسخ.ش: اعمل الوشي على ثيابك.نِ: تَكاسَلْ.ومن عجائب اللغة العربية أنها تجمع في نفسها كـــل الخـواص المتفرقة في اللغات الأخرى.فمن خواص بعض اللغات كالصينية مثلاً أن كل كلماتها أجزاء مستقلة، وكل جزء له معنى مستقل في مکانه، وهذه الخاصية توجد في العربية أيضا.ويقال أن كلمات لغة القارة الأمريكية الأصلية متكونة من أجزاء كثيرة لا معنى لها في حد ذاتها، وهذه الخاصية موجودة أيضا في بعض الألفاظ العربية.ثم هناك تصاريف لبيان تغير المعاني في اللغة الأمريكية الأصلية والسنسكريتية، واللغة العربية أيضا فيها تصاريف.وليس في اللغة الصينية تصاريف، بل فيها كلمات أخرى للتعبير عــن الأفكـار
الجديدة، وهذا هو حال بعض كلمات اللغة العربية أيضا.فما دام التحري والتدبر العميق والبحث يدل على أن العربية جامعة لما في اللغات كلها من خواص متفرقة، فلزم الإقرار بأن اللغات الأخرى كلها فروع للعربية.ويعترض البعض قائلا: إذا قبلنا أن أصل اللغات وجذرها كلها لغة واحدة، فكيف وقعت هذه الفروق الكبيرة بين كل اللغات المتفرعة من لغة واحدة خلال ثلاثة أو أربعة آلاف سنة فقط، فهذا غير معقول.والجواب أن هذا الاعتراض ليس إلا مِن قبيل بناء الفاسد علـــى الفاسد؛ إذ ليس من الأمور القطعية اليقينية أن عمر الدنيا أربعة أو خمسة آلاف سنة فقط، ولم يكن قبلها أي أثر للسماء والأرض.بل الحق أن التدبر العميق يكشف أن هذه الدنيا عامرة منذ دهــور سحيقة.ثم إن اختلاف الألسنة ليس راجعًا إلى تطاول الزمان أو بعـ من خط المكان فقط، بل هناك سبب قوي آخر، وهو القرب والبعد الاستواء وتأثير النجوم بأوضاعها الخاصة وغيرها من أسباب غـير معروفة، فإن أحوال كل بقعة من الأرض تصوغ طبيعة أهلها بحيث يكون لهم حَلْق ولهجة ومخارج صوتية خاصة، وهذا السبب يــؤدي
شيئا فشيئا إلى وضع كلامي خاص عندهم، ولأجل ذلك نجد أن أهل بعض البلاد لا يقدرون على نطق الزَّاي، وبعضهم لا يقدرون على نطق الراء.فكما أن اختلاف البلاد يحتم اختلاف الناس في ألــوانهم وأعمارهم وأخلاقهم وأمراضهم كذلك يحتم اختلافهم في اللغات، لأن هذا الاختلاف أيضا خاضع لنفس المؤثرات.ذلك؟! فالقول لماذا انحصر هذا الاختلاف إلى هذا الحد ولم يتجاوزه خلال آلاف السنوات، ليس إلا خدعة؛ إذ قد وقع الاختلاف بقدر ما حتمته المؤثرات وكان من المحال أن يكون أكثر من هذا الاعتراض يماثل القول: لماذا أدى اختلاف الأماكن إلى اختلاف ألوان أهلها وأعمارهم وأمراضهم وأخلاقهم فقط، ولماذا لم يحدث أن يكون لأهل منطقة عين ولأهل منطقة أخرى عشر عيون؟ فليس جواب مثل هذا الوهم إلا القول إن هذا الاختلاف لم يقـ بطريق فوضوي، بل كان خاضعا لقاعدة طبيعية، فوقع بقـدر مــا اقتضته هذه القاعدة الطبيعية.باختصار، إن التغير الحاصل في السرعة الطبيعية لخلقــة النــاس وخُلقهم وأفكارهم نتيجة المؤثرات السماوية والأرضية، لا بد أن يؤثر في سلسلة كلماتهم أيضا، وبالتالي تضطرهم للاختلاف في الكلام طبعا، فإذا وصلت إليهم كلمة من لغة أخرى غيّروها عمدا
۱۲ إلى حد كبير.فهذا دليل رائع على أن الناس بفطرتهم بحاجة إلى التبديل والتغيير نتيجة خلقتهم المتأثرة بالمؤثرات السماوية والأرضية.هذا، ولا مناص للمسيحيين واليهود من الاعتراف أن العربية أُمُّ الألسنة، إذ الثابت من نص التوراة الصريح أن اللغة كانت واحدة في البداية، ثم أوقع الله تعالى بينهم الاختلاف ببابل.(انظر التكوين الإصحاح ١١).ومن المسلم به عند الجميع أن مدينة بابل كانت تقع على الأرض التي تقع عليها مدينة كربلاء اليوم، ففحوى هذا البيــــان التوراتي أن العربية هي أم اللغات كلها والثابت ببحوث الباحثين الإنجليز والمسلمين أن مدينة بابل التي كان طولها مائتي ميل، والتي كان عدد سكانها يزيد على عدد سكان مدينة لندن بخمسة أضعاف، والتي كانت فيها حدائق رائعة غريبة جدا، والتي كان نهر الفرات يجري خلالها- تقع في أرض العرب، وبعد خرابهــا عُمـــرت مـــن أحجارها ولبنها مدن البصرة والكوفة والحلة وبغداد والمدائن.وهذه المدن كلها قريبة من حدود.بابل فثبت من هذا التحقيق أن بابل كانت في أرض العرب، وفي خريطة الجزيرة العربية المنشورة مـــن بيروت مؤخرًا قد رسموا بابل في العراق العربي.
۱۳ أما النص العبراني للتوراة من التكوين الإصحاح ١١- الفقرة الأولى هو كالآتي: ويهي خُل هارص شفه آحت ودبريم أحديم..أي كانت الأرض كلها شفة واحدة، وكلاما واحدا.وليكن واضحا أن من المحال أن يراد هنا من "الأرض" أرض بابل فقط، والتي كانت تسمى سِنْعار ؛ لأن هذه الفقرة جاءت قبل تلك القصة وهي تتعلق بالقصص التي مر ذكرهــا مــن قبــل في الإصحاح العاشر، فالمراد من الفقرة المذكورة أن لغة كل الشعوب كانت في الأرض كانت لغة واحدة قبل وصول أي منها إلى التي بابل، ثم بعد وصولها إلى بابل جعل الله لغاتهم متفرقة.وقد حصل اختلاف اللغات بتشرُّد أهل بابل إلى مختلف البلاد، كما يدل على ذلك الفقرة الثامنة من هذا الإصحاح نفسه، وهي: "ويفص يهــوه آتم مشمٌ عَل بنى كل هارص....أي: بَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ.فالواضح أنهم تفرقوا من بابل إلى بلاد مختلفة.فكلمة (كل هارص الواردة في الفقرة الأولى، لبيان أن لغة كل الأرض كانت واحدة، قد وردت أيضا في الفقرة الثامنة لبيـــان أن أهل بابل تفرقوا في الأرض كلها نتيجة غضب الله تعالى.فثبــت بتظاهر هاتين الفقرتين وأيضًا بدراسة الإصحاح السابق بجلاء، أن هذه الفقرات إنما تعني أن لغة أهل الدنيا كلها كانت واحدة قبــــل
١٤ حادث بابل وهذه هي العقيدة المتفق عليها عند اليهود والنصارى، شك في ذلك فقد أخطأ خطأ كبيرا.هــذه المسألة ثابتـة ومن بالنصوص التوراتية الصريحة، وهي المسلَّم بها عند أهل الكتاب منذ القدم.بيد أنه رغم الاعتراف بأن لغة العالم كله كانت واحـــدة بحسب ما ورد في الفقرة الأولى من الإصحاح الحادي عشر من التكوين، فمن الخطأ الظن أن كل بني آدم قد ارتحلوا من بلادهـــــم ليسكنوا في بابل، خاصة أننا لا نجد سببًا معلوما وراء مغادرتهم بلادهم بل يبدو أن الله تعالى أراد بعد طوفان نوح أن يتكاثر الناس بسرعة بالتوالد والتناسل، فتركهم القادر مطلق القدرة الله في أمن ودعة وصحة لفترة من الزمن، فتكاثروا وازدادوا وازدهروا بشكل خارق للعادة، فوجد بعض الشعوب بلادهم قد ضاقت بهم، فتحركوا إلى أرض سنعار التي هي أرض بابل، وأقاموا هذه المدينــــة هنالك، فازدادوا بكثرة لم يسبق لها نظير في الماضي، ثم تفرقوا إلى مدن أخرى وتسببوا في اختلاف اللغات في العالم كله.أما لو اعترض البعض: أن التشابه بين العربية التي تعتبرونهــــا أُمَّ الألسنة وبين غيرها من اللغات كلها ليست بنسبة متساوية، بـل تتفاوت هذه النسبة من لغة إلى أخرى، فمثلاً يتضح بأدنى التدبر أن العبرية هي عربية بشيء من التغيّر، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة
01 إلى السنسكريتية واللغات الأوروبية..فالجواب: رغم أن العبريــة وفروعها الأخرى قد تفرعت من العربية بشيء مــن الـتغير، أمــا السنسكريتية وغيرها من لغات العالم فقد تكونت نتيجة تغيرات بعيدة المدى، غير أن التدبر العميق ودراسة القواعد يكشف بوضوح أن كلمات هذه اللغات ومفرداتها هى كلمات عربية صيغت بقوالب أخرى متنوعة.أما فضائل العربية التي تخصها هي فقط، والتي سوف نشرحها في محلها إن شاء الله، والتي تشكل دليلاً قطعيًا على أنها لغة كاملة إلهامية وأم الألسنة هي خمس فضائل، فيما يلي تفصيلها: الفضيلة الأولى: إن نظام المفردات في العربية كامل..أي أن مفرداتها تساعد الحاجات الإنسانية مساعدة كاملة، أما اللغــات الأخرى فتفتقر إلى هذا النظام.الفضيلة الثانية : أن أسماء الباري تعالى في العربية وأسماء أركان العالم، والنباتات والحيوانات والجمادات وأعضاء الإنسان، تنطوي تسميتها على علوم وحكم كبيرة، وليس بوسع اللغــات الأخـرى منافسة العربية في هذا المجال.الفضيلة الثالثة: هناك نظام كامل لاطراد المواد في العربية، وإن دائرة هذا النظام تدخل كل الأفعال والأسماء المشتقة من مادة واحدة
في سلسلة من الحكم كاشفة العلاقات فيما بينها، وهذه الميزة تفتقر إليها اللغات الأخرى.الفضيلة الرابعة: إن التراكيب العربية قليلة الكلمات غزيرة المعاني..أعني أن العربية تؤدي بـ الــ التعريف أو التنوين أو التقديم والتأخير معاني وأغراضا تحتاج اللغات الأخرى لبيانها إلى جمـ عديدة.الفضيلة الخامسة: تحتوي العربية على مفردات وتراكيب هي وسائل كاملة لرسم كل ما يختلج في ضمير الإنسان من أدق المعاني والخواطر والأفكار.وحيث إنه قد أُلقيت علينا مسؤولية كبيرة لإثبات وجود نظـــام متكامل في المفردات العربية تعجز اللغات الأخرى عن الإتيان بمثله، ولإثبات محاسنها الأربعة الأخرى أيضا، فكان لزاما علينا أن نكتب هذه المباحث باللغة العربية نفسها، لأن من واجبنا أن نُرِيَ المُعارِضَ محاسن العربية وخواصها هذه كلها..ثم نطالبه بالإتيان بمثلها من لغته إذا كان يرى أن العربية ليست اللغة الإلهامية ولا أم الألسنة.ولمــــا كانت هذه مسؤولية كبيرة، فارتأيت لإفحام المعارض وتبكيته تماما، أن أتخذ تدبيرا يقضي على جميع الأعذار الواهية التي يمكن أن يقدمها عند عجزه في المواجهة.فمثلاً يمكن للمعارض الآري الهندوسي أن
۱۷ يقول - فراراً من المواجهة - إن ادعاءك بوجود هذه الفضائل الخمس في العربية خاصةً ادعاء بلا دليل، إذ لا تصح هذه الدعوى إلا إذا كانت عندك معرفة تامة بالسنسكريتية، وما دمت لا تملك المعرفة التامة بها، فثبت أن دعواك قاصرة، وهناك احتمال أن يظهر زيفها عند التحقيق.ورغم أننا قد رددنا على هذه الفكرة التافهة، وبينا أن البحوث علماء اللغة التي نقدمها هنا قد قام بها جماعة من العلماء الذين بينهم السنسكريتية، ومع ذلك فنقدم هنا إتماما للحجة عليهم بشكل كامل طريقًا للفصل لا يمكن أن يتهرب منه أحد، وهو أننا إذا ثبت كذبنا في دعوانا بوجود هذه الفضائل الخمس الفريدة والمذكورة آنفا في اللغة العربية، وإذا قدر أحد من علماء السنسكريتية على أن يثبت أن لغته أيضًا تتحلى بهذه المزايا مثل العربية وشريكة معها على قدم المساواة، أو غالبة عليها في هذا المجال، فإننا نعده وعدا قطعيـــا بأن ندفع له أن - على الفور - مكافأة قدرها خمسة آلاف روبية.علمًا وعدنا بالجائزة ليس من قبيل الإعلانات التافهة الزائفة التي يقوم بها العامة، فلا يظنن أحد ويقول: إنها مجرد ادعاء وثرثرة لسان، فمن يعطي ومن يأخذ؟! كلا، بل إننا نعلن أن من حق المعارض أن يطمئن من قبلنا كيفما شاء، فإذا أراد، وضعنا هذا المبلغ في البنــك
۱۸ الحكومي أو عند أحد التجار الهندوس، وإذا لم نجمع هذا المبلغ حسب طلبه أو لم نجمعه في مدة شهر بعد نشره طلبه وبعد وصول رسالته المسجلة إلينا، فنكون من الكاذبين المثرثرين حتما، ولن يكون لكل عملنا أي اعتبار غير أنه لا بد لمن يطالبنا بجمع هـذا المبلغ أن يتعهد في طلبه الخطى بإنجاز هذا العمل خلال مدة محددة، ويقر أنه إذا فشل في ذلك و لم يثبت صحة موقفه عنـد المواجهـة فسوف يدفع بلا عذر أو احتيال غرامةً يقررها أناس عُدُول أو محكمة، مقابل تجميد هذه الأموال التي كان يمكن أن تستثمر خلال هذه المدة.وليكن واضحا أننا قد أعددنا هذا الكتاب ببذل الجهود قرابة شهر ونصف فقط، إذ بدأنا العمل عليه بعد انقضاء أيام من شهر إبريل/ نيسان ١٨٩٥، وفرغنا من إنجازه قبل انتهاء شهر مايو/أيار في نفس العام ولم نعمل خلال هذه المدة كل اليوم على هذا الكتاب، بـل بذلنا جهدنا وفكرنا لتأليفه خلال ثلث اليوم أو ربعه خلال هذه الفترة، ولو بذلنا الجهد طوال اليوم فربما أنجزنا هذا العمـــل خــلال أسبوع أو عشرة أيام، أما الخصم فليس عليه بذل الجهود التي بذلناها، إذ كان لا بد لنا أن نلقي على اللغات كلها نظرة عميقة لإثبات اشتراكها مع العربية ، ثم كان لزاما علينا بعد ذلك أن نثبــت
۱۹ أن العربية لغة الوحي وأم الألسنة، وذلك بإثبات وجـود هـذه الفضائل الخصوصية والكمالات الخارقة فيها، ولكن ليس على المعارضين بذل كل هذه الجهود بل نحن راضون بأن يأتوا فقط بفضائل لغتهم إزاء هذه الفضائل للغة العربية، وأن يثبتوا أن لغتهم تتحلى بتلك الفضائل والمحاسن التي أثبتناها بحق العربية في كتابنـــا هذا، فمثلاً قد أثبتنا من خلال إيراد المفردات العربية في ثنايا الكلام والعبارات أن نظام مفرداتها كامل وقادر على بيان كل نوع مـــن الأفكار والمعاني، فينبغي أن يُقدموا لنا نموذجًا مماثلاً للمفردات مـــــن لغتهم.ولا شك أن هذا العمل قليل ولا يتطلب إلا بضعة أيام، وبالتالي ليس عليهم بذل جهود كبيرة، بل الحق أن عالم السنسكريتية الفيدية مثلاً، يستطيع أن يأتي بهذه الأمثلة خلال بضعة أيام شريطة أن تتحلى تلك اللغة بهذه الميزة.كل ما نطالب به الآن أهل اللغات الأخرى هو أن يثبتوا تحلّي لغاتهم بهذه المحاســــن الــــي أثبتناها بحق اللغة العربية.فمن الواضح أن اللغة الكاملة لا بد لها من نظام كامل للمفردات..أي أنه لا مناص للغة الكاملة التي تُدعى لغة الإلهام وأم الألسنة أن تكون عندها ذخيرة كاملة من المفردات لنقل شتى الأفكار والخواطر الإنسانية إلى قالب الكلمات.فمثلا إذا أراد المرء أن يتكلم بكلام مبسوط مستفيض حول توحيد البـــاري، أو
الشرك، أو حقوق الله، أو حقوق العباد أو العقائد الدينية، أو الأدلة عليها، أو الحب والاختلاط أو البغض والكراهية، أو حمد الله والثناء عليه، وأسمائه المطهرة ، أو الرد على الأديان الباطلة، أو القصص ،والوقائع أو الأحكام والحدود، أو علم المعاد، أو التجارة، أو الزراعة، أو الوظيفة، أو النجوم والفلك، أو الطبيعيـــات، أو الطب، أو المنطق وغيرها، فتمده مفردات لغته بلفظ إزاء كل مــا يخطر بباله من خاطرة وفكرة، ليكون ذلك دليلا على أن الذات الكاملة التي خلقت الإنسان وأفكاره هي التي قد خلقت منذ القديم مفردات للتعبير عن تلك الأفكار والخواطر.وإن عدلنا الفطري يدفعنا إلى الإقرار بأن لغة تتحلى بهذه الميزة – حيث تشتمل علـــى مفردات جميلة متناسبة إزاء الأفكار الإنسانية، وتبرز كل فرق دقيق عميق بين الأفعال من خلال الكلمات والأقوال، وتسدّ مفرداتها كل ما تحتاج إليه أفكار -الإنسان هي بلا شك لغة إلهامية، لأن فِعل الله تعالى هو الذي خلق الإنسان مزودا بآلاف الأفكار، فكان لزاما أن يُمِدَّه بذخيرة من المفردات القولية إزاء هذه الأفكار ليتوافق قول الله وفعله على مستوى واحد.أما اللجوء إلى التعابير المركبة عند الحاجة فهذه ليست خصوصية لسان معين، بل تعمّ هذه الآفة والعيب آلاف الألسنة، حيــث
تستخدم التعابير المركبة بدل المفردات مما يدل على أن الناس قــد اخترعوا هذه التراكيب من عند أنفسهم عند الحاجة، فاللغة التي هي محفوظة من هذه الآفات وتتميز بأداء المعاني بالمفردات وتُري أقوال الله تعالى مساوية لفعاله..أعني موافقة للأفكار التي تجيش في نفس الإنسان..فلا شك أن هذه الخصوصية تميزها عن باقي اللغــات بشكل خارق، وتجعلها جديرة بأن تسمى لغةً إلهامية أصلية وفطرة الله.وإذا تميزت لغة بهذه المكانة العالية..أعني أن تكون من لدن الله تعالى، وتكون مخصوصة بهذه الكمالات الخارقة، وتكون أم الألسنة، فمن مقتضى الإيمان أن نقول إنها هي اللغة الوحيدة التي استحقت بالجدارة لأن ينزل بها وحي الله الأعلى والأكمل، وأما ما سواه من الوحي فإنما هو بمثابة فروع لهذا الوحي الأعلى، كما أن اللغــات الأخرى فروع من هذه اللغة المميزة.ولذلك فإننا بعد الفراغ من كتابة هذا البحث، سوف نبيّن أن ذلك الوحي الحرفي الخالص والأتم والأكمل الذي كان مقدرا نزوله إلى الدنيا إنما هو القرآن الكريم، كما سنفصل النتيجة المترتبة على هذه المقدمات..وهي أن الاعتراف بكون العربية أم الألسنة ولغة إلهامية لا يستلزم الإقرار بأن القرآن کلام الله تعالى فحسب بل أيضًا بأن القرآن وحده يمكن أن يسمى الوحي الحرفي الخالص والأكمل والأتم وخاتم الكتب.
۲۲ والآن نبدأ بكتابة الجزء العربي من هذا الكتاب لبيـــان نظـــام المفردات في العربية وغيرها من محاسنها.ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو العلي العظيم.
۲۳ تنبيه وقبل البدء في كتابة الجزء العربي من هذا الكتاب أرى لزاما أن أوضح أنني كنت أنوي الاكتفاء بجمع المفردات العربية وعرضها في الكتاب، ولكني فكرت فيما بعد أن البعض ربما لن يفهموا قـــــصدنا جيدا، إذ توجد عند أهل كل لغة مفردات قلت أو كثرت؛ فمثلاً يوجد ذخيرة ضئيلة من المفردات في اللغة السنسكريتية حيث يقول علماؤها إن جذورها لا تتجاوز أربع مائة جذر، ومع ذلك لا نستطيع القول إنه لا يوجد فيها مفردات.أما العربية فقد أثبــت الباحثون أن مفرداتها أكثر من ٢,٧ مليون جذر، ومع ذلك فإن الخصم المتعصب لن يرتدع عن البخل والشرّ والطعن مــا لم نلزمـــه ونفحمه بحسب قاعدة معينة فارتأينا أنه من المعقول جدا أن نطالبه بنظام مفردات في لغته بشأن كل موضوع على حدة.ونعني من نظام المفردات بيان كل موضوع إلى نهايته الطبيعية بعبارة تصاغ بالمفردات وحدها، ثم نطالب الخصم بالإتيان بمثله.وهذا الطريق سيحسم الموقف بكل جلاء ويُعرف به مدى فصاحة وبلاغة كل لسان.ولمــــا كان إثبات نظام المفردات في لغة يحتم على كل فريق أن لا يكتفــــي بتقديم مفرداتها، بل يقدّمها على شكل موضوع إزاء مواضيعنا التي
٢٤ نكتبها، فلن يستطيع كل جاهل بليد أن يقحم نفسه في هذا البحث الذي يتطلب العلم والمعرفة.لقد سبق أن الآريين الهندوس مثلاً قـــــد قدموا لمواجهة الإسلام شخصا ذليلا جاهلا شديد الغباء والحمق، واسمه ليكهرام، فكان لا يعرف غير السب والشتم، وصار تلميــــا للمسيحيين وراح يعيد نفس الاعتراضات السخيفة التي أثارها أولئك الجهال ضد الإسلام، ولكن هذا البحث علمي، فلن يحصل هكذا الآن ولن يقدر أي من أصحاب السير الفاجرة والطبـع النجس والأخلاق الرذيلة والجهل الشديد والغباء البالغ أن يتكلم في هـذا المجال، لأن الناس سيعرفون حقيقة هؤلاء القوم.ولا أجد هنا بدا من شكر أحبابي الذين ساعدوني في بحث إثبات اشتراك اللغات.وها إني أخبر بكل سرور وحبور أن أحبابنـــا المخلصين هؤلاء قد عملوا بجهد ومثابرة في بحث اشتراك الألسنة، وسوف يبقى عملهم هذا تذكارًا خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.لقد ضحى لنا رجال الله هؤلاء بأوقاتهم الثمينة بسخاء، وأنجزوا هذا العمل العظيم بمنتهى الجد والكد ليل نهار، وإني لأعلــــم ثوابا عظيما، لأنهم اشتركوا في حرب سوف الله أنهم سينالون من تدق طبول انتصار الإسلام فيها عن قريب فكل واحد منهم يستحق أن ينال وساما ربانيا.إنني لا أستطيع أن أصف كيف أنهم في كـــل
٢٥ جلسة كانوا يقطعون مئات الأميال وهم يبحثون في ثنايا الكتـ والمصادر لإثبات اشتراك اللغات ثم يرجعون فائزين ويقدمون لي هدية لفظ مشترك، إلى أن اجتمعت لديّ لغات العالم كلها.لـــن أنسى أبدًا ما أسداه لي أحبابي المخلصون هؤلاء من مساعدة قيمة في إنجاز هذا العمل حتى لا أجد كلمات لوصفها.وإني لأدعو الله تعالى أن يتقبل مساعيهم، ويتقبلهم في سبيله، ويجنبهم الحياة النجسة على الدوام، ويرزقهم أنسه وحبّه، ويكون معهم.آمين ثم آمين.وفيمـــا يلي أسماؤهم: ١ - أخي الطبيب المولوي نور الدين البهيروي ٢ - أخي المولوي عبد الكريم السيالكوتي -٣- أخي منشي غلام قادر السيالكوتي ٤ - أخي خواجة كمال الدين اللاهوري ه - أخي ميرزا خدا بخش (معلم نواب محمد علي خان) ٦ - أخى مفتى محمد صادق البهيروي ۷- (نواب) محمد علي خان الماليركوتلهوي - أخي ميان محمد خان الكبورتهلوي ٩ - أخي منشي غلام محمد السيالكوتي
٢٦ الله والله أعلم بمن هو أكثر منهم جهدًا في هذا العمل، والله لا يضيع جهود أي مخلص، ولكن فيما يتعلق بعلمي ومشاهدتي فأرى أن أخي الطبيب المولوي نور الدين وأخي المولوي عبد الكريم كانــــا أكثرهم جهدًا، حيث لا يزالان مقيمين عندي لإنجاز هذا العمل منقطعين عن كل شؤونهم منذ شهور عديدة.والمولوي نور الدين لم يقدم هذه المساعدة فقط، بل اشترى وجلب من أجل هذا العمـــــل كتبا إنجليزية رائعة على حسابه الخاص، وجمع ذخيرة من الكتـ الثمينة لهذا الغرض نفسه.جزاهم الله خيرا، والله لا المحسنين.آمين.وفيما يلي الخُطبة الأولى مع التمهيد التي نطالب الآريا (الهندوس) الذين يدعون بقدم اللغة السنسكرتية وغيرهم من الأمم الأخرى- أن يأتوا بمثلها من لغاتهم فيما يتعلق بنظام المفردات الموجود في اللغة العربية.يضيع
۲۷ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الرب الرحمن، ذي المجد والفضل والإحسان، خلَق الإنسان، علّمه البيان، ثم جعل من لسان واحدة ألسنةً في البلدان، * من هنا يبدأ ما كتبه سيدنا المسيح الموعود العليا باللغة العربية.(اللجنة) فيما يلي تعريب الحاشية التي كتبها حضرته العليا هنا بالأردية.(اللجنة) لما كان الهدف الأساس من إيراد هذه العبارات العربية أن نثبت أن مــن خصائص اللغة العربية أنها فضلاً عن كونها خادمة للإلهيات ولجميـــع فـــــروع تعاليم الدين خدمة كاملة - تستعين بمفرداتها فقط في بيان القصص والخطـــب والمبادئ والمعاني الدقيقة، وأن في خزينتها نظامًا رائعًا للمفردات ينسجم مـــع نظام كل قصة بحيث لا تحتاج إلى التراكيب ولذلك أردنا توجيه أنظار القراء إلى خصائص العربية هذه لدى بيان هذه الخطبة والتمهيد وبعض المواضيع الأخرى التي تليهما، حتى يأتي المعارضون بمثله من لغاتهم إن استطاعوا، ويغسلوا من جبينها وصمة عار قصورها عن بيان كل أمر ذي شأن بالمفردات وحدها، أما إذا لم يستطيعوا ذلك، سواء كانوا من أنصار السنسكريتية أو غيرهـا مـن اللغات، فعليهم أن يخجلوا من ذكر لغاتهم إزاء العربية في أي نادٍ أو مجلس، أو يتفوهوا أبدا بأنّ لغتهم لغة إلهامية وبها نزل كلام الله تعالى.وليكن واضحًا الآن أن هذه الخطبة والتمهيد يحتويان على ثلاثمائة كلمة كلها كلمات مفردة، ذلك بالإضافة إلى الكلمات الأخرى المشتقة عنها، ولكنا تركنا ذكرها.وهذه المفردات تشتمل على مئات العجائب واللطائف والخواص التي لو أردنا بيانها لاحتجنا إلى مجلدات في الحقيقة، ولذلك نكتفي هنا ببيـــان مزايـــا كلمتين منها فقط نموذجا ومثالا ، أما غيرها من المفردات فسوف نذكر محاسنها ومزاياها في مكان آخر إن شاء الله.ولكن قبل ذلك نرى لزامًا بيان قاعدة مفيدة وهي أننا إذا درسنا صحيفة
۲۸ كما جعل من لون واحد أنواع الألوان، وجعل العربية أُمَّا لكل لسان وجعلها كالشمس بالضوء واللمعان هو الذي نطق بحمده الثقَلانِ، وأقرَّ بربوبيته الإنس والجان تسجد له الأرواح والأبدان، الطبيعة، فلا بد لنا من الاعتراف أن الأشياء التي خُلقت بيد الله تعالى وصدرت منه، إنما أُولى علاماتها أنها تكون في حد نطاقها خادمــــة لمعرفـــة الله تعالى، وتكشف بلسان حالها أو مقالها أن الغرض الحقيقي من وجودها أنهــا تكـــــون وسيلة لمعرفة الله وخادمة لسبيله؛ ذلك لأن إلقاء نظرة علـــى كــل أنـــواع المخلوقات يؤكد أن سلسلة الكائنات كلها مسخرة لتحقيق هذا الهدف بشتى الأشكال والسبل..أي أن تكون وسيلة لمعرفة الله تعالى وسبله.وحيث إن اللغة العربية صادرة من لدن الله تعالى، فكان لزامًا أن تتوفر فيها هذه العلامـــــة أيضا، ليُعلم يقينا أنها حقا من تلك الأشياء التي ظهرت من الله وحده بـدون جهود البشر.فالحمد لله والمنة، على أن هذه العلامة توجد في العربية بشكل واضح.جدا، فكما أن مفهوم قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون متحقق بصدد قوى الإنسان الأخرى، فهو متحقق كذلك في اللغـــة العربية أيضًا التي هي لغة الإنسان الأصلية وجزء من خلقته.وأي شك في أن خلقة الإنسان لا تعتبر أتم وأكمل خلقة بدون كلامه، لأن الأمر الذي يكشف جوهر الإنسانية في الإنسان إنما هو الكلام، ولن نبالغ لو قلنا: ليس المراد مــــــن الإنسانية إلا النطق بكل لوازمه فقوله تعالى ما خلقت الإنسان إلا لعبادتي ومعرفتي إنما يماثل القول: لم أخلق الحقيقة الإنسانية - أي النطق والكلام وكل ما فيه من قوى وأفعال تابعة له إلا من أجلي ذلك أننا عندما نفكر لمعرفــــة حقيقة الإنسان ندرك بوضوح أنه حيوان يتميز بكلامه عن الحيوانات الأخرى كلية، مما يدل على أن الكلام هو الحقيقة الأصلية للإنسان، أما قواه الأخـــرى فهي تابعة وخادمة لهذه الحقيقة.لذا فلو قلنا إن كلام الإنسان ليس من الله
۲۹ والقلب واللسان يحمدان، سبحان ربنا رب ما يوجد وما يكون ،وكان يفعل ما يشاء وكل يوم هو في شان.يُسبّح له كل ناطق وصامت، ويبغي رحمه كلُّ زائغ وسامت، وهو ربّ العالمين، له تعالى، للزمنا القول أيضا إن إنسانية الإنسان ليست من الله تعالى، ولكن الواقع أن الله خالق الإنسان، ولذا فهو الله معلم (اللسان) أيضًا.أما ما.اللغة هي جاءت الخدمة من التي علمها الله تعالى الإنسان، فقد قلنا آنفا إن اللغة التي لدنه الله ليست إلا التي تكون خادمةً للمعرفة الإلهية تماما كما هي قوى الإنسان الأخرى، وفقًا لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.وقد بينا من قبل أن العربية وحدها تتحلى بهذه الصفات.وتتمثل التي تسديها العربية بهذا الشأن في أنها قادرة على الإيصال إلى معرفــــة الله تعالى، إذ تكشف من خلال مفرداتها ما يوجد في قانون الطبيعة من تقسيم معنوي للإلهيات كشفا رائعا، وتبرز ما يوجد في الصفات الإلهية من الفروق اللطيفة الدقيقة والمتجلية في صحيفة الفطرة، وتبين الأدلة على توحيد البـاري المتجلية في صحيفة القدرة نفسها، وتبين المشيئة الإلهيـة بشتى أنواعهـا - والمتعلقة بعباده والمتجلية في صحيفة القدرة - بيانا صريحا واضحا، وكأنهــا ترسمها لنا رسما رائعًا جميلا، وتكشف لنا بجلاء ما يوجد في أسماء الله وصفاته وأفعاله وإراداته التي يشهد عليها قانون الطبيعة من فروق دقيقة، وكأنها تضع صورةً لها أمام أعيننا.مما يوضح جليا أن الله تعالى قد خلق اللغة العربية خادمًا كفيلاً لكشف صفاته وأفعاله وإراداته ، ولإثبات الانسجام والتوافق التام بين فعله وقوله الله، فأراد من الأزل أن تكون هذه اللغة وحدها مفتاحا لسرّ الإلهيات المكنون المختوم.ومن هنا تتجلى علينا هذه العظمة العجيبة والميزة الخاصة للعربية من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أن اللغات كلها في ظـلام ونقصان شديدين؛ ذلك أن العربية هي كالمرايا المتقابلة لانعكاس صفات الله
الحمد والمجد وهو مولى النعم في الأولى والآخرة، والصلاة والسلام على رسوله سيد الرسل ونور الأمم وخير البرية، وأصحابه الهادين المهتدين، وآله الطيبين المطهرين، وجميع عباد الله الصالحين.تعالى وتعاليمه وأحكامه كلها حتى نرى فيها انعكاسا طبيعيا كاملا واضحا للإلهيات، بينما نجد كل لغة أخرى تعوزها هذه الميزة.وعندما نلقي النظـــر بعقل سليم وفهم مستقيم على تقسيم الصفات الإلهية الطبيعي المتجلي منـذ الأزل في صحيفة الفطرة، نجد التقسيم نفسه بالضبط متجليا في مفردات العربية أيضا.فمثلا لو أعملنا الفكر لنعلم بناء على التحقيق العقلــي كيـف انقسمت رحمة الله تعالى منذ البداية لاتضح لنا تمامًا برؤية قانون الطبيعـــة المتجلي أمام أعيننا أن رحمة الله نوعان: رحمة قبل العمل، ورحمة بعد العمل، لأن نظام تربية العباد يشهد بصوت عال على أن رحمة الله تجلّت على بني آدم بنوعيها من حيث تقسيمها الابتدائي كالآتي: الرحمة من النوع الأول: هي تلك التي شملت العباد من دون وجـود عمـــل عامل، مثل وجود الأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم والماء والهواء والنار وغيرها من النعم التي يتوقف عليها بقاء الإنسان وحياته لأن هذه الأشياء كلها رحمة للإنسان بلا شك قد منحه الله إياها بمحض فضله وإحسانه بغير استحقاق منه.وهذا فيض رباني خاص لا دخل لسؤال الإنسان فيه، بل إنه قد سبق وجودَ الإنسان.وإن هذه النعم لرحمة عظيمة تتوقف عليها حياته.ثم مــــن البـديهي الله الواضح أن هذه الأشياء لم تُخلق نتيجة عمل صالح للإنسان، بل الحق أن علم السابق بذنوب العباد لم يمنعه من التجلي بهذه الرحمة ومهما كان أحد القائلين بالتقمص والتناسخ غارقا في تعصبه وجهله إلا أنه لن يجرؤ على القول أن الله تعالى خلق الأرض لراحة الإنسان، أو خلق الشمس والقمر لتبديد ظلمتها، نتيجة أعماله الصالحة، أو خلق الماء والغلال جزاء على حسنة من حسناته، أو عمل من
أما بعد..فيقول عبد الله الأحد، أحمد..عافاه الله وأيد، إني كنت مُولَعًا مِن شرخ الزمان، بتحقيق المذاهب والأديان، وما رضيتُ قط ببادرة الكلمات، وما قنعتُ بطافي من الخيالات ككلّ غبي أسير خلق الهواء الذي يتنفس به نتيجة زهده وتقواه ذلك أن هذه الأشياء موجودة قبل وجود الإنسان وحياته، وما لم نعتبر وجودها أولاً فتصور وجود الإنسان ضرب من المحال؛ فكيف يمكن إذن أن لا تظهر هذه الأشياء قبل الإنسان مع أنه بحاجة إليها لوجوده وحياته وبقائه.ثم إن وجود الإنسان هذا الذي أُعِدَّ في أحسن تقويم منذ البداية - وغيره من الأمور كلها، قد سبقت تكميل الإنسان.وهذه هي الرحمة الخاصة التي لا دخل فيها لعمل الإنسان وعبادتـه و مجاهدته.والرحمة من النوع الثاني، هي تلك التي تترتب على صالح أعمال الإنسان، فإذا دعا بضراعة استجيب دعاؤه، وإذا زرع بجهد زادت رحمة الله تعالى زرعه حـــــى أنتج ذخيرة وافرة من الغلال.كذلك يكشف لنا التعمق أن رحمة الله تشمل كل عمل صالح لنا، سواء كان يتعلق بالدين أو الدنيا، فحينما نقوم بجهد في أمر الدنيا أو الدين بحسب القوانين التي هي من سنن الله تعالى، تشملنا رحمــة الله فـــورا، وتثمر جهودنا.إننا لا نستطيع العيش من دون هذين النوعين من الرحمة الإلهية.هل من أحد يشك في وجودهما؟ كلا، بل هي من أجلى البديهيات وعليها مدار نظام حياتنا.فلما ثبت أن القادر الكريم قد أجرى هذين النبعين مــن رحمتــه لتربيتنـا وتكميلنا، وأن هاتين الصفتين قد ظهرتا بطريقتين من أجل ري شجرة وجودنا، فعلينا الآن أن نرى بأي اسم دعي هذان النبعان في اللغة العربية بعد انعكاسهما فيها؟ فليكن واضحا أن الله تعالى يُدعى في اللغة العربية رحمانًا بالنظر إلى النوع
۳۲ الجهلات ومحبوس الخزعبلات، وما أصررتُ على باطل ككل جهول ضنين، وما حرّكني إلى أمر إلا أعينُ التحقيق، وما جرني إلى عقيدة إلا قائد التعميق، وما فهمني إلا ربي الذي هو خير المفهمين، وإنه الأول من رحمته، ويدعى رحيما بالنظر إلى النوع الثاني من رحمته، وكشفا لهذه الميزة في اللغة العربية قد ذكرنا اسم الرحمن في السطر الأول من هذه الخطبة العربية.لقد لاحظتم بهذا المثال بأنه لما كانت صفة رحمة الله منقسمة في قانون القدرة إلى قسمين من حيث التقسيم الابتدائي، فلذلك توجد لهما مفردتان في العربيــة.وهذه القاعدة ستكون نافعةً جدا لطالب الحق..أعني ضرورة اتخاذ صفات الله وأفعاله المتجلية في صحيفة القدرة معيارا لمعرفة الفروق الدقيقة في اللغة العربيـــة دائما، وأن نبحث في مفردات العربية عن أنواع الصفات الإلهية البادية في قانون القدرة، وإذا أردنا كشف الفرق في الكلمات العربية المترادفة والمتعلقة بصفات الله وأفعاله، فعلينا أن نتوجه إلى التقسيم الموجود في قانون القدرة فيما يتعلق بصفات الله وأفعاله، لأن غرض العربية الحقيقي هو خدمة الإلهيات، كما أن الغرض الحقيقي لوجود الإنسان هو معرفة الباري تعالى ومعلوم أنه لا يمكن اختبار كفاءة وردت في كتاب الدساتير للمجوس الكلمات التالية: "بنام ايزد بخشائنده بخشایش گر مهر با دادگر"، وهي تبدو مشابهة لبسم الله الرحمن الرحيم، ولكنها لا تبين ما يوجد بين الرحمن والرحيم من فَرْق حكيم، كما ليس في كلمة "ايزد" ما في كلمة "الله" من مفهوم واسع البتة.فشتان بين هذا التركيب المجوسي وبين البسملة.والأغلب أن هذه الكلمات كتبوها فيما بعد على سبيل السرقة.وعلى كل حال، هذا النقص الموجود في هذه الفقرة دليل على أنها من اختراع الإنسان منه.
۳۳ كشف على أسرارًا من الحقائق، وأنزلَ على عِهاد المعارف والدقائق، وأعطاني ما يُعطي المخلصين.فلما وجدتُ الحق بفيضانه، وربّيتُ بلبانه، رأيت شكر هذه الآلاء، في أن أمون خدمة الدين والشريعة الشيء ومعرفة قواه إلا بالنظر في الغرض الذي خُلق من أجله؛ فمثلاً قد خُلق الثور للحراثة وجرّ الأثقال، فلو أهملنا غرض خلقه هذا وحاولنا تسخيره فيما هو مـــن عمل كلاب الصيد مثلاً، فلا شك أنه سيعجز عن ذلك، ويقف ذليلا فاشلا، ولكننا لو اختبرناه في مجال الغرض الذي خُلق من أجله لأثبت وجوده بسرعة وأكد أنه يحمل عبئاً ثقيلاً فيما يتعلق بوسائل المعيشة الدنيوية.باختصار، إن كفاءة كل شيء لا تظهر إلا إذا اختبرناه في المجال الذي خُلق من أجله.والحق أن الهدف الحقيقي من وجود اللغة العربية هو الكشف عن وجه الإلهيـــات المنير.وكان أداء هذه المهمة المعقدة الحساسة جدا على ما يرام دونما خطأ أمرًا يفوق قوى الإنسان، فأنزل الله الكريم الرحيم القرآن الكريم بإعجاز خضعت له الأعناق كلها، ا، وذلك كشفًا لفصاحة اللغة العربية وبلاغتها والفروق الدقيقة بين مفرداتها والإيجاز الخارق لمركباتها.وإن ما كشفه القرآن من بلاغة العربيــة ومفرداتهــــا ومركباتها لم يعترف به جهابذة اللغة العربية في ذلك العصر فحسب، بـل أكدوا بعجزهم عن الإتيان بمثله أن القوى الإنسانية عاجزة عن بيان هذه الحقائق والمعارف وكشف الحسن الحقيقي للغة.فمن خلال هذا الوحي المقدس (القرآن) عرفنا الفرق بين كلمتي الرحمن والرحيم والذي سجلناه في الخطبة المذكورة نموذجا فقط.والواضح أن في كل لغة مترادفاتٍ كثيرةً، ولكنا لا يمكن أن نعتبرها مترادفات علمية ما لم نفتح عيوننا لنعرف ما فيها من فروق دقيقة وما لم تكن من علم تعالى وتعليم دينه.ولا يغيبن عن البال أن الإنسان ليس بوسعه اختراع مثل هذه المفردات الله
٣٤ الغراء، وأُري الناسَ نور الدين المتين، وأُري ملكوته بعساكر البراهين، وأراعي شؤونَ صدوق أمين وما هذا إلا فضل ربي، إنه أراني سبل الصادقين، وعلّمني فأحسن تعليمي، وفهمني فأكمل تفهيمي، عنده، غير أنها إذا كانت مخلوقة بقدرة القادر فيمكن للإنسان أن يتدبر فيها لمعرفة فروقها الدقيقة ومناسبات استعمالها.خُذوا مثلا مؤسسي علم الصرف وعلــم النحو، فإنهم لم يأتوا بشيء جديد، ولم يخترعوا من عندهم قواعد جديدة ليتبعهــــا الناس، إنما الحق أنهم نظروا في هذه اللغة الطبيعية بعيون مفتوحة، وأدركوا أنه يمكن وضع قواعد لها، فوضعوا هذه القواعد لها تسهيلاً للمعضلات.لقد وضع القـــرآن الكريم كل لفظ في محله ، وهكذا أرى العالم ما هو الحل المناسب لاستعمال شتى المفردات العربية، وكيف أنها تخدم الإلهيات وتوجد بينها فروق دقيقة جدا.علما أن القرآن الكريم يحتوي على عشرة أنواع لنظام المفردات: أولا: نظام المفردات الذي يتناول بيان وجود البارئ والدلائل على وجـــــوده وبيان صفات الله وأسمائه وأفعاله وسننه وعاداته التي هـي مـع فروقهـــا الدقيقة مخصوصة بذات الله تعالى، وكذلك المفردات التي تتعلق بمدح الله وثنائه الكامل بجلاله وجماله وعظمته وكبريائه.ثانيا: نظام المفردات التي تتعلق ببيان توحيد الباري والأدلة عليه.ثالثا: نظام المفردات التي جاءت في بيان الصفات والأفعال والأعمال والعادات والكيفيات الروحانية أو النفسانية التي تصدر وتظهر من العباد أمام الله تعالى مع شتي فروقها، تبعا لرضاه أو خلافا له.رابعا : نظام المفردات التي تتعلق بهدايات الله الكاملة من وصايا وتعليم أخلاق وعقائد وحقوق الله وحقوق العباد وعلوم حكمية وحـــدود وأحكـام وأوامـــــر ونواهي وحقائق ومعارف.خامسا : نظام المفردات التي تبين ما هي النجاة الحقيقية وما الوسائل
٣٥ وعصمني من طرق الخاطئين، وأوحى إلي أن الدين هو الإسلام، وأن الرسول هو المصطفى السيد الإمام، رسول أُمّي أمين.فكما أن ربنا يستحق العبادة وحده، فكذلك رسولنا المطاع واحد لا نبي أحد الحقيقية للفوز بها، وما هي آثار وعلامات المؤمنين الناجين المقربين.سادسا: نظام المفردات التي تبين ما هو الإسلام وما هـو الكف والشرك، وتشتمل على دلائل حقيقة الإسلام والدفاع عنه مما يثار ضده من اعتراضات ومطاعن.سابعا: نظام المفردات التي تردّ على عقائد المعارضين الباطلة كلها.ثامنا: نظام المفردات التي تتعلق بالإنذار والتبشير والوعد والوعيد وبيان عـــالم المعاد أو المعجزات أو الأمثلة أو النبوءات التي تزيد الإيمان أو تنطوي على مصالح أخرى، أو القصص التي فيها تنبيه أو إنذار أو تبشير.تاسعا: نظام المفردات التي هي في بيان سوانح الرسول ﷺ وصفاته الطاهرة وحياته المباركة وأسوته الحسنة، والتي تشتمل على الدلائل الكاملة على نبوته أيضا.عاشرا: نظام المفردات التي تبين صفات القرآن الكريم وتأثيراته ومحاسنه الذاتية.هذه عشرة نظم للمفردات توجد في القرآن الكريم وهي تشبه عشر حلقـات كمالها التام، ويمكن أن نسميها الحلقات الدائرية العشر.دائرية بسبب لقد استخدم الله تعالى في هذه الحلقات الدائرية العشر في القرآن الكريم مفردات طاهرة مباركة متميزة بعضها عن بعض بحيث يشهد العقل السليم فورا على أن هذه السلسلة الكاملة والتامة من المفردات لم توضع في اللغة العربية إلا لتكـــون خادمة القرآن الكريم، ولأجل ذلك قد انسجمت هذه السلسلة من المفردات مــــع نظام تعليم القرآن الكريم أكمل انسجام وأتمه.أما سلسلة مفردات اللغات الأخرى التي يقال أن الكتب الأخرى – التي تسمى كتبا سماوية – قد نزلت بها فليـــســت مع النظام التعليمي لهذه الكتب.كما لا توجد في تلك الكتب الحلقات منسجمة
٣٦ بعده، ولا شريك معه، وأنه خاتم النبيين فاهتديت بهداه، ورأيت الحق بسناه، ورفعتني يداه وربّاني ربّي كما يربّي عباده المجذوبين، الدائرية العشر المشار إليها.إذن فمن أكبر أسباب نقصان تلك الكتب مع افتقارها إلى هذه الحلقات الدائرية الضرورية وعدم انسجام مفردات لغاتها نظامها التعليمي.والسر في ذلك أن تلك الكتب لم تكن كتبا حقيقية، وإنمــــا نزلت لسد حاجات عابرة مؤقتة، ولم يأت إلى الدنيا إلا كتاب حقيقي واحد كان خيرًا للناس إلى الأبد، ولذلك نزل بالحلقات الدائرية العشر الكاملة، كما انسجم نظام مفرداته مع نظامه التعليمي كل الانسجام، فيوجد في كل دائرة من دوائره العشر نظام للمفردات منسجم مع نظامه الطبيعي فيـه مفردات خاصة لبيان كل صفة من الصفات الإلهية ومدارج الأقسام الأربعة المذكورة، ويوجد فيه إزاء دائرة كل تعليم دائرة من المفردات كاملة منسجمة معها كل الانسجام.ونكتفي بهذا البيان بهذا الصدد لنتوجه لبيان محاسن لفظ آخر في العربيـــة، وهو لفظ "الرب" الذي اخترناه من الكلمات القرآنية.لقد أول آية من أول سورة في القرآن الكريم، حيث قال الله جل شأنه: الحمد العالمين.وقد ورد في "لسان العرب" و"تـــاج الـعـــروس"- وهمـــا قاموسان معتبران جدا أن الرب له سبعة معانٍ في العربية، وهي: المالك، السيد، المدبّر، المربي، القيم، المنعم، المتمم.رب ورد هذا اللفظ في وثلاثة من هذه المعاني السبعة تدل على العظمة الذاتية الله تعالى.فالمالك في العربية هو الذي له تملكُ تام على مملوكه ، ويتصرف فيه كما يشاء، وله كل الحق عليه بدون مشاركة أحد.وهذا اللفظ يستحيل إطلاقه حقيقة -أي بمعناه الأصلي - على غير الله تعالى؛ لأن الملك التام والتصرف التام والحقـــوق
۳۷ وهداني وأدراني، وأراني ما أراني، حتى عرفتُ الحق بالدلائل القاطعة، ووجدت الحقيقة بالبراهين ،الساطعة، ووصلت إلى حق اليقين.التامة ليست إلا الله تعالى.أما السيد فهو في العربية من يتبعه السواد الأعظم بحماس قلبي وطاعة طبعية.فالفرق بين الملك والسيد أن الملك يجعل الناس يطيعونه من خلال صرامة قوانينه، أما السيد فيتبعه الناس بحب وحماس قلبيين اتباعًا عفويا وينادونه "سيدنا" بحب صادق، ومثل هذا الاتباع لا يتيسر للملك إلا إذا كان الناس يعتبرونــــه ســــيدا بالفعل.إذن فلفظ السيد أيضًا لا يُطلق حقيقة أي بمعناه الأصلي - إلا على الله تعالى، ذلك أن الطاعة بحماس حقيقي طبعي خال من شوائب أغراض النفس مستحيل إلا لله تعالى.هو الذي تطيعه وحده الأرواح طاعة صادقة، لأنه المبــدأ الحقيقي لخلقها، فلذلك تسجد له كل روح طبعًا.إن عبدة الأصنام وعبدة الناس أيضا يطيعونهم بحماس كما يطيعه الموحد الصالح ، ولكنهم لخطئهم وقصور طلبهم لم يعرفوا نبع الحياة الحقيقي، بل وضعوا بسبب عمايتهم هـذا الحمــاس الطبعي في غير موضعه، فاتخذ بعضهم الأحجار، وبعضهم رام شندر، وبعضهم كرشنا، وبعضهم ابن مريم إلها والعياذ بالله غير أنهم اتخذوه إلها منخدعين بأنه الله نفس المطلوب الذي يبحثون عنه.فقد هلك هؤلاء بمنح المخلوق ما هو حق تعالى.كما انخدع أهل الهوى في البحث الروحاني عن هذا المحبـوب والـسـيد لأنه كان في قلوبهم أيضا طلب محبوب وسيد حقيقي، ولكنهم لم الحقيقي، يعرفوا أفكار قلوبهم حق المعرفة، فظنوا أن المحبوب والسيد الحقيقي الذي تبحث عنه الأرواح والتي تقفز لطاعته النفوس إنما هو أموال الدنيا وعقاراتها ولذاتها، ولكنه كان خطأ منهم، لأن الحافز للرغبات الروحانية والباعث على المشاعر الطاهرة إنما هو الذات الذي قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)..أي
٣٨ فأخذني الأسف على قلوب فسدت، وأنظار زاغت، وعقول فالت، وآراء مالت وأهواء صالت وأوباء شاعت من إفساد المفسدين.ورأيتُ أن الناس أكبّوا على الدنيا وزينتها، فلا يصغون إلى أنا المقصود من وراء خلق الجن والإنس وقواهم كلها، وقد خلقتهم لكي يعرفـــــوني فالله تعالى قد أشار في هذه الآية إلى أنه قد أودع خَلْقَ الجن والإنس بذرة ويعبدوني.طلبه ومن القادمة الحكمة.وطاعته ومعرفته الله، ولولا هذه البذرة في الإنسان لما وُجدت في الدنيا عبادة الأهواء ولا عبادة الأصنام ولا عبادة الناس؛ لأن كل خطأ نتج بحثا عن الصواب.باختصار، إن السيادة الحقيقية مسلّمة لتلك الذات، وهو السيّد حقا.الأسماء الثلاثة الدالة على عظمة الله تعالى ؛ المدبِّرُ.والتدبير معناه الأخذ في الحسبان عند البدء في أي عمل كل ما يتعلق بالأحداث الماضية والنتائج ليوضع الشيء في محله نظرا إلى هذه الأمور كلها ولا يكون أي فعل من وهذا الاسم أيضا لا يمكن إطلاقه بمعناه الحقيقي على غير الله تعالى، لأن التدبير الكامل موقوف على معرفة الغيب، وهذا غير مسلّم إلا الله تعالى.أما الأسماء الأربعة الباقية..أعني المربي والقيم والمنعِم والمتمم، فهي تدل علـــى تلك الفيوض الإلهية التي هي جارية على العباد نتيجة ملكـــه الكامــــل وســــيادته الكاملة وتدبيره الكامل.والمربي يعني في الظاهر من يقوم بالتربية، وحقيقة التربيـــة أن تتم تربية كل فرع من الفروع المتعلقة بخلقة الإنسان مــــن حيــث جسمه وروحه وطاقاته وقدراته، وأن تمتد سلسلة هذه التربية إلى جميع المراتب التي يتطلبها كمال هذه التربية من أجل الترقيات المادية والروحانية للبشر.كما يطلق لفظ التربية أيضًا على إظهار وإبراز النقطة التي يبدأ منها اسم البشرية أو أساسياتها، ويتحرك منها نقش وجود البشر أو غيره من المخلوقات من العدم إلى الوجود.لقد تبين من هنا أن مفهوم الربوبية في العربية واسع جدا، فيُطلق لفظ بدءًا من نقطة العدم حتى الكمال التام للمخلوق.ولفظ الخالق وغيره من الكاملة الربوبية هي
۳۹ الملة ،وأدلّتها ولا ينظرون إلى نضارها ونضرتها، ويُعرضون كأنهم مرتابون، وليسوا بمرتابين ولكنهم آثروا الدنيا على الدين.لا يقبلون لعميهم دقائق العرفان، ولا يرون علاء البراهين، وكيف وإنهم يؤثرون الكلمات فروع من اسم الرب.أن أما القيم فيعني الحافظ للنظام.وأما المنعِم فهو الذي يمنح الإنسان أو غيره من المخلوقات كل نوع من الإنعام والإكرام الذي يمكن أن ينالـه بحـــب قـــواه و استعداده والذي يطلبه طبعًا، لكي يبلغ كل مخلوق كماله التام كما قال الله جل شأنه رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى..أي الذي أعطى كل شيء كمال خلقته المناسب له، ثم هداه إلى كمالاته المطلوبة الأخرى.فالإنعام يعني يُعطى الشيء أولاً ما يحتاج إليه من حيث وجوده من قوى وقدرات، ثم يُرشد إلى السبل التي تؤدي إلى ترقياته المترقبة.أما المتمم فمعناه الذي لا يترك أي جانب من جوانب سلسلة الفيوض هـذه ناقصا، بل يبلغ به حد الكمال.قاسم الربِّ الذي ورد في القرآن الكريم والذي اقتبسناه في مستهل هذه الخطبة يشمل كل هذه المفاهيم الواسعة التي ذكرناها هنا بإيجاز.والآن نقول بكل أسف إن أحد المسيحيين الإنجليز الجاهلين قد قال في كتابــــه أن من فضل المسيحية على الإسلام أنها ذكرت أن من أسماء الله الأب، وأن هذا الاسم جميل ورائع للغاية ، ولكن القرآن الكريم لم يذكره.علما أن لفظ الأب أو "باپ" أو FATHER لا يتضمن معنى الحب أبدا، فإن الفعل الذي يسمى بسببه الإنسانُ أو الحيوان أبا لا يستلزم في بدايته الحب، إنما يتولد الحب شيئًا فشيئًا إثر رؤية الآخر والاستئناس به، أما الربوبية فالحب متلازم لها منذ البداية كميزة ذاتية.منه.
سبل الشيطان، ويُصرّون على التكذيب والعدوان، ولا يسلكون محجة الصادقين.فطفقت أدعو الله ليؤتيني حُجَّةً تُفحِم كَفَرةَ هذا الزمان، وتُناسب طبائع الحدثان، لأُبكت سفهاءهم وعقلاءهم كلمة ما من ولكني أستغرب من أن المعترض لم يفكّر عند كتابته هذه العبارة إلى ما منحته اللغة هذه الكلمة من عظمة وتكريم، لأن التعظيم الحقيقي إنما تناله الكلمة من خلال اللغة وحدها، وليس لأحد أن يمنح تلقاء نفسه تعظيما لم تمنحها اللغة إياه، ولذلك لا يخرج كلام الله تعالى أيضا عن الالتزام باللغة.وقــــد أجمع جميع أهل العقل والنقل على أنه لا بد من الرجوع إلى اللغـــة أولاً لمعرفــــة عظمة كلمة ما، لنرى العظمة التي خلعته عليها اللغة الأصلية التي منها تلـك الكلمة.والآن إذا أخذنا هذه القاعدة في الحسبان وفكرنا في كلمة "الأب" لنعلم عظمتها من حيث اللغة، فكل ما نعرفه هو أن إنسانًا إذا ولد في الحقيقة نطفة من إنسان آخر من دون أن يكون لقاذف النطفة أي دخل في خلقه، لقلنا في هـذه الحالة أن فلانا "أب" لفلان.أما إذا أردنا تعريف القادر المطلق القدرة بأنه خالق جميع الخلق بإرادته الخاصة، ومُوصلهم بنفسه إلى أوج الكمال، والمنعم عليهم بحسب مقتضى الأمر نتيجة رحمته العظيمة، والحافظ والقيوم، فلا تسمح لنا اللغة في هذه الحالة أبدًا استعمال لفظ "الأب" لبيان هذا المفهوم، بل وضعت اللغــة لبيان ذلك كلمة أخرى وهي "الرب"، وقد بينا تعريفها على ضوء اللغة آنفـــا.وبطبيعة الحال لسنا مخوّلين أن نخترع من عند أنفسنا لغة جديدة، بل يتحتم علينا الالتزام بالكلمات التي وضعها الله تعالى منذ القدم.هذا البحث أن إطلاق "الأب" على الله تعالى هو من قبيل الإساءة الله تعالى لقد تبين من والهجو له له.والذين نسبوا إلى المسيح اللي بهتانا بأنه كان يدعو "أبا " ، وكان يوقن أنه تعالى أبوه ،حقيقة قد ألصقوا بابن مريم بهتانا شنيعا.هل يجوز العقل أن يرتكب المسيح اللي هذا الخطأ - والعياذ بالله- فيستخدم في
٤١ بأحسن البيان، وتتم الحجة على المجرمين.فاستجاب ربي دعوتي، وحقق لي منيتي، وفتح علي بابها كما كانت مسألتي ومُراد مُهجتي، حق الله جل شأنه - كلمة رديئة وحقيرة لغويا- تدل على الضعف والعجـز وعدم القدرة من كل النواحي؟ لم يكن ابن مريم مخيرا في أن يختلق عنده لغة من جديدة ولا سيما تلك اللغة الرديئة التي تدل على جهل تام.فما دامت اللغة لم تتوسع في مفهوم كلمة "الأب" أكثر من أن ذكرًا يقذف نطفته في رحم أنثى، فتتحول النطفة تدريجا إلى كيان ذي حياة، لكن ليس بقدرة قاذف النطفة بل بقدرة ذات أخرى، فيسمى قاذف النطفة في اللغة أبًا.فكلمـــة "الأب" جد سخيفة ورديئة ولا تتضمن شائبة من معنى الربوبية أو الحب والإرادة كشرط، فمثلاً إن الكبش الذي يقفز على الشاة ويقذف فيها النطفة، أو الثــــور الفحل الذي يقع على البقرة ويشبع.ثم ينفصل عنها دون أن يذهب أن يفكر في إنجاب الأولاد، أو الخنزير الذي يندفع من جراء الشهوة العارمة ويظل مشغولا بإشباعها ولا يقصد من وراء ثورة شهوته المتكررة أن يولد له أولاد وتكثر الخنازير في الأرض، كما لم تودَع غريزته هذا الشعور، ولكن حين يولد له أولاد يسمى أبا لأولاده.عُلمته، فما دامت لغات العالم كلها تتفق على أنه ليس في مفهوم لفظ "الأب" أن يؤدي بعد قذف نطفته أي واجب آخر نحو إنجاب الأولاد، أو أن لا يخطر هــذا الأمر بباله عند قذف النطفة، بل الحق أنه لم يُوهَب أي مخلوق هذه القدرة، بل لا تشترط كلمة "الأب" فكرة إنجاب الأولاد، وليس في مفهومها إلا قذف النطفة، بل قد سمي أبا – لغة – من منطلق واحد فقط وهو قذف النطفة.إذن فكيـف يمكن إطلاق مثل هذه الكلمة - السخيفة باتفاق جميع اللغات- على القادر المطلق القدرة الذي تتم جميع أعماله بإرادته الكاملة وعلمه الكامل وقدرته الكاملة؟ أن تُطلق على الله تعالى الكلمة نفسها التي أُطلقت علـــى الكــبش وكيف يصح
٤٢ وأعطاني الدلائل الجديدة ،البينة والحجج القاطعة اليقينية، فالحمد لله المولى المعين.والثور والخنزير أيضا.ما أشنع هذه الإساءة التي لا يتورع منها المسيحيون الجهلة؟ لم يعد لديهم حياء ولا خجل ولا إدراك بالقيم الإنسانية.لقد سقطت فكرة الكفارة على قواهم البشرية سقوط الفالج حتى جعلتهم كسالى بليدين وفاقدي الشعور.لقد أدى بهم الاعتماد على الفداء إلى أنهم يرون اليوم العمـــل الصالح أيضا سخيفا.ففي الفترة الأخيرة أي بتاريخ ٢١ يونيو/ حزيران ١٨٩٥م نُشرت في جريدة "نور" أفشان" الصادرة في "الدهيانة" عقيدة للديانة المسيحية عن لیگ حنا، الكفارة وهي غاية في الخطورة حيث تحث المجرمين المحترفين على الجريمة حث وملخصها أن المسيحي المخلص ليس بحاجة إلى أعمال صالحة، إذ ورد أن لا دخل للأعمال الصالحة في النجاة، مما يعني بوضوح أن نيل شيء من مرضاة الله التي هي مدار النجاة محال بالأعمال بل تكفي الكفارة لذلك.فليفكر المفكرون هنا في أنه إذا لم يكن للأعمال الصالحة دخل في مرضاة الله فكيف يمكن إذن أن تكون تصرفات المسيحيين سليمة؟ إذا كان الامتناع عــن السرقة والزنا ليس مدعاة للثواب، فلم يعُدْ كلا العَمَلين يستحق المؤاخذة.ومن هنا علمنا أنه لا يجرّئ المسيحيين على الآثام إلا هذه العقيدة، بـل يمكنهم أن يرتكبوا القتل واليمين الكاذب وما إلى ذلك بناء على المبدأ نفسه لأن الكفارة تكفيهم وتمحو السيئات كلها.ويل لمثل هذا الدين.وليكن معلومًا أن كلمة "الأب" التي يُطلقها المسيحيون الجاهلون علـــى الله تعالى بغير حق مسيئين إليه تعالى إنما هي من الكلمات المشتركة..أعني أنها مـــــن الكلمات العربية التي توجد بتغير بسيط في جميع اللغات الأخرى التي تفرعــــــت منها.فالحق أن كلمات Father (في الإنجليزية ويتا في الهندية) وبـــاب (في
٤٣ وتفصيل ذلك أنه صرف قلبي إلى تحقيق الألسنة، وأعان نظري في تنقيد اللغات المتفرّقة، وعلّمني أن العربية أُمُّها وجامع كيفها وكَمِّها، الأردية) كلها أشكال مشوهة لهذه الكلمة ،العربية وسنتناول ذكرها في محلها بإذن الله تعالى.وقد استمدت هذه الكلمة -1 -۲ -2 من حيث اللغة من أربعة جذور كالآتي.إباء: الإباء هو الماء الذي لا ينضب.فبما أن ماء النطفة يظل يتكون في الرجل إلى مدة طويلة، ومن هذا الماء نفسه يخلق الله سمي مصدر هذا الماء بــــ الحكيم ذو الجلال "الطفل"، لذلك "أب".ومن هذا المنطلق يطلق العرب على فرج المرأة "أبو دارس"، والدارس يعني الحيض، فبما أن الحيض أيضا لا ينقطع إلى مـدة طويلة فقد عُدَّ ماءً على سبيل المجاز وسُمِّي الفرج أبا دارس، وكأنه بئر لا ينقطع ماؤها.استمدَّت كلمة الأب من "أبى"، لأن "أبي" في العربية يعني امتنع وتوقف أيضا، فبما أن الذكر الذي يُسمَّى الأب يتوقف بعد قذف النطفة ولا يقوم بعد ذلك بأي شيء آخر، بل "الأم" -التي أوسعُ معنى من "الأب"- تتلقى في رحمها نطفة "الأب" الني تتغذى على دمها، الأمر الذي رُوعي أيضا في تسمية "الأب".إن كلمة الأب مشتقة من لمشابهة ذكر الرجل بالقصب."الأباء" التي تعني القصب، وذلك إنها مشتقة من "أبي"، ومعناه زوال الاشتهاء، ولما كانت شهوة الرجل تزول بعد الجماع، فرُوعِي هذا المعنى أيضا في سبب تسمية "الأب".
٤٤ وأنها لسان أصلي لنوع الإنسان، ولغة إلهامية من حضرة الرحمن، وتتمّةٌ لخِلْقة البشر من أحسن الخالقين.باختصار، هذه هي الأجزاء الأربعة التي يتضمنها قانون القدرة المتعلق بالأب، وبناء عليها سُمّي الأب "أبًا".فإذا عرفنا سبب تسمية الأب علمنا أيضا سبب تسمية الأسماء التي تُستعمل في اللغات الأخرى للوالد بدلاً من الأب مثل: باپ، Father، پدر، وپتا، وغيرها، لأن جميع اللغات تفرعت من العربية، وهـذه التسميات ليست إلا صورة مشوهة للتسمية العربية.والآن ينبغي أن يفكر هؤلاء مع الالتزام بمبادئ الحياء: هل يجوز أن يطلق على الله تعالى هذا اللفظ الذي عرفنا أسباب تسميته؟ ولو قيل: لماذا إذن أطلقت الكتب السابقة هذا الاسم على الله تعالى؟ فجوابه: أولاً أن جميع تلك الكتب محرفة ومبدّلة وقولها المنافي للحق والحقيقة لا يجدر بالقبول أبدًا، لأنها أصبحت الآن كالوحل القذر الذي ينبغي أن يتجنبه الإنسان الطاهر الطبع.ولكن لو افترضنا جدلاً أن التوراة تضمنت مثل هذه الكلمات فعلاً، فنقول: من الممكن أن تكون لها معان أخرى تخالف مفهوم الأب، ذلك أن نطاق معاني الكلمات واسع جدا.أما لو افترضنا أن هذه الكلمة لا تعني إلا المعنى المذكور، فيمكن الرد عليــــه كالتالي : بما أن بني إسرائيل وفروعهم من بعدهم كانوا يعانون من الانحطاط الشديد في ذلك الزمن، ويعيشون كالوحوش، فما كان لهم أن يفهموا المعنى الطاهر والكامل الكامن في اسم "الرب"، فبيّن لهم الوحي الإلهي مفهـوم الرب بكلمات يفهمونها نظراً إلى حالتهم المتردية.وهذه القضية تماثل قصة "عالم المعاد"، فإن التوراة لم تصرح بذلك العالم كما ينبغي، بل اكتفت بالترغيب في الأطماع المادية والإنذار عن الآفات الدنيوية فحسب، ذلك لأن تلك الأقوام لم
ثم عُلّمتُ مِن كلام الله ذي القدرة، أن العربية مخزَنُ دلائل النبوة، ومجمع شواهد عظمة هذه الشريعة فخررتُ ساجدا لخير المنعمين.وقادني داعي الشوق إلى التوغل في العربية، والتبحر في هذه اللهجة، تكن لتفهم في ذلك الزمن تفاصيل عالم المعاد، فأفضى هذا الذكر الإجمالي إلى وجود فرقة منكرة للقيامة بين اليهود، كذلك فإن استخدام تسمية "الأب" أدى بأمة جاهلة..أعني المسيحيين..إلى اتخاذ العبد العاجز إها.غير أن هذه التعبيرات قد استخدمت على سبيل الاضطرار نظرًا إلى انحطاط هؤلاء القوم إذ كانــت تعاليم كتبهم محدودة، وكانت كلها ستنسخ عاجلاً في علم علم الله تعالى، فأجاز لهؤلاء القوم المتردين فكريًا استخدام مثل هذه التعبيرات.ثم لما جاء إلى الدنيا ذلك الكتاب الذي يُري النور الحقيقي، فما كان ثمة حاجة إلى النور الذي يخالطه الظلام، بل رجع الزمن إلى حالته الأصلية وعادت الكلمات كلها إلى حقيقتها الأصلية.وهذا هو السر وراء إتيان القرآن الكريم بإعجاز الفصاحة والبلاغة، إذ كانت الدنيا بحاجة ماسة إلى معرفة الوضع الأصلي للغة، فوضع القـــرآن كــل كلمة في موضعها، وكشف الفصاحة والبلاغة كشفًا فصارتا كالعينين لرؤيــــة الدين.أما الأمم السابقة فظلت غافلة تمامًا عن أن تجعل اللغة خادمـــــة لكشف أسرار الدين، غير أنها كانت مضطرة لأنها كانت خاوية الوفاض في هذا المجال، إذ كانت لغاتها مشوهة رديئة بكماء عاجزة عن بيان وجوه التسمية للمفردات والأسماء.لم يكن لديها نظام للمفردات ولا رأسمال من اطراد جذور الألفاظ، بل كانت كأحجار بناء متهدم خرب لم يعد فيه أثر للترتيب الطبعي، فأنى لتلك اللغات الرديئة أن تساعدهم في الإلهيات ولذلك هلكت تلك الأمم كلها.ثم نزل بعدها القرآن الكريم بلغة متكاملة متسمة بكل هذه المحاسن والمزايا، ولذلك ظل الإسلام محفوظا من الخراب ولم يأخذ فيه المخلوق مكان الإله القادر.كنا نود شرح المزيد من الكلمات العربية لبيان مدى احتواء المفردات العربيـــــة
فوردتُ لُجتها بحسب الطاقة البشرية، ودخلت مدينتها بالنصرة الإلهية، وشرعتُ الاختراق في سُبلها ومسالكها، والانصلات في طرقها وسككها، لأستعرف ربيبةَ خِدْرها، وأذوق عصيدة قدرها، على الحقائق السامية، ولكنا ننهي هذا الموضوع هنا للأسف مخافة الإطالة.غير أن الثلاثمئة كلمة التي سجلناها في الكتاب إنما كتبناها ليأتي معارضونا بمثلها من لغاتهم، فمن واجبهم مثلاً أن يأتوا بخطبة مماثلة وتمهيد مماثل عن الكلمات المفردة، لنرى ما في لغاتهم من مفردات وما إذا كانت مفرداتها تساعدهم على بيان موضوع ما، وما إذا كان عندهم نظام للمفردات فعلاً، أم أنهم يُطلقون دعاوى فارغة.ونرى من المفيد أن نردّ هنا على بعض الشبهات والوساوس التي أثارهــا میکسملر في كتابه "المحاضرات" المجلد الأول تحت عنوان "علم اللسان".وفيما يلى شبهاته على منوال: قوله، وردودي عليها على منوال: وأقول.قوله من الموانع التي حالت دون رقي العلم أن بعض الأمم استخفت بالأمم الأخرى واحتقرتها ونابذتها بألقاب مزدرية، مما حرمها من تعلم لغات الأمم المحقرة، ولم يبدأ علم اللسان إلا بعد إخراج هذه الكلمات المزدرية..مثل الهمجي والعجمي..من قاموس الإنسانية، واستبدالها بلفظ "الأخ"، والاعتراف بحق جميع الأمم في كونها من جنس واحد.أقول: يبدو من قول ميكسملر أنه يطعن هنا في العرب في الواقع، حيث يرى أن العرب الذين يسمون أهل اللغات الأخرى عجما، إنما اخترعوا هذه التسمية حسداً وتعصبًا واحتقارًا للشعوب الأخرى.ولكن هذا خطأ منه وقد وقع فيه لأن الحسد المسيحي منعه من النظر فيما إذا كانت كلمتا العرب والعجم من اختراع البشر أم من عند الله تعالى، مع أنه قد أقرّ في كتابه أنه ليس بوسع إنسان اختراع مفردات اللغة.
٤٧ وأجتني ثمار أشجارها، وأُخرِجَ دُرَرَ بحارها، فصرتُ بفضل الله من الفائزين.ولم يفتني بها مطلع، ولا خلا مني مرتع، ورأيتُ نضرتها، ورعيتُ خضرتها، وأُعطيتُ من ربي حظا كثيرا، ودخلاً كبيرا في فليكن واضحًا له ولمن لف لفيفه، أن في اللغة العربية كلمتين قد وقعتــا متعاكستين في فحواهما، إحداهما "العرب" التي معناها: فصحاء اللسان وبلغــــاؤه، والأخرى التي تعاكسها هي "العَجَم" ومعناها: غير الفصحاء الذين حصرت ألسنتهم.وإذا كان ميكسملر يرى أنهما ليستا كلمتين قديمتين وأن الإسلام هـو الذي اخترعهما حسدًا وتعصباً، فعليه أن يدلّنا على أثر للكلمتين اللتين كانتــــا أصليتين في رأيه، إذ من المستحيل أن لا يكون بشعب ما أي اسم منذ القديم.وما دامت هاتان الكلمتان قديمتين فلزم الاعتراف أنهما ليستا من اختراع الإنسان، بل الله القادر وعالم الغيب الذي خلق الناس مزودين بكفاءات متفاوتة، هو الذي قد سماهم بهاتين التسميتين بالنظر إلى كفاءاتهم المختلفة.والدليل الثاني على ذلك هو أنه إذا كان أحد من البشر قد اخترع هـذين الاسمين العرب والعجم" احتقارًا وتعصبا، فلا بد أن يكونا خلاف الواقــــع وكذبًا لا دليل عليه، ولكنا قد أثبتنا في هذا الكتاب نفسه أن لفظ "العرب" اسم على المسمى في الحقيقة، وأن من الحقائق الثابتة أن العربية تتبوأ -مـــن حيث نظام مفرداتها ولطافة تراكيبها وغيرها من عجائبها وغرائبها مكانـــة رفيعة لا يسع المرء بعدها إلا القول إن اللغات الأخرى تبدو بكماء إزاءها.وعندما نجدها بكماء إزاء العربية، بل نجدها كجمادات لا حر اك بها، ومفتقرة إلى حركة اطراد المواد (المفردات) بحيث تبدو بلا حياة، فلا نملك إلا الاعتراف أن تلك اللغات متردّية جدًا، وأن العربية قد استعملت في الواقع لفظا لينا جدا عند وصفها غير العرب عَجَمًا، إذ لم تكن تلك اللغات ولا أصحابها يستحقون هذه التسمية أيضًا.ولو وصفنا حالة تلك اللغات المتردية وصفا صحيحًا لكان
ΕΛ عربي مبين.حتى إذا حصلت لي دُرَرُها ودَرُّها، وكُشِفَ على معدنها ومقرّها، وأراني ربي أنها وحيّ كريم وأصل عظيم لمعرفة الدين، وأن شهبها ترجم الشياطين، ومع ذلك رأيتُ لُغات أخرى كخضراء الأولى أن تسمى لغات ميتة.على أية حال، إننا لا نعرض هذه المقدمة الآن كمجرد ادعاء فارغ، بل قد نشرنا مع.هذا الكتاب إعلانًا لتقديم جائزة قدرها خمسة آلاف روبية حسما للخصام.فإذا كذب أحدٌ بياننا هذا، سواء ميكسملر أو غيره، فالأولى به أن يؤكد صــــــحـة تباهيــــه وتبجحه بأدلة مقنعة، ويأخذ منا جائزة خمسة آلاف روبية نقدًا.إني أتأسف على ميكسملر كثيرًا إذ أثار اعتراضا يتنافى مع ما ورد في المقدسة مع أنه يسمي كتبه نفسه مسيحيا، فإنّ كتبهم المقدسة نفسها قد ذكـــرت العرب بلفظ "العرب" (انظر إشعياء، الإصحاح ۲۱: وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ بِلادِ الْعَرَب).أنسي الإنجيل عند ثورة التعصب والعناد؟ اقرأوا "أعمال الرسل" تــــروا أن إلههم ذكر العرب بلفظ "العرب" فقط.فما دامت كتبهم المقدسة أيضا تحافظ على احترام كلمة "العرب" الذي ضدُّه العجم، فالمؤسف حقا أنهـم مــا استساغوا احترام هذا الاسم مع كونهم مسيحيين، كما لم يقبلوا الاسم الآخـ المحاذي له.كان عليهم أن يفكروا أن كتبهم المقدسة قد صدقت ما في كلمـة "العرب" من مفهوم مقدس، ومن أجل ذلك فقد سمت العرب في أماكن كثيرة باسم "العرب" الذي يشير إلى ميزة الفصاحة فيهم.إذن فقبل وجود الإنجيـــل أيضا قد وردت كلمة العرب في التوراة مرارا وتكرارًا، والأنبياء الذين تنبأوا عن العرب قد استخدموا كلمة "العرب" نفسها.فإذا كانت هذه الكلمة ليست من الله تعالى فلزم القول إن الإنجيل وغيره من الكتب التي تُعد كتبا مقدسة ليـــســت
٤٩ الدِمَن، ووجدتُ دارها خربةً وأهلها في المحن، ووجدتها شادّة الرحال للضّعن كالمتغربين، فأُلقي في رُوعي أن أؤلف كتابا في هذا الباب، وأضع الحق أمام أعين الطلاب، وأُحسنُ إلى الخلق كما أحسن إلى من الله تعالى، وبالتالي لا بد من التخلي عن تلك الكتب كلها بسبب هـذا الحـــــد والتعصب.○ قوله : في رأبي إن علم اللسان قد بدأ في الواقع من أول يوم البنتاكوستى.أعمال الرسل أن الحواريين كانوا يتحدثون بعدة لغات، أقول: لأنه قد ورد في هو عيد البنتكسطى أو البنطيقستى أو البنتاكوستى أو البنتيكوستي أو عيد الخمسين أو حلول الروح القدس بحسب العقيدة المسيحية.سمي عيد حلول الروح القدس بعيد العنصرة عندهم لأنه كان من أهم أعياد اليهود عيد يعرف بعيد العنصرة ، وهي كلمة عبرية معناها "الجمع" أو "الاجتماع" أو "الحفل المقدس" ، لأنهم فيه كانوا يجتمعون ويعبدون....وجاءت المسيحية فدعت عيد حلول الروح القدس باسم "عيد العنصرة" لأن الروح القدس - حسب اعتقادهم - حلّ فيه على جماعة التلاميذ وهم مجتمعون في العلية.وسمي عيد حلول الروح القدس بعيد الخمسين " البنطيقستى" باليونانية لأن عيد العنصرة عند اليهود كان معروفا باسم "عيد الأسابيع أو "عيد الخمسين" ، لأنه كان يأتى بعد 7 أسابيع من ثاني يوم عيد الفصح أي في اليوم الخمسين من عيد الفصح.وجاءت المسيحية فدعت عيد حلول الروح باسم " عيد الخمسين" ، أعيد البنطيقستى ا لأنه يقع في اليوم الخمسين من قيامة الرب - كما يعتقدون.(المترجم)
رب الأرباب، لعل الله يهدي به نفسا إلى أمور الصواب، وما أبتغى به إلا رضا الرب الوهّاب، وهو مقصودي لا مدح العالمين.وإني ما خرجت شيئا مِن عَيبي، فبأي حق أطلب محمدتي.ووالله ما خَرَجَتْ فيحتج ميكسملر بذلك على أن الديانة المسيحية هي التي قد وضعت أساســـا للتحقيق في اللغات.فلينظر ذوو الرأي والنظر إلى مدى تعصب هذا الكاتب بناءً على كلمـــات لا أصل لها.يجب ألا يغيب عن البال أنه قد ورد في الباب الثاني مــــن أعمـــــــال الرسل صراحةً أن الحواريين إنما تحدثوا يومذاك بلغات كان يتحدث بمــا يهـود أورشليم، وليس أنهم تحدثوا عندها بالصينية أو السنسكريتية أو اليابانية، بل قد ورد هنالك بوضوح أن جميع اليهود كانوا يفهمون تلك اللغات كلها لأنها كانت محكية في أورشليم.فأي كرامة في ذلك للحواريين؟ بل الواقع أن تقديم مثل هـذه الأمور في هذا العصر مجلبة للخجل.أليس ممكنًا أن يتقن الحواريون أيضا اللغات التي كان يحيكها بكثرة قومهم وأقاربهم المقيمون في المدينة نفسها؟ فما دام الشعب واحدا، والمدينة هي هي، والأقارب هم هم، وما دامت الحضارة تقتضي أن يكون ملما بلغة بعض بحكم القرابة والعلاقات واللقاءات والمعاملات ليل نهــــار، فكيف يُستبعد أن يكون الحواريون ملمين بلغات إخوتهم الأعزاء؟ هذا النوع من الكرامة ليس أغرب من أعمال الشعوذة التي يأتي بها النساك الهندوس في لاهـــور بعضهم أحيانًا.لو قال ميكسملر إن علم اللسان نشأ على يد أعداء المسيح الألداء، وهم الذين أسسوا هذا الأمر في البداية، لبدا كلامه سليما، لأن هناك اعترافا في الإصحاح نفسه
۵۱ من فمي كلمة، وما انكشفت عليّ حقيقة إلا بتفهيمه، وما علمتُ شيئا إلا بتعليمه، والله يعلم وهو خير الشاهدين.فلا تُثْنِ علي بصالح في هذه الخطة، واشكروا الله فإن كلها من حضرة العزة، هو الذي أحسن إلي وهو خير المحسنين.وإني رتبتُ هذا الكتاب على مقدمة وأبواب وخاتمة لطلاب، ولا قوة إلا بكريم ذي قوة ولا قدرة إلا بقدير ذي عظمة، نرجو فضله من أعمال الرسل بأن اليهود كانوا يتحدثون بتلك اللغات نفسها منذ مدة طويلة في المدينة التي كان الحواريون يسكنون فيها، فالتقدم في هذا المجال ثابت لليهود، ويكفي الحواريين تكريما القول إنهم لم يكونوا كسالى مثل المشعوذين، بل تعلّموا تلك اللغات من أقاربهم إذ تربوا بين ظهرانيهم.والحق أنه لم يوجد في العالم من وجّه إلى علم اللسان سوى القرآن الكريم، فإن هذا الكلام المقدس الذي قال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (سورة الروم)..أي من الآيات الدالة على وجود البارئ ووحدانيته الله خلق السماوات والأرض واختلاف لغاتكم وألوانكم، إنها آيات عظيمة لمعرفة الله، ولكن للذين هم أهل العلم.فانظر إلى مدى حث القرآن الكريم على التحقيق في الألسنة عد هذا حتى العمل مداراً لمعرفة الله تعالى.هل توجد في الإنجيل آية مثلها؟ أقول بكل تحد: كلا.فيا للحياء.
۰۲ ونطلب رُحْمَه وهو أرحم الراحمين وإنا شرعنا باسمه، ونختم إن شاء الله ،بفضله وهو خير المتفضلين، وهو المولى المعين، فإيّاه نعبد وإياه نستعين.ونريد أن نُرِيَ محامده على راحلة قصيدة، ونزينها بزهر أشعار جديدة، مع نعتِ رسول هادي كل نفس سعيدة، لعــــل الله يقبل هذه الهدية ويجعل في كتابي ،البركة، والله يعطي من يطلب، فبشرى للطالبين.يوم ورد هنا في الحاشية باللغة الأردية ما تعريبه بدأت نظم هذه القصيدة الاثنين بتاريخ ١٥ يوليو (تموز) عام ١٨٩٥م بعد الساعة الثامنـــة صباحا، ونظمت مئة بيت قبل الساعة الخامسة عصرا في اليوم نفسه، وذلك فضل الله وتأييده الخارق للعادة.منه.
٥٣ القصيدة في حمد حضرة العزة ونعت خير البرية يا مَن أحاط الخلق بالآلاء تثني عليك وليس حول ثناء أنظر إلي برحمة وعطوفة يا ملجئي يا كاشف الغماء أنت الملاذ وأنت كهف نفوسنا في هذه الدنيا وبعد فناء إنا رأينا في الظلام مصيبة فارحم وأَنْزِلْنا بدار ضياء تعفو عن الذنب العظيم بتوبة تنجى رقاب الناس من أعباء أنت المراد وأنت مطلب مُهجتي وعليك كل توكلي ورجائي أعطيتني كأس المحبة ريقها فشربتُ روحاء على رَوْحــــاءِ إني أموت ولا يموت محبتي يُدرى بذكرك في التراب ندائي يا واسع المعروف ذا النعماء أنت الذي قد كان مقصد مُهجتي في كلّ رشح القلـم والإملاء لما رأيت كمال لطفك والندا ذهب البلاء فما أُحِسُّ بلائي ما شاهدت عيني كمثلك محسنًا إني تركت النفس مع جذباتها لما أتاني طالب الطلبـــاء
مثنا بموت لا يراه عدونا بعدت جنازتنا من الأحياء لو لم يكُن رحمُ المهيمن كافلي كادت تعفيني سيول بكائي نتلو ضياء الحق عند وضوحه لسنا بمبتاع الدُّجى بِبَراءِ نفسي نَأَتْ عن كل ما هو مُظلِمٌ فأَنَحْتُ عند مُنوّري وجنائي لما رأيتُ النفس سَدَّ مَحَجِّي أسلمتُها كالميت في البيداء إني شربتُ كؤوس موتِ للهدى فرأيتُ بعد الموت عين بقائي فُقِدَت مراداتي بزمن لذاذة فوجدتها في فُرقةٍ وصَلاء لولا من الرحمن مصباح الهدى كانت زجاجتنا بغير صفاء إني أرى فضل الكريم أحاطني في النشأة الأُخرى وفي الإبداءِ الله أعطاني حدائق علمـــــه لولا العناية كنتُ كالسفهاء وقد اقتضت زفرات مرضَى مَقْدَمي فحضرت حمّالاً كؤوس شفاء الله خلّاقي ومُهْجَةً مُهجتي حِب فدَتْه النفس كل فداء وله التفرد في المحامد كلها وله علاء فوق كل عـــلاء فائض له إن كنت تعرف قدره و اسبق ببذل النفس والإعداء ملكوته تبقى بقوة ذاته وله التقدّس والعُلى بغناء غلبت على قلبي محبة وجهــــه حتى رميت النفس بالإلغاء وأرى الوداد أنار باطن باطني وأرى التعشق لاحَ في سيمائي ما بَقِيَ في قلبي سواه تصور غمرت أيادي الله وجه رجائي ود
هَوْجَاءُ أُلْفَتِه أَثارت حُرَّتي ففدى جناني صولة الهوجاء أبري الهموم بمشرفيّة فضلِهِ والله كاف لي ونعم الراعي ما شَمَّ أنفي مرغما في مشهدٍ وأثرتُ نَقْعَ الموت في الأعداءِ یا رب آمنا بأنك واحد رب السماء وخالق الغبراء آمنت بالكتب التي أنزلتها وبكل ما أخبرت من أنباء يا مَلْجَئِي أَدرِكْ فإنك موئلي يا كَهْفِي اعْصِمْني مِن الشُّغَبَاءِ يا رب أيدني بفضلك وانتقم ممن يدُسُ الدِّينَ تحت عَفاء لا يعلمون نكات دينِ المصطفى وتهالكوا في بخلهم ورياء يؤذونني قـوم أضاعوا دينهم نجس المقاصدِ مُظلِمُ الآراء خشوا ولا يخشى الرجالُ شجاعةً في نائبات الدهر والهيجاء زَمَعُ الأناس يُحَمْلِقون كثعلب يؤذوني بتحــــب ومـــواء حسدوا فسبوا حاسدين ولم يزَلْ ذو الفضل يحسده ذوو الأهواء صالوا بإبداء النواجذ كالعدا لمقالة ابن بطالة وشاء إن اللئام يكفرون وذمهم ما زادني إلا مقامَ سَناء نضَّوا الثيابَ ثِيَابَ تَقْوَى كُلُّهُمْ ما بقي إلا لبسة الإغواء ما إن أرى غير العمائم واللحى أو آنفًا زاغت بفرط مـــراء وأرى تغيظهم يفـــور كلُجَّةٍ موج كموج البحر في الغلواء كَلِمُ اللـــام أَسِنَّةٌ مَــذروبةٌ أعرى بواطنهم لباسُ عُواءِ 00
مَن مُخبرٌ عن ذلّتي ومصيبتي مولايَ حَتْم الرسل أهلَ رَباء يا طيب الأخلاق والأسماء جئناك مظلومين من جهلاء إن المحبة لا تضاع وتشترى إنا نحبّك يا ذكاء سخاء أنت الذي جمع المحاسن كلها أنت الذي قد جاء للإحياء أنت الذي ترك الهدون لربه وتخير المولى على الحـــوباء يا كُنْزَ نعم الله والآلاء يسعى إليك الخَلْقُ للإركاء یا بدر نور الله والعرفان تَهوِي إليك قلوبُ أهل صفاء یا شمسنا يا مبدأ الأنـــوار نورت وجه المدن والبيداء إني أرى في وجهك المتهلل شأنًا يفوق شؤونَ وجهِ ذُكاء ما جئتنا في غير وقتِ ضرورةٍ قد جئتَ مثلَ الْمُزْنِ في الرَّمْضاء إني رأيتُ الوجه وجه محمّد وجة كبــدر الليلةِ البَلْماء شمس الهدى طلعت لنا من مكة عين الندى نبعت لنا بحراء ضاهَتْ أَياةُ الشمس بعض ضيائِهِ فإذا رأيتُ فهاج منه بكائي أعلى المهيمنُ هِمَمَنا في دينه نبني منازلنا على الجوزاء نسعى كفتيان بدين محمد لسنا كرجل فاقد الأعضاءِ نلنا تُريَّاءَ السماء وسَمْكَهُ لِنَرُدَّ إيمانًا إلى الصيداء إنا جعلنا كالسيوف فنـــدمَعُ رأس اللئام وهامة الأعداء واها لأصحاب النبي وجنده حفدوا إليه بشدة ورخاء
٥٧ غُمِسوا ببركات النبي وفيضه في النور بعد تمزق الأهواء قاموا بإقدام الرسول بغزوه حضروا جناب إمامنا لفداء قدم الرجال لصدقهم في حُبِّهم تحت السيوف أُريق كالأطلاء بلغ القلوبُ إلى الحناجر كربةً فتــخــيروا الله كل عناء دخلوا حديقة ملةٍ غرّاء عذب الموارد مثمر الشجراء وفنوا بحبّ المصطفى فبحُـ قطعوا من الآباء والأبناء قبلوا لدين الله كل مصيبة حتى رضُوا بمصائب الإجلاء قد آثروا وجه النبي ونوره وتباعدوا من صحبة الرفقاء في وقتِ ظلمات المفاسد نوّروا وجدوا السنا في الليلة الليلاء تهب اللئامُ نُشوبَهم فمليكهمْ أعطى جواهر حكمــة وضياء وَاهَا لهم قُتلوا لعزّةِ رَبِّهِمْ ماتوا لـه بصـــداقة وصفاء شهدوا المعارك كلها حتى قضوا لرضا المهيمن نحبهم بوفاء ما فارقوا سبل الهدى وتخيروا جور العدا وبوائق الهيجاء هذا رسول قد أتينا بابه بمحبة وإطاعة ورضاء يا ليتَ شُقَّ جَناني المتموّجُ لأري الخلائق بحرها كالماء إنـــا قصـــدنا ظلــه بــــواجر كالطير إذ يأوي إلى الدفواء اء يا مَن يكذب ديننا ونبينا وتسب وجه المصطفى بجفاء والله لستُ ببـاســــل يوم الوغى إن لم أشُنَّ عليك يا ابن بغاء
۵۸ لا يبصر إنا نشاهــــد حســـنه وجمــــاله وملاحةً في مُقْلةٍ كَحْلاء بدر من الله الكــريم بفضـــله والبدر لا يغسو بلغــــي ضراء الكُفَّارُ نور جماله والموتُ خير من حياة غشاء إنا بــراء في مناهج دينـه من كل زنديق عـــــدو دهــــاء نختار آثار النبي وأمــره نقفُو كتاب الله لا الآراء يا مُكْفِرِي إِن العواقب للتَّقَى فانظُر مآل الأمر كالعقلاء إني أراك تميس بالخيلاء أنسيت يومَ الظعن والإسراء تب أيها الغالي وتأتي ساعة تُمسي تعض يمينك الشلّاء أفتضربنَّ على الصفاة زجـــاجة هون عليك ولا تمت بإباء غرتك أقوال بغير بصيرة سترت عليك حقيقة الأنباء إن السُّموم لَشَرُّ ما في العالَمِ ومن السمـــوم غوائلُ الآراء جاوزت بالتكفير عرصات التقى أشققت قلبي أو رأيت خفائي تأتيك آياتي فتعرف وجهها فاصبر ولا تترك طريق حياء إن المقرب لا يضاع بفتنة والأجر يُكتب عند كل بلاء يا ربنا افتح بيننا بكرامة يا مَن يرى قلبي ولُبَّ لِحائي يا من أرى أبوابه مفتوحةً للسائلين فلا ترد دعائي
المقدمة في ذكر أسباب تأليف الكتاب وبيا زما علمنا من الله الوهاب اعلم، حفظك الله القيوم وأيدك في خير تروم، أن هذا الزمان هو الزمان الظلوم، كأنه اليوم المسموم، أو البلاد الجروم، ضاعت فيه المعارف والعلوم، وشاعت البدعات والرسوم، وخلصت للدنيا الهمم والهموم، وحمئتْ بِتَارُ الطبائع ونُزِحَ الجموم، وحسبوا الزَّقُوم كأنه ، وقَلَّ المؤمنون وكثر اللئام الخصوم، وجعلوا المسيح إلها وقد رأوا أنه المسكين الجهوم، وكذلك جاءت الأيام الحسوم، فنشكو إلى الله رب العالمين.والذي نوّر الشهب، وأزجى للمطر السحب، وخلق السماواتِ طباقًا، وطبّقها إشراقًا، إن الظلماتِ كثرت في هذا الزمان، وحلّت في جذر قلوب الرجال والنسوان ومالتِ الطبائع إلى الضيم والزور، الزقوم الأول هو شجر في الجحيم منها طعام الأثيم، والزقوم الثاني هو الزبد بالتمر.(اللجنة)
واختارت سُبُلَ الفسق والفجور، وترك الناسُ طرق الديانة والأمانة، ورضوا بأنواع الفِرْية والخيانة وقلبوا أمور الدين.يتخذون الجد عبئًا، ويحسبون النبرَ حَبَيًّا، ولا يمشون إلا زائغين.سُلب منهم الفهم الذي يصقل الخواطر، ويدري الجَهامَ والماطر، فبرزوا كالأنعام راتعين لا يعرفون الزمان والوقت الذي قد حان، ولا يسلكون مسلك الحق والحقيقة، ولا يستقرون مفتاح الطريقة، ولا يتدبّرون القرآن منصفين، ولا يستَوْكِفون صَيِّبَ الفيضان، ويتيهون في موماة الخسران كالعمين.يؤذون بحدة الكلمات ولا كحد الظُّباة، ولا يبالون مكانة الصادقين.وإذا قيل لهم لا تفسدوا، واتقوا الله واهتدوا، قالوا إنما نحن أوّل المصلحين.فبما كانوا يكذبون، ولا يتركون الفساد ويزورون ختم الله على قلوبهم، وسقاهم سُمَّ ذنوبهم، فما وفقوا وصاروا من الهالكين.وقد نُصحوا فأكدى النصيحة، ووُعِظوا فما نفَع الموعظة، وما أرَوا إلا عنادًا، وما زادوا إلا فسادًا، وتراهم يَعثَون في الأرض مفسدين.نسلوا مِن كل حَدَب، وصاروا سَبَبَ كلِّ نَدَب، وساروا على نَحْب صائدين.وأشاعوا الفسق والفجور، والكذب والزور، بما كانوا فاسقين.فلذلك ترى أن الأمانة قلّت، والخيانة كثرت، والوقاحة أفظعت والضلالة ضنأت، وكلبة الفسق أجعلت، وبَغِيُّ الشرّ نُسئت، وحامِلُ المواعظ أيتنت، وهجانُ الهُجْرِ
سمنت، وعُسْبُرةَ الحق عُبطت، فما بكت عليها عين وما ذرفت، بل دابة الباطل ،سُرحت فرَعَتْ حِمى الحق حتى تضلّعت، فما منعها أحد بل أيدي المسلمين وثئت، وسيوف العدا انطلقت، فأُخِذَ الأحرار والحومُهم سُفّدت، ثم نُدِئَتْ ثم حُضمت وقضمت، والقيامة قامت، وهو جاء الفتن اشتدّت، وسيلُ الشرور غلبت، وانكسر السكر والمصيبة جلّت، ونزلت النوازل وجبات، وأرضُ التقوى بردت، وسماء الصلاح تغيمت، والمعصية امتدت وليلتها جثمت، والذنوب أغارت وصالت حتى جنّبتِ الصلاح وأسعطت، والنفوسُ ندت، وعينُ الإنصاف رُمِدت، وقروحُ الخبث تذيَّات، وكل سليطة هرات، والفتنة تفاقمت وسهامها من كل جهة مطرت، والخباثة تزوجت، فحملت وكمثلها أجزأت، فجايَأَيُّها المَتْرَبةُ وتواردت، والبلاد خربت ورهامُ المصائب تصوّبت، فما تحت نفس أيمنت أو أشأَمَتْ أو عرَضتُ وما عُصمت من الفقر وإِنْ طَهْفَلت، وما تركها العدا وإنْ بَأبَات وكم من نفس ارتدّت بعدما هَلْهَلتْ، وكفَرتْ بعدما آمنت وحَمْدَلتْ.فرأينا في هذه الليلة الليلاء ما عَرَّفَنا جَهْدَ البلاء، وقصصنا قصص الأعداء، مسترجعين مُحوقلين.والذين يقولون إنا نحن علماء الإسلام وفُحول ملة خير الأنام، فنراهم الكسالى الأكلين كالأنعام، لا ينصرون الحق بالأقوال
٦٢ والأقلام، إلا قليل من عباد الله ذي الإكرام، وترى أكثرهم في حقد أهل الحق كاللئام ما يجيئهم حق إلا يستعير بينهم الاصطخاب، ولا يدرون ما الحق والصواب.لا يمتنعون من الفتنة، ويلبسون الحق بغوائل الزخرفة، ليفتنوا من إزرائهم قوما جاهلين.والذي أقامه الله لإصلاح الناس يحسبونه كالخنّاس، ويُكفّرون المؤمنين.لا تَنَقَّلُ خطواتهم إلا إلى التزوير، ولا تميل ألسنُهم إلا إلى التكفير، ولا يعلمون ما خدمة الدين لبسوا الحق بالباطل وكذلك عبطوا علينا الكذب متعمدين فهذا أعظم المصائب على دين خير البرية..أن العلماء خرجوا من التدين والأمانة، وفعلوا أفعال أعداء الملة، وأجنؤوا على الكذب والفرية، ليحفظوها من صول الحق والحكمة، ولا يبالون ديانا ذا العظمة، وينصرون الكَفَرةَ كالمعاندين.واحتكؤوا في أنفسهم أنهم على الصواب، وما يسلكون إلا مسلك التباب، ولا يعلمون إلا الأماني، ولا يبتغون المعاني وما كانوا ممعنين.يسمعون الحق فيأبون، كأنهم إلى الموت يُدعون ويرون أن الدنيا غدور، والدهر عثور، ثم يُكبون عليها كالعاشقين.ولهم عمل يعملون في الدار، وعمل آخر للأنظار، فويل للمرائين.وقد رأوا فساد الكفّار، وعلموا أن الدين صار غرض الأشرار، ودِيسَ الحق تحت أرجل الفُجّار، ثم ينومون نوم الغافلين، ولا يلتفتون إلى مواساة الدين.
٦٣ يسمعون كل صيحة مؤذية ثم لا يبالون قول كَفَرَةٍ فَجَرة، ولا يقومون كذي غَيرة، بل يثقلون كالحبالى، وما هم بحبالى، وإذا قاموا إلى خير قاموا كُسالى، وما تجد فيهم صفة الجاهدين، وإذا رأوا حظ أنفسهم فتراهم يُهرعون إليه واثبين.هذا حال علمائنا الكرام، وأما الكفّار فيجاهدون لإطفاء الإسلام، وما كان نجواهم إلا لهذا المرام وما كانوا منتهين.حرفوا كتبًا وأخبارًا، ومكروا مكرًا كبارًا، وزوّروا أطوارًا، وأهلكوا خَلْقًا كثيرا من الجاهلين.قتلوا زُمرًا كثيرة، وأبدوا مكيدة كبيرة، فما نبا سيفهم نبوة، ووردوا الديار متبوئين.وما تركوا دقيقة الفساد، وجهروا العناد، وقلّبوا أمور الحق والسداد، وصافوا الشيطان بالدخل من مثافنين، وما نكبوا عنهم بُغْضَ الصادقين، بل نجد كل فرد ذا حنق، ومصرا على نجس ورهق، وما نجدهم إلا مفترين.لا يعلمون إلا الأكل والنيك، ولا يؤثرون إلا الزينةَ والصَّيْكَ، ولا يمشون إلا مستكبرين.فحملنا بهم أنواع الأحمال لو حملت مثلها راسخاتُ الجبال، لخرّت وانهدت في الحال، وناء بها بأس الأثقال، وسقطت كالساجدين، ولكنا كنا محفوظين.وكان قلبي يقلق، وكادت نفسي تزهق، لو لم يكن معي قوي متين.وإنه مولانا ولا مولى للكافرين.وإنه يجيب دعاءنا ويسمع
بكاءنا، ويأتينا إذا أتيناه مضطرين.وكذلك إذا خوفني هجوم الآفات، وأرعدني ضعفُ المسلمين والمسلمات، فبكيتُ في وقت من الأوقات، ودعوتُ ربي قاضي الحاجات، وناديت مولاي كالمتضرعين، وقلت يا رب أنت ملجأنا في كل حين، ونحن إليك نشكو وأنت أحكم الحاكمين فلا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ولا تُحملنا ما لا طاقة لنا به، واعفُ عنا واغفِرْ لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.فاستجاب لي ربي وأعطاني إربي، ونصرني وهو خير الناصرين.فكنتُ يوما أتذكر قلة البعاع، وأرتعد كاللعاع، وأقلَقُ في هذه الأحزان وأقرأُ آيات القرآن وأفكر فيها بجهد الجنان، وأُزجي نضوَ التدبّر والإمعان، وأدعو الله أن يهديني طرق العرفان، ويتم حجتي على أهل العدوان، ويتلافى ما سلف مِن جور المعتدين.فبينما أنا أفتش كالكَميش، وقد حَمِي وطيس التفتيش، وأنظُر بعض الآيات، وأتوسّم فَحْواءَ البينات، إذا تلالات أمام عيني آية من آيات الفرقان، ولا كتلالُو دُرَر العُمان، فإذا فكرتُ في فحوائها، واتبعتُ أنواع ضيائها، وأجزتُ حِمَى أرجائها، وأفضيتُ إلى فضائها، وجدتُها خزينة من خزائن العلوم، ودفينة من السرّ المكتوم، فهزّت عطفي
رؤيتها، وتحلّتْ لي كجمرةٍ قوتها، وأصبى قلبي نُضارها ونضرتها، واغتالت العدا كريهتُها، وسرّتْ مُهجتي صُرتها، فحمدلتُ وشكرتُ رب العالمين.ورأيت بها ما يملأ العين قُرّةً، ويعطي من المعارف دولة، ويسرّ قلوب المسلمين.وعُلّمتُ من سر اللغات ومثواها، وزُوّدت من فص الكلمات ونجواها، وكذلك أعطيتُ من أسرار عليا الله ونكات عظمى ليزيد يقيني ربي الأعلى، وليقطع دابر المعتدين.وإن كنت تحب أن تعرف الآية وصَوْلَها، فاقرَأَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ، وإن فيها مدح القرآن وعربي مبين.فتدبرها كالعاقلين، ولا تمر بها مرور الغافلين.واعلم أن هذه الآية تُعظَّم القرآن والعربية ومكة، وفيها نورٌ مزَّق الأعداء وبَكَّت فاقرأها بتمامها، وانظر إلى نظامها، وفتش كالمستبصرين.وإني تدبّرتها فوجدتُ فيها أسرارا، ثم أمعنتُ فرأيت أنوارا ، ثم عمقت فشاهدتُ مُنزّلاً قهّارا ربَّ العالمين.وكُشِفَ علي أن الآية الموصوفة والإشاراتِ الملفوفة، تهدي إلى فضائل العربية وتشير إلى أنها أُمُّ الألسنة، وأن القرآن أُمُّ الكتب السابقة، وأن مكة أُمُّ الأرضين.فاقتادني بُروقُ هذه الآية إلى أنواع التنطس والدراية، وفهمتُ سِرَّ نزول القرآن في هذا اللسان، وسر ختم * الأنعام: ۹۳ النبوة على خير
البرية من وختم المرسلين.ثم ظهرت علي آيات أخرى، وأيد بعضُها بعضا تترا، حتى جَرَّني ربي إلى حق اليقين، وأدخلني في المستيقنين، وظهر علي أن القرآن هو أُمُّ الكتب الأولى، والعربية أُمُّ الألسنة الله الأعلى، وأما الباقية من اللغات فهى لها كالبنين أو البنات، ولا شك أنها كمثل ولدها أو ولائدها، وكلّ يأكل من أعشارها وموائدها، وكل يجتنون فاكهة هذه اللهجة، ويملأون البطون بتلك المائدة، ويشربون من تلك اللجة، ويتخذون لباسًا هذه الحلة، من فهي مُربِّيةٌ أعارَها الدَّسْت، واختار لنفسها الدَّسْت.وأما اختلاف الألسنة في صور التركيب فليس من العجيب، وكذلك الاختلاف في التصريف واطّراد المواد ليس من دلائل عدم الاتحاد، ولولا اختلاف بهذا القدر في التركيبات، لامتنع تغاير يوجب كثرة اللغات، فإن وجود التراكيب المختلفة هو الذي غيّر صور الألسنة، وهو السبب الأول للتفرقة.فلا يسوغ لمعترض أن يتكلم بمثل هذه الكلمات وأين منتدحة هذه الاعتراضات، فإنها مُصادرة ومن الممنوعات.وكفاك أن الألسنة كلها مشتركة في كثير من المفردات، وما أوغلتُ بل سأريك كأجلى البديهيات، فاستقم كما سمعت ولا تكن من المخطين.
٦٧ وإني لما وجدت الدلائل من الفرقان، واطمأن قلبي بكتاب الله الرحمن، أردت أن أطلب الشهادة من الآثار، فإذا فيها كثير من الأسرار، ففرحت بها فرحة النشوان بالطلاء، ووجدتُ وَجْدَ النَّمِل بالصهباء، وشكرت الله نصير الصادقين.ثم بدء لي أن أثبت هذا الأمر بالدلائل العقلية، لأتم الحجة على كل جموح شديد الخصومة، وأُبكت قوما مرتابين.فلم تزل الأشواق تميج فكري، وتُجيل في عرصاتها حِجري، حتى فُتحت على أبواب الاستدلال، ووقفتُ لإمضاض زعم أهل الضلال وقوم ضالين.ووالله ما عانى بالي في هذا السبيل، وما أخرجتُ شيئا من الزِّنْبيل، وما فارقت كأس الكرى، وما نصصت ركاب السُّرى، بل رُزقتُ كلها من حضرة الكبرياء، وقصر منه طولُ ليلتي الليلاء، وانقضت من حسن قضائه منيتي، وما أرقت في ليل مُقْلتي، وما تخبّشتُ غير أمتعتي، حتى أُزلفت لي روضتي، وأثمرت شجرتي، وذللت على قطوفها من رب العالمين.ووالله إن فوزي هذا مِن يد ربي، فأحمده وأصلّي على نبي عربي، منه نزلت البركات، ومنه اللحمة والسداة، وهو هيأ لي أصلي وفرعي، وأنبت كل بذري وزرعي، وهو خير المنبتين.وما كان لي حول أن أعفّر العِدا، وما هروتُ إذ هروتُ ولكن الله هرى، وما رأيتُ رائحة شقِّ النفس، وما اشتدّت لي حاجة إلى إنضاء العنس وما
٦٨ أَعدَيتُ هياكل الأنظار، وما جريتُ طَلْقًا مع الأفكار، وما رأيت ذات كسورٍ بل طِرْتُ كطيور، أو كراكب عَيْدَهُورٍ، ووجدتُ ما الأنفُسُ وتَلَذُّ الأعينُ، وأُرضِعتُ من غير بكاء وأنين.فتأليفي تشتهي هذا أمر من لديه، وكلُّ أمر يعود إليه، وهو أحسن المحمودين.وإذا أزمعتُ لهذه الخطّة، وفكّرتُ في تلك الآية، وكذلك في آياتٍ عُلمتُ من حضرة الأَحَدِيَّة، فأحسست أن قارعًا يقرع باب بالي، ويعلّمني من علم عالي، وينفخ روح التفهيم والتلقين، فسمّيتُ الكتاب "مِنَن "الرحمن" بما أنعم علي ربي بأنواع الفضل والإحسان وهو خير المحسنين.وما كان هذا أوّلَ آلائه، بل إني نشأت في نعمائه، وإنه والاني ،وربّاني وأتاني ،وتولاني، وكفلني وصافاني، ونحاني وعافاني، وجعلني من المحدثين المأمورين.وأما تفصيل آياتٍ تؤيّد آيةَ أُمّ القرى، وتبين أن العربية أُمُّ الألسنة وإلهام الله الأعلى، فمنها آية من الله المنان في سورة الرحمن، أعني قوله: (خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.فالمراد من البيان اللغةُ العربية، كما تشير إليه الآية الثانية أعني قوله تعالى: (عَرَبِي مُبين، فجعل لفظ "المبين" وصفًا خاصا للعربية، وأشار إلى أنه الذاتية، ولا يشترك فيه أحد من الألسنة كما لا يخفى على المتفكرين.وأشار بلفظ "البيان" إلى بلاغة هذا اللسان، وإلى أنها من هي صفاته اللسان
الكاملة، وأنها أحاطت كل ما اشتدّت إليه الحاجة، وتصوبت مطرها بقدر ما اقتضت البلدة، وفاقت كل لغة في إبراز ما في الضمائر، على وساوَى الفطرة البشرية كتساوي الدوائر.وكل ما اقتضته القوى الإنسانية وابتغته التصورات الإنسية، وكل ما طلبه حوائج فطرة الإنسان، فيحاذيها مفردات هذه اللسان مع تيسير النطق وإلقاء الأثر الجنان، فاتبع ما جاءك من اليقين.ثم سياق هذه الآية يزيدك في الدراية، فإنه يدل بالدلالة القطعية على ما قلنا من الأسرار الخفية، لتكون من الموقنين.فتفكر في آية الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، فإن الغرض فيها ذكر الفرقان والحث على التلاوة والإمعان، ولا يحصل هذا الغرض إلا بعد تعلُّم العربية والمهارة التامة في هذه اللهجة، فلأجل هذه الإشارة قدّم الله آيةَ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثم قفَّاهِ آيَةَ: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ، كأنه قال : المنّة متتانِ تنزيل القرآن وتخصيص العربية بأحسن البيان، وتعليمها لآدم لينتفع به نوع الإنسان، فإنها مخزن علوم عالية وهدايات أبدية من المنان، كما لا يخفى على المتدبرين.فالحاصل أنه ذكر أوّلاً نعمة الفرقان، ثم ذكر نعمة أخرى لها كالبنيان، وأشار إليها بلفظ البيان، ليعلم أنها هو العربي التي هي المبين.فإن القرآن ما جعَل البيان صفة أحد من الألسنة من دون هذه اللهجة، فأي قرينة أقوى وأدلُّ من هذه القرينة لو كنتم متفكرين؟ ألا
V.ترى أن القرآن سمى غير العربية أعجميا؟ فمن الغباوة أن تجعلها للعربية سَمِيًّا، فافهم إن كنت زكيًّا، ولا تكن من المعرضين.والنص صريح ولا ينكره إلا وقيح من المعاندين.ومنها ما قال ذو المجد والعزّة في آية بعد هذه الآية، أعني قول الله الحنان: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بحُسْبَانٍ، فانظر إلى ما قال الرحمن، وفكر كذي العقل والإمعان وتذكر كالمسترشدين، فإن هذه الآية تؤيد آية ،أولى، ويفسر معناها بتفسير أجلى، كما لا يخفى على المفكرين.وبيانه أن الشمس والقمر يجريان متعاقبين، ويحملان نورا واحدا في اللونين، وكذلك العربية والقرآن فإنهما تعاقبا واتحد البروق واللمعان، أما القرآن فهو كالشارق المنير، والعربية كالبدر ذلك ترى العربية أسرع في المسير، وأجرى على لسان المستنير، ومع الصالح والشرير وما كانت شمس القرآن أن تدرك هذا القمر، وكذلك قدر الله هذا الأمر، وإنهما بحسبان، ويجريان كما أُجريا ولا يبغيان، بحساب مقدر من الرحمن، فترى أن القرآن يجري برعاية أنواع الاستعداد، ويكشف على الطالب أسرار المعاد، ويُربّي الحكماء كما يُربّي السفهاء، ويعلّم العقلاء كما يعلم الجهلاء، وفيه بلاغ لكل مرتبة الفهم، وتسلية لكل أرباب الدهاء والوهم، وساوى جميع أنواع الإدراك من أهل الأرض إلى أهل الأفلاك، وإنه أحاط دوائر فهم
۷۱ الألسنة، الإنسان، مع التزام الحق وإقامة البرهان وإنه نور تام مبين.وأما اللغة العربية فحُسبانُها أنها تجري تحت مقاصد القرآن، وتتم بمفرداته جميع دوائر دين الرحمن وتخدم سائر أنواع التعليم والتلقين.وإنها من أعظم مجالي القدرةِ الربانية، وخصَّها الله بنظام فطري من جميع وأودعها محاسنَ الصنعة الإلهية، فأحاطت جميع لطائف البيان، وأبدى الجمال كأحسن أشياء صدرت من الرحمن.وهذا هو الدليل على أنها ليست من الإنسان، وفيها صبغة حِكْميّة من الله المنّان، وفيها حُسنُ وبهاء وأنواع اللمعان، وفيها عجائب صانع عظيم الشأن، تَلَمَّع وجهها بين صفوف ألسنة شتّى، كأنها كوكبٌ دُرِّي في الدجى.وإنها كروضة طيبة على نهر جار مثمرة بأنواع ثمار، وأما الألسن الأخرى فقد غيّر وجهَها قَتَرُ تصرُّف النوكي، وما بقيت على صورتها الأولى، فهي كأشجار اجتنت من مَغارسها، وبُعدت مِن نواظر حارسها، ونُبذت في موماةٍ وقفر وفلاة، فاصفرت أوراقها، ويبست ساقها، وسقطت أثمارها، وذهبت نضرتها واخضرارها، وترى وجهها كالمجذومين.فواها للعربية..ما أحسن وجهها في الحلل المنيرة الكاملة! أشرقت الأرضُ بأنوارها التامة، وتحقَّقَ بها كمالُ الهوية البشرية.توجد فيها عجائب الصانع الحكيم القدير كما توجد في كل شيء صدر من
۷۲ البديع الكبير.وأكمل الله جميع أعضائها، وما غادر شيئا مِن حُسنها وبمائها.فلا جَرَمَ تحدُها كاملةً في البيان، محيطةً على أغراض نوع الإنسان، فما من عمل يبدو إلى انقراض الزمان، ولا من صفة من صفات الله الديان، وما من عقيدة من عقائد البرية، إلا ولها لفظ مفرد في العربية، فاختبر إن كنت من المرتابين.وإن كنت تقوم للخبرة كطالب الحق والحقيقة، فوالله ما تجد أمرًا من أمور صحيفة الفطرة، ولا سرًّا من مكتوبات قانون القدرة، إلا وتجد بحذائه لفظًا مفردًا في هذه اللهجة، فدقق النظر، هل تجد قولي كالمتصلفين.كلا..بل إن العربية أحاطت جميع أغراضنا كالدائرة، وتجدها وصحيفة الفطرة كالمرايا المتقابلة، وما تجد من أخلاق وأفعال، وعقائد وأعمال، ودعوات و عبادات وجذبات و شهوات، إلا وتجد فيها بحذائها مفردات، ولا تجد هذا الكمال في غير العربية، فاختبر إن كنت لا تؤمن بهذه الحقيقة، ولا تستعجل كالمعاندين.واعلم أن للعربية وصحيفة القدرة تعلقات طبعيةً، وانعكاسات أبدية، كأنهما مرايا متقابلة من الرحمن، أو توءمان متماثلان، أو عينان من منبع تخرجان وتصدغان، فانظر ولا تكن كالعمين.فهذه نصوص قاطعة، وحجج يقينية على أن العربية هي اللسان، والفرقان هو النورُ التامُّ الفرقانِ، ففَكِّر ولا تكن من الغافلين.ومن
۷۳ فكر في القرآن وتدبّرَ كلماتِ الفرقان ففهم أن هذا قد ثبت من البرهان، وما كتبناه كالظانين، بل أُوتينا علمًا كنور مبين.ثم اعلم يا طالب الرشد والسداد، أن التوحيد لا يتم إلا بهذا الاعتقاد، ولا بد من أن نؤمن بكمال الوثوق والاعتماد، بأن كل خير صدر من رب العباد، وهو مبدأ كل فيض للعالمين.ومن المعلوم عند ذوي العرفان، أن طاقة النطق والبيان من أعظم كمالات نوع الإنسان، بل هي كالأرواح للأبدان، فكيف يتصور أنها ما أُعطيت من يد المنان؟ كلا..بل هي تتمة الخلقة البشرية، وحقيقة الأرواح الإنسية، وإنها من أعظم نعم حضرة الأحديّة، ولا يتم التوحيد إلا بعد هذه العقيدة.أيرضى موحّدٌ بأمر فيه نقص حضرة العزّة، أو فيه شرك كعقائد المشركين؟ وإن الذين يعرفون الله حق العرفان، يعلمون أنه في كل خير مبدأ الفيضان، وأنه مُوجد الموجودين، ولا يتكلمون كالدهريين والطبيعيين، أولئك الذين أوتوا حظا من المعرفة، وسُقوا من كأس توحيد الحضرة، وجُعلوا من الفائزين.وإن ربنا كامل من الجهات، ولا يُعزى إليه نقص في الذات والصفات، وإنه حميد لا يفرط إليه ذمّ، وقُدّوس لا يلحقه وصم، وهذا هو محجّة الاهتداء، ومشرب الأولياء والأصفياء، وصراط الذين أنعم الله عليهم، وسبيل جميع الذين نوّر عينيهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
٧٤ فو الله الذي هو ذو الجلال والإكرام إن البشر ما وجد كمالاً إلا من فيضه التام، وهو خير المنعمين.أم يقولون إن نعمة النطق ما الله جاءت من الرحمن، وما كان معطيها خالق الإنسان؟ فهذا ظلم وزور وغلو في العدوان كالشياطين.وتلك قوم ما قدروا حق قدره، وما نظروا إلى شمسه وبدره، وما فكروا أنه هو رافع كل الدّجى، وأنه خالق الأرض والسماوات العلى خلق الإنسان ثم أنطقه ثم هدى، وما من نعمة إلا أعطى، فهذا هو ربنا الأعلى، وخالقنا الأغنى.وَسِعَتْ نعمه ظاهرنا وباطننا، وأحاطت آلاؤه أبداننا وأنفسنا.هو الذي خلق الإنسان، وأتم الخلق وزان، وأكمل الإحسان، فكيف يُظَنّ أنه ما علّم البيان؟ أتظن أنه قدر على خلق البشر وما قدر على الإنطاق وإزالة الحصر، أو كان من الغافلين؟ أفأنت تعجب ههنا من قدرة رب العالمين؟ وترى أنه قوي متين، وأنه خالق الجوهر والعرض، ومُنوِّرُ السماوات والأرض، ومجيب دعوة الداعين.فهل لك أن تتوب إليه وتميل، وتتحامى القال والقيل؟ والله يحب الصالحين.فلما ثبت أن ربنا هو نورُ كل شيء من الأشياء، ومنير ما في الأرض والسماء، ثبت أنه المفيض من جميع الأنحاء وخالق الرقيع والغبراء، وهو أحسن الخالقين، وأنه أعطى العينين وخلق اللسان
Vo والشفتين، وهدى الرضيع إلى النجدين، وما غادر من كمال مطلوب، إلا أعطاها بأحسن أسلوب، فمن الغباوة أن تظن أن النطق الذي هو نور حقيقة الإنسان، ومناط العبادة والذكر والإيمان، ما أُعطى مع الخِلْقة من الرحمن، بل وجده البشر بشق النفس وجهدِ الجنان، بعد تطاول أمدٍ وامتداد الزمان وهل هذا إلا افتراء الكاذبين؟ ومن آمن بالذي له كمال تام في الذات والصفات، وفيوض متنوعة لأهل الأرض والسماوات، وعرف أنه مبدأ الفيوض من جميع الجهات، يؤمن بالضرورة بأنه أعطى كل شيء خَلْقَه وما غادر شيئا الكمالات، وهو مُفيضُ كل فيض احتاجت إليه طبائع المخلوقات بحسب الاستعدادات، وما نعب غُراب إلا بتعليمه، وما زار أسد إلا بتفهيمه، هو منبع كل خير وفيضان، ومعلم كلّ نطق وبيان، وكذلك كان شأن رب العالمين.أتزعم أنه ربّى الإنسان كرجل عاجز من إكمال التربية؟ لا..بل ربّاه بأيدي القدرة التامة، حتى وهب له لقب الخليفة، وكمّله بكمال الفضل والرحمة، وأعطى له ما لم يُعْطَ أحدٌ من المخلوقين.وإنه هو الله الذي يُربّي الأشجار بتربية كاملة حتى يجعلها دوحًا ذات عظمة، ويزينها بزهر وأنواع ثمرة، من وأظلال باردة ممدودة تسر الناظرين فما زعمك أنه خلق الإنسان
٧٦ خلقا غير تام، وما بلغه إلى مقام فيه كمال نظام، وتركه ناقصا كاللاغبين؟ ثم العلوم التي توجد في مفردات اللسان العربية، تشهد بالشهادة الجلية، أنها ليست فِعْل أحدٍ من البريّة، وأنها من خالق السماء والأرضين.ولا يختلج في قلبك أن الإنسان لا يتولّد ناطقا متكلّما، بل يجد هذا الكمال متعلّمًا، كما نشاهد بالحق واليقين، فإن هذا الإيراد عليك لا لك، فأصلح حالك، ولا يغفل بالك كالنائمين.فإنك إذا قبلت أن النطق لا يحصل إلا بالتعليم، فلزمك أن تقبل أن البشر الأوّل ما فهم إلا بالتفهيم، فأقررت بما أنكرت إن كنت من المتفكرين.وقد جرب الناسُ وتَظاهَرَ الخبرة والقياس، أن الأطفال المتولدين لو يُتركون غير متعلمين، ولا يعلمهم لسانهم أحدٌ المعلمين، فلا يقدرون على نطق، ولا يجيبون المنطقين، بل يبقون كبكم صامتين.فأي دليل أوضح من هذا لمن طلب الحق وهو أمين، وما اتبع سبل الضالين؟ فجاهد حق الجهاد، وفكّر كأهل الرشاد، ولا تستعجل كالمعرضين.ومن أجلى البديهيات أن آدم خُلق من يد ربّ الكائنات، وما كان أحدٌ معه من المعلمين والمعلمات، فثبت أن معلمه كان خالق المخلوقات، أفلا تؤمن بقدرة قوي متين؟ أفلا من تعلم أن
VV وجود البرية ظل لصفة الربوبية، وبها كان ظهورهم في هذه النشأة، وكان النطقُ مِن تتمّة خلق الإنسان، فكيف يجوز الخداج للذي ظهر من يدي الرحمن؟ أتزعم أن الله الذي نفخ روحه فيه، ما كان قادرًا أن ينطق فيه؟ ما لك لا تفكر كالمسترشدين؟ أتظن أن الله غادر ربوبيته ناقصةً، أو وثئت يده بعدما أرى قدرة، أو كفاه رجل من الحاجزين؟ وإن كنتَ تُقرّ بالتعليم، ولكن لا تُقرّ بتعليم الرب الكريم، بل تسلك مسلك فلاسفة هذا الزمان، وتذهب إلى قدم نوع الإنسان، فاعلم أن هذا باطل بالبداهة والعيان، وإن هو إلا الدعوى كدعاوى الصبيان، أو هَذي كهذيان النشوان، ما أتوا عليه بالبرهان، وما كانوا مثبتين.وكيف وإنّ تفرُّدَ حضرة الأحدية في كمال الذات والهوية، يقتضي إراءةَ نقصان البريّة، ليعلموا أن البقاء الذي هو نوع من الكمال، لا يوجد إلا في حي ذي العزة والجلال، وليعلموا أنه صمد غني كفاه وجوده، ولا حاجة أن يكون أحد وليه وودوده، وليس عليه إبقاء أحدٍ على وجه الوجوب، وليس أمر لذاته الغني كالمطلوب، وليس له حاجة إلى المخلوقين، بل قد تقتضي ذاته تجليات الربوبية، ليُعرف أنها صفاته الذاتية، فيخلق ما يشاء بالأمر من والإرادة، وقد يقتضى تجلّياتِ الأحديّة ليُعرف أن غيره هالكة الذات باطلة الحقيقة، وليس له إليه مثقال ذرة من الحاجة، فيُهلك كل من
۷۸ على الأرض من نوع الخلقة، ولا يُغادر فردًا من أفراد البرية إلا ويمحو أثره بالإهلاك والإماتة، وكذلك يُدير صفاته إلى أبد الآبدين، وكل صفة يقتضي ظهوره بعد حين، فيخلق قرونًا بعدما أهلك قرونا أولى، ليُعرَف بصفاتٍ عليها مدار نجاة الورى، ولا يحتاج إلى قِدَمِ نوع كما هو زعمُ النَّوكى، وهو غني عن العالمين.ولا تنفك صفاتُ الرحمن من ذات الرحمن، وترى دَورَ صفاتِ الله القهار كدور الليل والنهار، ولا تتعطل صفاته كما هو زعم الغافلين، بل يقتضي ذاته صفاته وقت الإفناء كما يقتضي وقت الإنشاء، ليتحقق كل صفة من الغراء، وليعرف الناس تفرد ذاته، ولا يعتقدوا بنقص كمالاته كالمشركين، وليبرق توحيده ويتجلّى تمجيده، ويُعرف دين الله بالدائرة الأبدية والسنن القديمة المستمرة، ويُبطِلَ كفّارةَ الكَفَرة الفجرة، ويمحو طريق الشرك والبدعة وليستبين سبيل المجرمين.فهذا أمر اقتضته ذاته، لتُعرَف به صفاته، ولينقطع دابر المفترين.فقد يأتي وقت على هذه النشأة لا يبقى وجود إلا وجود الحضرة، ويحفش السيلُ على كلِّ تَلْعةِ الخِلقة، وتدرس أطلال الكينونة، ولا ينفع خبط أحدا من الخابطين، ثم يأتي وقت تبدو سلسلة المخلوقات.فهذان و أثرانِ متعاقبان من رب الكائنات، لئلا يلزم تعطل الصفات.فإذا ثبت هذا الدور في صفات الرحمن، وثبت الإفناء والإنشاء من سنن المنان
۷۹ من قديم الزمان، فقد بطل منه رأي قِدَمِ نوع الإنسان، وكيف القدمُ مع أزمنة العدم والفقدان وأوانِ الفناء والبطلان.فانظر كالمجدين ولا تتكلم كالمستعجلين.واعلم أن القدم الحقيقي لا يوجد إلا في ذي الجلال والإكرام، ويدور رحى الفناء على الأرواح والأجسام، وأحديثه تقتضي فناء الله، الغير في بعض الأيام، إلا الذين دخلوا في دار الله، وغُسلوا ببحار وحقت بهم أنوار الله، وأُزيل أثر الغير بآثار الله، وماتوا وهم كانوا فانين في حب رب العالمين، فأولئك الذين لا يذوقون الموت بعد موتتهم الأولى، رحمةً من من ربهم الأعلى، فلا يرون أما ولا بلوى، ويبقون في جنة الله ،خالدين، ويُعطيهم الله حياة من حياته، وكمالاتِ كمالاته، ولا تُفنيهم غَيرتُه بما أحاطت عليهم أحديثه، فطوبى من للذين ضلوا في حُبِّ مولى قوي متين.ثم نعود إلى كلمتنا الأولى، ونقول إن الله الأقنى جعل كل شيء من الماء حيًّا، والماء نزل من السماء بأنواع البركات والعطاء، فالنتيجة أن كل فيض جاء من حضرة الكبرياء، وهو مبدأ كل خير لجميع الأشياء، وهذا رد آخر على المنكرين، الذين يقولون إن الله خلق الإنسان كأبكم وما فهم وما علم، وخلقه كالناقصين.
۸۰ الله هذا ما كتبنا للملحدين والطبيعيين الذين لا يؤمنون بدين ويقولون ما يقولون ،مجترئين، وأما الذين يؤمنون بما جاء به رسول الله خاتم النبيين، فيكفي لهم ما أثبتنا من كتاب مبين.أيأمرهم توحيدهم بين أن ينسبوا فعل الله إلى غير الربِّ القدير، أو يقسموا خلق الله الرب والعبد الحقير، أو يحسبوا خَلْقَه الأشرف ناقصا محتاجا إلى الناقصين؟ كلا..بل هي كلمة لا تخرج من أفواه المؤمنين الموحدين.وللنطق شأن خاص كشأن الحياة، وقد خصه الله بالبشر من جميع الحيوانات، فكما أن البشر ما وجد الحياة إلا من الرحمن، فكذلك ما وجد النطق إلا من ذلك المنّان، وهذا هو الحق أفأنت من المرتابين؟ وإن كنت تظن أن أُمّك علمك اللسان، فمن علّم أُمَّك الأُولى وعلمها البيان؟ فلا تكونن من الجاهلين.أُمُّ وإن الله أومى في مقامات من الفرقان، إلى أن العربية هي الألسنة ووحي الرحمن، ولأجل ذلك سمى مكةَ مكةَ وأُمَّ القرى، فإن هي الناس أرضعوا منها لِبانَ اللسان والهدى، فهذه إشارة إلى أنها منبع النطق والنُّهى، ففكّر في قول ربِّ الورى: ﴿قُرْآنَا عَرَبِيًّا لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى ، وفي ذلك آية للذي يتق الله ويخشى، ويطلب الحق ولا يأبى، ولا يتبع سبل المعرضين.الشورى : ٨
۸۱ ثم أنت تعلم أن رسولنا خاتَمَ النبيين كان نذيرا للعالمين، وكذلك ستماه ربه وهو أصدق الصادقين، فثبت أن مكة أُمُّ الدنيا كلها، ومولد كُثرها ها وقلها، ومبدأ أصل اللغات ومركز الكائنات أجمعين.وثبت معه أن العربية أُمُّ ،الألسنة، بما كانت مكة أُمَّ الأمكنة من بدء الفطرة، وثبت أن القرآن أُمُّ الصحف المطهّرة، ولذلك نزل في اللغة الكاملة المحيطة، واقتضت حِكَمُ إرادات الإلهية، أن ينزل كتابه الكامل الخاتم في اللهجة التي هي أصل الألسنة وأم كل لغة من لغات البريّة، وهي عربي مبين.وقد سمعت أن الله جعل لفظ البيان صفةً للعربية في القرآن، ووصف العربية بعربي مبين فهذه إشارة إلى فصاحة هذا اللسان وعلو مقامها عند الرحمن، وأمّا الألسنة الأخرى، فما وصفها بهذا الشأن، بل ما عزاها إلى نفسه لتعليم الإنسان، وسمى غير العربية أعجميًّا، ففكّر إن كنتَ زكيًّا، وطوبى للمتفكرين.وما نطق التوراة بهذا الدعوى ولا وَيدُ الهنود ولا كتب أخرى، وما أشار أحد وما أومى، فلا تَعْزُ إلى أحد منها ما لا عزاء أو أخرج لنا هذا الدعوى، إن كنت تزعم أن أحدًا ادّعى، ولن تستطيع أن تخرجها، فلا تتبع سبيل المفترين.ثم اعلم أن العرب مشتق من الإعراب، وهو الإفصاح في التكلم والسؤال والجواب، يُقال: أعربَ الرجلُ، إذا كانت في كلامه الإبانة
۸۲ والإيضاح والرزانة، وما كان كرجل لا يكاد يُبين.وأما الأعجم فهو الذي لا يُفصح كلامه، ولا يحفظ نظامه، ولا يُري حلاوة اللسان، ولا يرتب أعضاء البيان، بل يأكل أكثرها ويُري بعضها كعِضِينَ.فهذان لفظان متقابلان، ومفهومان متضادّان ، وما اخترعهما أحد من الشيوخ والشبّان، بل هما من خالق الإنسان لقوم متدبّرين.وقد جاء لفظ "العرب" في كتب أُولى..صُحُفِ يسعياه وموسى، وفي الإنجيل تقرأ ،وترى فثبت أنه من الله الأعلى، وليس كهذا الاسم اسم لسانٍ من الألسنة الأعجمية، ولن تجد نظيره في العبرانية وغيرها من اللهجة، ففكّر هل تعلم لها سَمِيًّا في تلك الألسنة؟ فثبت أن العربية هي اللسان، ولا يوجد في غيرها هذا الشأن، ففكر إن كنت من المشككين.ومن أجلى العلامات أن اللسان الذي كان من رب الكائنات، وكان من أحسن اللغات وأبهى في الصفات هو اللسان الذي مدحه سنة الله وسماه باسمِ حَسَنٍ، كما هي رب ذي مِنن.فأَنبِئُوا بذلك اللسان، إن كنتم في شك من هذا البيان، ولن تجدوا كالعربية اسما في الحسن واللمعان، ففي ذلك آيات للمتوسمين.وأما العَجَم فهم عند الله كبُكْم لا لسان لهم، أو كبهائم لا بيان لفظ فإنّ تَكلُّمهم ما حصل لهم إلا بالعربية، وليس لهم، عندهم إلا
۸۳ من هذه اللهجة، ولا يقدرون من دون العربية على المكالمات، فيتحقق حينئذ أنهم كالعجماوات فقابل بوجه طليق أو خاصم بلسان ذليق، إنك من المغلوبين.فأوصيك أن تفكر في هذا الدعوى، وتُذكِّرَ قومًا نَوكى إن كنتَ من العاقلين، واشكر الله على ما جاءك من البراهين.ولا تنس أن لفظ العجم قد اشتق من العجماء وهو البهيمة في هذه اللغة الغراء، فتدبَّر وجه التسمية، لينكشف عليك لُب الحقيقة، ولتكون من الموقنين.وكم من آية تدل عليها لو كنتم طالبين.ومنها أن الله سمّى الإنسان سميعا في الفرقان، فيُفهَمُ منه أنه أسمعه في أول الزمان، وما تركه كالمخذولين.ومنها أنه أوضح في "البقرة" هذا الإيماء، وقال: عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ، فهذا التعليم يدل على أشياء منها أنه كان معلّم الكلمات بتوسط المسميات، ونعني بالمسميات كل ما يمكن بيانه بالإشارات، فعلاً كان أو من أسماء المخلوقات.ومنها أنه كان مُعلِّمَ الأشياء، وخواصها المكتومة المخزونة في حيز الاختفاء، بلغة حقائق عربي مبين.التي وإن قلت إن النحويين خصصوا لفظ الاسم بالأسماء المخصوصة لها معاني ولا تقترن بأحد من الأزمنة الثلاثة، فجوابه أن ذلك
ΛΕ اصطلاح لهذه الفرقة، ولا اعتبار به به عند نظر الحقيقة، فانظر كالمبصرين.جميع وإن قيل إن المشهور بين العامة من أهل الملة، أن الله علم آدم اللغات المختلفة، فكان ينطق بكل لغة من العربية والفارسية وغيرها من الألسنة، فجوابه أن هذا خطأ نَشَأ من الغفلة، لا يلتفت إليه أحد من أهل الخبرة، بما خالف أمرًا ثبت بالبداهة، وما هو إلا زعم الغافلين.بل العربية هي اللسان من مستأنف الأيام ومستطرفها، وليس غيرها إلا كمَرْجانٍ مِن دُرَرِ صَدَفِها.وأنت تعلم أن القرآن والتوراة قد أثبتا ما قلنا وأكملا الإثبات.ألا تعلم ما جاء في الإصحاح الحادي العشر من "التكوين"، فإنه شهد أن اللسان كانت واحدة في الأرضين ثم اختلفوا ببابل مُعرقين.وأما القرآن فقد سبق فيه البيان، ففكّر كالمحققين.ثم ههنا طريق آخر لطلاب الحق والمعرفة، وهو أنا إذا نظرنا في سنن الله ذي الجلال والحكمة فوجدنا نظام حَلْقِه على طريق الوحدة، وذلك أمر اختاره الله لهداية البرية، ليكون على أحديةِ أَحَدٍ الأدلة، وليدل على أنه الخالق الواحد لا شريك له في السماء والأرضين.فالذي خلق الإنسان من نفس واحدة، كيف تُعزى إليه كثرة غير مرتبة ولغات متفرقة غير منتظمة؟ ألا تعلم أنه راعى من
٨٥ الوحدة في كل كثرة، وأشار إليه في صحف مطهرة وكتاب إمام العارفين؟ وأبان في صحفه الغراء، أنه خلق كل شيء من الماء، فانظر إلى سنة حضرة الكبرياء، كيف ردَّ الكثرة إلى وحدة الأشياء، وجعل الماء أُمَّ الأرض والسماء ، ففَكِّر كالعقلاء، فإنه عنوان الاهتداء، ولا تستعجل كالجاهلين.وإن هذه الآية دليل واضح على سُنّة خالقِ الرقيع والغبراء، وفيها تبصرة لأهل الأنظار والآراء.والله وتر يحبّ الوتر يا معشر الطلباء هو الذي نوّر من نور واحد نجوم السماء، وخلق نفوسًا متشابهة على الغبراء، وجعل الإنسان عالما جامع جميع حقائق الأشياء.فلو لم يكن نظام الخلق مبنيا على الوحدة، لما وجَدْتَ في خلق الله وجود هذه المشابهة، ولكان خلق الله كالمتفرقين.بل لو لم يكن النظام الوحداني لبطلت الحكم وضاع السر الروحاني، وسُدَّ الصراط الرباني، وعشر أمر السالكين.فما لك لا تفهم وحدةً دالة على الوحيد، وهي في الإسلام مدار التوحيد، وأصل كبير للتعظيم والتمجيد وسراج منير لمعرفة الوحدانية الإلهية والأحدية العليا - الربانية، وإنها من علوم اختصت بالمسلمين.ثم اعلم أن الآثار النبوية والنصوص الحديثية، قد بلغت في هذا إلى كمال الكثرة، حتى أعطت ثَلْجَ القلب ونُورَ السكينة، كما لا يخفى المحدثين.وأخرج ابن عساكر في التاريخ وهو المقبول الثقة قال على
٨٦ قال ابن عباس: إن آدم كانت لغته في الجنة العربية.وكذلك أخرج عبد الملك حديثًا من خير الورى، ورجال آخرون أولو العلم والنهي، وحدثوا برواية أخرى، فقالوا إن العربية هي اللسان الأولى الله من المولى، نزلت مع آدم من الجنة العليا، ثم بعد طول العهد حرّفت وحدثت لغات شتى.وأوّلُ ما ظهر بعد التحريف، كان سريانيا بإذن الله اللطيف، وصرف الله إليه لهجة المبدلين، ولأجل ذلك سُمّي العربي الأول عند المتقدمين، وكان عربيا بأدنى تصريف المتصرفين.ثم حدثت ألسنة أخرى، كما حدثت الملل والنحل في الدنيا، وهذا هو الحق فتدبر كالعاقلين.ثم من سبل العرفان أنك تجد في القرآن ذكرًا واحدًا في اختلاف اللسان والألوان فالله يشير إلى أن اللسان كانت واحدة في زمان كما كان اللون لونا واحدًا قبل ألوان ثم اختلفا بعد زمان وحين.ثم من لطائف الإيماء أن خاتم الأنبياء، جعل نفسه شريك آدم في تعلم الأسماء، كما أخرج الديلمي في حديث الطين والماء، ففكر فيما قال خاتم النبيين : مثلت لي أُمّتي في الماء والطين، وعُلّمتُ الأسماء كما عُلّم آدمُ الأسماء، فانظر إلى ما أشار فخرُ المرسلين.وأنت تعلم أنه كان أُمِّيًا لا يعلم غير العربية، نعم..أُوتي جوامع الكلم في هذه اللهجة، فظهر أن المراد من الأسماء في قصة آدم وحديث خير الأنبياء
۸۷ هي العربية المباركة، كما تدل عليه النصوص القطعية من كتاب مبين.ألا تنظر إلى اشتراك الألسنة؟ فإنه يوجد في كثير من الألفاظ المتفرّقة، ولا يمكن هذا إلا بعد كونها شُعَبَ أصل واحد في الحقيقة، الألسنة من مع عدم الاتحاد في وإنكارها كإنكار العلوم الحسّية والأمور الثابتة المرئية.فإن كان تغاير أول الفطرة، فكيف وجد الاشتراك الأصل والجرثومة؟ فلا بد من أن نقرّ بلسان، هي أُمُّ كلّها لكمال بيان، وإنكاره جهل وسفاهة، واللَّدَدُ تحكم ومكابرة، وقد تبين الحق لو كنتم طالبين.وفي العربية كمالات وخواص وآيات تجعلها أُمَّ غيرها عند المحققين.وإنها وقعت لها كالظل، أو كالعصفور عند البازي المطلّ، فاسمع بعض آياتها وكن من المنصفين.فمنها أن التحقيق العميق، والنظر الدقيق، يُلجئنا بعد المشاهدات ورؤية البينات، إلى أن نقرّ بأن لغة العرب أوسعُ اللغات، وأرفعها في الدرجات، وأعظمها في البركات وأبرقُها بالمعارف والنكات، وأتمها في نظام المفردات، وأبلغها في ترصيف المركبات، وأدلها على اللطائف والإشارات، وأكملها في جميع الصفات، من الله رب العالمين.وتوجد علوم كثيرة في لفّ أسمائها، وتلمع لطائف في تراكيبها وطرق أدائها، وسنذكرها في مقاماتها لكشف غطائها،
۸۸ وتبين علوم مفرداتها، وفنون مركباتها، لقوم مسترشدين.والآن تثبت هي كمال نظام المفردات، فإنها أوّلُ علامةِ لُغةٍ هـ أم اللغات ووحي من كاملة من حكيم قوي متين.فإنا نرى أن فطرة الإنسان قد اقتضت من أوّل الأوان أن يُعطى لها مفردات فيها كمال البيان، كما هي أحسن الخالقين.ونرى أن الفطرة الإنسانية والجبلة البشرية، قد كملت بقوى مختلفة، وتصوّرات متنوعة، وإرادات متفنّنة، وحالات متفرقة، وخيالات متغايرة وأخلاق متلوّنة، وجذبات متضادّة، ومحاورات موضوعة للآباء وللبنين والأعداء والمحبين والأكابر والصاغرين، ثم انضمت بها أفعال تصدر من جوارح الإنسان، كالأيدي والأرجل والأعين ،والآذان وكذلك كل ما يُطلب بوسيلة هذه الأعضاء من علوم الأرض والسماء وما يتعلق بها كالخادمين.فلما خلق الله الإنسان بهذه القوى والاستعدادات، والأفعال والصناعات، والمقاصد والنيات، اقتضت رحمته أن يكمل فطرته بعطاء نُطق يساوي الحاجاتِ، ويُمدّه في جميع الضرورات والمهمات، ولا يتركه كالناقصين.وكان تمشية هذه الإرادات موقوفا على لغة كامل النظام في المفردات ليساوي ضمائر الإنسان وجميع الخيالات، ويعطي حُلَلَ الألفاظ للطالبين.فهذه هي العربية، وخصت أعطى الله له نظاما كاملا في المفردات، هي بما هذه الفضيلة.هي التي
۸۹ وجعل دائرتها مساوية بالضرورات، ولأجل ذلك أحاطت دقائق الأفعال، وأرت تصوير الضمائر بالتمام والكمال كالمصوّرين.وإن أردنا أن نكتب فيه قصة، أو تُملي حكاية أو واقعة، أو نؤلّف كتابا في الإلهيات، فلا نحتاج إلى المركبات ولا نضطر أن نورد التركيبات مورد المفردات كالهائمين المتخبطين، بل يمدنا نظامه الكامل في كل ميدان ومضمار، ونجد مفرداتها كحللٍ كاملة لأنواع معاني وأسرار، ولا نجدها في مقام كأَبْكَمَ غيرَ مُبين، وذلك لكمال نظامها، وعُلو مقامها، وغزارة موادّها، وكثرة أفرادها، وتناسبها ورشادها، واطّراد اشتقاقها، واتحادِ انتساقها ولكونها متساوية بآمال الآملين.وإن صحيفة القدرة، وموادَّ هذه اللهجة، قد صدَعْنا كثوري فلاحة، وتقابلتا كجداري باحة، فانظر كالمبصرين.ومن العجائب أنها كانت لسان الأميين، وما كانوا أن يصقلوها كالعلماء المتبحرين، ولم يكن لهم فلسفة اليونانيين، ولا فنون الهنود والصينيين، ومع وإراءة صور آراء أهل الآراء، كأنها تُصوِّرها كما يُصوَّر في البطن الجنين.ومن فضائلها أنها ما مدّت قط يد المسألة إلى الأغيار، وما الحكماء والأحبار، وليست عليها منه أحدٍ من دون من ذلك نجدها أفصح الألسنة لتعبير خواطر الحكماء، زينها أحد القادر الجبار.هو الذي أكملها بيد الاقتدار، وصائها من كل مكروه
۹۰ في الأنظار، وعصمها من موجبات الملال والاستحسار، فهي ربيبة حاملة Я خدر الأزل كالبنات، وكقاصرات الطرف والقانتات، وهي بأجنّة الحكم والنكات لا تسمع صوتها في مجمع الهاذين، والحكمة تبرق مِن أسرّةِ وجهها بنور يَزينُ.والله أحسن خلقها كخلق الإنسان، وأعطاها كل ما هو من كمال اللسان، وأعطاها حُسنًا يُصبي قلوب المبصرين.فلأجل هذه الكمالات ووجازة الكلمات، تعصمنا عن إضاعة الأوقات، وتُسعِدنا إلى أبلغ البيانات، وتحفظنا عن فضوح الحصر، وتعضُدنا في قيدِ ظباء المعاني والشَّصْر، فلا نَقِفُ موقف مندمة في ميدان ولا نُرهَق بَمَعْتبةٍ عند بيان، وتكشف علينا كلام رب العالمين.وإن القرآن والعربية كضَرتَي الرَّحى، والأمر من غيرهما لا يتأتى، ومثلُهما كمثل العروسين، فالعربية كزوجة كملت في الحسن والزين.ومن خواص العربية وعجائبها المختصة أنها لسان زينت بلطائف الصنع، ووُضِعَ فيها بإزاء معاني متعددة بالطبع لفظ مفرد في الوضع، ليخفّ النطقُ به حتى الوسع، ولا يحدث ملالةُ الطبع، وهذا أمر ذو شان مُمِةٌ عند بيان لا يوجد نظيره في لسان من ألسن الأعجمين فلذلك تجد تلك الألسن غير بريئة مِن مَعرَّةِ اللكن، وخالية من فضيلة اللَّسَنِ، ومع ذلك لا تعصم عن الفضول في الكلام، ولا تكفي
۹۱ مفرداتها في استيفاء أنواع المرام ولا توجد فيها ذخيرة المفردات، سيما مفردات مشتملة على المعارف والإلهيات ودقائق الدينيات، بل لا تستطيع أن تؤلّف بمفرداتها قصة أو تكتب حكاية مبسوطة من أمور الدنيا أو الدين، فإنّها ممسوخة مبدلة، وناقصة مغيرة، فلا طاقة فيها ولا قوة، ولا نظام ولا عظمة ولا كمال كعربي مبين، ولأجل ذلك لا يفوز أهلها غلبة عند مقابلة، ويفر كزمل عند مناضلة، ويُرهَق بمعتبة ومذلّة، ويرى يوم تبعةٍ كالمخذولين.وإنها قد بلغت مَخارمَ الجبال في علوّ الشأن وأنواع الكمال، وخرجت كفاتك ماضي العزيمة، وتُنادي رجل الكريهة، فهل من مبارز في المخالفين؟ وهل في ندوة حَيّهم أحد من الباسلين؟ وما هذا من الدعاوى التي لا دليل ،عليها بل ترى عساكر البراهين لديها، كالطوافين، وترى أنها قائمة كجحيش شَيْحان، وتحول بمفصل وسنان، فمن أرتُه شُعاعًا طارت نفسه شَعاعًا، وسقط كميتين.وما كان للأعداء أن يأتوا ببرهان على دعواهم أو يخرجوا من مثواهم، إلا كالمدفونين.وما ترى وجه ألسنهم بشرِ يَشفُ، ونضرةٍ وإن هم تَرِفُ، بل تراها كموماةٍ ليس فيها من غير رمل وحَصاة، ولا تجد فيها عين ماء معين.
۹۲ والذين مارسوا اللغات وفتشوها واطلعوا على عجائب العربية ونظروها، ورأوا لطائف مفرداتها ووزنوها، وشاهدوا مُلح مركباتها وذاقوها، فأولئك يعلمون بعلم اليقين، ويُقرون بالعزم المتين، بأن العربية متفردة في صفاتها، وكاملة في مفرداتها، ومعجبة بحسن كباتها، ومصبية بجمال فقراتها، ولا يبلغها لسان من ألسن الأرضين ويعلمون أنها فائزة كل الفوز في نظام المفردات، وما نَوْلُ لسان أن يساويها في هذه الكمالات وإنها كلمةٌ جُرّبت مرارا، وسكتت أعداء وأشرارًا، وذادتْ كلَّ من صال إنكارا، فإن كنت تنكر باصرار فأتِ كمثلها من أغيار ولن تقدر ولو تموت كجراد الفلا، أو تنتحر كالنوكي، فلا تكن من الجاهلين.والأسف كل الأسف على بعض المستعجلين من المسيحيين، والغالين المعتدين، أنهم حسبوا اللسان الهندية أعظم الألسنة، ومدحوها بالخيالات الواهية، وفرحوا بالآراء الكاذبة، وليسوا إلا كحاطب ليل، أو آخِذِ غُثاء من سيل، أو مغترف من كدر لا ماء معين.ألا ترى إلى اللسان الويدية الهندية وغيره من الألسنة الأعجمية، كيف توجد أكثر ألفاظها من قبيل البري والنحت، وشتان ما بينها وبين المفرد البَحْتِ، فخِداج مفرداتها، وقلة ذاتِ يدها وعسر حالاتها، يدلّ على أن تلك الألسنة ليست من حضرة العزة،
۹۳ ولا من زمانِ بُدُوِّ ،البرية، بل تشهد الفراسة الصحيحة، ويفتي القلب فقدان والقريحة، أنها نُحتت عند هجوم الضرورات، وصيغت عند المفردات ليتخلّص أهلُها مخالب الفقر وأنياب الحاجات، وما خطرت ببال إلا عندما مست الحاجة إليها، وما رُكبت إلا إذا حَتْ الوقت عليها، وقد أقرَّ بها زمرُ المعادين.بل يحكم الرأي المستقيم، ويشهد العقل السليم، أن أهل تلك الألسنة واللغات المتفرقة، قوم تطاول عليهم زمان الغي ،والخذلان وما أعانتهم يد الرحمن، وما وجدوا ما يجد أهل الحق ،والعرفان فحلّوا ألسنتهم بأيديهم لا بأيدي الفياض المنان، فكان غاية سعيهم أن ينحتوا بإزاء مفردات أنواع تركيبات، ففرحوا بحيلة فاسدة مصنوعة، وبعدوا من ثمار لطيفة لا مقطوعة ولا ممنوعة نافعة للأكلين، فبدت سوءتهم لأجل منقصة اللغات وانتقاص المفردات، وظهر أنهم كانوا كاذبين.وكانوا يحمدون ألسنتهم بصفات لا تستحق بها وكانوا فيها مفرطين، فهتَك الله أسرارهم وأذاقهم استكبارهم بما كانوا معتدين.وتراهم يعادون الحق والفرقان، ولا يقبلون المحمود والمشهود والعيان، ولا يتركون الحقد والعدوان، ويمشون كالعمين سيما الهنود، فإن سيرتهم الصدود، وزادهم العُنودُ، وهم المزهوون.لا يخشون ولا يتواضعون ولا يتدبرون كالخاشعين، وظنوا أن لغتهم أكمل اللغات، بل قالوا
٩٤ من هذه إنها هي وحي رب السماوات، وكذلك رضوا بالخزعبلات، وخدعوا قلوبهم بالمفتريات وما كانوا مستبصرين.وتجد لسانهم مجموعة التركيبات، خاليةً عن نظام المفردات، كأنّ ربّهم ما قدر إلا على تأليف المركبات، كما ما قدر إلا على تأليف الأبدان تأليف الأبدان من الذرّات، وكان من العاجزين وأمّا العربية فقد عصمها الله الاضطرارات، وأعطاها نظاما كاملا من المفردات، وإن في ذلك لآية للمتوسمين.ولا يخفى على لبيب ولا على منشئ أديب، أن الألسنة الأخرى قد احتاجت إلى تركيبات شتّى، وما استخدمت المفردات كعربي مبين.وأنت تعلم أن للمفردات تقدم زماني على المركبات، فإنها مناط افترار ثغر التركيب، وعليها تتوقف سلسلة التأليف والترتيب، فالذي كان مقدَّمًا في الطبع والزمان، فهو الذي صدر من الرحمن، وإليها يُنحل كلُّ مركب عند ذوي العرفان، فهل ترى كما نرى أو كنت من المحجوبين؟ ثم لا شك أن الألفاظ التي جمعت عند فقدان المفردات وأقيمت مقامها عند هجوم الضرورات، قد نطقت بلسان الحال أنها ما أُبرزت في بزّتها إلا عند قحط المفردات والإمحال.فإذا ثبت أنها تلفيقات إنسانية وتركيبات اضطرارية، فكيف تُنْسَبُ إلى البديع الكامل الذي يسلك سبيل الوَجازة والحكمة، ويحب طريق البساطة والوحدة، ولا يلجأ إلى تركيبات مستحدثة كالغافلين؟ بل
۹۵ الله هو الذي فطِن من أول الأمر إلى معان مقصودة، فوضع بإزائها كل لفظ مفرد بأوضاع محمودة، وكذلك سلك سبيل حكمة معهودة، وما كان كالذي استيقظ بعد النوم، أو تنبه بعد اللوم، بل وضع بإزاء كلِّ طَيف معنوي لفظًا مفردا ككوكب دري ببيان جلي، ألا تعرفه وهو أحسن الخالقين؟ أتظن أن الله نسي سبيل الحكمة، أو بطاً به مانع من هذه الإرادة أو ما كان قادرًا على وضع الألفاظ المفردة لإظهار المعاني ،المقصودة، فألجأه عجزه إلى الكلمات المركبة، والتركيبات المستحدثة، واضطر إلى أن يلفّق لها ألفاظا باستعانة التراكيب، ويعتمد عليها لا على الطباع العجيب، ويسلك مسلك المتكلّفين؟ وأنت ترى أن بناء عاقلاً ذا معرفة، إذا أراد أن يبني صرحًا في بلدة، أو قصرًا في جَرْدة، فيفطِن في أول أمره إلى كل ضرورة، وينظر كل ما سيحتاج إليه عند سكونة، وإن كان يبني لغيره فينبهه إن كان في غفلة، ولا يعمل عمل العمين، بل يتصوّر في قلبه قبل البناء كل ما سيضطر إليه أحد من الثناء، كالحجرات والرف والفناء، والمداخل والمخارج للسكناء، ومنافذ النور والهواء، ومجالس الرجال والنساء، وبيت الخبز وبيت الخلاء، وبيت الأضياف والواردين من الأحبّاء، ومقام السائلين والفقراء، وما يحتاج إليه في الصيف والشتاء، وكذلك لا يُغادر حاجة إلا ويبني لها ما يسدّ
ضرورة حجرةً كان أو عُلّة، سُلّمًا كان أو مصطبة، أو ما يسرّ القلب كالبساتين.فالحاصل أنه يبصر في أول نظره كلَّ ما ستؤول إليه لوازم أمره، ولا ينسى شيئا سيطلبه أحدٌ مِن زُمره، ويتم الصرح كالمتدبرين.6 وأما الجاهل الغبي، والقلب المخطي ، فلا يرى خيره وشره إلا بعد البناء، ويسلك مسلك العشواء، ولا يرى المآل في أول الحال، ولا ينظر إلى ما سيحتاج إليه في بعض الأحوال، فيبني من غير تقدير وتنسيق وترتيب، ولا يتدبّر كذي معرفة لبيب، ولا يفطن إلى ما يلزم لمبناه، إلا بعدما سكنه وجرّب ،مثواه ووجده ناقصا ورآه، فيشعر حينئذ أنه لا يكفي لمباءته، فيتألم برؤيته بعد خبرته، ويبكي مرة على فقدان منيته، وأخرى على حمقه وجهالته وضيعة فضته، وتطلعُ على قلبه نار حسرته، بما لم يدر في أول الأمر مآل خطته، كالعاقلين، فيتدارك ما فرط منه بعدما رأى التفرقة والشتات، متأسفا على ما فات، وباكيا كالمتندمين.فهذا الذهول الذي يخالف العقل والحكمة، ويباين القدرة والمعرفة الكاملة، لا يُعزى إلى قدير الذي هو ذو الجلال والقوة، وخبير الذي يحيط الأشياء بالعلم والحكمة.سُبحانه، هو يعلم الخفي والأخفى، والقريب والأقصى، ويعلم الغيب وغيب الغيب، وفعله
۹۷ ـزَّه عن المعرّة والعيب، وإنه لا يُخطئ كالناقصين.أنظر إلى ما خلق من قدرة كاملة، هل ترى فيه من فتور أو منقصة؟ ثم ارج البصر هل ترى من فتور في خلق رب العالمين؟ فكفاك لفهم الحقيقة ما ترى في صحيفة الفطرة، ولن ترى اختلافا في خلقة حضرة الأحدية.فهذا هو المعيار لمعرفة الألسنة، فخُذ المعيار واعرف ما أنار، واتق الله الذي يُحب المتقين، واستفق ولا تكن من الغالين.ولا يريبك ما تجد في اللسان الهندية وغيرها من الألسنة قليلا من الألفاظ المفردة، فإنها ليست من دارهم الخربة، ولا من عيبتهم الممزقة، بل هي كالأموال المسروقة، أو الأمتعة المستعارة في بيت المساكين.والدليل عليها أنها خالية عن اطراد المادة اطراد المادة وغزارتها المنتسقة مع فقدان وجوه التسمية، ولا يتحقق كُنْهُها إلا بعد ردّها إلى العربية.ولا يخدعك قليلها في تلك اللغات، فإنها لا يوصل إلى الغايات، ولا تكشف عن ساق معاني المفردات على سبل اطراد اشتقاق ،المشتقات، ونبش معادن الكلمات، بل هي تفهيم سطحي لخدع ذوي الجهلات وقوم عمين.وكلّما يُرَدُّ لفظ إلى منتهى مقامِ الردّ، ويُفتّش أصله بالجهد والكد، فترى أنه عربية ممسوخة، كأنها شاة مسلوخة، وترى كل مضغة من أبداء عربي مبين.
۹۸ ولا نذكر عبرانية ولا سريانية في هذا الكتاب، فإن اشتراك دينك اللسانين مسلم عند ذوي الألباب، من غير الامتراء والارتياب، وأنهما محرفتان من العربية الخالصة، مع إبقاء أكثر القوانين الأدبية والتراكيب المتناسبة، وإنهم كالسارقين.وكانت دار العربية آنقَ مِن حديقة زهر وخميلة شجر، ما رأى أهلُها حرَّ الهوى ولا حَرْقَ الجوى، ذاتَ عِقْيانٍ وعَقار، وغَرَب ونُضار، وحدائق وأنهار، وزهر وثمار، وعبيد وأحرار، وجُرْدٍ مربوطة، وجدَةٍ مغبوطة، وعمارات مرتفعة، ومجالس منعقدة مزيّنة، ثم انتثرت عقود الزحام من الفساد، فسافروا وأخذوا ما راج من الزاد، واحتمل كُل بحسب الاستعداد، وركبوا متن مطايا التفرقة والتضادّ، وبدلوا الصور بترك السداد، حتى جعلوا العِذق جريمة، واللَّعْلَ وثيمة، والوليمة وظيمة، والحسنة جريمة، والضليع حمارا، والروضة مقفارا، وغادروا بيت الفصاحة أنقى من الراحة، وأبعد من التلذذ والراحة وما بقيت حدائقها ولا رَكِيّتها، ولا مروجها ولا نضرتها، وما برح يمطر عليها مطر الشدائد، وتتلقاها يد النوائب بالحصائد، حتى رُمِيَ متاعُها بالكساد، وبدل صلاحها بالفساد، فأصبحت دارها كالمنهوبين، كأنّ اللص أبلَطَها، أو الغريم قعطها، وكسح بيتها وخلّى سَفَطَها، فصارت كالمعترين.وأنت سمعت أن العربية نزلت في بُدُوِّ الفطرة، وجاءت من حضرة الأحدية،
۹۹ ثم إذا تحرّمَ ذلك القرن، فطَرَى على أذيالها الدرن، فالعبرية وغيرها كوسخ العربية وفُضلة هذه المائدة، والعربية أوّلُ دَر لإرضاع الفطرة الإنسانسة، وأوّلُ خُرْسةٍ لتغذيةِ أُمّ البرية من خير المطعمين، وإليه أشار مُعطي القياس والحواس ودافِعُ وساوس الخنّاس : إِنْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ، فَأُومَى إلى أن العربية سبقت الألسنة، وأحاطت الأمكنة، وهي أوّلُ غذاء للناطقين.فإن البيت لا يخلو من مجمع الناس، والمجمع يحتاج إلى الكلام لدفع الحوائج والاستيناس، فإن المعاشرة موقوفة على الفهم والتفهيم، كما لا يخفى على الزكي الفهيم.وكذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْت دليل على كون مكة أوّل العمارات، فلا تسكت كالميت وكن من المتيقظين.فحاصل المقالات أن مكة كانت أوّلَ العمارات، ثم خربت من الحادثات وسيل الآفات، فلزم ذلك البيان أن العربية كانت أول كل ما كان، وعلمها الله آدمَ وكمَّل بها الإنسان، ثم حُرّفت هذه اللغة الأصلية، ومُسخت الكلمات النورانية، وفات النظام الكامل الموزون، وضاع الدُّرُّ المكنون، وخلف من بعدهم خَلْفٌ تباعدوا عن العربية، آل عمران: ۹۷ الحج: ٢٧
ومسخوها وبدلوها حتى جعلوها كالألسنة الجديدة، وما بقي إلا قليل يتكلمون بها من بعض الآدميين، والآخرون حرفوا كَلِمَها عن مواضعها، وبعدوا جواهرها عن معادنها وأماكنها، فصارت ألسنة جديدة في أعين الغافلين، ونُضِيَ منها خلعةُ حُللها النفيسة، وجعلت عاريَ الجُلْدة بادي العورة ، تَبْذُؤُها أعين الناظرين، فلأجل ذلك تراها ساقطة عن النظام والقواعد الطبعية ومتفرقة غير منتظمة كخشب الفلا المتباعدة، وتشاهد أنها تائهة لا ذَرَى لها ولا دارَ، ولا سَكَكَ ولا جوار، وترى أن مفرداتها متبدّدة لا أنساب بينها، وعارية أبدت وَصمتَها وشَيْنَها ؛ وذلك بما ضاع النظام وما بقي القوام، ورعتها الأنعام، فترى كأنها أرض بذيئة، أو موماةٌ مخوفة مُجنّة تبدؤها عينُ المحققين، وما حسن الآنَ شأنها، وما أبدأ صبيانها، ولكن الظالمين يخدعون الجاهلين.أضاعت نسبًا متماثلة، وأقداما متشابهة، فصارت كأناس متفرقة الآراء، أو أوباش مختلفة الأهواء، متغايرين غير متحدين، فكان بعضُها على رباوة متخصرًا بهراوة، وبعضُها في وهاد ساقطا كجماد، وبعضُها فقدت أسارير وجه التسمية، كأنه أُغمي عليها أو أخذتها مرضُ السكتة أو كانت من المَحْقُوِّين، وبعضُها بدا كرية الشكل كثير الاختلال كأنه أبدى كالأطفال حتى بَدَأَتْها أعينُ الناظرين، والبعض لفّع وجهه برداء، ونكر شخصه لحياء، والبعض
الآخر صبَّغَ الأطمارَ ودَلَّسَ، وأرى كأنه تطلّس.ومنها ألفاظ بقيت على صورها الأصلية، وما غير وجهها حرُّ هواجر الغُربة، وما زلزل أقدامها إعصار التفرقة، بل بقي لها نَشْرٌ تَنمُّ نفحاته، وتُرشد إلى روض الحق فَوحاته، وتُعرَف بتأرُّج عَرْفِها ومناعةِ غُرَفِها، وتُصبي القلوب كجميل حَدِين.بيد أنها أُخرجت من المنازل المقررة، وبعدت من الأوطان الموروثية، وبوعدت من الأتراب، وهيل عليها الزوائد كهيل التراب، وأُخفيت كالميتين، بل دفنت كالموءود، فما مادها أحد كالودود ، ثم رُدَّ عليها عهد تذكار الوطن، والحنين إلى العَطَن، فاستعدت لتقويض خيام الغيبة، وأسرجت جواد الأوبة، بعدما كانت كالإمعة، وكانت كرفاق مستعدّين، غير أنها كانت محتاجة إلى رجل = يؤُمها في المسير، وما كان سبيل من دون استصحاب الخفير، فأتيناها وأخذناها كأخذ الوارث متاع الميراث، وبعثناها من الأحداث، بعدما سُمِعَ نَعيها من الزمن النثَّاث، فهي بعد أمد رأت كِناسها، ووافت أناسها، ونُقلت إلى قصرها، بعدما حصلها الشدائد تحت أسرها، وكأنها كانت كالْفِ يُفقد، ويُسترجع له بعد مناحةٍ تُعقد.فأخرجناها كنعش الميتِ، أو الغلامِ الآبق من البيت، أو كطيب الأعراق اللاحق بالفساق، أو النسيب المهجور من الأقارب، أو الابن الغائب الهارب، أو أطفال منغمسين فمنها ما لم يَرَ انثلامَ حبّةٍ في
زمن فرقة متطاولة، وأزمنة بعيدة مخوّفة، وقفَل كما سافر بصحة وسلامة، وصلاح ، وعافية، ومنها ما غيرها حَرُّ السَّقام، حتى بلغ إلى الاخترام، وصارت كالجنائز، بعدما كانت من أهل الجوائز، وظهرت بوجه مسنون، بعدما كانت كدر مكنون، وذهب حسنُها وبهاؤها، وغاب نورها وضياؤها وتراءت كشيخ مسلوب الطاقة، بعدما كانت كغيدٍ مليح الرشاقة، أو كضليع لذيذ السياقة، أو كجمازة لا يلحقها العناء، ولا تُواهقها وَجْناء.ولا يخالف هذا البيان، إلا الذي جهل الحقيقة أو مانَ فلا شك أن الحق أَبْلَجَ، والباطل لَحْلَجَ، وشنَّ على الباطل عسكر الحق واليقين.هذا شأن مفردات العربية وأما مركباها فهي أرفع شأنا عند أهل البصيرة، فإن المسك واللؤلؤ إذا خلطا لغرض من الأغراض، فلا شك أن هذا المركب أشدّ وأقوى لدفع الأمراض.وأنت تعلم أن مركبات النبات قد تحدث فيها كيفية خارقة للعادات، نافعة لكثير من الآفات، فكيف تركيب مفردات قد علا شأنها، وأشرق برهانها، وأعجب الخلق لمعانها، فإنها نور على نور، ومفتاح لسر مستور، وآية عظيمة للمسترشدين.والسر في عظمة مركبات العربية، أنها ركبت من المفردات المباركة، التي توجد فيها غزارة المادّة والنظام الكامل على سبيل
۱۰۳ الحكمة، فتولّد في مركباتها معاني كثيرة بتأثير المفردات، ثم بإدخال اللام والتنوينات، وبكشح مخصر من لطائف الترتيبات.وأما لغات أخرى وألسنة شتّى، فستعلم عُجَرَها وبُجَرَها، وسنبدي لك حَصاتها 6 وحَجَرَها، وندعو إلى الحق قوما منصفين.إنها ألسنة ما أُعطى لها بيان ولا لمعان، إلا غَمْغَمة ودخان، ولذلك أردنا لنُظهر على كل مستطلع دخيلة أمرها وحقيقة سرّها، وكسوف قمرها، لتستبين تصلُّف الكاذبين.فإن كنتم لا تؤمنون ببراعة العربية وعزازتها، ولا تُقرون بعظمة جَمازتها، فأَرُوني في لسانكم مثل كمالاتها، ومفردات كمفرداتها، ومركبات كمركباتها، ومعارف كمعارفها ونكاتها، إن كنتم صادقين.ولا حياة بعد الخزي يا معشر الأعداء، فقوموا إن كانت ذرّة من الحياء، أو الجعوا في غيابة الخوقاء، وموتوا كالمتندمين.وإن كنتم تنهضون للمقابلة، فإني مُجيزكم خمسة آلاف من الدراهم المروّجة، بعد أن تكملوا شرائط هذه الدعوة، ويشهد حَكَمانِ بالحلف عند الشهادة، ليتم حجتي عند النحارير، ولا يبق نَدْحةً المعاذير، وهذا علي غرامة لو كنتُ من الكاذبين.فقوموا لأخذ هذه الصلة، أو لحماية لغاتكم الناقصة إن كنتم حامين.واجمعوا عين شريطتي أين تشاءون، إن كنتم ترتابون أو تخافون، وإني أقبل كل ما تطلبون، وأكتب كل ما تستملئون، وأُبضع في كل ما تسألون،
١٠٤ لعلكم تطمئنون بها ولعلكم تستيقنون، وأفعل كل ما تأمرون، لو أمرتم منصفين.وما أريد أن أشق عليكم وما كنتُ من المتترعين، ستجدوني إن شاء الله من المقسطين.وإني أرى أن الألسنة ستُرَمُّ، والوساوس تُجذَع، والحجة تتم، ويفرّ الأعداء مشفقين مما في أيدينا ومرتعدين.وإنا لملاقوهم بعون الله ذي الجلال، ولو فرّوا على لاحقة الآطال، ثم مُفِرُّوهم مُجحِرين.ولا مناص لهم ولو نزوا في السكاك، إلا بعد سواد الوجه والاحليلاك.وإذ أَشْرَعْنا الرمح على العدا وأرينا المدى، وعبطنا أفراس الردى، فترى أنهم يُبدون نواجذهم غير ضاحكين.وما كتبتُ من عندي، ولكن ألهمني ربي، وأيدني في أمري، فتاقت نفسي إلى أن أفض ختم هذا السرّ، وأُريَ الخلق ما أراني ذو الفضل والنصر، وإنه ذو الفضل المبين.وحاصل ما كتبنا في هذه المقدمة أن العربية أُمّ الألسنة، ووحي الله ذي المجد والعزة، وغيرها كرَس مِن هذه المطرة القاشرة، وما لها سَبَدٌ ولا لَبَدٌ إلا من هذه اللهجة، وإن العربية تقسم الأمور وضعًا كما قسمها الله طبعًا، وفي ذلك آيات للمتوسّمين.وإنها تجري في كل سكك بهذا الاشتراط، وتتجافى عن الاشتطاط، ونزّهها الله عن ضيق الربع، ووسع مَربَعَها لأضياف الطبع، فدعت ضيوف الفطرة إلى
القرى ومطائب ما تشتهى وأثبتت أنها من المتمولين المعطين.فلا تَمِلْ إلى زَبونٍ، ولا تغُضَّ على صفقة مغبون.أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ففكّر ساعةً يا عارَ العير، واطلب سبل الموفقين.واعلم أنها خفير إلى العلوم النُّخب من غير الوجى والتعب، فمن قصدها فقد ذهب إلى الذهب، ومن باعدَها بالهجر فقد رضي بإيثار الهجر، وهوى في هوة السافلين.وإنها غانية زينت نفسها بكمال النظام، وتحلّت بالحسن التام، ولكل سائل قامت بالإجابة، حتى ثبتت ثروتها وانجابت غشاوة الاسترابة واعتقبت دواعي الطبع، ووسعت لها فِناءَ الرَّبع، وحلّتْ بكلّ ما حلَّ تقسيم طبعي، بل حملته كما يحمل أوزارًا مَهْرِيٌّ، وطابقت حتى أعجبت الناظرين.فهي شجرة مباركة أغصانها كالبريد وأصولها كالوصيد وموادها كاليقطين.وإنا لا نسلّم أن كمال نظامها يوجد في غيرها، أو يبلغها لسان في سيرها.نعم، نسلّم أن كل لغة من اللغات تشتمل على قدر من المفردات، لكنها ناقصة كالبيوت المنهدمة الخربة أو كالقفة التي يئس أهلها من الزهر والثمرة، ولا ترى دهوم المفردات في تلك الألسن المُحارَفة المقلوبة، إلا قليلا غير كاف للمهمّات المطلوبة.وأنت سمعت أنها كانت عربية في أوائل الأزمنة، ثم مُسخت فبدت بأقبح الصورة، فلذلك تراها منتنة كالجيفة وخاوي الوفاض كأهل الذل والهزيمة.
وتجد أنها ألسنة بادية الذلّة، ليس بيدها غزارة المادة، ولا دولة الاشتقاق ووجه التسمية، ولصقت ألفاظها بمعانيها كقتين، وإنها بتلادها لا تُوفي النظام، ولا تُكمل الكلام، وما كان لأهلها أن يكتبوا بها قصة أو يُملوا حكاية مبسوطة، بحيث أنْ تُواغِدَ القصص نظام المفردات، وتُقابل التقسيم الطبعي في جميع الخطوات.وإنّ هذا حق وليس من الترهات، ولأجله كتبنا في العربية هذه العبارات، وقدمنا هذه المقدمة كالكُماة، لنقطع عِرْق الخصومات، ولعل العدا يتفكرون في حُللها، أو يأتون بألسنها من مثلها، إن كانوا صادقين.وقد سمعتم أن مفرداتها تُواضِحُ نقوش تقسيم الفطرة، وتعطي كل أُعطيَ عند التقاسيم الطبعية، وتضع كل لفظ في المواضع التي طلبتها الضرورة الداعية، أو اقتضتها الصفات الإلهية، ولا تمشى كالتائهين.وتُري فروق الكلمات كما أرت فروقها دواعى الضرورات، وتُظهر في نظام المفردات كل ما أظهرَ القَسَامُ في مِرآة الواقعات، فكذلك نطلب من المخاصمين.وما قلنا هذا القول كصفير اللاعبين، بل أرينا كلها كالمحققين وأثبتنا أن العربية قد وقعت كرجل رحيب الباع خص رحيب الباع خصيب الرباع، متناسبة الأعضاء موزون الطباع، مطلعةً على ذات صدر الفطرة، وحامل فوائدها كالمطية، فإن كنتم من خيل هذا الميدان، أو للسانكم كمثلها يدانِ، فأْتُوا بها يا
۱۰۷ معشر أهل العدوان وحزب المتعصبين، وإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتقوا الله الذي يُخزي الكاذبين.والآن نكشف عليكم سِرَّ فروق الكلمات، لعل الله يهديكم إلى طرق الصواب والثبات، أو تكونون من المتفكرين.فاعلموا أن فروق الكلمات تتبع فروقًا توجد في الكائنات، وكذلك قضى أحسنُ الخالقين.وأما الفروق التي توجد في خلقة الكائنات، وتتراءى في صحف الفطرة كالبديهيات فنكشف عليك نموذجًا منها في خلقة الإنسان، لعلك تفهم الحقيقة كذوي ،العرفان، أو تكون من الطالبين.فانظر..أن الإنسان إذا قُلبَ في مراتب الخلقة، وأخرج إلى حيز الفعل من القوة، وأعطيَ صُورًا في المجالي الطبعية، وقفا بعضُها بعضا بالتمايز والتفرقة، فجُمعت ههنا مدارج تقتضي لأنفسها الأسماء، فأعطتها العربية وأكملت العطاء، كالأسخياء المتمولين.خلقه وتفصيله أن الله إذا أراد خَلْقَ الإنسان، فبدأ خَلْقَه من سلالة طين مُطهَّرٍ من الأدران، فلذلك سماه آدمَ عند الخطاب وفي الكتاب، لما من التراب، ولما جمع فيه فضائل العالمين.وكذلك حُمر في أنسان: أُنسُ ما خُلِق منه وأُنسُ الخالق الرحمن، كما يوجد أنس الأم والأب في الصبيان، فدعاه باسم الإنسان، وهذا مبني على التثنية من المتان، ليدلّ لفظ الأنسين على كلتي الصفتين إلى انقطاع الزمان طينه
۱۰۸ ويكون من المتذكرين.ثم بُدِّل قانون القدرة بإذن الله ذي العزة والحكمة، وخُلِقَ الإنسان بعد تغيرات في أرحام أمهات، فسُمِّي التغير الأولى ماءً دافقًا ،ونُطْفةً، والثاني الذي يزداد فيه أثر الحياة عَلَقةً، والثالث الذي زاد إلى قدر المضغ شدةً وضاهَى في قدره لقمةً، فسُمِّيَ لهذا مُضغَةً، والرابع الذي زاد من قدر اللقمة، ومع ذلك بلغ إلى منتهى الصلابة وأودعها الله حِكَمًا عظيمة خلقةً ونظامًا، فسماها عظاما، بما بلغت العظمة وزادت شرفًا وكما ومقامًا، وبما رُكب بعضها بالعظام من رب العالمين.والخامس اللحم الذي زاد عليها كالحلة، وصار سبب كمال الحسن والزينة، فسُمِّي لحما بما أُوحِمَ بالعظام الصلبة، وصار بها كذوي اللحمة، والسادس خلق آخر وسُمّي نفسا، لنفاستها ولطافتها وسرايتها في الأعضاء وعزتها، وسُمّي جميعها باسم الجنين، فتبارك الله أحسن الخالقين.ثم إذا خرج الجنين من بطن الأمة، وتولّد بإذن الله ذي القدرة، فسُمّي وليدا في هذه اللهجة.ثم إذا صبا إلى ثدي الأم للرضاع، فيُسمَّى صبيًّا ورضيعًا إلى مدى الإرضاع.ثم بعد الفطام سُمّي فطيما وقطيعا في هذا اللسان.ثم إذا دبّ ونما وأرى أكثر آثار الحيوان، فسُمّي دارجًا في ذلك الزمان.ثم إذا بلغ طوله أربعة أشبار، فهو رباعي عند عند أولي أبصار.وإذا بلغ خمسة فهو خُماسي.وإذا سقطت
۱۰۹ رواضعه فهو مثغور عند العرب، وإذا نبتت بعد السقوط فهو مثغر عند ذوي الأدب.وإذا تجاوز عشر سنين، فهو مترعرع عند العربيين.وإذا شارف الاحتلام ، وكَرَبَ الماءُ ليُمطِر الجهام، فهو يافع ومراهق قد بلغ البلوغ التام.وإذا احتلم واجتمعت قوته وكملت طاقته، فهو حَزْوَرٌ.ثم من الثلاثين إلى الأربعين شاب ففرح مسرور.ثم بعد ذلك كَهْل إلى أن يستوفي الستين.ثم بعد ذلك شيخ، ثم حَرفٌ مفنَّد، ومن المستضعفين.وكذلك بإزاء كلّ حصة عمر اسمٌ على حدة في عربي مبين.وإذا مات فهو المتوفّى الذي يختصم في لفظه حزب الجاهلين.وكذلك كل ما تحقق في الإنسان طبعًا، يوجد في العربية وضعًا، وكل ما ترى في الحس والعِيان تجد بإزائه لفظا في هذا اللسان، ولا تجد نظيره في العالمين.وأي حجة أكبر من هذا لو كنتم مبصرين.فتأمل تأمل المنتقد، وانظر بالمصباح المتقد، واحلل محلّ المستبصرين.وإن كنت تقترح أن تسمع مني في اشتراك الألسنة، فكفاك لفظُ الأم والأمّة، فإن هذا لفظ تشارك فيه اللسان الهندية والعربية، وكذلك اللسان الفارسية والإنكليزية، بل كلُّها كما تشهد التجربة الصحيحة، فانظر كالمنقدين.وقد ظهر من وجه التسمية أن هذا اللفظ دخل في الألسن الأعجمية من العربية، فإن التسمية الحقيقية لا توجد إلا في هذا اللسان، وأما غيره فلا يخلو من التصنع في البيان،
فإن من شأن التسمية الحقيقية التي هي من حضرة العزة، أن لا تنفك بزمن من الأزمنة الثلاثة، وتكون للمسمى كالعرض اللازم، وأن تجابته في هذه النشأة، ولا يفرض فرضُ فارض كونها في وقتِ من الأمور المنفكة، ولا تكون كالأمور المستحدثة المصنوعة، ولا توجد فيها ريح التصنّعات الإنسية، ويُقرّ من استشف جوهرها بأنها من رب العالمين.فخُذ بيديك هذا الميزان، ثم اعرف بها من صدق ومان، ولا تتبع سبل المفترين.وهذا آخر ما أردنا من إيراد المقدمة، وكتبناها لإراءة النظام في الرسالة، وقد وعيت ما قصصنا عليك من الأدلة، ففكر فيها واجتن ثمرة البراعة، واحكم بما أراك الله ولا تكن كالمتجاهلين.ولا يختلج في قلبك أن العربية قد حُقِّرت في أعين سُكّان هذه البلاد، وأن جواهرها قد رميت بالكساد، فإن هذا من فساد أهل الزمان، وإن قصوى بغيتهم طلب الصريف والعِقْيان، وحُمادَى هِمِّتِهم هَوَى الموائدِ والجفانِ، وإنهم من المفتونين.وإني لما أردتُ أن أنضد جواهر الكلام، وأسلكها في سَمْطِ الانتظام، أُلقي في روعي أن أكتبها في هذه اللهجة، ولا أُخفي بروقها في البرقة الهندية، وأسرح النواظر في النواضر الأصلية.DOOR