اِسلامی اُصول کی فلاسفی

اِسلامی اُصول کی فلاسفی
Author: Hazrat Mirza Ghulam Ahmad

Language: AR

AR

في أواخر عام 1896م.. عُقد مؤتمر عظيم للأديان في لاهور بالهند؛ ألقى فيه ممثّلو ديانات مختلفة كلماتِهم ردًّا على أسئلة خمسة اقترحتها لجنةٌ عُيّنت لهذا الغرض، بهدف إظهار كمالات الدين الحق ومحاسنه. وكانت الأسئلة الخمسة المطروحة: 1. حالات الإنسان الطبْعية والأخلاقية والروحانية؛ 2. حالة الإنسان بعد الموت؛ 3. الغاية الحقيقية من الحياة الدنيوية للإنسان، ووسائل تحقيقها؛ 4. تأثير الأعمال على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ 5. وسائل العلم.. أي المعرفة الحقيقية. وقد ألقى خطبًا مندوبون عن تسع أديان وجماعات مختلفة، منها الهندوسية والآرياسماج والمسيحية والسيخية والإسلام. والحق أنه لم يكن من بين هذه الخطب كلها إلا خطاب واحد قدّم جوابًا حقيقيا وكاملا عن الأسئلة المطروحة. وهذا الخطاب هو مقال لسيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني (عليه السلام) مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.. وقد طارت شهرة هذا المقال في الآفاق، وتحدث عنه المفكرون في وسائل الإعلام المختلفة. والكتاب يُظهر عظمة الدين الإسلامي ويؤكد أنه دين الله الكامل، ويجيب على الأسئلة الخمسة، ويكشف معارف قرآنية سامية.


Book Content

Page 1

åámlá تعاليم الإسلام سيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني المسيح الموعود والإمام المهدي العلا الشركة الإسلامية المحدودة

Page 2

اسم الكتاب: فلسفة تعاليم الإسلام ترجمة حديثة : الطبعة الأولى ١٤١٦هـ ١٩٩٦م الطبعة الثانية ١٤١٧هـ / ١٩٩٧م الطبعة الثالثة ١٤٣٢هـ / ٢٠١١م The Philosophy of the Teachings of Islam By: Hadrat Mirza Ghulam Ahmad, Founder of the Ahmadiyya Muslim Jamā‘at (Arabic translation) First published in UK in 1996 Reprinted in UK in 1997 Present revised edition published in UK in 2011 O Islam International Publications Ltd.Published by: Al-Shirkatul Islamiyyah "Islamabad" Sheephatch Lane Tilford, Surrey GU10 2AQ United Kingdom Printed in UK at: Raqeem Press Tilford, Surrey ISBN: 1 85372 563 3

Page 3

بسمة الحماية

Page 4

Page 5

المحتويات الموضوع مقدمة الناشر مقدمة الطبعة الأردية الإسلام ضرورة تقديم الدعوى والدليل من الكتاب السماوي السؤال الأول حالات الإنسان الطبعية والأخلاقية والروحانية؟ الحالات الثلاث للنفس الحالة الأولى: النفس الأمارة الحالة الثانية: النفس اللوامة الحالة الثالثة: النفس المطمئنة تفاعل الجسد والروح تأثير الأغذية على سلوك الإنسان نشأة الروح من الجسد الصفحة أ ٤ ٤ ד V १ ۱۱

Page 6

۱۷ ۱۸ ۱۹ ۲۰ ۲۱ ۲۳ ٢٥ ٢٦ ۲۸ ۲۸ ۳۲ الروح مخلوقة النشأة الثانية للروح الارتقاء التدريجي للإنسان حقيقة الإسلام الفرق بين الحالات الطبعية والأخلاق دحض الجينية طرق الإصلاح الثلاث بعثة النبي ﷺ عند الحاجة إلى الإصلاح الكامل طرق الإصلاح الثلاثه هي الهدف الحقيقي من تعليم القرآن تتحول الحالات الطبيعية أخلاقا بعد تعديلها الأخلاق الحقيقية الخلق والخلق الإصلاح القرآني الأول..إصلاح الحالات الطبعية العلة في تحريم الخنزير ٤٠ الإصلاح القرآني الثاني..إصلاح الحالات الأخلاقية ٤٣ ٤٣ ٤٤ ٤٦ تقسيم الأخلاق أخلاق تندرج تحت ترك الشر طرق العفّة والإحصان

Page 7

٤٩ ٥٠ 01 ٦٠ ٦٠ ٦٣ ٦٦ ۷۱ ۷۳ Vo VV ۷۸ ۸۰ ۸۳ ٨٤ خمس طرق للعفاف الحكمة من الحجاب الإسلامي خُلق الأمانة التسامح والمسالمة الفرق بين التسامح والعفو الرفق والقول الحسن أقسام إيصال الخير العفو العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى تعليمات أخرى عن الإحسان والعطف الشجاعة الحقيقية الصدق الصبر مواساة الخلق البحث عن ذات عليا خطأُ الفلاسفة الحكمة من بعث من بعث النبي ﷺ من العرب فضل القرآن على العالم

Page 8

٨٥ ۸۹ F ۹۷ ۹۹ ۱۰۳ 0.1 ۱۰۷ ۱۱۰ ۱۱۱ ۱۱۳ 110 110 ۱۲۰ ۱۲۱ ۱۲۱ ۱۲۳ الأدلة العقلية على وجود الله تعالى صفات البارئ تعالى الخير الحقيقي الفارق بين التعليم الإسلامي وغيره الإصلاح القرآني الثالث..إصلاح الحالات الروحانية كيف السبيل إلى الروحانية الحقيقية؟ دعاء رائع ضرورة الاستقامة الكاملة آثار الاستقامة الصادقة حقيقة شراب الكافور والزنجبيل تأثير الزنجبيل سُنة الفعل ورد الفعل نشأة الحياة الفردوسية حقيقة الجنة والجحيم الوسيلة لإنشاء علاقة روحانية بالله تعالى معنى الإسلام آثار الحياة الروحانية باب الوحي مفتوح

Page 9

١٢٥ ١٢٦ ١٣٠ ۱۳۰ ۱۳۲ ۱۳۳ ۱۳۳ ۱۳۵ ۱۳۷ ۱۳۹ 12.181 ١٤٣ 140 ١٤٦ ١٤٩ السؤال الثاني: كيف تكون حالة الإنسان بعد الموت؟ حقيقة نعيم الجنة المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد المعرفة الأولى ثلاثة أقسام للعلم العوالم الثلاثة عالم البرزخ لا بد للروح من جسم تجربة ذاتية عالم البعث إزالة سوء فهم المعرفة الثانية ظل ذو ثلاثة فروع وصف تمثيلي لنعم الجنة المعرفة الثالثة السؤال الثالث: الغاية مِن خَلق الإنسان والوسائل المؤدية إليها؟

Page 10

10.١٥٢ ١٥٢ ١٥٣ 154 100 100 101 ۱۰۹ ١٦١ ١٦٦ ١٦٩ ۱۷۰ بحث فطري عن الله تعالى وسائل تحقيق الغاية من الحياة الوسيلة الأولى الوسيلة الثانية الوسيلة الثالثة الوسيلة الرابعة الوسيلة الخامسة الوسيلة السادسة ما هي الاستقامة الحقيقية؟ الوسيلة السابعة الوسيلة الثامنة السؤال الرابع: أثر الأعمال الصالحة على حياة الإنسان؟ الحكمة من قسم الله بأشياء مختلفة المشابهة بين العالم الصغير والعالم الكبير مثال آخر العلاقة بين الوحي والعقل

Page 11

۱۷۳ ۱۷۰ ۱۷۷ ۱۷۹ ۱۸۱ ۱۸۳ ١٨٦ ۱۸۷ ۱۸۹ ١٩٦ ۱۹۹ ۲۰۰ السؤال الخامس : وسائل العلم..أي العرفان الإلهي؟ مزية القرآن الكريم حقيقة الفطرة الإنسانية ضرورة الوحي للعرفان الكامل المراد من الوحي علامات الوحي الحقيقي خصوصية الإسلام تشرف صاحب المقال بمكالمة الله و مخاطبته الوحي الرباني هو وسيلة العلم الكامل فترتان من حياة الرسول أعظم خُلق من أخلاق سيد الرسل غاية غزوات النبي أُغلوطة فاحشة

Page 12

Page 13

مقدمة الناشر أ بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الناشر الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات والصلاة والسلام على رسوله الهادي إلى الطيبات، وبعد..فهذا سفر عظيم من الأسفار التي صنفها سيدنا مرزا غلام أحمد المسيح الموعود والإمام المهدي ، تبيانا لجمال الإسلام وكماله نقدمه لقراء العربية الكرام.لقد سبق إخراج هذا الكتاب باللغة العربية بترجمة الأستاذ زين العابدين ولي الله شاه له منذ سنين طويلة.وبمناسبة العيد المئوي للكتاب أمر حضرة مرزا طاهر أحمد - رحمه الله الخليفة الرابع - للمسيح الموعود والإمام المهدي العليا بإخراجه مرة ثانية في ترجمة جديدة منقحة أكثر سلاسة وسهولة ودقة.ووكلت هذه المهمة إلى الأستاذ محمد حلمي الشافعي والأستاذ عبد المؤمن طاهر من القسم العربي، حيث استفادا من الترجمة السابقة.أما الطبعة الحالية المنقحة فتشمل إضافة صفحات أُدخلت – بأمر من أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد الخليفة الخامس أيده الله تعالى

Page 14

مقدمة الناشر بنصره العزيز - في الطبعة الجديدة للخزائن الروحانية بالأردية بعد مراجعة المسودات والمخطوطات الأصلية.وهذه الإضافة وردت من ص ۱۳ إلى ص ١٧ في هذا الكتاب.وقد روعي في ترقيم الآيات القرآنية أن البسملة هي الآية الأولى من كل سورة تبدأ بها.وأضيفت عناوين جانبية جديدة وحواش مفيدة من لدن المترجمين تيسيرًا على القارئ، وقد ميزت عن العناوين الأصلية بالخط المائل.أبو ولا يسعنا في الأخير إلا أن نشكر من ساهم في إخراج هذا الكتاب في شتى المجالات، ونخص منهم السادة الأفاضل: مصطفى ثابت، تميم دقة، هاني طاهر، خالد عزام محمد العاني علاء نجمي، عبد المجيد عامر، أحمد نعيم، ومحمد طاهر نديم.نسأل الله تعالى أن ينتفع الناس عامة، والعرب خاصة، بهذا الخطاب محمد الجليل، وييسر لنا إخراج المزيد من كتب الإمام المهدي وخلفائه لخدمة الإسلام وأمة خير الأنام..الناشر

Page 15

مقدمة الطبعة الأردية " بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأردية بقلم: مولانا جلال الدین شمس :) في عام ١٨٩٢م، خطر ببال عالم هندوسي..يدعى "سوامي شوغن "تشاندر - وكان قد عمل بضع سنين لإصلاح فئة عرقية هندوسية "كئيست" (Kaisth) - أنه لا جدوى من المناقشات الدينية ما لم يجتمع في مكان واحد مندوبون من كل دين للنقاش.ففكر في هذا السعي إلى عقد مؤتمر للأديان.وبالفعل انعقد أول مؤتمر من أنسب مكان لعقد النوع في " "أجمير".ثم رأى أن مدينة "لاهور هي " المؤتمر الثاني، وأخذ يسعى لذلك سعيًا حثيثاً.فكون لتنظيم المؤتمر لجنة برئاسة الأستاذ "درغا برشاد" الهندوسي، و سكرتارية لاله" دهن بت رائي" المحامي الهندوسي بالمحكمة العليا بلاهور.وتحددت لعقد المؤتمر أيام ٢٦ إلى ٢٨ ديسمبر/ كانون الأول ١٨٩٦م بلاهور، وعيّنوا للإشراف على جلسات المؤتمر ستّا من الشخصيات الكبيرة هم السادة الأفاضل:

Page 16

ت) مقدمة الطبعة الأردية ١."رائي بهادر بابو برتولي "تشاندر" القاضي من البنجاب، ٢."خان بهادر الشيخ خدا بخش بخش" القاضي بلاهور،."رائي بهادر باندت رادها کشن "کول" المحامي وحاكم ولاية جامون سابقا، ٤."حضرة مولانا نور الدين الطبيب الخاص لمهراجا كشمير سابقا،...رائى بهواني داس" ماجستير، ٦.سردار" جواهر سنغ" سكرتير لجنة السيخ الخالصة" بلاهور.وتولى الهندوسي نيابة عن اللجنة..دعا فيه زعماء المسلمين والمسيحيين والهندوس سوامي" شوغن "تشاندر" نشر إعلان في الجرائد و ناشدهم الله تعالى أن يحضروا المؤتمر لبيان مزايا أديانهم، وقال: ليس الهدف من عقد هذا المؤتمر إلا أن تتبين كمالات الدين الحق من الأديان ومحاسنه..أمام جمع من قومِ مهذبين مثقفين، لكي تتمكن محبة هذا الدين من قلوبهم ولكي يفهموا جيدا البراهين الدالة على صدقه.فالمؤتمر فرصة سانحة أمام كل زعيم ديني ليرسخ حقائق دينه في أذهان القوم، لكي يستطيعوا المقارنة بين خطاب وآخر..وحيثما وجدوا نور الصدق قبلوه.فهناك رغبة في القلوب لمعرفة الدين الحق بسبب ما يجري من نقاشات دينية وخصومات طائفية..والطريق

Page 17

مقدمة الطبعة الأردية الأمثل لهذه المعرفة هو أن يجتمع - في مكان واحد – كل الزعماء - الدينيين ومن يشتغلون بالوعظ والدعوة ويبين كل منهم مزايا دينه، مراعيًا الأسئلة التي تم إعلانها فالدين الذي هو من عند الله الحق..لا بد أن يلمع بنور ساطع واضح في هذا الجمع من كبار رجالات الأديان.هذا هو الغرض من عقد هذا المؤتمر.ومما لا شك فيه أن زعماء كل دين يدركون جيدا أن إثبات صدق دينهم فرض واجب عليهم.وما دام المؤتمر لا يهدف إلا إلى إظهار الحقائق..فلا شك أن الله تعالى قد أتاح لهم بذلك فرصة ذهبية لا تتيسر للناس إلا نادرا.ثم كتب يحث زعماء الأديان وقال: كيف أقبل أن من يدعي بأن غيره مصابون بمرض فتاك، ويوقن أن ذلك دواءه فيه شفاؤهم، ويدعي أنه يريد الخير للإنسانية..ومع عندما يدعوه المرضى الفقراء للعلاج فإنه يمتنع عن علاجهم عمدًا! إن قلبي يتمنى بكل شوق وقلق أن يُفصَل الآن: أيُّ الأديان مليء بالصدق والحقائق.إنني لا أجد كلمات أعبر بها عما في قلبي من حماس صادق.فلبي كثير من زعماء الأديان دعوة هذا الزعيم الهندوسي، ووعدوه بحضور المؤتمر.وفي عطلة عيد الميلاد من ديسمبر/ كانون الأول

Page 18

مقدمة الطبعة الأردية ١٨٩٦م..عُقد مؤتمر عظيم للأديان في لاهور؛ ألقى فيه ممثلو ديانات مختلفة كلماتهم ردا على الأسئلة الخمسة التي طرحتها اللجنة والتي تم الإعلان عنها سلفا.وكانت اللجنة قد اشترطت على كل خطيب أن يكون بيانه منحصرًا فقط فيما ورد في كتابه الديني السماوي.كانت الأسئلة الخمسة المطروحة: ۱.حالات الإنسان الطبعية والأخلاقية والروحانية؛ ٢.حالة الإنسان بعد الموت؛ ٣.الغاية الحقيقية من الحياة الدنيوية للإنسان، ووسائل تحقيقها؛ ٤.تأثير الأعمال على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ 0.وسائل العلم..أي المعرفة الحقيقية.وفي هذا المؤتمر الذي أُقيم أيام ٢٦ إلى ٢٩ ديسمبر/ كانون الأول خطب المندوبون عن الأديان التالية: سناتن دهرم، الهندوسية، الآريا سماج، المفكرون الأحرار، برهموسماج جماعة الصوفية الكشفية، المسيحية، السيخية الإسلام.والحق أنه لم يكن من بين هذه الخطب كلها إلا خطاب واحد قدم جوابًا حقيقيا وكاملا عن الأسئلة المطروحة.وهذا الخطاب هو مقال العليا لسيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني الله مؤسس الجماعة الإسلامية

Page 19

مقدمة الطبعة الأردية خ الأحمدية..قرأه على مسامع الناس بصوته العذب..مولانا عبد الكريم السيالكوتي..ولا أحد يستطيع وصف المشهد الذي كان لدى إلقاء هذا المقال.فما من أحد – أيا كانت ديانته - إلا كان يهتف تلقائيا بكلمات المدح والثناء وما من سامع إلا غمرته الغبطة والسرور.كان أسلوب البيان أخاذا خلابًا.وأي دليل أكبر على روعته من أن منظمي المؤتمر اضطروا لمد فترة انعقاد المؤتمر يوما إضافيا استجابة لرغبة الجمهور..لأن المقال الشيق لم ينته في الوقت المحدد له.كما أن معارضي الإسلام لم يجدوا بدا من أن يثنوا عليه ويمدحوه..حتى إن الجريدة الإنجليزية المسيحية الشهيرة Civil & Military Gazette) لم تقرظ إلا هذا المقال.كما أشادت به أيما إشادة الجرائد الهندية الصادرة بلغات شتى منها : بيسه ؛ القرن الرابع عشر، صادق الأخبار؛ المخبر الدكنية؛ جنرال وجوهر آصفي..وغيرها، وأجمعت على أن هذا المقال هو الأفضل بين المقالات.حتى إن سكرتير هذا المؤتمر لاله دهن بت رائى" الهندوسي " في كتابه "تقرير مؤتمر الأديان" مادحا هذا المقال: كان هناك فسحة نصف ساعة بعد خطاب الباندت "غوردهن داس"، ولكن معظم الجمهور لم يتركوا مقاعدهم..لأن الخطاب

Page 20

مقدمة الطبعة الأردية بعد الفسحة سيكون لمحام شهير عن الإسلام.وقبل موعد المقال بكثير أخذت قاعة المؤتمر تمتلئ بسرعة وامتلأت عن آخرها في بضع دقائق.كان عدد الجمهور عندئذ يقدر ما بين ٧ أو ٨ آلاف من العلماء والمثقفين من ديانات شتى ومجتمعات مختلفة.وعلى الرغم من أن المنظمين كانوا قد هيأوا عددا لا بأس به من المقاعد والكراسي والمفارش..إلا أن مئات من القوم لم يجدوا بدا من الوقوف لسماع و الخطاب، وكان من هؤلاء الواقفين علية القوم ووجهاء من البنجاب، وعلماء وفضلاء ومحامون وأساتذة وبروفسورات وأطباء وموظفون حكوميون كبار..وغيرهم من الشخصيات الكبيرة من مجالات مختلفة.إن حضور هؤلاء القوم ذوي الجاه والشرف، واستماعهم للخطاب بكل صبر وهدوء وشوق وحماس، لخمس ساعات متتالية كأن على رؤسهم طيرًا ليشكل دليلا واضحًا على تعاطفهم مع الجماعة.هذه إن صاحب المقال لم يتمكن من حضور المؤتمر بشخصه، ولكنه بعث تلميذه الخاص المولوي عبد الكريم السيالكوتي ليقرأ مقاله.كانت اللجنة المنظمة للمؤتمر قد حددت لهذا المقال ساعتين فقط، ولكن الحضور عمومًا أولعوا به..حتى إن المنظمين رحبوا بكل

Page 21

- مقدمة الطبعة الأردية حماس وسرور باقتراح مد الجلسة حتى انتهاء المقال.وكان إعلانهم هذا متفقا تماما رغبة الحضور..ذلك لأنه عند انقضاء الوقت مع المحدد للمقال أعلن الخطيب التالي المولوي أبو يوسف مبارك علي- أنه متنازل عن وقته من أجل هذا المقال..فهتف الحاضرون والمنظمون عاليًا شاكرين له.كان موعد انتهاء الجلسة هو الساعة الرابعة والنصف، ولكن نظرا لرغبة الحضور استمرت الجلسة إلى ما بعد الخامسة والنصف؛ لأن المقال استغرق حوالي أربع ساعات، أوله إلى آخره شيقا حاظيا بالقبول الواسع.(تقرير مؤتمر وكان من الأديان، مطبعة الصديقي، لاهور، ۱۸۹۷م) والغريب أن مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية نشر قبل انعقاد المؤتمر بخمسة أيام - أي يوم ۲۱ ديسمبر/ كانون الأول ١٨٩٦- إعلانًا ذكر فيه أن الله تعالى قد أخبره بطريق الوحي أن مقاله سوف يتفوق على الجميع..وهذا نص الإعلان: بشرى عظيمة لطلاب الحق لقد دعا السيد سوامي شوغن تشاندر في إعلانه المنشور الزعماء الدينيين المسلمين والمسيحيين والآريين (الهندوس)، وناشدهم بالله أن يبينوا مزايا دياناتهم في هذا المؤتمر.وها نحن نخبر السيد سوامي أننا -

Page 22

مقدمة الطبعة الأردية احترامًا وتبجيلا لهذا القسم العظيم على استعداد لتحقيق مطلبه.وسوف يُتلى مقالنا إن شاء الله في المؤتمر..لأن الإسلام دين يحض المسلم الصادق على الاستجابة الكاملة إذا دعي إلى عمل ما باسم الله تعالى.وسوف نرى الآن مدى إخلاص إخوانه الآريين الهندوس لشرف إلههم "برميشور"، ومدى تعظيم القساوسة لإلههم "يسوع"، وهل هم مستعدون لحضور المؤتمر باسم الإله القدوس العظيم.في مؤتمر الأديان العظمى الذي سوف يُعقد في قاعة المدينة بلاهور..سوف يُتلى مقال لهذا العبد المتواضع يتناول بيان كمالات ومعجزات القرآن الكريم.إنه يفوق الطاقات البشرية؛ وهو آية من آيات الله، وقد سطرته بتأييد إلهي خاص.إنه يتضمن من حقائق القرآن ومعارفه ما سوف يُثبت كالشمس في كبد السماء- أن القرآن حقا كلام وكتاب رب العالمين.وإنني على يقين من أن الذي سوف يستمع أوله إلى آخره، وينصت لجوابي على الأسئلة الخمسة..من الله للمقال سيتولد فيه إيمان جديد وسيلمع بداخله نور جديد، وسيفوز بتفسير جامع لكلام الله القدوس.إن خطابي خال مما يأتي به البشر من کلمات فارغة، ومنزه عن شوائب الهتافات الزائفة.

Page 23

مقدمة الطبعة الأردية ز إن الشفقة الخالصة على بني آدم دفعتني الآن لكتابة هذا الإعلان..لكي يشاهدوا حُسن القرآن الكريم وجماله، ويدركوا كيف أن " معارضينا – بظُلم منهم – يحبون الظلام ويكرهون النور.لقد أخبرني الله العليم بوحيه أن هذا هو المقال الذي سوف يتغلب على المقالات الأخرى كلها، وأن فيه من نور الحق والحكمة والمعرفة ما سيجعل الأمم الأخرى يندمون ويخجلون..شريطة أن يحضروا قراءته ويستمعوا له من أوله إلى آخره؛ ولن يستطيعوا أن يخرجوا من كتبهم كمالات كهذه.سواء أكان هؤلاء من المسيحيين أو أتباع ديانة سناتن دهرم الهندوس أو غيرهم؛ ذلك لأن الله تعالى أراد أن يتجلى في ذلك اليوم عظمة كتابه الكريم.لقد رأيت في عالم الكشف بشأن هذا المقال..أن يدا من الغيب حطت على قصري، فخرج منه نور ساطع انتشر فيما حوله، ووقع هذا النور على يدي أيضا.وعندئذ هتف شخص واقف بجواري بصوت عال.الله أكبر ، خَربَتْ خَيْبر".وتفسير هذا الكشف أن القصر يرمز إلى قلبي الذي هو مهبط للأنوار، وأن النور النازل يعني المعارف القرآنية والمراد من خيبر هو جميع الأديان الفاسدة الخربة التي تشوبها شوائب الشرك والبدعة، والتي رفعت البشر إلى مقام الله تعالى؛ أو حطت الصفات الإلهية من محلها الأعلى.فقد تكشف لي

Page 24

مقدمة الطبعة الأردية أن انتشار هذا المقال على نطاق واسع..سوف يكشف زيف الأديان الباطلة، وأن حقانية القرآن سوف تنتشر يوما فيوما في الأرض حتى تكتمل دائرتها.ثم تقلتُ من حالة الكشف إلى حالة الإلهام..حيث أُوحي إلي: "إن الله معك.إن الله يقومُ أينما قمت.وهذا تعبير مجازي يؤكد التأييد الإلهي.لا أريد الآن أن أكتب أكثر من ذلك..وإنما أحثّ الجميع أن يحضروا المؤتمر في أيامه في لاهور..لسماع هذه المعارف، ولو تكبدوا في سبيل ذلك بعض الجهد والعناء.ولو فعلوا ذلك لنالت عقولهم وإيمانهم من البركات ما يفوق تصورهم.والسلام على من اتبع الهدى.توقيع: العبد المتواضع..ميرزا غلام أحمد قادیان ٢۱ - ١٢ - ١٨٩٦م تقريظ من الصحف من المناسب أن نذكر هنا - على سبيل المثال لا الحصر – بعض ما كتبته الصحف في تقاريرها عن المؤتمر:

Page 25

مقدمة الطبعة الأردية ۱- جاء في جريدة Civil & Military Gazette) الصادرة من لاهور ما يلي: في هذا المؤتمر كانت لدى الجمهور رغبة قلبية خاصة في مقال ميرزا غلام أحمد القادياني..الذي يتمتع ببراعة كاملة في الدفاع عن الإسلام.لقد حضر لسماع هذا المقال جمع غفير من أتباع الديانات المختلفة من أماكن قريبة ونائية.ولما لم يستطع حضرة ميرزا حضور المؤتمر بنفسه..فقد قرأ مقاله أحد تلاميذه الأفاضل..المولوي عبد الكريم السيالكوتي.استمرت قراءة هذا المقال ثلاث ساعات متتالية يوم ٢٧ ديسمبر (كانون الأول)، والجمهور منصت إليه في صمت وابتهاج..ومع ذلك لم يكتمل منه إلا الرد على السؤال الأول.ووعد المولوي عبد الكريم بقراءة ما تبقى من المقال إذا منح له وقت إضافي، فوافق رئيس المؤتمر ومنظموه على أن يمتد المؤتمر ليوم أيضا.۲۹ دیسمبر ٢- وعلقت جريدة "جودهوين صدي" (أي القرن الرابع عشر) بما يلي:

Page 26

مقدمة الطبعة الأردية كان أروع المقالات كلها وروح هذا المؤتمر مقالُ ميرزا غلام أحمد القادياني..قرأه على الناس الشيخ الشهير الفصيح عبد الكريم السيالكوتي قراءة جميلة رائعة.وتمت قراءة هذا المقال في يومين وما أن بدأ المولوي عبد الكريم قراءته إلا وأعجب به الجمهور إعجابًا شديدًا.كانوا بعد كل جملة يرفعون الهتافات ابتهاجا وثناء وأحيانا كانوا يطلبون من الخطيب إعادة بعض الفقرات لم تسمع آذاننا أبدا مقالا جميلا كهذا.أما المقالات الأخرى من أية ديانة أو مذهب فلم يتضمن أحد منها في الحقيقة ردا على الأسئلة المطروحة، بل تناول كل خطيب السؤال الرابع فقط، ولم يلتفت إلى الرد على الأسئلة الأخرى إلا قليلا.وكان معظم الخطباء يتحدثون بكلام فارغ كثير لا طائل إلا ما كتبه حضرة ميرزا، فإنه تناول جوابا مفصلا وكاملا لكل سؤال على حدة.وإن مقاله هو وحده الذي أنصت إليه الحضور منه.اللهم باهتمام ورغبة شديدين، وكانت أفكاره عالية وقيمة جدا.إننا لسنا من أتباع حضرة ميرزا ولا نمت إليه بصلة، ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن نتخلى عن العدل والإنصاف أبدا، ولا يمكن من ذوي النظرة السليمة والضمائر الحية أن يقوم بمثل ذلك.لأحد لقد أجاب حضرته - كما هو المفروض - على كل الأسئلة مستندا

Page 27

مقدمة الطبعة الأردية إلى ما ورد في القرآن، وساق أدلة عقلية وفلسفية على صدق معظم التعاليم الإسلامية الهامة من أصول وفروع.كان أوّلاً يسوق أدلة منطقيةً على صدق المسائل الدينية، ثم يُتبعها بآيات من كلام الله تعالى، وكان لهذا الأسلوب الرائع شأن عجيب وتأثير كبير.إن حضرة ميرزا لم يكتف ببيان الحكمة وراء التعاليم القرآنية، بل بين أيضا اشتقاق الكلمات القرآنية والحكمة في اختيارها.فالخلاصة أن مقاله كان مكتملا وشاملا من كل النواحي، رصعه بلالئ متألقة من المعارف والحقائق والحكم والأسرار.لقد عرض فلسفة الإلهيات بأسلوب انبهر به أتباع كل الديانات.ولم يشهد الناس خطاب أي خطيب بالعدد الذي كان لدى قراءة مقاله.كانت القاعة بكل طوابقها مزدحمة بالخلق الذين استمعوا إليه باهتمام وإنصات شديدين ويكفى لبيان الفارق الكبير بين مقال حضرة ميرزا ومقالات الآخرين أن نذكر أن الناس ازدحموا لدى قراءة مقاله ازدحام الذباب على العسل، ولكن أثناء خطب الآخرين كان الحضور يتركون مقاعدهم ويخرجون سأمًا ومَلَلا.كان خطاب المولوي محمد حسين البطالوي تافها جدا.إذ لم يشتمل إلا على ما نسمعه دائما من المشايخ من أفكار بالية.لم يكن في خطابه شيء جديد.ولقد خرج العديد من القاعة أثناء خطابه

Page 28

مقدمة الطبعة الأردية الثاني الذي كان تتمةً لما سبق، كما لم يُسمح له بمهلة ولو لبضع دقائق كي يكمل خطابه.(جريدة "جودهوين صدي"، راولبندی، يوم ١٨٩٧/٢/١م).٣- ونشرت جريدة "جنرال وجوهر آصفي" خبر المؤتمر بعنوانين بارزين وقالت: مؤتمر الأديان العظمى بلاهور وفتح الإسلام قبل الحديث عن وقائع المؤتمر نرى ضروريا أن نذكر أنه قد سبق أن تناقشنا على صفحات هذه الجريدة عمن هو أفضل وأحق مسلم للدفاع عن قضية الإسلام في هذا المؤتمر كان أحد مراسلينا الكرام - بدون أي تعصب، وتأييدا للحق - قد رشح اسم حضرة ميرزا غلام أحمد • زعيم قاديان، وتصادف أن اقترح اسم حضرته أيضا واحد من أصدقائنا الكرام في رسالته إلينا.كان المولوي سيد فخر الدين رشح بكل قوة وشدة، وبأدلة قوية..اسم حضرة ميرزا غلام أحمد القادياني، واسم السير سيد أحمد مؤسس جامعة "عليكرة".وتستمر الجريدة فتقول: الآن، نخبر القراء بالجواب على سؤال : مَن مِن علماء المسلمين الهنود الذين ثارت حمِيتُهم الدينية غيرةً على الإسلام عند قراءة

Page 29

مقدمة الطبعة الأردية الإعلانات وتلقي الدعوة من أصحاب المؤتمر، فتقدموا للذود عن حياضه؟ وإلى أي مدى سعوا بدافع حماية الإسلام لتقديم الأدلة والبراهين لترسيخ عظمة الفرقان في قلوب غير المسلمين؟ لقد علمنا من مصادر موثوق بها أن منظمي المؤتمر وجهوا الدعوة بالبريد خاصة إلى حضرة ميرزا غلام أحمد، وإلى السير سيد أحمد.أما حضرة ميرزا فلم يستطع أن يحضر المؤتمر بنفسه لاعتلال صحته..إلا أنه بعث بمقال له، واختار لقراءته على مسامع الناس تلميذه الخاص المولوي عبد الكريم السيالكوتي.وأما السير سيد أحمد..فلا هو حضر المؤتمر، ولا أرسل أي مقال وليس ذلك لأنه قد صار طاعنا في السن، ولا يقدر على حضور مؤتمر كهذا، أو لأنه كان قد تقرر عقد مؤتمر علمي في مدينة "ميرث" في نفس التورايخ، كلا، وإنما لأن المؤتمرات الدينية لم تكن لتجذب اهتمامه.لقد صرح في رسالة له أنه ليس بواعظ ولا مرشد ولا شيخ..وهذا العمل يخص الواعظين والمرشدين.كما علمنا لدى مشاهدة أحداث المؤتمر، وبعد التحري والبحث..أن كلا من الشيوخ الكرام المولوي سيد محمد علي الكانفوري، والمولوي عبد الحق الدهلوي، والمولوي أحمد حسين العظيم آبادي..لم يُبْدِ أي حماس ديني عند انعقاد هذا المؤتمر.ولم يكن بين من نطلق

Page 30

عليهم مقدمة الطبعة الأردية "العلماء المقدسون" أحدٌ عبر عن عزمه على قراءة مقال له في المؤتمر..اللهم إلا اثنين أو ثلاثة منهم فإنهم دخلوا هذا المضمار ولكن بدون جدوى، ذلك إما لأنهم لم يتحدثوا حول المواضيع المطروحة، أو لأنهم تحدثوا بما لا يسمن ولا يغني من جوع.فأحداث المؤتمر تؤكد أن حضرة ميرزا غلام أحمد القادياني وحده - بكل جدارة وحق - هو الذي تصدى في هذا المضمار بطلاً للإسلام، وأثبت صحة اختياره هو خاصةً كمحام للدفاع عن قضية الإسلام..ذلك الاختيار الذي تم بأيدي المسلمين من فرق مختلفة، و من مدن هندية شتى مثل ،بشاور ،وراولبندي، وجهلم، وشاه بور، وبهيره، وخوشاب، وسيالكوت وجامون ووزير آباد، ولاهور، وأمرتسار، وغورداسبور، ولدهيانه، وشمله، ودلهي، وأنباله، وولاية بتياله، وديره دون وإله آباد ،ومدراس وبومباي، وحيدر آباد دكن، وبنغلور..وغيرها.الحق أنه لولا مقال حضرة ميرزا في هذا المؤتمر للحق بأهل الإسلام وصمة عار وهوانٍ وندامةٍ أمام أتباع الملل الأخرى.ولكن يد العناية الإلهية القوية ساندت الإسلام وأنقذته من السقوط، بل كتب لدينه بهذا المقال نصرًا وغلبة..حتى إن الأعداء قبل الأصدقاء - بحماس لم يتمالكوا أنفسهم فقالوا: إن هذا المقال غالب على فطري

Page 31

مقدمة الطبعة الأردية غ عند غيره، وأفضل مما سواه.بل لقد جرى الحق على ألسنة المعاندين انتهاء المقال فاعترفوا قائلين: الآن انكشفت لنا حقيقة الإسلام، ولا شك أنه قد انتصر.فلا مجال لأحدٍ بعد اليوم أن يعارض هذا الانتخاب الإجماعي من مسلمي الهند الذي ثبت صوابه كالسهم الذي يصيب الهدف.بل الحق أنه كان مدعاة شرف ومفخرة للمسلمين وشوكةً وعظمة للإسلام، ثم إنه الحق الواقع.ومع - أن هذا المؤتمر كان الثاني من نوعه..إلا أنه – نظرا لعظمته وشأنه ونجاحه – قد فاق جميع المؤتمرات والاجتماعات الأخرى التي انعقدت في مدن هندية شتى.لقد شارك فيه علية القوم من مدن عديدة.وإننا نعلن بكل فرحة ومسرة أن مدينتنا "مدراس" أيضا اشتركت فيه.لقد اشتدت رغبة الناس فيه لدرجة أن اللجنة المشرفة على المؤتمر اضطرت لمد يوم أن اللجنة اختارت آخر فوق أيامه المحددة.ومع قاعة الكلية الإسلامية لعقده..وهي أوسع مكان في لاهور..فمع ذلك لم تكف القاعة على سعتها للجماهير الكثيرة، مما يشكل دليلا كافيا على نجاح هذا المؤتمر وعظمته.وعلاوة على حضور شخصيات سياسية بارزة من البنجاب..حضره أيضا بكل رغبة

Page 32

(..مقدمة الطبعة الأردية وشوق السيد بابو برتولي تشاندر قاضي المحكمة العليا والسيد بينر قاضي المحكمة العليا بـ"إله آباد".(جريدة "جنرال وجوهر آصفى كلكته، ١٨٩٧/١/٢٤م) تعليقات من شخصيات عالمية نشر هذا المقال العظيم بنصه في "تقرير مؤتمر الأديان أولا، ثم طبـ طبعات عديدة في صورة كتاب بلغات شتى، منها الأردية - وهي والإنجليزية والفرنسية، والهولندية، والأسبانية، اللغة الأصلية - والألمانية، والعربية.وقد علق عليه العديد من الفلاسفة الكبار، والمفكرين الغربيين، والصحف والمجلات العالمية تعليقات قيمة..نذكر منها ما يلي: * كتبت جريدة برستُل تايمز آند مرز (Bristol Times & Mirror): لا جرم أن الذي يخاطب أهلَ أوربا وأمريكا بهذا الأسلوب ليس إنسانا عاديا.* وقالت جريدة سبريتيوال جورنال Spiritual Journal) من بوسطن: إن هذا الكتاب لبشارة عظيمة للإنسانية.

Page 33

مقدمة الطبعة الأردية * وجاء في تيوسوفيكال بُك نُوتُس Theosophical Books :(Notes هذا الكتاب يقدم دين محمد بأفضل وأروع صورة.* وعلقت مجلة إنديان) ريفيو Indian Review) بما يلي: يشتمل هذا الكتاب على أفكار نيرة شاملة وحكيمة، ولا يسع القارئ إلا أن يثني عليه.* وعلقت مجلة (مسلم) ريفيو Moslem Review) بقولها: سوف يجد القارئ في هذا الكتاب أفكارا صادقة، وحقائق دقيقة تغذي الروح.هذا، ومن مزايا هذا الكتاب أنه لا يتضمن ما يُعدّ هجومًا على أية ديانة أخرى، وإنما يحتوي على محاسن الإسلام فقط، ويرد على الأسئلة المطروحة في ضوء ما ورد في القرآن..ردا يثبت كون الإسلام أكمل الديانات وأحسنها وأتمها.(بتصرف، عن الخزائن الروحانية مجلد ۱۰، المقدمة)

Page 34

Page 35

1 التي بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم الإسلام ضرورة تقديم الدعوى والدليل من الكتاب السماوي إنني أتولى اليوم إظهار محاسن الإسلام في هذا الجلسة المباركة كان الغرض منها أن يبين فيها كل مندوب مزايا ،دينه، مراعيا في ذلك الأسئلة الخمسة المعلنة من قبل.أنني وقبل الخوض في بيان مطلبي، أرى من المناسب أن أخبركم أتعهد فيما أنا قائله ألا أذكر إلا مما ذكره القرآن المجيد..كلام الله الطاهر..لأنني أرى لزاما على كل من يتدين بكتاب يعتقد أنه وحي رباني..أن يردّ على كل سؤال مستندا إلى ما ورد في كتابه هو، وألا يتوسع فيما أسند إليه من سُلطة التمثيل، بحيث ينشئ من عنده كتابًا جديدًا.

Page 36

وبما أننا أخذنا على عاتقنا أن ندلل على محاسن القرآن الكريم، ونبين كمالاته، فحري بنا ألا نخرج عمّا بينه القرآن بنفسه في أي أمر، وألا نكتب أي شيء إلا اعتمادا على ما ورد في آياته من تلميحات أو تصريحات، ذلك لكي تسهل المقارنة على السامعين الكرام.وبما أن المأمول من كل متحدث أن يلتزم بنقل ما ورد في كتابه المقدس فقط؛ لذلك تركنا الأحاديث النبوية جانبا، وإن كانت الأحاديث الصحيحة مستمدة من القرآن الكريم نفسه، فهو الكتاب الكامل الذي ختمت به جميع الكتب.فاليوم يوم ظهور جميع عَظَمة القرآن الكريم.وإننا ندعو الله تعالى أن يكون لنا ناصرا ومعينا في هذه المهمة.آمین

Page 37

السؤال الأول حالات الإنسان الطبعية والأخلاقية والروحانية أرجو أن يتذكر السامعون الكرام أنهم سيجدون في أول هذا المقال كلمات تمهيدية لا تبدو ذات صلة بالموضوع، ولكنها في الحقيقة ضرورية جدا لتوضيح المطلوب، لذلك ذكرناها حتى لا يصعب على أحد إدراك الغرض المقصود.الحالات الثلاث للنفس البشرية لا يخفى أن السؤال الأول يتصل بحالات الإنسان الطبعية والأخلاقية والروحانية.فاعلموا أن كلام الله القرآن الكريم قد قسم هذه الحالات الثلاث تقسيما يحدد لها ثلاثة مبادئ، لكل حالة منها مبدأ على حدة.وبعبارة أخرى: إنه جعل لكل حالة من هذه الحالات الثلاث ينبوعا خاصا تنبع منه.

Page 38

الحالة الأولى: النفس الأمارة يسمي لجميع القرآن الكريم الينبوع الأول الذي يُعتبر مَوْردًا ومصدرًا الحالات الطبعية "النفس الأمارة"، وذلك في قوله تعالى: إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسوء (يوسف: ٥٤)..أي أن من خواص النفس الأمارة أنها تميل بالإنسان إلى السيئات التي تغاير الأخلاق وتنافي الكمال، وتدفعه إلى السير في مسالك السوء ومذاهب المنكر.فخروج الإنسان عن حد الاعتدال وجموحه إلى السيئات، حالةٌ تسبق حالته الأخلاقية وتستولي عليه بصورة طبيعية، وتسمى هذه الحالة طبعية ما لم يمش الإنسان في ظل العقل والمعرفة، وإنما يتبع - كالبهائم- النوازعَ الطبعية في الأكل والشرب والنوم واليقظة والغيظ والغضب وما شابه ذلك من الميول والأهواء.أما إذا تصرف في حالاته الطبعية على ضوء توجيه العقل والعرفان، وراعى فيها حد الاعتدال المطلوب، فلا تبقى هذه الحالات طباعًا، بل تصير أخلاقا، كما سنبينه بالإيجاز فيما بعد.الحالة الثانية: النفس اللوامة وأما منشأ الحالات الأخلاقية فاسمه في القرآن المجيد "النفس اللوامة"..كما يقول الله عز وجل: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ

Page 39

اللوَّامَةِ (القيامة): (۳)..أي أقسم بالنفس التي تلوم ذاتها على كل مأثمة تغشاها أو زلة تبدر منها.هذه النفس اللوامة هي الينبوع الثاني الذي تنشأ منه الحالات الأخلاقية.وإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة نجا من مشابهة الأنعام.وقد أقسم الله هنا بالنفس اللوامة تنويها بمكانتها، فكأنما استحقت عند الله هذا الإكرام لأنها انسلخت عن طبيعتها الأولى الأمارة بالسوء، وارتقت إلى درجة النفس اللوامة.وقد سماها الله "اللوامة" لأنها تلوم الإنسان على إتيان السيئة، ولا ترضى له أن يسترسل في دوافعه الطبعية استرسال الأنعام المطلقة القيود وأن يعيش عيشة البهائم، بل تريد ألا يصدر منه إلا خير الحالات وصالح الأخلاق وألا يتجاوز حد الاعتدال في جميع لوازم الحياة، وأن يلبي رغباته وأهواءه الطبعية باسترشاد من العقل.وبما أن النفس تلوم الإنسان على ارتكاب السوء..فلذلك وصفها الله باللوامة، أي كثيرة اللوم.والنفس اللوامة وإن كانت تمقت الانصياع للنوازع الطبعية، ولا تنفك تلوم نفسها..فإنها مع ذلك لا تكون قادرةً كل القدرة على عمل الصالحات، بل إن النوازع الطبعية تصرعها أحيانا، فتتعثر

Page 40

وتسقط كأنها طفل ضعيف يحاول ألا يسقط، إلا أنه يسقط بسبب ضعفه، ويأسف على عجزه هذا.وخلاصة القول..إن هذه حالة أخلاقية تجمع بها النفس في ذاتها مكارم الأخلاق، وتكره الطغيان والفسوق..ولكنها لا تستطيع أن تتغلب على النفس الأمارة حق الغلبة.الحالة الثالثة: النفس المطمئنة بعد هذا، وهناك منبع كلها..اسمه في مصطلح القرآن الحكيم: "النفس المطمئنة"، وقد ورد ذكره في قول الله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) (الفجر : ثالث ينبغي اعتباره مصدرًا للحالات الروحانية.(۳۱-۲۸ إِلَى هذا هو المقام الروحاني الذي تتخلص فيه النفس من كل ضعف، و تمتلئ من القوى الروحانية، وتتصل بربها اتصالا لا تكاد تحيا بدونه.وكما أن السيل ينحدر متدفقا في جريانه تدفقا شديدا بسبب غزارة مياهه وانعدام العوائق، فكذلك النفس المطمئنة تنطلق مندفعة إلى الله.وإلى هذا الاندفاع تشير الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً).

Page 41

V فالنفس تتبدل تبدلا عظيمًا في هذه الحياة، كما بعد الموت، وتجد نوعا من الجنة في هذا العالم، كما في غيره؛ كما تقول الآية ارْجِعِي إلَى رَبِّكَ..أي تعالي إلى من ربّاك..فإن هذه النفس عندئذ تتربى بربوبية الله، وتتغذى من حُبِّ الله، وتستقي من ذلك المعين الواهب للحياة، فلا تذوق الموت أبدا؛ كما جاء ذلك في قوله تعالى قد أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس: ١٠-١١)..أي ﴾ من طهر نفسه من النوازع الأرضية فقد نجا من الهلاك، وأما من أخلد إليها فقد يئس من الحياة.فهذه هي الحالات الثلاث التي يمكن أن نسميها بعبارة أخرى- الحالات الطبعية والأخلاقية والروحانية.وبما أن النوازع الطبعية تصبح عند الإفراط خطرًا عظيمًا، وكثيرا ما تُفسد أخلاق الإنسان وتتلف روحانيته، لذلك فقد عُبر عنها في كتاب الله القدوس باسم النفس الأمارة بالسوء.تفاعل الجسد والروح وإذا سأل سائل: ما هي تعاليم القرآن المجيد لأجل إصلاح الحالات الطبعية؟ كيف يرشد الإنسان في شأنها، وإلى أي حد يسمح بالعمل بمقتضاها؟

Page 42

فالجواب - وفق هداية الفرقان - أن هناك روابط شديدة للغاية بين الحالات الطبعية والحالات الأخلاقية والروحانية، حتى إن أسلوب المرء في الأكل والشرب يؤثر أيضا في حالاته الأخلاقية والروحانية.ولو استخدم الإنسان أحواله الطبعية بمقتضى الشريعة لتحولت كل أحواله الطبعية أخلاقًا كما تتحول الأشياء في داخل الملح مِلحًا، ولأثرت في روحانيته تأثيرًا عميقا.ومن أجل ذلك اهتم القرآن المجيد أشد الاهتمام برعاية الطهارة الجسمانية والآداب الظاهرية والحركات الجسدية في سائر العبادات وفي جميع الفرائض التي كان القصد منها إخضاع النفس وتزكية الباطن.وإذا أمعنا النظر تبين لنا أن الفلسفة الصحيحة الصائبة للغاية هي أن للأوضاع الجسمانية تأثيرًا قويًا في الروح*..فإننا نرى أن أفعالنا الطبعية، وإن كانت جسمانية، إلا أن لها أثرا محسوسا في حالاتنا النفسية والروحانية يقينا.فالعين مثلا إذا أخذت في البكاء ولو تصنعًا..فلا بد أن تنبعث من الدموع لوعة تسري إلى القلب، يخضع لها ويكتئب.وكذلك لو ضحكنا – وإن يكن تكلفا اكتسب الروح هي الكيان المعنوي للإنسان، وتتعلق بها الحالات النفسية التي تشمل الطباع والانفعالات والعوارض النفسية، فمثلا عندما نقول: إن فلانا هادئ الطبع، فهو يتعلق بروحه لا بجسده.بينما لو قلنا هذا الشخص طويل فهذا يتعلق بجسده.(المترجم)

Page 43

१ الفؤاد فرحًا وانبساطًا.وكذلك نرى أن السجود الجسماني يولد في نفس الساجد حالة من التضرع والخشوع.كما نشاهد بالعكس أنه لو مشى الإنسان رافعا رأسه مبرزا ،صدره فمشيته هذه تولد في نفسه كبرا وغطرسة.ومن هذه الأمثلة يتبين تماما أن للأوضاع الجسمانية أثرا في الحالات النفسية والروحانية من دون ريب.تأثير الأغذية في سلوك الإنسان السنة كذلك تثبت لنا التجارب أن الأغذية المتنوعة تؤثر أيضا في الوظائف الفكرية والقوى النفسية دون شك.انظروا مثلا إلى الذين لا يأكلون اللحوم أبدا..كيف تضمحل فيهم قوة الشجاعة شيئا فشيئا حتى إنهم يصبحون جبناء للغاية، وهكذا يفقدون قوة محمودة هي إحدى مواهب الرحمن ونجد على ذلك شاهدا آخر من الإلهية الجارية في الحيوانات التي تقتات على الأعشاب، إذ لا يوجد من بينها حيوان واحد له مثل شجاعة الحيوان الذي يتغذى باللحوم.وهذا هو المشاهد أيضا في الطيور.فلا شك إذا أن الأغذية تؤثر في الأخلاق تأثيرا عظيما.أجل..إن الذين يُغرمون باللحوم ليل نهار، ولا يتناولون من الأغذية النباتية إلا قليلا جدا، يتضاءل فيهم خُلق الحلم والتواضع.

Page 44

أما الذين يتخذون طريقا وسطًا بينهما فيكسبون كلا الخُلقين.ولهذه الحكمة نفسها أمرنا الله تعالى بقوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا (الأعراف:٣٢)..أي كُلوا من اللحوم ومن الأغذية الأخرى أيضا، ولا تفرطوا في شيء مما تأكلون، لئلا تتضرر أخلاقكم من الإفراط، ولا تتضرر به صحتكم أيضًا.هذا وكما أن الأفعال الجسمانية تؤثر في الروح، كذلك فإن للروح تأثيرًا ينبت في الجسد أيضًا في بعض الأحيان.فمَنْ أصابه الغم اغرورقت عيناه بالدموع، ومن أحس بالسرور افتر مبسمه.إن جميع أفعالنا الطبعية الضرورية - كالأكل والشرب والنوم واليقظة والحركة والسكون والاغتسال وغيرها - تؤثر في حالاتنا الروحانية.ثمة رابطة محكمة بين تكويننا الجسماني وتركيبنا النفسي، إذ تذهب الذاكرة فجأة عند إصابة مركزها في الدماغ، وقد يغيب الإنسان عن الوعي والحس تماما بإصابة المركز الحسي في الدماغ.وكذلك ترون أن نَسَمة من الهواء السام الموبوء سرعان ما تؤثر في الجسد، وتنتقل منه إلى القلب، فلا يلبث أن يختل النظام النفسي الذي به قوام الأخلاق كلها، حتى يصبح الإنسان كالمتخبط الذي مسه الجنون، فما يلبث أن يفرط في بضع دقائق.

Page 45

۱۱ نشأة الروح من الجسد فالإصابات الجسمانية تُرينا مشهدًا عجيبًا يُثبت أن بين الروح والجسد علاقة ليس في وسع الإنسان أن يكشف سرها المكنون، وأعجب من ذلك أننا إذا تدبرنا وجدنا أن الجسد بمنزلة الأم للروح.إن الأرواح لا تتنزل أبدًا في بطون الحوامل من جوّ السماء ، وإنما هي نور مكنون في النطفة نفسها ذاتها، ينكشف شيئا فشيئا مع نشوئها ونموّها.يخبرنا كلام الله الكريم بأن الروح تنشأ من الجسد ذاته الذي يتكون من النطفة في الرحم كما يقول الله في كتابه الكريم..حيث يذكر تكون الإنسان من النطفة فالعَلَقة: ثُم أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا أَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: (١٥)..أي أننا ننشئ الجسد المتكون في الرحم نشأة أخرى، ونبرز له خلقا آخر يسمى الروح.فالله ذو بركات كثيرة وهو أحسن من يخلق وأما قول الله تعالى هنا بأننا من نفس القالب تبرز خَلقًا آخر، فهو سر عميق يبين لنا حقيقة الروح، ويوضح العلاقة المتينة التي تربطها بالجسد.وإذا فهمنا هذه العلاقة أدركنا أيضا كيف تعمل الحكمة هذه عقيدة الهندوس وغيرهم.(المترجم)

Page 46

۱۲ الإلهية عملها في أفعال الإنسان وأعماله وأقواله الطبعية كلها، وكيف أن الأعمال الخالصة لله تعالى تكمن بداخلها روح منذ البداية كما تكمن الروح في النطفة منذ البداية، وبقدر ما تتبلور وتتضح صورة الأعمال تزداد هذه الروح صقلا، حتى إذا اكتملت بنية العمل لمعت فيه الروح فجأة بتجليها الكامل، وتثبت نفسها كوجود روحي مستقل، فهنالك تبتدئ في جسد الأعمال حركة الحياة المحسوسة.وما أن يكتمل جسد الأعمال حتى ينبثق في داخلها، فجأةً، شيء كالبرق يتلألأ تلألوا واضحًا.وهذه هي الفترة التي و يصفها الله، تمثيلا، في كتابه الحميد بقوله: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَحْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر: ٣٠)..أي إذا أتممتُ قالبه، ووضعتُ جميع مظاهر التجليات في مواضعها، ونفخت فيه من روح ، وجب عليكم جميعا أن تخروا له على الأرض ساجدين.فالآية تشير إلى نفس المعنى..أي أنه عندما يكتمل قالب الأعمال، تتجلى فيه تلك الروح التي نسبها الله إلى ذاته.وبما أن هذا القالب لا يتكون إلا إذا طرأ الفناء الكامل على حياة الإنسان المادية، لذلك يُشرق فيه النور الرباني دفعة واحدة بعد أن كان ضئيلا..وعندها يجب على كل من يشاهد هذه العظمة الإلهية أن يسجد لله

Page 47

۱۳ وينجذب إليه.وهكذا يسجد الجميع عند رؤية هذا النور..ويُقبلون عليه بطبعهم..إلا إبليس اللعين الذي يحب الظلام.لا يخلو من الفائدة ذكر نقطة ههنا، وهي أن الجنين الذي يتكوّن في الرحم يبدأ بالحركة والنشاط بعد أربعة أشهر وعشرة أيام.وهذه الفترة تقارب نصف الفترة التي يبقى فيها الجنين في فكما يبدي الجنين آثار حياته في الشهر الرابع وينتقل من الرحم.الهيئة النباتية إلى الهيئة الحيوانية، فإن قانون الطبيعة نفسه ينطبق على الولادة الروحانية، أي كما أن الجنين يُبدي آثار الحياة ومن ثم يُظهر نموذجا كاملا للحياة بعد قضاء نصف الفترة المحددة له فيه، كذلك فإن الحالة نفسها مقدرة للحياة الروحانية إن متوسط عمر الإنسان الخالي من شوائب اختلال الحواس يقدَّر بثمانين عاما في أغلب الحالات، ونصف الثمانين هو الأربعون الذي يشبه إلى حد كبير لفظ الأربع، أي أن من عند انقضاء الأشهر الأربعة تنفخ في الجنين روح الحياة.فالتجربة الصحيحة توحي أنه حين يقضي الإنسان نصف حياته السليمة، أي يقضي فترة أربعين عاما المشابهة لفترة أربعة أشهر من النص الوارد بين هذه النجمة والنجمة التالية في صفحة ١٧ موجود في المسودة الأصلية إلا أنه لم ينشر في الطبعة الأولى، ونضيفه الآن بإذن من حضرة الخليفة الخامس أيده الله.(الناشر)

Page 48

12 بقائه في الرحم أو يبلغ رأس أربعين عاما عندها تبدي روح - الصدق - إذا وُجدت في طبيعته - آثارها بصورة بارزة وتتنشط.لا يخفى على أحد أن فترة الظلام تظل مستولية على الإنسان في معظم الحالات قبل بلوغه أربعين عاما، إذ تمر سبعة أو ثمانية أعوام في الطفولة، ثم يظل عاكفا على التحصيل العلمي إلى ٢٥ أو ٢٦ عاما أو يضيعها في اللهو واللعب وبعد هذه الفترة تتغلب عليه أطماع دنيوية مختلفة إما نتيجة زواجه وعياله أو بسبب ميوله الطبيعية، فتتولد في قلبه أصناف الأماني والأطماع في الأموال والأعراض الدنيوية فتبلغ أفكاره حد الإفراط من أجل الملذات الدنيوية لدرجة أن الأطماع الدنيوية ترافقه إلى حد ما حتى لو توجه إلى الله تعالى.ولو انصرف إلى الدعاء أحيانا في هذه الحالة فإن دعاءه يكون من أجل الأمور الدنيوية في أغلب الأحيان؛ وإذا بكى كانت بعض الأغراض الدنيوية أيضا تشوب دوافع بكائه.وإيمانه بيوم المعاد يكون ضعيفا جدا.وإذا كان يؤمن بالمعاد فيداخله شعور أن هناك فترة طويلة أمامه قبل الممات.إن سيل الأهواء النفسانية يعرض حياته لخطر كبير مثل انهيار سد النهر الذي يهلك سيله الحرث والأرض حوله، فأنى له أن يدرك في هذه الحالة أمورا دقيقة تتعلق بالمعاد؟ بل يسخر من الأمور الدينية ويستهزئ بها ويُقدم عليها منطقه الجاف وفلسفته البذيئة.أما إذا كان سليم الفطرة فيؤمن بالله تعالى، ولكن

Page 49

ليس بصدق القلب والإخلاص، بل يجعل إيمانه هذا مشروطا بتحقق مراداته، فلو تحققت مراميه صار الله وإلا فللشيطان.فباختصار، إنه يمر في فترة الشباب بحالة خطرة جدا، وإن لم تأخذ رحمة الله بيده لوقع في حفرة من النار.الحق أن في هذه الفترة من العمر يوضع الأساس للمفاسد كلها.ففي هذه الفترة نفسها يعرّض الإنسان نفسه لمعظم الأمراض الجسدية والأعراض المخجلة، وأحيانا نتيجة أخطائه في هذا السن غير الناضجة – يُعرض عن الإله الصادق الذي لا يتغير.باختصار، في هذه الفترة تتضاءل عنده خشية الله وتغلبه النفس فيسعى لإشباع الشهوات، ولا يريد أن يسمع لناصح، فيتحمل طوال حياته وبال أخطاء ارتكبها في تلك الفترة.ثم عندما يبلغ أربعين عاما تبدأ ثورة الشباب تهدأ رويدا رويدا، فيندم على كثير من أخطائه التي أعيت ناصحيه من قبل، وتظل ثوائر النفس عنده تخمد تلقائيا، لأن مرحلة زوال العمر من حيث القوى الجسدية تكون قد بدأت فأنى للدم الثائر أن يتولد الآن كما كان يتولد قبلا، ولا تبقى في الأعضاء تلك القوة المعهودة، ولا يعود هناك نشاط الشباب و نشوته كما كان سابقا، بل يحل زمان الانحطاط والنقصان.ويرى الإنسان في مثل هذا السن موت الذين كانوا يكبرونه سنوات، بل يقصم الظهر أحيانا موت الصغار بحسب القضاء والقدر؛ وعلى الأغلب في هذه الفترة من العمر يكون الوالدان أيضا قد فارقاه

Page 50

١٦ وصارا من المقبورين، كما تظهر له نماذج أخرى دالة على عدم بقاء هي هذه الدنيا، وكأن الله تعالى يضع أمامه مرآة ويقول له هذه حقيقة هذا العالم الفاني، وهذا هو مآل هذه الحياة التي تزهق نفسك حسرة عليها.عندها ينظر الإنسان إلى أخطائه السابقة بعين الحسرة ويحدث انقلاب عظيم في حياته فيتراءى له عالم جديد شريطة أن يكون سليم الفطرة ومن الذين دعوا بقوله: ارجعي إلى ربك...وعن هذا الموضوع نفسه يقول الله جل شأنه: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف : (١٦)، أي وصينا الإنسان أن تبرّ إلى والديك ولتضع في اعتبارك المشاق التي تحملتها أمك من أجلك، إذ إنها ظلت فترة من الزمن تكابد المصاعب بسبب حملها بك، ثم وضعتك بالآلام والمشاكل، فقد تحملت طيلة ثلاثين شهرا كل هذه المصائب بسبب حملها بك وإرضاعك.ثم يقول تعالى : عندما يبلغ الإنسان أربعين سنة ويبلغ أشده يتذكر وصايا الله تعالى ويقول: رب وفقني لأشكر نعمك أنعمتها علي وعلى والدي.رب أوزعني أن أقوم بأعمال ترضاني بها.وأصلح لي في ذريتي..يعني: إن كنت مقصرا في حق والدي التي

Page 51

۱۷ فأتمنى ألا يقصر أولادي في حقي، وإذا كنت في حياتي طائشا فلا يكونوا طائشين مثلي.رب إني تبت إليك وأصبحت من المسلمين.الله تعالى في هذه الآية أن السنة الأربعين تكون مباركة فقد وضح لعباده الصالحين.فمن كانت فيه روح الصدق فلا بد أن تتنشط في السنة الأربعين.ولقد بعث معظم أنبياء الله تعالى على رأس السنة الأربعين من أعمارهم، وسيدنا ومولانا محمد المصطفى بعث لإصلاح خلق الله تعالى وهو في الأربعين من عمره.الروح مخلوقة أيضا والآن نعود إلى ما كنا بصدده فنقول: إن الحق الذي لا ريب فيه مطلقًا هو أن الروح نور لطيف ينشأ من الجسد الذي يتكون داخل الرحم.والمراد من نشوء الروح من الجسد هـو ظهورهــا بعـد الكمون..وقد كانت خميرتها مستترة في النطفة منذ البداية.إنها بلا شك، وبأمرٍ وإذن ومشيئة من رب السماء..تتعلق بالنطفة علاقــــة غامضة.إنها جوهر نوراني للنطفة.لا نستطيع القول إنها جزء مـــن النطفة كما يكون العضو جزءا من الجسم، كما لا نستطيع القول أيضا إنها تدخل في النطفة من الخارج، أو أنها تهبط مـــن السماء فتمتزج بمادة النطفة، بل إنها كامنة في النطفة كمون النار في الزند.

Page 52

۱۸ لا يقول كتاب الله أن الروح تتنزل من السماء نزولا منفصلا، أو تهبط على الأرض من الفضاء..ثم تختلط بالنطفة مصادفة وتتسرب معها إلى الرحم.إن هذا الزعم لا يصح أبدا، ولئن ظننا هذا لكذبتنا سنن الفطرة.فإننا نرى كل يوم ألوفا مؤلفة من الديدان والجراثيم تتكون في الأطعمة الآسنة الفاسدة وفي الجروح المتقيحة، ومئات من القمل تتولد في الثياب المتسخة، وأنواع الديدان تتولد في البطن أيضا..فهل نقول إن أرواحها تأتي من الخارج؟ أم هل رآها أحد تتساقط من السماء؟ كلا، بل الحق أن الروح تنشأ من الجسد ذاته، وهذا النشوء نفسه دليل قاطع على كونها من المخلوقات.النشأة الثانية للروح أنه يريد أن يقوم و مقصدنا من هذا البيان هو القول إن الخالق القدير الذي أنشأ الروح بقدرته الكاملة الجسد ذاته..يبدو من بالنشأة الثانية للروح عن طريق الجسد أيضا.إن حركات الروح موقوفة على حركات أجسادنا وحيثما قُدْنا الجسد انقادت معه الروح وتبعثه لا محالة.لذلك كان من واجب كتاب الله الحق أن يهتم بمعالجة حالات الإنسان ،الطبعية، ومن أجل ذلك وجه القرآن

Page 53

۱۹ الكريم عناية خاصة نحو إصلاح أوضاع الإنسان الطبعية، وأمره بمراعاة شروط وآداب معينة فيما يتعلق بالضحك والبكاء، والأكل والشرب، واللبس والنوم، والزواج والعزوبة، والنطق والصمت، والمشي والوقوف، والنظافة الظاهرية بما فيها الغسل وغيره، والمرض والصحة..وغيرها من الأمور، واعتبر هذه الحالات الطبعية ذات تأثير عظيم في حالات الإنسان الروحانية ولئن تناولتُ هذه الأمور بالتفصيل فلا أحسب أن نحصل على وقت كاف لقراءة هذا الموضوع الفسيح.الارتقاء التدريجي للإنسان عندما تدبرتُ كلام الله المجيد، ووجدتُ كيف أن الله تعالى علم الإنسان مبادئ الإصلاح لحالاته الطبعية كي يسمو به تدريجيا إلى الأعلى فالأعلى حتى يبلغ به منتهى المعراج الروحاني..تبين لي أن هذه المبادئ الحكيمة تتلخص في أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم الإنسان أولا آداب القعود والقيام والأكل والشرب والمحادثة وغيرها من آداب المعاشرة، ليُخرجه من الأطوار البهيمية، ويميزه عن مشابهة الأنعام تمييزا كاملا، ويصل به إلى أول حالة أخلاقية تسمى الأدب والتهذيب.ثم أراد الله تعالى أن يخفف من حدة عادات الإنسان

Page 54

۲۰ الطبعية – التي يمكن أن نسميها أخلاقا رذيلة – تخفيفا تتحول به أخلاقا فاضلة.ولكن الحق أن هذين الطريقين شيء واحد لأن كليهما يهدفان إلى إصلاح الحالات الطبعية، وليس الفرق بينهما إلا فرق الأدنى والأعلى، فقد وضع ذلك الحكيم المطلق النظام الأخلاق بحيث يستطيع الإنسان الارتقاء من الخُلق الأدنى إلى الأعلى.حقيقة الإسلام روحانيا الله هي وحده.وتذكيرا بهذه المرتبة سمى الله ثم إن الحالة الثالثة التي وضعها الله تعالى لتقدم الإنسان ليصبح أن يتفانى في حب خالقه ورضوانه ويصبح وجوده كليةً دين المسلمين باسم الإسلام..لأن الإسلام معناه أن يكون الإنسان كله لله، ولا يبقي لذاته من شيء، كما يقول الله جل جلاله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: ۱۱۳)...أي أن الناجي هو ذلك الإنسان الذي ضحى بنفسه في سبيل الله تعالى، وأثبت صدقه ليس بالنية فقط بل بالأعمال الصالحة.ومن فعل ذلك فقد وجب أجره عند الله، وكان من الذين لا يخافون شيئا ولا يحزنون..

Page 55

۲۱ ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: ١٦٣-١٦٤)، ويقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)) (الأنعام: ١٥٤)، ويقول: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبُكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران: ۳۲).أي قل إن صلاتي وتضحياتي، وحياتي وموتي، هي لله الذي تشمل ربوبيته كل الموجودات.لا شريك له من البشر ولا من غير البشر في أي نوع.هذا ما أمرني به، وأنا أول وأفضل من يطبق مفهوم الإسلام..ويبذل نفسه في سبيل الله.هذا هو سبيلي.فهلموا اتبعوا سبيلي ولا تسلكوا غيره من السبل فتنحرف بكم بعيدا عن الله.قل لهم: إذا كنتم تحبون الله فتعالوا سيروا ورائي واسلكوا طريقي وسوف هذا يحبكم الله ويغفر لكم، فهو كثير المغفرة واسع الرحمة.الفرق بين الحالات الطبعية وبين الأخلاق فلنأتِ الآن إلى بيان الحالات الثلاث المذكورة كل على حدة، ولكن يجب أن أذكر أولا بأن الحالاتِ الطبعية التي مصدرها النفس الأمارة ليست منفصلة عن الحالات الأخلاقية، بحسب ما ورد من

Page 56

۲۲ إشارات في كلام الله المجيد..الذي جعل جميع الملكات الطبعية والميول والرغبات الجسدية في عداد الحالات الطبعية، ونفس هذه الحالات الطبعية تتحول إلى أخلاق فاضلة عند صدورها بإرادة صاحبها..مرتبةً معدلةً في محلها الأنسب.وكذلك فإن الحالاتِ الأخلاقية ليست مغايرةً للحالات الروحانية، بل إن الحالات الأخلاقية نفسها تصطبغ بالصبغة الروحانية من خلال التفاني والانمحاء الكامل في الله والتزكية التامة من أجله، والانقطاع الكامل إليه، والحب الخاص له، والوصال الكامل والسكينة والطمأنينة والموافقة التامة معه تعالى.معه، إن الحالات الطبعية لا تؤهل الإنسان للثناء ما لم تصر أخلاقا..إذ لا تخلو منها الحيوانات وحتى الجمادات.كما أن اكتساب الأخلاق الفاضلة وحده أيضا لا يهب للإنسان حياةً روحانية، فقد يتخلق بها ملحد يكفر بالله تعالى.إن استكانة القلب ورقة الفؤاد، والمسالمة، ومجانبة الشر والإعراض عن مقاومة الشرير..كل هذه حالات طبعية يمكن أن يتصف بها شخص غير صالح لا معرفة ولا نصيب له من النجاة الحقيقي.فكم من حيوان يتمسكن ويسالم الإنسان ينبوع بالاستئناس والتأليف والترويض ، فنراه ذلولاً لا يقاوم وإن ضُرب وهو هذا لا نائم، ومع يصح أن نسميه إنسانا، ناهيك عن اعتباره بسبب

Page 57

۲۳ هذه الخصال من الطراز الأول بين البشر.كذلك يمكن أن يتطبع بذلك حتى أسوأ الناس عقيدة، بل من يرتكب بعض الفواحش أيضا.دحض الجينية* ومن الممكن أن تبلغ الرأفة بالإنسان إلى درجة لا يجيز معها قتل الديدان التي تتولد في جروحه، ويشفق على ذوات الحياة بحيث لا يرضى أن يؤذي حتى القَمْلَ الذي يدب في الرأس، والديدان التي تتولد في الأمعاء.بل إنني لأقبل أن تفضي الرحمة بالإنسان إلى أن يعاف العسل إبقاء على النحل، إذ لا يُجمع العسل إلا بعد إزعاج النحل المسكينة من مأمنها وإهلاك الكثير منها.وإني لأسلم أيضا أن يأنف البعض من استخدام المسك لأنه من دم الغزال المسكين..ولأن اقتناءه يؤدي إلى قتله وفصله عن صغاره.وكذلك لا أنكر أن يكف البعض عن استعمال اللآلئ ويمتنعوا عن لبس الحرير رحمةً ورفقا بالحيوان..إذ لا يمكن الحصول عليهما إلا بالقضاء على تلك الديدان الضعيفة.بل إني لأصدق بأن يتورع أحد المصابين من أن يسخر دودة العلق لامتصاص دمه الفاسد، مُؤثِرا تحمل الألم بنفسه الجينية فرقة هندوسية تحرّم أكل أي حيوان.(المترجم)

Page 58

٢٤ على أن يدفع العَلَق المسكين للموت.وفي نهاية الأمر، فإني لأصدق، وإن لم يُصدق غيري، أن تبلغ الرحمة بأحد منتهاها فيترك شُرب الماء ويُهلك نفسه إبقاء على الجراثيم الموجودة في الماء!! نعم، أقبل كل هذا، ولكن لن أقبل اعتبار جميع هذه الحالات الطبعية شيئا من الأخلاق، أو أنها وحدها قادرة على تطهير الإنسان من الأدران الباطنة التي تحول دون وصاله بالله تعالى كلا، لن أصدق أبدا أن مثل هذا التمسكن والهوادة التي قد يفوق البشر فيها قليلا بعضُ الدواب والطيور..تضمَنُ للإنسان الارتقاء إلى الإنسانية السامية.كلا، بل إن ذلك عندي حرب ضد سنن الفطرة، ويتنافى مع خُلق فاضل يُسمى الرضا، وكفران بالنعمة العظمى التي أعطانا الله إياها.ألا إن تلك الروحانية إنما تُنال باستعمال كل خُلق في محله، ثم بالسير في سبل الله بالوفاء، وبالاستسلام التام لله تعالى.ومن كان الله فإنما علامته أنه لا يستطيع الحياة بدونه سبحانه.إن العارف بالله سمكة تذبح بيد الله..وماء حياتها حبه تعالى.

Page 59

طرق الإصلاح الثلاث أعود الآن إلى كلامي السابق.لقد ذكرتُ آنفا أن للحالات البشرية ثلاثة منابع : هي النفس الأمارة؛ والنفس اللوامة؛ والنفس المطمئنة.وكذلك للإصلاح طرق ثلاث.٢٥ الطريق الأول هو النهوض بالمتوحشين الهمج إلى أدنى الأخلاق، وذلك بأن يسلكوا طريق الإنسانية فيما يتعلق بآداب الأكل والشرب والزواج وما شابه ذلك من أمور التمدن البسيط..فلا يمشون عراة، ولا يأكلون الميتة كالكلاب ولا يأتون غير ذلك من أفعال الهمجية.وهذه أدنى مرحلة من مراحل إصلاح الحالات الطبعية.فلو أريد مثلا تعليم الآداب الإنسانية لأحد المتوحشين من بورت بلير ( Port Blair فيعلم أولا ما هو أدنى خلق من الأخلاق البشرية، والأسهل من الآداب الإنسانية.والطريق الثاني هو أنه إذا تمكن أحدٌ من تعلم الآداب الإنسانية الظاهرية يُعلم ما فوقها من الأخلاق الإنسانية الفاضلة، ويدرب على استعمال قواه الكامنة في مواضعها الملائمة.

Page 60

٢٦ والطريق الثالث هو أن هؤلاء المتحلّين بالأخلاق الفاضلة – وهم بعد زهاد ذوو جفاف روحاني - يجب أن يُسقوا رحيق المحبة ويُذاقوا لذة الوصال.هذه هي المدارج الثلاثة من الإصلاح التي بينها القرآن المجيد.بعثة النبي عند الحاجة إلى الإصلاح الكامل لقد بعث سيدنا ومولانا محمد..في زمن كان العالم فيه قد فسد وخرب من كل الوجوه كما يصفه الله تعالى بقوله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (الروم:٤٢).وفساد البر والبحر يشير إلى أن الفساد قد عم أهل الكتاب وغيرهم من الأمم المحرومة من ماء الوحي.وعليه فإن هدف القرآن المجيد في الحقيقة هو إحياء الموتى كما يقول سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ الله الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الحديد : ۱۸).كان العرب يومئذ قد تدنوا إلى أحط درجات الهمجية.لم يعد أي نظام يعلمهم القيم الإنسانية.وكانت المعاصي مفاخر لديهم عندهم يتباهون بها.كان الواحد منهم يحتفظ بمئات الزوجات.وكان أكل الحرام عندهم سائغا كصيد يصطادونه، وكانوا

Page 61

۲۷ يستبيحون نكاح الأمهات، ولأجل ذلك جاء تحريمهن في القرآن بقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (النساء: ٢٤).كذلك كانوا يأكلون الميتة، بل لحم البشر أيضا.ما من مأثمة في العالم إلا كانوا يأتونها.كانوا ينكرون يوم الحساب، وكان أكثرهم يكفرون بالله أصلا، ومعظمهم كانوا يئدون البنات بأيديهم، ويقتلون الأيتام ليأكلوا أموالهم كانوا في الظاهر أناسا..ولكنهم مسلوبو العقول، لا حياء عندهم ولا حشمة ولا غيرة.كانوا يعاقرون الخمر كالماء كان أزناهم أسبَقَهم إلى الرئاسة.وكانوا من الجهالة بحيث إنهم اشتهروا بين الأمم المجاورة جمعاء باسم الأميين.في مثل هذا الزمان، ولإصلاح هؤلاء الأقوام..ظهر في مكة سيدنا ومولانا محمد.فلا شك أن ذلك الزمن كان زمن الإصلاحات الثلاثة التي ذكرناها آنفا.ولأجل ذلك يدعي القرآن الكريم بكونه أكمل وأتم من جميع شرائع العالم.ذلك لأن الصحف الأخرى لم يتيسر لها القيام بهذه الإصلاحات الثلاثة، بينما سنح ذلك للقرآن المجيد.كان هدفه أن يجعل من البشر المتوحش إنسانا متحضراً، ومن الإنسان المتحضر إنسانا ذا خلق، ومن الإنسان المتخلق إنسانا ربانيا.ولذلك يشتمل القرآن المجيد على هذه الأمور الثلاثة.

Page 62

۲۸ طرق الإصلاح الثلاثه هي الهدف الحقيقي من تعليم القرآن وقبل أن نفصل الإصلاحات القرآنية الثلاثة، نرى من الضروري أيضا أن نذكر أنه لا يوجد في القرآن الحكيم تعليم يُكره الإنسان على قبوله بل إن هدف القرآن كله هو الإصلاحات الثلاثة، وهي خلاصة جميع تعاليمه، وأما الأحكام الباقية فهي وسائل للإصلاحات المقصودة فقط.وكما أن الطبيب يلجأ في معالجة المرض واسترداد الصحة إلى التشريح تارة، وإلى التضميد والتدهين تارة أخرى، كذلك فعل القرآن الحكيم..فاستعمل تلك اللوازم في محلها رحمة بالبشر.وكل ما جاء في القرآن المجيد من معارف ووصايا ووسائل إنما ترمي إلى غاية واحدة وهي انتشال الإنسان من حالاته الطبعية التي تصطبغ بصبغة الوحشية، والوصول به إلى الحالات الأخلاقية، ثم إيراده بحر الروحانية الذي لا نهاية له.تتحول الحالات الطبيعية أخلاقا بعد تعديلها لقد قلنا آنفا إن الحالات الأخلاقية لا تختلف عن الحالات الطبعية..بل هي عين الحالات الطبعية التي تتحول إلى أخلاق بعد تعديلها واستعمالها في محلها حسب توجيه العقل.إن تلك الحالات مهما شابهت الأخلاق في ظاهرها - لا تكون قبل خضوعها للعقل

Page 63

۲۹ و حزمه سوى اندفاع الطبع المجرد من الإرادة.فمثلا، إننا لا نعتبر الكلب ذا خلق، ولا الماعز ذا أدب..لكونهما يألفان صاحبهما ويتذللان له.كما أننا لا نسمي الذئب أو الأسد ذميم الأخلاق لشراسة طبعهما، بل إن الحالة الأخلاقية كما تقدم تبتدئ بعد ظهور الحصافة والحزم ومراعاة الظروف.فالإنسان الذي لا يستخدم عقله في شؤونه هو كمثل الطفل الرضيع الذي لم تسيطر القوة العقلية بعد على قلبه ودماغه، أو هو كالمجنون الذي فقد قوى العقل والفكر تماما.ولا يخفى أن مثل هذا الإنسان قد تصدر منه أحيانا أفعال تشابه الأخلاق، ولكن العاقل لا يعدها من الأخلاق في لأنها لا تصدر عن تمييز وبصيرة بل تنبعث من تلقاء نفسها كلما سنح لها دافع.طبعي.فمثلا المولود يُقبل على ثدي أمه حالما يولد، والفرخ بعد الفقس يركض نحو الحب، وكذا صغار العلق تَرِثُ عادات كبارها، وأولاد الأفاعي تبدي عادات الأفاعي، والأشبال تظهر طباع الأسود.وانظروا بالأخص إلى الطفل البشري كيف يبدي الطبائع البشرية فور ولادته، فمتى بلغ سنة أو سنين من عمره..تكشفت تلك الطبائع أكثر فأكثر، فلا يبكي مثلا كبكائه الأول بل يرفعه قليلا، ويصير ضحكه قهقهة، وتلوح في عيونه أمارات نظرات متعمدة.وكذلك يبدو منه في هذا العمر ميل شيء..

Page 64

٣٠ جديد، فهو يُظهر رضاه وسخطه بحركاته، ويبدو منها أنه يريد إعطاء أحد أو ضرب أحد، ومع هذا فلا تكون هذه الحركات إلا طبعية في الواقع.والإنسان الهمجي المتوحش..الذي لم يُعط من العقل والآداب الإنسانية إلا القليل..يشبه الوليد، فإنه أيضا لا يزال يتبع ميول طبعه، ويذعن لها في جميع أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فلا يصدر منه شيء عن تفكير وتدبر من قواه الباطنة، بل كل ما ينطوي عليه طبعه يصدر عنه بحسب البواعث الخارجية.نعم، قد لا تكون جميع ميوله الطبعية بسبب البواعث الخارجية شرا، بل يمكن أن يكون بعضها مشابها للأخلاق الفاضلة، غير أنها تخلو التفكير من وإمعان النظر، وإذا صاحَبَها بعض التعقل فلا اعتبار له بسبب غلبة نوازع الطبع، لأن الاعتبار إنما يكون بجانب الكثرة.الأخلاق الحقيقية زبدة القول إنه لا يجوز أن تُنسب الأخلاق الحقيقية إلى الذي كان أسيرًا للميول الطبعية ويعيش عيشة الوحوش في معظم الأحوال، شأنه شأن البهائم والأطفال والمجانين.إن فترة الأخلاق الصالحة أو غير الصالحة تبتدئ في الحقيقة عندما ينضج العقل

Page 65

۳۱ الموهوب للإنسان فيستطيع به التمييز بين الخير والشر، أو بين شرين أو خيرين، ويجد في نفسه حسرة متى حاد عن طريق الخير، ويندم ويأسف عندما يقترف السوء.هذا هو الدور الثاني من أدوار الحياة البشرية الذي عبر عنه كلام الله القدسي في القرآن المجيد بالنفس اللوامة.ولكن يجب أن تتذكروا أن المتوحش لا يكفيه الوعظ السطحي البسيط وحده كي يصل إلى درجة النفس اللوامة، بل لا بد من أن ينال من معرفة الله نصيبا يدرك به أنه لم يُخلق عبثا ولغوا، ولكي تنشأ فيه الأخلاق الحقيقية بسبب هذه المعرفة الإلهية.ومن أجل ذلك نبه القرآن الحكيم فيما وعظ به الإنسان – إلى معرفة الإله الحق وأكد له أن لكل عمل أو خُلق نتيجة تورث صاحبه في الدنيا نعيما روحيا أو عذابا ،روحيا، ثم تنكشف تلك النتيجة في الحياة الآخرة انكشافا كاملا.- والخلاصة أن الإنسان في حالة النفس اللوامة - ينال من العقل والعرفان والوجدان الصحيح نصيبا بحيث يلوم نفسه على عمل السوء، ولا يفتأ يرغب في العمل الصالح ويحرص عليه.وهذه الحالة التي يكتسب فيها الإنسان الأخلاق الفاضلة.مي

Page 66

۳۲ الخلق والخلق ويجدر بي أن أعرف هنا كلمة الخلق باختصار.فاعملوا أن الخلق اسم للتكوين الظاهري، وأن الخلق اسم للتكوين الباطني النفسي.وبما أن الخِلْقة الباطنة إنما تتكامل بالأخلاق وليس بالميول الطبعية وحدها، لذلك أطلق لفظ الخلق على الأخلاق دون الميول الطبعية.яя ومن المناسب أيضا بيان أنه من الخطأ الفاحش ما يزعمه الناس عامة أن الخُلُق إنما هو عبارة عن الحلم والرفق والتواضع.كلا، بل المراد بالخُلُق جميع كيفيات الكمال البشري التي أُودعت باطن الإنسان مقابل أعضائه الظاهرة.مثلا يبكي الإنسان بالعين، وتقابل هذا البكاء قوة في النفس هي رقة الفؤاد؛ فإذا استعملها الإنسان في محلها باسترشاد من العقل الموهوب له صارت خُلُقا.وكذلك يقاوم الإنسان العدو بيديه، وتوازي هذه الحركة الظاهرية قوةٌ في النفس..هي الشجاعة؛ فإن استخدمها الإنسان طبقا لما يلائم الموقف أصبحت أيضا خُلُقا.وكذلك يريد الإنسان أحيانا استخدام يديه لإنقاذ المظلوم من الظالم، أو لإعطاء العاجز المعدم شيئا، أو لخدمة بني نوعه بطريق آخر..فهذه الحركة تماثلها

Page 67

۳۳ في النفس قوة هي الرحمة.وأحيانا يعاقب الظالم بيديه، ونظيرُ هذه الحركة الجسدية قوة في القلب نسميها الانتقام.وتارةً يستنكف الإنسان أن يقابل المعتدي بالمثل فيصفح عنه، وبإزاء هذه الحركة قوة في النفس تسمى العفو والصبر.وطورا يستخدم يديه أو رجليه أو عقله لخير بني نوعه، ويبذل ماله لنفعهم، وتقابل هذه الحركة قوةٌ في النفس تُدعى السخاء والجود.فإذا استعمل الإنسان جميع هذه القوى في مواضعها وظروفها الملائمة سميت أخلاقا.يخاطب الله جل شأنه نبينا بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظيم (القلم:٥).ومعنى هذه الآية – طبقا للشرح المذكور – إنك مستوعب لجميع أقسام الأخلاق سخاء، وشجاعة، من وعدل ،ورحمة وإحسان، وصدق، وهمة، وما شاكلها.وباختصار: فإن جميع القوى الطبعية الموجودة في الإنسان مثل الحشمة والحياء والأمانة والمروءة والغيرة والاستقامة والعفة والزهد والعدل والمواساة والشجاعة والجود والعفو والصبر والإحسان والصدق والوفاء وما شابهها من الحالات الطبعية..إذا أظهرها الإنسان في أوقاتها ومواضعها الملائمة بإعمال الفكر وإيماء العقل، كانت كلها أخلاقا.إنها في الأصل غرائز الإنسان، وإنما تُسمى

Page 68

٣٤ أخلاقا عندما يتصرف فيها بالإرادة حسب اقتضاء الزمان والمكان.وبما أن من خصائص الإنسان الطبعية أنه كائن قابل للرقي والتقدم..لذلك يستطيع أن يبدل طباعه هذه إلى أخلاق باتباع الدين الحق والتعاليم الحسنة والصحبة الصالحة..الأمر الذي لا يتصف به كائن آخر.

Page 69

الإصلاح القرآني الأول إصلاح الحالات الطبعية ٣٥ نذكر الآن من إصلاحات القرآن المجيد الثلاثة الإصلاح الأول، الذي يهدف إلى تقويم أدنى الحالات الطبعية.وهذا الإصلاح يُسمى في مصطلح الأخلاق بالأدب، وأعني به الأدب الذي يجعل المتوحشين معتدلين في أوضاعهم الطبعية كالأكل والشرب والزواج وغيرها من أمور التمدن الابتدائي، وينجيهم من الحياة الوحشية المشابهة لحياة البهائم والسباع، كما ذكر الله تعالى جميع هذه الآداب في كتابه العزيز بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَين إلا مَا قَدْ سَلَفَ (النساء: ٢٤) وقوله تعالى : لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهَا) (النساء: ۲۰)

Page 70

٣٦ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ (النساء: ٢٣) وقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ)) (المائدة : ٦).والمحصنات أي العفيفات ومحصنين أي متزوجين إياهن.والمراد من مسافحين أن نساء بعض جهلاء العرب إذا لم يولد لهن ولدٌ طلبنه بالزنا، فهذه العادة القبيحة هي المسافحة.والمراد من قوله تعالى: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ (المائدة: (٦) أي لا تنشئوا معهن صلات مصاحبة.وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (النساء: ٣٠)..أي لا تقضوا على حياتكم بالانتحار.وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)) (الأنعام: ١٥٢) وقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتى تَسْتَأْنسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا رْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ (النور: ۲۸-٢٩)..أي لا تدخلوا بيوت

Page 71

۳۷ الآخرين بدون إذن دخول المتوحشين الهمج..فالاستئذان شرط ضروري.وقوله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابهَا ﴾ (البقرة: ١٩٠)..أي لا تدخلوا البيوت متسلقين من ظهورها، بل ادخلوها من أبوابها.وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: (۸۷) وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: ٩١)..أي شرب الخمر ولعب القمار وعبادة الأصنام والتطير كلها أعمال شيطانية نجسة يجب أن تجتنبوها.وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْر الله بهِ وَالْمُنْحَنَقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب (المائدة: ٤)..أي حرام عليكم تناول لحم حيوان ميت أو ما ذُبح باسم غير الله؛ أو ما مات اختناقا أو بضربة أو بسقوط من فوق أو منطوحا، أو افترسه أحد الضواري..إلا إذا ذبحتموه قبل موته، أو ما ذُبح لأجل صنم، فهذه الأشياء في حكم الميتة.

Page 72

۳۸ وقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَات) (المائدة: ٥)..أي إذا سألوك ماذا يأكلون حلالا إذن، فقل لهم: كلوا من كل طيبات الدنيا.فقط اجتنبوا أكل الميتة وما في حكمها.وقوله تعالى: ﴿إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَح الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا (المجادلة: ١٢)..أي إذا طلب منكم أن تفسحوا مكانا في المجالس لجلوس الآخرين فافسحوا لهم من فوركم، وإذا قيل لكم اتركوا أماكنكم من المجلس فاتركوها بدون تردد أو تذمر.وقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا (الأعراف: ۳۲)..أي كلوا من الطيبات..من لحم أو بقول وغيرهما، ولكن لا تكثروا من شيء دون شيء، وتجنبوا الإكثار من الأكل.وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (الأحزاب : (۷۱)..أي اجتنبوا اللغو من القول وانطقوا بما يليق بالمقام.وقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) المدثر: ٥ - (٦)..أي اغسلوا الثياب وصونوا البدن والبيت والطريق وكل مجلس ومقام من الأوساخ والأقذار، واعتنوا بالنظافة بجميع الوسائل.وقوله تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشيكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (لقمان: ۲۰)..أي الزم الوسط في سيرك، فلا تبالغ في السرعة أو

Page 73

۳۹ البطء إلا عند الضرورة، والزمِ الاعتدال في صوتك فلا ترفعه كثيرا ولا تخفضه كثيرا.وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (البقرة: ۱۹۸)..أي إذا سافرتم فاتخذوا كل تدبير، وخذوا معكم زادا كافيا لتتجنبوا التسول.وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا (المائدة: ٧)..أي عليكم بالطهارة في حالة الجنابة.وقوله تعالى: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات: ٢٠)..أي إذا أكلتم فأعطوا السائل والمحروم من البشر أو الحيوانات من كلب أو طير ونحو ذلك.وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نحْلَةً) (النساء: ٤-٥)..أي إذا كان هناك فرصة فلا بأس من أن تتزوجوا من فتيات يتيمات هن في كفالتكم.ولكن إذا خفتم من عدم العدل في حقهن - لأنهن لا أولياء لهن – فتزوجوا نساء ذوات آباء وأقارب تخشونهم.يمكن أن تتزوجوا واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ولكن بشرط العدل في حقهن، فإذا خفتم من

Page 74

٤٠ ألا تستطيعوا العدل فاكتفوا بواحدة رغم حاجتكم إلى أكثر.وقد حددنا عدد الزوجات بالأربع منعا لكم من عاداتكم القديمة في الإفراط الزائد في أمر الزواج حيث كنتم تتزوجون المئات، أو إنقاذا لكم من السقوط في هوة الزنا وأدوا لزوجاتكم مهورهن..هذا هو الإصلاح الأول من القرآن الكريم؛ حيث انتزع الإنسان من طباعه الهمجية ووجهه إلى لوازم الإنسانية ومبادئ التمدن.ولم يتناول في هذا التعليم بعد الأخلاق الفاضلة، بل إن هو إلا الآداب الإنسانية الابتدائية.وقد قلنا سابقا إن الحاجة مست إلى هذا التعليم الابتدائى لأن الأمة التي بعث نبينا محمد ا لإصلاحها كانت من أكثر الأمم همجية.لم يكن قد بقي لديها شيء من الآداب الإنسانية في أي شأن من الشؤون، لذلك كان من الضروري تعليمها هذه الآداب الإنسانية الأولية قبل كل شيء.العلة في تحريم لحم الخنزير حرم الخن ههنا حكمة جديرة بالذكر، وهي أن الله عندما جعل في اسمه ما يشير إلى تحريمه أصلا، لأن لفظ الخنزير مركب من كلمتين هما (الخنز) أي فاسد جدا، وكلمة (أر) وهي مشتقة

Page 75

٤١ من أرى، فيكون معنى الاسم المركب (أراه فاسدًا جدًا).فالاسم الذي سمى الله به هذا الحيوان منذ الابتداء إنما يدل على خبثه.ومن المصادفات العجيبة أن اسمه في الهندية (سؤر)، وهذا أيضا مركب من كلمتين: (سوء) و (أر)..أي أراه سوء.ويجب ألا يُستغرب من قولنا هذا فيقال كيف يمكن أن تكون الكلمة الهندية ( سؤر) عربيةً؛ ذلك أننا أثبتنا في كتابنا (منن الرحمن) أم الألسنة جميعها، وأن كلماتها توجد بالآلاف في أن العربية هي جميع اللغات الأخرى.إن كلمة (سؤر) عربية ومرادفها في الهندية (بد) ولهذا يُدعَى أيضا.ويبدو أن الحيوان المذكور في هذه البلاد (بد)..أي سيئ الحيوان المذكور كان مشهورا في البلاد الهندية بالاسم العربي المرادف للخنزير حينما كانت العربية لغة العالم كله، ثم لم يزل فيها حتى الآن كأثر مذكور، وإن كان قد طرأ عليه في اللغة السنسكريتية من النحت والقلب ما غير شكله الأصلي.ولكن الاسم الصحيح الموضوع للحيوان هو ذلك الاسم لا غير، لأنه يشتمل على علة التسمية التي يدل عليها لفظ (الخنزير).وأما معنى فاسد جدا) فهو لا يحتاج إلى شرح.مَنْ ذا الذي لا يدري أن هذا الحيوان أشد حرصا على النجاسات من جميع

Page 76

٤٢ الحيوانات الأخرى، وأنه فوق ذلك وَقِحٌ ديوت؟ والعلة في تحريمه ظاهرة وهي أن قانون الفطرة يقضي بأن تأثير لحم هذا الحيوان النجس الخبيث في الجسم والروح لا بد أن يكون تأثيرا خبيثا.وقد أثبتنا فيما مضى أن الأغذية تفعل فعلها في جسم الإنسان حتما، فهل بعد ذلك من شك في أن تأثير الخبيث خبيث؟ ولقد كان الأطباء اليونان قبل الإسلام أيضا يرون أن لحم هذا الحيوان يقلل من الحياء، ويزيد في الديوثية على وجه الخصوص.آكلها والميتة أيضا لم تحرم في الشريعة الإسلامية إلا لأنها تصبغ بصبغتها، كما أنها تضر بالصحة الجسمانية.ويدخل في حكم الميتة جميع الحيوانات التي يبقى دمها بداخلها عند الموت كالمنخنقة والموقوذة وغيرهما.وهل يمكن أن يبقى الدم على حالته الأصلية إذا بقى في بدن الميت؟ كلا، بل لا يلبث أن يفسد لرطوبته، ويسري فساده إلى سائر الجثة، كما أن خلايا الدم – التي ثبت وجودها - بالفحوص العصرية – سوف تبث في سائر الجسم عفونة سامة جدا.

Page 77

الإصلاح القرآني الثاني إصلاح الحالات الأخلاقية ٤٣ القسم الثاني من إصلاحات القرآن المجيد هو تحويل الحالات الطبعية - بضبطها بشروط ملائمة إلى أخلاق فاضلة.وهذا القسم جدا بحيث لو أردنا ذكره ههنا مفصلا..أي لو أردنا سرد واسع جميع الأخلاق الحميدة التي بينها القرآن المجيد..لطال هذا المقال بحيث لن يكفي الوقت المخصص له ولا حتى لعشره، لذلك نوجز القول ونلم بأمثلة من تلك الأخلاق.تقسيم الأخلاق اعلموا أن الأخلاق قسمان: قسم يمكن الإنسان من ترك الشر، وقسم آخر يمكنه من إيصال الخير إلى الآخرين.ألا ويندرج تحت القسم الأول جميع الأخلاق التي يحاول بها الإنسان أحدا يصيب في ماله أو عرضه أو نفسه باللسان أو اليد أو العين أو بأي عضو من أعضائه، أو لا ينوي به أعضائه، أو لا ينوي به إساءةً أو إهانة.

Page 78

٤٤ والمراد بالقسم الثاني سائر الأخلاق التي يسعى بها الإنسان لنفع أحدٍ في ماله أو عرضه..باللسان أو اليد أو المال أو العلم أو بأي طريق آخر من طرق الخير؛ أو ينوي على الأقل أن يرفع شأنه ويُظهر عزته.أو إذا ظلمه أحدٌ امتنع عن إنزال العقاب الذي استوجبه، وهكذا ينفعه بحمايته من معاناة الأذى والتعذيب البدني والغرامة المالية؛ أو عاقبه عقابا يكون في الحقيقة رحمة له من كل الوجوه.أخلاق تندرج تحت ترك الشر وليكن واضحا الآن أن الأخلاق التي قدرها الخالق لترك الشر لها أربعة أسماء في اللسان العربي الغني بكل ما يحتاج إليه من مفردات للتعبير عن جميع خواطر الإنسان وأوضاعه وأخلاقه.فالخُلُق الأول يسمى الإحصان والمراد به ذلك العفاف الذي يختص بالشهوة الجنسية بين الذكر والأنثى.فالمحصن أو المحصنة هو من يجتنب الفجور أو حتى مقدماته، وهكذا يمنع نفسه عن الفحشاء التي لا تكسبه سوى الذلة واللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، بالإضافة إلى الخسارة العظيمة لأقربائه، علاوة على الفضيحة العائلية.فلا يخفى أن من ارتكب الزنى مع امرأة رجل آخر، أو على الأقل بدت من الاثنين مقدمات الزنى ومبادئه، فإن زوجها المظلوم الغيور

Page 79

٤٥ سيضطر إلى تطليقها، لأنها فعلت الفاحشة أو رضيت بها.ثم لو وضعت مولودا منه لحدثت فتنة كبيرة.فبسبب هذا اللئيم يتكبد رب البيت هذه الخسارة كلها.واعلموا أن صفة الإحصان أو العفاف هذه لا تُعد خُلقا إلا متى استعصم صاحبها مع قدرته على سوء النظر أو ارتكاب الفاحشة؛ أي أنه يتعفف عن هذه الفعلة الشنيعة مع امتلاكه من القوى الطبعية ما يستطيع به اقترافها.أما إذا كان الإنسان فاقدا القوى الجنسية لحداثة سنه أو لكونه عنّينًا، أو لأنه مخنث، أو عجوز فان، فلا يصح أن نصفه بخلق الإحصان أو العفاف.أن عنده حالة عندئذ طبعية صحيح من العفة، ولكن مثل هذه الحالات الطبعية –كما قلنا مرارا لا تسمى أخلاقا إلا إذا صَدَرت أو تهيأت لأن تصدر، في محلها بتوجيه العقل.لذلك فالأطفال، أو الذين بهم عنة، أو الذين عطلوا قواهم الجنسية بطريق أو آخر ، لن يوصفوا بهذا الخلق وإن عاشوا في الظاهر حياة عفاف وإحصان، بل لا تكون عصمتهم هذه في جميع الأحوال المذكورة إلا حالة طبعية لا غير.

Page 80

٤٦ طرق العفة والإحصان وبما أن هذا الفعل القبيح ومقدماته يمكن أن يصدر من المرأة كما يمكن صدوره من الرجل، لذلك أرشد الله كلا الجنسين في كتابه الشريف بقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِحُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِن...وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: ۳۱-۳۲)..أي على المؤمنين أن يكُفّوا عيونهم عن رؤية المحارم ولا يحدقوا بالنساء اللواتي ربما كن مثارا للشهوة، وأن يتعودوا في هذه المناسبات على غض البصر، أي النظر بطرف فاتر، ويستروا عوراتهم قدر الإمكان.وكذلك يجب أن يصونوا آذانهم، فلا يسمعوا أغاني الأجنبيات وألحانهن، ولا يصغوا إلى أحاديث جمالهن، فإن ذلك أفضل طريق لطهارة العيون ونزاهة القلوب.ثم يأمر النساء بمثل ذلك ويقول: قل لهن أيضا أن يحمين عيونهن من رؤية غير المحارم؛ وكذلك يحمين آذانهن منهم..أي لا يسمعن أصواتهم المثيرة للشهوة؛ وأن يسترن أماكن الستر منهن، ولا يكشفن

Page 81

٤٧ مواضع الزينة لهم؛ وأن تضع المرأة خمارها على رأسها بحيث يغطي الجيب مع الرأس..أي يستر الجيب والرأس والأذن والصدغ؛ وأن لا يضر بن أقدامهن بالأرض كالراقصات.هذا هو التدبير الذي إذا اتخذه الإنسان يمكن أن ينجو من العثار.والتدبير الثاني هو أن يتوبوا إلى الله تعالى، ويبتهلوا إليه ليحميهم من العثار وينجيهم من الزلل ثم يقول الله وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبيلا (الإسراء: (۳۳)..أي ابتعدوا عن كل ما يدفعكم حتى إلى التفكير في هذه الفاحشة، ولا تسلكوا طرقا فيها خطرُ الوقوع في هذه المعصية، فإن الذين يرتكبون الزنى يبلغون السيئة ذروتها.إن سبيل الزنى سيئ جدا..إذ يحول دون غايتكم ويُشكل خطرا شديدا على هدفكم الأخير.وقال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نَكَاحًا (النور: ٣٤)..أي أن على الذين لا يجدون فرصةً للزواج أن يحافظوا على عفتهم بطرق أخرى، كالصيام أو التقليل من الطعام أو استهلاك القوى في أعمال بدنية شاقة.وقال سبحانه وتعالى: وَرَهْبَانية ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا (الحديد: ۲۸)..أي أن

Page 82

ΕΛ هناك أناسا ابتدعوا بأنفسهم طُرقا لذلك: كأن كفوا عمدًا عن الزواج إلى الأبد، أو عطلوا قواهم الجنسية بطرق مصطنعة ليكونوا كالمصابين بالعُنّة، أو ترهبوا بأي طريق آخر؛ ولكنا لم نفرض ذلك عليهم، ومن ثم فشلوا في العمل بهذه البدعات تماما.وقوله تعالى إننا ما كتبنا على الناس أن يترهبوا..يشير إلى أننا لو كنا فرضناه عليهم لاستطاع الجميعُ العمل به؛ وبالتالي لأدى ذلك إلى القضاء على أهل الدنيا من زمن بعيد بانقطاع النسل الإنساني.ثم إن الاستعفاف ببتر عضو التناسل ليس إلا اعتراضًا على الصانع كيم الذي خلق ذلك العضو.ثم إن الثواب كله يتوقف على وجود قوة الشهوة أولا، وعلى مقاومة الإنسان المستمرة لنزعاتها الفاسدة خشيةً من الله، وعلى استفادته من تلك القوة..لينال نوعين من الثواب.وما دام الأمر كذلك، فمن البديهي أن بتر العضو يحرم الإنسان من الثوابين، لأن الثواب إنما يتحقق بوجود الشهوة الثائرة وقمعها.فأين الثواب إذا انعدمت تلك الشهوة وأصبح الإنسان كالطفل؟ وهل يُثاب الطفل على عفافه؟

Page 83

٤٩ خمسة طرق للعفاف إن الله تعالى لم يشرع في الآيات المذكورة تعليما ساميا يُكسب الإنسان خُلُق الإحصان أي العفاف فحسب، بل وصف خمسة علاجات أيضا لذلك، وهي: غض البصر؛ أي صرفه عما لا يحل له رؤيته؛ وحفظ السمع عن صوت غير المحارم، وعدم الإنصات إلى أوصاف جمالهن؛ ومنع النفس عن كل ما يؤدي إلى هذا الإثم؛ والصوم وما شابهه في حالة العزوبة.وهنا نعلنها مدوّيةً أن الإسلام وحده يمتاز بهذا التعليم الأسمى الشامل لكافة التدابير اللازمة والمذكور في القرآن المجيد.ثَمة حكمة جديرة بالذكر، وهي أن الحالة الطبعية التي هي منبع الشهوات، والتي لا يتحرر منها الإنسان إلا بعد تحول كامل..إنما تتمثل في أن نزعاته الشهوانية لا تلبث أن تضطرم عندما تصادف مواقع الإثارة، أو بألفاظ أخرى إنها تصبح في خطر شديد عندئذ..لذلك لم يُبح الله لنا أن ننظر إلى المحارم بلا حرج، ونتطلع إلى زينتهن، ونشاهد رقصهن وما إلى ذلك حتى بالنظر الطاهر؛ وكذلك لم يسمح لنا أن نسمع من الأجنبيات الشابات الغناء والموسيقى، أو نستمع لقصص حسنهن وجمالهن ولو بنية صالحة.كلا، بل وصانا ألا ننظر إلى غير المحارم وإلى أماكن زينتهن أبدا، لا بالنظر الطاهر لم

Page 84

ولا بالنظر الخبيث؛ وألا نسمع كذلك أصواتهن ذات الألحان والغناء وألا نصغي إلى قصص جمالهن لا بالنية الصالحة ولا بغيرها، بل علينا أن ننفر من كل ذلك كما ننفر من الجيفة..لكيلا نعثر، لأنه لا بد وأن نتعرض يوما للعثار بسبب هذه النظرات الطليقة.فبما أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تبقى أبصارنا وقلوبنا وخواطرنا جميعها مصونةً، لذلك فقد أرشدنا لهذه المبادئ السامية.فأي شك في أن التحرر المطلق يؤدي إلى العثار والسقوط؟ أوليس من الخطأ الفاحش أن نضع أمام الكلب الجائع أرغفة ناعمة..ثم ننتظر منه أن لا يمر بباله أي خاطر عن الرغيف؟ لذلك فقد أراد الله تعالى ألا تتاح للقوى النفسانية فرصة نشاط خفي أيضا، وأن لا يتعرض الإنسان لموقف يهيج خواطر السوء فيه.الحكمة من الحجاب الإسلامي هذه هي الحكمة من الحجاب الإسلامي.وهذه هي الهداية الشرعية فقط.لم يقصد كتاب الله بالحجاب اعتقال النساء وحبسهن كالأسرى، ذلك ظن الجهلة الذين لا يعلمون عن المبادئ الإسلامية كف النساء والرجال شيئا.إنما المقصود من الحجاب الإسلامي

Page 85

جميعا عن إلقاء نظرات حرة، وكشف زيناتٍ للجانب الآخر، وتبرُّجِ الجاهلية..لأن في الكف عن كل ذلك مصلحة الجنسين.أن كما يجب أن نتذكر أيضا أن غض البصر في لغة العرب هو ينظر الإنسان بعين فاترة..بحيث يصون نظره عما لا تحِلّ رؤيته، ولا ينظر إلا إلى ما يجوز النظر إليه.وكل من يريد تزكية نفسه لا ينبغي له أن ينطلق ببصره كالحيوان حيث يشاء من دون قيد ولا ضابط، بل عليه أن يُعوّد نفسه غض البصر في هذه الحياة المتمدنة، وبهذا السلوك المبارك تتحول عادته الطبعية هذه إلى خُلق عظيم دون أن يتعارض ذلك مع ضرورات حياته الاجتماعية شيئًا.وهذا هو الخلق الذي يسمى الإحصان والعفة.خُلق الأمانة والقسم الثاني من أقسام ترك الشر..هو ذلك الخلق الذي يُعرَف باسم الأمانة..أي تجنب إيذاء الغير بالاستيلاء على ماله بسوء النية وابتغاء الشر.حتى وليكن واضحا أن صفة الأمانة حالة من حالات الإنسان الطبعية، أن الطفل الرضيع ذا السذاجة الطبعية لصغر سنه، والذي لم يأخذ بعد في العادات القبيحة..ينفر من مال غيره لدرجة أنه قلما

Page 86

٥٢ يرضع من غير أمه إلا بصعوبة بالغة، وإذا لم يُرضع من مرضع أخرى وهو صغير لم يع بعد، فإنه استرضاعه من غير أمه بعد ذلك يصعب جدا، ويعاني مشقة عظيمة لدرجةٍ قد يُشرف بها على الموت، ويكره ذلك رضاعة الغير؛ فهو ينفر بطبعه من أن يترك ما عند والدته مع إلى ما عند سواها.فما هو السر في هذا النفور الشديد يا ترى؟ وإذا نَظَرْنا في عادة الرضيع هذه وأمعنا في تأملها وتدبرها لاتضح لنا بجلاء أن نفوره الشديد مما هو مُلكُ لغيره بحيث يعاني بسببه مشقة بالغة..إنما هو المنبع الأول لصفة الأمانة.ولن يكون الإنسان صادقا في خُلُق الأمانة ما لم يجد في نفسه كالطفل- كراهية تامة ونفورا حقيقيا مما هو للغير.غير أن الطفل لا يستعمل هذه العادة في محلها، ويتكبد بجهالته معاناة شديدة، فليست عادته هذه إلا حالة طبعية يُظهرها بلا روية ولا اختيار، ولذلك فهي لا تعتبر من الخُلُق في شيء، وإن في شيء، وإن كانت هي المنشأ الأول للأمانة في الفطرة البشرية.فكما أنه لا يجوز أن يُدعى الطفل أمينا ذا تدين بسبب عادته الطبعية الفطرية، كذلك لا يجوز أن يوصف بالأمانة من لا يتصرف في طبيعته هذه بمقتضى الحال.إن الاتصاف بالأمانة أمر عظيم جدا، ولن يكون الإنسان أمينا حتى يستوفي جميع شروط الأمانة من كل الوجوه.

Page 87

۰۳ ونقدم فيما يلي - كمثال - آيات أرشدنا الله بها إلى طرق الأمانة وآدابها..يقول سبحانه وتعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ أَنتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبَدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا)) (النساء: ٦-٧).ويقول عزَّ من قائل: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُريَّةٌ ضعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: ۱۰-۱۱)..أي أنه إذا كان بينكم صاحب مال ضعيف العقل..كأن يكون يتيما لم يبلغ سن الرشد، وخشيتم أن ماله بسفاهته..فعليكم كأمناء على أموالهم- ألا تضعوا في يضيع أيدي مثل هؤلاء الحمقى كل رأس المال الذي هو قوام المعيشة ومدار التجارة، وأعطوهم منه بقدر ما يحتاجون إليه للطعام والكسوة، وقولوا لهم قولا معروفا مما يُنمي عقولهم وشعورهم ويربيهم بما يلائم أحوالهم حتى لا يبقوا جاهلين عديمي الخبرة.فمن كان منهم ابن تاجر مثلا فعلموه طرق التجارة، ومن كان أهله

Page 88

أصحاب صناعة فدربوه على ما يناسب هذه الصنعة، ولا تدعوهم هكذا بل قوموا باختبارهم وامتحانهم بما علمتموهم من حين لآخر.حتى إذا ما أدركوا سن البلوغ -وهو العام الثامن عشر من عمرهم تقريبا وشعرتم أنهم أصبحوا أهلا لتدبير أموالهم بالعقل والحزم..فادفعوا إليهم أموالهم ولا تنفقوا أموالهم بالإسراف، ولا تضيعوها خوفا من أن يكبروا فيستردوها.ومن كان غنيا فلا ينبغي له أن يأخذ أجرًا على كفالته.أما إذا كان الكفيل فقيرا فليأخذ من أموالهم بحسب المعروف.كان من عادة العرب عندئذ أن الكفلاء إن ابتغوا شيئا من أموال الأيتام حاولوا قدر الإمكان أن يأخذوا لأنفسهم قسطا مما ربحته تجارة تلك الأموال، وألا يستهلكوا رأس المال بتاتا.ويشير الله هنا إلى نفس هذه العادة ويأمر باتباعها.ثم قال: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فافعلوا ذلك بمحضر من الشهود، ومن حضره الموت وكان له أولاد ضعاف غير بالغين فلا يحق له أن يوصي بما يجحف بحقوقهم..فانظروا كم من آداب الأمانة بينها الله تعالى ههنا! فالأمانة الحقيقية هي لا تراعى فيها جميع هذه الشروط بحذر تام، لا بد من أن تلك التي تستوفي جميع هذه الشروط..وإلا فإن الأمانة التي تتسرب إليها أنواع الخيانات الخفية.

Page 89

ثم يقول الله سبحانه وتعالى في موضع آخر: 00 وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ الناسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: ۱۸۹)..أي لا تستولوا على أموال الناس بغير الحق، كما لا تقدموا أموالكم لأصحاب السلطة كرشوة لاغتصاب أموال الناس بمساعدة الحكام.ويقول تعالى: أن الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (النساء: ٥٩).ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْحَائِنِينَ)) (الأنفال: ٥٩).ويقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمٍ)) (الإسراء: (٣٦)..أي إذا كنتم الأشياء فكيلوها بميزان واف مستو لا خلل فيه.ويقول تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (الشعراء: ١٨٤)..أي لا تضروا بأموال الناس بأي طريق، ولا تسيروا في الأرض بنية الفساد..أي السرقة أو الإغارة أو اختلاس أموال الناس بانتشال ما في الجيوب أو بأي طريق آخر.ويقول : وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبيثَ بالطيب (النساء: ٣)..أي لا تعطوا الرديء مكان الجيد، بمعنى أنه كما لا يحل لكم أن

Page 90

تغتصبوا أموال الناس بغير الحق، كذلك لا يحل لكم أن تبيعوهم المغشوش من الأشياء، أو أن تعطوهم الرديء بدل الجيد.لقد بين الله تعالى في الآيات المذكورة أعلاه طرق الخيانة كلها، وقد جاء بكلام واف بحيث ما ترك طريقا من طرق الخيانة إلا ذكره.لم يكتف الله بأن قال "لا تسرقوا"..لئلا يفهم الجاهل أن السرقة وحدها حرام، وأما سواها من أساليب الحرام فهو في حل منها.كلا، بل إن الله حرم بهذا البيان الجامع كل أسلوب غير مع شرعي، وهذا هو البيان الحكيم.إذن، فالذي لا يتخلق بالأمانة هذه البصيرة، ولا يراعي فيها جميع هذه الجوانب والشروط..لن يعتبر فعله من الأمانة في شيء، وإن تظاهر بالأمانة في بعض الأمور، فما هي إلا حالة طبعية خالية من التمييز العقلي والبصيرة.التسامح أو المسالمة القسم الثالث من الأخلاق التي تندرج تحت ترك الشر هو ما يسمى في اللغة العربية بالهدنة والهَوْن، والهون، أي الكف عن إلحاق الأذى بأحدٍ ظلما، والابتعاد عن الشر، والعيشُ بصلح وسلام.ولا ريب أن السلم من أسمى الأخلاق وأهم وألزم ما يكون للإنسانية.

Page 91

٥٧ والقوة الطبعية في الطفل المماثلة لهذا الخلق، والتي تصير بعد التعديل خلقا هي الألفة..أي الاستئناس والظاهر أن الإنسان في أن حالته الطبعية أي حين يكون خاليا من التعقل لا يستطيع يفهم معنى السلم ولا حقيقة الحرب، إلا أنه يتمتع عندئذ أيضا بعادة الاستئناس والوفاق، وهذه العادة هي منبع خلق المسالمة.وبما أن هذه العادة لا تكون وقتئذ وليدة التفكر والتدبر والإرادة الواعية فلذلك لا تندرج في قائمة الأخلاق، وإنما تُعد خلقا متى كف الإنسان بإرادته عن الشر، وتحلى بخلق السلم في محله، واحترز من استعماله في غير موضعه.يعلمنا الله في هذا الصدد بقوله: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَكُمْ (الأنفال : (٢)..أي أصلحوا فيما بينكم.ويقول تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: ۱۲۹).ويقول تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (الأنفال: ٦٢)..أي إذا مال العدو إلى الصلح وجب عليكم الصلح معهم عندئذ.ويقول تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) (الفرقان: ٦٤)..أي أن عباد الله الصالحين يمشون في الأرض مسالمين.ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان: ۷۳)..أي أنهم لا يجادلون على أتفه الأمور ، بل إذا سمعوا عبث القول مما قد يؤدي

Page 92

۵۸ للقتال والحرب عالجوه بلباقة، وانصرفوا في وقار.أي أنهم يكرهون الخصام على كل صغيرة وكبيرة..إلا إذا أصابهم ضرر شديد، لأن من مقتضى الصلح ألا يبالوا بالسفاسف ويعفوا عن صاحبها.الفرق بين التسامح والعفو وليكن واضحا أن كلمة "اللغو" الواردة في الآية ههنا تعني في العربية العبث من القول أو الفعل الذي يأتيه أحد بغرض الإيذاء، ولكن لا ينتج عنه في الحقيقة ضرر كبير.فمن مقتضى المسالمة أن يُعاملوا ذلك الشخص معاملة الكرام فيتغاضوا عما صدر عنه من عبث الكلام أو الحركة.وأما إذا تجاوز الإيذاء حد اللغو، وعاد بضرر حقيقي على الحياة أو المال أو العرض، فلا يدخل الإعراض عن المعتدي في خُلُق التسامح، وإنما يسمى الإعراض عنه عفوا وسيأتي ذكر هذا الخلق فيما بعد إن شاء الله.ثم قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (فصلت: (٣٥)..أي عامل من أساء إليك بالحسنى يكُن لك صديقا حميما بعد أن كان عدواً.وبالجملة فإن

Page 93

۰۹ التغاضي على سبيل التسامح يكون للفعل العابث الذي لا يعود منه ضرر حقيقي، بل يكون مجرد هذر وثرثرة من قبل العدو.الرفق والقول الحسن والقسم الرابع من أقسام ترك الشر هو الرفق والقول الحسن.وو والحالة الطبعية التي ينشأ منها هذا الخلق هي الطلاقة، أي بشاشة الوجه.والطفل غير القادر على النطق يبدي البشاشة تعبيرا عن الرفق والقول الحسن إلى أن يقدر على النطق.ووجود هذه الغريزة في الطفل يشكل دليلا على أن الطلاقة هي الأصل الأول الذي يتفرع الخلق المذكور.الطلاقة ملكة طبيعية، وأما الرفق فهو خُلُق يتولد من استعمال هذه الملكة في موضعها.وإليكم ما أرشدنا الله إليه في هذا الشأن: منه يقول الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنا (البقرة: ٨٤)..أي قولوا لهم ما هو في الواقع خير.ده و ويقول : لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُن وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بالأَلْقَاب (الحجرات: (١٢)..قوله تعالى: "لا تلمزوا" أي لا تصموا أحدًا منكم بعيب، ولا تدعوا بعضكم بأسماء قبيحة.

Page 94

ويقول تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: ۱۳).ويقول تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء: ۳۷)..أي لا ترموا أحدا بشيء لا تملكون دليلا عليه، وتذكروا أنكم تسألون عن كل عضو لكم من أذن وعين وقلب وغيرها.أقسام إيصال الخير بعد أن انتهينا من ذكر أقسام ترك الشر نتناول الآن أقسام الأخلاق التي تتعلق بإيصال الخير إلى الآخرين.العفو فالخُلُق الأول هو العفو عن صاحب الذنب؛ فالذي يصفح عن المسيء إليه إنما يصله بخير.ذلك أن من يرتكب خطأ بحق أحد يستحق به أن يعاقب بقدر الضرر الذي ألحقه بالغير كأن يُسجن أو يدفع غرامة، أو أن ينتقم منه منه الآخر بيده هو؛ ولكنه لو عفا عنه شريطة أن يكون العفو مناسبا..لكان هذا بمثابة إيصال الخير إليه.

Page 95

٦١ ويرشدنا القرآن المجيد إلى هذا الخلق بقول الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) (آل عمران: ١٣٥) وقوله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله (الشورى: ٤١)..أي أن أهل البر هم أولئك الذين يمسكون عن الغضب عندما يتطلب الموقف منهم ذلك، ويغفرون للناس عندما يقتضي منهم الحال هذا، وإذا عاقبوا المعتدي كان عقابهم بمثل ما اعتدي عليهم.القاعدة في العقوبات..بأن السيئة جزاؤها سيئة مثلها.فمن عفا عن ذنب أحدٍ عفوا يترتب عليه إصلاح ولا يؤدي إلى مزيد من الشر..أي يكون عفوا في محله تماما..فإنه يُثاب على ذلك.يتضح من ذلك أن القرآن المجيد لا يأمرنا بترك مقاومة الشر وعدم معاقبة الأشرار والظالمين في كل الأحوال وبدون أي داع لذلك.كلا، بل يرشدنا أن نتبين ما إذا كان الموقف يقتضي العفو أم العقوبة، وما هو الأنفع في الحقيقة للمجرم، وكذلك لعامة الخلائق.فأحيانا يدفع العفو المجرم إلى التوبة، وأحيانا أخرى يشجعه العفو على المزيد من الإجرام؛ ولذلك يأمرنا الله تعالى ألا نعتاد العفو الأعمى، بل يجب أن نتبين موضع الخير الحقيقي أهو في العفو أم في العقاب، ثم نحكم بما يوافق الحال والمقام.

Page 96

٦٢ إننا إذا استقر أنا أخلاق البشر تبين لنا أنه كما يكون بعضهم حقودا أحقاد آبائه، كذلك يكون من بينهم من يبالغ جدا بحيث أنه لا ينسى في العفو والصفح، حتى إن هذا العفو المفرط يؤدي بهم أحيانا إلى الديوثية، ويصدر عنهم باسم الحلم والعفو والتغاضي ما يخجل الإنسان وما ينافي تماما الحمية والغيرة ،والعفة بل يكون وصمة عار على سيرة الإنسان، حتى يتبرأ منه الناس ويلعنوه.ونظرا إلى مثل هذه المفاسد فإن القرآن المجيد اشترط لكل خُلق بأن يكون في محله ويصدر بحسب المقتضى، ولم يقبل من الأخلاق ما يصدر في غير محله.قتله فإنه تذكروا أن العفو المجرد عن هذه الشروط لا يجوز تسميته خُلُقا، لأنه قوة طبعية توجد في الطفل أيضًا.أفلا ترون أن الطفل إذا أصابه أحد بإصابة - ولو كانت بقصد الإيذاء - نسيها بعد قليل، وأقبل على من آذاه بكل حب وشوق؟ بل حتى لو كان قد نوی يرضى عنه بعدئذ بحديث حلو منه.فعفوه هذا ليس من الأخلاق في شيء أبدا.كلا، إن هو إلا قوة طبعية تصدر عنه تلقائيا، وإنما تدخل هذه في عداد الأخلاق إذا استعملناها في محلها.وقليل هم الذين يستطيعون أن يفرقوا بين القوة الطبعية والخلق.ولقد بينا مرارا أن الفرق بينهما هو أن الخُلُق الحقيقي يستلزم دائما مراعاة الحال والمقتضى، وأما القوة الطبعية فهي تظهر في غير محلها أيضا، وإلا

Page 97

٦٣ فإننا نجد بين البهائم أن البقرة وديعة والشاة متواضعة، ولكن بما أنها تُمنح قوة التمييز فلا يمكن أن نقول بأنها متصفة بهذه الأخلاق.إذن فحكمة الله البالغة وكتابه الحق الكامل قد قيدا كل خُلُق بشرط استخدامه في الموضع اللائق.العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والخُلُق الثاني من أخلاق إيصال الخير هو العدل، والثالث هو الإحسان، والرابع هو إيتاء ذي القربى كما يذكرها الله تعالى في قوله: إن اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل: (۹۱)..أي أن الله يأمرنا بأن نقابل الحسنة بالحسنة، وذلك هو العدل، وأن نزيد فوق العدل إحسانا إن كان في محله، ونزيد على الإحسان إذا اقتضى الموقف فنفعل الخير خالصا بعاطفة فطرية كعاطفة ذي القربى.وينهانا الله عن الفحشاء..أي أن نتجاوز حدود الاعتدال، أو أن يصدر منا من الإحسان ما ينكره العقل..أي أن نأتي الإحسان في غير محله، أو نكف عن الإحسان في محله، أو نقصر في العمل بمقتضى "إيتاء ذي القربى" مع أن الموقف يتطلب ذلك، أو نفرط فيه متجاوزين الحد المناسب.

Page 98

٦٤ هذه الآية الكريمة تتضمن ثلاث درجات من إيصال الخير، الأولى : أن تُقابل الحسنة بحسنة، وهذه أدنى درجة لإيصال الخير، ويستطيع أن يتخلق بهذا الخلق أي واحد ذو صلاح عادي..فلا ينفك يحسن إلى من أحسن إليه.أما الدرجة الثانية فهي أصعب منها نيلا، وهي أن يبدأ الإنسان بالحسنة من تلقاء نفسه، وأن ينفع غيره تفضلا منه دون أي حق له.وهذا الخلق وسط بين الدرجتين، وكثير من الناس يحسنون إلى الفقراء، بيد أن هذا الإحسان يشوبه عيب خفي..وهو أن المحسن تحدثه نفسه بأنه قد أحسن..فيبتغي على إحسانه كلمة شكر أو دعاء على الأقل، وإذا خالفه المحسَنُ إليه اتهمه بأنه ناكر للجميل، أو حمله أحيانا ما لا يحتمل..ومن عليه بصنيعه.ولذلك يُحذر الله المحسنين بقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ (البقرة: ٢٦٥)..أي لا تضيعوا بالمنّة والإيذاء صدقاتكم التي يجب أن تكون عن صدق، لأن كلمة "الصدقة" مشتقة من الصدق.فإذا خلا قلب المرء من الصدق والإخلاص فلا تبقى صدقته صدقَةً، وإنما تكون عملا من الرياء.وملخص القول: إن في المحسن ضعفا، إذ قد يمن بإحسانه إذا ما أخذته ثورة الغضب، فلهذا حذر الله المحسنين هنا.

Page 99

غير وأما الدرجة الثالثة من إيصال الخير فقد سماها الله باسم "إيتاء ذي القربى"..وهو ألا يكون في قلب المحسن أي شعور بالإحسان، ولا أي رجاء لتلقي الشكر عليه، بل يجب أن تصدر الحسنة عن دافع الشفقة التي تكون بين ذوي القرابة القريبة، كما تحنو الأم على فلذة كبدها.وهذه هي أسمى درجات إيصال الخير، وليس وراءها درجة.أن الله تعالى قد جعل جميع أقسام إيصال الخير هذه منوطة بمراعاة المحل والمقام، وصرح في الآية المذكورة بكل وضوح أن كل هذه الحسنات إن لم توضع في مواضعها تصبح سيئات.فسيتحول العدل فحشاء..أي تجاوز الحد لدرجة يُستقبح فيها؛ وسيعود الإحسان منكرًا..أي ما يرفضه العقل والوجدان؛ ويصبح "إيتاء ذي القربى" بغيًا..أي أن ظهور عاطفة الشفقة في غير موضعها سيؤدي إلى مواقف مكروهة؛ ذلك أن البغي في الحقيقة هو المطر الذي يتجاوز الحد ويدمر الزروع، أو البغي هو تجاوز الاعتدال في أداء الحق.وبالجملة فإن أي قسم من الأقسام الثلاثة إذا صدر في غير محله كان خُلُقًا سيئًا، ولهذا يُشترط أن يكون كل في محله.وينبغي ألا يغيب عن الذهن هنا أن مجرد العدل أو الإحسان أو الشفقة التي هي كشفقة ذوي القربى لا يكون خُلُقا في حد ذاته، وإنما هي حالات طبعية وملكات فطرية توجد حتى في الأطفال قبل

Page 100

نضوج العقل فيهم.وأما الخُلُق فهو مشروط باستخدام العقل، كما أنه مشروط بأن تستعمل كل قوة في موضعها.تعليمات أخرى عن الإحسان والعطف خلق وهناك في القرآن المجيد تعليمات ضرورية أخرى عن الإحسان، قد ذكرها الله كلَّها مُعرَّفةً بـ "أل" ليشير إلى أهمية مراعاة مقتضى الظروف والأحوال عند العمل بها.يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ...(البقرة: ٢٦٨)..أي أيها المؤمنون، أنفقوا على الناس على سبيل الجود أو الإحسان أو الصدقة من كسبكم الحلال، أي الذي لم يختلط به شيء من مال السرقة أو الرشوة أو الخيانة أو الغبن أو الظلم، ونزهوا قلوبكم عن إنفاق الخبيث من المال.ويقول سبحانه وتعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ (البقرة: (٢٦٥)..أي لا تضيعوا صدقاتكم وصنيعكم بالمن على المحسن إليه وإيذائه..يعني لا تعيروا من أحسنتم إليه بقولكم: لقد أعطيناك كذا وكذا؛ ولا تؤذوه، وإلا سوف يضيع صنيعكم، ولا تسلكوا في الإنفاق مسلكا ينم عن المراءاة.

Page 101

٦٧ ويقول تعالى: وَأَحْسَنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: ١٩٦)..أي اصنعوا المعروف إلى خلق الله فإنه تعالى يحب صانعي المعروف.ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * وَيُطْعِمُونَ * عَيْنًا يَشْرَبُ بهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجيرًا * الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهُ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا )) (الإنسان:٦-١٠)..أي أن أهل البر الحقيقي سوف يُسقون من الشراب الممزوج بالكافور..أي سوف تطهر قلوبهم من حرقات دنيوية وحسرات مادية وشهوات خبيثة.فكلمة "الكافور" مشتقة من الكفر، والكفر في اللغة العربية معناه التغطية والإخفاء، والمراد من سقي الشراب الكافوري إخماد أهوائهم الدنيئة، فيصبحون أنقياء البواطن، وتسري فيهم طمأنينة العرفان.والمراد من قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بهَا عِبَادُ اللَّهُ يُفَجِّرُونَهَا تَفْسِيرًا ) أنهم شاربون يوم القيامة من النبع الذي يحفرونه اليوم بأيديهم.وهنا عميق عن حقيقة الجنة، فليفهمه من شاء.سر ثم قال: إن من خصال أهل البر الحقيقي أنهم – ابتغاء حب الله – يُطعمون المساكين واليتامى والأسرى أطعمةً هم يحبونها لأنفسهم، ويقولون لهم: إننا لا نطعمكم منا ،وإحسانًا، وإنما نفعل ذلك حبا لله

Page 102

чл وابتغاء لمرضاته، ولا نبتغي على ذلك جزاء ولا كلمة شكر منكم.وفي هذا إشارة إلى أنهم يفعلون هذا المعروف بمحض دافع الشفقة التي تكون تجاه ذوي القربى.وأيضا قال الله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقاب)) (البقرة: ۱۷۸)..أي أن من عادة الأبرار الصادقين أنهم يساعدون أولي الأرحام بالمال حبا وإرضاءً لله، كما ينفقون منه على اليتامى لرعايتهم وتربيتهم وتعليمهم وغير ذلك، وينقذون به المساكين من الجوع والفقر، ويخدمون به المسافرين والسائلين، وكذلك يبذلون منه في تحرير الرقيق وتخليص الغُرماء.ويقول الله عنهم: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان: ٦٨)..أي أنهم لا يسرفون في نفقاتهم كما لا يبخلون بل يتسم سلوكهم عندئذ باتزان واعتدال ويقول عنهم أيضا: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَاب)) (الرعد: (۲۲).ويقول تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (الذاريات: ٢٠)..أي المحروم من قوة النطق والسؤال، كالكلاب والهررة والعصافير والبقر والحمير والغنم وغيرها من الحيوانات.

Page 103

٦٩ كذلك يقول الله عنهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (آل عمران: ١٣٥)، ويقول تعالى: (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وعلانية (الرعد: (۲۳)..أي أنهم لا يتضايقون من البذل في أيام الرخاء أو في أيام البؤس والقحط، بل لا يبرحون ينفقون حسب الاستطاعة في أيام الضيق أيضا.وينفقون تارة سرا خشية الرياء، وطورا علانية كي يكونوا أسوة للآخرين.وتعالى ثم يقول : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِبْنِ السَّبيل فَريضَةً مِنَ الله وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (التوبة: ٦٠)..أي يجب أن يلاحظ في توزيع أموال الصدقات وغيرها أن توزع أولا على المحتاجين.نعم، يمكن أن يُنفَق شيء منها أيضا على من يقومون بجمعها وحفظها وتوزيعها.كما يمكن إنفاق جزء منها على من يراد إنقاذه من السيئات.كما ينفق أيضا على تحرير الأسرى والرقيق وعلى مساعدة الغارمين والمنكوبين المحتاجين، وعلى كل سبيل آخر هو من سبل الله تعالى حقيقة.ويقول تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبرِّ حَتى تُنْفِقُوا مِما تُحِبُّونَ (آل عمران: ٩٣)..أي لن تكسبوا البر الحقيقي أبدا ما لم تنفقوا على الناس شفقة بهم من مالكم الذي تحبونه.

Page 104

V.ويقول تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (الإسراء: ۲۷)..أي أَدُّوا للفقراء حقوقهم، وآتُوا المساكين، واخدموا المسافرين وتجنبوا الإسراف بكل صوره..أي اجتنبوا التبذير الذي تُهدر فيه الأموال بلا طائل في تقاليد وطقوس مختلفة..كحفلة عرس أو ميلاد طفل وغيرهما من طرق اللهو واللعب.وأيضا يقول : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبَحْل وَيَكْتُمُونَ مَا أَتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ (النساء: ۳۷-۳۸) أي اصنعوا المعروف بالوالدين،، وافعلوا الخير للأقارب والأيتام والمساكين والجار القريب والجار الأجنبي والمسافر والخادم والعبد والحصان والغنم والبقر والحيوانات الأخرى التي هي تحت تصرفكم، ذلك لأن الله الذي هو إلهكم يحب هذه الخصال ؛ ولا يحب من لا يهتم بغيره ولا يفكر إلا لنفسه؛ كما أنه تعالى لا يحب من كان بخيلا ويأمر الآخرين بالبخل، ويُخفي ماله..أي يقول للمحتاج: ليس عندي شيء.

Page 105

الشجاعة الحقيقية ۷۱ ومن تلك الحالات البشرية الطبعية حالةٌ تُشبه الشجاعة.فنلاحظ مثلا أن الطفل الرضيع يضع يده أحيانا في النار لوجود هذه الحالة الطبعية فيه.ذلك أن الطفل - بسبب غلبة جوهر الفطرة البشرية عليه - لا يهاب شيئا قبل أن يمر بتجارب تبث فيه الخوف.والإنسان في هذه الحالة الطبعية يتصدى للأسود وغيرها من وحوش الغاب بدون أدنى خوف، ويبرز وحده لمقاتلة عديد من الناس، وهم يظنون أنه شجاع باسل، ولكن الواقع أنها ليست إلا حالة طبعية توجد في الناس كما توجد في الوحوش الكاسرة، بل في الكلاب أيضًا.أما الشجاعة الحقيقية التي تتجلى في موضعها وعند وقتها والتي هي خلق من مكارم الأخلاق..إنما هي اسم جامع للصفات والحالات التي صرح الله بها في وحيه القدسي بقوله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: ۱۷۸)، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ (الرعد: ۲۳)، وقوله تعالى : الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران ١٧٤)

Page 106

۷۲ وقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرَثَاءَ الناس) (الأنفال: ٤٨)...أي أن الشجعان حقا هم أولئك الذين إذا فاجأتهم حرب أو حلت بهم مصيبة صبروا ولم يتهربوا من مواجهتها، ولا يكون صبرهم في الحروب والشدائد إلا ابتغاء مرضاته تعالى.إنهم يصبرون لوجه الله لا لإظهار بسالتهم.وإذا خوفهم أحد بأن القوم قد اتفقوا على معاقبتكم فلا تزيدهم هذه التهديدات إلا إيمانا فيقولون: ربنا يكفينا وهو نعم الوكيل.والمعنى أن شجاعتهم لا تكون كشجاعة الكلاب والوحوش التي يكون وراءها هياج طبيعي فقط، والتي يكون اندفاعها إلى جهة واحدة، بل إن شجاعتهم تكون ذات حدين فأحيانا يقاومون بشجاعتهم الذاتية شهواتهم النفسانية ويغلبونها، وأحيانا أخرى إذا رأوا مقاومة العدو أقرب للمصلحة حاربوه، لا بسبب حماس نفسي فقط، بل دفاعا عن الحق.ويتحلون بالشجاعة لا متكلين على نفوسهم وإنما متوكلين على وتكون بسالتهم غير مشوبة بشوائب الرياء أو الكبر أو هوى النفس، بل يبتغون بها مرضاة الله من جميع الوجوه.الله وحده.إن الله تعالى قد بين لنا في هذه الآيات أن أصل الشجاعة الحقيقية إنما هو الصبر والثبات، وأن البسالة الحقيقية تتمثل في أن يبقى

Page 107

۷۳ الإنسان ثابتا على أقدامه ولا يهرب كالجبان عند هجوم من أهواء النفس أو من قبل الأعداء.لذلك فالفرق عظيم جدا بين شجاعة الحيوان وشجاعة الإنسان إن الحيوان ينقاد لغضبه الذي يدفعه باتجاه معين، وأما الإنسان المتصف بالشجاعة الحقيقية فهو يختار المقاومة أو عدمها حسب ما يناسب مقتضى الحال.الصدق ومن هذه الحالات الطبعية الفطرية في الإنسان الصدق.إن الإنسان لا يتوخى الكذب مطلقا ما لم يكن له داعٍ من دواعي الأهواء النفسانية، بل يجد في نفسه نوعا من النفور والاشمئزاز تجاه الكذب.ولذلك نجده يسخط على من ظهر كذبه ويزدريه.غير أن هذه الحالة الطبعية في الإنسان لا تكون وحدها من الخلق في شيء؛ إذ قد يتصف بها حتى الأطفال والمجانين أيضا.فالحق أن الإنسان لا يكون صادقا بالمعنى الحقيقي ما لم يبتعد كليةً عن الدوافع النفسانية التي تصده عن قول الحق.إذ كيف يمكن أن يتفوق الإنسان على الصغار والمجانين لو تمسك بالصدق فيما لا يضره كثيرا، ولجأ إلى الكذب أو سكت عن قول الحق إذا كان في قوله للصدق خوف على عرضه أو ماله أو نفسه؟ أفلا نجد المجانين والصغار دون سن البلوغ

Page 108

٧٤ يقولون كمثل صدقه؟ لن يوجد في العالم من يكذب بدون داع.لذلك فالصدق الذي لا يتمسك به صاحبه ساعة الضرر لن يدخل في عداد الأخلاق الحقيقية.بل إن أفضل مناسبة لقول الحق هي التي يهدد فيها قولُ الحق نفسه أو ماله أو عرضه.تلك وتعاليم الله بهذا الصدد كما يلي: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ النُّورِ)) (الحج: ۳۱)..أي تجنبوا عبادة الأصنام وقولَ الكذب..بمعنى أن الكذب أيضا صنم يعتمد عليه الكاذب ولا يتوكل على الله.فالكاذب يترك بكذبه ربه.وقوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا (البقرة: ۲۸۳)..أي إذا دعيتم للإدلاء بالشهادة بصدق فلا تمتنعوا عن ذلك.وقوله تعالى: ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ أَثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: ٢٨٤)، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى (الأنعام: ١٥٣)..أي إذا تحدثتم فلا تتحدثوا إلا بما هو حق وعدل تماما وإن كان قول الحق هذا ضد قريب لكم.وقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: ١٣٦)..أي عليكم أن تثبتوا على الحق والإنصاف، وأن تكون كل شهادة منكم الله فقط.لا تكذبوا وإن أضر قولُ الصدق بكم أو بآبائكم أو بأقاربكم كالابن وغيره.

Page 109

Vo وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا (المائدة: ٩)..أي يجب ألا تحول عداوة قوم دون إدلائكم بالشهادة بصدق.وقوله تعالى: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ) (الأحزاب: ٣٦)..أي أن أهل الصدق ذكورا وإناثا سوف ينالون أجورا كبيرة.وقوله تعالى: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) (العصر: ٤)، وقوله تعالى: لا يَشْهَدُونَ الرُّورَ﴾ (الفرقان:۷۳)..أي أن دأبهم توجيه النصح للآخرين أيضا لأن يقولوا الحق، كما أنهم لا يجلسون في مجالس الكاذبين.الصبر ومن هذه الحالات الطبعية في الإنسان الصبر..الذي يلجأ إليه عند المصائب والأسقام والآلام التي تفاجئه دوما، بعد كثير من النوح والجزع والفزع.ولكن اعلموا أن الصبر على هذه الشاكلة لا يعتبره كتاب الله الكريم من الأخلاق في شيء، وإنما هو حالة تظهر تلقائيا بعد التعب والإعياء..أعني أنه عند حلول مصيبة فإن من طبيعة الإنسان البكاءَ والعويل وضرب الرأس، ثم بعد أن يستنفد الكثير من همه وغمه يبدأ في الهدوء، وفي آخر المطاف لا يسعه إلا أن يرجع القهقرى.فهاتان

Page 110

٧٦ الحالتان طبعيتان ولا تمتان للأخلاق بشيء.وإنما الخلق أنه إذا فقد شيئا فلا يتفوه بكلمة شكوى إيمانا منه أن ما فقده كان أمانة عنده الله تعالى، ويقول: كان أمانة الله فاستردها مني وإني راض من برضاه.ويعلّمنا القرآن الكريم - كلامُ الله العزيز - في هذا الخلق ما يلي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: ١٥٦-١٥٨)..أي أيها المؤمنون، سنختبركم من وقت لآخر، فتمرون أحيانا بحالات خوف شديد، وأحيانا يلازمكم فقر شديد وجوع، وأحيانا تصابون في أموالكم وفي أنفسكم، وحينا تضيع جهودكم فلا تأتي بنتائج مُرضية، وتارةً تموت فلذات أكبادكم.فالذين إذا أَلمّت مُلِمة قالوا نحن الله، كم ونحن أمانته وملكه، ويجب أن تُرجَع الأمانة إلى صاحبها..هؤلاء طوبى لهم، لأنهم الذين عليهم صلوات لأنهم هم اهتدوا إلى سبيل ربهم.الله وبر ركاته، وهم الذين وخلاصة القول إن الخُلُق المذكور في الآيات السابقة هو الصبر والرضا بمرضاة الله ويمكن أن يسمى العدل أيضًا، ذلك لأن الله

Page 111

VV تعالى ما دام يساير الإنسان طوال حياته فيما يبتغيه ويحقق له آلاف الأمور التي يريدها، وينعم عليه بما لا يُعَدّ ولا يحصى من النعم، فليس من الإنصاف - لو أراد الله تعالى أن ينفذ مشيئته هو في بعض الأمور - أن يُعرض عنه الإنسان ولا يرضى برضاه، بل يتذمر ويشتكي أو يكفر به ويضل عن سواء السبيل.مواساة الخَلْق ومن الحالات الطبعية التي تلازم فطرة الإنسان حماسه لمواساة الخلق.إن الحماس للمواساة تجاه أبناء الأمة موجود عند أهل كل دین كطبيعة فيهم، ومعظم الناس يظلمون غيرهم بدافع الحماس الطبيعي لمواساة قومهم وكأنهم لا يعتبرون غيرهم أناسا مثلهم.ولكن هذه الحالة ليست خُلُقا وإنما هى ثورة طبعية، نلاحظها – إذا - أمعنا النظر - حتى في الغراب وغيره من الطيور، فلو مات غراب اجتمع حوله كثير من جنسه وإنما تُعَدّ هذه العاداتُ الأخلاق من الإنسانية إذا تصرف فيها الإنسان مراعيا العدل والموضع الملائم، وعندئذ تتحول إلى خُلُق عظيم يسمى في العربية "المواساة"، وفي الفارسية "همدردي".

Page 112

۷۸ وإلى هذا الخُلُق يشير الله بقوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: ٣)..أي يجب علينا إعانة قومنا ومواساتهم فيما هو خير وحسن، ويجب ألا نساعدهم أبدًا فيما هو ظلم واعتداء.وقوله تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ (النساء: ١٠٥)..أي عليكم ألا تبرحوا منهمكين في مواساة القوم بدون كلل أو ملل.وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْحَائِنِينَ حَصِيمًا)) (النساء: ١٠٦)، وقوله تعالى: وَلا تُجَادِلْ عَن الَّذِينَ يَحْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ حَوَّانًا أَثِيمًا )) (النساء : ۱۰۸)..أي لا تخاصم ولا تجادل دفاعا عن الخونة الذين لا يرتدعون عن الخيانة، فالله تعالى لا يوالي أهل الخيانة أبدا.البحث عن ذاتِ عُليا ومن حالات الإنسان الطبعية بحثه عن الذات العليا التي توجد في قلبه جاذبية خفية إليها.وتظهر آثار هذا البحث في الوليد بمجرد لقد ذكر سيدنا المسيح الموعود والإمام المهدي العليا هنا نوعين من الآيات: نوع يتعلق بمواساة الخلق والتعاون على الخير؛ ونوع يأمر بإنزال العقوبة بالظالم إذا اقتضى الأمر، ليبين أن مواساة الخلق لا تمنع.معاقبة الشرير حماية لهم من شروره، فعقابه الله من أيضا يعتبر مواساة لهم.هذا التوضيح من حضرة الخليفة الرابع رحمه الناشر)

Page 113

۷۹ خروجه من بطن أمه.فإن أول ما يبديه الطفل من خواصه الروحانية بعد الولادة هو حبه لأمه وانجذابه إليها تلقائيا.ثم كلما أخذت حواسه في الجلاء والوضوح وتفتحت براعم فطرته..ازدادت باستمرار جاذبية المحبة هذه جلاءً وإشراقًا..حتى إنه لا يرتاح إلا في أمه، ولا يجد تمام السعادة إلا في حجرها الحنون.ولو أنه فصل عن أمه وطرح بعيدا عنها لصارت حياته مريرة كلية.لا يشعر بالسعادة والراحة مطلقا إلا في حجر أمه حتى لو كان بين يديه صنوف النعم.فما هو سر هذه الجاذبية والمحبة التي يشعر بها المولود نحو أمه؟ حضن إنها في الحقيقة جاذبية المحبة التي أودعت في فطرة المولود للإله الحق.بل إنها نفس الجاذبية التي تفعل فعلها في كل رابطة حب ينشئها الإنسان، وهي التي تنعكس في وجدانه وهيامه هنا وهناك، فكأنه يفتش ويبحث من بين هذه الموجودات عن ضالته التي قد اسمها.فإن حُب الإنسان للمال أو الولد أو الزوج، أو انجذاب روحه إلى غناء ذي لحن جميل، إنما هو في الحقيقة بحثه عن ذلك المحبوب المفقود.وبما أن الإنسان لا يمكن أن يرى بعيونه المادية تلك الذات اللطيفة للغاية والكامنة في كل شيء كمون النار في الزند، والمستترة عن

Page 114

الجميع، والتي لا يستطيع أن يدرك كنهها بعقله الناقص، لذلك فقد ارتكب أخطاء كبيرة في معرفتها ونسب ما لها إلى غيرها خطأً.وما أروعَ المثالَ الذي ذكره الله تعالى في القرآن المجيد لتوضيح هذا الأمر! حيث شبه هذا العالم بصرح مهدت أرضيته بزجاج شفاف للغاية، تجري من تحتها المياه بقوة.فمن نظر إلى هذا الفناء الزجا.المصقول حسبه ماء أن وخشي يمشي عليه كما يخشى المشي على مع أنه في الواقع زجاج شفاف.فكذلك الأجرام الجسام التي نراها، فهي بمنزلة ألواح زجاجية شفافة عبدها الناس وهناك الماء، وراء ستر هذا الزجاج قدرة عليا تعمل بكل قوة وسرعة كالماء الدافق، ولكن خداع البصر هو الذي ضلل عبدة المخلوق؛ حيث عَزَوا إلى الزجاج ما تديره تلك القدرة من أفعال.وهذا هو وهذا هو المعنى الذي تشير إليه الآية: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) (النمل: ٤٥).خطأ الفلاسفة ما يكون، إن ذات الله تعالى - مع كونها جلية للغاية - هي - لذلك لم يكن هذا النظام المادي المتجسد أمام أعيننا كافيا لمعرفة الله تعالى.ولهذا السبب فإن الذين اعتمدوا على ظواهر هذا النظام لمعرفة الله..وما برحوا ينظرون بكل إمعان وتدبر في ترتيبه

Page 115

۸۱ الكامل المحكم المشتمل على عجائب لا تحصى..حتى برعوا في علوم الفلك والطبيعة والفلسفة، وكأنهم جاسوا خلال السماوات والأرض إلا أنهم مع كل هذا، ما استطاعوا النجاة من ظلمات الشكوك والشبهات، وأكثرهم وقعوا في أنواع الأخطاء الفادحة وصنوف الأوهام الواهية، فانحرفوا وضلوا ضلالا بعيدا.وكان أقصى ما عرفوه عن وجود الخالق أنهم لما رأوا نظام الكون المحكم قالوا في أنفسهم أنه لا بد لهذا الكون العظيم ذي النظام الحكيم من خالق.ومن البديهي أن هذه الفكرة غير كاملة وهذه المعرفة ناقصة..لأن قولهم: "لا بد لهذا الكون من "خالق لا يساوي أبدًا قولنا: "إن هذا الخالق لموجود بالفعل".لذلك لم تكن معرفتهم تلك إلا قياسا بحتا، كليةً ولا تبعث الطمأنينة ولا السكينة في القلب، ولا تزيل الوساوس من النفس، وليست هي بالكأس التي تُطفئ الظمأ الذي فُطر عليه الإنسان للمعرفة الكاملة لله.بل إن هذه المعرفة الناقصة تُشكل خطرا شديدا، لأنها لا تعود بطائل رغم كل هذه الثرثرة والكلام.إذن فما لم يُظهر الله تعالى وجوده بكلامه كما قد أثبت في الحقيقة لا تكون مشاهدة أفعاله وحدها كافيةً لجلب الطمأنينة للإنسان.فمثلا إذا صادفنا حُجرةً مغلقة من الداخل، يتبادر إلى الذهن أول وهلة أن هناك شخصا داخل الغرفة أغلقها من

Page 116

۸۲ الداخل، لأن إغلاق الغرفة بالقفل الداخلي مستحيل من الخارج.ولكن إذا نادينا مرارا وتكرارا أياما وسنين و لم نتلق جوابا من داخل الغرفة..بدلنا رأينا وقلنا إنه ليس بداخلها أحد، وتصورنا أن الإغلاق قد تم بحيلة بارعة وهذا هو حال أولئك الفلاسفة الذين قصروا معرفتهم على المشاهدة فحسب.وإنه لعمري خطأ كبير أن يُعتبر الإله كالميت الذي لا يقيمه من ضريحه إلا الإنسان.ولو أن الإله لا يُستدل على وجوده إلا بجهود البشر لكانت كل آمالنا في مثل هذا الإله عبثا.وإنما الإله هو ذلك الذي ما زال منذ الأزل يدعو الناس إليه بقوله: أنا الموجود.إن من الوقاحة الشديدة أن نظن أن للإنسان على الإله فضلا في معرفته إياه، ومن الوقاحة الشديدة الظن أنه لولا الفلاسفة لبقي الإله مفقودا كما كان.ومن الجسارة الكبيرة أن نقول: كيف يقدر الله وليس له لسان؟ ألم يخلق جميع الأجرام السماوية والأرض بدون يدين ماديتين؟ ألا يرى كل الكون بدون عين مادية؟ ألا يسمع بدون أذنين ماديتين؟ أفليس من الضروري إذن أن يتكلم أيضا هكذا؟ ليس صحيحا أبدا القول بأن الله كان يتكلم فيما مضى ولا يتكلم الآن.كلا! إننا لا نحدد كلامه ومخاطباته في زمن دون زمن لا جرم أنه سبحانه لا يزال كما كان مستعدا ليعطي السائلين عطاء على النطق دعواتنا

Page 117

۸۳ جزيلا من ينبوع وحيه، وأن أبواب رحمته مفتوحة الآن كما كانت سابقا.غير أن إنزال الشرائع والحدود الجديدة قد انتهى لانقطاع الحاجة لذلك، وأن جميع النبوات والرسالات قد تكاملت ببلوغها النقطة الأخيرة لها في شخص سيدنا محمد المصطفى.الحكمة في بعث النبي ﷺ من العرب إن ظهور هذا النور الأخير من بين العرب لا يخلو من حكمة.كان العرب شعبا من سلالة بني إسماعيل الذين انفصلوا عن بني إسرائيل، وأُلقى بهم لحكمة إلهية في برية فاران ومعنى "فاران" أما أما البلاد الهاربان.فبنو إسماعيل الذين فصلهم إبراهيم بنفسه عن بني إسرائيل، لم يكن لهم نصيب في شريعة التوراة، كما هو مذكور أنهم لن يرثوا مع إسحاق.وهكذا هجرهم من كان على قرابة معهم، الآخرون فما كان لهم من قرابة أو رابطة أخرى معهم.الأخرى فكان بها تقاليد من العبادات وآثار من الأحكام مما يدل على وصول تعاليم الأنبياء إليها في زمن من الأزمان.ولكن بلاد العرب وحدها كانت تجهل تلك التعاليم، وكانت بذلك أكثر البلدان تخلفا، ولأجل ذلك كله جاء دورها في نيل النبوة بعد الجميع.وكانت نبوتها عامةً لتشمل العالمين قاطبة بالبركات مرة

Page 118

٨٤ أخرى، ولتزيل عنهم ما وقعوا فيه من أخطاء.إذن فأي كتاب ننتظر بعد هذا الكتاب الكامل، الذي تكفل بالإصلاح البشري بأجمعه، ولم يخص قوما دون قوم كالصحف الأولى..بل توخى إصلاح الأمم كلها..وبين ما يخص التربية البشرية بكل درجاتها..وعلم المتوحشين الآداب الإنسانية..ثم بعد أن جعلهم أناسا- أرشدهم إلى الأخلاق الفاضلة؟ فضل القرآن المجيد على العالم إن القرآن وحده هو الكتاب الذي أحسن إلى العالم..بأن ميّز بين الحالات الطبعية والأخلاق الفاضلة..وأخرج الإنسان من الحالات الطبعية إلى ذروة الأخلاق السامية، ولم يكتف بذلك، بل قطع المرحلة الباقية..وهي الوصول إلى مقام الحالات الروحانية.فقد فتح لذلك أبواب المعرفة الحقيقية و لم يفتح الأبواب المؤدية إلى ذلك المقام فحسب، بل لقد أوصل إليه مئات الآلاف من البشر.وهكذا وضح بكل روعة وجمال الأقسام الثلاثة من التعاليم التي سبق ذكرنا لها.وبما أن القرآن جامع تماما لجميع التعاليم الضرورية للتربية الدينية، لذلك أعلن أنه أكمل دائرة التعليم الديني فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (المائدة : ٤ )..أي أن منتهى الكمال الديني يتمثل في معنى (المائدة:٤)..

Page 119

٨٥ نجاته الإسلام..أي أن يكون الإنسان الله وحده..وأن يبتغي بالتضحية بنفسه لا بأي طريق ،آخر ثم ينفذ هذه النية والإرادة بالعمل.هذه هي النقطة التي تنتهي إليها الكمالات كلها.فالإله الحق الذي لم يهتد إلى معرفته الفلاسفة..قد هدى إليه القرآن الحكيم.ولقد اتخذ لإعطاء معرفة الله منهاجين: الأول ما يصبح به العقل في غاية من القوة والجلاء في استنتاج الأدلة العقلية، ويتقي به الخطأ والعثار.وأما المنهاج الآخر فهو روحاني، وسنذكره -إن شاء الله في جواب السؤال الثالث.- الأدلة العقلية على وجود الله تعالى الآن انظروا ما أحسن وما أبدع ما ساقه القرآن الحكيم من أدلة عقلية على وجود الله تعالى.يقول في موضع منه: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلِّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه:٥١)..يعني أن الله هو الرب الذي وهب لكل شيء خِلقة بحسب حاله، ثم هداه إلى ما يستكمل به غايته التي خُلق لأجلها.ولو نظرنا على ضوء معنى الآية إلى بنية كل المخلوقات الموجودة في البر والبحر من إنسان ودابة وطير لتجلت لنا قدرة الله تبارك وتعالى..كيف أنه وهَب لكل

Page 120

٨٦ مخلوق بنية مناسبة له إن موضوع الآية واسع جدا، فليتدبره القرّاء بأنفسهم.والدليل الثاني على وجود الله في القرآن المجيد هو كون ذاتِ الله علة العلل، حيث يقول: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (النجم :٤٣ )..أي أن سلسلة الأسباب والمسببات كلها في نظام هذا العالم تنتهي إلى الله سبحانه وتعالى وبيان ذلك أن جميع الموجودات مرتبطة بسلسلة السبب والمسبب.ومن أجل ذلك ظهرت أنواع من العلوم في العالم، إذ لا يخرج عن هذا النظام أي من المخلوقات.فالبعض منها بمنزلة الأصول والبعض الآخر منها كالفروع ومن البديهي أن العلة إما تقوم بذاتها أو بوجود علةٍ أخرى، وهذه تقوم بعلة ثالثة وهلم جرا.ولا يصح أبدا أن تكون سلسلة العلل والمعلولات في الكون المحدود بدون نهايةٍ وحد.وعليه فلا بد من التسليم بأنها – لا هي محالة تنتهي بعلة السلسلة من العلل هو الله العلة الأخيرة.فالمنتهى الذي تنتهي إليه هذه تعالى.فتبصروا كيف أن الآية: ﴿وَأَنْ إلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى تبين الدليل المذكور بأبلغ بيان في كلمات قصيرة.101 ثم ساق دليلا آخر على وجود الله تعالى قائلا: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (يس: ٤١)..أي لا الشمس تستطيع أن تلحق القمر، ولا الليل –

Page 121

۸۷ وهو مظهر القمر - يمكنه أن يتعدى النهار - الذي هو مظهر الشمس.أي لا يمكن لأحدهما أن يتجاوز حدوده المقدرة.فلو لم يكن هناك مدبر ينظم سيرها من وراء الحجب لاختل نظام الكون كله.وهذا الدليل نافع جدًّا للمتفكرين في هيئة الأفلاك..لأن النظام الفلكي يضم عددًا لا يحصى من الأجرام الضخام، بحيث إنه لو وقع فيها خلل ولو كان بسيطا جدًّا لانهار العالم كله.فما أعظمها من قدرة تتحكم في هذه الأجرام بحيث لا تتصادم ولا تغير من سرعتها قيد شعرة، ولا هي تأكلت ولا اندثرت ولا حدث نقص في أدواتها وأجزائها، مع استمرار العمل طول هذه المدة! فكيف أمكن استمرار هذا النظام العظيم الضخم من تلقاء نفسه منذ سنين لا تحصى، إن لم يكن هنالك فوقه مهيمن حفيظ ؟ وإلى هذه الحكم نفسها يشير الله تعالى في موضع آخر بقوله: أفي الله شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (إبراهيم: (۱۱)..أي هل يمكن الشك في وجود الله الذي خلق السماوات والأرض بهذا الشكل؟ كذلك يذكر الله سبحانه دليلا لطيفا آخر على وجوده قائلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ (الرحمن: ۲۷-۲۸)..أي أن كل شيء في معرض الزوال، وأما الباقي فهو الله ذو الجلال والإكرام.ولنفرض أن الأرض تفتتت

Page 122

۸۸ وصارت غباراً، وانفطرت الأجرام الفلكية وصارت هباء، وهبَّت عليها عاصفة الفناء فمحت أي أثر منها، ومع هذا فإن العقل يسلم، بل إن الوجدان السليم يرى من الضروري أن يبقى بعد كل هذا الفناء شيء واحد لا يفنى ولا يقبل تغييرا ولا تبديلا، بل لا يزال على حالته الأولى، وذلك الشيء الوحيد هو الله الذي خلق كل الأشياء الفانية ويبقى هو بعيدا عن يد الفناء.ثم يقدم الله في القرآن الكريم دليلا آخر على وجوده قائلا: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) (الأعراف:١٧٣)..أي سألتُ الأرواح فأجبن كلهن بأني ربهن.وفي هذا الحوار يشير الله تعالى إلى خاصية غرسها في فطرة الأرواح، وهي أنه ليس هناك روح تستطيع بفطرتها أن تنكر وجود الله، وإنما ينكره الجاحدون لأنهم لا يجدون في زعمهم دليلا على وجوده تعالى، ولكنهم مع مع هذا الجحود يسلّمون بأنه لا بد لكل حادث من مُحدث.لا يوجد في العالم أحمق واحد يصاب بدنه بداء فيصرّ على أن ليس وراء هذا الداء والحق أنه لولا انضباط نظام هذا الكون بسلسلة العلل والمعلولات، لما أمكن الإنباء أنه في وقت كذا سيأتي الفيضان، أو تهب العاصفة، أو يحدث الخسوف أو الكسوف، أو يموت المريض، أو أنه في وقت كيت وكيت يصاب المريض بكذا وكذا من الأعراض.ولذلك فمثل من علة خفية.

Page 123

۸۹ هذا العالم الملحد يقرّ بوجود الله تعالى ضمنيًا وإن أنكر به علنًا، لأنه يظل - كمِثْلنا - في البحث والتفتيش عن الأسباب للمسبّبات، وهذا أيضا نوع من الإقرار، وإن كان غير كامل.ثم إننا لو وضعنا المنكر لوجود الله تحت تأثير مخدر بحيث تتعطل منه جميع إراداته، ويذهل عن أفكار الحياة الدنيا، ويصبح في تصرف ذي سلطان أعلى، لاعترف عندئذ بوجود الله تعالى، ولما كفر به، وقد شهدت بذلك اختبارات كبار المجربين.وإلى هذه الحالة تشير هذه الآية، والمراد منها أن الجحود بوجود البارئ يتم بتأثير الحياة الدنيا..وإلا فإن الفطرة السليمة لتعترف تماما بوجود الله سبحانه وتعالى.صفات البارئ تعالى هذه بعض الأدلة على وجود الخالق و ذكرناها على سبيل المثال.هذا وينبغي أن تعلموا أيضا أن الإله الذي دعانا إليه القرآن الكريم قد ذكره بهذه الصفات بقوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) (الحشر: ۲۳) وقوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (الفاتحة: ٤)،

Page 124

وقوله تعالى: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (الحشر: ٢٤)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر: ،(٢٥ وقوله تعالى: ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: ١٤٩)، وقوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدين (الفاتحة: ٣-٥)، وقوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة: ۱۸۷)، وقوله تعالى: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) (آل عمران: ۳)، وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص) أي أن الله هو الإله الأحد، الذي ليس له شريك يستحق العبادة والطاعة.ذلك لأنه لو كان معه إله شريك لجاز أن يغلب عليه الإله الشريك بسلطته، وبالتالي تتعرض ألوهيته للخطر.وقوله بأن لا أحد يستحق العبادة سواه فيعني أنه إله كامل ذو محامد كاملة ومحاسن عالية وكمالات سامية..بحيث لو أردنا أن نختار معبودا من بين جميع الموجودات نظرا إلى كمال الصفات، أو تصورنا غاية ما

Page 125

۹۱ نستطيع تصوره من صفاتٍ أعظم وأعلى لمعبود، لكان الأعلى بين الجميع..الذي لا يوجد أعلى منه مطلقا..هو الله..الذي من الظلم أن يشرك في عبادته من هو دونه.ثم قال إنه "عَالِمُ الْغَيْبِ"، أي أنه هو نفسه يعلم ذاته، ولا يقدر غيره أن يحيط ويدرك ذاته.نستطيع أن نرى صورة الشمس والقمر وكل مخلوق، إلا أننا عاجزون عن رؤية ذات الله تعالى.ثم قال "والشهادة"، يعني أنه لا شيء مستتر عن نظره.لا يجوز أن يسمى إلها من يبقى في غفلة عن علم المخلوقات.كلا، إن كل ذرة من العالم تحت بصره، وأما الإنسان فلا يستطيع ذلك.إنه تعالى يعلم متى يُفني هذا النظام ومتى يقيم القيامة، ولا أحد سواه يعلم متى يكون هذا..فالذي يعلم جميع هذه المواعيد هو الله تعالى.أنه وقوله "هُوَ الرَّحْمَنُ" يعني هو الذي يُهيئ لذوات الحياة كل ما تحتاج إليه من أسباب المعيشة والراحة حتى قبل وجودها.كل ذلك بفضل بحت منه، وليس نتيجةً لأعمالها وسعيها.فإنه سبحانه خلق لأجلنا الشمس والأرض وغيرهما من المخلوقات حتى قبل وجودنا د أعمالنا.وهذا العطاء يسمى في كتاب الله "الرحمانية"، ووجود ونظرا إلى هذا الصنيع يُدعى الله بـ"الرحمن".

Page 126

۹۲ وقوله "الرّحِيمُ" يعني أنه يجزي على الأعمال الصالحة خيرا، ولا يضيع عمل عامل وباعتبار هذه الصفة يُدعى الله ب "الرحيم"، يوم الدين" يعني أنه وصفته هذه تسمى الرحيمية".وقوله "مالِكِ جعل في يده جزاء كل واحد وليس له من وكيل فوض إليه تدبير ملك السماوات والأرض، وقعد بنفسه جانبا لا يفعل شيئا، بينما يقوم أو سيقوم وكيله بمهمة المجازاة والعقاب.ثم قال "المَلِكُ القُدّوس" أي أنه صاحب السلطان الذي ليس فيه وصمة عيب.الواضح أن مُلك البشر لا يخلو من نقص، فمثلا لو هاجرت الرعية كلها من دولة ملك إلى دولة أخرى لضاع ملكه؛ أو لو حل القحط والمجاعة بالرعية كلها، فمن أين تجى الأموال؟ أو إذا قامت الرعية تجادل الملك قائلة : بأي ميزة صرت ملكا علينا..فماذا عساه يقول ردا على ذلك؟ ولكن سُلطان الله ليس كهذا.إنه قادر على أن يُهلك الجميع في لمح البصر ويأتي بخلق آخر جديد.ولو لم يكن خلاقا وقديرا هكذا لما قام حكمه إلا بظلم.وإلا فمن أين يأتي بخلق جديد إلى الدنيا ليمارس عليهم سلطانه..بعد أن يكون قد شمل جميع خلقه الأولين بالعفو والنجاة؟ فهل يسترد – ظلما واعتسافا - - من عباده الناجين النعم التي أعطاهم إياها، ويسلبهم المغفرة التي تفضل بها عليهم، لكي يزج بهم مرة أخرى في الحياة الدنيا ليعمرها

Page 127

۹۳ ويحكمها.ستكون ألوهيته في هذه الحالة معيبة، ويصير ملكه ناقصا شأن ملوك الدنيا الذين لا يبرحون يسنّون لرعيتهم قوانين جديدة ويستبد بهم الغضب على كل صغيرة وكبيرة، وعندما لا يجدون بدا من الظلم قضاء لمآربهم- يستسيغون الظلم والجور كما يستسيغ الرضيع لبن أمه.فمثلا يجيز القانون الملكي إغراق ركاب سفينة صغيرة إنقاذا لسفينة كبيرة، ولكن الواجب ألا يُضطر الإله القدير هذا الاضطرار.فلو لم يكن الإله كاملا في قدرته، خلاقا من عدم للجأ - بدلاً.- من إظهار قدرته - إلى الظلم كالملوك الضعفاء، أو لتخلى عن ألوهيته مراعاةً للعدل كلا، إن سفينة الله سائرة مع كل قدرة وفي عدل كامل.محض، وقوله "السلام" يعني أنه منزه عن جميع العيوب، سالم من كل المصائب والمشقات، بل إنه مانح السلام للآخرين.وهذا بديهي، لأنه لو كان بنفسه عُرضةً للنوائب وللضرب بأيدي الناس، وللفشل في إرادته فكيف تطمئن قلوبنا برؤية سوء حاله هذا بقدرة مثل هذا الإله على تخليصنا من الآلام؟ ولأجل ذلك يقول تعالى في الآلهة الباطلة: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ

Page 128

٩٤ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ " مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج: ٧٤-٧٥) وقوله تعالى: "ضَعُفَ الطَّالِبُ والمطلوب" يعني أن عابدي هذه الآلهة ضعاف العقول.أما الآلهة نفسها فهي ضعيفة القوة والحيلة.فهل يمكن لمثل هؤلاء أن يكونوا آلهة حقيقيين؟ إنما الإله من يكون أقوى من كل قوي وغالبا على الجميع.لا أحد يقدر على القبض عليه أو على ضربه.إن الذين يقعون في أعمال خاطئة كهذه لا يعرفون عظمة الله تعالى، ولا يدركون ما هي الصفات الواجبة للإله.أما قوله "المؤمِنُ" فيعني أنه واهب الأمان، والذي يقيم الدلائل على توحيده وكمالاته.وفي هذا إشارة إلى أن المؤمن بالإله الحق لا يخزى أبدا أمام مجلس من المجالس، كما لن يخجل أمام ربه، ذلك لأن أقوى البراهين.أما عابد الإله الباطل فهو دائما في مشكلة كبيرة، وبدلا من بيان الأدلة يسوق كل لاغية واهية مدعيا أنها من الأسرار الغامضة هروبا من خزي الاستهزاء، وإخفاء لأخطاء تأكد معه زيفها.وقال تعالى : "الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ"..أي أنه الحافظ الغالب عليهم المصلح لما خرب وفسد، المستغني كل للجميع، الاستغناء.

Page 129

۹۰ وقال: "الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى"..أي أنه خالق الأرواح كما أنه خالق الأجسام، وأنه المصور في الأرحام، وأنه صاحب جميع الأسماء الحسنى التي يمكن أن تتصور.وقال: "يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"..أي أن سكان السماوات يذكرون اسمه بالتسبيح والتقديس كما يذكره سكان الأرض.وفي هذه الآية إشارة إلى أن الأجرام السماوية أيضا عامرة بسكان ملزمين بتعاليم الله تعالى.وفي قوله تعالى: " عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ " سلوان للعابدين..إذ ما الفائدة أن نعقد عليه أملا ورجاء إذا كان عاجزا غير قادر؟ وقوله تعالى: "رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ" أنه هو الإله الذي يقوم بتربية كل العوالم.وأنه رحمن رحيم وهو بنفسه مالك يوم الدين، و لم يجعل هذه السلطة في يد أحد غيره.وقوله تعالى: "أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ"..يعني يعني أنه يسمع دعاء كل داعٍ يستجيب لدعائه؛ أي أنه مستجيب الدعوات.وقوله تعالى: "هُوَ الْحَيُّ الْقَيِّومُ"..يعني أنه الباقي للأبد، وأنه حياة الأحياء وقوام الموجودات كلها.إذ لولا أنه الأزلي الأبدي لكنا دائما أبدا في قلق ووَجَل من موته قبل موتنا.جميع

Page 130

٩٦ وقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * الله الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * أنه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ..يعني وحده إله، وليس بوالد لأحد، ولا مولود لأحد، ولا نظير له ولا أحد من جنسه.الخير الحقيقي وتذكروا أن الاعتقاد الصحيح بوحدانية الله تعالى، وعدم الإفراط والتفريط في شأنه، هو العدل الذي يراعيه الإنسان بحق مالكه الحقيقي.هذا كله هو القسم الأخلاقي الذي أوردناه من تعاليم القرآن المجيد.والأصل الأساسي في هذا أن الله قد صان الأخلاق كلها من الإفراط والتفريط، وقد سمى كل واحد منها خُلُقا ما دام لا يعدو حده الضروري الواجب بالنقص أو بالزيادة.فالواضح أن الخير الحقيقي هو الأمر الوسط بين حدين..أي بين الزيادة والنقصان أو الإفراط والتفريط فكل عادة تجذب الإنسان نحو الوسط وتثبته فيه الخلق الفاضل.وإن معرفة المكان المناسب والوقت هي التي تنشئ المناسب هي الوسط، فمثلا لو بذر الفلاح الحب قبل الأوان أو بعد فواته، لجانب الوسط في الحالتين.إن الخير والحق والحكمة جميعًا تقع في الوسط، والوسط يتوقف على معرفة المحل الأنسب، أو بعبارة

Page 131

۹۷ أخرى..إن الحق هو الذي يتوسط دائما بين باطلين متضادين.ولا شك أن مراعاة المحل الصحيح تماما يحفظ الإنسان دائما في الوسط.إن علامة الطريق الوسط في معرفة الله هي ألا يميل الإنسان في بيان - صفاته..لا إلى نفي الصفات عنه تماما، ولا إلى تشبيهه سبحانه- بالأشياء الدنيوية.وهذا هو الطريق نفسه الذي اتبعه القرآن المجيد في بيان صفات الله تعالى.فبينما يقول إن الله يرى ويسمع ويعلم ويتكلم..فإنه من ناحية أخرى يُنزهه عن مماثلة المخلوق ويقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ :(الشورى: ۱۲)، ويقول تعالى: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ (النحل) (٧٥ أي لا أَحَدَ شريك الله لا في ذاته ولا في صفاته تعالى، فلا تضربوا الله الأمثال من مخلوقاته.إنما الطريق الوسط هو اعتبار ذات الله بين التشبيه والتنزيه.الفارق بين التعليم الإسلامي وغيره إذن، فتعاليم الإسلام كلها وسط واعتدال.وسورة الفاتحة أيضا تعلم الوسطية، لأن الله يعلّمنا فيها دعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الصَّالِينَ والمراد من " الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ " أولئك الذين يستعملون قوة غضبهم بما يخالف مرضاة الله، وهكذا ينقادون للقوى السبعية فيهم.

Page 132

۹۸ والمراد من " الضالين " أولئك الذين يطاوعون القوى البهيمية فيهم.وأما الأمر الوسط فهو الذي ذكره في قوله " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ".قصارى القول..إن الله قد أمر هذه الأمة المباركة في القرآن المجيد بالوسطية.أما في التوراة فقد ركز الله على أحكام الانتقام، وفي الإنجيل ركز على تعليم العفو والسماح.وأما هذه الأمة فعلمها مراعاة الظروف والوسطية..كما يقول الله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (البقرة: ١٤٤)..أي جعلناكم العالمين بأوسط الأمور الأمور وعلمناكم الوسط.فطوبى لمن يسلكون الوسط، فإن خير أوسطها.

Page 133

۹۹ الإصلاح القرآني الثالث إصلاح الحالات الروحانية أما الجزء الثالث من السؤال فهو عن الحالات الروحانية..وقد ذكرنا فيما سبق أن منبع الحالات الروحانية -حسبما هدانا إليه القرآن المجيد- هو "النفس المطمئنة" التي تصل بالإنسان من مرتبة جل أن إنسان "أخلاقي" إلى مرتبة إنسان "رباني"..كما يقول الله شأنه: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ " ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )) (الفجر: ۲۸-۳۰).وتبيانا للحالات الروحانية يجدر بنا هنا أن نفسر هذه الآية بشيء من الإيضاح.ولنتذكر أن أعلى درجة روحانية للإنسان في الحياة الدنيا هي يطمئن إلى ربه، وأن يجد كل السلوان والسرور واللذة في الله.وهذه الحالة التي تسمى بعبارة أخرى الحياة الفردوسية".في هذه الحالة يظفر الإنسان بجنة الدنيا جزاءً على كامل صدقه وصفائه ووفائه.وبينما يكون غيره من الناس لا يزالون يتطلعون إلى الجنة الموعود بها في المستقبل..يدخل هذا في جنة حاضرة.عند بلوغ هذه هي

Page 134

الدرجة نفسها، يدرك الإنسان أن العبادة التي كان قد حمل أعباءها ومع ذلك هي في الحقيقة الغذاء الوحيد الذي يغذي روحه، والعماد الذي تقوم عليه حياته الروحانية بدرجة كبيرة، وأن الحصول على ثمرة هذه العبادة ليس موقوفا على عالم آخر.وعندئذ فإن حافزا مباركا هو بداية لنشأة النفس المطمئنة وتطورها يأخذ مكان كل اللوم الذي كانت تكيله النفس اللوامة للإنسان على حياته الدنسة، كانت تفشل في تحريك الرغبات الحسنة فيه كما ينبغي، وفي توليد النفور الحقيقي إزاء الرغبات الشريرة، وفي تزويده بالمقدرة الكاملة على التمسك التام بالفضيلة ومتى بلغ الإنسان هذه الدرجة حان له أن يحوز الفلاح الكامل.فتأخذ الشهوات النفسانية كلها في الخمود من تلقاء نفسها، ويهب على روحه نسيم منعش، يجعله ينظر إلى تقصيراته السابقة بعين الندامة.وحينئذ يطرأ على فطرة الإنسان انقلاب كبير، ويحدث في عاداته تغير عظيم؛ فيبتعد عن حالاته الأولى بعدا شاسعا، ويُغسل ويطهر؛ ويحبب الله الخير إلى قلبه، ويُذهب رجس الإثم عن فؤاده، ويقتحم جيش الحق مدينة قلبه، ويستولي الصدق على كل أبراج قصر فطرته، ويتغلب الحق ويزهق الباطل ويلقي سلاحه؛ وتكون يد الله تعالى فوق قلب هذا الإنسان، فيمشي كل خطوة تحت ظل الله تعالى.وإلى هذه الأمور عينها يشير

Page 135

الله 1.1 الله بقوله: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ (المجادلة: ۲۳)، وقوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّةَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ الله وَنَعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الحجرات: ۸-۹)، وقوله تعالى: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: ۸۲).فكل هذه إشارات إلى هذه الحالة الروحانية التي تحدث للإنسان عند وصوله إلى المرحلة الثالثة.ولن ينال بصيرة صادقة ما لم يصل إلى هذه المرحلة.و وأما قوله تعالى أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ فهو إشارة إلى أن الإنسان لا يمكنه أن ينال طهارة حقيقية خالصة إلا إذا أسعفته العناية السماوية والإنسان أثناء مروره بمرحلة منه النفس اللوامة يتوب مرة بعد أخرى، ويتعثر مرة بعد أخرى، بل كثيرا ما يقنط من صلاحه ويظن مرضه داءً لا علاج له.ولا يزال كذلك لمدة من الزمان، حتى إذا حل الوقت المقدر ليلا أو نهارا..ينزل عليه فجأةً نور..فيه قوة ربانية؛ وعندئذ يحدث في الإنسان انقلاب عجيب، ويشعر بتصرف قوي من يد وراء الغيب، ويشاهد عالما عجيبا.فهنالك يعلم الإنسان يقينا أن الله موجود، وتتمتع عيونه بنور لم يتمتع به من قبل.

Page 136

۱۰۲ كيف السبيل إلى الروحانية الحقيقية؟ فاعلموا ولكن كيف نهتدي إلى ذلك السبيل، وكيف نفوز بذلك النور؟ أن في هذا العالم – وهو عالم الأسباب – توجد علة لكل معلول، ومحرك لكل حركة، وطريق لتحصيل كل علم..يسمى الصراط المستقيم.ولا يوجد في الدنيا شيء يوهب من دون العمل بالقوانين التي وضعها الله القدير منذ الأزل.إن النواميس الطبيعية تشهد بأن تحقيق أي غرض مرتبط بصراط مستقيم، وعليه يتوقف الوصول إلى ذلك الغرض.فمثلا لو كنا في غرفة مظلمة واحتجنا إلى ضوء الشمس..فإن الصراط المستقيم لذلك أن هو نفتح المواجهة للشمس.فإذا ضوء الشمس يغمر الغرفة ويضيئها لنا.كذلك لا بد من وجود نافذة لنيل بركات الله الحقيقية اليقينية، ولا بد من طريق خاص نحصل به على الروحانية الخالصة.أجل، إن ذلك الطريق هو أن نبحث للأمور الروحانية عن صراط مستقيم..تماما كما لا نزال نبحث عن طرق سليمة للنجاح في أمور حياتنا كلها.النافذة ولكن هل ذلك الطريق يعني أن نتحرى الوصال بالله تعالى..معتمدين فقط على قوة عقولنا، أو ما نخترعه من عند أنفسنا؟ هل يمكن لقوة منطقنا وفلسفتنا وحدها أن تفتح لنا أبواب الله التي

Page 137

۱۰۳ يتوقف انفتاحها على يده القوية؟ ألا فاعلموا يقينا أن هذا غير صحيح بتاتا.إننا لن نستطيع مطلقا أن نحظى بوصال ذلك القيوم بوسائلنا المجردة وإنما الصراط المستقيم الوحيد في ذلك..هو أن نكرس حياتنا وجميع قوانا في سبيله أولا..ثم لا نبرح ندعو حتى نجد الله بمساعدة منه عز وجل.دعاء رائع الدعاء الرائع – الذي يعلمنا الوقت الصحيح والفرصة الملائمة لطرح السؤال إلى الله، والذي يرينا صورة الابتهال الروحاني الفطري (عند السؤال) - هو ذلك الدعاء الذي علمنا الله إياه في مستهل كتابه المجيد..أي دعاء سورة الفاتحة وهو: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..كل المحامد الممكنة هي الله خالق كل العوالم وحافظها.الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)..الذي هيّأ لنا أسباب رحمته حتى قبل أعمالنا، ثم بعد أعمالنا يجزينا عليها برحمته.مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ..هو وحده مالك يوم الجزاء، ولا يفوض هذا الأمر إلى يد أحد سواه.

Page 138

1.2 إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ..يا من تجمع في ذاتك هذه المحامد كلها..نعبدك ونسألك وحدك التوفيق في كل عمل.إن الاعتراف بالعبودية بصيغة الجمع هنا إنما يعني أن جميع قوانا منهمكة في عبادتك، وخاضعة على بابك.فالإنسان - باعتبار قواه الباطنة – يصبح بمثابة جماعة وأمة، وهكذا فإن سجود جميع القوى الله بهذا المعنى هو نفس الحالة التي تسمى "الإسلام".اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ذُلَّنا على صراطك المستقيم وثبتنا عليه، ثم دُلُّنا على صراط القوم الذين أنعمت عليهم وأكرمتهم ، فأصبحوا موردا لفضلك وكرمك.غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الصّالِينَ.وَاحْمِنا من سلوك طريقِ غضبت عليهم و لم يستطيعوا الوصول إليك، وإنما ضلوا سبيلك.(آمين)..أي يا رب حقق لنا هذا.تبين لنا هذه الآيات أن نعم الله تعالى التي تسمى "فيوضا" أيضا - لا تتنزل إلا على أولئك الذين قد ضحوا بحياتهم في سبيل الله، ونذروا كل وجودهم لأجله، وتفانوا في مرضاته، ثم ما برحوا يدعون..حتى يسعدوا بكل ما يمكن أن يُعطى للإنسان من النعم الروحانية..من قرب الله ووصاله ومكالمته ومخاطبته.ثم إلى جانب هذا الدعاء يعبدون الله بجميع قواهم ويجتنبون الذنوب، ولا يبرحون

Page 139

0.1 العتبة الربانية، ويحمون أنفسهم من السيئة بأقصى جهدهم، ويبتعدون عن سبل المغضوب عليهم.وبما أنهم يبحثون عن الله تعالى بهمة عالية وصدق لذلك يجدونه، ويُسقون من كؤوس المعرفة الإلهية الحقيقية.ضرورة الاستقامة الكاملة من الصدق إن الاستقامة المذكورة في هذه الآية تشير إلى أن الفيض الحقيقي الكامل الذي يوصل الإنسان إلى العالم الروحاني إنما يتوقف حصوله على الاستقامة الكاملة.والمراد بالاستقامة الكاملة حالة والوفاء لا يضرها أي ابتلاء بتاتا؛ أي هي صلة متينة لا يمكن أن يقطعها السيف، ولا تحرقها النارُ ، ولا تُضعفها أية آفة أخرى، ولا يصرمها موتُ الأعزة، ولا يخل بها فراق الأحبة، ولا يُرهب صاحبَها خوفُ الهوان والذلة، ولا يُفزع قلبه القتل ولا المظالم المروعة.إن هذا البابَ ضيّق جدًّا، وإن هذا الطريقَ حِدُّ وَعْرِ..ما أَشدَّ وُعورته !! آها وألف آه!! وإلى ذلك المعنى يشير الله جل شأنه بقوله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ

Page 140

١٠٦ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة: ٢٤).توضح هذه الآية بجلاء أن الذين يحبون الأقارب والأموال على حساب مرضاة الله هم الآثمون في نظر الله تعالى، الهالكون لا محالة..ذلك لأنهم آثروا على الله غيره.فهذه هي المرتبة الثالثة التي يصير فيها ربانيا من يبتاع في سبيل الله آلاف البلايا، ويميل إلى الله بصدق وإخلاص بحيث لا يبقى له أحد سواه، وكأن الجميع دونه قد ماتوا.فالحق أننا لن نرى الإله الحي ما لم نمت نحن.إن يوم تجلي الله هو ذلك اليوم الذي يطرأ فيه الموتُ على حياتنا المادية.إننا عميان ما لم نصبح عميانا عن رؤية غير الله؛ وإننا أموات ما لم نصبح كالموتى في يد الله.فإذا ما استوى وجهنا تجاهه تماما ظفرنا حينئذ بالاستقامة الحقيقية التى تغلب الشهوات النفسانية كلها، أما قبل ذلك فلا.وهذه هي الاستقامة التي تجلب الموت على حياة يعيشها الإنسان لنفسه.إن استقامتنا هي كما يقول سبحانه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (البقرة : ۱۱۳)..أي ضعوا رقابكم بين يدي.وهكذا فسوف يمكن لنا الوصول إلى درجة الاستقامة إذا ظلت كل جارحة من أجسامنا، وكل قوة من نفوسنا تعمل في سبيله تعالى، وأضحت

Page 141

۱۰۷ قل إن صَلاتِي حياتنا وموتنا له وحده كما يقول سبحانه: وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: ١٦٣).آثار الاستقامة الصادقة فإذا بلغ الإنسان في محبة الله تلك الدرجة التي يصبح فيها موته وحياته الله لا لنفسه، فإن الإله الذي لم يزل منذ الأزل يحب محبيه، يشمله عندئذ بمحبته، فينشأ في الإنسان من امتزاج المحبتين نور عجيب..لا تعرفه الدنيا ولا تستطيع فهمه.ولقد سفكت دماء آلاف الصديقين والأخيار..فقط لأن الدنيا لم تعرفهم.ولقد رُمُوا بتهمة الاحتيال والأنانية لأن الدنيا لم تستطع أن تبصر وجههم النوراني كما يشير قوله تعالى: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (الأعراف: ۱۹۹) فمن اليوم الذي ينشأ فيه ذلك النور يصير هذا الإنسانُ الأرضى سماويا، وينطق في داخله من هو مالك كل كائن، ويُري تجليات من ألوهيته، ويتخذ من قلبه المفعم بالحب الخالص عرشا له.وعندما الله له يتحول هذا الإنسان بانقلاب نوراني إلى إنسان جديد، يصبح إلها جديدا، ويُظهر له الجديد من سُنَنهِ وعاداته.ولا يعني ذلك أن الله -سبحانه- يعتريه التجدد عندئذ أو يكتسب عادات جديدة..

Page 142

۱۰۸ وإنما المراد أن الله يبدي لأجل هذا العبد شؤونا تختلف عن شؤونه المشهودة عموما..ولا تدري عنها فلسفة الدنيا شيئا.فيكون هذا الإنسان مصداقا لقوله جل شأنه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله وَاللَّهُ رَءُوفٌ (الْعِبَادِ (البقرة: ۲۰۸)..أي أن أفضل الناس من يتفانون في ابتغاء مرضاة الله تعالى، ويشترون رضوانه بنفوسهم؛ وهؤلاء هم الذين تشملهم رحمة الله.وكذلك فمن حاز درجة الروحانية حقا ضحى بنفسه في سبيل يقول الله في هذه الآية: إنما ينال النجاة من كل الآلام من يبيع الله تعالى.نفسه في سبيلي ونيل ،مرضاتي ويُثبت ببذل نفسه أنه الله تعالى، ويرى أن كيانه كله لم يخلق إلا لطاعة الله وخدمة المخلوق.ثم يأتي بالحسنات الحقيقية التي تتعلق بكل ملكة من ملكاته..برغبة وشوق، وحضور قلب..وكأنما هو ناظر في مرآة طاعته إلى حبيبه الحقيقي..حتى إن إرادته توافق إرادة الله تماما وتنحصر لذته كلها في طاعته، وتصدر عنه جميع الأعمال الصالحات على سبيل اللذة وليس عن طريق المشقة.هذه هي الجنة الدنيوية التي يحظى بها الإنسان الرباني فورا.وأما جنة الآخرة فما هي في الحقيقة إلا آثار هذه الجنة الحاضرة وأظلالها،

Page 143

۱۰۹ وسوف تمثلها القدرة الإلهية في العالم الثاني عيانا في صور حية محسوسة.وإلى هذا المعنى أشار الله وعمل إذ قال : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (الرحمن: ٤٧)، وقوله تعالى: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ (الإنسان: ۲۲)، وقوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْسِيرًا)) (الإنسان: ٦-٧)، وقوله تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبيلاً) (الإنسان: ۱۸-۱۹)، وقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (الإنسان: ٥)، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبيلا )) (الإسراء: ۷۳)..أي أن من يخشى ربه وتستولي عليه الرهبة لعظمة الله وجلاله فله جنتان إحداهما في هذه الدنيا، ثم الجنة الثانية في الآخرة.وهؤلاء الذين تفانوا في سقاهم ربهم شرابا الله طهر قلوبهم وأفكارهم ونياتهم وأن الأبرار يشربون شرابا مزج بالكافور، ويشربون من عين هم بأنفسهم يفجرونها تفجيرا.

Page 144

۱۱۰ حقيقة شراب الكافور والزنجبيل قلت فيما سبق إن كلمة "كافور" قد استعملت في الآية لأنها مشتقة من مادة "ك ف ر" التي تعني في اللغة العربية التغطية والإخفاء، وفي ذلك إشارة إلى أنهم قد شربوا بكل إخلاص كأس الانقطاع والرجوع إلى الله حتى بردت فيهم محبةُ الدنيا تماما.والقاعدة أن جميع الميول إنما تنشأ من خواطر القلب، فإذا تسامى القلب تماما عن الخواطر الفاسدة، ولم تبق له أية علاقة بها، أخذت تلك الميول الفاسدة تتضاءل شيئا فشيئا حتى تتلاشى تماما.فهذا هو المعنى الذي أراده الله هنا وأخبرنا بهذه الآية أن من مالوا إلى الله ميلا كاملا ابتعدوا عن شهوات النفس غاية البعد، وجنحوا إلى الله بحيث بردت قلوبهم من محبة الشواغل الدنيوية وحمدت شهواتهم كما يُخمد الكافور نيران السموم.ثم قال تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا) (الإنسان: ۱۸) ولنعلم أن كلمة "الزنجبيل" مركبة من كلمتين: "زنا" و"جبل"، ومعنى "زنا" في اللغة العربية صعد، فكأن الجملة المركبة زناً جبل" تعني: صَعَد الجبل.ولنعلم أن الإنسان يمرّ ما بين انحسار الداء السام عنه وقبل استرداد صحته كاملةً بحالتين: أولاهما أنه تزول عنه شدة السموم

Page 145

۱۱۱ كليةً، وتهدأ وطأة المواد المهلكة، وتنتهي هجمة التأثيرات السامة بسلام وعافية، ويسكن الطوفان المدمّر الذي طغى، إلا أن الوهن والضعف لا يزال في أعضائه فلا يستطيع القيام بعمل يتطلب منه القوة، وإنما يكون أشبه بميت ويتعثر في المشي مرة بعد أخرى.وأما الحالة الثانية فهي حالة الشفاء الكامل..إذ تعود إليه صحته الطبيعية، ويمتلئ البدن قوة ونشاطا يشجعه على أن يتسلق قمم الجبال دون مشقة، وأن يرتقي فوق التلال الشاهقة في نشاط وانبساط.وكذلك، فمثل هذه القوة إنما تتيسر للإنسان في الدرجة الثالثة من الارتقاء الروحاني، وإليه أشار الله في الآية المذكورة إذ يقول: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبيلا..أي أن أولياء الله الكمل يستوفون نصيبا كاملا من القوة الروحانية، فيجتازون كبريات العقبات وتتم على أيديهم صعاب الأمور، ويقدمون في سبيل الله تضحيات تحير العقول.تأثير الزنجبيل وليكن واضحا أن من خصائص الزنجبيل في علم الطب – واسمه - في الهندية (سوني) - أنه يزيد طاقة الجسم كثيرا، ويمسك الإسهال.

Page 146

۱۱۲ وقد سُمّي "زنجبيلا" لأنه يقوّي الضعيف، ويبعث فيه حرارة وطاقة بحيث يمكنه من تسلق الجبال.وقد أراد الله من سرد هذه الآيات المتقابلة في المعنى إذ ذكر في الأولى الكافور وفي الثانية الزنجبيل - أن يبين لعباده أن الإنسان إذا تحرك نحو الصلاح مُقلعا عن شهوات النفس..بدت فيه أولا حالة تخمد مواده السامة، وتأخذ شهواتُ نفسه في النقصان..كما يُسَكِّن الكافور حدةَ السموم، فهو لذلك ينفع في الكوليرا والحمى التيفية.مع ومتى زالت عن المريض شدة السموم تماما، واستعاد الصحة ضعف شديد..بدأت مرحلة ثانية يتقوى فيها المريض الناقه من شراب الزنجبيل.وشراب الزنجبيل في الروحانية هو تجلي الله بجماله وجلاله على عبده، ذلك التجلي الذي هو بمنزلة الغذاء للروح.فإذا تقوى الإنسان بالتجلي الرباني استطاع أن يصعد الجبال العالية الشاهقة، وينجز الأعمال الشاقة المحيرة التي لا يقدر أحد على إنجازها أبدا ما لم يكن قلبه مفعمًا بحرارة حب كهذه.ولبيان هاتين الله كلمتين عربيتين: إحداهما "الكافور" ومعناها الحالتين استخدم المسكن المغطي، والثانية "الزنجبيل" ومعناها الصاعد.وهكذا يجتاز السالكون هاتين المرحلتين في سلوكهم الروحاني.

Page 147

يردهم ۱۱۳ أما قوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالا وَسَعِيرًا (الإنسان : ٥)..فمعناه أن الذين لا يبتغون الله من صميم أفئدتهم..الله إلى الأسفل، فيبتلون بالإخلاد إلى الدنيا باستمرار، فيصبحون كأنهم مقيدون بالسلاسل، ويبقون دائما مائلين إلى الشواغل الأرضية..كأنما أعناقهم قد شدت بالأغلال التي لا تَدَعُهم يرفعون رؤوسهم نحو السماء، وتحترق قلوبهم بنيران الحرص والهوى..يودون أن يحصلوا على هذا المال ويقتنوا ذلك العقار، ويملكوا كذا من البلاد، ويقهروا فلانا من الأعداء، وأن يكون لديهم مقدار كذا من الثروة والغنى.وبما أن الله يرى أنهم لا خير فيهم، بل يجدهم منغمسين في المعاصي، لذلك يبتليهم بهذه البلايا الثلاث.سنة الفعل ورد الفعل وفي الآية إشارة أيضا إلى أن الإنسان إذا فعل فعلا قابله الله بفعل من عنده.فمثلا..إذا أوصد الإنسان كل أبواب حجرته، أتبع الله فعله هذا بفعل منه..بأن يُطبق عليه الحجرة بالظلام.ذلك لأن كل ما يترتب على أفعالنا من نتائج بمقتضى القوانين الطبيعية إنما هو في الحقيقة أفعاله سبحانه وتعالى..فهو العلة النهائية لجميع العلل.

Page 148

كذلك لو أن أحدا ابتلع سما زعافا..كان فعل الله بعد فعله هذا أن يُهلكه.وكذلك إذا اقترف أحد فعلا مشينا من شأنه أن يعرضه للعدوى فإن الله يُعقب فعله هذا بفعل منه فيصيبه الداء الخبيث.إذن، فكما نشاهد بكل وضوح في حياتنا الدنيوية أن لكل عمل من أعمالنا نتيجة محتومة..هي من فعل الله تعالى..كذلك تماما يسري نفس القانون في أمور الدين، كما يصرح الله بذلك في هاتين الآيتين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) (العنكبوت: (٧٠)، فَلَما زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ (الصف: ٦)..أي أن الذين بذلوا الجهد كله في ابتغاء مرضاة الله ۷۰)، سنجزيهم مقابل ذلك هداية إلى سبيلنا حتما، وأما من اعوج ولم يُردِ السير على الطريق المستقيم قابل الله فعله هذا باعوجاج قلبه.وقد وصف الله هذه السنة الربانية بأوضح بيان في قوله: ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الأَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (الإسراء:۷۳).وفي ذلك إشارة إلى أن الصالحين يتشرفون في هذه الدار برؤية الله، وأنهم في هذا العالم يحظون بلقاء محبوبهم الذي ضحوا لوجهه الكريم بكل شيء.

Page 149

110 نشأة الحياة الفردوسية فالمراد من الآية أن الحياة الفردوسية إنما يوضع أساسها في هذا العالم نفسه، كما أن أصل العماية الجهنمية إنما هو العيشة النجسة العمياء في نفس هذا العالم.ثم يقول الله : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) (البقرة: ٢٦).إن الله تعالى قد شبه هنا الإيمان بالجنة التي تجري فيها الأنهار.وليكن واضحا أنه قد ضمن هذا التشبيه فلسفة عليا، ونبهنا به إلى أن العلاقة التي توجد بين البستان والأنهار هي نفسها بين الإيمان والأعمال.فكما أن أي بستان لا يمكن أن يبقى مخضرا نضرا بدون الماء، كذلك الإيمان لا يسمى إيمانا حيا بدون الأعمال الصالحة.فإذا وجد الإيمان ولم توجد الأعمال فلا قيمة لهذا الإيمان، وإذا كانت الأعمال ولم يكن الإيمان كانت رياء.حقيقة الجنة والجحيم إن الجنة الإسلامية حقيقتها أنها ظل لإيمان الإنسان وأعماله في الحياة الدنيا..وما هي بشيء جديد يتلقاه الإنسان من الخارج، بل إن جنة الإنسان تنشأ من باطن الإنسان نفسه، وأن جنة المرء إنما هي

Page 150

١١٦ إيمانه وأعماله الصالحة التي يبدأ في التلذذ بها في هذا العالم نفسه.فيتراءى له في باطنه الإيمان حدائق والأعمالُ أنهارا..ثم في الآخرة سيشاهدهما عيانا.إن كتاب الله الكريم يعلّمنا أن الإيمان الصادق الخالص الراسخ الكامل بالله وصفاته وإراداته جنة نضرة وشجرة مثمرة، وأن الأعمال الصالحة أنهار هذه الجنة..كما يقول سبحانه وتعالى : في ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةٌ طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين (إبراهيم: ٢٥-٢٦)..أي أن الكلمة الإيمانية الخالية من كل إفراط وتفريط، ونقص وخلل، وكذب وهزل، والكاملة من جميع الوجوه..تماثل الشجرة الطيبة السليمة من كل العيوب، التي جذورها متأصلة في الأرض وفروعها عالية في السماء، والتي تؤتي ثمارها دائما، ولا يأتي عليها وقت تخلو فيه أغصانها من الثمر.وبتشبيه الكلمة الإيمانية بشجرة دائمة الثمر..ذكر الله هنا ثلاث علامات للإيمان: الأولى: أن يكون أصل الإيمان، أي معناه الحقيقي، ثابتا في أرض القلب.وذلك يعني بحقانيته وأصالته.أن تكون الفطرة الإنسانية والضمير قد سلما

Page 151

۱۱۷ والعلامة الثانية: أن تكون فروعها في السماء..بمعنى أن يكون الإيمان مقرونا بالبراهين العقلية بحيث توافقه السنن السماوية التي هي من أفعال الله تعالى والمراد أن يكون بإمكاننا التدليل على صحته وأصالته بأدلة مستنبطة من النواميس الطبيعية، وأن تكون تلك الأدلة من السمو وكأنها في السماء..ولا يمكن أن تصل إليها يد الشبهات.والعلامة الثالثة: أن تكون ثمارها الصالحة للأكل دائمة غير منقطعة.والمراد أن تكون للإيمان بعد العمل به تأثيرات محسوسة ركات مشهودة دائما أبدا، وفي كل زمن، وليس أن تظهر هذه وبرد البركات في زمن معين ثم تنقطع.ثم قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ احْتُنَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (إبراهيم:٢٧)..أي أنها كلمة لا تقبلها الفطرة البشرية، ولا تستقيم هي بحال من الأحوال أبدا، أمام البراهين العقلية أو القوانين الطبيعية، أو أمام صوت الضمير..بل إن هي روايات أو أقاصيص.إلا وكما شبه القرآن المجيد أشجار الإيمان الطيبة بالعنب والرمان وغيرهما من الفواكه الطيبة، وذكر أنها ستتمثل في عالم الآخرة وتتراءى في صور هذه الثمرات..كذلك شبه كلمة الكفر الخبيثة بشجرة الزقوم في الآخرة، كما قال الله تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ

Page 152

۱۱۸ شَجَرَةُ الزَّقُومِ " إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةٌ لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (الصافات: ٦٣- (٦٦).وكذلك قال : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ * طَعَامُ الأَثِيم " كَالْمُهْل يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ذُق إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَريمُ (الدخان: ٤٤ -٥٠) *..بمعنى: أي الضيافتين خيرٌ مقاما..أرياض الجنة أم شجرة الزقوم التي هي بلاء للظالمين؟ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم..أي أنها من الكبر والزهو لأنهما جذور جهنم.نوارها كأنه رؤوس الشياطين.والشيطان يعني الهالك، وهو مشتق من الشيط، والمقصود من الآية أن أكله سوف يسبب الهلاك.تنشأ ثم قال إن شجرة الزقوم طعام الذين يرتكبون السيئات عمدا، وأنه كالمهل..أي النحاس الذائب، يغلي في البطون كغليان الماء.ثم خاطب نزيل جهنم قائلا: ذُفٌ من هذه الشجرة يا صاحب العزة والكرامة وهذا الخطاب تعبير عن الغضب الشديد، والمراد: لو لم تتكبر ولم تعرض عن الحق بسبب عزتك وكرامتك الدنيوية لم تذق اليوم كل هذه المرارات.وقوله تعالى: ﴿ذُق إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يشير أيضا إلى أن كلمة "الزقوم" مركبة في الأصل من "دق" و "أَمْ".و "أم" و "أم".و "أم" مختصر من

Page 153

۱۱۹ قوله إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) حيث أخذ الحرف الأول من بداية الجملة والحرف الأخير من الجملة، وبدل "ذ" إلى "ز" لكثرة الاستعمال.وخلاصة القول إن الله تعالى مثل كلمة الكفر التي هي من هذه الدنيا بالزقوم واعتبرها شجرة الجحيم، كما مثل كلمة الإيمان التي هي من هذه الدنيا بالجنة المثمرة، وهكذا وضح أن الفردوس والجحيم إنما ينجم أصلهما في الحياة الدنيا، كما وصف سبحانه جهنم في موضع آخر قائلا: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ الْهُمَزَة : ۷-۸)..أي أن جهنم هي نار منبعها غضب الله وتشتعل بالمعصية، وتتغلب أولا على القلب.وهذا إشارة إلى أن أصل هذه النار إنما هي تلك الهموم والحسرات والآلام التي بالقلوب، ذلك لأن كل أنواع العذاب الروحاني تبدأ من القلب أولا ثم تستولي على الجسد كله.تأخذ وقال الله في موضع آخر : ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ (البقرة: ٢٥)..أي أن الوقود الذي يُبقي نار الجحيم مضطرمة على الدوام عبارة عن شيئين: أولهما الناس الذين نسوا الإله الحقيقي وأخذوا يعبدون ما سواه من المخلوقات أو الذين يدعون الآخرين أن عنهم: إنكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه كما يقول الله يعبدوهم..

Page 154

۱۲۰ حَصَبُ جَهَنمَ (الأنبياء: (۹۹)..أي سوف تلقون في جهنم أنتم وآلهتكم الباطلة الذين نصبوا أنفسهم آلهة مع كونهم من البشر.والثاني: الأصنام والأنصاب، إذ لولاها لما وجدت جهنم أيضا.لقد تبين من جميع هذه الآيات أن الجنة والجحيم - بحسب كلام الله القدسي – ليستا ماديتين كهذا العالم المادي، وإنما منشؤهما أمور روحانية سوف تُشاهَد بأشكال متجسمة في عالم الآخرة، ومع ذلك لن تكون من هذا العالم المادي.الوسيلة لإنشاء علاقة روحانية كاملة بالله تعالى نعود الآن إلى مقصدنا الأصلي ونقول: إن ما هدانا إليه القرآنُ المجيد من وسيلة للوصال بالله وصالا روحانيا كاملا هو "الإسلام" و"دعاء سورة الفاتحة"..أي أن يقف الإنسان حياته كلها في سبيل الله، ثم يستمر في الدعاء الذي علمه الله المسلمين في سورة الفاتحة.وهذان الأمران الإسلام ودعاء الفاتحة - هما مغزى الإسلام كله.الوسيلة المثلى للوصول إلى الله، ولشرب ماء النجاة هذه هي الحقيقية.بل إنها الذريعة الوحيدة التي سنها قانون القدرة لتطور أسمى للإنسان ولوصاله بالله.وإنما يظفر بالله من يقتحمون النار الروحانية

Page 155

۱۲۱ يشير إليها معنى الإسلام..ويعكفون على الابتهال بدعاء التي الفاتحة.معنى الإسلام ما هو الإسلام؟ إنه نار المحبة المتوقدة التي تُحرق حياتنا السفلى وتحرق آلهتنا الباطلة، ثم تضع أنفسنا ونفائسنا وأعراضنا قربانا بين يدي الإله الحق القُدوس وبورود هذا المعين نشرب ماء حياة جديدة، وترتبط ملكاتنا الروحانية كلها بالله ارتباط الخيط بالخيط، وتسطع من داخلنا نار كنار البرق، ونار أخرى تنزل علينا من أعلى؛ وبامتزاج هاتين الشعلتين يحترق كل ما في قلوبنا من هوًى وهوس ومحبة لغير الله، ويُقضى على حياتنا الأولى.هذه الحالة تسمى "الإسلام" في اصطلاح القرآن المجيد.آثار الحياة الروحانية بالإسلام يطراً الموت على ميولنا النفسانية، ثم بالدعاء نحيا من جديد.وهذه الحياة الثانية تستلزم نزول الوحي الرباني.والوصول إلى نفس هذا المقام يسمى اللقاء الإلهي..أي لقاء الله ومشاهدته.ومتى بلغ الإنسان هذه الدرجة يتصل بالله اتصالا وكأنه يراه بعينه،

Page 156

۱۲۲ ويُعطى قوةً، وتُنار حواسه وملكاته الباطنة كلها، وتبدأ الحياة القدسية تجتذبه بكل شدة.وهنالك يصبح الله تعالى للإنسان عينًا يبصر بها، ولسانا ينطق به، ويدا يبطش بها، وأذنًا ويدا يبطش بها، وأذنا يسمع بها، وقدما يمشي بها.وإلى هذه المرتبة تشير الآية: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)) (الفتح: (١١)..أي أن يده ) هي يد الله التي فوق أيديهم، والآية: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى (الأنفال: ۱۸).وخلاصة القول إن الإنسان في هذه المرتبة يتحد بالله تعالى اتحادا كاملا، وتسري مشيئة الله الخالصة في كل ذرة من كيانه، وتبدو حينئذ قواه الأخلاقية التي كانت من قبل واهنة كالجبال الراسيات، ويبلغ عقله وفراسته الغاية في اللطف.وهذا هو المراد من و الآية: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحِ مِنْهُ﴾ (المجادلة: ٢٣).ففى هذه الحالة تتدفق أنهارٌ من محبة الله وعشقه..بحيث يصبح سهلا هينا على الإنسان أن يموت في سبيل الله ويتحمل لأجله صنوف العذاب والخزي والهوان وكأن ذلك كله لا يساوي عنده كسر قشة.إنه ينجذب إلى الله انجذابا ولا يدري من يجذبه.إن يدا من الغيب تحمله وتسير به؛ وإن تحقيق مشيئة الله وإرادته يصبح أصل أصول حياته.وفي هذه المرتبة يرى هذا الإنسان ربه جد قريب كما

Page 157

۱۲۳ يقول سبحانه: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق: ۱۷)؛ وكما أن الثمرة إذا نضجت لم تلبث أن تسقط من تلقائها، فكذلك الإنسان عندما يصل إلى تلك الدرجة..تنعدم علاقاته السلفية كلها..وتزداد صلته بربه عمقا وتوثقًا، ويبتعد عن المخلوق بعدا، ويتشرف بكلام الله وحديثه.باب الوحي مفتوح والآن أيضا لا تزال الأبواب مفتوحة للوصول إلى هذه المرتبة كما كانت مفتوحة في السابق، ولا ينفك الله يهب هذه النعمة لمن ينشدونها كما كان يهبها من قبل.ولكن هذا الصراط لا يهتدي إليه الإنسان بثرثرة اللسان فقط، ولا يُفتح هذا الباب بكلمات فارغة وبأمور لا أساس لها.إن الطلاب كثيرون، ولكن قل من يجدون..فما السبب في ذلك يا ترى؟ أن بلوغ هذا المقام موقوف على كفاح صادق وتضحية مخلصة.تحدثوا ولو إلى يوم القيامة فلن يحدث شيء.إن أول شرط للسلوك في هذا السبيل أن يضع الإنسان بكل صدق- أقدامه في نار يفر منها الآخرون خائفين.إذا لم يكن في المرء حماس عملي فلا نفع في هتافات فارغة.يقول الله في هذا الشأن: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عني

Page 158

١٢٤ فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: ۱۸۷)..أي لو سألك عبادي أين أنا؟ فقل لهم: إنني قريب منهم.إنني أستجيب دعاء من يدعوني.فعليهم أن يبتغوا وصالي بالدعاء وليؤمنوا بي كي يفلحوا.

Page 159

السؤال الثاني كيف تكون حالة الإنسان بعد الموت؟ ١٢٥ أقول في جواب هذا السؤال: إن حالة الإنسان بعد الموت لیست في الحقيقة حالة جديدة، بل إن حالة حياته الدنيوية نفسها تنكشف يومئذ بجلاء أكبر إن كيفيات العقائد والأعمال هي التي صالحة كانت أم طالحة تكون كامنة في باطن الإنسان في هذا العالم، وتبعث في كيانه تأثيرا خفيا مفيدا أو ضارا، وأما في العالم الأخروي فلن يظل الأمر هكذا، بل إن كل هذه الأحوال سوف تنكشف انكشافا واضحا.ونجد مثال ذلك في عالم الرؤيا، فإن الحالة الغالبة على الجسم تتراءى في عالم المنام في صورة مجسمة.فمثلا كثيرًا ما يرى المريض في منامه النار ولهيبها قبيل إصابته بالحمى، ويرى المصاب بالإنفلونزا والزكام والرشح أنه في الماء.وهكذا، فإن حالة المرض التي يدخل فيها الجسم تتمثل كيفياتها في عالم المنام.

Page 160

١٢٦ حقيقة نعيم الجنة فبالتدبر في عالم المنام يستطيع كل إنسان أن يدرك أن هذه السنة جارية أيضا في الآخرة.فكما أن المنام يُحدث فينا تغييرا معينا..ويرينا الحالة الروحية في صورة مجسمة..كذلك يحدث في ذلك العالم، فتتمثل يومئذ أعمالنا ونتائجها أمامنا في صور محسوسة، هذا ويلوح على وجوهنا بوضوح كل ما نكون قد اصطحبناه من العالم في صورة خفية.وكما أن النائم يوقن بأن ما يراه من تمثلات شتى أمور حقيقية، ولا يتوهم أبدًا أنها تمثلات، كذلك يحدث في ذلك العالم، بل الواقع أن الله سوف يظهر قدرته الجديدة يومئذ بواسطة التمثلات..لأنه تعالى هو القدرة الكاملة.والحقيقة أنه لو سمينا هذه التمثلات خلقًا جديدًا أو حياة جديدة تمت بقدرة الله تعالى لكان قولنا صحيحا في الواقع.يقول سبحانه وتعالى: فلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (السجدة: ١٨)..يعني لا تدري أية نفس صالحة النعيم الذي أُخفي لها في عالم الآخرة.لقد وصف الله هنا جميع نعم الآخرة بأنها مخفية عنا..لا مثال لها في النعم الدنيوية.والواضح أن نعم الدنيا غير خفية علينا، فإننا نعرف اللبن والرمان والعنب ونأكل منها دوما.فيتبين من ذلك أن نعم العالم الثاني هي غيرُ ما في هذا العالم، وإنما تشترك مع هذه في الاسم فقط.

Page 161

۱۲۷ فمن ظن أن الجنة عبارة عن موجودات هذه الدنيا فلم يفهم من القرآن حرفا.يقول سيدنا ومولانا ونبينا في شرح الآية المذكورة..وهو يصف الجنة ونعيمها: "أَعَدَّ الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".مع أننا نرى نعم الدنيا بأعيننا، ونسمع عنها بآذاننا، وهي تمر بخواطرنا.فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئا غريبا..فنكون إذن قد انحرفنا عن القرآن انحرافا كبيرا لو ظننا أن في الجنة أيضا لبنا ماديا كهذا الذي يُحلب من البقر والجاموس..وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة! وكأن النحل تكون قد بنت هنالك في الأشجار كثيرا من الخلايا، والملائكة يبحثون عنها ويشتارون منها العسل ويصبّونه في الأنهار! هل هناك أية علاقة بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي تنطوي عليه آيات عديدة حيث تعلن أن تلك الأشياء لم ترها الدنيا قط، وأنها تنير الروح وتزيد معرفةً بالله، وأنها أغذية روحانية.هذه الأغذية - وإن كانت قد صُورت لنا بصورة مادية إلا أن الله قد نبّه أيضا إلى أن منبعها هو الروح والصدق.وقوله تعالى في القرآن الكريم: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلمَا رُزِقُوا مِنْهَا

Page 162

۱۲۸ مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأَتُوا بِهِ مُتَشَابِهَا (البقرة : ٢٦)..أي بَشِّرِ المؤمنين الذين يقومون بأعمال صالحة، ولا يوجد فيهم ذرة من الفساد أنهم ورثة الجنة التي تجري خلالها الأنهار، وأنهم كلما نالوا من ثمار تلك الأشجار التي قد نالوا منها في الدنيا أيضا..قالوا إنها نفس الثمار التي قد أوتيناها من قبل، لأنهم سيجدون هذه الثمار شبيهة بالثمار الأولى.ولا يظنن أحدٌ أن الثمار الأولى في الآية تعني نعما مادية هذه الدنيا.كلا، إنه خطأ فاحش من ومخالف تماما لمفهوم الآية ومغاير لمعناها البديهي.وإنما المراد الإلهي من الآية أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات..قد غرسوا بأيديهم جنة..أشجارها الإيمان..وأنهارُها الأعمال الصالحة، وسيأكلون من ثمار هذه الجنة نفسها في الآخرة، وتكون ثمارها يومئذ أبرز صورةً وأحلى طعما.وبما أنهم يكونون قد أكلوا من هذه الثمار من قبل في الدنيا بصورة روحانية، لذلك سوف يعرفون تلك الثمرات في الدار الآخرة، ويقولون: يبدو أنها نفس الثمار التي سبق أن أكلناها، حيث يجدونها مشابهة لغذائهم الأول.فالآية المذكورة تبين بصراحة أن الذين كانوا في الحياة الدنيا يتغذون بغذاء المحبة الإلهية..سيُرزقون هذا الغذاء يوم الآخرة رزقا مجسما.وبما أنهم يكونون قد ذاقوا لذة الحب والوداد..وعرفوا

Page 163

۱۲۹ كيفيتها، لذلك تتذكر أرواحهم ذلك الزمن الذي كانوا يناجون فيه حبيبهم الحقيقي بحب ووله، وكانوا يستمتعون بذكره، منفردين في الزوايا والخلوات وظلمات الليل.فلا ذكر هنا للأغذية المادية أبدا.ولئن خطر ببال أحد أنه ما دام العارفون قد رزقوا من هذا الغذاء الروحاني في الدنيا وكانوا يعرفونه..فكيف يصح وصف نعيم الآخرة بأنه ما لم يره أحد أو لم يسمع عنه أحد أو لم يخطر بقلب بشر..فذلك يستلزم تناقضا بين الآيتين المذكورتين؟ فالجواب : إنما يتحقق التناقض إذا كان المقصود من كلمات الآية نعيم الدنيا، ولكن ليس المراد هنا نعيم الدنيا..فكل ما يتلقاه العارف هنا بطريق العرفان إنما هو في الحقيقة من النعيم الأخروي، الذي يوهب له منه شيء ههنا على سبيل العينة ترغيبا وتشويقا.اعلموا أن الإنسان الرباني ليس من هذه الدنيا، ومن أجل ذلك تمقته الدنيا؛ ولكنه من السماء..فلذلك يُعطى النعمة السماوية.الإنسان الدنيوي ينال نعم الدنيا، والإنسان السماوي يظفر بالنعم السماوية.فالحق كل الحق..أن النعيم السماوي قد أُخفي تماما عن ، أسماع الدنيا وأبصارها وقلوبها..ولكن الذي طرأ الموت على حياته الدنيوية..وسُقِي بالطريقة الروحانية تلك الكأس التي سوف يُسقاها في الآخرة بصورة جسمانية، سيتذكر شربه الأول عندما تقدم له

Page 164

۱۳۰ نفس الكأس.ومن الحق أيضا أنه سوف يجد أن باصرة الدنيا وسامعتها كانتا في غفلة عن ذلك النعيم، ولكن بما أنه كان في الدنيا وإن لم يكن منها لذلك سوف يشهد أن ذلك النعيم الأخروي ليس من نعم الدنيا، إذ لم تر عينه في الدنيا مثل هذه النعمة، ولم تطرق سمعه، ولم تخطر على قلبه، وإنما رأى نماذج نعمة الحياة الآخرة، التي لم تكن من هذه الدنيا، وإنما كانت بمنزلة بشير بالعالم الأخروي، وكانت ذات صلة به، و لم تكن تمت إلى الدنيا بصلة.المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد ولنتذكر أيضا قاعدة هي أن القرآن المجيد قد جعل للحالات التي سوف نمر بها بعد الموت ثلاث فترات، وهي ثلاث معارف قرآنية عن عالم المعاد..نفصل كل واحدة منها على حدة فيما يلي: المعرفة الأولى يقول القرآن الكريم مرة بعد أخرى إنّ عالم الآخرة ليس شيئًا جديدًا، بل إن جميع مظاهره هي آثار هذه الحياة الدنيا وظلالها، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَكُلُّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (الإسراء:١٤)..أي أننا ربطنا

Page 165

۱۳۱ برقبة كل إنسان آثار أعماله، وأننا سوف نُظهر له هذه الآثار الخفية يوم القيامة، وسوف نريه إياها في شكل كتاب مفتوح.وليكن معلوما عن كلمة "الطائر" الواردة في الآية أن معناها الأصلي هو الطير ، ثم استُعيرت لمعنى العمل أيضًا..ذلك لأن العمل، خيرا كان أو شرا، يطير ويختفي بعد وقوعه مثل الطير..وتنعدم مشقته أو لذته بعد قليل، ويخلف في القلب أثره لطيفا أو كثيفا.يؤكد القرآن المجيد أن كل عمل يترك أثرًا خفيا في نفس عامله، وأن الله يقابل هذا العمل سواء أكان خيرًا أم شرا بعمل من عنده فلا يدع ذلك العمل ليضيع، بل تُرسم آثاره على القلب والوجه والعيون والأيدي والأرجل.وهذه الرسوم هي صحيفة الأعمال الخفية التي تنكشف جليا في الحياة الثانية.ويخبرنا الله الله عن أهل الجنة في موضع آخر بقوله: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)) (الحديد: ۱۳)..أي أن نور إيمانهم الذي يحظون به في شكل خفي سوف رى يوم الآخرة وهو يسعى أمامهم وعلى يمينهم.وفي موضع آخر يخاطب الله الفجار يقوله: ﴿أَلْهَاكُمُ التكَاثُرُ * حتى زُرتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُهَا عَيْنَ الْيَقِينِ

Page 166

۱۳۲ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ (سورة التكاثر)..أي أن كثرة الأهواء المادية والرغبات الدنيوية قد شغلتكم عن ابتغاء الحياة الآخرة، حتى وقعتم في القبور فإياكم وحُب الدنيا، فسوف تعلمون أنه لا خير في حب الدنيا.وأؤكد لكم أن لا خير في حبها.ولو أنكم علمتم علم اليقين لرأيتم الجحيم في هذه الدنيا نفسها.ثم إنكم سوف ترونها رؤية اليقين في عالم البرزخ.ثم إنكم يوم حشر الأجساد تعلمونها حق اليقين..لا بالمشاهدة فقط، بل بالحال الواقع، إذ تؤاخذون بشدة، ويغشاكم العذاب كاملا.ثلاثة أقسام للعلم لقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات صراحة أن الحياة الجهنمية موجودة للفجار في هذا العالم نفسه وجودا خفيا، ولو أنهم فكروا لأبصروا جحيمهم ههنا.وقد قسم الله العلم هنا ثلاث درجات علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.ولكي يفهم عامة الناس هذه المراتب العلمية..أضرب ثلاثة أمثلة: إذا رأى الإنسان دخانا كثيفا عن بعد، وانتقل ذهنه من الدخان المتصاعد إلى النار المشتعلة، واستيقن وجودها هنالك قياسا على ما يوجد بين الدخان والنار من ترابط تام غير منفك، إذ لا بد

Page 167

۱۳۳ أن تكون النار حيث يوجد الدخان..ويسمى هذا العلم علم اليقين.ثم إذا رأى لهب النار سُمي هذا العلم بالرؤية عين اليقين.وإذا دخل بنفسه في النار كان علمه هذا حق اليقين.فالله تعالى يقول هنا: إنه فيما يتعلق بالجحيم فإن الإنسان يستطيع أن يعلمها علم اليقين وهو في هذه الدنيا، ثم إنه سيعلمها عين اليقين في عالم البرزخ، ثم يصل نفس هذا العلم إلى درجة كاملة هي حق اليقين في عالم حشر الأجساد.العوالم الثلاثة وليكن واضحا هنا أن القرآن المجيد يخبرنا بوجود ثلاثة عوالم.العالم الأول هو الدنيا التي تسمى دار الكسب والنشأة الأولى، حيث يكتسب الإنسان الخير أو الشر.صحيح أن للأبرار في عالم البعث مجالا للرقي، إلا أن ذلك الرقي سيتيسر لهم بمحض فضل ولا دخل فيه لكسب الإنسان أبدا.الله، عالم البرزخ والعالم الثاني هو البرزخ وكلمة "البرزخ" في اللغة العربية تعني أصلا الحاجز بين الشيئين، وقد سمي العالم الثاني بالبرزخ لوقوعه بين

Page 168

النشأة الأولى وبين عالم البعث وهذه الكلمة تطلق على العالم الوسط منذ القدم، بل منذ أن خُلقت الدنيا.لذلك فهذه الكلمة بذاتها تتضمن شهادة عظيمة على وجود العالم المتوسط.وقد أثبتنا في كتابنا مِنَن "الرحمن" أن الكلمات العربية هي كلمات الله التي فاضت من فم الله سبحانه وتعالى، وأن العربية هي لغة الله القدوس الوحيدة في الدنيا، وأنها أقدم اللغات، ومنبع جميع العلوم، وأم الألسنة كلها، وأنها العرش الأول والعرش الآخر للوحي كونها العرش الأول للوحي الرباني فلأنها كانت كلام الله الذي لم يزل منذ القديم معه الرباني.أما تعالى، ثم نزل هذا الكلام في الدنيا، واتخذ أهلها منه لغاتهم.وأما كونُها العرش الأخير لوحي الله فلأن كتاب الله الأخير..القرآن المجيد..نزل بالعربية.فالبرزخ كلمة عربية، وهي مركبة من "بر" و "زخ"، ومعناها أنه قد انسد طريق كسب الأعمال وبات في حالة الخفاء.والحالة البرزخية هي حالة ينحل فيها هذا التركيب الإنساني الفاني، ويتم انفصال بين الروح وهذا الجسد.وكما نرى أن الجسم يُلقى في حفرة، كذلك الروح تقع في حالة تشبه الحفرة..كما تدل على ذلك كلمة "زخ"..لأن الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر الذي كانت قادرة عليه من قبل وقتما كانت متصلة بالجسد.

Page 169

۱۳۵ والواضح أن صحة الروح تتوقف على صحة البدن، فبإصابة واحدة في جزء معين من أجزاء الدماغ تزول الذاكرة، وبإصابة أخرى في جزء آخر منه تزول القوة الفكرية ويتلاشى الوعي والحواس.ولئن أصيب الدماغ بنوع من التشنج أو الورم، أو حصل به انسداد للدم أو أية مادة أخرى انسدادًا تاما أو جزئيا..أصيب المرء فورا بالإغماء أو الصرع.وإن تجاربنا المتكررة منذ القدم لتدل على أن روحنا عاطلة تماما بغير اتصالها بالجسم.لا بد للروح من جسم إذن فإنه لزعم باطل تماما أن نقول بأن الروح – مجرّدةً عن الجسم ستحظى بالسعادة يوما ما يمكن أن نقبل هذا الزعم كخرافة..إلا أنه لا يؤيده برهان معقول إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقا كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تماما من علاقتها بجسد ما..مع أنها على ما نعلم عنها تضطرب عند كل خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد.أفلا توضح لنا التجارب اليومية أن أن صحة الجسم ضرورية لصحة الروح؟ عندما يصبح الإنسان شيخا فانيا..تشيخ روحه أيضا وتهرم..ويختلس سارق الشيخوخة منه بضاعةً علمه..كما يقول الله تعالى: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ

Page 170

١٣٦ شَيْئًا (الحج: (٦)..أي عندما يصير الإنسان شيخا هرما يبدو – رغم دراسته وقراءته – كأنه صار جاهلا.- لذلك فمشاهدتنا تشكل دليلا قاطعا على أن الروح لا شيء بدون الجسم.ثم إنَّه لمن الأمور التي تهدي الإنسان إلى الحقيقة أنه إذا كانت الروح تستطيع القيام بذاتها بشكل مستقل عن الجسد فلماذا ربطها الله تعالى بالجسد الفاني عبثا دونما سبب؟ وجدير بالاعتبار أن الله خلق البشر لرقي غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز رقيًّا في هذه الحياة القصيرة بغير معونة الجسم..فكيف يتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم؟ – أنه لا إذن فإن هذه الأدلة كلها تبين – وفقًا للتعليم الإسلامي - بد للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء.أن هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت..ولكنها في صحيح عالم البرزخ تُعَوضُ عنه بجسم آخر..لتذوق به جزاء أعمالها إلى حد ما.ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام..وإنما يتكون من ظلمة أو من نور، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم.هكذا جاء في كلام الله مرارا وتكرارا حيث اعتبر بعض هذه

Page 171

۱۳۷ الأجسام نورانية وبعضها ظلامية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال.إن هذا السر، وإن كان في غاية العمق، إلا أنه ليس مما يرفضه العقل.فيمكن للإنسان الكامل أن ينال في نفس هذه الحياة كيانا نورانيا غير هذا الكيان الجسماني.وفي عالم الكشوف أمثلة كثيرة هذا القبيل.إنه من الصعب إيضاح هذا الأمر لذي عقل محدود؛ ولكن الذي نال نصيبا من عالم الكشف لن ينظر إلى حقيقة تكونِ جسم من الأعمال نظرة استبعاد وعجب، بل سوف يجد فيه متعة من ولذة.تجربة شخصية وملخص القول: إن ذلك الجسم الذي يتكون بحسب نوعية أعمال الإنسان..هو الذي يصير في عالم البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر، وإني لصاحب تجربة في هذا الأمر.لقد حصل لي مرارا - في حالة اليقظة أن لقيتُ بعض الموتى كشفا، ومنهم بعض الفاسقين والضالين..فرأيت أن أبدانهم كانت مُسوَّدة وكأنها خلقت من الدخان.والخلاصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق.وأقول

Page 172

۱۳۸ بكل قوة إنَّ كل واحد يُعطى حتمًا بعد الموت جسما، نورانيا أو ظلاميًا، كما أخبر الله تعالى.ومن الخطأ أن يحاول الإنسان إثبات هذه المعارف الدقيقة جدا بالعقل المجرد.فيجب أن نعرف أنه كما لا يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الأشياء الحلوة، ولا يمكن للسان أن يرى الأشياء..كذلك تماما لا يمكن للعقل وحده أن يحل عقدة تلك العلوم الأخروية..التي لا تحصل إلا بالمكاشفات القدسية.إن الله تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول، فالتمسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تجدوه.ومما هو جدير بالذكر أيضا أن الله تعالى قد سمى في كلامه الفُجار الغواةَ أمواتًا، ووصف الأبرار بأنهم أحياء.والسر في ذلك هو أن الذين يموتون غافلين عن الله تعالى..تكون أسباب الحياة بالنسبة إليهم من أكل وشرب قد انقطعت عند الموت، ولا يكون لهم نصيب من الغذاء الروحاني، فهم قد ماتوا في الحقيقة، ولا يعودون للحياة إلا ليذوقوا العذاب وإلى هذا السر أشار الله في قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (طه: ٧٥)، وأما الذين يحبون الله تعالى فهم لا يموتون بهذا الموت، لأن معهم خبزهم وماءهم.

Page 173

عالم البعث ۱۳۹ ثم بعد البرزخ يأتي زمن يسمى عالم البعث، تتلقى فيه كل روح جسما محسوسًا بينا، صالحة كانت تلك الروح أم طالحة.وقد قدر ذلك المحشر للتجليات الربانية الكاملة، التي بفضلها يعرف كل يوم إنسان ربه حق العرفان ويبلغ كل واحد عندئذ الذروة من جزائه.ويجب ألا يستغرب أحد أن كيف يستطيع الله فعل ذلك! إنه سبحانه صاحب القدرة كلها ويفعل ما يريد كما يقول سبحانه: أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * أَوَلَيْسَ * الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْحَلَاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس: ۷۸- (٨٤..أي ألم ير الإنسان أننا خلقناه من قطرة ماء تلقى في الرحم، ثم صار شخصا كثير الخصومة، وبدأ يتحدث عنا بأنواع الحديث، ونسي كيف خُلق هو، وبدأ يقول: كيف يمكن أن يحيا الإنسان مرة أخرى بعد أن تصير هذه العظام بالية؟ من ذا الذي يملك القدرة على

Page 174

١٤٠ إحيائه؟ قل لهم: سوف يحييه الذي خلقه في المرة الأولى، فهو يعلم كيف يحيي وبأي طريقة يحيي....إنما أمره أنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له "كُن" فيتكون هذا الشيء.إنه منزه عن كل عيب..ذلك الذي له الملك على كل شيء، وإليه يُرجَع الجميع.فالله جل شأنه قد صرح في هذه الآيات أن لا شيء مستحيل عنده فالذي خلق الإنسان من قطرة حقيرة..هل يعجز عن بعثه مرة ثانية؟ إزالة سوء فهم ربما يقول الذين لا يعلمون بأنه ما دام ثالث العوالم..أي عالم البعث..سوف يأتي بعد زمن طويل..إذن فعالم البرزخ أصبح بمنزلة سجنٍ يُعتقل فيه الصالح والفاسق طول تلك المدة..الأمر الذي يبدو محض عبث.والجواب أن مثل هذه الفكرة خطأ تماما، ومنشؤها الجهل المطلق! ذلك أن كتاب الله يذكر مقامين الجزاء البارّ والفاجر، أحدهما عالم البرزخ الذي يلاقي فيه كل إنسان جزاءه لقاء مخفيا..فالأشرار يدخلون الجحيم بعد الموت فورًا، والأخيار كذلك سينالون الراحة في الجنة بعد الموت مباشرة.وفي القرآن المجيد آيات كثيرة تبين أن

Page 175

141 كل إنسان يرى بعد الموت مباشرةً جزاء أعماله.فمثلا يخبرنا الله عن رجل من أهل الجنة بقوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ (يس: (۲۷)، ويحكي سبحانه عن رجل آخر من أصحاب النار بقوله: ﴿فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (الصافات: (٥٦)..أي أنه كان لرجل من أصحاب الجنة زميل، فلما ماتا افتقد صاحب الجنة ،زميله، فكشف الله له عنه فوجده في قعر جهنم.إذن فعملية الجزاء والعقاب تبدأ بعد الموت فورا، ويدخل أصحاب النار النار..وأصحاب الجنةِ الجنة.ولكن هنالك بعده يوم آخر اقتضت حكمة الله البالغة أن يظهر وعمل فيه بتجل أعظم.إن الله تعالى خلق الناس ليعرفوه بخالقيته، ثم إنه سوف يهلكهم أجمعين ليعرفوه بقهّاريته، ثم يحييهم حياة كاملة ويحشرهم في ميدان واحد ليعرفوه بقدرته الكاملة.هذه هي المعرفة الأولى من المعارف الثلاث المشار إليها سابقا.المعرفة الثانية وأما المعرفة الثانية..التي ذكرها القرآن الكريم تبيانًا لعالم المعاد..فهي أن جميع الأمور الروحانية في الحياة الدنيا ستتمثل في عالم المعاد مجسمة، سواء أكان عالم المعاد في طور البرزخ أم في طور البعث

Page 176

١٤٢ والنشور.ومما قال الله في هذا الصدد: ﴿وَمَنْ كَانَ في هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبيلا )) (الإسراء:۷۳)..والمراد أن العماية الروحانية التي يصاب بها أحد في الدنيا..تتجسم في عالم المعاد محسوسة مشهودة.* كذلك يقول في آية أخرى: (خُذُوهُ فَغُلُوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ الله صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة : ۳۱-۳۳)..أي خذوا هذا الجهنمي، وضعوا الغُل في عنقه، ثم أحرقوه في الجحيم، ثم صفدوه في إحدى السلاسل التي طولها سبعون ذراعا.تبين الآيات أن عذاب الدنيا الروحاني سوف يتجسد في عالم المعاد.فطوق الشهوات الدنيوية الذي كان قد أخضع رأس الإنسان إلى الأرض سوف يتراءى في صورة غُل يطوق العنق؛ وسلاسل الشواغل الدنية ستظهر في صورة أصفاد تقيد الأرجل، ولوعات و الأماني المادية سترى يومئذ نارا ملتهبة ظاهرة.إن الإنسان الفاسق في الحياة الدنيا ليحمل في داخله جحيما من الشهوات والأهواء، ويشعر بحرقة هذه الجحيم عند الخيبة والخسران؛ ولذلك فإنه عندما يُقذف بعيدا عن شهواته الفانية، ويغشاه القنوط الأبدي..سوف يكشف الله له تلك الحسرات في صورة نار مجسمة

Page 177

١٤٣ كما يقول : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) (سبأ: ٥٥)..أي سوف يوضع حاجز بينهم وبين شهواتهم، وهذه الحيلولة أصل عذابهم.هي نفسها وأما قوله تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (الحاقة: ۳۳)..فهو إشارة إلى أن الفاسق في أحيان كثيرة يُعمرُ سبعين سنة، بل كثيرا ما يُرزَق عمرًا أطول من ذلك للعيش في هذه الدنيا، بحيث يتاح له – باستثناء أيام الصبا والهرم – سبعون عاما من حياة خالصة صافية، يستطيع أن يقضيها في جد وعمل بحزم، ولكن ذلك الشقي يضيع هذه السنين من حياته الثمينة في الانهماك في مشاغل الدنيا..ولا يريد أن يتحرر من قيودها.لذلك يقول الله تعالى إن السنين السبعين التي قضاها في قيود الشهوات الدنيوية..سوف تتمثل يوم المعاد في شكل سلسلة طولها سبعون ذراعا، كل ذراع مقابل سَنةً من من سني حياته.ظل ذو ثلاثة فروع ويجب أن نتذكر هنا أن الله تعالى لا يصب من عنده على الإنسان أي مصيبة..وإنما يعرض عليه ما ارتكب هو نفسه من السيئات..وتبيانا لهذه السنة نفسها يقول الله في موضع آخر : انْطَلِقُوا إِلَى ظِلِّ

Page 178

122 ذِي ثَلاثِ شُعَب * لا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَب (المرسلات: ۳۱- ٣٢)..أي أيها الفجار الغواة امشوا إلى ظل ذي ثلاثة فروع، لا يهيئ لكم ظلا ولا يحميكم من الحر.والمقصود بالفروع الثلاثة هنا هو الأقسام الثلاثة من قوى النفس: وهي القوى السبعية، والقوى البهيمية، والقوى الواهمة.فالذين لا يُعدلون هذه القوى، ولا يصبغونها بالصبغة الأخلاقية..يبرزها الله لهم يوم القيامة وكأنها ثلاثة فروع قائمة بلا ورق..لا تحمي من الحر، ومن ثم سوف يحترقون بها.وكذلك يقول الله الله في أصحاب الجنة إظهارا للسنة الإلهية المذكورة : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانهمْ (الحديد: ۱۳) g ويقول في آيةٍ أخرى يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (آل عمران ۱۰۷)..أي يومئذ سوف تصبح بعض الوجوه سوداء وبعضها بيضاء نورانية.ويقول في مكان آخر : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ ° مِنْ مَاءٍ غَيْرِ أَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارُ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّى (محمد: ١٦)..أي أن مثال

Page 179

الجنة التي ستوهب للمتقين كمثال بستان فيه أنهار من ماء لا يفسد لبن لا يتغير طعمه أبدا، ومن خمر تجلب المتعة واللذة ومن أبدا، بدون أن تصيب شاربها بالسكر، ومن عسل صاف للغاية لا كثافة فيه.وصف تمثيلي لنعم الجنة لقد بين الله هنا صراحة أن الجنة يمكن أن تفهم على سبيل التمثيل بأن فيها أنهارًا من النعم لا حد لها.ففيها أنهار ظاهرة من ماء الحياة الروحاني الذي كان العارف يشربه في الدنيا شربا روحانيا؛ وأنهار ظاهرة من اللبن الروحاني الذي كان يتغذى به كالطفل الرضيع في الدنيا غذاء روحانيا؛ وأنهار من خمر المحبة الإلهية كان بسببها في نشوة روحانية دائمة في الدنيا..يراها يومئذ ماثلة أمامه، وأنهار ظاهرة محسوسة من عسل الحلاوة الإيمانية الذي كان يدخل في فمه بصورة روحانية في الدنيا.وسوف يعرف كل واحد من أهل الجنة مستوى حالته الروحانية من أنهاره وبساتينه.التي وسوف يبرز الله تعالى لأهل الجنة أيضا من وراء الحجب.فالخلاصة أنه لن تبقى الحالات الروحانية عندئذ على ما هي عليه اليوم من الخفاء، وسوف تظهر في أشكال مجسمة.

Page 180

١٤٦ المعرفة الثالثة والمعرفة الثالثة هي أن سلسلة الارتقاء في عالم المعاد لا نهاية لها.يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (التحريم: ٩).فقوله تعالى عن الذين آمنوا إنهم لن ينفكوا يدعون ربهم أن يتم لهم نورهم..إنما هو إشارة إلى ترقيات غير متناهية، بمعنى أنهم كلما استكملوا درجةً من درجات النور..تراءت لهم درجة أخرى فيرون كمالهم الحاصل نقصا بالنسبة إلى الكمال التالي..فيلتمسون الله إحراز تلك الدرجة، فإذا أحرزوها..تراءت لهم درجة ثالثة منه، فيعتبرون الكمالات الأولى ،ناقصة، ويطمعون في هذه الأخيرة.من إن هذا النزوع المستمر للرقي يعبر عنه قولهم: "أتمم 110 منه، إذن فهكذا سوف يستمرون في حلقات من سلسلة غير متناهية من الارتقاء، ولن يصيبهم الانحطاط أبدا، كما أنهم لن يُخرجوا من جنتهم، بل سيتقدمون يوما بعد يوم ولا يتراجعون.وعند قولهم "واغفر لنا" ينشأ سؤال: ألم يغفر الله لهم وقد دخلوا الجنة؟ وما الحاجة إلى الاستغفار ما داموا قد غفر لهم؟

Page 181

والجواب أن المغفرة معناها في الأصل ستر الحالات الناقصة غير الملائمة..وتغطيتها.فالمراد أن أصحاب الجنة سيطمعون أن ينالوا الكمال التام، وأن يغرقوا في النور كليةً.فدائما ما يجدون حالتهم الأُولى ناقصةً عند رؤيتهم الدرجة التالية من الكمال، فيودون تغطية حالتهم الأولى.ثم إذا رأوا درجة الكمال الثالثة تمنوا تغطية حالتهم الثانية..أي أن تُستر حالتهم الناقصة تلك وتخفى.وهكذا سوف يظل أصحاب الجنة يتمنون المغفرة غير المتناهية بعد كل مرحلة.إن كلمة الاستغفار أو الغفران هي نفس الكلمة التي يطعن بها بعض الجاهلين في نبينا..ولعلكم - أيها المستمعون الكرام - قد مما سلف أن الرغبة في الاستغفار إنما هي مفخرة للإنسان.أدركتم فمن كان مولودًا من بطن امرأة.ومع ذلك لا يتخذ الاستغفار ديدنا له في كل حال..فهو دودة وليس إنسانا، وأعمى وليس بصيرا، ونجس وليس طيبًا.فخلاصة القول إن الجنة والجحيم، بحسب تعليم القرآن الكريم، ليستا شيئا ماديا جديدًا يأتي من الخارج..وإنما هما في الحقيقة آثار الحياة البشرية وظلالها.إنه لحق أن كل واحدة منهما ستتمثل عندئذ مجسمة..ولكنها لا تكون في الحقيقة إلا آثار الحالات الروحانية وأظلالها.إننا لا نؤمن بجنة هي عبارة عن أشجار مغروسة غرسًا

Page 182

١٤٨ ظاهريا، ولا نؤمن بجحيم فيها أحجار من كبريت مادي، بل الجنة والجحيم - طبقًا للعقيدة الإسلامية - إنما هما انعكاسات للأعمال التي يعملها الإنسان في الحياة الدنيا.

Page 183

السؤال الثالث ١٤٩ الغاية من خلق الإنسان والوسائل المؤدية إليها إن الناس مع اختلاف طبائعهم قد عينوا لحياتهم - بسبب قلة فهمهم أو ضعف همتهم – أهدافا متباينة..لا تتجاوز الجري وراء الأغراض الدنيوية والأماني المادية.ولكن الغاية التي ذكرها الله في كتابه العزيز هي: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: ٥٧)..أي ليعرفوني ويعبدوني.فبناء على هذه الآية كان المقصد الحقيقي للحياة البشرية عبادة الله ومعرفته، وأن يصير الإنسان الله وحده.ومن الواضح أن الإنسان لا يملك خيارا لكي يقرر غاية حياته من تلقاء نفسه لأنه لا يأتي إلى هذا العالم بإرادته..ولا هو تاركها ،برضاه، فما هو إلا مخلوق فالذي خلقه وخصه من بين جميع الحيوانات بأفضل الملكات هو الذي قد قدر لحياته غاية معينة.وسواء فهمها الإنسان أم لم يفهمها فإنه مما لا شك فيه أن غاية خلق الإنسان إنما هي عبادة الله، ومعرفته، والفناء فيه تعالى..كما يقول الله تعالى في موضع آخر من القرآن: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله

Page 184

10.الإسلام) (آل عمران (۲۰)، وقال: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (الروم: ۳۱)..أي أن الدين الذي يكفل المعرفة الربانية الصحيحة وعبادة الله على أحسن وجه..إنما هو الإسلام.وقد أودع الإسلام فطرة الإنسان.لقد خلق الله الإنسان على الإسلام ومن أجل الإسلام..بمعنى أنه قد أراد أن ينهمك الإنسان بجميع قواه في عبادة ربه وطاعته ومحبته، ولأجل ذلك قد وهب له ذلك القادر الكريم جميع هذه القوى بصورة تلائم مقتضيات الإسلام.بحث فطري عن الله تعالى إن شرح الآيات المذكورة طويل..وقد ذكرنا شيئا منه فيما سبق في الجزء الثالث من إجابة السؤال الأول؛ غير أننا نريد أن نبين هنا باختصار أن كل ما أوتيه الإنسان من أعضاء وملكات، ظاهراً وباطنا، إنما الهدف الحقيقي منه هو معرفة منه هو معرفة الله وعبادته ومحبته.لذلك نجد أن الإنسان مهما انشغل بشتى الملذات المادية إلا أنه لا يجد سعادته الحقيقية إلا في الله تعالى فمهما كان غنيا ثريًّا، أو صاحب منصب رفيع، أو تاجراً كبيرا، أو ملكًا عظيمًا، أو فيلسوفا شهيرا..

Page 185

101 فإنه لا محالة يغادر كل هذه المشاغل الدنيوية بحسرات كبيرة في آخر المطاف.ولا يزال قلبه يؤنبه دوما على انهماكه في لهو الدنيا وملذاتها، ولا يوافقه ضميره أبدا على ما يأتي من صنوف المكر والخداع والمحرمات.أكثر ويمكن للعاقل أن يفهم هذا الأمر أيضا بطريق آخر..وهو أن غاية خلق كل مخلوق هي القيام بأفضل فعل يستطيع القيام به بأقصى جهده، ثم تعجز قواه عن أن تزيد عليه خذوا الثور مثلا..فأن أقصى ما يقدر على عمله هو الحراثة والسقاية والحمل، ولا نعلم من هذه الفوائد من قواه لذلك فهذه الأعمال الثلاثة هي غاية خلقه، ولا توجد فيه غير هذه القوى.وأما إذا بحثنا في ملكات الإنسان لنعرف أعظم ملكة فيه..تأكد لنا أنها البحثُ الدائم عن الإله العلى..حتى أنه ليود أن يذوب في كله الله وينمحي..فلا يبقى له من نفسه شيء، بل يصير تعالى.إن الحيوانات تشارك الإنسان إلى حد كبير في الأكل والنوم وغيرهما من العادات الطبعية، بل إن بعض الحيوانات تسبق الإنسان كثيرا في مجال الصنعة البديعة، فها هي النحل تصنع من رحيق الزهر عسلا نفيسا..لم ينجح الإنسان في صنع مثله حتى اليوم.يتبيَّن من محبة الله

Page 186

١٥٢ ذلك أن ذروة كمال الإنسان هو الوصال بالله تعالى، لذلك فإن الغاية الحقيقية لحياته أن تظل نافذة قلبه مفتوحة تجاه الله.وسائل تحقيق الغاية من الحياة فإذا قيل: كيف يحقق الإنسان هذه الغاية، وما هي الوسائل لتحقيقها؟ الوسيلة الأولى فاعلموا أن الوسيلة الأولى، وهي شرط أساسي لنيل هذه الغاية، هي العرفان الصحيح بالله والإيمان بالإله الحق.ذلك أن الإنسان إذا أخطأ في اتخاذ أول خطوة..كأن اعتبر مثلا الطير أو البهائم أو العناصر الكونية، أو ابن الإنسان إلها..فكيف يُرجى سلوك الصراط المستقيم في خطواته التالية؟ إن الإله الحق يعين الذين يبحثون منه عنه هو، وأما الميت فأنى له أن يساعد الميت؟ ولقد ضرب هذا المعنى مثالا رائعا إذ قال: الله في لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (الرعد: (١٥)..أي أن الإله القدير على

Page 187

١٥٣ كل شيء هو الأحق بأن يدعوه الإنسان.أما الذين يعبدهم الناس فهم لا يستطيعون جوابا لهم، ومثالهم مع آلهتهم كمن من دون الله هو باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فمه..فهل يدخل الماء هكذا إلى فمه؟ كلا.فالذين يجهلون الإله الحق أدعيتهم كلها باطلة.الوسيلة الثانية الله والوسيلة الثانية لتحقيق غاية الحياة هي الوقوف على حسن وجماله المتصف بهما لكونه الكمال التام.فإن الحسن بطبيعته شيء تنجذب إليه القلوب تلقائيًا، ويحب الإنسان بطبعه رؤيته.وحُسن هو وحدانيته وعظمته وجلاله وصفاته..كما يقول في القرآن الله الكريم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (سورة الإخلاص)..أي أن الله في ذاته وصفاته وجلاله أحد متفرد..لا شريك له في ذلك أصلا الجميع محتاجون إليه.كل ذرة من الكون تستمد منه الحياة.إنه تعالى مبدأ الفيض للكل، أما هو فلا ينال أي فيض من أحد.إنه ليس بولد لأحد، ولا بوالدٍ لأحد.وكيف يكون كذلك..وليس لأحدٍ ذات مثل ذاته؟ لقد عرض القرآن الكمال الإلهي والعظمة الإلهية مرة بعد أخرى لتنبيه

Page 188

154 الناس إلى أن مثل هذا الإله يكون بغية القلوب، لا مَنْ هو ميت وضعيف وقليل الرحمة والقدرة.الوسيلة الثالثة وأما الوسيلة الثالثة..للوصول إلى المقصود الحقيقي، وهي فوق السابقة..فهي الاطلاع على إحسان الله تعالى، ذلك لأن للحب دافعين فقط: الحسن والإحسان.وقد تضمنت سورة الفاتحة خلاصة صفات الله التي تظهر إحسانه، كما يقول : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.وواضح أن الإحسان الكامل إنما يتحقق إذا كان الله يخلق عباده من العدم المحض، ثم لا يزال يشملهم بربوبيته على الدوام، وكان هو نفسه عمادًا وسندًا لكل شيء، ثم كانت رحمته بكل أنواعها قد ظهرت لهم، وكان إحسانه وفضله عليهم عظيما بحيث لا يمكن لأحد تقديره.ولقد عدد الله علينا في القرآن المجيد هذه الإحسانات مرة بعد أخرى..كما قال في موضع آخر: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا (إبراهيم: ٣٥).

Page 189

100 الوسيلة الرابعة هي والوسيلة الرابعة التي جعلها الله لنيل المقصود الحقيقي الدعاء..كما يقول : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (غافر: ٦١).الله: وقد رغب الله الإنسان في الدعاء مرة بعد أخرى لينال هذه الغاية بقوة الله لا بقوته هو فقط.الوسيلة الخامسة والوسيلة الخامسة التي وضعها الله للفوز بالمرام الأصلي هي المجاهدة..أي أن نطلب الله بإنفاق أموالنا في سبيله، وتسخير قوانا من أجله، والتضحية بنفوسنا وبذل عقولنا في سبيله، كما يقول الله: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبيل الله (التوبة: ٤١)، ويقول تعالى: ﴿وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة: ٤)، ويقول تعالى وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت: ٧٠)..أي ابذلوا في سبيل الله أموالكم وأنفسكم..بجميع ما فيها من قوى وملكات وأنفقوا في سبيله كل ما أعطاكم من عقل وعلم وفهم ومهارة وغيرها.والذين يسعون بكل طريق في سبيلنا فإننا لا بد أن نُرِيَهم سبلنا.

Page 190

الوسيلة السادسة الاستقامة؛ وهي والوسيلة السادسة التي بينها الله للظفر بالمقصود الحقيقي هي ألا يصيب السالك في هذا الطريق تعب ولا وهن ولا ملل ولا خوف من ابتلاء.كما يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)) (فصلت: ۳۱-۳۲)..أي أن الذين قالوا ربنا أنواع الله وتخلوا عن الآلهة الباطلة ثم استقاموا، أي ثبتوا في الاختبارات وصنوف البلايا..تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا، بل ابتهجوا وافرحوا لأنكم أصبحتم ورثة تلك السعادة التي وعدتم بها.إننا أولياؤكم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة أيضا.ولقد نبه بهذه الكلمات إلى أن الاستقامة تكسب رضی الله تعالى.ما هي الاستقامة الحقيقية الحق أن الاستقامة فوق الكرامة.وكمال الاستقامة أن نرى البلايا قد حاصرتنا من الجهات الأربع ، وأن نجد أنفسنا وعرضنا وشرفنا عرضةً للخطر في سبيل الله، ولا نجد سبيلا للسلوان..حتى

Page 191

١٥٧ أن الله أيضا يُمسك عنا كشوفه ورؤاه وإلهامه على سبيل الاختبار، ويتركنا في أخطار مهولة..ورغم كل ذلك لا تبدي فشلا، ولا نتقهقر كالجبناء، ولا نخل في وفائنا ولا نقصر في صدقنا وثباتنا، بل نفرح على الذلة، ونرضى بالموت ولا ننتظر صديقا يكون لنا عونا على الثبات، ولا نطلب من الله بشارات بحجة أن الموقف خطير..وإنما ننتصب قياما رغم الضعف والخذلان وفقدان سبل السلوان، ونضع أمامه رقابنا دون تفكير في العواقب، ولا نتحرك أمام القضاء والقدر، ولا نبدي أبدا أي قلق أو جزع أو فزع، إلى أن يستوفي الاختبار أجله.هذه هي الاستقامة التي يلاقي بها الإنسان ربه، وهي نفس العطر الذي لا يزال عبيره يفوح حتى اليوم من تربة الرسل والأنبياء والصديقين والشهداء، وإليها أشار الله في الدعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، وإليها تشير الآية: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف:١٢٧)..أي يا رب ل على قلوبنا في وقت المصيبة سكينة توفقنا للصبر، وقدر لنا الموت على الإسلام.واعلموا أن الله تعالى يُنزل على قلوب عباده المحبوبين في وقت الآلام والمصائب نوراً يتقوون ،به فيقاومون النوازل والبلايا بكل

Page 192

101 اطمئنان، ويقبلون من حلاوة الإيمان- تلك السلاسل التي بها أرجلُهم في سبيله تعالى.إن الإنسان الرباني عندما تحلّ به البلايا وتظهر له آثار الهلاك..فإنه لا ينازع ربه الكريم هكذا عبثا سائلا النجاة منها، لأن الإلحاح في الدعاء بالعافية حينئذ يكون بمنزلة حرب على الله تعالى ويصبح منافيا للتوافق التام مع مشيئة الله.وإنما المحب الصادق مَن يزداد تقدمًا كلما نزل البلاء، ولا يقيم حينئذ لنفسه وزنا، ويودع حب الذات ليتبع كليةً مشيئة مولاه ابتغاء لمرضاته.وفي حقه هو يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (البقرة : ۲۰۸)..أي أن محبوب الله تعالى يقدم نفسه فداء في سبيله تعالى ويشري بها مرضاته تعالى.وأمثاله هم الذين يصبحون موردا لرحمة خاصة من الله.هذه إذن هي روح الاستقامة التي بها يلاقي الإنسان ربه.فليفهمها من شاء.الوسيلة السابعة والوسيلة السابعة لإحراز المقصود الحقيقي هي مصاحبة الصالحين ومشاهدة أسوتهم الحسنة.واعلموا أن من دواعي بعث الأنبياء أيضا أن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى أسوة كاملة، لأن الأسوة الكاملة تزيد

Page 193

۱۰۹ الإنسان شوقًا وترفع همته.ومن يفقد القدوة يتكاسل ويضل الطريق.وإلى ذلك يشير الله جل شأنه في قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة : ۱۱۹)، وقوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ..أي عليكم بصحبة الصادقين واتباع سبيل الذين نزل عليهم فضل الله من قبلكم.الوسيلة الثامنة والوسيلة الثامنة لذلك ما هي ينعم به الله تعالى من كشوف وإلهامات ورؤى صالحة.إن السلوك إلى الله صراط دقيق جد دقيق، ومحفوف بأنواع المصائب والآلام، ويمكن أن يتيه الإنسان في هذا الطريق الذي لم ير مجاهله من قبل، أو يأخذه اليأس فيُحجم عن المضي قدما.لذلك اقتضت الرحمة الإلهية أن تساير الإنسان في هذه الرحلة باستمرار تؤنسه وتواسيه، وترفع همته، وتزيد في شوقه.فلم تزل سُنة الله مع السالكين لهذا السبيل أن يطمئنهم من وقت لآخر بكلامه ووحيه، ويخبرهم أنه فيتقوون، ويقطعون هذه المسيرة بكل حماس ونشاط.ويقول الله معهم ؛ في هذا الشأن: «الَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ (يونس: (٦٥)

Page 194

وهناك وسائل أخرى مذكورة في القرآن الكريم..ولكن للأسف لا نستطيع بيانها جميعًا خشية الإطالة.

Page 195

السؤال الرابع ١٦١ أثر الأعمال الصالحة على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة الجواب عن هذا السؤال هو ما قد ذكرناه سابقا، أي أن التأثير الحقيقي للشريعة الحقة الكاملة في قلب الإنسان في هذه الحياة هو تحويله من الحالة الهمجيّة إلى إنسان ومن إنسان إلى إنسان أخلاقي، ثم من إنسان أخلاقي إلى إنسان رباني.ومن مظاهر تأثير الشريعة في هذه الحياة أن الإنسان إذا اتبع الشريعة الحقة..بدأ يعرف حقوق بني جنسه حسب مراتبهم، ويستعمل ملكات العدل والإحسان والرحمة في محلها، ويُشرك الجميع بحسب درجاتهم فيما مَنّ الله عليه من علم ومعرفة ومال ورفاهية.فيرسل – كالشمس – ضوءه كله على جميع بني نوعه؛ - - وكالبدر..يستمد من نور الله تعالى ثم يفيض بنوره على الآخرين؛ وكالنهار..يتجلى فيُرِي الناسَ سُبل الهدى؛ وكالليل..يستر عيوب الضعفاء، ويسبغ الراحة على المتعبين المنهكين؛ وكالسماء..يؤوي

Page 196

١٦٢ كل ذي حاجة بظله، ويمطر عليهم بفيوضه في مواسمها؛ وكالأرض..يصير من كمال التواضع فراشا لراحة كل إنسان، ويضم الجميع في أكناف ،رحمته ويقدم لهم أنواع الثمار الروحانية.هذا هو أثر الشريعة الكاملة؛ فالمتمسك بها يبلغ الذروة في تأدية حقوق الله وحقوق عباده.إنه يتفانى في صادقًا لخلقه.الله تعالى، خادمًا ويصبح هذا فيما يتعلق بتأثير العمل بالشريعة خلال هذه الحياة.وأما فيما يتعلق بتأثيرها بعد هذه الحياة..فإن الوصال الروحاني بالله سوف يتحول له يومئذ إلى رؤية إلهية بينة؛ وخدمة الخلق التي قام بها محضا لوجه الله تعالى، والتي كان دافعها حُب الإيمان والأعمال الصالحة..سوف تتمثل له يومئذ أشجارًا وأنهارا من الجنة.يقول الله تعالى في هذا الشأن: وَالشَّمْس وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا حَلاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) (سورة الشمس).

Page 197

١٦٣..أي أُقسم بالشمس وضيائها، وبالقمر حين يتبعها..أي يستمدّ النور منها، ويوصله إلى الآخرين كما هي توصله.وأُقسم بالنهار حين يُري صفاء الشمس، ويوضح الطرق.وأقسم بالليل إذا أظلم وستر الجميع في طيات الظلمة.وأقسم بالسماء وبالحكمة التي هي وراء بنائها هكذا، وأقسم بالأرض وبالعلة الكامنة وراء فرشها بهذا الشكل، وأقسم بالنفس وبكمالها الذي جَعَلَها تتساوى مع كل هذه أن الكمالات التي توجد متفرقة في كل كائن من هذه الكائنات توجد كلها في نفس الإنسان الكامل وحده، وأن كل الخدمات التي يسديها كل واحد من هذه الكائنات على حدة لبني الكائنات..بمعنى البشر، فإن الإنسان الكامل يقوم بها وحده، كما بينتُ آنفًا.وقوله تعالى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا..أي قد فاز ونجا من الموت مَنْ طهر النفس هكذا، وصار خادما لخلق الله بالتفاني في الله..شأنَ الشمس والقمر والأرض وغيرها.وتذكروا أن المراد بالحياة هنا هو الحياة الأبدية التي ينالها الإنسان الكامل في الآخرة.وفي هذا إشارة إلى أن ثمرة الشريعة العملية في عالم الآخرة هي الحياة الخالدة..التي تبقى مستمرةً على الدوام بسبب غذاء الرؤية الإلهية.

Page 198

١٦٤ ثم قال: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا.....أي قد هلك وقنط من الحياة من لطخ نفسه بالوحل ولم يحرز الكمالات التي زُود بملكات لإحرازها، ورجع بعد قضاء حياة نجسة.الشقي.ثم ضرب الله مثال قصة ثمود ليبين أن قصتهم مشابهة لقصة هذا فكما أنهم عقروا الناقة التي كانت تسمى "ناقة الله" ومنعوها الشربَ من عين مائهم كذلك قد طعن هذا الشقى ناقة في الحقيقة وحرمها من مَعِينها.وفي هذا إشارة إلى أن النفس ناقة الله التي يمتطيها الإنسان..بمعنى أن قلب الإنسان هو الله البشرية هي محل للتجليات الإلهية، وأن ماء هذه الناقة الذي تحيا به هو محبة الله ومعرفته.ردوه ثم قال: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بذَنْبهِمْ فَسَوَّاهَا..أي أن أهل ثمود لما عقروا الناقة وصدوها عن سُقياها..نزل الله عليهم العذاب، ولم يكترث الله أبدا بمصير أيتامهم وأراملهم بعد هلاك القوم.كذلك الإنسان الذي يعقر ناقة نفسه، ولا يوصلها إلى كمالها، ويمنعها من مائها فسوف يدمر ويهلك.

Page 199

الحكمة من قسم الله بأشياء مختلفة وليكن معلوما هنا أن في قسم الله بالشمس والقمر وغيرهما حكمةً عميقة للغاية، يؤدي الجهلُ بها عند معظم معارضينا إلى إثارة الاعتراض قائلين ما حاجة الله إلى القسم، ولماذا أقسم بالمخلوقات؟ وبما أن عقولهم أرضية، وليست سماوية، فلا يدركون المعارف الحقة.ليكن واضحا أن غاية الحالف من القسم إنما هي أنه يريد بذلك تقديم شهادة على دعواه.إذا لم يكن ثمة شهيد على ما يدعي به فإنه يقدم الله تعالى شاهدًا على ما يقول، لأن الله عالم الغيب، ولأنه سبحانه وتعالى الشهيد الأول في كل قضية.وكأن الحالف بالله بهذه الشهادة أنه لو سكت الله عني بعد هذا الحلف، ولم يُنزل العذاب..فكأنه تعالى قد ختم على قولي بالتصديق كما يوثق الشهداء قول قائل وبناء على هذا..لا يحق بتانا للمخلوق أن يحلف بمخلوق آخر، فإن المخلوق لا يعلم الغيب، كما أنه ليس بقادر على علي معاقبة من يشهد شهادة زور.يعني غير أن قسم الله المذكور في الآيات السالفة ليس كقسم المخلوق، وإنما سُنة الله في ذلك أن أفعاله قسمين: أفعال واضحة محسوسة يدركها الجميع بدون اختلاف، وأفعال نظرية يخطئ أهل الدنيا فيها

Page 200

ويختلفون، فأراد الله تعالى أن يؤكد للناس أفعاله النظرية بشهادة أفعاله المحسوسة البدهية.المشابهة بين العالم الصغير والكبير والواضح أن كلا من الشمس والقمر والنهار والليل والسماء والأرض مزود فعلاً بتلك الخواص التي ذكرها تعالى آنفًا؛ ولكن وجود مثل هذه الخواص في النفس البشرية أمر لا يعرفه كل أحد، لذلك قدم الله أفعاله المشهودة شهادةً لتبيان أفعاله النظرية.وكأنه تعالى يقول: إن كنتم في ريب من وجود الخواص المذكورة في النفوس البشرية، فتدبروا في الشمس والقمر وغيرهما وسوف تجدونها فيها بداهة.ثم إنكم تعلمون أن الإنسان عالم صغير..رسمت في نفسه خارطة العالم الكبير كله بالإجمال.فما دام من الثابت المتحقق أن هذه الأجرام الضخمة في العالم الكبير مزودة بتلك الخواص، وتنفع المخلوقات كما ذكر ، فكيف يمكن للإنسان أن يكون خاليًا ومحروما منها..مع أنه يسمَّى أعظم المخلوقات درجة؟ كلا، بل إن فيه أيضًا، كضياء الشمس، نورًا من العلم والعقل يستطيع أن يضيء به العالم كله.وأنه – مثل القمر - يتلقى من الحضرة العليا نور الكشف

Page 201

١٦٧ والإلهام والوحي..ويوصله إلى الذين لم يستوفوا بعد الكمال الإنساني.فكيف إذن يسوغ القول بأن النبوة باطلة، وأن جميع الرسالات والشرائع والكتب إنما هي حصيلة مكر الإنسان وأنانيته؟ تشاهدون كيف تستبين كل سبيل بطلوع النهار، ويظهر كل ارتفاع وانخفاض جليا..كذلك فالإنسان الكامل..هو نهار من الضوء الروحانى، وعند إشراقه تستبين كل سبيل، ويبين هو للناس أين الصراط المستقيم..لأنه هو النهار المنير للحق والصدق.وكذلك تشاهدون كيف يؤوي الليل المتعبين المرهقين، وكيف يجد العمال المنهكون في أحضانه راحة النوم بكل سرور، ويستريحون من المشاق، ثم إن الليل يهيئ الستر للجميع، كذلك فإن عباد الله الكُمّل يأتون لراحة أهل الدنيا.إن الذين يتلقون وحيا وإلهاما من الله يخلصون كل العاقلين من إرهاق النفس، وبفضلهم تنحل المسائل الصعبة بكل يُسر.كما أن وحي الله تعالى يهيئ – مثل الليل – سترا - للعقل الإنساني..فلا يَدَع أخطاءه الخبيثة تنكشف للدنيا..لأن أرباب العقل متى تلقوا نور الوحي أصلحوا أخطاءهم بأنفسهم، واتقوا الفضيحة بفضل بركة الوحي الإلهي القدسي.لذلك لن تجدوا أحدًا من فلاسفة الإسلام قرب للأصنام دجاجًا كما فعل "أفلاطون" الفيلسوف.كان أفلاطون محروما من نور الوحي لذلك انخدع،

Page 202

١٦٨ وبدرت منه تلك الحماقة البشعة..رغم كونه فيلسوفا كبيرا.ولكن حكماء الإسلام عُصموا من مثل هذه الأعمال النجسة الحمقاء..بفضل اقتدائهم بسيدنا ومولانا رسول الله..فانظروا كيف ثبت أن الوحي يزود العقلاء بستر كمثل الليل.ظلالها ثم إنكم تعلمون أن عباد الله الكاملين يُؤوون في ظلالهم - كالسماء كل منهوك مرهق.إن أنبياء الله القدوس خاصة، ومَن تشرفوا بوحيه عامة، يمطرون كالسماء- أمطار فيوضهم وبركاتهم.كما أنهم يجمعون في أنفسهم خواص الأرض أيضًا، فتنبت نفوسهم الزكية أنواعًا من أشجار العلوم العالية التي ينتفع الناس من وثمارها وأزهارها.فهذا القانون الطبيعي البادي لأنظارنا بجلاء ليقف شاهدا على نفس القانون الخفي الذي قدّم الله شهادته في هذه الآيات في شكل قسمين.فيا له من كلام حكيم ورد في القرآن الكريم، وخرج من ذلك الإنسان الذي كان أميًّا من البادية! لو كان هذا الكلام من عند غير الله لما تقاصرت عقول العامة ولا عجزت أفهام مَن يُسمون أنفسهم مثقفين عن إدراك هذه المعرفة الدقيقة..حتى اندفعوا للطعن فيه.وإن من عادة المرء أنه إذا فشل بكل الطرق في فهم حكمة بعقله القاصر، اتخذها موضع الطعن، وطعنه هذا يشكل دليلاً على

Page 203

١٦٩ أن تلك الكلمة الحكيمة أسمى وأعلى من إدراك العقول العادية، فلذلك اعترض عليها العقلاء مع كونهم من أهل الذكاء والدهاء.وقد انكشف الآن هذا السر المكتوم..فلن يطعن فيه أي لبيب أما بعد ذلك..بل سيجد فيه متعة.مثال آخر ولقد أقسم الله قسمًا كهذا في موضع آخر من القرآن الكريم مستشهدًا بظواهر الطبيعة على سُنته المستمرة في الوحي وقال: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْع * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ الْهَزْلِ (الطارق : ١٢-١٥)..أي أُقسم بالسماء التي ينزل منها المطر، وأقسم بالأرض التي تُخرج أنواع النبات نتيجة المطر..إن هذا القرآن كلام الله ووحيه..وإنه يحكم بين الحق والباطل، وما هو بعبث لا نفع فيه، أي لم يأت في غير أوانه، بل هو كمطر ينزل في موم سمه.فالله تعالى قد قدّم هنا قانونه الطبيعي الجلي كل الجلاء شهادةً على صدق القرآن الكريم الذي هو كلامه.بمعنى أنه الملاحظ المشاهد من دائما في القانون الطبعي أن السماء تمطر عند الضرورة، وأن خضرة الأرض متوقفة على نزول مطر السماء، فلو أمسكت السماء مطرها

Page 204

۱۷۰ لنضبت الآبار شيئا فشيئا.فثبت أن وجود الماء في الأرض موقوف في الواقع على غيث السماء، لذلك نجد أن مياه الآبار الأرضية ترتفع كلما أمطرت السماء.لماذا ترتفع يا ترى؟ إنما سبب ذلك أن ماء السماء هو الذي يرفع مستوى ماء الأرض كأنه يجذبه إلى أعلى.هذه العلاقة نفسها موجودة بين الوحي الرباني والعقل البشري.العلاقة بين الوحي والعقل الله إن وحي هو الماء السماوي..والعقل هو الماء الأرضي، وهذا الماء يربو ويزداد دائما بالماء السماوي..أي الوحي.وحينما ينقطع الماء السماوي يجف الماء الأرضي أيضا بالتدريج.ألا يكفيكم برهانًا على ذلك أنه عندما يمضي زمن طويل ولا يُبعث في الأرض من يتلقى الوحى فإن عقول العقلاء تفسد وتخبث جدا..تماما كما تحف مياه الأرض وتفسد؟ ولكي تفهموا ما أقول يكفيكم أن تلقوا نظرةً عابرة على ما كانت عليه الأحوال في العالم كله في العصر الذي سبق بعثة نبينا محمد..إذ كانت قد مضت عندئذ ستة قرون على بعث المسيح ال؛ و لم يُبعث في تلك الفترة أحد من الرسل، ولذلك كانت أحوال العالم بأسره سيئة إن تاريخ الأمم كلها يدل

Page 205

۱۷۱ بصراحة على أن الأفكار الباطلة كانت قد عمت الآفاق جميعها قبل ظهور الرسول.لماذا حدث كل ذلك وما السبب وراءه يا تُرى؟ إنما سببه أن الوحي الرباني كان منقطعا منذ زمن ،مديد وكانت مملكة السماء في يد العقل الأجوف وحده.وهل هناك أحد يجهل ما أدى إليه العقل البشري الناقص من مفاسد و بلايا؟ فانظروا كيف جفت تماما مياه العقول كلها عندما لم يمطر ماء الوحي لمدة طويلة! ففي هذه الأقسام القرآنية يعرض الله هذا القانون الطبيعي نفسه..ويطلب منا أن نُجيل النظر لنرى: أليس من النواميس الإلهية المحكمة الدائمة أنه جعل خضرة الأرض متوقفة تماما على ماء السماء؟ إذن فهذه السنة الإلهية الجلية شاهدة على السنة الإلهية الخفية..سُنة الوحي والإلهام.فيجب إذن أن تستفيدوا من شهادة هذا الشاهد، وألا تتخذوا العقل وحده هاديًا..فإنه ماء لا يمكنه البقاء بدون ماء السماء.فكما أنه من خواص الماء السماوي أنه يرفع ماء الآبار كلها بحسب القانون الطبيعي..سواء وقع هذا الماء فيها مباشرة أم لم يقع، كذلك يحدث حين يظهر في الأرض نبي من أنبياء الله..فسواء اتبعه عاقل أم لم يتبعه..فإن العقول في عصره تزداد من تلقاء نفسها صقلاً وجلاء لم يُعهد فيها من قبل.يشرع الناس تلقائيا في البحث

Page 206

۱۷۲ عن الحق، وتنبعث من الغيب حركة في قواهم الفكرية.وكل هذا الرقي العقلي والحماس القلبي إنما يحدثان بسبب القدوم الميمون لذلك الإنسان المحظوظ بالوحي..فقد رفعت به مياه الأرض على وجه الخصوص.فإذا شاهدتم أن كل امرئ قد هب يهتم بالأمور الدينية والبحث فيها، وأن المياه الأرضية في فوران..فانهضوا وانتبهوا، واعلموا يقينًا أن المطر قد نزل من السماء غزيرا، وأن قلبا قد صار مهبطا لوابل الوحي.

Page 207

السؤال الخامس وسائل العلم..أي العرفان الإلهي ۱۷۳ ليكن واضحا أن المجال لا يسع قطعا أن نذكر الآن كل ما قاله القرآن المجيد مفصلا في هذا الموضوع..على أنني سوف أحاول الإلمام به على سبيل المثال.اعلموا أن مدارج العلم بحسب القرآن الكريم ثلاثة كما ذكرناها فيما سبق عند تفسير سورة التكاثر، وهي علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.وقد قلنا هنالك أن علم اليقين هو معرفة شيء بواسطة شيء آخر لا مباشرة..كما نستدل بالدخان المتصاعد على وجود النار.لم نر النار ولكننا رأينا الدخان ومن ثم عرفنا باليقين أن هناك نارا.وهذه الدرجة من المعرفة تُسمى علم اليقين.أما إذا رأينا النار نفسها..فهذه الدرجة تسمى عين اليقين حسب مصطلح القرآن الحكيم.ثم إذا اصطلينا بالنار صار علمنا هذا في مرتبة حق اليقين وفقا للتعبير القرآني ولا حاجة لإعادة تفسير سورة التكاثر هنا، إذ يستطيع القراء مراجعة هذا التفسير في مكانه.واعلموا أن القسم الأول من العلم..أي علم اليقين..وسيلته العقل والنقل.يقول الله

Page 208

حكاية عن أهل الجحيم (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السَّعِير) (الْمُلك : (۱۱)..أي سيقول أهل النار: لو كنا عقلاء، واختبرنا أمور الدين والعقائد بوسائل عقلية، أو أصغينا إلى أقوال العقلاء والباحثين الكاملين لما كنا اليوم في الجحيم.هذه الآية تتفق في المعنى مع آية أخرى حيث يقول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا (البقرة : ((۲۸)..أي أن الله تعالى لا يُكره النفس البشرية على قبول ما ليس في سعتها العلمية، ولا يعرض على الإنسان إلا العقائد التي في وسعه أن يفهمها..حتى لا تكون أوامره من قبيل التكليف بما لا يطاق.وتشير كلتا الآيتين أيضا إلى أن بوسع الإنسان أن يتلقى علم اليقين بواسطة سمعه أيضا.فعلى سبيل المثال، نحن لم نزر لندن، وإنما سمعنا من زوارها بأنها مدينة من المدن، ومع ذلك هل نستطيع أن نشك في وجودها ظانين أن هؤلاء جميعا ربما يكذبون؟ وإننا لم ندرك زمن السلطان عالمغير" و لم نر ،صورته، ومع ذلك هل انتابنا الشك مرةً في كون "عالمغير" أحد السلاطين "الجغتائين" المغول؟ فكيف حصل لنا إذن هذا اليقين؟ الجواب: بطريق السماع المتواتر فقط.فلا مراء في أن السماع أيضا يوصل الإنسان إلى مرتبة علم اليقين.

Page 209

۱۷۰ إن صحف الأنبياء كذلك وسيلة من وسائل العلم السماعي..بشرط أن لا يكون هناك خلل في سلسلة روايتها.وأما إذا كان هناك كتاب يدعي أنه سماوي..وله خمسون أو ستون نسخة مثلا يناقض بعضها بعضا، ثم اعتقد فريق من الناس أن اثنتين أو أربعًا من هذه النسخ صحيحة وما عداها موضوعة مزورة، فمثل هذا الاعتقاد الذي لم يُين على البحث الكامل سوف يعتبر عند الباحث عبئًا لا قيمة له، وتكون النتيجة أن تلك الأسفار تعتبر رديئة غير موثوق بها لما تنطوي عليه من التناقض، ولن يجوز مطلقا اعتبار مثل هذه الأقوال المتناقضة وسيلة للعلم..لأن تعريف العلم إنما هو ما يُكسب المعرفة اليقينية، ووجود المعرفة اليقينية في مجموعة من المتناقضات مستحيل.مزية القرآن الكريم فقط، ولنتذكر هنا أن بيان القرآن المجيد لا يقتصر على السماع بل إن فيه براهين عقلية عظيمة، وليس بين كل ما عرضه من عقائد ومبادئ شيء فيه جبر وتحكم، بل إن جميع مبادئه وقواعده كما ذكر الله فيه بنفسه - منقوشة في فطرة الإنسان.وقد سمى القرآن "الذكر" كما في قوله تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ)) (الأنبياء: ٥١)..

Page 210

١٧٦ أي هذا القرآن ذا البركة لم يأت بأمر مُحدَث، وإنما يُذكر الإنسان بكل ما هو مودَعٌ في فطرته، وما هو مرسوم في صحيفة الطبيعة.ويقول في موضع آخر: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: ٢٥٧)..أي أن هذا الدين لا يُكره أحدًا على قبول شيء منه، بل يبين حقيقة كل أمر مع أدلته.وإلى جانب ذلك فإن في القرآن خاصية روحانية لتنوير القلوب كما يقول سبحانه وتعالى: وَشِفَاء لِمَا فِي الصُّدُور (يونس: ٥٨)..أي بفضل خاصيته هذه ينزع من النفوس أسقامها كلها.لذلك فإن القرآن لا يمكن أن يسمى كتابا نقليا..أي الذي أعلى يعتمد على النقل فقط، بل إنه يصطحب براهين عقلية من درجة، وفيه نور ساطع وضاء.مقدمات وبالإضافة إلى ذلك فإن الدلائل العقلية المستنبطة من صحيحة أيضا توصل الإنسان - بلا ريب - إلى علم اليقين.وإلى ذلك يشير الله جل شأنه في قوله : إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ * قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: ۱۹۲-۱۹۱)..أي أن الحكماء وأصحاب العقول حين يفكرون في

Page 211

۱۷۷ تكوين الأرض والأجرام السماوية، ويُمعنون النظر في بواعث الظواهر الكونية..كاختلاف الليل والنهار في القصر والطول، فإنهم يهتدون - بالنظر إلى هذا النظام إلى دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، فيطلبون من الله العون لمزيد من العلم والاكتشاف..فيذكرونه قائمين وقاعدين ومستلقين على جنوبهم، فتزداد عقولهم صفاء وجلاء.وعندما وعندما يتدبرون بعقولهم الصنعة البديعة في الأجرام الفلكية والأرضية..لا يملكون إلا أن يقولوا: إن هذا النظام الهائل المحكم كل الإحكام ليس عبئًا وبلا طائل، وإنما هو مرآة تُري وجة الخالق.فيقرون بألوهية صانع هذا العالم، ويناجونه قائلين: ربنا، سبحانك وحاشاك أن ينكر أحد ذاتك، فيصفها بما لا يليق بشأنك؛ فاحمنا من نار الجحيم..أي أن الجحود بك هو الجحيم عينها، وأن الراحة والطمأنينة كلها فيك وفي معرفتك.ومَن حُرم من معرفتك الحقيقية فإنما هو في النار وهو في هذه الدنيا.حقيقة الفطرة الإنسانية وكذلك من وسائل العلم الوجدان الإنساني الذي سمي في كتاب الله باسم الفطرة الإنسانية..حيث يقول الله تعالى: فِطْرَةَ الله فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) (الروم (۳۱).أي أن الناس مخلوقون على فطرة

Page 212

۱۷۸ الله سبحانه وتعالى.فما هو ذاك الطابع الفطري يا ترى؟ إنما هو الاعتقاد بأن الله واحد لا شريك له، وأنه خالق الكل، ومنزه عن الولادة والموت.وأننا نعتبر حكم الوجدان بمنزلة علم اليقين..لأنه – وإن كان لا يبدو في ظاهره الانتقال من علم إلى آخر كانتقال العلم بالدخان إلى العلم بوجود النار - إلا أنه في الحقيقة لا يخلو أيضًا من انتقال دقيق على نحو ما.وبيان ذلك أن الله قد أودع كل شيء خاصية مجهولة، لا يمكن أن يحيط بها الوصف والبيان، ولكن إذا نظر الإنسان إلى شيء أو تصوره..انتقل الذهن فورا إلى تلك الخاصية الموجودة فيه لما بينهما من تلازم شديد فتلك الخاصية تستلزم ذلك الشيء كما تستلزم النارُ الدخان.فمثلا عندما نتدبر في ذات الله تعالى، ونفكر كيف يجب أن يكون..أينبغي أن يكون مولودًا كمثلنا، ويقاسي الآلام كمثلنا، ويموت كما نموت؟ فما أن يخطر هذا التصور عن الله تعالى ببالنا إلا وتتألم منه قلوبنا امتعاضا، منه الوجدان ويثور عليه وكأنه يدفع هذا التصور بشدة..وينادي قائلا: إن الإله الذي تتوقف جميع آمالنا على قدراته، يجب أن يكون منزها عن العيوب والنقائص كلها، وكاملا وقويا.ما أن يمر بخاطرنا فكرة الإله إلا نشعر بوجود تلازم كامل بين الله ويشمئز ووحدانيته

Page 213

۱۷۹ تلازم النار والدخان أو أشد منه.وهكذا فإن العلم الحاصل لنا بطريق الوجدان يدخل أيضا في عداد علم اليقين.ضرورة الوحي للعرفان الكامل غير أن هناك درجةً أخرى من العرفان أعلى من هذه..تسمى عين اليقين.والمراد به هو اليقين الذي لا يُبقي بيننا وبين الشيء الذي نوقن به أي واسطة.ومثال ذلك ما نشمه من رائحة زكية أو كريهة بحاسة الشم أو ما نذوقه من الحلو أو المالح بحاسة الذوق، أو ما نحسه من الحرارة أو البرودة بالحس، فكل هذه المعلومات هي من قبيل عين اليقين.وعلمنا بغيبيات العالم الأخروي لا يبلغ درجة عين اليقين إلا إذا تشرفنا بالوحي مباشرة بلا واسطة..وسمعنا كلام الله بآذاننا..وشاهدنا الكشوف الإلهية الواضحة الصحيحة بأم أعيننا.إننا، ولا ريب، بحاجة إلى الوحي الرباني المباشر حتى نكتسب العرفان الكامل.وفعلا نجد في أنفسنا ظماً وجوعًا لهذا العرفان الكامل.فلو لم يكن الله قد هيأ لهذه المعرفة أسبابها من قبل، لما كان سبحانه قد أوجد فينا جوعًا وظماً لها هل يكفينا في حياتنا هذه التي هي المقياس الوحيد لذخيرتنا الأخروية بأن نؤمن بذلك الإله الحق

Page 214

۱۸۰ الكامل القادر الحي..إيمانا لا يتجاوز القصص والحكايات فقط؟ أو أن نكتفي بمجرد المعرفة العقلية التي لم تزل حتى الآن معرفةً ناقصة غير كاملة؟ أولا يود العاشقون الصادقون..الذين تملّكَ حُبُّ الله أن يتمتعوا بكلام ذلك الحبيب؟ هل يمكن لأولئك الذين قلوبهم..أن زهدوا في دنياهم كلها، وضحوا بنفوسهم، وفدوا بقلوبهم..يقنعوا بالموت واقفين تحت بصيص ضوء خافت، ولا يتمكنوا من رؤية طلعة شمس الحق تلك؟ أوليس حقا أن نداء ذلك الإله الحي: "أنا الموجود" يمنح درجة سامية من العرفان، بحيث لو وضعنا نداء "أنا الموجود" في كفة..ووضعنا في كفة أخرى ما ألفه فلاسفة الدنيا كلهم في كتبهم من عند أنفسهم..لم يبق لكتبهم وزن ولا قيمة أن يعلمنا هؤلاء الذين لم يزالوا عميانا أمام ذلك النداء؟ ماذا عسى إن كانوا يسمون فلاسفة؟ إذن فما دام الله قد أراد أن يهب لطلاب الحق العرفان الكامل..فلا بد أن يكون سبحانه وتعالى قد ترك لهم باب المكالمة والمخاطبة مفتوحا أيضا.قال الله جل شأنه في القرآن الكريم في هذا الشأن: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، والمراد بالإنعام

Page 215

۱۸۱ هنا الإلهام والكشف وما شابههما من العلوم السماوية التي يؤتاها الإنسان مباشرة من لدن الله تعالى.كذلك يقول الله في مقام آخر: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ التِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:٣١).لقد بين في هذه الآية أيضا بكلمات صريحة أن عباد الله الصالحين يتلقون الوحى من الله عندما يصيبهم الخوف والحزن، وأن الملائكة يتنزلون عليهم ويطمئنوهم.وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ (يونس: ٦٤-٦٥)..أي أن أولياء الله يتلقون البشارة بالوحى والمكالمة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.المراد من الوحي وليكن معلوما أن الوحي هنا لا يعني ما يقع في النفس نتيجةً تفكير كما قد يحصل للشاعر إذا حاول نظم الشعر، أو قال جزءًا من البيت وأجال الفكر للثاني..فيقع الجزء الثاني في قلبه.فما يقع في القلب هكذا ليس من قبيل الوحي، وإنما هو ثمرة لتفكره وتأمله

Page 216

۱۸۲ تبعا لقوانين الطبيعة.فمن يفكر في الحسنات أو في السيئات لا بد وأن يقع في قلبه شيء بحسب سعيه.فمثلا هناك رجل صالح صادق..يقرض أبياتًا ذَودًا عن الحق، وهناك شخص آخر خبيث فاجر..يدافع في أبياته عن الباطل، ويسب أهل الحق، فكلاهما ينجح بعض النجاح في نظم القوافي، بل لا غرابة لو جاء شعر هذا العدو لأهل الحق والمدافع عن الباطل أحسن نظما منه لدوام ممارسته هَ نَظْم - أنْ الشعر.فلو كان وقوع أفكار في القلب يسمى وحيًا، فلا بد يُسمى الشاعر الشرير – الذي يعادي الحق وأهله ويحمل قلمه دائما ضد الحق ويلجأ إلى الافتراء - مُلهَما من الله ! وإنكم تجدون البيان الساحر في الروايات وغيرها، وترون كيف أن المواضيع الباطلة تلقى في قلوب مؤلفيها محبوكة سلسة..فهل يجوز أن نسميها وحيا؟ بل لو كان الوحي اسما لمجرد ما يقع في القلب من أمور لاعتبر السارق أيضا من الملهمين، فإنه كثيرا ما يُعمل فكره فيأتي بحيل رائعة للنقب والسرقة، وتمر بخاطره أساليب مدهشة للنهب وسفك الدماء، فهل يجوز إذن أن نسمي هذه الطرق الخبيثة جميعها وحيا؟ كلا، بل إنما هو ظن أولئك الذين لم يعرفوا ذلك الإله الحق..الذي هو نفسه- يُطَمْئِن القلوب بكلامه الخاص، ويهب المعارف الروحانية لمن يجهلها.

Page 217

۱۸۳ علامات الوحي الحقيقي ما هو الوحي؟ إنه مكالمة القادر القدوس مع عبد من عباده الأخيار..أو مع من يريد أن يصطفيه..بكلام حي ذي قدرة..فإذا ابتدأ هذا الحوار بقدر كافٍ وعلى نحو مُرضِ شاف، بحيث لا تشوبه ظلمة الأفكار الفاسدة، ولا يكون غير كاف أو مشتملاً على كلمات قليلة غامضة، بل كان على العكس كلاما لذيذا ذا حكمة وجلال..فذلك كلام الله يريد به أن يُطَمْئِن عبده ويُظهر عليه نفسه.غير أن كلام مع العبد قد يكون على سبيل الاختبار الله فقط، ويفتقد إلى البركة والكفاية، ويراد به اختبار العبد في حالته البدائية ليذوق لذة قليل من الوحي، فإما أن يجعل به حاله وقاله كمثل الملهمين الصادقين، وإما أن يتعثر.فإن لم يسلك كالصادقين طريق السداد الحقيقي..أصبح محروما من استيفاء تلك النعمة، فلا يبقى في يده إلا هتافات زائفة.لقد تلقى الوحي الملايين من عباد الله الصالحين، لكن منزلتهم لم تكن واحدة عند الله بل حتى أنبياء الله الأطهار..الذين يتلقون وحيا من الطراز الأول بكل صفاء وجلاء ليسوا سواء في المرتبة.يقول الله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ (البقرة: ٢٥٤).فثبت من ذلك أن الوحي فضل محض من الله تعالى..وليس

Page 218

١٨٤ هو في ذاته دليلا على الفضل، لأن الفضل إنما يكون على قدر الصدق والوفاء، وهي أمور لا يعلمها إلا الله وحده.نعم، قد يكون الوحي أيضا من ثمرات تلك الصفات..بشرط أن تتوافر في الوحي شروطه المباركة.لا شك أن الوحى لو تم في صورة حوار بين الله والعبد..بحيث يسأل العبد والرب يجيب، وكان الوحي متسما بالجلال والنور الربانيين ومشتملا على علوم غيبية أو معارف حقة..فلا شك أن هذا الكلام هو وحي من الله.إن الوحي الإلهي يستلزم أن يكون فيه حوار بين الله وعبده.فكما يحادث الصديق صديقه عند اللقاء الله أن كذلك ينبغي عن شيء يسمع في الجواب من الله تعالى كلاما لذيذا فصيحا يتم الحوار بين وعبده، بحيث أن العبد إذا سأل الله خاليا تماما من أية شائبة من حديث نفسه أو تفكيره أو تدبره، وبحيث تصبح تلك المكالمة والمخاطبة هبة وهدية له من الله.فإن كان الوحي على هذا المنوال فذلك كلام الله..ويكون ذلك العبد مكرما عند الله تعالى.غير أن هذه الدرجة..التي يصبح عندها الوحي هبةً..ويتشرف العبد بوحي إلهي متسلسل متدفق بالحياة والطهر، متسم بالصفاء والجلاء، أقول إن هذه الدرجة لا يحوزها إلا أولئك الذين يتقدمون

Page 219

110 في الإيمان والإخلاص والأعمال الصالحة وفيما لا نستطيع أن نحيط به وصفًا.إن الوحى الصادق الصافي المصفى كيري عجائب عظيمة الألوهية.فكثيرا ما يتولد نور جد ساطع..مصحوبًا بكلام فيه جلال ونور ساطع.ماذا يبغي العبدُ أعظم من أنه يحادث من خلق السماوات والأرض؟ إن رؤية الله في الدنيا إنما هي أن يكلم الإنسان ربه.غير أننا لا نعني من هذا البيان حالة الإنسان التي تجري فيها على لسانه كلمة بدون مناسبة، أو جملة أو بيت من شعر هكذا عرضا..بل إن مثل هذا الإنسان يكون في اختبار من الله، لأن الله سبحانه وتعالى قد يفتن بهذا الطريق أيضا العبادَ الكسالى الغافلين إذ تجري كلمة أو عبارة في قلب الإنسان أو على لسانه..وهو لا يدري الله أم من الشيطان؟ فلا بد من الاستغفار لدى مصدرها..أهى من تلقي مثل هذه العبارات.أما إذا بدأت المكالمة الإلهية مع عبد صالح كشفا بلا حجاب، بحيث يسمع العبد من الله على أسلوب الحوار المتسم بقوة وجلال..كلاما جليا عذبا..زاخرا بالمعاني فائضا بالحكم، وبحيث يتاح للعبد أن يكون بينه وبين الله مثل السؤال والجواب، مرارا، وفي حالة يقظة تامة..حيث العبد يسأل والرب يجيب ثم يلتمس العبد مرة أخرى

Page 220

١٨٦ أخرى؛ والله تعالى يرد، ثم يعود العبد يعرض طلبه بخشوع وتضرع..فيجيبه الله تعالى أيضا..ويتكرر هذا الحوار بينه وبين الله سؤالا وجوابا حتى يبلغ هذا السؤال والجواب عشر مرات على الأقل في مناسبة واحدة، وبالإضافة إلى ذلك يستجيب الله تعالى أثناء هذه الحوارات لكثير من أدعيته، ويُطلعه على المعارف النفيسة، ويخبره بالحوادث المقبلة..ويُشرّفه بكلامه الجلي الواضح..سؤالا وجوابا مرة بعد فمثل هذا العبد الصالح حري به أن يشكر الله تعالى شكرا كثيرا، وخليق به أن يكون أكثر الناس بذلا لنفسه في سبيل الله، لأن الله بفضله المحض قد اجتباه لنفسه من بين عباده جميعا..وجعله وارثا للصديقين الذين خلوا من قبله إن هذه النعمة نادرة النوال..ودليل على حسن طالع الإنسان الذي ينالها، وأما ما سواها مما يحسبونه إلهاما فلا قيمة له.خصوصية الإسلام كان ولا يزال رجال حائزون على هذه الدرجة موجودين في أمة الإسلام على الدوام.إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي عن طريقه الله من عبده ويناجيه، وينطق في داخله، ويتخذ في قلبه عرشا يقترب

Page 221

۱۸۷ له..ثم يجذبه من باطنه إلى السماء، ويعطيه كل نعمة أُوتيها الأولون.الأسف كل الأسف..أن الدنيا العمياء لا تدري إلى أين يمكن أن يصل الإنسان وهو يتقرب ويتقرب إلى الله! إن أهلها لا يحركون بأنفسهم قدمًا، وإذا تقدم غيرهم فإما كفروه وإما ألهوه ونصبوه في مقام الله عل.وكلا الأمرين ظلمٌ..هذا من الإفراط وذاك من التفريط.ولكن ينبغي للعاقل ألا يكون ضعيف الهمة، فلا ينكر هذه الدرجة، ولا يستخف بمن نالها، أو يشرع في عبادته.في هذا المقام يُظهر الله لعبده من القرب الشديد وكأنه يُلقي عليه رداء ألوهيته، فيصبح مثل هذا الإنسان مرآة لرؤية وجه الله.وهذا هو السر وراء قول نبينا : "من رآني فقد رأى الله".قصارى القول إن هذا تحذير شديد للعباد، وإليه ينتهي كل السلوك، وبه تحصل الطمأنينة التامة.تشرُّفُ صاحب المقال بمكالمة الله وخطابه وأكون قد ظلمت بني جنسي إن لم أعلن لهم في هذه الساعة أن هذا المقام الروحاني الذي وصفته هذا الوصف، وأن مرتبة التشرف بمخاطبة الله ومكالمته التي فصلتها الآن..ميسرة لي بفضل الله وعنايته.

Page 222

۱۸۸ ذلك لكي أمنح العميان البصيرة، وأدلّ الباحثين على ضالتهم المنشودة، وأبشر - من يقبل الحق - بتلك العين الصافية التي يتحدث عنها الكثيرون.ولكن قليل هم الذين يجدونها.إنني أؤكد للمستمعين الكرام..أن الإله الذي بلقائه يجد الإنسان النجاة والسعادة الأبدية..لن يجده أحد إلا باتباع القرآن المجيد.يا ليت الناس يرون ما رأيتُ، ويسمعون ما سمعتُ، ويتركون الأقاصيص، ويُقبلون على الحقيقة مسرعين! إن وسيلة العلم الكامل التي بها نشاهد الله تعالى، وإن الماء الذي يطهر من الأدران وبه تزول جميع الشكوك، وإن المرآة الصافية التي تري طلعة الإله العلي..إنما هي المكالمة الإلهية التي ذكرتها آنفا.فلينهض وليطلبها من كان في روحه للحق شوق.فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ : لو تولد في الأرواح رغبة صادقة وفي القلوب ظمأ حقيقي، لبحث الناس عن هذا الطريق، وسعوا للعثور عليه.ولكن كيف يُفتح ذاك الطريق، وأنى يُرفع ذاك الحجاب؟ إنني لأؤكد للطالبين جميعا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يبشر بهذا من زمان الصراط..وأما الأمم الأخرى فقد ختمت على وحي الله بعيد.واعلموا يقينا أن حَتْمَهم المزعوم هذا ليس من الله الرحمن، وإنما هو عذر انتحله الإنسان عند الحرمان واعلموا يقينا أنه كما لا يمكن

Page 223

۱۸۹ لنا أن نرى بغير العيون، أو أن نسمع بدون الآذان، أو أن ننطق بغير اللسان..كذلك من المستحيل أن نرى وجه ذلك الحبيب الودود بدون القرآن كنتُ شابا وقد صرتُ الآن شيخا، ولم أجد أحدًا شرب كأس هذه المعرفة البينة..بدون هذه العين الصافية.الله الوحي الرباني وسيلة العلم الكامل أن ينازع فيا أيها الأعزة، ويا أيها الأحباب، لا أحد يستطيع الله في مشيئته وإرادته.فاعلموا يقينا أن وسيلة العرفان الكامل هي الوحي الرباني..الذي أوتيه أنبياء الله الأطهار..ثم من بعدهم لم يُرِد -وهو بحر الفيوض أن يوصد باب الوحي في المستقبل فيُهلك العالم، بل إن أبواب وحيه ومكالمته سبحانه لمفتوحة للأبد.ليس عليكم إلا أن تلتمسوها من سُبلها وسوف تجدونها عندئذ بسهولة.لقد نزل من السماء ماء الحياة واستقر في مقره المناسب، فماذا يجب فعله الآن لتتمكنوا من شربه؟ ما عليكم إلا أن تردوا ذلك المعين في كل حال ولو بتجشم المشاق..ثم ضعوا أفواهكم أمامه لترتووا من زلال الحياة.إن سعادة الإنسان كلها إنما تكمن في أن يسعى إلى حيث يرى ذلك النور، وأن يسلك الطريق الذي يتوسم فيه آثار ذلك المحبوب المطلوب.

Page 224

۱۹۰ ترون الضوء ينزل دائما من السماء إلى الأرض، كذلك يسطع نور الهذي الصادق من السماء أيضا.إن ما يخترعه الإنسان من أمور من عند نفسه - بناء على ظنونه لن تكسبه المعرفة الحقة.هل تستطيعون أن تجدوا الله جل جلاله بدون تجلياته؟ هل تقدرون على الرؤية في الظلمات بدون نور السماء؟ فإن استطعتم هذا فعساكم تتمكنون من الرؤية هنا أيضا.الواقع أنه مهما كانت أعيننا مبصرةً فإنها تفتقر إلى الضوء السماوي، ومهما كانت آذاننا قادرة على السمع فإنها لا جرم تحتاج إلى الهواء الذي يهب من عند الله.ليس بإله حق مَنْ لزم الصمت..وقام وجوده كله على ظنون الخلق.بل إنما الإله الكامل الحي هو من لم يزل يدل على نفسه بنفسه، وقد أراد الآن أيضا أن يخبر بوجوده.لقد آن أن تنفتح نوافذ السماء، وأن للصبح الصادق أن يضيء.فطوبى لمن يهب الآن من الرقاد ويأخذ في البحث عن الإله الحق..ذلك الإله الذي لا تدور عليه الدوائر ولا المصائب، والذي لا يطرأ أبدًا على تألق جلاله طارئ.يقول الله في القرآن الكريم : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (النور: (٣٦)..أي أن الله سبحانه هو نور السماء ونور الأرض في كل آن، وبنوره يُشرق كل مكان.إنه سبحانه الشمس للشمس،

Page 225

۱۹۱ وهو الحياة لكل ذي حياة في الأرض، وهو الإله الحق الحي.فبورك من به آمن! والوسيلة الثالثة للعلم هي تلك الأمور التي هي على بمرتبة حق شدائد اليقين، وهي كل ما يصيب أنبياء الله والصالحين من ومصائب وآلام، على أيدي الأعداء، أو بحكم القضاء والقدر من السماء.إن تعاليم الشريعة تكون في نفس الإنسان مجرد معلومات نظرية قبل أن تعركه شدة المصائب والآلام، ولكن عندما تترل عليهم هذه البلايا تتحول هذه التعاليم إلى أعمال، وتنمو وتزدهر في تربة العمل لتصل إلى الكمال، فإذا نفوس العاملين تصبح نسخة كاملة من الشريعة الإلهية، وبسبب الممارسة العملية يأخذ كل عضو من أعضائهم نصيبه من جميع الأخلاق من عفو وانتقام وصبر ورحمة وغيرها..وقد كانت هذه التعاليم من قبل مجرد معلومات محشوة في الدماغ والقلب؛ وهكذا تنعكس على الجسم كله وتترك فيه آثارها، كما يقول الله جل شأنه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة: ١٥٦ - ١٥٨)، ويقول تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ

Page 226

۱۹۲ الذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنْ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) (آل عمران: ۱۸۷)..أي أننا سوف نختبركم حتمًا بالخوف والفاقة والخسارة في الأموال والنفوس وضياع الجهود وموت الأولاد..يعني أن هذه المصائب كلها ستصيبكم إما بيد القدر أو بيد الأعداء.فطوبى لمن لا يقولون عند حلول المصيبة إلا "إننا مِلكُ الله وإنا إليه راجعون"، لأن هؤلاء عليهم رحمة الله وصلاة منه، وهؤلاء هم الذين قد بلغوا ذروة الهدى..بمعنى أنه ليس الفضل والشرف في مجرد اكتساب العلم الذي يكون حشوا في الدماغ والقلب، إنما العلم الحقيقي هو ذاك الذي يسري من الذهن إلى الأعضاء كلها، فتصطبغ بصبغته وتتأدب بأدبه، ويتحول ما حوته الحافظة من معلومات إلى أعمال ذلك لأن أعظم وسائل إتقان العلم وإنمائه أن تحفر نقوشه في الأعضاء بالممارسة العملية..إذ لا يبلغ أي علم من العلوم – مهما كان بسيطا- - الكمال بدون تدريب وممارسة.فمثلا نعلم من طول ما شاهدناه أن صناعة الخبز أمر سهل جدا لا يتطلب دِقةً كبيرة.فكل ما هنالك أن يُعجن الدقيق، ويُقطع العجين قطعا بقدر رغيف، ثم يبسط باليد، ثم يوضع على اللوح، ويسوى على الجمر فإذا هو خبز.هذا هو مبلغ علمنا الذي لا يقوم على التجربة.وأما إذا بدأنا نخبز بدون تجربة

Page 227

۱۹۳ سابقة..فأول مشكلة نواجهها في ذلك هي المحافظة على قوام مناسب للعجين..لأنه إما أن يتصلب كثيرا وإما أن يلين كثيرا ويسترخي فلا يصلح للرغف.ولو أمكننا أن نعجنه بعد طول مشقة، نجد أن ما خبزناه من أرغفة قد جاء بعضها محترقا، وبعضها غير ناضج، وفي وسطه كتل، وقد تهدل من جوانبه في شكل غير منتظم..مع أننا نشاهد صنع الخبز منذ خمسين سنة.وهكذا نكون قد أضعنا بضعة أرطال من الطحين بسبب العلم النظري الذي لم يقترن بالتمرين.فما دام هذا هو مصير علمنا في الأمور البسيطة..ترى كيف يمكن أن نعتمد في عظائم الأمور على مجرد المعرفة السطحية التي لا يصاحبها التمرن والمزاولة العملية؟ لقد علمنا الله في هذه الآية أن ما يصيبنا به من صنوف الآلام والبلايا..إنما هو وسيلة لكسب العلم والتجربة..أي أن علمنا يبلغ الكمال بسببها.ثم قال سبحانه وتعالى أنكم سوف تختبرون في أموالكم وأنفسكم.سوف يسلبكم الناس أموالكم ويقتلونكم، وسوف تتحملون أذىً شديدا بأيدي اليهود والنصارى والمشركين، وسوف

Page 228

١٩٤ يأتون بأقوال تؤذيكم.فإن صبرتم عليها وتجنبتم ما لا يليق فذلك عمل يدل على الهمة والشجاعة منكم.وخلاصة هذه الآيات أن العلم المبارك هو ما يتجلى أثره من خلال العمل، وأن العلم المشؤوم هو ما ينحصر في النظرية ولا يُجاوزها إلى العمل أبدا.واعلموا أنه كما يربو المال ويثمر بالتجارة..كذلك يبلغ العلم كماله الروحاني بالمزاولة العملية.فالتطبيق العملي وسيلة عظيمة لبلوغ العلم إلى الكمال..لأنه يُكسب العلم نورا.كيف يرتقي العلم إلى درجة حق اليقين؟ إنما سبيله أن يُختبر العلم من كل الوجوه اختبارًا عمليًا.وهذا ما حدث بالضبط في الإسلام.فإن كل ما علمه الله للناس بالقرآن المجيد من تعليم، قد أتاح لهم فرصا لكي يصقلوه بالممارسة العملية، ويمتلئوا من نوره.فترتان من حياة الرسول ﷺ لذلك قسم الله تعالى حياة نبينا إلى عصرين: عصر الآلام والمصائب والمحن، وعصر الفتح والظفر.ذلك لتظهر في أوان المصائب أخلاقه التي لا تنكشف في وقت آخر، وتبرز في زمن الفتح أخلاقه التي لا تبرز إلا مع الاقتدار والغلبة.وهكذا ظهرت أخلاق

Page 229

۱۹۵ سيد الرسل بنوعيها ظهورا كاملا في نوعين من الأحوال في العصرين، إذ أنه قد صادف في كل منهما ظروفا مختلفة؛ فإن قراءة سيرته في فترة المصائب التي لازمته في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما..تبين بكل وضوح تحليه عندئذ بجميع تلك الأخلاق التي يجدر بالصادق الكامل أن يتحلى بها عند المصائب..كالتوكل على الله، وتجنب الجزع والفزع وعدم التكاسل في العمل، وعدم الخوف ، من العدو..حتى لم يملك الكفار إلا التصديق به عندما رأوا استقامته تلك، وشهدوا أنه ما لم يكن أحد متوكلا على الله تماما لما أمكنه أن يبدي تلك الاستقامة وذلك الصبر على الشدائد والآلام ولما جاء العصر الثاني..عصر الفتح والسلطة والثراء..أشرقت فيه شمائل كريمة للنبي..من عفو وجود وشجاعة..إشراقا كاملا بحيث آمن كثير من الكفار لرؤية أخلاقه هذه.لقد عفا عن الذين آذوه، وأمن الذين طردوه من بلده، وأغنى المحتاجين منهم بالمال، وصفح عن ألد أعدائه بعد أن تمكن منهم..حتى شهد الكثير من الناس عندما رأوا من أخلاقه بأنه لا يمكن أن يتحلى بها أحد ما لم يكن في الحقيقة صادقًا ومبعوثًا من عند الله.ومن أجل ذلك زالت الضغائن القديمة تماما ودفعة واحدة من صدور أعدائه.

Page 230

١٩٦ أعظم خُلق من أخلاق سيد الرسل إن أعظَمَ خُلق تحلّى به النبي الله هو ما ذكره القرآن في قول الله تعالى: قُلْ إِنّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الأنعام: ١٦٣)..أي أعلن لهم أن عبادتي وتضحيتي وحياتي وموتي كلها في سبيل الله..أعني لإظهار جلاله عز وجل، وتقديم الراحة لعباده..كي ينالوا الحياة بموتي.وأما ما ذُكر هنا من الموت في سبيل الله ولخير الإنسانية فلا يجدر أن يُسيء أحد فهمه ويظن أنه لو كان ينوي – والعياذ بالله – الانتحار حقا كالجهال والمجانين، زاعمًا أن قَتْلَه نفسه هكذا بسلاح ما سوف ينفع الآخرين.كلا، بل كان لا يعارض بشدة مثل هذه الأعمال العابثة وإن القرآن الحكيم يعتبر من ينتحر هكذا محرما ارتكب جرما عظيما يستوجب العذاب..فقال: وَلا تُلْقُوا بأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) (البقرة: (١٩٦)..أي لا تنتحروا، ولا تتسببوا في هلاككم بأيديكم.والواضح أنه لو كان خالد مثلا يشتكي الوجع في بطنه، فترحم عليه زيد وشجّ رأسه هو، فلن يُعَدَّ هذا معروفا في حق ،خالد، وإنما يقال: لقد شجّ رأسه حمقا وغباء وبدون جدوى.وإنما يكون المعروف أن يقوم زيد بما يليق وينفع خالدا..كأن يُحضر له أدوية نافعة ويداويه بحسب المبادئ الطبية.أما أن

Page 231

۱۹۷ يشج رأسه هو..فذلك لا ينفع خالدا بشيء، بل على العكس..إنما يوجع عضوا شريفا من من جسمه دون جدوى.فالمراد من الآية المذكورة آنفا، أن النبي ﷺ كان قد نذر نفسه لإنقاذ الإنسانية عن طريق المواساة الحقيقية لهم، وبتحمل المشاق في سبيل ذلك..متوسلا بالدعاء والدعوة والصبر على الجور والظلم وبكل طريق لائق حكيم..كما قال الله جل شأنه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: ٤)، وقال: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ (فاطر: (٩)..أي هل أنت مهلك نفسك بهذا الغم والمعاناة التي تكابدها من أجل الناس، وهل أنت حياتك حسرةً على هؤلاء الذين لا يقبلون الحق؟ قاضِ فالأسلوب الحكيم للتضحية بالنفس في سبيل القوم إنما هو على أن يتحمل الإنسان العناء لمصلحتهم، عاملا بالقوانين الطبيعية النافعة وينذر نفسه لاتخاذ التدابير النافعة لهم؛ لا أن يشج رأسه بحجر، أو أن يبتلع سما ويرحل عن الدنيا متأثراً مما يرى فيه قومه من بلاء شديد وضلال كبير وموقف خطير ثم يحسب أنه قد أنقذ قومه بفعلته غير اللائقة هذه ذلك ليس من شأن الرجال..بل هو من صفات النساء.فإن من عادة عديمي الهمة أنهم يعمدون دائما إلى الانتحار فورا عند مواجهة مصائب يصعب عليهم تحملها.إن هذا

Page 232

۱۹۸ الانتحار، مهما يقال في تبريره بعد ذلك، عار عند العقل والعقلاء بلا ريب.غير أنه من الواضح أنه ما لم تسنح لأحد فرصة الانتقام من العدو فلا اعتبار لصبره و امتناعه عن الانتقام فما يدرينا ماذا سيفعل هذا لو قدر على الانتقام؟ إن أخلاق الإنسان لا تظهر أبدا على حقيقتها ما لم يمر بفترة من المصائب، وأيضا بفترة من المقدرة والسلطان والثراء..إذ من البين أن الذي يموت في حالة من الضعف وقلة الحيلة وفقدان السلطة، مضروبا بأيدي الناس، وبدون أن يجد السلطة والحكومة والثروة..لن يتجلى من أخلاقه شيء.أياما من وما لم يحضر ساحة القتال فلن يثبت لنا ما إذا كان شجاعا أم جبانا.إننا لا نستطيع أن نحكم على أخلاقه..لأننا لم نعرف منها شيئا؛ فلا ندري كيف كان سيعامل أعداءه لو تمكن منهم؛ وكيف كان سيتصرف بثروته لو صار غنيا..هل يُمسك المال أم ينفقه على الناس؛ وكيف كان سيفعل في ساحة القتال..هل يفر من العدو جبنا أم يسلك سلوك الشجعان؟ بيد أن الله تعالى قد أتاح بعنايته وفضله لنبينا ﷺ فرصا للتحلّي بجميع هذه الأخلاق.فقد صدر منه الجود، والشجاعة، والحلم، والعدل..كل في محله..ظهورا يستحيل أن نجد نظيره على وجه

Page 233

۱۹۹ البسيطة.ففي الحالتين..حالة الضعف والفقر وحالة المقدرة والثراء، لقد أثبت محمد للعالم كله ما كانت عليه ذاته الشريفة من السمو في الشمائل الحميدة.ليس ثَمّة خُلقٌ من الأخلاق الفاضلة الإنسانية إلا أتاح الله له فرصا لظهورها.لقد تجلت منه الشجاعة والكرم والاستقامة والحلم والعفو وغيرها من الأخلاق الفاضلة..تجليا يعتبر البحث عن نظيره في الدنيا ضربا من المحال.نعم، إنه لحق أيضا أن أولئك الذين بلغوا من الظلم منتهاه، الله دون وأرادوا استئصال الإسلام والقضاء عليه..لم يتركهم عقاب..لأن تركهم من غير عقاب هو بمنزلة سحق الصالحين تحت أرجلهم.غاية غزوات النبي فما كانت غزوات النبي ﷺ تهدف إلى قتل الناس بدون داع.وإنما لأن الظالمين أخرجوه وأصحابه من ديار آبائهم، وقتلوا الكثير من رجال المسلمين ونسائهم دون ذنب، ومع ذلك كانوا لا يكفون عن الظلم، وكانوا يمنعون تعاليم الإسلام من الانتشار..لذلك اقتضى القانون الرباني لحفظ الأمن أن يحفظ المظلومين من الفناء، فتم القتال بالسيف ضد من شهروا السيف.

Page 234

۲۰ : فلم تكن حروبه الا الله إلا إحمادًا لفتنة القتلة السفاكين..ودفعا لشرهم عن المظلومين.ولقد قامت الحرب حين كان الظالمون يبغون القضاء على أهل الحق.ولو لم يتخذ الإسلام حينئذ تلك الوسائل حفاظا على النفس، لهلك آلاف الأبرياء من أطفال ونساء بغير حق..ولقُضي على الإسلام.أغلوطة فاحشة وليكن معلومًا أنه لتعنّت كبير من قبل معارضينا إذ يزعمون بأن هدي الوحي الرباني ينبغي أن يتسامي عن حثّ الإنسان على مقاومة العدو في كل الظروف والأحوال..ويجب أن يحضه دائما وأبدا على التحلّي بالحلم والرفق حبا ورحمةً بالعدو.ويحسب هؤلاء الناس أنهم بحصر صفات الله الكاملة كلها في الحلم والرأفة يعظمونه جل شأنه تعظيما كبيرا ولكن المتفكرين في الأمر بإمعان وتدبر..سوف يدركون بسهولة أن هؤلاء واقعون في خطأ فاحش واضح.إذا أجلنا النظر في نواميس الطبيعة تبين لنا جليًّا أن الله - بلا شك - رحمة خالصة للدنيا، إلا أن رحمته هذه لا تظهر دائما وفي كل حال بصورة اللطف والرفق، بل إنه بسبب رحمته الواسعة

Page 235

۲۰۱ يسقينا - شأن الطبيب الحاذق - شرابًا حلوا في بعض الأحيان، ويسقينا دواءً مرا أحيانا أخرى.إن رحمته الله آدم تشبه رحمة ببني أحدنا ببدنه كله.لا شك أن كلا منا يحب جسده كله، ولئن أراد التي أحد أن ينتزع منه شعرة واحدة ثار غضبًا.وعلى الرغم من أن حُب أحدنا لجسده موزع على كل أعضائه إذ كل عضو منه محبب إليه، ولا يريد الضرر بأي منها، إلا أن هذا الحب ليس موزعا على كل الأعضاء بشكل متساو، بل تغلب فينا محبةُ الأعضاء الرئيسة الشريفة نعتمد عليها إلى حد كبير في حياتنا.كذلك نحب الأعضاء في مجموعها أكثر من حبنا لعضو واحد بمفرده، ولذلك إذا أصبحت سلامة عضو شريف متوقفةً على جراحة عضو آخر أدنى منه، أو حتى على كسره أو بتره..فإننا نُقدِم على ذلك بلا تردد..إبقاء على الحياة.نعم، إن قلوبنا تعاني الألم حينئذ لأننا نجرح أو نقطع عضوا عزيزا من أعضائنا..ولكن رغم ذلك نُضطر إلى هذا مخافة أن يسري فساده إلى عضو شريف آخر فيتلفه معه.ومن هذا المثال يمكن أن نفهم أن الله تعالى حين يرى أن عباده الصالحين موشكون على الهلاك بأيدي أرباب الباطل، وأن الفساد في ازدياد..فإنه يتخذ تدابير ملائمة..إما من السماء وإما من

Page 236

۲۰۲ حکیم، الأرض..إنقاذا لأوليائه، وحسما للفساد.فإنه كما هو كذلك هو رحيم.والحمد لله رب العالمين.

Page 237

فهارس فهرس الآيات فهرس الأحاديث فهرس المواضيع P שן ۱۵

Page 238

Page 239

الفهارس السورة والآية الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّين اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ البقرة وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ فهرس الآيات القرآنية وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ أجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وَأَتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) وَأَحْسَنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَزَوَّدُوا فَإِنْ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ رقم الآية رقم الصفحة 154 ،103 154 ،104 ،۹۶ ،۹۲ ،۹۰ ٤ ۱۸۰ ،۱۰۹ ،۱۰۷ ،۱۰۴ ،۹۸ ٦ ۱۲۰ ۱۱۵ ٢٥ ٢٦ ۰۹ ΛΕ ۱۰۷ ،۲۰ ۱۱۳ ۹۸ 122 ۱۹۱ ،٧٦ ۷۱ ۱۷۸ ٦٨ ۱۷۸ ١٢٤ ،۹۱ ۱۸۷ 3 % 00 ۱۸۹ ۳۷ ۱۹۰ ٦٧ ١٩٦ ١٩٦ ١٩٦ ۳۹ ۱۹۸ ۱۰۸ ۲۰۸ ۱۸۳ ٢٥٤

Page 240

الفهارس ١٧٦ ٢٥٧ ٢٦٥ ٢٦٨ ٧٤ ۲۸۳ ٧٤ ٢٨٤ ١٧٤ ۲۸۷ ۹۱ ١٤٩ ۲۱ ۳۲ V.۹۳ ١٤٤ ۱۰۷ ٦٩ ۱۳۵ ٦١ ۱۳۵ ۷۲ ١٧٤ ۱۹۱ ۱۷۸ ١٧٦ ۱۹۱ ۳۹ ٤ ۳۹ 0 ۰۳ ۰۳ ۳۵ ۲۰ ٣٦ ۲۳ ۳۵ ،۲۷ ٢٤ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ) وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا آل عمران هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهُ الإِسْلامُ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله لَنْ تَنَالُوا الْبرِّ حَتى تُنْفِقُوا مِما تُحِبُّونَ يَوْمَ تبيض وجوه وتسود وجوه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ لتبْلَونَ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ النساء وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نَحْلَةً وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمْ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ))

Page 241

٣٦ V.۳۷ 00 الفهارس وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إن الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ٥٩ (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ وَلَا تَكُنْ لِلْحَائِنِينَ حَصِيمًا وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَحْتَانُونَ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ المائدة وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ۳۷ ۸۷ ۷۸ 1.0 ۷۹ ١٠٦ ۷۹ ۱۰۸ ٥٧ ۱۲۹ Vo ١٣٦ VA ۳۷ ٤ ٨٥ ٤ ۳۸ ٣٦، ٣٨ ۳۹ ۳۷ < ° ° ۹۱ ٣٦ ١٥٢ ١٥٣ Vo ۲۱ ١٠٧، ١٩٦ ١٦٣ ۳۸ ،۱۰ ۳۲ ١٥٧ ۱۲۷ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ أحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبات (وَإِنْ كُنتُمْ جُنَّبًا فَاطَّهَّرُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ الأنعام وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا ) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ الأعراف وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا

Page 242

الفهارس ۸۹ ۱۷۳ ۱۰۷ ۱۹۹ ٥٧ - ۱۲۲ ١٨ ۷۲ ٤٨ 00 ٥٧ ٦٢ 1.7 ٢٤ 001 ٤١ ٦٩ 7.۱۰۹ ۱۱۹ ١٧٦ ۱۸۱ ،۱۵۹ ٤ ١٥٢ ۵۸ ١٥ ٦٨ ۲۲ ٦٩ ۲۳ ۷۱ ۲۳ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الأنفال وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنَكُمْ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْت وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْحَائِنِينَ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ التوبة قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ جَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يونس وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور لهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) يوسف إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسوء الرعد لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَّعَلانِيَةً وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ

Page 243

۸۸ ۱۱ ١١٦ ۲۰ ۱۱۷ ۲۷ ٣٥ ۱۲ ۹۷ ٧٥ ٦٣ ۹۱ ۱۳۰ V.۲۷ ٤٧ ۳۳ 00 ٣٦ ۷۳ 1.1 ۸۲ ٨٦ ١٥ ۱۳۸ Vo ۱۲۰ ۹۹ ۱۳۵ الفهارس إبراهيم أفِي اللهِ شَكُ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً مَثَلُ كَلِمَةٍ حَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا الحجر فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَحْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِي النحل فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ بني إسرائيل/ الإسراء وَكُلٌّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ طه ومَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلِّ شَيْءٍ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُحْرمًا الأنبياء إنكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الحج لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا

Page 244

الفهارس ٧٤ ۳۱ ٩٤ VE 01 ٤٦ ٤٧ 6 mm m 1 } ٣٦ ۲۸ ۲۹ ۳۱ ۳۲ ٣٤ ۱۹۰ ٣٦ ٥٧ ٦٤ л л ۷۳ Vo ۷۳ ۱۹۷ 00 ۸۱ ١٨٤ 1006112 V.فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهُ المؤمنون ثم الشَأْنَاهُ خَلْقًا أَخَرَ النور لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ)) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَحدُونَ نَكَاحًا اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَإِذَا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كِرَامًا لا يَشْهَدُونَ الرُّور الشعراء لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ النمل إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير العنكبوت وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا

Page 245

۱۷۷ ،۱۵۰ ٢٦ ٣٨ ١٢٦ Vo ٣٨ ١٤٢ ۱۹۷ نگ کے ٤٢ ۷۱ ٣٦ ۱۸ ٥٥ ١٤٠ ۲۷ ۸۷ ٤١ ۱۳۹ VɅ ۱۳۹ ۸۲ ۱۱۸ ٦٣ الفهارس الروم فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لقمان وَاقْصِدْ فِي مَشيكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ السجدة فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ الأحزاب وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) فاطر فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ يس قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَا خَلَقْنَاهُ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الصافات فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُومِ

Page 246

الفهارس 001 ٦١ ة ۳۱ 01 توشه ۱۱۸ ۱۲ ٤١ ٤٤ ١٤٤ ١٦ ۱۲۲ 1+1 い ۱۲ 7.۱۳ ۱۲۳ ۱۷ ۳۹ ۲۰ ١٤٩ ٥٧ المؤمن/ غافر ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ حم سجدة فصلت إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الشورى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ) الدخان إِنْ شَجَرَةَ الرَّقُومِ محمد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الفتح يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ الحجرات وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّةَ إِلَيْكُمْ لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ اجْتَنبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّن وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ الذاريات وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ

Page 247

٨٧،٨٦ ٤٣ ۸۸ ۱۰۹ ۲۷ ٤٧ ١٣١، ١٤٤ ۱۳ ٢٦ ۱۸ ٤٨ ۲۸ 1.1 ۲۳ ۹۰ ۲۳ ۹۰ ٢٤ ۲۵ ١٤٦ ١٧٤ ۱۱ ٦ الفهارس النجم وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى الرحمن كُلٌّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الحديد يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ اعْلَمُوا أن اللهُ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَرَهْبَانِيةٌ ابْتَدَعُوهَا المجادلة أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ الحشر هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الصف (فَلَما زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ التحريم وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) الملك وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ

Page 248

الفهارس 0 ١٤٢ ۳۱ ٣٨ ٥،٤ ۱۱۳ ،۱۰۹ 0 ۱۰۹ ،٦٧ ٦ ٦٧ ۱۰۹ ۲۲ ۱۱۱ ،۱۱۰ ،۱۰۹ ۱۸ ١٤٣ ۳۱ ١٦٩ ۱۲ ۹۹ ،۶ ۲۸ ١٦٢ ۲ ١٦٢ ۱۲ القلم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ الحاقة حُدُوهُ فَعلُوهُ) المدثر وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ القيامة وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللُّوْامَةِ الدهر/ الإنسان إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ) وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا يُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا المرسلات انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَب الطارق وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ الفجر يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الشمس وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا

Page 249

۱۳ ۱۳۱ ۲ ٤ ٧٥ ۱۱۹ ۱۰۳ ،۹۶ ،۹۱ ۱۸۷ ۱۲۷ ۹۸ V الفهارس التكاثر أَلْهَاكُمُ التَكَاثُرُ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ الهمزة نَارُ اللَّه الْمُوقَدَةُ الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "من رآني فقد رأى ربه" فهرس الأحاديث النبوية "أَعَدَّ الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" خير الأمور أوسطها" "

Page 250

Page 251

۱٥ 110 ۱۲۲ ܘܙ ۸۰-۷۹ ۸۲ ۸۳ ١٠٦ 97-9.۹۱ ۹۱ ۹۲ ٩٢-٩٤ ٩٤ ۹۵ ۹۵ ۹۵ ۹۵ ٩٦ الفهارس فهرس المواضيع الله عل رؤية الله في الدنيا إنما هي أن يكلم الإنسان ربه عند مقام اللقاء الإلهي يصبح عمل للإنسان عينا يبصر بها ولسانا ينطق به..لكل عمل من أعمالنا نتيجة محتومة..هي من فعل الله الحكمة من قسم الله بأشياء مختلفة من ما حالات الإنسان الطبعية بحثه الذات العليا عن لم يُظهر الله وجوده بكلامه لا تكون مشاهدة أفعاله وحدها كافيةً من الوقاحة الشديدة الظن أن للإنسان على الإله فضلا في معرفته إياه لن نرى الإله الحي ما لم نمت نحن العدل بحقه عل هو الاعتقاد الصحيح بوحدانيته وعدم الإفراط والتفريط في شأنه صفاته وعل الإله الأحد هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مستجيب الدعوات الحي القيوم مواضع إظهار صفات خلقه وقهره وقدرته ١٤١

Page 252

لا يميل الإنسان لنفي صفاته تعالى تماما ولا لتشبيهه بالمخلوقات بطلان القول أن الله لم يعد يتكلم كما كان الفهارس ۹۷ ۸۳ ٨٥-٨٦ ۸۹ ٨٦ ٨٦ ۸۷ ۸۸ ٨٩ ١٤٧ ܘܙ ١٥٦-١٥٨ 0.1 ۱۰۷ ܘܙ ۱۹۵ الأدلة على وجوده ل منهاجان لمعرفة الله الملحد يعترف بوجوده تعالى تحت تأثير مخدر بحيث تتعطل منه جميع إراداته الأدلة العقلية الأول: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلِّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى الثاني: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى الثالث: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ...الرابع: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الخامس: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الآخرة عالم المعاد (راجع العالم) ثلاث معارف قرآنية عن عالم المعاد الأخلاق راجع الخلق الاستغفار معناه في الأصل ستر الحالات الناقصة غير الملائمة وتغطيتها من لا يتخذ الاستغفار دَيْدنًا له فهو دودة لا إنسان الاستقامة هي الوسيلة السادسة لتحقيق الغاية من الحياة الاستقامة الحقيقة ضرورة الاستقامة الكاملة آثار الاستقامة الصادقة الاستقامة فوق الكرامة إيمان الكفار بالنبي ﷺ بعد رؤية استقامته العظيمة

Page 253

۱۷ ۱۲۱ ۱۰۹ ،۸۵ ،۲۰ ١٨٦ ۱۹۹ ۹۸ ۱۲۱ 10.۹۲ ١١٤ ١١٥ ۱۳۱ ١٣٦ ١٦١ ١٦٣ ۱۲ ۱۸۲-۱۸۱ ١٨٣-١٨٦ ۱۷۲-۱۷۰ ۱۸۱-۱۸۰ ١٨٦-١٨٧ ۱۲۲ ۱۸۹ ،۱۲۳ الفهارس الإسلام ما هو الإسلام؟ معناه أن يكون الإنسان كله لله، ولا يُبقي لذاته شيئا هو الدين الوحيد الذي عن طريقه يقترب من عبده ويناجيه الذين أرادوا استئصال الإسلام لم يتركهم الله دون عقاب الفارق بين التعليم الإسلامي وغيره هو الوسط والاعتدال "الإسلام" و"دعاء الفاتحة" هما مغزى الإسلام كله خلق الله الأعمال الإنسان على الإسلام ومن أجل الإسلام "الرّحِيمُ" من يجزي على الصالحات خيرا، ولا يضيع عمل عامل لكل عمل من أعمالنا نتيجة محتومة..هي من فعل الله تعالى العلاقة التي توجد بين الجنة والأنهار هي نفسها بين الإيمان والأعمال كلمة "الطائر" معناها الأصلي هو الطير، ثم استعيرت لمعنى العمل أعمال الإنسان تقوم مقام الأجسام في عالم البرزخ أثر الأعمال الصالحة على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة ثمرة الشريعة العملية في عالم الآخرة هي الحياة الخالدة تكمن في الأعمال الخالصة لله روح كما تكمن الروح في النطفة الإلهام الوحي ليس المراد من الوحي ما يقع في النفس نتيجة تفكير علامات الوحي الحقيقي عندما تجف مياه العقول يمطر ماء الوحي فتزداد العقول صقلا المراد بالإنعام في "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" الوحي والإلهام إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُشرف الإنسان بمكالمة الله يحظى المرء بعد القضاء على نفسانيته بحياة جديدة تستلزم نزول الوحي باب الوحي مفتوح

Page 254

الفهارس ١٦٧-١٦٨ ۱۷۰ ۱۷۹ 184-183 ۱۸۳ ۱۸۱ ۱۸۹ ۱۸۸-۱۸۷ 110 ۱۸۷ ١٦٧ ١٩٦ 17-14 ۱۳ ۷-۳ ۲۲ ٢٢،٤ A-V 1.-9 ۲۲ ^)-V9 الوحي يزوّد العقلاء بستر كمثل الليل العلاقة بين الوحي والعقل ضرورة الوحي للعرفان الكامل الوحي فضل محض من الله تعالى وليس في ذاته دليلا على الفضل ليس جميع الملهمين سواء في المرتبة إن أولياء الله يتلقون البشارة بالوحي والمكالمة في الحياة الدنيا وفي الآخرة الوحي الرباني.هو وسيلة العلم الكامل تشرف صاحب المقال بمكالمة الله وخطابه يكون بين العبد وبين الله كلام مثل السؤال والجواب مرارا وفي حالة اليقظة التامة الدنيا العمياء تكفّر الحائزين مرتبة الوحي أو تُؤلّههم الذين يتلقون وحيًا من الله يخلصون أهل العقل من إرهاق النفس الانتحار جرم عظيم يستوجب العذاب الإنسان فترة الظلام تظل مستولية في معظم قبل بلوغه أربعين عاما متوسط عمر الإنسان يُقدِّر بثمانين عاما الإنسان عالم صغير رُسمت في نفسه خارطة العالم الكبير كله بالإجمال حالات الإنسان الثلاث الطبعية والأخلاقية والروحانية الحالات الطبعية : جميع الملكات الطبعية والرغبات الجسدية هي الحالات الطبعية مصدر جميع الحالات الطبعية هو "النفس الأمارة" تأثير حالة المرء الطبعية في حالاته الأخلاقية والروحانية تأثير الأغذية في سلوك الإنسان الحالات الطبعية لا تؤهل الإنسان للثناء ما لم تصر أخلاقا ومن حالات الإنسان الطبعية بحثه عن الذات العليا

Page 255

الفهارس ۱۹ الحالات الأخلاقية : الحالات الطبعية نفسها تصبح أخلاقا فاضلة بعد تعديلها واستعمالها في محلها حسب توجيه العقل اكتساب الأخلاق الفاضلة وحده لا للإنسان حياة روحانية يهب ۲۸ ،۲۲ ۲۲ ٤ منشأ الحالات الأخلاقية هو "النفس اللوامة" الحالات الروحانية : الحالات الأخلاقية نفسها تصطبغ بالصبغة الروحانية من خلال التفــــاني والانمحاء الكامل في الله منبع الحالات الروحانية هو "النفس المطمئنة" ارتقاء الإنسان تدريجيا أراد الله أن يعلم الإنسان أولا آداب المعاشرة ليُخرجه من الأطوار البهيمية ثم أراد الله أن يخفف حدة الإنسان الطبعية تخفيفا تتحول به أخلاقا فاضلة من ثم وضع الحالة الثالثة ليصبح الإنسان روحانيا ويصبح وجوده كلية الله ثلاث طرق لإصلاح الإنسان ۲۲ ۹۹ ،۶ ۲۰-۱۹ ۲۰ ۲۰ ٢٥-٢٦ طرق الإصلاح الثلاثة.هي تعليم القرآن الهدف الحقيقي من ۲۸ الغاية من خلق الإنسان المقصد الحقيقي للحياة البشرية عبادة الله ومعرفته والفناء فيه أعظم ملكة في الإنسان البحث الدائم عن الإله العلي ذروة كمال الإنسان هو الوصال بالله تعالى وسائل تحقيق الغاية من حياة الإنسان الأولى: العرفان الصحيح بالله والإيمان بالإله الحق الثانية: الوقوف على حسن ا الله..أي وحدانيته وعظمته وجلاله وصفاته الثالثة: الاطلاع على إحسان الله تعالى، وسورة الفاتحة تُظهر إحسانه الرابعة: الدعاء ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الخامسة : المجاهدة، أي نطلب الله بجميع قوانا وبأموالنا وأنفسنا ألا ١٤٩ ١٥٢ ١٥٢-١٥٣ ١٥٣ 100 100 السادسة: الاستقامة وهي يصيب السالك تعب ولا وهن ولا خوف من ابتلاء ܘܙ

Page 256

۲۰ السابعة: مصاحبة الصالحين ومشاهدة أسوتهم الحسنة الثامنة: كشوف وإلهامات ورؤى صالحة البرزخ عالم ثان كلمة "البرزخ" تعني الحاجز بين شيئين مشتقة من "بر" و"زخ" ومعناها من الله تعالى كلمة "البرزخ" بذاتها تتضمن شهادة على وجود العالم المتوسط تعوض الروح في عالم البرزخ بجسم آخر لتذوق بعض جزاء أعمالها يتكون ذلك الجسم بحسب نوعية أعمال الإنسان البغي هو المطر الذي يتجاوز الحد ويدمر الزروع، أو هو تجاوز الاعتدال في أداء الحق الجسد / الجسم (راجع الروح) جلسة مهوتسو (مؤتمر الأديان الحاشد) اليوم يوم ظهور عَظَمة القرآن الشريف يلتزم كل متحدث بنقل ما ورد في كتابه المقدس فقط الأسئلة الخمسة للجلسة وردها ۱.حالات الإنسان الطبعية والأخلاقية والروحانية ٢.كيف تكون حالة الإنسان بعد الموت؟.الغاية من خلق الإنسان والوسائل المؤدية إليها ٤.أثر الأعمال الصالحة في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة ه.وسائل العلم..أي العرفان الإلهي الجنة حقيقة الجنة الإسلامية..هي ظل لإيمان المرء وأعماله الصالحة في الحياة الدنيا جنة الآخرة هي في الحقيقة آثار الجنة الدنيوية وظلالها الجنة أشجارها الإيمان الصادق وأنهارها الأعمال الصالحة الفهارس 101 17.-109 ۱۳۳ ۱۳۳ ١٣٤ ١٣٤ ١٣٦ ١٣٦، ١٣٧ ۲،۱ ٣ - ١٢٤ ١٢٥-١٤٨ 160-149 ١٦١-١٧٢ ۲۰۱-۱۷۳ 117 ۱۰۹ ١١٦، ١٢٨

Page 257

۲۱ الفهارس سر عميق عن حقيقة الجنة أصل الجنة والجحيم إنما ينشأ في الحياة الدنيا الجنة والجحيم انعكاسات الأعمال التي يعملها الإنسان في الحياة الدنيا الجنة والجحيم ليستا مادتين كهذا العالم المادي حقيقة نعيم الجنة..وصف تمثيلي جميع نعم الآخرة مخفية لا مثال لها في النعم الدنيوية من ظن أن الجنة عبارة عن موجودات هذه الدنيا لم يفهم من القرآن حرفا ٦٧ ۱۱۹ ١٤٨، ١٦٢ ،۱۰۹ ١٢٠، ١٤٧ 145 ،130-١٢٦ ١٢٦-١٢٧ ۱۲۷ كيف يصح وصف نعيم الآخرة بأنها ما لم يره أحد والله يقول: وأتوا به متشابها ۱۲۹-۱۳۰ يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فورا بعد الموت النفس المطمئنة تجد نوعًا من الجنة في هذا العالم من يخشى ربه فله جنّتان في هذه الدنيا وفي الآخرة 121-12 V ۱۰۹ ۱۰۹-۱۰۸ ،۹۹ ۱۳ ۱۱۹ ۱۱۸ ۱۱۹ ۱۲۰ ١٣٢، ١٤٢ ١٤٢ ۱۱٥ ۲۳ الحياة الفردوسية..جنة الدنيا التي يظفر بها الإنسان في الحياة الدنيا الجنين يبدأ بالحركة والنشاط بعد أربعة أشهر وعشرة أيام جهنم الجحيم (راجع الجنة أيضًا) جهنم نار منبعها غضب الله وتشتعل بالمعصية شجرة الجحيم الزقوم أصل الفردوس والجحيم إنما يبدأ في الحياة الدنيا وقودها الذين يعبدون غير الله أو الذين يدعون الآخرين لعبادتهم الحياة الجهنمية موجودة للفجار في هذا العالم نفسه وجودا خفيا أصل العذاب الحيلولة بينهم وبين شهواتهم أصل العمى الجهنمي إنما هو العيشة النجسة العمياء في نفس هذا العالم الجينية (فرقة هندوسية تحرّم أكل أي حيوان)

Page 258

الفهارس ٤٧ ٥٠ ٣٢-٣٤، ٦٦ ٨٥ ۹۷ ۲۲ 0-2 ۹ ۲۰ ۲۸ ،۸ ، ۲۲ ٢٤ ٢٥ ٢٥ ۳۲-۳۱ ۳۲ ٤٣ 01-22 ٤٤-٤٥ ٤٦-٤٨ ٤٩ ۲۲ الحجاب الحجاب الإسلامي الحكمة من الحجاب الإسلامي الخلق الأخلاق أن الخلق هو يستعمل الإنسان قواه في محلها الكتاب الوحيد الذي يميز بين الحالات الطبعية والأخلاق الفاضلة كل عادة تجذب الإنسان نحو الوسط وتثبته فيه هي التي تنشئ الخُلُق الفاضل الفرق بين الحالات الطبعية وبين الأخلاق منشأ الحالات الأخلاقية اسمه في القرآن الكريم "النفس اللوامة" للأغذية تأثير عظيم في الأخلاق أول حالة أخلاقية تسمى الأدب والتهذيب تتحول الحالات الطبعية أخلاقا بعد تعديلها الحالات الأخلاقية نفسها تصطبغ بالصبغة الروحانية لا تنال الروحانية إلا بإظهار كل خُلق في محله الطريق الأول للإصلاح هو النهوض بالمتوحشين الهمج إلى أدنى الأخلاق والطريق الثاني للإصلاح هو التحلي بالأخلاق الفاضلة فترة الأخلاق الصالحة أو غير الصالحة تبتدئ عند نضج العقل الفرق بين الخلق والخلق الأخلاق قسمان قسم يمكن المرء من ترك الشر وآخر يمكنه من إيصال الخير إلى الآخرين الأول: الأخلاق التي تندرج تحت ترك الشر هي أربعة وتفصيلها ١.الإحصان أو العفة طرق العفة والإحصان خمسة طرق للعفاف

Page 259

۲۳ 07-01 01-07 01 ٥٩-٦٠ ٦٠ - ٧١ ٦٠-٦٣ ٦٣، ٦٤ ٦٣-٦٤، ٦٦-٧١ ٦٥،٦٣ ۷۳-۷۱ ۷۵-۷۳ ٧٦-٧٧ ۷۹-۷۷ 195-194 ١٩٦ ۱۹۹-۱۹۸ ٤٠ - ٤٢ ٤٠ ٤١ ٤٢ ۹۷ ۹۸ الفهارس ٢.الأمانة ٣.التسامح أو المسالمة الفرق بين التسامح والعفو ٤.الرفق والقول الحسن الثاني: الأخلاق التي تتعلق بإيصال الخير إلى الآخرين ١.العفو ٢.العدل ٣.الإحسان ٤.وإيتاء القربى الشجاعة الحقيقية الصدق الصبر مواساة الخلق كل هذه الحسنات إن لم توضع في مواضعها تصبح سيئات فترتان من حياة النبي ﷺ لكي يظهر كل نوع من أخلاقه أعظم خلق من أخلاق النبي ليس ثَمّة خُلقٌ من الأخلاق الفاضلة إلا أتاح الله له فرصا لظهورها الخنزير العلة في تحريم لحم الخنزير اسمه يشير إلى تحريمه اسمه الهندي "سُؤَر" أيضًا مركب من "سوء" و"أر"..أي: أراه سوءاً الأطباء اليونان أيضا قالوا إن لحمه يقلّل الحياء ويزيد الديوثية الخير الخير الحقيقي هو الأمر الوسط بين حدين الخير والحق والحكمة جميعًا مكانها الوسط

Page 260

الفهارس ۱۳۳ ١٣٤ ٦٠ ٩٦، ١٢٤ 001 ۱۰۳ ۱۲۱-۱۲۰ ۱۲۲ 9-V ۱۱ ۸۹ ۱۳۵ ١٣٦ ۱۸ ،۱۱ ۱۷ ۱۸-۱۷ ۱۹-۱۸ ۱۲ ۱۲ ٢٤ يكتسب الإنسان الخير والشر في الدنيا الروح وحدها لا تقدر على فعل الخير والشر ما لم تكن متصلة بالجسد أقسام إيصال الخير جعل الله جميع أقسام إيصال الخير منوطةً بمراعاة المحل والمقام الدعاء إن الله مستجيب الدعوات يسمع دعاء كل داع ويستجيبه الوسيلة الرابعة لتحقيق غاية الحياة هي الدعاء أروع دعاء يرينا صورة الابتهال الروحاني الفطري هو دعاء سورة الفاتحة "الإسلام" و"دعاء الفاتحة" هما مغزى الإسلام كله بالإسلام نموت ثم بالدعاء نحيا من جديد الروح تفاعل الجسد والروح ليس في وسع الإنسان أن يكشف سرّ العلاقة بين الروح والجسد روح تستطيع بفطرتها أن تنكر وجود الله ليس هناك لا بد للروح من جسد هذا الجسم يفارق الروح عند الموت ولكنها في عالم البرزخ تُعوض عنه بجسم آخر نشوء الروح أو خلقها الجسد بمنزلة الأم للروح لأنها تنشأ من الجسد ذاته المراد من نشوء الروح من الجسد هو ظهورها بعد الكمون لا تدخل في النطفة من الخارج بل إنها كامنة في النطفة كمون النار في الزبد النشأة الثانية للروح النشأة الثانية للروح تكون عن طريق الجسد أيضا الأعمال الخالصة لله تكمن بداخلها منذ البداية روح الروح التي نسبها الله إلى ذاته في قوله (ونفخت فيه من روحي

Page 261

٢٥ 14-13 ۹۹ ۹۹ 1.1 ۱۰۳-۱۰۲ ٢٤ ۱۰۸ ۱۲۰ ۱۲۱-۱۲۰ ۱۲۳-۱۲۲ ۱۱۹ ۱۱۸ ۱۱۹-۱۱۸ 111-11.۱۱۲ ۱۱۲ ۱۱۳-۱۱۲ 111-11- ٦٤-٦٥ الفهارس حين يقضي الإنسان نصف حياته السليمة تبدي روح الصدق آثارها الحالات الروحانية منبعها هو النفس المطمئنة التي تصل بالإنسان إلى مرتبة إنسان ربّاني أعلى درجة روحانية للإنسان هي أن يجد كل السرور واللذة في الله الآيات التي تشير إلى الحالة الروحانية الروحانية كيف السبيل إلى الروحانية الحقيقية؟ الروحانية إنما تُنال باستعمال كل خُلق في محله، ثم بالسير في سبل الله بوفاء من حاز درجة الروحانية حقًا ضحى بنفسه في سبيل الله تعالى منشأ الجنة والجحيم أمور روحانية سوف تشاهد بأشكال متجسدة في الآخرة الوسيلة لإنشاء علاقة روحانية كاملة بالله تعالى آثار الحياة الروحانية الزقوم مركب من "دق" و"أم" وهو اختصار ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ شبه القرآن كلمة الكفر الخبيثة بشجرة الزقوم في الآخرة الآيات المتعلقة بشجرة الزقوم وتفسيرها الزنجبيل كلمة "الزنجبيل" مركبة من "زنا" و"جبل" تعني: صعد تأثير الزنجبيل شراب الزنجبيل في الروحانية هو تجلي الله الذي هو بمنزلة الغذاء للروح الكافور مُسكن الشهوات والزنجبيل مقوّ يجعل السالك يقوم بأعمال شاقة حقيقة شراب الكافور والزنجبيل الصدقة مشتقة من الصدق، فإذا خلا قلب المرء من الصدق فلا تبقى صدقته صدقةً

Page 262

الفهارس ۱۰۲ ۱۰۳ 104-103 ٢٤ ۱۲۹ ١٦٦ ۱۳۳ ۱۳۳ ۱۳۸-۱۳۳ ١٣٩-١٤٨ ۱۳۹ ١٤١ 141-130 120-121 ١٤٦-١٤٨ ٦٣، ٦٤ ٢٦ الصراط المستقيم طريق لتحصيل كل علم..يسمى الصراط المستقيم الصراط المستقيم لوصال الله هو أن نكرس جميع قوانا في سبيله ثم لا نبرح ندعو الفاتحة دعاء رائع للوصول إلى هذا الصراط العارف العارف بالله سمكة تُذبَح بيد الله..وماء حياتها حُبه تعالى كل ما يتلقاه العارف في الدنيا بطريق العرفان إنما هو من النعيم الأخروي يشرب العارف ماء الحياة الروحاني في الدنيا العالم المشابهة بين العالم الصغير (الإنسان) والعالم الكبير العوالم الثلاثة : يخبرنا القرآن الكريم بوجود ثلاثة عوالم العالم الأول هو الدنيا التي تُسمى دار الكسب والنشأة الأولى العالم الثاني هو البرزخ (راجع البرزخ) العالم الثالث هو عالم البعث عالم البعث تتلقى فيه كل روح جسمًا محسوسًا بينا وينال كل شخص ذروة جزائه تبدأ عملية الجزاء فورا بعد الموت ولكن هنالك يوم آخر يظهر الله فيه بتجل أعظم المعارف القرآنية الثلاث عن عالم المعاد المعرفة الأولى : جميع مظاهر عالم الآخرة هي آثار هذه الحياة الدنيا وظلالها المعرفة الثانية : جميع الأمور الروحانية في الدنيا ستتجسد في عالم المعاد المعرفة الثالثة : هي أن سلسلة الارتقاء في عالم المعاد بدون نهاية العدل مقابلة الحسنة بالحسنة هو العدل

Page 263

الفهارس ۲۷ إذا خفتم من عدم العدل في حق اليتيمات فتزوجوا من نساء ذوات آباء وأقارب خُلُق الصبر والرضا بمرضاة الله يمكن أن العدل أيضًا يسمى العدل الذي يراعيه الإنسان بحق مالكه الحقيقي العذاب كل أنواع العذاب الروحاني تبدأ من القلب أولا الحيلولة بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ هي أصل العذاب العرب كان العرب عند بعثة النبي له قد تدنوا إلى أحط درجات الهمجية الحكمة في بعث النبي ﷺ من العرب جاء دور بلاد العرب في نيل النبوة بعد الجميع العربية أثبتنا في كتابنا منن" "الرحمن أن العربية هي أم الألسنة جميعها لغة الله القدوس الوحيدة إنها العرش الأول والعرش الآخر للوحي الرباني معاني بعض الكلمات العربية ۳۹ VV ۱۲۰ ١٤٢ ٢٦-٢٧، ٤٠ البغي: المطر الذي يتجاوز الحد ويدمر الزروع، أو هو تجاوز الاعتدال في أداء الحق البرزخ: الحاجز بين الشيئين مركب من "بر" و"زخ" يعني: قد انسد طريق كسب الأعمال وبات في حالة خفاء الخنزير مركب من "الخنز" و "أر"، ومعناه: أراه فاسدًا جدًّا الزنجبيل: مركب من "زنا" و "جبل"، والجملة المركبة "زنأ جبل" تعني صعد الجبل المؤر": كلمة هندية أصلها عربي تعني: أراه سوءًا الصدقة : مشتقة من الصدق، فإذا خلا قلب المرء من الصدق فلا تبقى صدقةً غض البصر : هو أن ينظر الإنسان بعين فاترة..بحيث يصون نظره عما لا تحِلّ رؤيته ΛΕ ٨٤ ٤١ ١٣٤ ١٣٤ ۱۳۳ ١٣٤ 21-20 ད ད ད ٤١ 10

Page 264

۲۸ الفهارس الكفر : معناه اللغوي التغطية والإخفاء ۱۱۰ ،٦٧ اللغو: العبث من القول أو الفعل ما يأتيه أحد بغرض الإيذاء، ولا ينتج عنه ضرر كبير الهدنة والهؤن : الكف عن إيذاء أحدٍ ظلما والابتعاد عن الشر والعيش بصلح العقل رضي إن وحي الله هو الماء السماوي..والعقل هو الماء الأرض جفت مياه العقول كلها عندما لم يمطر ماء الوحي.لمدة طويلة لا تتخذوا العقل المجرد هاديًا هو إحدى وسائل علم اليقين العلم العلم هو ما يُكسب المعرفة اليقينية العلم المشؤوم هو ما ينحصر في النظرية ولا يتجاوزها إلى العمل أبدا التطبيق العملي وسيلة عظيمة لتبليغ العلم الكمال، لأنه يُكسب العلم نورا ثلاثة أقسام للعلم علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين علم اليقين هو معرفة شيء بواسطة شيء آخر لا مباشرة وسيلته العقل والنقل ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ...إن السماع أيضًا يوصل الإنسان إلى مرتبة علم اليقين لا يقتصر القرآن الكريم على السماع فقط، بل إن فيه براهين عقلية عظيمة الدلائل العقلية المستنبطة من مقدمات صحيحة توصل أيضًا إلى علم اليقين من وسائل علم اليقين الوجدانُ الإنساني الذي سُمِّي بالفطرة الإنسانية أيضًا عين اليقين: هو اليقين الذي لا يُبقي بيننا وبين الشيء الذي نوقن به أية واسطة لا يبلغ العلم درجة عين اليقين إلا بالوحي مباشرة بلا واسطة ٥٨ ۱۷۰ ۱۷۱ ۱۷۱ 174 - 173 ۱۷۵ ١٩٤ ١٩٤ ۱۷۳ ،۱۳۳-۱۳۲ ۱۷۳ ١٧٤ ١٧٥-١٧٦ ١٧٦ - ١٧٧ ۱۷۹-۱۷۷ ۱۷۹ ۱۷۹ حق اليقين: الوسيلة الثالثة للعلم ممارسة عملية لتعاليم الشريعة التي يرتقي بها العلم إلى درجة حق اليقين مي 194-191

Page 265

۲۹ ۱۹۱ ١٩٤ ٤٦، ٤٩، ٥١ ۹۸ ۱۰۵-۱۰۳ ۱۲۱-۱۲۰ ٤٤ IV1-170 ܘܙ ٦٧ ۱۱۰ ١٩٦ ۱۲۲ ٤٤ الفهارس كل ما يصيب الأنبياء والصالحين من مصائب هي أمور على مرتبة اليقين علم الله الناس تعاليم القرآن وأتاح لهم فرصا لكي يصقلوها بالممارسة العملية غض البصر هو أن ينظر الإنسان بعين فاترة بحيث يصون نظره عما لا تحِلّ رؤيته الفاتحة سورة الفاتحة تعلم الوسطية دعاء رائع..تفسير وجيز لسورة الفاتحة "الإسلام" و"دعاء الفاتحة" هما مغزى الإسلام كله تضمنت سورة الفاتحة خلاصة صفات الله التي تظهر إحسانه الفحشاء لا تكسب الإنسان سوى الذلة واللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة القسم الحكمة من قسم الله بأشياء مختلفة لا يحق للمخلوق أن يحلف بمخلوق آخر، فإن المخلوق لا يعلم الغيب أقسم الله بالنفس اللوامة تنويها بمكانتها لأنها انسلخت عن طبيعتها الأولى الكافور المراد من سقي الشراب الكافوري إخماد الأهواء الدنيئة حقيقة شراب الكافور الكفارة (رد لطيف على الكفارة) لو اشتكى خالد الوجع فترحم عليه زيدٌ وشج رأسه فلن يُعد هذا معروفا في حق خالد اللقاء الإلهي نيل الحياة من جديد بعد موت الميول النفسانية يُسمّى اللقاء الإلهى المحصن أو المحصنة هو من يجتنب الفجور أو حتى مقدماته، وهكذا يمنع نفسه الفحشاء من

Page 266

الفهارس { ٣٦ ١٠٦ ١٢٥ ۱۳۰ ٤٢ ۸۹ ۹۰ ۱۷ 101 ١٦٨ ۱۷۲-۱۷۱ ۱۸۳ ١٦٣ ١٤٤ ٢٥ ،۳ ٢٢،٤ المحصنات العفيفات والمحصنون هم أزواجهن هن المكالمة الإلهية (راجع الإلهام) الموت إن يوم تجلي الله هو ذلك اليوم الذي يطرأ فيه الموتُ على حياتنا المادية حالة الإنسان بعد الموت هي نفس حالة حياته الدنيوية ثلاث فترات للحالات التي نمر بها بعد الموت (راجع "عالم المعاد") الميتة يدخل في حكم الميتة جميع الحيوانات التي يبقى دمها بداخلها عند الموت الملحد يقر بوجود الله ضمنيًّا إذ يسلّم بوجود محدث لكل حادث الجحود بوجود البارئ يحصل بتأثير الحياة الدنيا النبي/ الأنبياء بعث معظم أنبياء الله تعالى على رأس السنة الأربعين من أعمارهم من دواعي بعث الأنبياء أن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى أسوة كاملة الأنبياء خاصة والملهمون عامة يمطرون كالسماء أمطار فيوضهم وبركاتهم حين يظهر نبي تزداد العقول في عصره من تلقاء نفسها صقلاً وجلاء أنبياء الله ليسوا سواء في المرتبة النفس النفس البشرية هي ناقة الله التي يمتطيها الإنسان الكمالات المتفرقة في كل الكائنات توجد كلها في نفس الإنسان الكامل وحده ظلّ ذي ثلاث شعب هو الأقسام الثلاثة.من قوى النفس ثلاثة أقسام للنفس وهي منابع للحالات البشرية النفس الأمارة : مصدر لجميع الحالات الطبعية من خواصها أنها تميل بالإنسان إلى السيئات التي تغاير الأخلاق وتنافي الكمال

Page 267

۳۱ 0-2 ° 1.1 مر V ۹۷ ۹۸ ۹۸ الفهارس النفس اللوامة : منشأ الحالات الأخلاقية تلوم الإنسان على إتيان السيئة ولا ترضى له أن يعيش عيشة البهائم الإنسان أثناء مروره بمرحلة النفس اللوامة يتعثر مرة بعد أخرى النفس المطمئنة : مصدر للحالات الروحانية كلها هذه النفس تتربى بربوبية الله ولا تذوق الموت أبدًا تصل بالإنسان من مرتبة إنسان "أخلاقي" إلى مرتبة إنسان "رباني" الوحي (راجع الإلهام) الوسط معرفة المكان المناسب والوقت المنا هي الوسط الطريق الوسط في معرفة الله هو اعتبار ذاته وعجل بين التشبيه والتنزيه تعاليم الإسلام كلها وسط واعتدال الزم الوسط في سيرك

Page 267